فِي الْأنف ودقة الأرنبة مَعَ جَدب فِي وَسطه، ومؤنقة بالنُّون وَالْقَاف من الشَّيْء الأنيق وَهُوَ المعجب ومقنعة مغطاة الرَّأْس بالقناع، وَقيل: مونقة، بتَشْديد النُّون ومعنقة بوزنه أَي: مغذية بالعيش الناعم. قَوْله: (وملء كسائها) كِنَايَة عَن امتلاء جسمها وسمنها. قَوْله: (وغيظ جارتها) ، المُرَاد بالجارة الضرة أَي: يغيظها مَا ترى من حسنها وجمالها وأدبها وعفتها، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وعقر جارتها، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف أَي: دهشها أَو قَتلهَا، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وحير جارتها، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف من الْحيرَة، وَفِي أُخْرَى لَهُ: وَحين جارتها، بالنُّون عوض الرَّاء وَهُوَ الْهَلَاك، وَفِي رِوَايَة الْهَيْثَم بن عدي: وَعبر جارتها، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة من الْعبْرَة بِالْفَتْح أَي: تبْكي حسدا لما ترَاهُ مِنْهَا، أَو بِالْكَسْرِ، أَي: تعْتَبر بذلك، وَفِي رِوَايَة سعيد بن سَلمَة: وَخبر نسائها، فَاخْتلف فِي ضَبطه فَقيل بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَة من التحبير، وَقيل بِالْمُعْجَمَةِ وَالْيَاء آخر الْحُرُوف من الْخَيْرِيَّة. قَوْله: (جَارِيَة أبي زرع {فَمَا جَارِيَة أبي زرع) وصفت أَولا زَوجهَا، ثمَّ وصفت حماتها وَهِي أم أبي زرع، ثمَّ ابْن أبي زرع، ثمَّ بنته، ثمَّ وصفت هُنَا جَارِيَة أبي زرع بقولِهَا: (جَارِيَة أبي زرع} فَمَا جَارِيَة أبي زرع؟) وَالْكَلَام فِيهِ كَمَا ذكرنَا عِنْد قَوْلهَا زَوجي أَبُو زرع. قَوْله: (لَا تبث) من بَث الحَدِيث إِذا أظهره وأفشاه. ومادته: بَاء مُوَحدَة وثاء مُثَلّثَة. ويروى: لَا تنث، بالنُّون مَوضِع الْبَاء وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَقيل: بالنُّون فِي الشَّرّ، وَفِي رِوَايَة الزبير: وَلَا تخرج حَدِيثا. قَوْله: (تبثيثا) مصدر من بثث على وزن فعل بِالتَّشْدِيدِ، وَهَذَا فِيهِ مَا لَيْسَ فِي بَث من الْمُبَالغَة، وَهَذَا على غير أصل فعله لِأَن مصدر بَث الْخَبَر بثا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي بَث الْخَبَر وأبثه بِمَعْنى، أَي نشرة، وبثث الْخَبَر بِالتَّشْدِيدِ للْمُبَالَغَة وَقَالَ: نث الحَدِيث فِي بَاب النُّون ينثه نَثَا إِذا أفشاه. قَوْله: (وَلَا تنقث) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح النُّون وَتَشْديد الْقَاف الْمَكْسُورَة بعْدهَا الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي: لَا تسرع فِي الْميرَة بالخيانة. والميرة بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: الزَّاد. وَأَصله مَا يحصله البدوي من الْحَضَر ويحمله إِلَى منزله لينْتَفع بِهِ، وَضَبطه عِيَاض فِي مُسلم بِفَتْح أَوله وَسُكُون النُّون وَضم الْقَاف، وَالْمعْنَى: لَا تَأْخُذ الطَّعَام فتذهب بِهِ، تصفها بالأمانة. قَوْله: (تنقيثاً) مصدر على أصل الضَّبْط الأول، وعَلى ضبط عِيَاض على غير أَصله وَيَجِيء الْمصدر على غير أصل فعله نَحْو: {وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا} (نوح: 71) وَالْأَصْل أَن يُقَال: إنباتا، وَقد وَقع فِي رِوَايَة الْمُسلم نَحْو الضَّبْط الأول، والتنقيث إِخْرَاج مَا فِي منزل أَهلهَا إِلَى غَيرهم، قَالَه أَبُو سعيد، وَقَالَ ابْن حبيب: لَا تفسده، وَفِي رِوَايَة أبي عبيد: وَلَا تنقل، وَكَذَا للزبير عَن عَمه مُصعب، وَلأبي عوَانَة: وَلَا تنْتَقل، وَفِي رِوَايَة ابْن الْأَنْبَارِي: وَلَا تعت، بِالْعينِ الْمُهْملَة والفوقانية، أَي تفْسد، وَأَصله من العتة بِالضَّمِّ وَهِي السوسة، وَفِي رِوَايَة للنسائي: وَلَا تفش ميرتنا تفشيشا، بفاء ومعجمتين من الإفشاش وَهُوَ طلب الْأكل من هُنَا وَهنا، وَيُقَال: فش مَا على الخوان إِذا أكله أجمع، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ: وَلَا تفْسد ميرتنا تغشيشا، بالمعجمات، وَقَالَ: مَأْخُوذ من غشيش الْخبز إِذا فسد، وَضَبطه الزَّمَخْشَرِيّ بِالْفَاءِ الثَّقِيلَة بدل الْقَاف، وَقَالَ فِي شَرحه: التفث والتفل بِمَعْنى، وأرادات الْمُبَالغَة فِي براءتها من الْخِيَانَة. قَوْله: (وَلَا تملأ بيتنا تعشيشا) بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالشين المعجمتين أَي: لَا ترك الكناسة وَالْقُمَامَة فِي الْبَيْت مفرقة كعش الطَّائِر، بل هِيَ مصلحَة للبيت معتنية بتنظيفه، وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تخوننا فِي طعامنا فتخبئه فِي زَوَايَا الْبَيْت كأعشاش الطير، وَرُوِيَ بإعجام الْغَيْن من الْغِشّ فِي الطَّعَام، وَقيل: من النميمة أَي: لَا تَتَحَدَّث بهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: التغشيش من قَوْلهم: غشش الْخَبَر إِذا انكدح وَفَسَد أَي: أَنَّهَا تحسن مُرَاعَاة الطَّعَام وتعهده بِأَن تطعم أَولا فأولاً لَا تغفل عَن أمره فيتكدح. وَيفْسد فِي الْبَيْت، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: وَلَا تعش بيتنا تعشيشا، وَفِي رِوَايَة الْهَيْثَم عَن هِشَام: ضيف أبي زرع {وَمَا ضيف أبي زرع؟ فِي شبع وروى ورتع. طهاة أبي زرع} فَمَا طهاة أبي زرع؟ لَا تفتر وَلَا تعدى، تقدح قدر أَو تنصب أُخْرَى فتلحق الْآخِرَة بِالْأولَى، مَال أبي زرع! فَمَا مَال أبي زرع؟ على الجمم معكوس وعَلى العفاة مَحْبُوس. قَوْله: وري بِكَسْر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (ورتع) بِفَتْح الرَّاء الْمُثَنَّاة أَي: تنعم قَوْله: طهاة جمع طاه وَهُوَ الطباخ من طهي الرجل إِذا طبح قَوْله: لَا تفتر، بِالْفَاءِ الساكنة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق المضمومة أَي: لَا تسكن وَلَا تضعف قَوْله: (وَلَا تعدى) بِضَم التَّاء وَتَشْديد الدَّال أَي: لَا تتْرك ذَلِك وَلَا تتجاوز عَنهُ. قَوْله: (تقدح) أَي: تغرف قدرا وتنصب قدرا أُخْرَى، يُقَال: قدح الْقدر إِذا غرف مَا فِيهَا بالمقدحة، وَهِي الغرفة. قَوْله: فتلحق(20/176)
الْآخِرَة، أَي: تلْحق الْقُدْرَة الْآخِرَة بِالْقُدْرَةِ الأولى الَّتِي غرف مَا فِيهَا، وَحَاصِله أَنَّهَا لم تزل فِي الطَّبْخ والغرف، وَلَا تعدى عَن ذَلِك قَوْله: (على الجمم) بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْمِيم الأولى: جمع جمة، وهم الْقَوْم يسْأَلُون فِي الدِّيَة قَوْله: (معكوس) أَي: مَرْدُود وَالْعَكْس فِي اوصل ردك آخر الشَّيْء إِلَى أَوله. قَوْله: العفاة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْفَاء، جمع عاف. كالقضاة جمع قَاض، وهم السائلون. قَوْله: مَحْبُوس أَي مَوْقُوف عَلَيْهِم. قَوْله: (قَالَت: خرج أَبُو زرع) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: خرج من عِنْدِي، وَفِي رِوَايَة الْحَارِث ابْن أبي أُسَامَة ثمَّ خرج من عِنْدِي قَوْله: (والأوطاب تمخض) الْوَاو فِيهِ للْحَال، والأوطاب جمع وطب وَهُوَ سقاء اللَّبن خَاصَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ جمع على غير قِيَاس، وَكَذَا قَالَ أَبُو سعيد: إِن فعلا لَا يجمع على أَفعَال، بل يجمع على فعال. قلت: يرد قَوْلهمَا قَول الْخَلِيل: جمع وطب على وطاب وأوطاب، كَمَا جمع: فَرد على أَفْرَاد. قَوْله: (تمحض) من المخض وَهُوَ أَخذ الزّبد من اللَّبن، وَعَن عِيَاض: رَأَيْت فِي رِوَايَة حَمْزَة عَن النَّسَائِيّ: والأطاب، بِغَيْر وَاو، فَإِن كَانَ مضبوطا فَهُوَ على إِبْدَال الْوَاو همزَة، كَمَا قَالُوا: أكاف ووكاف ثمَّ إِن قَول أم زرع هَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِنْكَار خُرُوجه من منزلهَا غدْوَة وَعِنْدهم خير كثير وَلبن غزير يشرب صَرِيحًا ومخيضا ويفضل عِنْدهم مَا يمخضوه فِي الأوطاب، وَالْآخر: أَنَّهَا أَرَادَت أَن خُرُوجه كَانَ فِي اسْتِقْبَال الرّبيع وطيبه، وَأَن خُرُوجه إِمَّا السّفر أَو غَيره، فَلم تدر مَا ترَتّب عَلَيْهَا بِسَبَب خُرُوجه من تزوج غَيرهَا وَالظَّاهِر أَنه لما رأى أم زرع تعبت من مخض اللَّبن واستقلت لتستريح خرج، فَرَأى امْرَأَة فَتَزَوجهَا، وَهُوَ معنى قَوْلهَا: (فلقي امْرَأَة مَعهَا ولدان لَهَا كالفهدين) وَفِي رِوَايَة لِابْنِ الْأَنْبَارِي: كالصقرين، وَفِي رِوَايَة لغيره: كالشبلين، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي أويس: سارين حسنين نفيسين، وَسبب وصفهَا لَهما التَّنْبِيه على سَبَب تَزْوِيج أبي زرع لَهَا، لِأَن الْعَرَب كَانَت ترغب فِي كَون الْأَوْلَاد من النِّسَاء النجيبات فِي الْخلق والخلق. وتظاهرت الرِّوَايَات على أَن الغلامين كَانَا ابْنَيْنِ للْمَرْأَة الْمَذْكُورَة إلاَّ مَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن هِشَام: أَنَّهُمَا كَانَا أخويها، وَقَالَ عِيَاض: يتَأَوَّل بِأَن المُرَاد أَنَّهُمَا ولداها ولكنهما جعلا أخويها فِي حسن الصُّورَة. قَوْله: (يلعبان من تَحت حضريها برمانتين) أَرَادَت بِهَذَا أَن هَذِه الْمَرْأَة كَانَت ذَات كفل عَظِيم فَإِذا اسْتَقَلت على ظهرهَا ارْتَفع كفلها بهَا من الأَرْض حَتَّى تصير تحتهَا فجوة يجْرِي فِيهَا الرُّمَّان. وَفِي رِوَايَة الْحَارِث: من تَحت درعها. وَفِي رِوَايَة الْهَيْثَم: من تَحت صدرها، وَعَن ابْن أبي أويس: أَن الرمانتين هما الثديان. وَقَالَ أَبُو عبيد: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه، وَلَا سِيمَا وَقد رُوِيَ: من تَحت درعها برمانتين، وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: وَهِي مستقلية على قفاها وَمَعَهَا رمانة يرميان بهَا من تحتهَا فَتخرج من الْجَانِب درعها برمانتين، وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: وَهِي مستلقية على قفاها وَمَعَهَا رمانة يرميان بهَا من تحتهَا فَتخرج من الْجَانِب الآخر من عظم إليتيها. قَوْله: (فطلقني ونكحها) وَفِي رِوَايَة الْحَارِث: فَأَعْجَبتهُ فطلقني، وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: فَخَطَبَهَا أَبُو زرع فَتَزَوجهَا فَلم تزل بِهِ حَتَّى طلق أم زرع، وَفِي رِوَايَة الْهَيْثَم: فاستبدلت بعده وكل بدل أَعور، وَهُوَ مثل مَعْنَاهُ: أَن الْبَدَل من الشَّيْء غَالِبا لَا يقوم مقَام الْمُبدل مِنْهُ، بل هُوَ دونه وَأنزل مِنْهُ، وَالْمرَاد بالأعور الْمَعِيب. وَقَالَ ثَعْلَب: الْأَعْوَر الرَّدِيء من كل شَيْء كَمَا يُقَال: كلمة عوراء أَي: قبيحة. قَوْله: (رجلا سريا) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف أَي سيدا شريفا من قَوْلهم: فرس سري أَي: خِيَار، وَمِنْه: هَذَا من سراة المَال أَي: خِيَاره. قَوْله: (ركب شربا) بالشين الْمُعْجَمَة أَي فرسا شريا وَهُوَ الَّذِي يستشري فِي سيره أَي يلج ويمضي بِلَا فتور وَقَالَ عِيَاض عَن ابْن السّكيت شريا بالشين الْمُعْجَمَة يَعْنِي: سيدا سخيا ركب شريا، بِالْمُعْجَمَةِ فَقَط. وَقَالَ النَّوَوِيّ فرسا شريا بِالْمُعْجَمَةِ بالِاتِّفَاقِ. قلت: مَا ذكرنَا الْآن يردهُ، وَفِي رِوَايَة الْحَارِث: ركب فرسا عَرَبيا، وَفِي رِوَايَة الزبير: أعوجيا، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى أَعْوَج فرس مَشْهُور تنْسب إِلَيْهِ الْعَرَب خِيَار الْخَيل، كَانَت لبني كِنْدَة ثمَّ لبني سليم ثمَّ لبني هِلَال. قَوْله: (وَأَخذه خطيا) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة أَي: أَخذ رمحا خطيا أَي: مَنْسُوبا إِلَى الْخط، وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف بنواحي الْبَحْرين تجلب الرماح مِنْهُ، وَقيل: أَصْلهَا من الْهِنْد تحمل فِي الْبَحْر إِلَى الْخط، الْمَكَان الْمَذْكُور، ثمَّ تفرق مِنْهُ فِي الْبِلَاد. قَوْله: (وأراح) من الإراحة وَهُوَ السُّوق إِلَى مَوضِع الْمبيت بعد الزَّوَال. قَوْله: (على) بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (نعما ثريا) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء الْخَفِيفَة وَتَشْديد الْيَاء، وَهُوَ الْكثير من المَال وَمن الْإِبِل وَغَيرهَا، وَهُوَ صفة: نعما، وَإِنَّمَا ذكر لأجل السجع، وَقَالَ عِيَاض: النعم الْإِبِل خَاصَّة، وَكَذَا قَالَه ابْن بطال وَابْن التِّين، وَقَالَ غَيرهم: النعم الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، قَالَ تَعَالَى: {وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا} (الْأَنْعَام: 241) ثمَّ قَالَ: {ثَمَانِيَة أَزوَاج} (الزمر: 6) فَذكر أَنْوَاع الْمَاشِيَة،(20/177)
ويروى نعما، بِكَسْر النُّون جمع: نعْمَة، وَالْأول هُوَ الْأَشْهر. قَوْله: (وَأَعْطَانِي من كل رَائِحَة زوجا) أَي: من كل مَا يروح من النعم وَالْعَبِيد وَالْإِمَاء زوجا. أَي: اثْنَيْنِ وَيحْتَمل أَنَّهَا أَرَادَت صنفا وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَأَعْطَانِي من كل ذابحة أَي مذبوحة. مثل {عيشة راضية} (الحاقة: 12) أَي: مرضية، وَحَاصِل المعني: أَعْطَانِي من كل شَيْء يذبح زوجا، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: وَأَعْطَانِي من كل سَائِمَة، والسائمة الراعية، والرائحة الْآتِيَة وَقت الرواح وَهُوَ آخر النَّهَار قَوْله: (وميري أهلك) بِكَسْر الْمِيم أَي: صلى أهلك بالميرة وَهِي الطَّعَام قَوْله: (قَالَت) أَي أم زرع. قَوْله: (كل شَيْء أعطانيه) ، أَي: الزَّوْج الثَّانِي الَّذِي تزوج بهَا بعد أبي زرع. قَوْله: (مَا بلغ) خبر لقَوْله: (كل شَيْء) وَفِي رِوَايَة مُسلم أَعْطَانِي، بِلَا هَاء. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: مَا بلغت أناء، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: فَلَو جمعت كل شَيْء أصبته مِنْهُ فَجعلت فِي أَصْغَر وعَاء من أوعية أبي زرع مَا ملاه.
قَوْله: (قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كنت لَك كَأبي زرع لأم زرع) قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تطبيبا لنَفسهَا، وإيضاحا لحس عشرته إِيَّاهَا، ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك الْأَمر الْمَكْرُوه مِنْهُ أَنه طَلقهَا، وَإِنِّي لَا أطلقك، تتميما لطيب نَفسهَا وإكمالاً لطمأنينة قَلبهَا ورفعا للإبهام لعُمُوم التَّشْبِيه بجملة أَحْوَال أبي زرع إِذا لم يكن فِيهَا مَا تذمه سوى طَلَاقه لَهَا، وَقَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: بِأبي أَنْت وَأمي، بل أَنْت خير لي من أبي زرع، جَوَاب مثلهَا فِي فَضلهَا، فَإِن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخْبرهَا أَنه لَهَا كَأبي زرع لأم زرع، لفرط محبَّة أم زرع لَهُ وإحسانه لَهَا، أخْبرته هِيَ أَنه عِنْدهَا أفضل وَهِي لَهُ أحب من أم زرع لأبي زرع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَكَانَ هِيَ زَائِدَة أَي: أَنا لَك. قلت: يُؤَيّد قَوْله: فِي زِيَادَة كَانَ، رِوَايَة الزبير: أَنا لَك كَأبي زرع لأم زرع، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْله: (كنت لَك) مَعْنَاهُ أَنا لَك، وَهَذَا نَحْو قَوْله عز وَجل: {كُنْتُم خير أمة} (آل عمرَان: 011) أَي أَنْتُم خير أمة. قَالَ: وَيُمكن بَقَاؤُهَا على ظَاهرهَا، أَي: كنت لَك فِي علم الله السَّابِق، وَيُمكن أَن يُرِيد بِهِ مِمَّا أُرِيد بِهِ الدَّوَام كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَكَانَ الله سمعيا بَصيرًا} (النِّسَاء: 852) [/ ح.
وَفِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: ذكر محَاسِن النِّسَاء للرِّجَال إِذا كن مجهولات بِخِلَاف المعينات، فَهَذَا مَنْهِيّ عَنهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلَا تصف الْمَرْأَة الْمَرْأَة لزَوجهَا حَتَّى كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا. وَمِنْهَا: جَوَاز إِعْلَام الرجل بمحبته للْمَرْأَة إِذا أَمن عَلَيْهَا من هجر وَشبهه. وَمِنْهَا: مَا يدل على التَّكَلُّم بالألفاظ الْعَرَبيَّة والأسجاع، وَإِنَّمَا يكره من ذَلِك التَّكَلُّف. وَمِنْهَا: مَا قَالَه الْمُهلب فِيهِ: التأسي بِأَهْل الْإِحْسَان من كل أمة. أَلا يرى أَن أم زرع أخْبرت عَن أبي زرع بجميل عشرته، فامتثله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ عِيَاض: وَهَذَا عِنْدِي غير مُسلم. لأَنا لَا نقُول إِن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إقتدى بِأبي زرع، بل أخبر أَنه لَهَا كَأبي زرع. وَأعلم أَن حَاله مَعهَا مثل حَاله ذَلِك لَا على التأسي بِهِ، وَأما قَوْله بِجَوَاز التأسي بِأَهْل الْإِحْسَان من كل أمة فَصَحِيح مَا لم تصادمه الشَّرِيعَة. وَمِنْهَا: شكر الْمَرْأَة إِحْسَان زَوجهَا، وَكَذَا ترْجم عَلَيْهِ النَّسَائِيّ، وَخرج مَعَه فِي الْبَاب حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا ينظر الله إِلَى امْرَأَة لَا تشكر زَوجهَا. وَمِنْهَا: مدح الرجل فِي وَجهه بِمَا فِيهِ إِذا علم أَن ذَاك غير مُفسد لَهُ وَلَا مغير نَفسه، وَالنَّبِيّ، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، مَظَنَّة كل مدح ومستحق كل ثَنَاء، وَأَن من أثنى بِمَا أثنى فَهُوَ فَوق ذَلِك كُله. وَمِنْهَا: أَن كنايات الطَّلَاق لَا يَقع بهَا الطَّلَاق إلاَّ بِالنِّيَّةِ، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كنت لَك كَأبي زرع، وَمن جملَة أَفعَال أبي زرع أَنه طلق امْرَأَته أم زرع، وَلم يَقع على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَلَاق لتشبهه لكَونه لم ينْو الطَّلَاق وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة إِلَّا أَن أَبَا زرع طلق أم زرع، وَأَنا لم أطلقك.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: قَالَ سَعيدُ بنُ سَلَمَةَ عنْ هِشَامٍ وَلاَ تُعَشِّشُ بَيْتَنَا تَعْشِيشا.
قَالَ أبُو عبد الله: وَقَالَ بَعْضُهُمْ أتَقَمَّحُ، بِالْمِيم وهاذَا أصَحُّ.
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، هَذَا إِلَى آخِره لَيْسَ فِي بعض النّسخ. قَالَ الْكرْمَانِي: صَوَابه فِي هَذِه الْمُتَابَعَة كَمَا فِي بعض النّسخ هُوَ: قَالَ أَبُو سَلمَة عَن سعيد بن سَلمَة إِلَى آخِره، وَأَبُو سَلمَة هَذَا هُوَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَسَعِيد بن سَلمَة بالفتحات ابْن أبي الحسام الْعَدوي الْمَدِينِيّ، مولى آل عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يكنى أَبَا عَمْرو وَمن رجال مُسلم، روى عَنهُ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ حَدِيث وَاحِد: حَدِيث أم زرع، وَمَاله فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، روى عَنهُ سعيد بن سَلمَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقد وَصله مُسلم عَن الْحسن بن عَليّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن سعيد بن سَلمَة عَن هِشَام(20/178)
بن عُرْوَة، وَلكنه لم يسق فِيهِ لَفظه بِتَمَامِهِ. قَوْله: (وَلَا تعشش بيتنا تعشيشا) قد مر الِاخْتِلَاف فِي ضَبطه عَن قريب، فَقيل بِالْعينِ الْمُهْملَة وَقيل بِالْمُعْجَمَةِ قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) . هُوَ البُخَارِيّ أَيْضا، قَالَ بَعضهم: أتقمح، بِالْمِيم وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي قَوْله: قَالَت الْحَادِيَة عشرَة، وَهِي أم أبي زرع. قَوْله: (وَهَذَا أصح) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه وَقع فِي أصل رِوَايَة أتقنح، بالنُّون، وبالميم أصح.
0915 - حدّثنا عبد الله بن مُحمَّدٍ حَدثنَا هشامٌ أخبرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهريِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشةَ قالَتْ: كانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أنْظُرُ، فَما زلْتُ أنْظُرُ حتَّى كُنْتُ أَنا أنْصَرِفُ، فاقدُرُوا قَدْرَ الجارِيَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي اشتماله على ذكر حسن المعاشرة. وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب صَلَاة الْعِيد، والحبش هُوَ الجيل الْمَعْرُوف من السودَان، والحراب جمع حَرْبَة.
قَوْله: (فاقدروا) بِضَم الدَّال وَكسرهَا، لُغَتَانِ أَي: اقدروا رغبتها فِي ذَلِك إِلَى أَن تَنْتَهِي. قَوْله: (الحديثة السن) أَي: الشَّابَّة، وَأَنَّهَا تحب اللَّهْو والتفرج وَالنَّظَر إِلَى اللّعب حبا بلغيا وتحرص عل إِقَامَته مَا أمكنها وَلَا تمل ذَلِك إلاَّ بعد زمَان طَوِيل، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَذكرنَا أَنَّهَا كَانَت يَوْمئِذٍ بنت خمس عشرَة سنة أَو أَزِيد، وَقَالَ بَعضهم، هُوَ مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ وَالسّنة، أما الْقُرْآن فَقَوله عز وَجل: {فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع} (النُّور: 63) وَالسّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ) ، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون مَنْسُوخا، لِأَن نظر النِّسَاء إِلَى الرِّجَال وَإِلَى اللَّهْو فِيهِ مَا فِيهِ.
38 - (بابُ مَوْعِظَةِ الرجُلِ ابْنَتَهُ بِحال زَوْجها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان موعظة الرجل ابْنَته بِحَال زَوجهَا. ويروى: لحَال زَوجهَا، بِاللَّامِ أَي: لأجل حَال زَوجهَا، وَالْمَوْعِظَة اسْم للوعظ وَهُوَ النصح والتذكير بالعواقب.
1915 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخبرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله بنِ أبي ثَوْرٍ عنْ عبْدِ الله بنُ عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: لَمْ أزَلْ حَرِيصا على أنْ أسألَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ عنِ المَرْأتيْنِ منْ أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اللَّتَيْتنِ قَالَ الله تَعَالَى: { (66) إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) حَتَّى حَجَّ وحَجَجْتُ معَهُ، وعَدَلَ وعدَلْتُ معَهُ بأدَوَاةٍ، فَتَبرَّزَ ثُمَّ جاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأ فقُلْتُ لهُ: يَا أميرَ المُؤْمِنِينَ مَنِ المَرْأتنِ مِنْ أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اللَّتانِ قَالَ الله تَعَالَى: { (66) تنوبا إِلَى الله فقد صنعت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) قَالَ: وَاعَجَبَا لَكَ يَا ابنَ عبَّاسٍ، هُما عائِشَةُ وحَفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الحَدِيثَ يَسُوقُهُ. قَالَ: كُنْتُ أَنا وجارٌ لِي مِنَ الأنْصارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بن زَيْدٍ وهُمْ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ وكُنَا نَتَناوَبُ النُّزُول عَلى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْزِلُ يَوْما وأَنْزِلُ يَوْما، فإذَا نَزَلتُ جِئْتُهُ بِما حدَثَ مِنْ خَبرِ ذالِكَ اليَوْم مِنَ الوَحْيِ أوْ غَيْرِهِ، وَإِذا نَزَلَ فَعلَ مِثْلَ ذالِكَ، وكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّساءِ فلَمَّا قَدِمْنا عَلى الأنْصَار إِذا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِساؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِساؤُنا يأخُذْنَ مِنْ أدَبِ نساءِ الأنْصَارِ فصَخِبْتُ على امْرَأَتي فراجعتني، فأنكرت أتراجعني، قَالَت: وَلم تنكر أَن أراجعك. فوَاللَّه إِن أَزوَاج النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وإنَّ إحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْل، فأفْرَغَنِي ذالِكَ وقُلْتُ لَها: قد خابَ مَنْ فَعَلَ ذالِكَ منْهُنَّ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيابِي فنَزَلْتُ فدَخَلْتُ عَلى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَها:(20/179)
أَي حَفْصَةُ {أتُغَاضِبُ إحْدَاكُنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اليَوْمَ حتَّى اللَّيْل؟ قَالَت: نعَمْ فقُلْتُ: قَدْ خِبْتُ وخَسِرْتِ أفَتَأْمَنِينَ أَن يَغْضَبَ الله لِغَضَبِ رسولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتَهْلِكِي؟ لَا تَسْتَكْثِري النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تُرَاجِعيهِ فِي شَيْءٍ وَلَا تَهْجُرِيهِ، وسَلِيْني مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَنَّكِ أنْ كانَتْ جارَتُكِ أوضأ مِنْكِ وأحَبَّ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ عائِشَةَ قَالَ عُمَرُ: وكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الخَيْلَ لِغَزْونا، فنَزَلَ صاحِبِي الأنصارِيُّ يوْمَ نْوَبَتِهِ فرَجَعَ إليْنا عِشاءً فَضَرَبَ بَابي ضَرْبا شَدِيدا وَقَالَ: أثمَّ هُوَ؟ فَفَزِعُتُ فَخَرَجْتُ إليْهِ، فَقَالَ: قدْ حَدَثَ اليَوْمَ أمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أجاءَ غَسانُ؟ قَالَ: لَا بَلْ أعْظَمْ مِنْ ذالِكَ وأهْوَلُ طلَّقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِساءَهُ. فقُلْتُ: خابَتْ حَفْصَةُ وخسِرَتْ، قدْ كنْتُ أظُنُّ هاذَا يُوشِكُ أنْ يَكُون. فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابي فَصلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فدَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَشْرُبَةً لهُ فاعْتَزَلَ فِيها، ودَخَلْتُ عَلى حَفْصَةَ فإذَا هِيَ تَبْكِي. فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ؟ ألَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هاذا؟ أطَلَّقَكُنَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَتْ: لَا أدْرِي، هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي المَشْرُبَةِ، فخرَجْتُ فجِئْتُ إِلَى المنْبَرِ فَإِذا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فجَلَسْتُ معَهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أجدُ فجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتي فِيهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقُلْتُ لِغُلاَمٍ لهُ أسوَدَ اسْتأْذِنْ لِعُمَرَ فدَخَللَ الغُلاَمُ فكلَّمَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ رجَعَ، فَقَالَ: كَلَّمْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذَكَرْتُك لَهُ فصَمَتَ، فانْصَرَفْتُ حتَّى جلَسْتُ معَ الرَّهْطِ الّذِينَ عنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أجدُ فجئْتُ فقُلْتُ لِلْغُلاَمِ اسْتَأْذَنَ لِعُمَر، فدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قد ذكَرْتُكَ لَهُ فصَمَتَ، فرَجَعْتُ فجَلَسْتُ معَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أجدُ فجِئتُ الغُلاَمَ، فقُلْتُ: اسْتأذِنْ لِعُمَرَ فدَخَلَ ثُمَّ رجَعَ إلَيَّ فَقَالَ: قدْ ذكَرْتُكَ لهُ فصَمَتَ فَلمَّا ولَّيْتُ مُنْصَرِفا، قَالَ: إِذا الغُلاَمُ يدْعُونِي، فَقَالَ: قدْ أذِنَ لَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمالِ حصيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ فِرَاشٌ قدْ أثَّرَ الرِّمالُ بجَنْبِهِ مُتَّكِئا علَى وسادَةٍ مِنْ أدَمِ حَشْوُها لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ علَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنا قائِمٌ: يَا رَسُول الله} أطلَّقْتَ نِساءَكَ؟ فرَفَعَ إليَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: لَا. فقُلْتُ: الله أكبر، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنا قائِم: أسْتَأْنِسُ يَا رسولَ الله؟ لوْ رأيْتَنِي وكُنا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النَّساءَ، فلَمّا قَدِمْنا المدينَةَ إِذا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِساؤُهُمْ، فتَبسَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رسولَ الله {لوْ رأيْتَنِي ودَخَلْتُ عَلى حَفْصَةَ فقُلْتُ لَها لَا يَغُرنَّكِ أَن كانَتْ جارَتُكِ أوْضأ مِنْكِ وأحَبَّ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُرِيدُ عائِشَةَ، فَتَبَسَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تبَسُّمَةً أُخْرَى، فجَلَسْتُ حِينَ رأيْتُهُ تبَسَّمَ فرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بيْتِهِ، فوَاللَّه مَا رأيْتُ فِي بيْتِهِ شَيئا يرُدُّ البَصر غيْرَ أهَبَةٍ ثَلاثَةٍ، فقُلْتُ: يَا رسولَ الله} ادْعُ الله فَلْيُوَسِّعْ علَى أمَّتِكَ، فإنَّ فارِسا والرُّومَ قدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وأعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ الله، فجَلَسَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ مُتَّكِئا فَقَالَ: أوَ فِي هاذا أنْتَ يَا ابنَ الخَطَّابِ؟ إنَّ أُولئِكَ قَوْمٌ عُجِّلوا طَيِّباتِهِمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيا، فقُلْتُ: يَا رسولَ الله! اسْتَغْفِرْ لِي. فاعْتَزَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نساءَهُ مِنْ(20/180)
أجْلِ ذالِكَ الحَديثِ حِينَ أفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عائِشَةَ تِسْعا وعِشْرينَ لَيْلَةً، وكانَ قَالَ: مَا أَنا بَدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتهِ علَيْهِنَّ حِينَ عاتبَهُ الله، فلَمَّا مَضت تِسْعٌ وعِشْرُونَ ليْلَةً دَخَلَ علَى عائِشَةَ فبَدَأَ بِها، فقالَتْ لهُ عائِشَةُ: يَا رسولَ الله {إنَّكَ كُنْتَ قدْ أقْسَمْتَ أنْ لَا تَدْخُلَ علَيْنَا شَهْرا، وإنّما أصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وعِشْرِينَ ليْلَةً أعُدُّها عَدًّا} ! فَقَالَ: الشّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ، فكانَ ذالِكَ الشّهْرُ تِسْعا وعِشْرينَ ليْلَةً، قالَتْ عائِشَةُ: ثُمَّ أنْزَلَ الله تَعَالَى آيةَ التّخْيِيرِ، فبَدَأ بِي أول امْرَأةٍ منْ نسائهِ فاختَرْتُهُ ثمَّ خَيْرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قالَتُ عائِشَةُ رضيَ الله عَنْهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَدخلت على حَفْصَة فَقلت: أَي حَفْصَة) إِلَى قَوْله: (يُرِيد عَائِشَة) .
وَأَبُو الْيَمَان هُوَ الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم، وَمضى أَيْضا مطولا فِي كتاب الْمَظَالِم فِي: بَاب الغرفة والعلية المشرفة، وَمضى أَيْضا مُخْتَصرا فِي كتاب الْعلم أخرجه عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة، فالناظر فِيهِ يعْتَبر التَّفَاوُت من حَيْثُ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي الْإِسْنَاد والمتن.
قَوْله: (عدل) أَي: عَن الطَّرِيق الجادة المسلوكة إِلَى طَرِيق لَا يسْلك غَالِبا ليقضي حَاجته، وَوَقع فِي رِوَايَة عبيد: فَخرجت مَعَه، فَلَمَّا رَجعْنَا وَكُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق عدل، إِلَى الْأَرَاك لحَاجَة لَهُ، وَفِي رِوَايَة مُسلم أَن الْمَكَان الْمَذْكُور هُوَ مر الظهْرَان. قَوْله: (فَتبرز) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي ذهب إِلَى الْبَزَّار لقَضَاء الْحَاجة قلت: تبرز أَي قضى حَاجته لِأَن قَوْله: فَعدل هُوَ فِي نفس الْأَمر بِمَعْنى خرج إِلَى البرَاز، لقَضَاء الْحَاجة (قلت) تبرز: أَي قضى حَاجته لِأَن قَوْله: فَعدل هُوَ فِي نفس الْأَمر بِمَعْنى: خرج إِلَى البرَاز نعم هُوَ من الْبَزَّار، وَهُوَ الْمَكَان الْخَالِي البارز عَن الْبيُوت، وَلكنه أطلق على نفس الْفِعْل. قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي: من الْإِدَاوَة. قَوْله: (اللَّتَان) ، كَذَا فِي الْأُصُول بالتثنية وَوَقع عِنْد ابْن التِّين الَّتِي، بِالْإِفْرَادِ قَالَ: وَالصَّوَاب اللَّتَان بالتثنية قَوْله: (إِن تَتُوبَا إِلَى الله) ، أَي: عَن التعاون على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) قَوْله: (وَاعجَبا لَك) ؟ يجوز فِيهِ التَّنْوِين وَتَركه على مَا قَالَه ابْن مَالك، إِن كَانَ منونا فَهُوَ اسْم فعل بِمَعْنى: أعجب قلت يجوز أَن يكون مَنْصُوبًا، بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره أعجب عجبا، وَإِن كَانَ غير منون فَالْأَصْل فِيهِ: واعجبي، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة معمر على الأَصْل فأبدلت الكسرة فَتْحة فَصَارَت ألفا كَمَا فِي قَوْله: يَا أسفا وَيَا حسرتا، وَكلمَة، واهنا اسْم لأعجب كَمَا فِي قَوْله:
(وبابي أَنْت وفوك الأشنب)
وَالْأَصْل فِي وَا، أَن يسْتَعْمل فِي المنادى الْمَنْدُوب، وَقد يسْتَعْمل فِي غَيره كَمَا هُنَا، وَإِلَيْهِ ذهب الْمبرد وَمن النُّحَاة من مَنعه وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ. قَوْله: (هما عَائِشَة وَحَفْصَة) ، كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة وَحده: (حَفْصَة وَأم سَلمَة) ، كَذَا حَكَاهُ عَنهُ مُسلم، إِنَّمَا تعجب عمر من ابْن عَبَّاس مَعَ شهرته بِعلم التَّفْسِير كَيفَ خَفِي عَلَيْهِ هَذَا الْقدر؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: كَأَنَّهُ كره مَا سَأَلَهُ عَنهُ، وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ: كره وَالله مَا سَأَلَهُ عَنهُ وَلم يَكْتُمهُ، ذكر مُسلم عَنهُ فِي هَذِه الْقِصَّة. قَوْله: (ثمَّ اسْتَقل) من الِاسْتِقْلَال بِالْأَمر وَهُوَ الاستبداد بِهِ، وَيُقَال: اسْتَقل بِالْأَمر إِذا تفرد بِهِ دون غَيره. قَوْله: (يَسُوقهُ) حَال أَرَادَ الْقِصَّة الَّتِي كَانَت سَبَب تَزُول الْآيَة المسؤول عَنْهَا. قَوْله: (فِي بني أُميَّة) بن زيد بن مَالك بن عَمْرو بن عَوْف من الْأَوْس قَوْله: (عوالي الْمَدِينَة) يَعْنِي: السكان والعوالي جمع عالية وَهِي الْقرى الَّتِي بِأَعْلَى الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال وَأكْثر وَأَقل، وَهِي مِمَّا يَلِي الْمشرق وَكَانَت منَازِل الْأَوْس. قَوْله: (وَكُنَّا نتناوب النُّزُول) أَي: كُنَّا نجعله نوبَة، يَوْمًا ينزل فِيهِ عمر وَيَوْما ينزل فِيهِ جَار لَهُ. واسْمه أَوْس بن خولى بن عبد الله بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ، وَقيل: عتْبَان بن مَالك، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخى بَينه وَبَين عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْأول هُوَ الْأَصَح، وَلَا يلْزم من المؤاخاة التجاور قَوْله: (معشر قُرَيْش) مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (نغلب النِّسَاء) أَي: نحكم عَلَيْهِنَّ وَلَا يحكمن علينا، بِخِلَاف الْأَنْصَار فَإِن النِّسَاء كن يحكمن عَلَيْهِم. قَوْله: (إِذا) كلمة مفاجأة. قَوْله: (فَطَفِقَ نساؤنا) بِكَسْر الْفَاء، وَقد تفتح وَهُوَ من أَفعَال المقاربة الَّذِي مَعْنَاهُ: الْأَخْذ والشروع فِي الشَّيْء. قَوْله: (من أدب نسَاء الْأَنْصَار) أَي: من طريقتهن وسيرتهن. قَوْله: (فصخبت) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة من الصخب وَهُوَ الصياح، وَهُوَ بالصَّاد رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره(20/181)
بِالسِّين الْمُهْملَة وهما بِمَعْنى وَاحِد، ويروى: فَصحت قَوْله: فراجعتني من الْمُرَاجَعَة هِيَ المراددة فِي القَوْل. قَوْله: (وَلم) بِكَسْر اللَّام وَفتح الْمِيم يَعْنِي: لماذا تنكر عَليّ أَن أراجعك أَي مراجعتك. قَوْله: (ليراجعنه) بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الْعين وَفتح النُّون. قَوْله: (لتهجره الْيَوْم إِلَى اللَّيْل) اللَّام فِي لتهجره للتَّأْكِيد وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْيَوْم نصب على الظّرْف، وَاللَّيْل مجرور بِكَلِمَة حَتَّى الَّتِي بِمَعْنى إِلَى، للغاية وَيجوز فِيهِ النصب على أَن حَتَّى حرف عطف وَهُوَ قَلِيل. قَوْله: (فأفزعني) من الْفَزع وَهُوَ الْخَوْف. قَوْله: (ثمَّ جمعت على ثِيَابِي) أَي: هيأت مشمرا سَاق الْعَزْم. قَوْله: (فَدخلت على حَفْصَة) يَعْنِي: ابْنَته بَدَأَ بهَا لمنزلتها مِنْهُ. قَوْله: (أَي حَفْصَة!) يَعْنِي: يَا حَفْصَة: قَوْله: (أتغاضب؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (أَن يغْضب الله؟) كلمة: أَن مَصْدَرِيَّة، أَي: عضب الله قَوْله: (فتهلكي) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة عقيل: (فتهلكين) وَفِي رِوَايَة عبيد بن حنين: (فيهلكن) ، بِسُكُون الْكَاف على صِيغَة جمَاعَة النِّسَاء الغائبة. وَقَالَ بَعضهم على خطاب جمَاعَة النِّسَاء. قلت جمَاعَة النِّسَاء الغائبات بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَإِن كَانَ للحاضرات فبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهَذَا الْقَائِل لم يُمَيّز بَينهمَا. قَوْله: (لَا تستكثري) أَي: لَا تطلبي مِنْهُ الْكثير من حوائجك، وَيُؤَيّد هَذَا رِوَايَة يزِيد بن رُومَان: (لَا تكلمي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا تسأليه فَإِن رَسُول الله لَيْسَ عِنْده دَنَانِير وَلَا دَرَاهِم، فَإِن كَانَ لَك من حَاجَة حَتَّى دهنة فسليني. قَوْله: (وَلَا تراجعيه فِي شَيْء) أَي: لَا ترادديه فِي الْكَلَام وَلَا تردي عَلَيْهِ قَوْله: (وَلَا تهجريه) أَي: لَا تهجري النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو هجرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مَا بدا لَك) أَي: مَا ظهر لَك مِمَّا تريدين قَوْله: (إِن كَانَت) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا. قَوْله: (جارتك) أَي: ضرتك، وَيجوز أَن يكون على حَقِيقَته لِأَنَّهَا كَانَت مجاورة لعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَكَانَ ابْن سِيرِين يكره تَسْمِيَتهَا ضرَّة، وَيَقُول: إِنَّهَا لَا تضر وَلَا تَنْفَع وَلَا تذْهب من رزق الْأُخْرَى بِشَيْء، وَإِنَّمَا هِيَ جَارة، وَالْعرب تسمي صَاحب الرجل وخليطه جارا، وَتسَمى الزَّوْجَة أَيْضا جَارة لمخالطتها الرجل، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتَار عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تَسْمِيَتهَا جَارة أدبا مِنْهُ أَن يُضَاف لفظ الضَّرَر إِلَى إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (أوضأ مِنْك) من الْوَضَاءَة وَهُوَ الْحسن وَوَقع فِي رِوَايَة معمر: (أوسم) من الوسامة وَهِي الْجمال. قَوْله: (وَأحب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْمَعْنى: لَا تغتري بِكَوْن عَائِشَة تفعل مَا نهيتك عَنهُ فَلَا يؤاخذها بذلك، فَإِنَّهَا تدل بجمالها ومحبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا فَلَا تغتري أَنْت بذلك لاحْتِمَال أَن لَا تَكُونِي عِنْده بِتِلْكَ الْمنزلَة، وَفِي رِوَايَة عبيد بن حنين الَّتِي مَضَت فِي سُورَة التَّحْرِيم: وَلَا يغرنك هَذِه الَّتِي أعجبها حسنها حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عِنْد مُسلم: أعجبها حسنها وَحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بواو الْعَطف، وَقيل فِي رِوَايَة عبد بن حنين الْمَذْكُورَة حذف الْوَاو تَقْدِيره: (وَحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَمنعه السُّهيْلي وَقَالَ: هُوَ مَرْفُوع على الْبَدَل، بَيَانه أَن قَوْله: هَذِه فَاعل قَوْله: لَا يغرنك، وَقَوله: الَّتِي أعجبها صفة وَقَوله حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدل اشْتِمَال كَمَا فِي قَوْلك: أعجبني يَوْم الْجُمُعَة صَوْم فِيهِ، وَجوز عِيَاض بدل الاشتمال وَحذف وَاو الْعَطف، وَقَالَ ابْن التِّين: حب فَاعل وحسنها بِالنّصب مفعول لأَجله، وَالتَّقْدِير: أعجبها حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا من أجل حسنها. قَالَ: وَالضَّمِير الَّذِي يَلِي أعجبها مَنْصُوب فَلَا يَصح بدل الْحسن مِنْهُ وَلَا الْحبّ. قَوْله: (أَن غَسَّان) قَالَ الْكرْمَانِي: غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمُهْملَة ملك من مُلُوك الشَّام قلت: لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ قَبيلَة غَسَّان وملكهم فِي ذَلِك الْوَقْت الْحَارِث بن أبي شمر وَأَن غَسَّان فِي الأَصْل مَاء بسد مأرب كَانَ شربا لولد مَازِن فسموا بِهِ، وَيُقَال غَسَّان مَاء بالمشلل قريب من الْجحْفَة، وَالَّذين شربوا مِنْهُ سموا بِهِ قبائل من ولد مَازِن جماع غَسَّان، فَمن نزل من بنيه ذَلِك المَاء فَهُوَ غساني، وأنشىء مِنْهُم مُلُوك فَأول من نزل مِنْهُم بِبِلَاد الشَّام جَفْنَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة وَآخرهمْ جبلة بن الْأَيْهَم وَهُوَ الَّذِي أسلم فِي خِلَافه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ عَاد إِلَى الرّوم وَتَنصر، وَقد اخْتلفُوا فِي مُدَّة ملك الغسانية، فَقيل: أَرْبَعمِائَة سنة، وَقيل: سِتّمائَة سنة، وَقيل غير ذَلِك، وَقيل: إِنَّهُم سبع وَثَلَاثُونَ ملكا أَو لَهُم جَفْنَة وَآخرهمْ جبلة. قَوْله: (تنعل الْخَيل) ، بِضَم أَوله، قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال أنعلت الدَّابَّة، وَلَا تقل: نعلت، وَحكى عِيَاض فِي تنعيل الْخَيل وَجْهَيْن، وَهُوَ كِنَايَة عَن استعدادهم لِلْقِتَالِ مَعَ أهل الْمَدِينَة. قَوْله: (فَفَزِعت) أَي: خفت. قَوْله: (خابت حَفْصَة وخسرت) إِنَّمَا حضها بِالذكر لمكانتها مِنْهُ لكَونهَا ابْنَته. قَوْله: (يُوشك) بِكَسْر الشين(20/182)
بِمَعْنى: يقرب لِأَنَّهُ من أَفعَال المقاربة قَوْله: (مشربَة) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم الرَّاء وَفتحهَا، وَهِي الغرفة. قَوْله: (ثمَّ غلبني مَا أجد) أَي: من شغل قلبِي أَي: من اعتزال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ وَأَن ذَلِك لَا يكون إلاَّ من غضب مِنْهُ قَوْله: (لغلام لَهُ أسود) واسْمه رَبَاح بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْبَاب الْمُوَحدَة وَآخره حاء مُهْملَة. قَوْله: (على رمال) بِكَسْر الرَّاء، وَقد يضم، وَفِي رِوَايَة معمر: على رمل، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ المنسوج من الْحَصِير، يُقَال: رملت الْحَصِير أَي: نسجته قَوْله: (من أَدَم) بِفتْحَتَيْنِ جمع أَدِيم. قَوْله: (استأنس) أَي: اسْتَأْذن الْجُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمحادثة مَعَه وأتوقع عوده إِلَى الرِّضَا وَزَوَال غَضَبه. قَوْله: (غير أهبة) بِفَتَحَات واحده أهب وَهِي الْجلد مَا لم يدبغ، والأهب بِفتْحَتَيْنِ جمع على غير قِيَاس وَقيل بِالضَّمِّ وَهُوَ الْقيَاس. قَوْله: (أَو فِي هَذَا أَنْت؟) الْهمزَة للاستفهام وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر بعد الْهمزَة أَي: أَأَنْت فِي مقَام استعظام التجملات الدنياوية واستعجالها؟ قَوْله: (استعفر لي) أَي عَن جراءتي بِهَذَا القَوْل بحضرتك أَو عَن اعتقادي أَن التجملات الدنياوية مَرْغُوب فِيهَا أَو عَن إرادتي مَا فِيهِ المشابهة للْكفَّار فِي ملابسهم ومعايشهم. قَوْله: (من أجل ذَلِك الحَدِيث) وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا روى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلى بمارية الْقبْطِيَّة فِي يَوْم عَائِشَة وَعلمت بِهِ حَفْصَة فأفشته حَفْصَة إِلَى عَائِشَة. قَوْله: (تسعا وَعشْرين لَيْلَة) رَاجع إِلَى قَوْله: (فاعتزل) قَوْله: (من شدَّة موجدته) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَكسر الْجِيم، أَي: من شدَّة حزنه، وعاتبه الله تَعَالَى بقوله: {لم تحرم مَا أحل الله لَك} (التَّحْرِيم: 1) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لحفصة: لَا أَعُود إِلَيْهَا فَاكْتُمِي عَليّ فَإِنِّي حرمتهَا على نَفسِي. قَوْله: (من تسع) وَفِي رِوَايَة عقيل: لتسْع بِاللَّامِ وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: بتسع، بِالْبَاء الْمُوَحدَة قَوْله: (آيَة التَّخْيِير) وَهِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا} إِلَى قَوْله: {أجرا عَظِيما} (الْأَحْزَاب: 82، 92) [/ ح.
وَفِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد فِيهِ: بذل الرجل المَال لابنته لتحسين عشرَة زَوجهَا، لِأَن ذَلِك صِيَانة لعرضها وعرضها. وبذل المَال فِي صِيَانة الْعرض وَاجِب فِيهِ: تَعْرِيض الرجل لابنته بترك الاستكثار من الزَّوْج، إِذا كَانَ ذَلِك يُؤْذِيه ويحرجه. وَفِيه: سُؤال الْعَالم عَن بعض أُمُور أَهله وَإِن كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَة إِذا كَانَ فِي ذَلِك سنة تنقل وَمَسْأَلَة تحفظ. وَفِيه: توقير الْعَالم ومهابته عَن استفسار مَا يخْشَى من تغيره عِنْد ذكره. وَفِيه: ترقب خلوات الْعَالم ليسأل عَمَّا لَعَلَّه لَو سُئِلَ عَنهُ بِحَضْرَة النَّاس أنكرهُ على السَّائِل. وَفِيه: أَن شدَّة الْوَطْأَة على النِّسَاء مذمومة. فَإِن قلت: روى ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: علق سَوْطك حَيْثُ يرَاهُ الْخَادِم، وروى أَبُو ذَر: أخف أهلك فِي الله وَلَا ترفع عَنْهُم عصاك. قلت: أسانيدها واهية، وَضرب الْمَرْأَة لغير الهجر فِي المضجع لَا يجوز بل حرَام قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (الْأَحْزَاب: 85) الْآيَة. وَفِيه: الْبَحْث فِي الْعلم فِي الطّرق والخلوات وَفِي حَال الْقعُود وَالْمَشْي. وَفِيه: الصَّبْر على الزَّوْجَات والإغضاء عَن خطئهن والصفح عَمَّا يَقع مِنْهُنَّ من زلل فِي حق الْمَرْء دون مَا يكون من حق الله. وَفِيه: جَوَاز اتِّخَاذ الْحَاكِم عِنْد الْخلْوَة بوابا يمْنَع من دخل إِلَيْهِ بِغَيْر إِذْنه. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الاسْتِئْذَان على الْإِنْسَان وَإِن كَانَ وَحده لاحْتِمَال أَن يكون على حَالَة يكره الِاطِّلَاع عَلَيْهَا. وَفِيه: جَوَاز تكْرَار الاسْتِئْذَان لمن لم يُؤذن لَهُ إِذا رجى حُصُول الْإِذْن وَلَا يتَجَاوَز بِهِ ثَلَاث مَرَّات. وَفِيه: أَن لكل لَذَّة أَو شَهْوَة قَضَاهَا الْمَرْء فِي الدُّنْيَا فَهُوَ استعجال لَهُ من نعيم الْآخِرَة وَفِيه أَن الْإِنْسَان إِذا رأى صَاحبه مهموما اسْتحبَّ لَهُ أَن يحدث بِمَا يزِيل همه ويطيب نَفسه. وَفِيه: جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء بالصب على يَد المتوضىء. وَفِيه: خدمَة الصَّغِير للكبير وَإِن كَانَ الصَّغِير أشرف نسبا من الْكَبِير. وَفِيه: تذكير الْحَالِف بِيَمِينِهِ إِذا وَقع مِنْهُ مَا ظَاهره نسيانها. وَفِيه: التناوب فِي مجَالِس الْعلمَاء إِذا لم يَتَيَسَّر الْمُوَاظبَة على حُضُوره لشاغل شَرْعِي من أَمر ديني أَو دُنْيَوِيّ. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد وَلَو كَانَ الْآخِذ فَاضلا والمأخوذ عَنهُ مفضولاً. وَرِوَايَة الْكَبِير عَن الصَّغِير. وَفِيه: أَن الْغَضَب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التاني المألوف مِنْهُ. وَفِيه: شدَّة الْفَزع والجرع للأمور المهمة. وَفِيه: جَوَاز نظر الْإِنْسَان نواحي بنت صَاحبه وَفِيه: كَرَاهَة تسخط النِّعْمَة واحتقار مَا أنعم الله بِهِ وَلَو كَانَ قَلِيلا. وَفِيه: المعاتبة على إفشاء مَا لَا يَلِيق لمن أفشاه. وَفِيه: حسن تلطف ابْن عَبَّاس وَشدَّة حرصه على الِاطِّلَاع على فنون التَّفْسِير. وَفِيه: إِن سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْإِذْن فِي تِلْكَ الْحَال الرِّفْق بالأصهار وَالْحيَاء مِنْهُم. وَفِيه: جَوَاز ضرب الْبَاب ودقه إِذا لم يسمع الدَّاخِل بِغَيْر ذَلِك. وَفِيه: دُخُول الْآبَاء على الْبَنَات بِغَيْر إِذن الزَّوْج والتفحص عَن أحوالهن، لَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بالزوجات.(20/183)
48 - (بابُ صَوْمِ المَرْأةِ بإذْنِ زَوْجِها تَطَوُّعا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَوْم الْمَرْأَة حَال كَونهَا ملتبسة بِإِذن زَوجهَا فِي صَومهَا. قَوْله: (تَطَوّعا) يجوز أَن يكون بِمَعْنى متطوعة فَيكون نصبا على الْحَال وَيجوز أَن يكون صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: صوما تَطَوّعا، وَإِنَّمَا قيد بِإِذن الزَّوْج لِأَنَّهَا لَا تَصُوم التَّطَوُّع إلاَّ بِإِذْنِهِ لِأَن حَقه مقدم على صَوْم التَّطَوُّع، بِخِلَاف رَمَضَان فَإِنَّهُ لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْإِذْن لِأَنَّهُ أَيْضا صَائِم، وَالْخلاف فِي صَوْم قَضَاء رَمَضَان فَمنهمْ من قَالَ: لَيْسَ لَهَا ذَلِك بل تؤخره إِلَى شعْبَان، وَمِنْهُم من قَالَ: لَهَا ذَلِك.
2915 - حدّثنا مُحَمَّد بن مُقاتِلٍ أخبرنَا عبْدُ الله أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن هَمَّامِ بن مْنَبِّهٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا تصُومُ المَرْأةُ وبَعْلِها شاهِدٌ إلاَّ بإذْنه.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يوضحها لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الحكم بِالْجَوَازِ وبعدم الْجَوَاز.
وَمُحَمّد بن مقَاتل الْمروزِي وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد، وَهَمَّام بتَشْديد الْمِيم الأولى ابْن مُنَبّه على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التَّنْبِيه.
قَوْله: (لَا يَصُوم) وَالنَّفْي لَا يجْزم وَزعم ابْن التِّين، أَن الصوب: لَا تصم، لِأَنَّهُ نهي وَهُوَ مجزوم وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَاتفقَ الْعلمَاء مثل مَا بوب البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا، وَفِي لفظ لَا يحل للْمَرْأَة أَن تَصُوم مَكَان لَا تَصُوم، وَفِي لفظ أبي دَاوُد لَا تصومن امْرَأَة يَوْمًا سوى شهر رَمَضَان وَزوجهَا شَاهد إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَلَفظه: لَا تَصُوم الْمَرْأَة وَزوجهَا شَاهد يَوْمًا من غير شهر رَمَضَان إلاَّ بِإِذْنِهِ. وَقَالَ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث حسن. وَأخرجه ابْن حبَان وَصَححهُ.
قَوْله: (وبعلها) أَي: زَوجهَا: (شَاهد) أَي: حَاضر، يَعْنِي مُقيم فِي الْبَلَد إِذْ لَو كَانَ مُسَافِرًا فلهَا الصَّوْم لِأَنَّهُ لَا يتأتي مِنْهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ أَصْحَابنَا: النَّهْي للتَّحْرِيم. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يكره فَلَو صَامت بِغَيْر إِذْنه صَحَّ وأثمت. وَقَالَ الْمُهلب: النَّهْي على التَّنْزِيه لَا للإلزام.
58 - (بابُ إِذا باتَتِ المَرْأةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مَا إِذا باتت الْمَرْأَة مهاجرة أَي: تاركة فرَاش زَوجهَا ومعرضة عَنهُ، وَلم يذكر جَوَاب إِذا الَّذِي هُوَ الحكم اعْتِمَادًا على مَا يفهم من حَدِيث الْبَاب وَهُوَ عدم الْجَوَاز لِأَن فِيهِ اسْتِحْقَاقهَا اللَّعْنَة من الْمَلَائِكَة فَلَا تسْتَحقّ ذَلِك إِلَّا بِمُبَاشَرَة أَمر مَحْظُور.
3915 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بشّار حَدثنَا ابنُ أبي عدِيٍّ عنْ شُعْبَةَ عنْ سُلَيْمانَ عنْ أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتهُ إِلَى فِرَاشِهِ فأبَتْ أنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا المَلائِكةُ حتّى تُصْبِحَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي تَرْجَمَة الْبَاب الَّذِي قبله قَوْله: (مُحَمَّد بن بشار) هُوَ بنْدَار، وَذكر أَبُو عَليّ الجياني أَنه وَقع فِي بعض النّسخ مُحَمَّد بن سِنَان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى وَهُوَ غلط، وَابْن عدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: هُوَ سُلَيْمَان الْأَشْجَعِيّ مولى عزة الأشجعية.
والْحَدِيث قد مر فِي بَدْء الْخلق فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِذا دَعَا الرجل امْرَأَته إِلَى فرَاشه) ، كِنَايَة عَن الْجِمَاع. قَوْله: (فَأَبت) أَي: امنتعت. قَوْله: (أَن تَجِيء) كلمة: أَن مَصْدَرِيَّة أَي: عَن الْمَجِيء قَوْله: (حَتَّى تصبح) ، ظَاهره اخْتِصَاص اللَّعْن بِمَا إِذا وَقع ذَلِك مِنْهَا لَيْلًا وَلَيْسَ ذَلِك بِقَيْد، وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك لِأَن مَظَنَّة ذَلِك غَالِبا بِاللَّيْلِ وَإِلَّا فَهُوَ عَام فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، يُوضح ذَلِك وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث يزِيد بن كيسَان عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا من رجل يَدْعُو امْرَأَته إِلَى فراشها فتأبى عَلَيْهِ إلاَّ كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاء ساخطا عَلَيْهَا حَتَّى يرضى عَنْهَا، وَمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من حَدِيث جَابر رَفعه: (ثَلَاثَة لَا تقبل لَهُم صَلَاة وَلَا يصعد لَهُم إِلَى السَّمَاء حَسَنَة: العَبْد الْآبِق حَتَّى يرجع، والسكران حَتَّى يصحو، وَالْمَرْأَة الساخط(20/184)
عَلَيْهَا زَوجهَا حَتَّى يرضى) فَهَذَا الْإِطْلَاق يتَنَاوَل اللَّيْل وَالنَّهَار، وروى ابْن الْجَوْزِيّ فِي (كتاب النِّسَاء) من حَدِيث مُحَمَّد بن ربيعَة: حَدثنَا يحيى بن الْعَلَاء حَدثنَا الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المسوفة والمغلسة، أما المسوفة فَهِيَ الْمَرْأَة الَّتِي إِذا أرادها زَوجهَا قَالَت: سَوف، والمغلسة فِي لفظ المغسلة، هِيَ الَّتِي إِذا أرادها زَوجهَا قَالَت: إِنِّي حَائِض، وَلَيْسَ بحائض، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث لَيْث عَن عبد الْملك عَن عَطاء عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَت امْرَأَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله! مَا حق الزَّوْج على الْمَرْأَة؟ قَالَ: لَا تَمنعهُ نَفسهَا، وَإِن كَانَت على ظهر قتب. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (كتاب الْعشْرَة) من حَدِيث يحيى بن الْعَلَاء بِلَفْظ: لَا تَمنعهُ نَفسهَا وَإِن كَانَت على رَأس تنور، وَرَوَاهُ ابْن عدي، وَلَفظه: على رَأس تنور أَو ظهر بَيت، وَيحيى بن الْعَلَاء ضَعِيف، وَفِي حَدِيث الْبَاب: إِن الْمَلَائِكَة تَدْعُو لأهل الطَّاعَة إِذا كَانُوا على طاعتهم وَتَدْعُو على أهل الْمعْصِيَة إِذا كَانُوا فِي مَعْصِيّة.
وَفِيه: جَوَاز لعن العَاصِي الْمُسلم إِذا كَانَ على سَبِيل الإرهاب عَلَيْهِ لِئَلَّا يواقع الْفِعْل فَإِذا واقعه فَإِنَّمَا يدعى لَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْهدى.
4915 - حدّثنا محمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ زُرَارَةَ عنْ أبي هُرَيُرَةَ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا باتَتِ المرْأةُ مُهاجِرَةً فِراش زَوْجِها لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حتّى تَرْجِعَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ويوضح المُرَاد من التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة مُطلقَة، وزرارة بِضَم الزَّاي وبتكرير الرَّاء المخففة: ابْن أوفى بِالْوَاو وَالْفَاء مَقْصُورا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار.
قَوْله: (مهاجرة) من بَاب المفاعلة فِي الأَصْل وَلَكِن هُنَا بِمَعْنى: هاجرة لِأَن فَاعل قد يَأْتِي بِمَعْنى فعل نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم} (آل عمرَان: 331) أَي: اسرعوا، وتوضحه رِوَايَة مُسلم: إِذا باتت الْمَرْأَة هاجرة، وَهُوَ اسْم فَاعل من هجر ومهاجرة اسْم فَاعل من هَاجر، وَإِذا كَانَ الهجر مِنْهُ فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا شَيْء من ذَلِك. قَوْله: (حَتَّى ترجع) أَي: عَن الْهِجْرَة (فَإِن قلت) هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة هم الْحفظَة أَو غَيرهم؟ (قلت) قيل: يحْتَمل الْأَمريْنِ وَأَنا أَقُول إِن الله عز وَجل خلق الْمَلَائِكَة على أَنْوَاع شَتَّى: مِنْهُم مرصدون لأمور كالموكلين بالقطر والرياح والسحب، والموكلين بمساءلة من فِي الْقُبُور، والسياحين فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ مجَالِس الذّكر، والموكلين بِقَذْف الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ، والموكلين بِأُمُور قَالَ فيهم: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} (التَّحْرِيم: 6) وَيحْتَمل أَن تكون الْمَلَائِكَة الَّذين يلعنون نَاسا من بني آدم على أُمُور محظورة تقع مِنْهُم من هَذَا النَّوْع، وَهُوَ الظَّاهِر.
وَفِيه: الْإِرْشَاد إِلَى مساعدة الزَّوْج وَطلب مرضاته. وَفِيه: أَن صَبر الرجل على ترك الْجِمَاع أَضْعَف من صَبر الْمَرْأَة. وَفِيه: أَن أقوى التشويشات على الرجل دَاعِيَة النِّكَاح. وَلذَلِك حض الشَّارِع النِّسَاء على مساعدة الرجل فِي ذَلِك.
68
- (بابٌ لَا تَأذن المَرْأةُ فِي بيْتِ زَوْجِها لأحدٍ إلاّ بإذْنهِ) 2.
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا تَأذن الْمَرْأَة إِلَى آخِره، وَالْمرَاد بِبَيْت زَوجهَا مَسْكَنه سَوَاء كَانَ ملكه أم لَا.
5915 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حَدثنَا أبُو الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يحلّ للْمَرْأةِ أنْ تصُومَ وزَوْجُها شاهِدٌ إلاّ بإذْنِهِ، وَلَا تأذَنَ فِي بيْتِهِ إِلَّا بإذْنِهِ، وَمَا أنْفَقَتْ مِنْ نَفَقةٍ عنْ غيْرِ أمره فإِنّهُ يُؤَدَّى إليْهِ شطْرُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تَأذن فِي بَيته إلاَّ بِإِذْنِهِ) وَهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة لمتون مُخْتَلفَة.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة دِينَار الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرحمان بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن أبي الْيَمَان بِقصَّة الصَّوْم.
وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام: الأول: فِي صَوْم الْمَرْأَة تَطَوّعا وَقد مر عَن قريب. الثَّانِي: قَوْله: (وَلَا تَأذن فِي بَيته) أَي: لَا تَأذن الْمَرْأَة فِي بَيت زَوجهَا لَا لرجل وَلَا لامْرَأَة يكرهها زَوجهَا، لِأَن ذَلِك يُوجب سوء الظَّن وَيبْعَث على الْغيرَة الَّتِي هِيَ سَبَب القطيعة، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة: وَهُوَ شَاهد إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَهَذَا الْقَيْد لَا مَفْهُوم لَهُ، بل خرج مخرج(20/185)
الْغَالِب وإلاَّ فغيبة الزَّوْج لَا تَقْتَضِي الْإِبَاحَة للْمَرْأَة أَن تَأذن لمن يدْخل بَيته بل يتَأَكَّد حِينَئِذٍ عَلَيْهَا الْمَنْع لوُرُود الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَن الدُّخُول على المغيبات، أَي من غَابَ زَوجهَا، وَأما عِنْد الدَّاعِي للدخول عَلَيْهَا للضَّرُورَة كالإذن لشخص فِي دُخُول مَوضِع من حُقُوق الدَّار الَّتِي هِيَ فِيهَا أَو إِلَى دَار مُنْفَرِدَة عَن مَسْكَنهَا، أَو الْإِذْن لدُخُول مَوضِع معد للضيفان، فَلَا حرج عَلَيْهَا فِي الْإِذْن بذلك لِأَن الضرورات مُسْتَثْنَاة فِي الشَّرْع. الثَّالِث: قَوْله: (وَمَا أنفقت) أَي الْمَرْأَة (من نَفَقَة عَن غير أَمر زَوجهَا فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْهِ شطرة) أَي: نصفه، وَالْمرَاد بِهِ نصف الْأجر، وَقد جَاءَ وَاضحا فِي رِوَايَة همام عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا أنفقت الْمَرْأَة من كسب زَوجهَا من غير أمره فَلهُ نصف أجره، وَقد مر فِي أَوَائِل الْبيُوع فِي بَاب قَول الله تَعَالَى: {أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فلهَا نصف أجره، وَقَالَ الْخطابِيّ قَوْله: (يُؤَدِّي إِلَيْهِ شطره) مَحْمُول على المَال الْمُنفق وَإنَّهُ يلْزم الْمَرْأَة إِذا أنفقت بِغَيْر أَمر زَوجهَا زِيَادَة على الْوَاجِب لَهَا أَن تغرم الْقدر الزَّائِد، وَأَن هَذَا هُوَ المُرَاد بالشطر فِي الْخَبَر، لِأَن الشّطْر يُطلق على النّصْف وعَلى الْجُزْء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَكل مَا أنفقت على نَفسهَا من مَاله وَبِغير إِذْنه فَوق مَا يجب لَهَا من الْقُوت بِالْمَعْرُوفِ غرمت شطره، يَعْنِي: قدر الزِّيَادَة على الْوَاجِب لَهَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : معنى (يُؤَدِّي إِلَيْهِ شطره) يتَأَدَّى إِلَيْهِ من أجر الصَّدَقَة مثل مَا يتَأَدَّى إِلَى البمتصدقة من الْأجر ويصيران فِي الْأجر نِصْفَيْنِ سَوَاء، وَيشْهد لَهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الدَّال على الْخَيْر كفاعله، وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاة. وَقَالَ ابْن الرابط: وَهَذِه النَّفَقَة هِيَ الْخَارِجَة عَن الْمَعْرُوف الزَّائِدَة على الْعَادة بِدَلِيل قصَّة هِنْد بِالْمَعْرُوفِ، وَحَدِيث: أَن للخازن فِيمَا أنْفق أجرا وللزوجة أجرا يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا النّصْف يجوز أَن يكون النّصْف الَّذِي أُبِيح لَهَا أَن تَتَصَدَّق بِهِ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأما مَا روى البُخَارِيّ أَعنِي حَدِيثا آخر، فيخالف مَعْنَاهُ وَهُوَ أَنه قَالَ: إِذا أنفقت الْمَرْأَة من كسب زَوجهَا من غير أمره فَلهُ نصف أجره، فَهُوَ إِنَّمَا يتَأَوَّل على أَن تكون الْمَرْأَة قد خلطت الصَّدَقَة من مَاله بِالنَّفَقَةِ الْمُسْتَحقَّة لَهَا حَتَّى كَانَا شطرين. قلت: هَذَا لَا يدْفع أَن يكون غَرَامَة زِيَادَة مَا أنفقت لَازِمَة لَهَا أَن لم تطب نفس الزَّوْج بهَا، وروى ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث لَيْث عَن عَطاء عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: لَا تَتَصَدَّق الْمَرْأَة من بَيته بِشَيْء إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت كَانَ لَهُ الْأجر وَعَلَيْهَا الْوزر، وَلَا تَصُوم يَوْمًا إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت أثمت وَلم تؤجر وَعَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه سُئِلَ: الْمَرْأَة تَتَصَدَّق من مَال زَوجهَا؟ قَالَ لَا إلاَّ من قوتها وَالْأَجْر بَينهمَا وَأما من مَاله فَلَا.
ورَواهُ أبُو الزِّناد أَيْضا عنْ مُوسى عَن أبِيهِ عَن أبي هُرَيْرَةَ فِي الصَّوْمِ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور أَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان الَّذِي يُقَال لَهُ التبَّان بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة الثَّقِيلَة، واسْمه سعيد، وَيُقَال لَهُ: عمرَان، وَهُوَ مولى الْمُغيرَة بن شُعْبَة لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج اشْتَمَلت على ثَلَاثَة أَحْكَام كَمَا ذكرنَا، وَأَن لأبي الزِّنَاد أَيْضا إِسْنَادًا آخر عَن مُوسَى الْمَذْكُور فِي الصَّوْم خَاصَّة، وَهُوَ معنى قَوْله: (فِي الصَّوْم) وَوصل هَذِه الرِّوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ والدارمي وَالْحَاكِم من طَرِيق الثَّوْريّ عَن أبي الزِّنَاد عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان بِقصَّة الصَّوْم.
78 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، كَذَا وَقع مُجَردا فِي رِوَايَة الْكل، وَقد قُلْنَا غير مرّة إِن هَذَا كالفصل لما قبله، وَسقط لفظ: بَاب، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ.
6915 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا إسْماعِيلُ أخبرنَا التَّيْمِي عَن أبي عثْمانَ عنْ أُسامَةَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قُمْتُ على بابِ الجَنَّةِ فكانَ عامّة مَنْ دَخَلَها المَساكِينُ. وأصْحابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أنَّ أصْحابَ النّارِ قدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النّار، وقُمْتُ عَلَى بَابِ النّارِ فَإِذا عامّةُ مَنْ دَخَلَها النِّساء.
مطابقته للتَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث الْمَذْكُور فِيهَا يشْتَمل على أَحْكَام مُتَعَلقَة بِالنسَاء وأنهن يرتكبن النَّهْي الْمَذْكُور فِيهِ غَالِبا، فَلذَلِك كن أَكثر من يدْخل النَّار، وَأما لفظ بَاب الْمُجَرّد فَإِنَّهُ دَاخل فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن(20/186)
علية، والتيميم هُوَ سُلَيْمَان بن طرخان الْبَصْرِيّ، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء، وَأُسَامَة هُوَ ابْن زيد حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر كتاب الدَّعْوَات عَن هدبة بن خَالِد وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن قُتَيْبَة بن سعيد وَفِي المواعظ وَالرَّقَائِق عَن عبد الله بن سعيد.
قَوْله: (الْجد) بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الدَّال وَهُوَ الْغنى والحظ، وَيَجِيء بِمَعْنى الْقطع وَأب الْأَب، وبالكسر: الِاجْتِهَاد قَوْله: (محبوسون) أَي: على بَاب الْجنَّة أَو على الْأَعْرَاف، كَذَا وَقع لفظ محبوسون بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي الْأُصُول من الْحَبْس، وَكَذَا عِنْد أبي ذَر، وَقَالَ ابْن التِّين: وَكَذَا عِنْد الشَّيْخ أبي الْحسن وَلَعَلَّه بِفَتْح التَّاء وَالْوَاو: محتوشون، اسْم مفعول من قَوْلهم: احتوش فلَان بِالْمَكَانِ إِذا قَامَ بِهِ، يَعْنِي موقوفون لَا يَسْتَطِيعُونَ الْفِرَار، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَرْجُو أَن يكون المحبوسون أهل التفاخر، لِأَن أفاضل هَذِه الْأمة كَانَ لَهُم أَمْوَال ووصفهم الله تَعَالَى بِأَنَّهُم سَابِقُونَ. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا صَار أَصْحَاب الْجد محبوسين لمنعهم حُقُوق الله تَعَالَى الْوَاجِبَة للْفُقَرَاء فِي أَمْوَالهم فحبسوا لِلْحسابِ كَمَا منعُوهُ، فَأَما من أدّى حُقُوق الله تَعَالَى فِي مَاله فَإِنَّهُ لَا يحبس عَن الْجنَّة إلاَّ أَنهم قَلِيل، وَإِذا كثر المَال تضيع حُقُوق الله فِيهِ لِأَنَّهُ محنة وفتنة. قَوْله: (غير أَن أهل النَّار) وهم الَّذين استحقوا دُخُول النَّار، وَقد أَمر بهم أَي: أَمر الله بهم إِلَى النَّار. قَوْله: (فَإِذا) كلمة المفاجأة أضيفت إِلَى الْجُمْلَة لِأَن قَوْله: (عَامَّة من دَخلهَا) مُبْتَدأ أَو قَوْله: (النِّسَاء) خَبره.
88 - (بابُ كُفْرَانِ العَشِيرِ وهُوَ الزَّوْجُ وهُوَ الخَلِيطُ مِنَ المُعَاشَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كفران الْمَرْأَة العشير، وَأَرَادَ بالكفران ضد الشُّكْر وَهُوَ جحود النِّعْمَة وَالْإِحْسَان وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْكفْر الَّذِي يخرج بِهِ عَن أصل الْإِيمَان، والكفران مصدر من كفر يكفر كفورا وَكفرا وكفرانا مثل ضِدّه شكر يشْكر شكُورًا وشكرا أَو شكرانا. قَوْله: (وَهُوَ الزَّوْج) أَي: العشير هُوَ الزَّوْج، والعشير على وزن فعيل بِمَعْنى معاشر كالمصادق فِي الصّديق لِأَنَّهَا تعاشرا ويعاشرها من الْعشْرَة وَهِي الصُّحْبَة. قَوْله: (وَهُوَ الخليط) أَي: العشير هُوَ الخليط أَي المخالط لِأَن بَينهمَا مُخَالطَة. قَوْله: (من المعاشر) أَرَادَ بِهِ أَن العشير الَّذِي هُوَ الزَّوْج مَأْخُوذ من المعاشرة الَّتِي بِمَعْنى المصاحبة، وَاحْترز بِهِ عَن العشير الَّذِي بِمَعْنى الْعشْر، بِالضَّمِّ كَمَا فِي الحَدِيث تِسْعَة أعشراء الرزق فِي التِّجَارَة، وَهُوَ جمع عشير كنصيب وأنصباء وَمن العشير الَّذِي بِمَعْنى المعشور فَإِنَّهُ من عشرت المَال أعشره إِذا أخذت عشره.
فِيهِ عنْ أبي سَعِيدٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْمَعْنى روى عَن أبي سعيد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
7915 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنْ زيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ عطاءِ بن يَسارٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قَالَ: خَفَتِ الشَّمْس على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَصَلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والنّاسُ معَهُ فقامَ قِياما طَوِيلاً نَحْوا مِنْ سورَةِ البَقَرَةِ، ثُمَّ ركَعَ رُكُوعا طَوِيلاً ثُمَّ رَفَعَ فقامَ قِياما طَوِيلاً وهْوَ دُونَ القِيامِ الأوَّل ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ فقامَ قِيَاما طَوِيلاً وهْوَ دُونَ القيامِ الأوَّل، ثمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّل، ثُمَّ رفَعَ فَقَامَ قِياما طَوِيلاً وهْوَ دُونَ القِيامِ الأوَّلِ، ثُمَّ ركَعَ ركُوعا طوِيلاً وهْوَ الرُّكُوعِ الأوَّل، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَف وقدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ يَخْسِفانِ لَموتِ أحَدٍ وَلَا لِحَياتِهِ، فإذَا رَأيْتُمْ ذالِكَ فاذْكُرُ الله. قالُوا: يَا رسُولَ الله! رأيناكَ تَناوَلْتَ شَيْئا فِي مَقامِكَ هاذا، ثمَّ رأيْنَاكَ(20/187)
تَكَعْكَعْتَ. فَقَالَ: إنِّي رأيْتُ الجَنَّةَ أوْ أُرِيتُ الجَنَّة، فَتنَاوَلْتُ مِنْها عُنُقُودا، ولَوْ أخَذْتُهُ لأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيا، ورأيْتُ النّارَ فَلَمْ أرَ كالْيَوْمِ مَنْظَرا قَطُّ، ورَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِها النسِّاءَ قالُوا: لِمَ يَا رسُولَ الله؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ. قيلَ: يكْفُرْنَ بِاللَّه؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ لوْ أحْسَنْتَ إِلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رأتْ مِنْكَ شَيْئا قالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْكَ خيْرا قَطُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يكفرن العشير) وَعَطَاء بن يسَار بِفَتْح الْبَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة. والْحَدِيث قد مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب صَلَاة الْكُسُوف جمَاعَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن زيد بن أسلم إِلَى آخِره وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تكعكعت) أَي: تَأَخَّرت.
8916 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ الْهَيْثَمِ حَدثنَا عَوْفٌ عنْ أبي رَجَاء عنْ عمْرَانَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الجَتَّةِ فَرَأَيْتُ أكْثَرَ أهْلِها الفُقَرَاء، واطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِها النَّساء.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إنَّهُنَّ لما كن مصرات على كفر النِّعْمَة وَعدم الشُّكْر فِي حق أَزوَاجهم وَهُوَ مَعْصِيّة، وَالْمَعْصِيَة من أَسبَاب الْعَذَاب استحققن دُخُول النَّار، وَأما كونهن أَكثر أهل النَّار وفبالنظر إِلَى وَقت دخولهن، وَقيل: هَذَا من بَاب التَّغْلِيظ وَفِيه نظر.
وَعُثْمَان بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة الْبَصْرِيّ كَانَ مُؤذنًا بِجَامِع الْبَصْرَة، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وعَوْف هُوَ الْأَعرَابِي وَأَبُو رَجَاء بِالْجِيم عمرَان بن ملْحَان جاهلي أسلم يَوْم الْفَتْح عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة وَتُوفِّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقيل: غير ذَلِك، وَعمْرَان هُوَ ابْن أبي الْحصين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث قد مضى فِي صفة الْجنَّة.
تابَعَهُ أيُّوبُ وسَلْمُ بن زَرِيرٍ
أَي: تَابع عوفا عَن أبي رَجَاء أيوبُ السّخْتِيَانِيّ، وَوصل النَّسَائِيّ مُتَابَعَته من حَدِيث أَيُّوب عَن أبي رَجَاء عَن عمرَان هَكَذَا فِي رِوَايَة عبد الْوَارِث، وَفِي رِوَايَة غَيره: عَن أَيُّوب عَن أبي رَجَاء عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (وَسلم) أَي وتابع عوفا أَيْضا سلم بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام ابْن زرير بِفَتْح الزاء وَكسر الرَّاء الأولى الْبَصْرِيّ، وَوصل مُتَابَعَته البُخَارِيّ فِي صفة الْجنَّة فِي بَدْء الْخلق، وَفِي: بَاب فضل الْفقر من الرقَاق.
98 - (بابٌ لِزوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن لزوجك عَلَيْك حَقًا. وَأَرَادَ بِالزَّوْجِ الزَّوْجَة. قَوْله: (حق) بِالرَّفْع مُبْتَدأ وَقَوله: (لزوجك عَلَيْك) مقدما خَبره وَلكُل وَاحِد من الزَّوْجَيْنِ حق على الآخر، وَمن جملَة حق الْمَرْأَة على زَوجهَا أَن يُجَامِعهَا، وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَاره فَقيل: يجب مرّة، وَقيل فِي كل أَربع لَيَال، وَقيل: فِي كل طهر مرّة. وَقَالَ ابْن حزم: فرض على الرجل أَن يُجَامع امْرَأَته الَّتِي هِيَ زَوجته، وَأدنى ذَلِك مرّة فِي كل طهر إِن قدر على ذَلِك، وَإِلَّا فَهُوَ عَاص لله تَعَالَى، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن مَالك بن مغول عَن الشّعبِيّ، قَالَ: جَاءَت امْرَأَة إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِن زَوجي يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل. فَقَالَ عمر: لقد أَحْسَنت الثَّنَاء على زَوجك فَقَالَ كَعْب بن سوار: لقد اشتكت فَقَالَ عمر: أخرج من مَقَالَتك فَقَالَ: أَتَرَى أَن ينزل منزلَة الرجل لَهُ أَربع نسْوَة فَلهُ ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها وَلها يَوْم وَلَيْلَة. وَقَالَ أَحْمد: وَقَالَ مَالك: إِذا كف رجل عَن جماع أَهله من غير ضَرُورَة لَا يتْرك حَتَّى يُجَامع أَو يُفَارق أحب ذَلِك أَو كرهه، لِأَن مضارّ بهَا. وبنحوه قَالَ أَحْمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يُؤمر أَن يبيت عِنْدهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا يفْرض عَلَيْهِ من الْجِمَاع شَيْء بِعَيْنِه، وَإِنَّمَا يفْرض لَهَا النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَأَن يأوي إِلَيْهَا. وَقَالَ الثَّوْريّ: إِذا اشتكت زَوجهَا جعل لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام وَلها يَوْم وَلَيْلَة، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر.
قالَهُ أبُو جُحَيْفَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ: (لزوجك عَلَيْك حق) أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة: اسْمه وهب بن عبد الله، وَوَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب من أقسم على أَخِيه ليفطر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ مطولا.(20/188)
9915 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أخبَرنا عَبْدُ الله أخبرَنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدثنِي: يحيى بنُ أبي كَثِيرٍ قَالَ: حَدثنِي: أبُو سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمن قَالَ: حَدثنِي: عبْدُ الله بنُ عَمْرُ بنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عَبْدَ الله! ألَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهارَ وتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلى يَا رسولَ الله، قَالَ: فَلاَ تَفْعَلْ، صُمْ وأفْطِرْ وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لَعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِن لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وَقد مضى حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فِي هَذَا الْبَاب فِي كتاب الصَّوْم بِوُجُودِهِ كَثِيرَة وطرق مُخْتَلفَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مشروحا مفصلا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي هَذَا الحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَن وَرَاء الْجَسَد يَعْنِي هَذَا الهيكل المحسوس للْإنْسَان شَيْء آخر يعبر عَنهُ تَارَة بِالروحِ وَأُخْرَى بِالنَّفسِ.
09 - (بابٌ المَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَرْأَة راعية فِي بَيت زَوجهَا.
0025 - حدّثنا عَبْدَانُ أخبرَنا عبدُ الله أخبرنَا مُوسى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عْمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: كُلّكُمْ راعٍ وكُلّكُمْ مَسْؤُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأةُ رَاعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فكلّكُمْ راعٍ وكُلّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالْمَرْأَة راعية على بَيت زَوجهَا) وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، ومُوسَى بن عقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف والْحَدِيث قد مر فِي صَلَاة الْجُمُعَة فِي: بَاب الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
19 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { (4) الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض} إِلَى قَوْله: { (4) إِن الله كَانَ عليا كَبِيرا} (النِّسَاء: 43)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل: {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} إِلَى آخِره وَفِي رِوَايَة أبي ذَر (الرِّجَال قواموان على النِّسَاء) فَحسب، وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى قَوْله: {عليا كَبِيرا} قَوْله: (قوامون) أَي: يقومُونَ عَلَيْهِنَّ آمرين ناهين كَمَا تقوم الْوُلَاة على الرعايا، وَالضَّمِير فِي بَعضهم، يرجع إِلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا، كَذَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ ثمَّ قَالَ: يَعْنِي إِنَّمَا كَانُوا مسيطرين عَلَيْهِنَّ بِسَبَب تَفْضِيل الله بَعضهم وهم الرِّجَال على بعض وهم النِّسَاء. قَوْله: (وَبِمَا أَنْفقُوا) أَي: وبسبب مَا أخرجُوا فِي نِكَاحهنَّ من أَمْوَالهم فِي المهور والنفقات. قَوْله: (فالصالحات) أَي: المحسنات لِأَزْوَاجِهِنَّ، وقرىء: فالصوالح قوانت حوافظ. قَوْله: (والقانتات) أَي: المطيعات والحافظات غيبَة أَزوَاجهنَّ من صِيَانة أَنْفسهنَّ. قَوْله: (فعظوهن) يَعْنِي؛ مروهن بتقوى الله وطاعته. (واللاتي) أَي: النِّسَاء اللَّاتِي تخافون نشوزهن أَي: عصيانهن. قَوْله: (فاهجروهن فِي الْمضَاجِع) أَي فِي المراقد، وَهُوَ كِنَايَة عَن ترك الْجِمَاع، وَقيل ترك الْكَلَام وَأَن يوليها ظَهره، وَقيل: يتْرك فراشها وينام وَحده {واضربوهن} ضربا غير مبرح وَلَا مهلك، وَهُوَ مَا يكون تأديبا تزجز بِهِ عَن النُّشُوز {فَإِن أطعنكم} فِيمَا يلْتَمس مِنْهُنَّ {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} من الِاعْتِرَاض والأذى والتوبيخ {إِن الله كَانَ عليا كَبِيرا} فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَن قدرته أعظم من قدرتكم على من تَحت أَيْدِيكُم من نِسَائِكُم وعبيدكم.
1025 - حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حَدثنَا سُليْمانُ قَالَ: حَدثنِي: حُمَيْدٌ عنْ أنَسٍ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ:(20/189)
آلَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نِسائِهِ شَهْرا وقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقِيلَ: يَا رسولَ الله إنَّكَ آلَيْتَ علَى شَهْرٍ؟ قَالَ: إنَّ الشَّهْرَ تسعٌ وعِشْرُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي الْآيَة: {واهجروهن فِي الْمضَاجِع} (النِّسَاء: 43) وَقد هَجرهنَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا على مَا يذكر الْآن، وَبِهَذَا يرد على الْإِسْمَاعِيلِيّ قَوْله: لم يَتَّضِح لي دُخُول الحَدِيث فِي تَرْجَمَة الْبَاب.
وخَالِد بن مخلد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء وَفتح اللَّام الْقَطوَانِي الْكُوفِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَحميد هُوَ ابْن أبي حميد الطَّوِيل الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّوْم أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله.
قَوْله: (آلى) بِمد الْهمزَة أَي: حلف من الْإِيلَاء، وَلَا يُرَاد بِهِ الْمَعْنى الفقهي بل الْمَعْنى اللّغَوِيّ، وَإِنَّمَا قدم الْمَعْنى اللّغَوِيّ هُنَا على الْمَعْنى الشَّرْعِيّ للقرينة الدَّالَّة على ذَلِك وَهِي كَونهَا شهرا وَاحِدًا، وَكَانَ سَبَب إيلائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا إفشاء حَفْصَة سره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنه أصَاب مَارِيَة فِي بَيت حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وهجرهن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا وَقعد فِي مشربَة لَهُ وَهِي الغرفة وَقد مر تَفْسِيرهَا عَن قريب. قَوْله: (فَنزل) أَي من الغرفة قَوْله: (لتسْع) أَي عِنْد تسع وَعشْرين لَيْلَة قَوْله: (فَقيل) الْقَائِل هُوَ عَائِشَة، وَقيل: سألة عمر وَغَيره عَن ذَلِك قَوْله: (على شهر) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: إِنَّك آلَيْت شهرا.
29 - (بابُ هَجْرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان هجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: إعراضه عَنْهُن وتركهن شهرا، وسكناه فِي غير بُيُوتهنَّ.
ويُذكَرُ عَن مُعاوِيَةَ بنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ غَيْرَ أنْ لَا تهْجَرَ إلاَّ ي البَيْتِ، والأوَّلُ أصَحُّ
مُعَاوِيَة بن حيدة صَحَابِيّ مَشْهُور، وحيدة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالدَّال الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة ابْن مُعَاوِيَة بن حيدة الْقشيرِي، مَعْدُود فِي أهل الْبَصْرَة غزا خُرَاسَان وَمَات بهَا وَهُوَ جد بهز بن حَكِيم بن مُعَاوِيَة. قَوْله: (وَيذكر) بِصِيغَة التمريض. قَالَ الْكرْمَانِي: الْمَذْكُور وَلَا يهجر إلاَّ فِي الْبَيْت. (وَرَفعه) جملَة حَالية أَي: وَيذكر عَنهُ: وَلَا يهجر إلاَّ فِي الْبَيْت مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَالْأول) أَي: الهجر فِي غير الْبيُوت أصح إِسْنَادًا من الهجر فِيهَا، وَفِي بَعْضهَا غير أَن لَا يهجر إلاَّ فِي الْبَيْت وَحِينَئِذٍ فَاعل: يذكر هجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ فِي غير بُيُوتهنَّ أَي: وَيذكر عَن مُعَاوِيَة رَفعه، غير أَن لَا يهجر أَي رويت عَنهُ قصَّة الهجر مَرْفُوعَة إلاَّ أَنه قَالَ: أَن لَا يهجر إلاَّ فِي الْبَيْت، وَهَذَا الَّذِي لمحه غلط مَحْض، فَإِن مُعَاوِيَة بن حيدة مَا روى قصَّة هجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَزوَاجه وَلَا يُوجد هَذَا فِي شَيْء من المسانيد وَلَا فِي الْأَجْزَاء، وَلَيْسَ مُرَاد البُخَارِيّ مَا ذكره، وَإِنَّمَا مُرَاده حِكَايَة مَا ورد فِي سِيَاق حَدِيث مُعَاوِيَة بن حيدة، فَإِن فِي بعض طرقه وَلَا يقبح وَلَا يضْرب الْوَجْه غير أَن لَا تهجر إلاَّ فِي الْبَيْت، فَظن الْكرْمَانِي أَن الِاسْتِثْنَاء من تصرف البُخَارِيّ وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ حِكَايَة مِنْهُ عَمَّا ورد من لفظ الحَدِيث. انْتهى.
قلت: نِسْبَة الْكرْمَانِي إِلَى غلط مَحْض غلط مَحْض مِنْهُ، وَفِيه ترك الْأَدَب وَذَلِكَ أَن الْكرْمَانِي مَا تصرف فِي هَذَا الحَدِيث إِلَّا على حسب مَا يَقْتَضِيهِ اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ المذكورتين اللَّتَيْنِ ذكرهمَا، وَمَعَ هَذَا يحْتَمل أَن يكون مُعَاوِيَة قد روى قصَّة هجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ، فَإِن بَاب الرِّوَايَة وَاسع جدا. وَقَوله: فَإِن مُعَاوِيَة بن حيدة مَا روى قصَّة هجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَزوَاجه وَلَا يُوجد هَذَا فِي شَيْء من المسانيد وَلَا فِي الْأَجْزَاء دَعْوَى بِلَا برهَان، وليت شعري كَيفَ يَدعِي هَذِه الدَّعْوَى وَهُوَ لم يحط بِمَا جَاءَ من المسانيد وَمن الْأَجْزَاء، وَلَا وقف هُوَ على قدر عشر معشار مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَن كَلَام الْكرْمَانِي إِثْبَات وَكَلَامه نفي، وَالْإِثْبَات مقدم لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن مَوْجُود، وَالنَّفْي إِخْبَار عَن مَعْدُوم.
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قَول البُخَارِيّ: وَيذكر عَن مُعَاوِيَة إِلَى آخِره، يُرِيد بذلك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قلت: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب حق الْمَرْأَة على الزَّوْج: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد قَالَ: أخبرنَا أَبُو قزعة سُوَيْد بن حُجَيْر الْبَاهِلِيّ عَن حَكِيم بن مُعَاوِيَة الْقشيرِي عَن أَبِيه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! مَا حق زَوْجَة أَحَدنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: (أَن تطعمها إِذا طعمت، وتكسوها إِذا اكتسيت، وَلَا تضرب الْوَجْه وَلَا تقبح وَلَا تهجر إلاَّ فِي الْبَيْت) . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَلَا تقبح، أَي: لَا تَقول: قبحك الله. وَقَالَ الْمُهلب: وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ لَا يكون إلاَّ فِي غير بيُوت الزَّوْجَات من(20/190)
أجل مَا فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يستن النَّاس بذلك فِي هجر نِسَائِهِم لما فِيهِ من الرِّفْق، لِأَن هجرانهن فِي بُيُوتهنَّ آلم لقلوبهن وأوجع لما ينظرن من الْغَضَب والإعراض، وَلما فِي غيبَة الرجل عَن أعينهن من تسليتهن عَن الرِّجَال قَالَ: وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِب، لِأَن الله تَعَالَى أَمر بهجرانهن فِي الْمضَاجِع فضلا عَن الْبيُوت، ورد عَلَيْهِ بِأَن الهجران فِي غير الْبيُوت أنكى لَهُنَّ وأبلغ فِي عقوبتهن، روى ابْن وهب عَن مَالك بَلغنِي أَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يغاضب بعض نِسَائِهِ، فَإِذا كَانَت لَيْلَتهَا بَات عِنْدهَا وَلم يبت عِنْد غَيرهَا من غير أَن يكلمها وَلَا ينظر إِلَيْهَا. قلت: لمَالِك: وَذَلِكَ لَهُ وَاسع؟ فَقَالَ: نعم، وَذَلِكَ فِي كتاب الله تَعَالَى: {واهجروهن فِي الْمضَاجِع} (النِّسَاء: 43) وَقيل: الْحق فِي هَذَا أَنه يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال، فَرُبمَا يكون الهجران فِي الْبيُوت أَشد من الهجران فِي غَيرهَا، وَبِالْعَكْسِ، بل الْغَالِب أَن الهجران فِي غير الْبيُوت أَشد ألما للنفوس، وَرب نسْوَة تتألم بِمُجَرَّد بيتوتة الرجل فِي غير بيوتها من غير هجران وَلَا سِيمَا مَعَ الهجران، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى.
2025 - حدّثنا أبُو عاصِمٍ عَن ابنِ جُرَيْجٍ وحدّثني مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلِ أخبرنَا عبدُ الله أخبرنَا بنُ جُرَيْج قَالَ: أخبَرَني يَحْيَى بنُ عبْدِ الله بن صَيفِيٍّ أنَّ عِكْرِمَةَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ الحارثِ أخْبَرَهُ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلى بعْضِ أهْلِهِ شَهْرا فَلما مَضَى تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ يَوْما غَدَا علَيْهِنَّ أوْ رَاحَ. فَقِيل لَهُ: يَا نَبيَّ الله! حَلِفْتَ أَن لَا تَدْخلَ علَيْهِنَّ شَهْرا. قَالَ: إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْما.
(انْظُر الحَدِيث 0191)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِي طَرِيق من طرق هَذَا الحَدِيث غير أم سَلمَة أَنه قعد فِي مشربَة لَهُ، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما هجر بعض نِسَائِهِ طلع إِلَى مشربَة لَهُ وَقعد فِيهَا، وَمِنْه تُؤْخَذ الْمُطَابقَة وَرُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين. أَحدهمَا: عَن أبي عَاصِم النَّبِيل، واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد، يروي عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَالْأُخْرَى: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن ابْن جريج عَن يحيى بن عبد الله بن صَيْفِي بتَشْديد الْيَاء للنسبة عَن عِكْرِمَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة، وَهُوَ أَخُو أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَمضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال فصوموا، وَأَنه أخرجه هُنَاكَ من طَرِيق أبي عَاصِم وَحده.
قَوْله: (حلف) فِي كتاب الصَّوْم إِلَى قَوْله: (على بعض أَهله) ويروى: على بعض نِسَائِهِ. قَوْله: (أَو رَاح) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْقَائِل لَهُ هِيَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (أَن لَا تدخل شهرا) ويروى: أَن لَا يدْخل عَلَيْهِنَّ شهرا. قَوْله: (قَالَ أَن الشَّهْر) ، ويروى فَقَالَ.
3025 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حدَّثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ حدَّثنا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ تَذَاكَرْنا عِنْدَ أبِي الضُّحَى، فَقَالَ: حَدثنَا ابنُ عَبَّاس، قَالَ: أصْبَحْنا يَوْما ونِساءُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَبْكين عِنْدَ كُلِّ امْرأةٍ مِنْهُنَّ، فَخَرَجْتُ إِلَى المَسْجِدِ، فإذَا هُوَ مَلْآنٌ مِنَ النَّاس، فَجاءَ عُمَرَ بنُ الخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهْوَ فِي غُرْفَةٍ لهُ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ ثُمَّ سَلّمَ فلمْ يُجِبْهُ أحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ فلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ، فناداهُ فَدخَلَ عَلى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أطَلَّقْتَ نِساءَكَ؟ فَقَالَ: لَا ولَكنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرا، فَمَكَثَ تِسْعا وعِشْرِينَ ثُمَّ دَخَلَ عَلى نِسائِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، ومروان بن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ، بِالْفَاءِ وَالزَّاي، وَأَبُو يَعْفُور هُوَ الْمَشْهُور بِالْأَصْغَرِ، وَهُوَ بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الْفَاء وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره رَاء: واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عبيد، كُوفِي ثِقَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هذاالحديث، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق(20/191)
عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة.
قَوْله: (تَذَاكرنَا) لم يذكر مَا تَذَاكَرُوا بِهِ، وَبَينه فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَلَفظه: تَذَاكرنَا الشَّهْر، فَقَالَ بَعْضنَا: ثَلَاثِينَ، وَقَالَ بَعْضنَا: تسعا وَعشْرين. قَوْله: (وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فَإِذا هُوَ ملآن) كلمة إِذا، للمفاجأة وملآن، على وزن فعلان كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول بالنُّون، وَقَالَ ابْن التِّين عِنْد أبي الْحسن ملأى، وَعند غَيره ملآن وَهُوَ الصَّحِيح، وَإِنَّمَا ملآى نعت للمؤنث. فَإِن أُرِيد الْبقْعَة فَيصح ذَلِك قَوْله: (وَهُوَ فِي غرفَة) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فِي علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَقد تكسر وَتَشْديد اللَّام الْمَكْسُورَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الْمَكَان العالي، وَهِي الغرفة، وَقد تقدم فِيمَا مضى أَنَّهَا مشربَة. قَوْله: (فناداه) فعل ومفعول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي يرجع إِلَى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَلم يذكر الْفَاعِل فِي النّسخ الْمَوْجُودَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي نعيم مُصَرحًا. بِأَن الَّذِي ناداه بِلَال رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: فَلم يجبهُ أحد فَانْصَرف فناداه بِلَال فَسلم ثمَّ دخل، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ هَكَذَا، وَلَكِن فَنَادَى بِلَال، بِحَذْف الْمَفْعُول. قلت: لَا خلاف فِي جَوَاز حذف الْمَفْعُول وَلَكِن لَا يجوز حذف الْفَاعِل لِأَنَّهُ ركن فِي الْكَلَام. قيل: وَالظَّاهِر أَن ذكر الْفَاعِل هُنَا سقط من النَّاسِخ. قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الْفَاعِل هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صعد إِلَى الغرفة الَّتِي فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ووقف على الْبَاب فَسلم وَلم يسمع شَيْئا، هَكَذَا ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ لما أَرَادَ الِانْصِرَاف ناداه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل. فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يَعْفُور: فِي غرفَة لَهُ لَيْسَ عِنْده فِيهِ إلاَّ بِلَال، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر أَن اسْم الْغُلَام الَّذِي أذن لَهُ رَبَاح. قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا أَن يُقَال: إِن بِلَالًا كَانَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الغرفة، وَإِن رباحا كَانَ خَارج الغرفة على الْبَاب، فَلَمَّا أذن لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغه بِلَال لرباح ورباح ونادى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (أطلقت نِسَاءَك؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (وَلَكِن آلَيْت) أَي: حَلَفت، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَنه لَيْسَ المُرَاد الْإِيلَاء الشَّرْعِيّ، فَافْهَم.
39 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّساءِ وقَوْلهِ: {واضربوهن ضَرْبا غَيْرَ مُبَرِّح)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من ضرب النِّسَاء، وَأَرَادَ بِهِ الضَّرْب المبرح فَإِنَّهُ يكره كَرَاهَة تَحْرِيم، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله تَعَالَى: {واضربوهن} تَوْفِيقًا بَين الْكتاب وَالسّنة، وَلِهَذَا قَالَ: {غير مبرح} بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَمَعْنَاهُ غير شَدِيد الْأَذَى، وَعَن قَتَادَة: غير شائن، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: غير مُؤثر، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ بَعضهم: أَمر الله، عز وَجل، بهجر النِّسَاء فِي الْمضَاجِع وضربهن تذليلاً مِنْهُ لَهُنَّ وتصغيرا على إِيذَاء بعولتهن، وَلم يَأْمر بِشَيْء فِي كِتَابه بِالضَّرْبِ صَرِيحًا إلاَّ فِي ذَلِك وَفِي الْحُدُود الْعِظَام، فتساوى معصيتهن لِأَزْوَاجِهِنَّ بِمَعْصِيَة أهل الْكَبَائِر، وَولى الْأزْوَاج ذَلِك دون الْأَئِمَّة وَجعله لَهُم دون الْقُضَاة بِغَيْر شُهُود وَلَا بَيِّنَة ائتماناا من الله عز وَجل للأزواج على النِّسَاء. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا يكره من ضرب النِّسَاء التَّعَدِّي فِيهِ والإسراف، وَقد بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك، فَقَالَ: ضرب العَبْد من أجل الرّقّ يزِيد فَوق ضرب الْحر لتباين حاليهما، وَلِأَن ضرب النِّسَاء إِنَّمَا جَازَ من أجل امتناعها على زَوجهَا من أجل المباضعة، وَقَالَ ابْن التِّين: وَاخْتلف فِي وجوب ضربهَا فِي الْخدمَة وَالْقِيَاس يُوجب أَنه إِذا جَازَ ضربهَا فِي المباضعة جَازَ فِي الْخدمَة الْوَاجِبَة للزَّوْج عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يلْزمهَا أَن تخْدم زَوجهَا فِي شَيْء أصلا، لَا فِي عجين وَلَا فِي طبخ وَلَا كنس وَلَا غزل وَلَا غير ذَلِك، ثمَّ نقل عَن أبي ثَوْر أَنه قَالَ: عَلَيْهَا أَن تخدمه فِي كل شَيْء، وَيُمكن أَن يحْتَج لَهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح: أَن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، شكت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تَجِد من الرَّحَى، وَبقول أَسمَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كنت أخدم الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا حجَّة فيهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهمَا، وَإِنَّمَا كَانَتَا متبرعتين.
4025 - حدّثنا محَمَّد بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ هِشامٍ عَن أبيهِ عنْ عبْدِ الله بنِ زَمْعَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لاَ يَجْلِدْ أحَدُكُمُ امْرَأتَهُ جَلْدَ العَبْدِ ثُمَّ يُجامِعُها فِي آخر الْيَوْم.
)(20/192)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَعبد الله بن زَمعَة بالزاي وَالْمِيم وَالْعين بِالْمُهْمَلَةِ المفتوحات وَجَاء بِسُكُون الْمِيم أَيْضا ابْن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد الْأَسدي.
والْحَدِيث قد مر بأتم مِنْهُ فِي تَفْسِير سُورَة: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} (الشَّمْس: 1) [/ ح.
قَوْله: (لَا يجلد) بِصِيغَة النَّهْي فِي نسخ البُخَارِيّ، وَرِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أَحْمد بن سُفْيَان النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ الْمَذْكُور بِصِيغَة الْخَبَر. قَوْله: (جلد العَبْد) بِالنّصب أَي: مثل جلد العَبْد، وَعِنْده مُسلم فِي رِوَايَة: ضرب الْأمة، وَعند النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة ضرب العَبْد أَو الْأمة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن سُفْيَان جلد الْبَعِير أَو العَبْد وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَب إِن شَاءَ الله تَعَالَى من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: ضرب الْفَحْل أَو العَبْد، وَالْمرَاد بالفحل الْبَعِير، وَوَقع لِابْنِ حبَان كضربك إبلك. قيل: لَعَلَّه تَصْحِيف، وَفِي حَدِيث لَقِيط بن صبرَة عِنْد أبي دَاوُد: وَلَا تضرب ظغينتك ضربك أمتك. قَوْله: (ثمَّ يُجَامِعهَا) جَاءَ فِي لفظ آخر: ثمَّ لَعَلَّه يعانقها، وَفِي التِّرْمِذِيّ مصححا. ثمَّ لَعَلَّه أَن يضاجعها من آخر يَوْمه. قَوْله: (فِي آخر الْيَوْم) ويروى من آخر الْيَوْم أَي: يَوْم جلدهَا، وَعند أَحْمد: من آخر اللَّيْل. وَعند النَّسَائِيّ: آخر النَّهَار.
وَفِي الحَدِيث: جَوَاز ضرب العَبْد بِالضَّرْبِ الشَّديد للتأديب. وَفِيه: أَن ضرب النِّسَاء دون ضرب العبيد. وَفِيه: استبعاد وُقُوع الْأَمريْنِ من الْعَاقِل أَن يُبَالغ فِي ضرب امْرَأَته ثمَّ يُجَامِعهَا فِي بَقِيَّة يَوْمه أَو ليلته، وَذَلِكَ أَن المضاجعة إِنَّمَا تستحسن مَعَ ميل النَّفس وَالرَّغْبَة، والمضروب غَالِبا ينفر من ضاربه، وَلَكِن يجوز الضَّرْب الْيَسِير بِحَيْثُ لَا يحصل مِنْهُ النفور التَّام فَلَا يفرط فِي الضَّرْب وَلَا يفرط فِي التَّأْدِيب.
49 - (بابٌ لَا تُطِيعُ المَرْأةُ زَوْجَها فِي مَعْصِيَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فَفِيهِ بعض من حَدِيث لَا تطيع الْمَرْأَة فِي مَعْصِيّة لِأَنَّهُ لَا طَاعَة للمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق.
5025 - حدّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيى حَدثنَا إبْرَاهِيمُ بنُ نافِعٍ عَن الحَسَنِ هُوَ ابنُ مُسْلِمٍ عنْ صَفِيَّةَ عنْ عائِشَة: أنَّ امْرَألاً من الأنْصارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَها فَتَمَعَّطَ شَعرُ رأسِهَا، فَجاءَتْ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَتْ ذلِكَ لهُ، فقالتْ: إنَّ زَوْجَها أمَرَنِي أنْ أصِلَ فِي شَعَرِها، فَقَالَ: لَا، إنّهُ قَدْ لُعِنَ المُوصِلاَتُ.
(انْظُر الحَدِيث 5025 طرفه فِي: 4395)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث وخلاد بتَشْديد اللَّام ابْن يحيى السّلمِيّ بِضَم السِّين الْمُهْملَة الْكُوفِي، سكن مَكَّة وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِبْرَاهِيم بن نَافِع المَخْزُومِي الْمَكِّيّ، وَالْحسن بن مُسلم بن يناق الْمَكِّيّ، وَصفِيَّة هِيَ بنت شيبَة المكية.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن آدم. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن ابْن الْمثنى وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن وهب.
قَوْله: (فتمعط) بتَشْديد الْعين الْمُهْملَة أَي: تساقط وتمزق، وَيُقَال: معط الشّعْر وأمعط معطا إِذا تناثر، ومعطته أَنا إِذا نتفته، والأمعط من الرِّجَال السنوط بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم النُّون وَهُوَ الَّذِي لَا لحية لَهُ، يُقَال: رجل سنوط وسناط، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: وَالذِّئْب يكنى أَبَا معيط. قَوْله: (الموصلات) بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وبالصاد الْمُهْملَة بِالْفَتْح وَالْكَسْر وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الموصولات. ثمَّ الْعلَّة فِي تَحْرِيمه أما لكَونه شعار الفاجرات أَو تدليسا وتغيير خلق الله عز وَجل، وَلَا يمْنَع من الْأَدْوِيَة الَّتِي تزيل الكلف وتحسن الْوَجْه للزَّوْج، وَكَذَا أَخذ الشّعْر مِنْهُ، وسئلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن قشر الْوَجْه فَقَالَت: إِن كَانَ شَيْء ولدت وَهُوَ بهَا فَلَا يحل لَهَا إِخْرَاجه، وَإِن كَانَ شَيْء حدث فَلَا بَأْس بقشره، وَفِي لفظا إِن كَانَ للزَّوْج فافعلي، وَنقل أَبُو عبيد عَن الْفُقَهَاء الرُّخْصَة فِي كل شَيْء وصل بِهِ الشّعْر مَا لم يكن الْوَصْل شعرًا. وَفِي (مُسْند أَحْمد) من حَدِيث ابْن مَسْعُود: نهى مِنْهُ إلاَّ من دَاء.
وَفِي الحَدِيث: حجَّة على من جوزه من الشَّافِعِيَّة بِإِذن الزَّوْج.
59 - (بابٌ {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا} (النِّسَاء: 821)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن امْرَأَة} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر: (أَو إعْرَاضًا) قَوْله: (وَإِن امْرَأَة) أَي: وَإِن خَافت امْرَأَة كَمَا فِي قَوْله: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا ذكره الْمُفَسِّرُونَ بِأَن سَوْدَة خشيت أَن يطلقهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! لَا تُطَلِّقنِي وَاجعَل يومي لعَائِشَة، فَفعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت: (من بَعْلهَا) أَي: من(20/193)
زَوجهَا. قَوْله: (بنشوزا) وَهُوَ الترفع عَنْهَا وَمنع النَّفَقَة. قَوْله: (أَو إعْرَاضًا) وَهُوَ الِانْصِرَاف عَن مسله إِلَى غَيرهَا، وَجَوَاب: إِن هُوَ قَوْله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} .
6025 - حدّثنا ابنُ سَلاَمٍ أخبرنَا أبُو مُعاوِيَةَ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا} (النِّسَاء: 821) قَالَت: هيَ المَرْأةُ تَكُون عِنْدَ الرَّجُلِ لاَ يَسْتَكْثِرُ مِنْها فَيُريدُ طَلاَقَها وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَها، تَقُولُ لهُ: أمْسِكْنِي وَلَا تُطَلِّقْنِي ثُمَّ تَزَوَّجْ غيْرِي، فأنْت فِي حلٍّ مِنَ النفَقَةِ علَيَّ والقِسْمَةِ لِي فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلاَ جُناح عَلَيْهِما أنْ يصالحا بَيْنَهُما صُلْحا والصُّلْحُ خَيْرٌ.
)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن سَلام هُوَ مُحَمَّد بن سَلام بتَشْديد اللَّام وتخفيفها، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير، يروي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَلَا يستكثر) أَي: لَا يستكثر من مضاجعتها ومحادثتها والاختلاط بهَا وَلَا تعجبه. قَوْله: (فَأَنت فِي حل) أَي: أحللت عَلَيْك النَّفَقَة وَالْقِسْمَة فَلَا تنْفق عَليّ وَلَا تقسم لي قَوْله: (أَن يصالحا) أَي: أَن يصطلحا، وقرىء أَن يصلحا بِمَعْنى يصطلحا أَيْضا قَوْله: (وَالصُّلْح خير) لِأَن فِيهِ قطع النزاع، وَقَامَ الْإِجْمَاع على جَوَاز هَذَا الصُّلْح.
وَاخْتلفُوا: هَل ينْتَقض هَذَا الصُّلْح؟ فَقَالَ عُبَيْدَة: هما على مَا اصطلحا عَلَيْهِ، وَإِن انْتقض فَعَلَيهِ أَن يعدل أَو يُفَارق، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم وَمُجاهد وَعَطَاء، قَالَ ابْن الْمُنْذر: هُوَ قَول الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الصُّلْح فِي ذَلِك جَائِز. قَالَ أَبُو بكر: لَا أحفظ فِي الرُّجُوع شَيْئا، وَقَالَ الْحسن: لَيْسَ لَهَا أَن تنقض، وهما على مَا اصطلحا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول قَتَادَة، وَقَول الْحسن هُوَ قِيَاس قَول مَالك فِيمَن اُنْظُرْهُ بِالدّينِ أَو أَعَارَهُ عَارِية إِلَى مُدَّة أَن لَا يرجع فِي ذَلِك. وَقَول عُبَيْدَة هُوَ قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لِأَنَّهَا مَنَافِع طارئة لم تقبض، فَجَاز فِيهَا الرُّجُوع.
69 - (بابُ العَزْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم عزل الرجل ذَكَرَهُ من الْفرج لينزل منيه خَارج الْفرج فِرَارًا من الإحبار.
7025 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يحْيى بن سَعِيدٍ عَن ابنِ جُريْجٍ عنْ عَطاءٍ عنْ جابِرِ قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(ي: 8025، 9025)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه فسر الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقطَّان يروي عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن جَابر بن عبد الله.
والْحَدِيث من أَفْرَاده بِهَذَا الْوَجْه، وروى هَذَا عَن جَابر بِوُجُوه أُخْرَى، فروى البُخَارِيّ أَيْضا من طَرِيق عَمْرو عَن عَطاء عَن جَابر قَالَ: كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل. وَأخرجه مُسلم أَيْضا نَحوه، وروى النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث معمر: عَن يحيى بن أبي كثر عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَن جَابر، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُول الله! إِنَّا كُنَّا نعزل، فَزَعَمت الْيَهُود أَنَّهَا الموؤودة الصُّغْرَى، فَقَالَ: كذبت الْيَهُود، إِن الله إِذا أرد أَن يخلقه لم يمنعهُ. وروى مُسلم من رِوَايَة معقل وَهُوَ ابْن عبيد الله الْجَزرِي عَن عَطاء، قَالَ: سَمِعت جَابِرا يَقُول: لقد كُنَّا نعزل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: كُنَّا نعزل على عهد نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبلغ ذَلِك نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم ينهنا. وروى أَيْضا النَّسَائِيّ من رِوَايَة عُرْوَة بن عِيَاض عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِن عِنْدِي جَارِيَة لي وَأَنا أعزل عَنْهَا؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن ذَلِك لم يمْنَع شَيْئا أَرَادَ الله الحَدِيث، وروى أَيْضا أَبُو دَاوُد من رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: جَاءَ رجل من الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن لي جَارِيَة أَطُوف عَلَيْهَا وَأَنا أكره أَن تحمل فَقَالَ: اعزل عَنْهَا إِن شِئْت فَإِنَّهُ سيأتيها مَا قدر لَهَا الحَدِيث. وَلَفظ أبي دَاوُد أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة سَالم بن أبي الْجَعْد عَن جَابر نَحوه.
قَوْله: (كُنَّا نعزل على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَول الصَّحَابِيّ: كُنَّا نَفْعل كَذَا إِن أَضَافَهُ إِلَى زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَحكمه حكم الْمَرْفُوع على الصَّحِيح عِنْد أهل الحَدِيث من الْأُصُولِيِّينَ، وَذهب أَبُو بكر(20/194)
الاسماعيلي إِلَى أَنه مَوْقُوف لاحْتِمَال أَن يكون، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، اطلع على ذَلِك، وَهَذَا الْخلاف لَا يَجِيء هُنَا لوُجُود النَّقْل باطلاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) من رِوَايَة أبي الزبير عَن جَابر من قَوْله: (فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم ينهنا) ، ثمَّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على جَوَاز الْعَزْل.
فَمن قَالَ بِهِ من الصَّحَابَة: سعد بن أبي وَقاص وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عَبَّاس، ذكره عَنْهُم مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن أبي بن كَعْب وَرَافِع بن خديج وَأنس بن مَالك، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة، لَكِن فِي الْعَزْل عَن الْأمة وهم: عمر بن الْخطاب وخباب بن الْأَرَت. وروى كَرَاهَته عَن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن عمر وَأبي أُمَامَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَكَذَا روى عَن سَالم وَالْأسود من التَّابِعين، وَرُوِيَ عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة التَّفْرِقَة بَين الْحرَّة وَالْأمة، فتستأمر الْحرَّة وَلَا تستأمر الْأمة وهم: عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر، وَمن التَّابِعين سعيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وَعَمْرو بن مرّة وَجَابِر بن زيد وَالْحسن وَعَطَاء وطاووس، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد بن حَنْبَل، وَحَكَاهُ صَاحب (التَّقْرِيب) عَن الشَّافِعِي، وَكَذَا غزاه إِلَيْهِ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم.
وتفصيل القَوْل فِيهِ: أَن الْمَرْأَة إِن كَانَت حرَّة فقد ادّعى فِيهِ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) أَنه لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي أَنه لَا يعْزل عَنْهَا إلاَّ بِإِذْنِهَا وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله دَعْوَى الْإِجْمَاع لَا تصح، فقد اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي على طَرِيقين: أظهرها كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ رَحمَه الله: إِنَّهَا إِن رضيت جَازَ لَا محَالة، وإلاَّ فَوَجْهَانِ أصَحهمَا عِنْد الْغَزالِيّ الْجَوَاز، وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ فِي (الشَّرْح الصَّغِير) وَالنَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) إِنَّه الْأَصَح وَقَالَ فِي (الرَّوْضَة) إِنَّه الْمَذْهَب وَالطَّرِيق الثَّانِي: أَنَّهَا إِن لم تَأذن لم يجز، وَإِن أَذِنت فَوَجْهَانِ؟ وَإِن كَانَت الْمَرْأَة الْمُزَوجَة أمة فَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب اسْتِئْذَان سَيِّدهَا فَحكى ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) : عَن مَالك وَأبي حنيفَة وأصحابهما أَنهم قَالُوا: الْإِذْن فِي الْعَزْل عَنْهَا إِلَى مَوْلَاهَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهُ أَن يعْزل عَنْهَا بِدُونِ إِذْنهَا وَإِذن مَوْلَاهَا، وَإِن كَانَت الْمَرْأَة أمة لَهُ، فَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار أَنه يجوز الْعَزْل عَنْهَا بِغَيْر إِذْنهَا وَإنَّهُ لَا حق لَهَا فِي ذَلِك، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله هَكَذَا أطلق نفي الْخلاف وَلَيْسَ بجيد، وَقد فرق أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْأمة بَين الْمُسْتَوْلدَة وَغَيرهَا، فَإِن لم يكن قد اسْتَوْلدهَا فَقَالَ الْغَزالِيّ وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ: لَا خلاف فِي جَوَازه، قَالَ الرَّافِعِيّ: صِيَانة للْملك، وَاعْترض صَاحب (الْمُهِمَّات) بِأَن فِيهِ وَجها حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر أَنه لَا يجوز لحق الْوَلَد، وَإِن كَانَت مُسْتَوْلدَة لَهُ فَقَالَ الرَّافِعِيّ: رتبها مرتبون على الْمَنْكُوحَة الرقيقة، وَأولى بِالْمَنْعِ لِأَن الْوَلَد حر، وَآخَرُونَ على الْحرَّة والمستولدة أولى بِالْجَوَازِ لِأَنَّهَا لَيست راسخة فِي الْفراش، وَلِهَذَا لَا تسْتَحقّ الْقسم. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهَذَا أظهر.
8025 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌ و: أَخْبرنِي عَطاءٌ سَمِعَ جابِرا رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ والقُرْآنُ يَنْزِلُ وعنْ عَمْرٍ وعنْ عَطاءٍ عنْ جابرٍ قَالَ: كُنّا نَعْزِلُ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والقُرْآنُ يَنْزِلُ.
(انْظُر الحَدِيث 7025 وطرفه)
هَذَانِ وَجْهَان فِي حَدِيث جَابر: أَحدهمَا: عَن عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَذكر فِيهِ الْإِخْبَار وَالسَّمَاع، وَلم يذكر على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْآخر: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور عَن عَمْرو، وَذكره بالعنعنة وَذكر فِيهِ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني كَانَ يعْزل بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الزَّاي على صِيغَة الْمَجْهُول. (فَإِن قلت) روى مُسلم من حَدِيث أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن جد أمة بنت وهب أُخْت عكاشة: حضرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أنَاس الحَدِيث. وَفِيه: ثمَّ سَأَلُوهُ عَن الْعَزْل؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ذَاك الوأد الْخَفي، وَبِه اسْتدلَّ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد الله وَالْأسود بن يزِيد. وطاووس وَقَالُوا: الْعَزْل مَكْرُوه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْعَزْل بِمَنْزِلَة الوأد إِلَّا أَنه خَفِي، لِأَن من يعْزل عَن امْرَأَته إِنَّمَا يعْزل هربا من الْوَلَد، فَلذَلِك سمي: الموؤدة الصُّغْرَى، والموؤدة الْكُبْرَى هِيَ الَّتِي تدفن وَهِي حَيَّة، كَانَ إِذا ولد لأَحَدهم بنت فِي الْجَاهِلِيَّة دفنوها فِي التُّرَاب وَهِي حَيَّة فَكيف التَّوْفِيق بَين هَذَا وَبَين حَدِيث جَابر وَأبي سعيد وَغَيرهمَا وَفِي حَدِيث جَابر: قُلْنَا يَا رَسُول الله إِنَّا كُنَّا نعزل، فَزَعَمت الْيَهُود أَنَّهَا الموؤدة الصُّغْرَى، فَقَالَ: كذبت الْيَهُود، إِن الله إِذا أَرَادَ أَن يخلقه لم يمنعهُ(20/195)
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قلت: أُجِيب عَن هَذَا بِوُجُوه: الأول: أَنه يحْتَمل أَن يكون الْأَمر فِي ذَلِك كَمَا وَقع فِي عَذَاب الْقَبْر لما قَالَت الْيَهُود إِن الْمَيِّت يعذب فِي قَبره، فكذبهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يطلعه الله على ذَلِك، فَلَمَّا أطلعه الله على عَذَاب الْقَبْر أثبت ذَلِك واستعاذ بِاللَّه مِنْهُ، وَهَهُنَا كَذَلِك. الثَّانِي: مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِنَّه مَنْسُوخ بِحَدِيث جَابر وَغَيره فَإِن قلت: ذكرُوا أَن جذامة أسلمت عَام الْفَتْح فَيكون حَدِيثهَا مُتَأَخِّرًا فَيكون نَاسِخا لغير قلت: ذكرُوا أَيْضا أَنَّهَا أسلمت قبل الْفَتْح، وَقَالَ عبد الْحق: هُوَ الصَّحِيح. الثَّالِث: قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: حَدِيث جذامة مُضْطَرب الرَّابِع: يرجع إِلَى التَّرْجِيح، فَحَدِيث جذامة يرد من حَدِيثهَا، وَحَدِيث جَابر بِرِجَال الصَّحِيح وَله شَاهد من حَدِيث أبي سعيد على مَا سَيَأْتِي، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَنهُ قَالَ: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعَزْل؟ فَقيل: إِن الْيَهُود تزْعم أَنَّهَا الموؤدة الصُّغْرَى، فَقَالَ: كذبت يهود.
0125 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْماء حَدثنَا جُوَيْرِيَةُ عَن مالِكِ بنِ أنسِ عَن الزُّهْرِيِّ عنِ ابنِ مُحَيْرِيزِ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: أصَبْنا سَبْيا فَكُنَّا نَعْزِلُ فَسألْنا رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أوَ إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ؟ قالَها ثَلاَثا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إِلَّا هِيَ كائنةَ.
(انْظُر الحَدِيث 9222)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله شيخ البُخَارِيّ ابْن أخي جوَيْرِية، وَأَسْمَاء وَجُوَيْرِية من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَابْن محيريز مصغر محراز بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي واسْمه عبد الله، وَكَذَلِكَ وَقع فِي رِوَايَة يُونُس كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقدر عَن الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي عبد الله بن محيريز الجُمَحِي. وَهُوَ مدنِي سكن الشَّام، وَأَبُو محيريز جُنَادَة كَانَ من رَهْط أبي محدورة الْمُؤَذّن، وَكَانَ يَتِيما فِي حجره.
والْحَدِيث قد مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب بيع الرَّقِيق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي ابْن محيريز الحَدِيث.
قَوْله: (سبيا) أَي: جواري أخذناها من الْكفَّار أسرا وَذَلِكَ فِي غَزْوَة بني المصطلق، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مصفنه) من رِوَايَة أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأبي أُمَامَة بن سهل جَمِيعًا عَن أبي سعيد، قَالَ: لما أصبْنَا سبي بني المصطلق استمتعنا من النِّسَاء وعزلنا عَنْهُن قَالَ: ثمَّ إِنِّي وقفت على جَارِيَة فِي سوق بني قينقاع، فَمر رجل من الْيَهُود فَقَالَ: مَا هَذِه الْجَارِيَة يَا أَبَا سعيد؟ قلت: جَارِيَة لي أبيعها. قَالَ: هَل كنت تصيبها؟ قَالَ: قلت: نعم. قَالَ: فلعلك تبيعها وَفِي بَطنهَا مثل سخلة، قَالَ: كنت أعزل عَنْهَا. قَالَ: هَذِه الموؤدة الصُّغْرَى، قَالَ: فَجئْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ: كذبت يهود، كذبت يهود. قَوْله: (أَو إِنَّكُم تَفْعَلُونَ) اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَت طَائِفَة: ظَاهره الْإِنْكَار والزجر فَنهى عَن الْعَزْل، وَحكى ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن، وَكَأَنَّهُم فَهموا من كلمة: لَا، فِي رِوَايَة أُخْرَى: لَا! مَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا، وَهِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم وَغَيره عَن مَالك إِنَّهَا للنَّهْي عَمَّا سُئِلَ عَنهُ، وَأَن كلمة؛ لَا فِي: أَن لَا تَفعلُوا، لتأكيد النَّهْي كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تعزلوا وَعَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا. وَقَالَت طَائِفَة: إِن هَذَا إِلَى النَّهْي أقرب. وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى: كَأَنَّهَا جعلت جَوَابا لسؤال. قَوْله: (عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا) أَي: لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِي أَن لَا تَفعلُوا. وَقَول هَؤُلَاءِ أولى بالمصير إِلَيْهِ بِدَلِيل قَوْله: (مَا من نسمَة) إِلَى آخِره، وَبِقَوْلِهِ: افعلوا أَو لَا تَفعلُوا، إِنَّمَا هُوَ الْقدر، وَبِقَوْلِهِ إِذا أَرَادَ الله خلق شَيْء لم يمنعهُ شَيْء، وَهَذِه الألفظا كلهَا مصرحة بِأَن الْعَزْل لَا يرد الْقدر وَلَا يضر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَبِهَذَا تمسك من رأى إِبَاحَته مُطلقًا عَن الزَّوْجَة وَالْأمة، وَبِه قَالَ كثير من السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، كَمَا ذَكرْنَاهُ قَوْله: (مَا من نسمَة) ، بِفَتَحَات هِيَ: النَّفس، أَي مَا من نفس قدر كَونهَا إلاَّ وَهِي تكون سَوَاء عزلتم أَو لَا، أَي: مَا قدر وجوده لَا يمنعهُ الْعَزْل. وَفِي حَدِيث جَابر أَيْضا: إِن ذَلِك لم يمْنَع شَيْئا أَرَادَهُ الله، وَفِي حَدِيثه أَيْضا وَفِي رِوَايَة مُسلم: أعزل عَنْهَا إِن شِئْت فَإِنَّهُ سيأتيها مَا قدر لَهَا وَفِي حَدِيث الْبَراء، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب (الْعِلَل) لَيْسَ من كل المَاء يكون الْوَلَد.
79 - (بابُ القُرْعَةِ بَيْنَ النِّساء إذَا أرَادَ سَفَرا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْقرعَة بَين النِّسَاء إِذا أَرَادَ الرجل السّفر، وَأَرَادَ أَن يَأْخُذ مَعَه إِحْدَى نِسَائِهِ.
1125 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا عبْدُ الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قَالَ حَدثنِي: ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عَن القاسِم عنْ عائِشَة: أَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا خَرَجَ أقْرَعَ بيْنَ نِسَائِهِ، فَطارَتِ القُرْعَةُ لِعائِشَةَ وحَفْصَةَ،(20/196)
وَكَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا كَانَ باللّيْلِ سارَ مَعَ عائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فقالَتْ حَفْصَةُ: أَلا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بعِيري وأرْكَبُ بعِيرَكِ تَنْظُرِينَ وأنحظُرُ؟ فقالَتْ: بَلى، فرَكِبَتْ فَجاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى جَمَلِ عائشَةَ وعلَيْهِ حَفْصَةُ، فَسَلّمَ عَليْهَا ثُمَّ سارَ حتَّى نَزَلُوا، وافْتَقَدَتْهُ عائِشَةُ، فَلمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْها بَيْنَ الإِذْخِرِ وتقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَليَّ عَقْرَبا أوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، وَلَا أسْتَطِيعُ أنْ أقُول لَهُ شَيْئا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَعبد الْوَاحِد بن أَيمن ضد الْأَيْسَر المَخْزُومِي الْمَكِّيّ يروي عَن عبد الله بن عبيد بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان ثَلَاثَتهمْ عَن أبي نعيم.
قَوْله: (كَانَ إِذا خرج) أَي: إِلَى السّفر (أَقرع بَين نِسَائِهِ) وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ وَاجِب فِي حق غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِي وجوب الْقسم فِي حَقه خلاف فَمن قَالَ بِوُجُوبِهِ يَجْعَل إقراعه وَاجِبا، وَمن لم يُوجِبهُ يَقُول: فعل ذَلِك من حسن الْعشْرَة وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وتطييبا لقلوبهن، وَأما الحنفيون فَقَالُوا: لَا حق لَهُنَّ فِي الْقسم حَالَة السّفر، يُسَافر الزَّوْج بِمن شَاءَ وَالْأولَى أَن يقرع بَينهُنَّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلَيْسَت أَيْضا بواجبة عِنْد مَالك، وَقَالَ ابْن الْقصار: لَيْسَ لَهُ أَن يُسَافر بِمن شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْر قرعَة، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ مَالك مرّة: لَهُ أَن يُسَافر بِمن شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْر قرعَة. وَقَالَ الْمُهلب: وَفِيه: الْعَمَل بِالْقُرْعَةِ فِي المقاسمات والاستهام. وَفِيه: أَن الْقسم يكون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار. قَوْله: (فطارت الْقرعَة لعَائِشَة) أَي: حصلت لَهَا ولحفصة بنت عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وطير كل إِنْسَان نصِيبه، يَعْنِي: كَانَ هَذَا فِي سَفَره من سفرات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يتحدث) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَالْحَاصِل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانَ فِي هَذِه السفرة وَكَانَت عَائِشَة وَحَفْصَة مَعَه، فَإِذا كَانَ اللَّيْل وهم سائرون يسير مَعَ عَائِشَة يتحدث مَعهَا كَمَا هِيَ عَادَة الْمُسَافِرين لقطع الْمسَافَة، وَاسْتدلَّ بِهِ الْمُهلب على أَن الْقسم لم يكن وَاجِبا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ لحرم على حَفْصَة مَا فعلت فِي تَبْدِيل بَعِيرهَا بِبَعِير عَائِشَة، ورد عَلَيْهِ ذَلِك لِأَن الْقَائِل بِوُجُوب الْقِسْمَة عَلَيْهِ لَا يمْنَع من حَدِيث الْأُخْرَى فِي غير وَقت الْقسم لجَوَاز دُخُوله إِلَى غير صَاحِبَة النّوبَة وَقد روى أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ، وَاللَّفْظ لَهُ، من طَرِيق ابْن أبي الزِّنَاد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: قلَّ يَوْم إلاَّ وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطوف علينا جَمِيعًا، فَيقبل ويلمس مَا دون الوقاع، فَإِذا جَاءَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمهَا بَات عِنْدهَا. انْتهى. وعماد الْقسم فِي حق الْمُسَافِر وَقت نُزُوله، وَحَالَة السّير لَيست مِنْهُ لَيْلًا كَانَ، أَو نَهَارا. قَوْله: (فَقَالَت حَفْصَة) أَي قَالَت حَفْصَة لعَائِشَة: (أَلا تركبين اللَّيْلَة) أَي: فِي هَذِه اللَّيْلَة بَعِيري وأركب أَنا بعيرك تنظرين إِلَى مَا لم تَكُونِي تنظرين وَأنْظر أَنا إِلَى مَا لم أنظر؟ وَإِنَّمَا حمل حَفْصَة على ذَلِك الْغيرَة الَّتِي تورث الدهش والحيرة وَفِيه: إِشْعَار أَن عَائِشَة وَحَفْصَة لم تَكُونَا متقارنتين بل كَانَت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي جِهَة قَوْله: فَقَالَت: بلَى. أَي: فَقَالَت عَائِشَة لحفصة بلَى ارْكَبِي وَأَنا أركب جملي. قَوْله: (فركبت) أَي حَفْصَة جمل عَائِشَة قَوْله: (فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جمل عَائِشَة) بِنَاء على أَن عَائِشَة على جملها، وَالْحَال أَن عَلَيْهِ حَفْصَة قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: عَلَيْهَا على تَأْوِيل الْجمل بمؤنث. قَوْله: (فَسلم عَلَيْهَا) أَي: على حَفْصَة وَلم يذكر فِي الْخَبَر أَنه تحدث، وَيحْتَمل أَنه تحدث وَلم ينْقل. قَوْله: (وافتقدته عَائِشَة) أَي: افتقدت عَائِشَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: فِي حَالَة المسايرة، لِأَن قطع المألوف صعف قَوْله: (جعلت رِجْلَيْهَا) أَي جعلت عَائِشَة رِجْلَيْهَا بَين الأذخر وَهُوَ نبت مَعْرُوف تُوجد فِيهِ الْهَوَام غَالِبا فِي الْبَريَّة، وَإِنَّمَا فعلت هَذَا لما عرفت أَنَّهَا الجانية فِيمَا أجابت إِلَى حَفْصَة وأرادت أَن تعاقب نَفسهَا على تِلْكَ الْجِنَايَة. قَوْله: (وَتقول: يَا رب سلط عليَّ) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِحرف النداء وَفِي رِوَايَة غَيره رب سلط، بِدُونِ حرف النداء، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (تلدغني) بالغين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (وَلَا أَسْتَطِيع أَن أَقُول لَهُ) أَي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْكرْمَانِي الظَّاهِر أَنه كَلَام حَفْصَة وَيحْتَمل أَن يكون كَلَام عَائِشَة. قلت: الْأَمر بِالْعَكْسِ، بل الظَّاهِر أَنه من كَلَام عَائِشَة، وَظَاهر الْعبارَة يشْعر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعرف الْقِصَّة، وَيحْتَمل أَن يكون قد عرفهَا بِالْوَحْي وبالقرائن وتغافل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا جرى إِذا لم يجز مِنْهَا شَيْء يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكم. وَعند مُسلم. وَتقول: رب سلط(20/197)
عَليّ عقربا أَو حَيَّة تلدغني، رَسُولك لَا أَسْتَطِيع أَن أَقُول لَهُ شَيْئا، وَرَسُولك بِالنّصب بإضمار فعل تَقْدِيره: انْظُر رَسُولك، وَيجوز الرّفْع على الِابْتِدَاء وإضمار الْخَبَر تَقْدِيره: هُوَ رَسُولك.
وَقَالَ الْمُهلب. وَفِيه: أَن دُعَاء الْإِنْسَان على نَفسه عِنْد الْحَرج مَعْفُو عَنهُ غَالِبا لقَوْل الله عز وَجل: {وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ} (يُونُس: 11) الْآيَة.
89 - (بابُ المَرْأةِ تَهَبُ يَوْمَها مِنْ زَوْجِها لِضرَّتِها، وكَيْفَ يَقْسِمُ ذلِك؟)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ الْمَرْأَة الَّتِي تهب يَوْمهَا إِلَى آخِره فَقَوله الْمَرْأَة، مُبْتَدأ وَقَوله: (تهب يَوْمهَا) خَبره وَقَوله: (من زَوجهَا) فِي مَحل النصب على أَنه صفة لقَوْله يَوْمهَا، أَي يَوْمهَا الْمُخْتَص لَهَا فِي الْقسم الْكَائِن من زَوجهَا قَوْله: (لضرتها) يتَعَلَّق بقوله تهب. قَوْله: (وَكَيف يقسم ذَلِك) أَي: الْمَذْكُور من هبة الْمَرْأَة يَوْمهَا لضرتها كَيفَ يقسم، وَلم يبين كَيْفيَّة ذَلِك، وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك على سَبِيل الِاسْتِفْهَام؟ عَن وَجه الْقِسْمَة أَي: على أَي وَجه يقسم وهب الْمَرْأَة يَوْمهَا من الْقسم لضرتها، بَيَان ذَلِك أَن تكون فِيهِ الْمَوْهُوبَة بِمَنْزِلَة الواهبة فِي رُتْبَة الْقِسْمَة، فَإِن كَانَ يَوْم سَوْدَة ثَالِثا ليَوْم عَائِشَة أَو رَابِعا أَو خَامِسًا استحقته عَائِشَة على حسب الْقِسْمَة الَّتِي كَانَت لسودة، وَلَا يتَأَخَّر عَن ذَلِك الْيَوْم وَلَا يتَقَدَّم وَلَا يكون ثَانِيًا ليَوْم عَائِشَة إلاَّ أَن يكون يَوْم سَوْدَة بعد يَوْم عَائِشَة.
2125 - حدّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا زُهَيْرٌ عنْ هِشَامٍ عنْ أبيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَها لِعَائِشَةَ، وكانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْسِمُ لِعائِشَةَ بِيَوْمِها ويَوْمِ سَوْدَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل عَلَيْهَا لِأَن قَوْله: إِن سَوْدَة بنت زَمعَة وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة، يَشْمَل الشّطْر الأول من التَّرْجَمَة. وَقَوله: (كَانَ يقسم) إِلَى آخِره، مُشْتَمل على الشّطْر الثَّانِي مِنْهَا. وَهُوَ قَول: وَكَيف يقسم ذَلِك، مَعَ أَنه يُوضح معنى ذَلِك وَهُوَ أَنه يقسم لعَائِشَة الْمَوْهُوب لَهَا يَوْمهَا الْمُخْتَص لَهَا وَيَوْم سَوْدَة الواهبة يَوْمهَا لَهَا على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن.
وَمَالك بن إِسْمَاعِيل هُوَ أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ بالنُّون الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الْهَاء، وَزُهَيْر مصغر زهر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ الْكُوفِي، سكن الجزيرة يروي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أبي عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح أَيْضا عَن عَمْرو النَّاقِد عَن الْأسود بن عَامر عَن زُهَيْر بِهِ.
قَوْله: (أَن سَوْدَة بنت زَمعَة) بِسُكُون الْمِيم وَفتحهَا ابْن قيس، القرشية العامرية، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة بعد موت خديحة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَدخل عَلَيْهَا بهَا، وَكَانَ دُخُولهَا بهَا قبل دُخُوله على عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بالِاتِّفَاقِ وَهَاجَرت مَعَه وَتوفيت فِي آخر خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة) ، وَقد تقدم فِي الْهِبَة من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بِلَفْظ: يَوْمهَا وليلتها، وَزَاد فِي آخِره تبتغي بذلك رضَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عقبَة بن خَالِد عَن هِشَام: لما أَن كَبرت سَوْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا جعلت يَوْمهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة، وروى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يفضل بَعْضنَا على بعض فِي الْقسم الحَدِيث وَفِيه: وَلَقَد قَالَت سَوْدَة بنت زمعه حِين أَسِنَت وخافت أَن يفارقها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا رَسُول الله! يومي لعَائِشَة، فَقبل ذَلِك مِنْهَا، وفيهَا وَفِي أشباهها نزلت: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا} (النِّسَاء: 821) الْآيَة. وَتَابعه ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ عَن ابْن أبي الزِّنَاد فِي وَصله، وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَوْصُولا نَحوه. وَأخرج ابْن سعد بِسَنَد رِجَاله ثِقَات من رِوَايَة الْقَاسِم بن أبي بزَّة مُرْسلا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَلقهَا فَقَعَدت لَهُ على طَرِيقه، فَقَالَت: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَالِي فِي الرِّجَال حَاجَة، وَلَكِن أحب أَن أبْعث مَعَ نِسَائِك يَوْم الْقِيَامَة، فأنشدك بِالَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب هَل طَلقنِي لموجدة وَجدتهَا عَليّ؟ قَالَ: لَا. قَالَت: فأنشدك لما راجعتني، فَرَاجعهَا، قَالَت: فَإِنِّي جعلت يومي وليلتي لعَائِشَة حَبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم لعَائِشَة بيومها وَيَوْم سَوْدَة) يَعْنِي على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَفِي رِوَايَة جرير عَن هِشَام عِنْد مُسلم: فَكَانَ يقسم لعَائِشَة يَوْمَيْنِ: يَوْمهَا وَيَوْم سَوْدَة انْتهى.
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقسم لكل وَاحِدَة من نِسَائِهِ يَوْمًا وَلَيْلَة كَمَا تظاهرت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث فَفِي بَعْضهَا: يَوْم، وَالْمرَاد بليلته، وَفِي بَعْضهَا لَيْلَة، وَالْمرَاد مَعَ الْيَوْم، وَفِي بَعْضهَا: يَوْم وَلَيْلَة. وَذهب جمَاعَة من أهل الْعلم إِلَى أَنه لَا يُزَاد فِي(20/198)
الْقسم على يَوْم وَلَيْلَة اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي من الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله: وَحمل الشَّافِعِي ذَلِك على الْأَوْلَوِيَّة والاستحباب، وَنَصّ على جَوَاز الْقسم لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَثَلَاثًا. وَقَالَ فِي (الْمُخْتَصر) وأكره مُجَاوزَة الثَّلَاث فَحَمله الْأَكْثَرُونَ على الْمَنْع وَنقل عَن نَصه فِي (الْإِمْلَاء) أَنه كَانَ يقسم مياومة ومشاهرة ومسانهة، قَالَ الرَّافِعِيّ: فَحَمَلُوهُ على مَا إِذا رضين وَلم يَجْعَلُوهُ قولا آخر، وَحكى عَن صَاحب (التَّقْرِيب) أَنه: يجوز أَن يقسم سبعا سبعا. وَعَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَغَيره أَنه تجوز الزِّيَادَة مَا لم تبلغ التَّرَبُّص بِمدَّة الْإِيلَاء وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لَا يجوز أَن يَبْنِي الْقسم على خمس سِنِين مثلا، وَحكى الْغَزالِيّ فِي (الْبَسِيط) وَجها: أَنه لَا تَقْدِير بِزَمَان وَلَا تَوْقِيت أصلا فَإِنَّمَا التَّقْدِير إِلَى الزَّوْج انْتهى كَلَامه.
قلت: وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أرى مُجَاوزَة يَوْم إِذْ لَا حجَّة مَعَ من تحظى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى غَيرهَا. أَلا ترى قَوْله فِي الحَدِيث: أَن سَوْدَة وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة، وَلم يحفظ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قسمته لأزواجه أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة، وَلَو جَازَ ثَلَاثَة لجَاز خَمْسَة شهرا، ثمَّ يتخطى بالْقَوْل إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ، فَلَا يجوز مُعَارضَة السّنة.
وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الْقسم بَين النِّسَاء وَهُوَ مُتَّفق على اسْتِحْبَابه، فإمَّا وُجُوبه فَادّعى صَاحب (الْمُفْهم) الِاتِّفَاق على وُجُوبه، فَقَالَ شَيخنَا: وَفِي دَعْوَى الِاتِّفَاق نظر فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم: مَذْهَبنَا إِنَّه لَا يلْزم أَن يقسم لنسائه، بل لَهُ إحسانهن كُلهنَّ، لَكِن يكره تعطيلهن. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَعَن القَاضِي أبي حَامِد حِكَايَة أَنه يجب الْقسم بَينهُنَّ وَلَا يجوز لَهُ الْإِعْرَاض.
99
- (بابُ العَدْلِ بَيْنَ النِّساء. {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء} إِلَى قَوْله: {وَاسِعًا حكيما} (النِّسَاء: 921، 031) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعدْل بَين النِّسَاء، يَعْنِي إِذا كَانَ رجل لَهُ امْرَأَتَانِ أَو ثَلَاث أَو أَربع يجب عَلَيْهِ أَن يعدل بَينهُنَّ فِي الْقسم، إلاَّ برضاهن، بِأَن يرضين بتفضيل بَعضهنَّ على بعض، وَيحسن مَعَهُنَّ عشرتهن وَلَا يدْخل بَينهُنَّ من التحاسد والعداوة مَا يكدر صحبته لَهُنَّ، وَتَمام الْعدْل أَيْضا بَينهُنَّ تسويتهن فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالْهِبَة وَنَحْوهَا قَوْله: {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء} (النِّسَاء: 921) أَي: لن تُطِيقُوا أَيهَا الرِّجَال أَن تسووا بَين نِسَائِكُم فِي حبهن بقلوبكم حَتَّى تعدلوا بَينهُنَّ فِي ذَلِك لِأَن ذَلِك مِمَّا لَا تملكونه، وَلَو حرصتم فِي تسويتكم بَينهُنَّ فِي ذَلِك، وروت الْأَرْبَعَة من حَدِيث عبد الله بن يزِيد عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقسم بَين نِسَائِهِ فيعدل، وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك فَلَا تلمني فِيمَا تملك وَلَا أملك قَوْله: فِيمَا أملك أَي: فِيمَا قدرتني عَلَيْهِ مِمَّا يدْخل تَحت الْقُدْرَة وَالِاخْتِيَار بِخِلَاف مَا لَا قدرَة عَلَيْهِ من ميل الْقلب فَإِنَّهُ لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة. وروى الْأَرْبَعَة أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا كَانَ عِنْد الرجل امْرَأَتَانِ فَلم يعدل بَينهمَا جات يَوْم الْقِيَامَة وَشقه سَاقِط. قيل: المُرَاد سُقُوط شقَّه حَقِيقَة أَو المُرَاد سُقُوط حجَّته بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى امرأتيه الَّتِي مَال عَلَيْهَا مَعَ الْأُخْرَى؟ وَالظَّاهِر الْحَقِيقَة، تدل عَلَيْهَا رِوَايَة أبي دَاوُد: وَشقه مائل، وَالْجَزَاء من جنس الْعَمَل، وَلما لم يعدل أَو حاد عَن الْحق، والجور الْميل كَانَ عَذَابه بِأَن يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة على رُؤُوس الأشهاد وَأحد شقيه مائل فَإِن قلت: أَمر المزوجون بِالْعَدْلِ بَين نِسَائِهِم، وَالْآيَة تخبر بِأَنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يعدلُوا قلت: الْمَنْفِيّ فِي الْآيَة الْعدْل بَينهُنَّ من كل جِهَة أَلا ترى كَيفَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَلَا تلمني فِيمَا تملك وَلَا أملك؟ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: يَعْنِي بِهِ الْحبّ والمودة لِأَن ذَلِك مِمَّا لَا يملكهُ الرجل وَلَا هُوَ فِي قدرته. وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَنْهُمَا: لَا تَسْتَطِيع أَن تعدل بالشهوة فِيمَا بَينهُنَّ وَلَو حرصت، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: دلّت هَذِه الْآيَة على أَن التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فِي الْمحبَّة غير وَاجِبَة، وَقد أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن عَائِشَة أحب إِلَيْهِ من غَيرهَا من أَزوَاجه، فَلَا تميلوا كل الْميل بأهوائكم حَتَّى يحملكم ذَلِك على أَن تَجُورُوا فِي الْقسم على الَّتِي لَا تحبون. قَوْله: إِلَى قَوْله: {وسعا حكيما} (النِّسَاء: 031) يَعْنِي: إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ. وأولهما من قَوْله: {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة وَأَن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما وَإِن يَتَفَرَّقَا يغن الله كلاًّ سعته وَكَانَ الله وَاسِعًا حكيما} (النِّسَاء: 921، 031) قَوْله: (فَلَا تميلوا كل الْميل) أَي: فَلَا تَجُورُوا على المرغوب عَنْهَا كل الْجور فتمنعوها قسمتهَا من غير رِضَاهَا. قَوْله: (فتذروها) أَي فتتركوها كالمعلقة وَهِي الَّتِي لَيست بِذَات بعل وَلَا مُطلقَة، وَقيل: لَا أيم وَلَا ذَات زوج. قَوْله: (وَأَن تصلحوا) أَي: فِيمَا بَيْنكُم وبينهن بِالِاجْتِهَادِ مِنْكُم فِي الْعدْل(20/199)
بَينهُنَّ وتتقوا الْميل فِيهِنَّ فَإِن الله غَفُور مَا عجزت عَنهُ طاقتكم من بُلُوغ الْميل مِنْكُم فِيهِنَّ. قَوْله: (وَإِن يَتَفَرَّقَا) يَعْنِي: وَإِن يُفَارق كل مِنْهُمَا صَاحِبَة يغن الله كلا يَعْنِي: يرزقه زوجا خيرا من زوجه وعيشا أهنأ من عيشه، وَالسعَة: الْغَنِيّ وَالْقُدْرَة، والواسع: الْغَنِيّ المقتدر.
001 - (بابٌ إذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ علَى الثَّيِّب)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يفعل الرجل إِذا تزوج امْرَأَة بكرا على امْرَأَة ثيب وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، الَّذِي هُوَ يبين الحكم اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب، وَالْبكْر خلاف الثّيّب ويقعان على الرجل وَالْمَرْأَة،، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الثّيّب من لَيْسَ ببكر، وَيَقَع على الذّكر وَالْأُنْثَى، يُقَال: رجل ثيب وَامْرَأَة ثيب، وَقد يُطلق على الْمَرْأَة الْبَالِغَة وَإِن كَانَت بكرا مجَازًا واتساعا، وَاصل الْكَلِمَة الْوَاو لِأَنَّهُ من ثاب يثوب إِذا رَجَعَ، فَإِن الثّيّب بصدد الْعود وَالرُّجُوع قلت: أصل الثّيّب ثويب اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، فَافْهَم.
3125 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا بِشْرٌ حَدثنَا خالِدٌ عنْ أبي قِلاَبَةَ عَن أنَسٍ، رَضِي الله عنهُ، ولَوْ شِئْتُ أَن أقُولَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولكِنْ قَالَ: السُّنَّةُ إذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ أَقَامَ عِنْدَها سَبْعا، وإذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أقامَ عِنْدَها ثَلاثا.
(انْظُر الحَدِيث 3125 طرفه فِي: 4125)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل بن لَاحق أَبُو إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف اللَّام: عبد الله بن زيد الْجرْمِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن رَافع وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي سَلمَة يحيى بن خلف. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن هناد بن السّري عَن عَبدة بن سُلَيْمَان.
قَوْله: (وَلَو شِئْت أَن أَقُول: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) اخْتلف فِي قَائِل هَذَا القَوْل أَعنِي قَوْله: (وَلَو شِئْت) فَقيل: خَالِد الْحذاء رَاوِي الحَدِيث. وَقد صرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ: أخبرنَا هشيم عَن خَالِد عَن أبي قلَابَة عَن أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا وَإِذا تزوج الثّيّب على الْبكر أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، قَالَ خَالِد: وَلَو قلت إِنَّه رَفعه لصدقت، وَلكنه قَالَ: السّنة كَذَلِك انْتهى. وَقيل: هُوَ أَبُو قلَابَة الرَّاوِي، وَقد صرح بهما البُخَارِيّ فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله قَوْله: (وَلَكِن قَالَ: السّنة إِذا تزوج الْبكر) إِلَى آخِره، أَي: وَلَكِن قَالَ أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ السّنة إِلَى آخِره، وخَالِد أَو أَبُو قلَابَة لَو قَالَ: قَالَ أنس: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ صَادِقا فِي تصريحه بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لكنه رأى أَن الْمُحَافظَة على اللَّفْظ أولى، وَقَوله: (السّنة) يَقْتَضِي أَن يكون مَرْفُوعا بطرِيق اجتهادي احتمالي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا اللَّفْظ يَقْتَضِي رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: السّنة كَذَا، أَو من السّنة كَذَا فَهُوَ فِي الحكم كَقَوْلِه: قَالَ التبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (سبعا) أَي: سبع ليَالِي وَيدخل فِيهَا الْأَيَّام، وَقَالَ الْخطابِيّ: السَّبع تَخْصِيص للبكر لَا يحْسب بهَا وَعَلَيْهَا، وَكَذَا الثَّلَاث للثيب، ويستأنف الْقِسْمَة بعده، وَهَذَا من الْمَعْرُوف الَّذِي أَمر الله بِهِ فِي معاشرتهن، وَذَلِكَ أَن الْبكر لما فِيهَا من الْحيَاء وَلُزُوم الخدر تحْتَاج إِلَى فضل إمهال وصبر وتأن ورفق، وَالثَّيِّب قد جربت الرِّجَال إِلَّا أَنَّهَا من حَيْثُ استجداد الصُّحْبَة أكرمت بِزِيَادَة الوصلة، وَهِي مُدَّة الثَّلَاث.
101 - (بَاب إذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّب علَى البِكْر)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يفعل الرجل إِذا تزوج امْرَأَة ثَيِّبًا على امْرَأَة بكر، وَهَذِه التَّرْجَمَة عكس التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن جَوَاب: إِذا مَحْذُوف، وَهنا كَذَلِك.
4125 - حدّثنا يُوسُفُ بنُ راشدٍ حَدثنَا أبُو أسامَةَ عنْ سُفْيانَ حَدثنَا أيُّوبُ وخالِدٌ عنْ أبي قِلاَبة عنْ أنَسٍ قَالَ: من السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّج الرَّجُلُ البِكْرَ علَى الثيِّبِ أقامَ عِنْدَها سَبْعا وقَسَمَ، وَإِذا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ علَى البِكْرِ أقامَ عِندَها ثَلاَثا ثُمَّ قَسَمَ قَالَ أبُو قِلاَبَةَ: ولوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إنَّ أنَسا رفَعَهُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(انْظُر الحَدِيث 3125 طرفه فِي: 4125)(20/200)
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن يُوسُف بن مُوسَى بن رَاشد نسب إِلَى جده وَهُوَ الْقطَّان الْكُوفِي، سكن بَغْدَاد وَهُوَ من أَفْرَاده. وَأَبُو أُسَامَة، وسُفْيَان وَهُوَ الثَّوْريّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة هُوَ عبد الله بن زيد.
وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من عشر طرق صِحَاح، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى أَن الرجل إِذا تزوج الثّيّب أَنه بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ سبَّع لَهَا وسبّع لسَائِر نِسَائِهِ، وَإِن شَاءَ أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا وَدَار على بَقِيَّة نِسَائِهِ يَوْمًا يَوْمًا وَلَيْلَة لَيْلَة قلت: أَرَادَ بالقوم إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر الشّعبِيّ ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبا ثَوْر وَأَبا عبيد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: إِن ثلَّث لَهَا ثلَّث لسَائِر نِسَائِهِ كَمَا إِذا سبَّع لَهَا وسبَّع لسَائِر نِسَائِهِ. قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْحكم بن عتبَة وَأَبا حنيفَة وَأَبا يُوسُف ومحمدا رَحِمهم الله، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أم سَلمَة أخرجه الطَّحَاوِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: (إِن شِئْت سبعت عنْدك سبعت عِنْدهن) وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) مطولا وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ بأطول مِنْهُ وَأخرجه أَبُو يعلى أَيْضا وَالْبَيْهَقِيّ. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا قَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن شِئْت سبعت لَك سبعت عِنْدهن، أَي: أعدل بَينهُنَّ وَبَيْنك فَاجْعَلْ لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سبعا، كَذَلِك إِذا جعل لَهَا ثَلَاثًا جعل لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ ثَلَاثًا. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: حَدِيث أنس الْمَذْكُور حجَّة على الْحَنَفِيَّة قلت: كَذَلِك حَدِيث أم سَلمَة حجَّة على الشَّافِعِيَّة، واحتجت الْحَنَفِيَّة أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقسم بَين نِسَائِهِ فيعدل الحَدِيث رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، وَقد مر عَن قريب، فَظَاهره يَقْتَضِي الْمُسَاوَاة بَينهُنَّ مُطلقًا.
قَوْله: (من السّنة) قد ذكرنَا عَن قريب أَن هَذَا اللَّفْظ يَقْتَضِي كَون الحَدِيث مَرْفُوعا وَلما ذكر التِّرْمِذِيّ حَدِيث خَالِد الْحذاء صَححهُ ثمَّ قَالَ: وَقد رَفعه مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس وَلم يرفعهُ بَعضهم. قلت: وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق مَرْفُوعا عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: للثيب ثَلَاث وللبكر سبع وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا مَرْفُوعا كَذَلِك من طَرِيق عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي (صَحِيحهمَا) مَرْفُوعا. قَوْله: (وَقسم ثمَّ قَالَ: أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ قسم) بِالْوَاو فِي الأول وبلفظ ثمَّ فِي الثَّانِي، وَوَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم من طَرِيق حَمْزَة بن عون بِلَفْظ: ثمَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي ثَلَاث ليَالِي مَعَ أَيَّامهَا.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْمقَام الْمَذْكُور. هَل هُوَ من حُقُوق الْمَرْأَة على الزَّوْج أَو من حُقُوق الزَّوْج على سَائِر نِسَائِهِ؟ فَقَالَت طَائِفَة: هُوَ حق الْمَرْأَة إِن شَاءَت طالبته وَإِن شَاءَت تركته، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ من حق الزَّوْج إِن شَاءَ أَقَامَ عِنْدهَا وَإِن شَاءَ لم يقم، فَإِن أَقَامَ عِنْدهَا فَفِيهِ الْخلاف الْمَذْكُور، وَإِن لم يقم عِنْدهَا إِلَّا لَيْلَة دَار، وَكَذَلِكَ إِن أَقَامَ ثَلَاثًا دَار على مَا مضى من الْخلاف الْمَذْكُور، الأول أولى لإخبار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ذَلِك حق الْبكر وَالثَّيِّب، وَهل يتَخَلَّف الْعَرُوس فِي هَذِه الْمدَّة عَن صَلَاة الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة؟ فروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه لَا يتَخَلَّف عَنْهَا. وَقَالَ سَحْنُون قد قَالَ بعض النَّاس: أَنه لَا يخرج لِأَن ذَلِك حق لَهَا بِالسنةِ.
وَقَالَ عبْدُ الرَّزَّاقِ: أخْبرنا سفْيانُ عَن أيُّوبَ وخالِد قَالَ خالِدٌ: ولوْ شِئْتُ قْلُتْ رفعَهُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: قَالَ عبد الرَّزَّاق فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بِالْمَتْنِ الْمَذْكُور عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وخَالِد الْحذاء كِلَاهُمَا عَن أبي قلَابَة عَن أنس قَالَ: من السّنة إِلَى آخِره وَوَصله مُسلم قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بن رَافع قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ: أخبرنَا سُفْيَان عَن أَيُّوب وخَالِد الْحذاء عَن أبي قلَابَة عَن أنس قَالَ: من السّنة أَن تقيم عِنْد الْبكر سبعا، قَالَ خَالِد: وَلَو سئت لَقلت رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (رَفعه) أَي: رفع الحَدِيث أنس إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
201 - (بابُ منْ طافَ علَى نِسَائهِ فِي غُسْلٍ واحِدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من طَاف على نِسَائِهِ أَي: جامعهن فِي غسل وَاحِد أَرَادَ بِهِ أَنه لم يغْتَسل لكل جماع بِغسْل على حِدة.
5125 - حدّثنا عبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ حَدثنَا يَزِيدُ بن زُرَيْعٍ حَدثنَا سَعِيدٌ عَن قَتَادَة أنَّ أنس بنَ مالِك حدَّثَهُمْ أنَّ نَبيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَطُوفُ علَى نِسائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الوَاحِدَةِ ولهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوةٍ.
)(20/201)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد بن نصر أَبُو يحيى أَصله بَصرِي سكن بَغْدَاد، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع.
والْحَدِيث مُضِيّ بأتم مِنْهُ فِي كتاب الْغسْل فِي بَاب إِذا جَامع ثمَّ عَاد وَمن دَار على نِسَائِهِ فِي غسل وَاحِد، وبسطنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَله تسع نسْوَة) وَتقدم هُنَاكَ وَكَانَ يَدُور على نِسَائِهِ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة من اللَّيْل وَالنَّهَار وَهن إِحْدَى عشرَة، وَجمع بَينهمَا بِأَن أَزوَاجه كن تسعا فِي هَذ الْوَقْت وسريتاه مَارِيَة وَرَيْحَانَة، على رِوَايَة من روى أَن رَيْحَانَة كَانَت أمة، وروى بَعضهم أَنَّهَا كَانَت زَوْجَة، وَلَقَد سَمِعت أساتذتي الْكِبَار رَحِمهم الله تَعَالَى، أَن كل نَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أُعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا وَأعْطِي نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُوَّة أَرْبَعِينَ نَبيا، فَتكون قوته على هَذَا قُوَّة ألف رجل وسِتمِائَة رجل، فَانْظُر إِلَى ورعه وَصَبره الْعَظِيم الَّذِي لم يُعْط أحد مثله كَيفَ اكْتفى بِهَذَا الْمِقْدَار، وَانْظُر إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، حَيْثُ كَانَت لَهُ ألف امْرَأَة على مَا قيل، مِنْهَا ثَلَاثمِائَة حرائر وَسَبْعمائة إِمَاء أما دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، فَكَانَت لَهُ مائَة امْرَأَة، وَمَعَ هَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطوي الْأَيَّام لَا يَأْكُل ويواصل فِي الصَّوْم حَتَّى كَانَ يشد الْحجر على بَطْنه وَيقوم بالليالي حَتَّى تتورم قدماه، وَمَا هَذِه إِلَّا فَضَائِل خصّه الله بهَا وَجعله أفضل خلقه وَسيد أنبيائه، صلوَات الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
301 - (بابُ دُخُولِ الرَّجُلِ علَى نِسائِهِ فِي اليَوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول الرجل على نِسَائِهِ فِي النَّهَار، لِأَن لكل وَاحِد من نِسَائِهِ يَوْمًا فِي الْقسم تبعا لليلته، وَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَن يدْخل على وَاحِدَة فِي غير يَوْمهَا، وَلَا عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فِي يَوْم، وَلَكِن جوز دُخُوله لضَرُورَة كوضع مَتَاع وَنَحْوه، وَلَا يَنْبَغِي أَن يطول مكثه وَلَا تجب التَّسْوِيَة فِي الْإِقَامَة نَهَارا، وَيُقَال: لَيْسَ حَقِيقَة الْقسم بَين النِّسَاء إلاَّ فِي اللَّيْل خَاصَّة لِأَن للرجل التَّصَرُّف نَهَاره فِي معيشته وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي أُمُوره، فَإِذا كَانَ دُخُول امْرَأَة فِي غير يَوْمهَا دُخُولا خَفِيفا فِي حَاجَة بَعْضهَا فَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز ذَلِك، وَقَالَ مَالك: لَا يَأْتِي إِلَى وَاحِدَة من نِسَائِهِ فِي يَوْم الْأُخْرَى إلاَّ لحَاجَة أَو عِيَادَة، نَقله ابْن الْمَوَّاز عَنهُ، وَقَالَ غَيره: وَأما جُلُوسه عِنْدهَا ومحادثتها تلذذا فَلَا يجوز ذَلِك عِنْدهم فِي غير يَوْمهَا.
6125 - حدّثنا فَرْوَةُ حَدثنَا علِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إذَا انْصَرَفَ منَ العَصْرِ دَخَلَ عَلى نِسائِهِ يَدْنُو مِنْ إحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ علَى حَفْصَةَ فاحْتَبَسَ أكْثَرَ مَا كانَ يحْتَبِسُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نِسَائِهِ فِي الْيَوْم. وفروة، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء: ابْن أبي المغراء الْكِنْدِيّ الْكُوفِي مَاتَ فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، قَالَه البُخَارِيّ، وَعلي بن مسْهر بِضَم الْمِيم على صِيغَة اسْم الْفَاعِل، من الإسهار بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاء، يروي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهَذَا طرف من حَدِيث طَوِيل يَأْتِي فِي كتاب الطَّلَاق فِي: بَاب {لم تحرم مَا أحل الله لَك} (التَّحْرِيم: 1) وَقَالَ ابْن الْمُهلب: هَذَا إِنَّمَا كَانَ يَفْعَله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَادرا وَلم يكن يَفْعَله أَبَد الدَّهْر، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَله لما أَبَاحَ الله تَعَالَى لَهُ بقوله: {ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء} (الْأَحْزَاب: 15) فَكَانَ يذكرهن بِهَذَا الْفِعْل فِي الغب إفضاله عَلَيْهِنَّ فِي الْعدْل بَينهُنَّ لِئَلَّا يظنون أَن الْقِسْمَة حق لَهُنَّ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ مَالك أَن يَأْتِي إِلَى الْأُخْرَى فِي حَاجَة وليضع شَأْنه إِذا كَانَ على غير ميل، وَقَالَ أَيْضا: لَا يُقيم عِنْد إِحْدَاهمَا إلاَّ من عذر، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: لَا بَأْس أَن يقف بِبَاب إِحْدَاهمَا وَيسلم من غير أَن يدْخل وَأَن يَأْكُل مِمَّا يبْعَث إِلَيْهِ.
401 - (بَاب إذَا اسْتأذَنَ الرَّجلُ نِساءَهُ فِي أنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فأذِنَ لهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اسْتِئْذَان الرجل نِسَاءَهُ فِي أَن يمرض، على صِيغَة الْمَجْهُول من التمريض، وَهُوَ الْقيام على الْمَرِيض وتعاهد حَاله. قَوْله: (فَأذن) بتَشْديد النُّون لِأَنَّهُ جمع مؤنث غيبَة من الْمَاضِي.(20/202)
7125 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ هِشامُ بنُ عُرْوَةَ: أَخْبرنِي أبي عَن عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَسْألُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ: أيْنَ أَنا غَدا؟ أيْنَ أَنا غَدا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عائِشَةَ فأذِنَ لهُ أزْوَجُهُ يَكُونُ حيْثُ، فَكان فِي بَيْتِ عائِشَةَ حتَّى ماتَ عِنْدَها. قالَتْ عائِشَةُ، فَماتَ فِي اليَوْمِ الّذِي يَدُورُ عَليَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ الله وإنَّ رأْسَهُ لَبَيْنَ سَحْرِي ونَحْرِي، وخالَطَ رِيقُهُ رِيقِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأذن لَهُ أَزوَاجه) وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس. والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب مرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووفاته، بأتم مِنْهُ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَيْن أَنا غَدا؟) مُكَرر مرَّتَيْنِ وَهُوَ اسْتِفْهَام للاستئذان مِنْهُنَّ أَن يكون عِنْد عَائِشَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يحْتَج بِهَذَا على وجوب الْقسم عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لَو لم يجب لم يحْتَج إِلَى الْإِذْن. قلت: لَك يكن الاسْتِئْذَان إلاَّ لتطييب قلوبهن ومراعات خواطرهن، وإلاَّ فَلَا وجوب عَلَيْهِ. قَوْله: (فِي الْيَوْم) أَي: فِي يَوْم نوبتي حِين كَانَ يَدُور فِي ذَلِك الْحساب. قَوْله: (فِيهِ) يتَعَلَّق بقوله: يَدُور، وَقَوله: (فِي بَيْتِي) يتَعَلَّق بقوله: (فَمَاتَ وَإِن رَأسه) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (سحرِي) بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ الرئة. قَوْله: (وَنَحْرِي) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْحَاء هُوَ مَوضِع القلادة. قَوْله: (وخالط رِيقه) بِالرَّفْع فَاعل على خالط. وَقَوله: (ريقي) مَفْعُوله أَي: خالط ريق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ريقي، ذَلِك أَنَّهَا أخذت سواكا وسوته بأسنانها وأعطته رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستاك بِهِ عِنْد وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
501 - (بابُ حُبِّ الرَّجلِ بَعْضَ نِسائِهِ أفْضَلَ منْ بَعْضٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر حب الرجل بعض نِسَائِهِ حبا أفضل أَي أَزِيد حبا من حب بعض وَالْحب فِي اللُّغَة خلاف البغض، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْحبّ ميل الْقلب وتوجهه إِلَى شَيْء وَذكره إِيَّاه فِي أَكثر أوقاته بِلِسَانِهِ وَذكره بِقَلْبِه.
8125 - حدّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُلَيْمانُ عنْ يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ بنِ حُنَيْن سمِعَ ابنَ عبَّاسٍ عنْ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُم، دخلَ علَى حَفصَةَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هاذِهِ الّتي أعْجَبَها حُسْنها حُبُّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إيَّاها يُرِيدُ عائِشَةَ، فَقَصَصْتُ علَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَبَسَّمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا يَعْنِي: عَائِشَة) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُحِبهَا أَكثر من سَائِر نِسَائِهِ وَلَا حرج على الرجل إِذا آثر بعض نِسَائِهِ فِي الْمحبَّة إِذا سوَّى بَينهُنَّ فِي الْقسم والمحبة مِمَّا لَا تجلب بالاكتساب وَالْقلب لَا يملكهَا وَلَا يُسْتَطَاع فِيهِ الْعدْل، وَرفع الله عز وَجل فِيهِ عَن عباده الْحَرج، قَالَ الله عز وَجل: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَعبيد بن حنين مولى زيد بن الْخطاب، وحنين مصغر حن بِالْحَاء الْمُهْملَة.
وَهَذَا طرف من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد مر فِي: بَاب موعظة الرجل ابْنَته وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (يَا بنية) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو ذَر، وروى: يَا بني، مرخما وَيفتح ياؤه وَيضم قَوْله: (أعجبها حسنها حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ويروى: وَحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: حب، بِدُونِ الْوَاو إِمَّا بدل أَو عطف بِتَقْدِير حرف الْعَطف عِنْد من جوز تَقْدِيره. قلت: هَذَا بدل الْغَلَط وَلَا يَقع هَذَا فِي الْقُرْآن وَلَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الفصيح، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن قَوْله حب، مَرْفُوع على أَنه فَاعل: أعجب، وحسنها مَنْصُوب على التَّعْلِيل، وَالتَّقْدِير: أعجبها حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل حسنها.
601 - (بابُ المُتَشَبِّعِ بِما لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنِ إضْجارِ الضَّرَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ المتشبع بِمَا لم ينل، وَلَفظ الْبَاب مُعرب لِأَنَّهُ أضيف إِلَى المتشبع وَسَنذكر تَفْسِيره فِي الحَدِيث. قَوْله: (وَمَا ينْهَى) أَي: وَفِي بَيَان مَا ينْهَى. وَكلمَة: مَا مَصْدَرِيَّة أَي: وَفِي بَيَان النَّهْي عَن إضجار الضرة أَي إِلْحَاق الْغم والقلق إِيَّاهَا. وَفِي (الْمغرب) :(20/203)
الضجر قلق من غم وضيق نفس مَعَ الْكَلَام. قَالَ الْجَوْهَرِي: ضرَّة الْمَرْأَة امْرَأَة زَوجهَا. وَقَالَ صَاحب (الْمُحكم) : الضرتان امرأتا الرجل كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ضرَّة لصاحبتها وَهن الضرائر.
9125 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْب حَدثنَا حَمَّادُ بن زَيْدٍ عَن هشامٍ عنْ فاطِمَةَ عنْ أسْماءَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وحَدثني مُحَمَّد بنُ المُثَنَّى حَدثنَا يَحْياى عَن هِشامٍ حدَّثَتْنِي فاطِمَةُ عنْ أسْماءَ أنَّ امْرَأةً قالَتْ: يَا رسولَ الله {إنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَليَّ جُناحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجي غَيْرَ الّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبِيْ زْورٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقَوله: (المتشبع) يَشْمَل شطري التَّرْجَمَة.
وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، وَفَاطِمَة هِيَ بنت الْمُنْذر بن الزبير، وَأَسْمَاء هِيَ بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير حَدثنَا وَكِيع وَعَبدَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن امْرَأَة قَالَ: يَا رَسُول الله} أَقُول: إِن زَوجي أَعْطَانِي مَا لم يُعْط. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: المتشبع بِمَا لم يُعْط كلابس ثوبي زور، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) : عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: إِنَّمَا يرويهِ هَكَذَا معمر وَالْمبَارك بن فضَالة، وَالصَّحِيح: عَن فَاطِمَة عَن أَسمَاء. وَإِخْرَاج مُسلم حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة لَا يَصح، وَالصَّوَاب حَدِيث عَبدة ووكيع وَغَيرهمَا عَن هِشَام عَن فَاطِمَة عَن أَسمَاء. وَلما رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث معمر عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَ: هَذَا خطأ وَالصَّوَاب حَدِيث أَسمَاء. قلت: وَمُسلم أخرجه أَيْضا من حَدِيث هِشَام عَن فَاطِمَة عَن أَسمَاء، فَيحْتَمل أَن يكون كِلَاهُمَا صَحِيحَيْنِ عِنْده. ثمَّ إِن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين أَحدهمَا: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن هِشَام عَن حَمَّاد بن زيد عَن فَاطِمَة عَن أَسمَاء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْآخر: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن هِشَام بن عُرْوَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِن لي ضرَّة) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن لي جَارة، وَهِي الضرة أَيْضا. قَوْله: (جنَاح) أَي: إِثْم. قَوْله: (إِن تشبعت من زَوجي) أَي: قَالَت أَسمَاء الراوية: إِن تشبعت من زَوجي الزبير بن الْعَوام؟ كَذَا سميت الْمَرْأَة وضرتها وَبَعْضهمْ قَالَ: لم أَقف على تعْيين هَذِه الْمَرْأَة وَزوجهَا. قَوْله: (المتشبع) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المتشبع المتزين بِأَكْثَرَ مِمَّا عِنْده يتكثر بذلك ويتزين بِالْبَاطِلِ، كَالْمَرْأَةِ تكون لَهَا ضرَّة فتشبع عِنْدهَا بِمَا تدعيه من الحظوة عِنْد زَوجهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا عِنْده لَهَا تُرِيدُ بذلك غيظ صَاحبهَا وَإِدْخَال الْأَذَى عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرجل، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المتكثر بِمَا لَيْسَ عِنْده مَذْمُوم مثل من لبس ثوبي زور، وَقيل: هُوَ من يلبس قَمِيصًا وَاحِدًا ويصل بكميه كمين آخَرين فَيظْهر أَن عَلَيْهِ قميصين، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : المتشبه بالشبعان وَلَيْسَ بِهِ، واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها وَشبه بلابس ثوبي زور، أَي: ذِي زور، وَهُوَ الَّذِي يزوِّر على النَّاس بأنت يتزيا بزِي أهل الصّلاح رِيَاء، وأضاف الثَّوْبَيْنِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كَانَا ملبوسين لأَجله وَهُوَ المسوغ للإضافة، وَأَرَادَ أَن المتجلي كمن لبس ثَوْبَيْنِ من الزُّور، وَقد ارتدى بِأَحَدِهِمَا واتزر بِالْآخرِ. كَقَوْلِه:
(إِذا هُوَ بالمجد ارتدى وتأزّرا)
وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَعْنَاهُ الْمظهر للشبع وَهُوَ جَائِع كالمزور الْكَاذِب الملتبس بِالْبَاطِلِ، وَشبه الشِّبَع بِلبْس الثَّوْب بِجَامِع أَنَّهُمَا يغشيان الشَّخْص تَشْبِيها تَحْقِيقا أَو تخييليا، كَمَا قرر السكاكي فِي قَوْله تَعَالَى: {فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف} (النَّحْل: 211) قَالَ: وَفَائِدَة التَّشْبِيه الْمُبَالغَة إشعارا بِأَن الْإِزَار والرداء زور من رَأسه إِلَى قدمه أَو الْإِعْلَام بِأَن فِي التشبع حالتين مكروهتين: فقدان مَا تشبع بِهِ، وَإِظْهَار الْبَاطِل. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا متأول على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الثَّوْب مثل، وَمَعْنَاهُ: المتشبع بِمَا لم يُعْط صَاحب زور وَكذب، كَمَا يُقَال للرجل إِذا وصف بِالْبَرَاءَةِ من الْعُيُوب إِنَّه طَاهِر الثَّوْب نقي الجيب، وَنَحْوه من الْكَلَام، فالثوب فِي ذَلِك مثل، وَالْمرَاد بِهِ نَفسه وطهارتها. وَالثَّانِي: أَن يُرَاد بِهِ نفس الثَّوْب، قَالُوا: كَانَ فِي الْحَيّ رجل لَهُ حَبَّة حَسَنَة، فَإِذا احتاجوا إِلَى شَهَادَة الزُّور فَيشْهد لَهُم، فيُقبل لنبله وَحسن ثَوْبه، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ أَن الْمَرْأَة تلبس ثوب وَدِيعَة أَو عَارِية ليظن النَّاس أَنَّهُمَا لَهَا، فلباسها لَا يَدُوم وتفتضح بكذبها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّمَا كره ذَلِك لِأَنَّهَا تدخل(20/204)
بَين الْمَرْأَة الْأُخْرَى وَزوجهَا الْبغضَاء فَيصير كالسحر الَّذِي يفرق بَين الْمَرْء وزوجه. قَوْله: (بِمَا لم يُعْط) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة معمر: بِمَا لم يُعْطه، وَفِي التَّرْجَمَة: بِمَا لم ينل، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المتشبع بِمَا لَا يملك، وَالْكل مُتَقَارب فِي الْمَعْنى.
701 - (بابُ الغَيْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْغيرَة، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء. قَالَ صَاحب (الْمُحكم) : من غَار الرجل على امْرَأَته وَالْمَرْأَة على بَعْلهَا يغار غيرَة وغيرا وغارا وغيارا وَرجل غيران، وَالْجمع: غيارى وغيارى وَرجل غيور وَالْجمع غير بِضَم الْيَاء، وَمن قَرَأَ رسل قَالَ: غير، وَيُقَال: امْرَأَة غيرى وغيور وَالْجمع كالجمع، والمغيار شَدِيد الْغيرَة، وَفُلَان لَا يتَغَيَّر على أَهله أَي لَا يغار. وَقَالَ الْجَوْهَرِي نَحوه إلاَّ أَنه لم يقل فِي المصادر غيارا وَزَاد بعد قَوْله: وَرجل مغيار وَقوم مغايير، وَزَاد صَاحب (الْمَشَارِق) فِي اسْم الْفَاعِل مِنْهُ رجل غائر، وَقَالَ: معنى الْغيرَة تغير الْقلب وهيجان الْغَضَب بِسَبَب الْمُشَاركَة فِي الِاخْتِصَاص من أحد الزَّوْجَيْنِ بِالْآخرِ وتحريمه وذبه عَنهُ، وَقَالَ صَاحب (النِّهَايَة) الْغيرَة هِيَ الحمية والأنفة. وَقَالَ عِيَاض: الْغيرَة مُشْتَقَّة من تغير الْقلب وهيجان الْغَضَب بِسَبَب الْمُشَاركَة فِيمَا بِهِ الِاخْتِصَاص، وَأَشد مَا يكون ذَلِك بَين الزَّوْجَيْنِ، هَذَا مَحَله فِي حق الْآدَمِيّ، وَأما فِي حق الله تَعَالَى فَيَأْتِي عَن قريب فِي حَدِيث الْبَاب.
وَقَالَ ورَّادٌ عنِ المُغَيرَةِ: قَالَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ: لوْ رأيْتُ رجُلاً مَعَ امْرَأتِي لَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لأَنا أغْيَرُ مِنْهُ! وَالله أغْيَرُ مِنِّي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ووراد، بِفَتْح الْوَاو وَالرَّاء الْمُشَدّدَة وبالدال الْمُهْملَة: اسْم لمولى الْمُغيرَة بن شُعْبَة وكاتبه، وَسعد بن عبَادَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاب الْمُوَحدَة: ابْن دليم الخزرجي السَّاعِدِيّ نقيب بني سَاعِدَة قيل: شهد بَدْرًا وَنزل الشَّام فَأَقَامَ بحوران إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس عشرَة، وَقيل: قَبره بالمنيحة، فِرْيَة من قرى غوطة دمشق.
وَوصل البُخَارِيّ هَذَا الْمُعَلق الَّذِي ذكره هُنَا مُخْتَصرا فِي كتاب الْحُدُود: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن دَاوُد. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (غير مصفح) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَكسرهَا أَي: غير ضَارب بعرضه بل بحده، تَأْكِيدًا لبَيَان ضربه بِهِ لقَتله. قَالَ عِيَاض: فَمن فَتحه جعله وَصفا للسيف وَحَالا مِنْهُ، وَمن كَسره جعله وَصفا للضارب وَحَالا مِنْهُ. يُقَال: أصفحت بِالسَّيْفِ فَأَنا مصفح وَالسيف مصفح بِهِ إِذا ضربت بعرضه، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أصفحت بِالسَّيْفِ إِذا ضربت بعرضه، وَقَالَ ابْن التِّين: مصفح، بتَشْديد الْفَاء فِي سَائِر الْأُمَّهَات، وللسيف صفحتان وهما وجهاه العريضان، وَله حدان، فَالَّذِي يضْرب بِالْحَدِّ يقْصد الْقَتْل، وَالَّذِي يضرف بالصفح يقْصد التَّأْدِيب. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: غير مصفح عَنهُ، قَالَ بَعضهم: هَذِه يتَرَجَّح فِيهَا كسر الْفَاء وَيجوز الْفَتْح أَيْضا على الْبناء للْمَجْهُول. قلت: قَوْله: على الْبناء للْمَجْهُول غلط فَاحش، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: على الْبناء للْمَفْعُول، وَقد يفرق بَينهمَا من لَهُ أدنى مسكة من علم التصريف. قَوْله: (أتعجبون) ؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام يجوز أَن يكون على سَبِيل الاستخبار، وَيجوز أَن يكون على سَبِيل الانكار، يَعْنِي: لَا تعجبوا من غيرَة سعد وَأَنا أغير مِنْهُ، أَي من سعد، وَاللَّام فِي قَوْله: (لأَنا) للتَّأْكِيد، وأكده بِاللَّامِ وَبِالْجُمْلَةِ الإسمية. قَوْله: (وَالله أغير مني) قد ذكرنَا الْآن معنى غيرَة العَبْد، وَأما معنى غيرَة الله تَعَالَى فالزجر عَن الْفَوَاحِش وَالتَّحْرِيم لَهَا وَالْمَنْع مِنْهَا، لِأَن الغيور هُوَ الَّذِي يزْجر عَمَّا يغار عَلَيْهِ، وَقد بَين ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمن غيرته حرم الْفَوَاحِش، أَي: زجر عَنْهَا وَمنع مِنْهَا. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: غيرَة الله أَن لَا يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم الله عَلَيْهِ.
وَمعنى الحَدِيث سعد: أَنا أزْجر عَن الْمَحَارِم مِنْهُ، وَالله أزْجر مني وَاسْتدلَّ ابْن الْمَوَّاز من الْمَالِكِيَّة بِحَدِيث سعد هَذَا أَنه إِن وَقع ذَلِك ذهب دم الْمَقْتُول هدرا، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الْحُدُود. وَقيل: الْغيرَة محمودة ومذمومة، وَقد جَاءَت التَّفْرِقَة بَينهمَا فِي حَدِيث جَابر بن عتِيك وَعقبَة بن عَامر، فَحَدِيث جَابر بن عتبيك رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جَابر بن عتِيك الْأنْصَارِيّ عَن جَابر بن عتِيك: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن من الْغيرَة مَا يُحِبهُ الله، وَمِنْهَا مَا يبغضه(20/205)
الله، وَإِن من الْخُيَلَاء مَا يُحِبهُ الله وَمِنْهَا مَا ببغض الله، فَأَما الْغيرَة الَّتِي يُحِبهَا الله فالغيرة فِي الرِّيبَة، وَأما الْغيرَة الَّتِي يبغضها الله فالغيرة فِي غير الرِّيبَة. وَابْن جَابر بن عتِيك هَذَا قَالَ الْمزي فِي (التَّهْذِيب) لَعَلَّه عبد الرَّحْمَن؟ قَالَ شَيخنَا: لَيْسَ هُوَ عبد الرَّحْمَن، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو سُفْيَان بن جَابر بن عتِيك لم يسم، وَقد بَين ذَلِك ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَذكره فِي الثِّقَات، وَحَدِيث عقبَة بن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق حَدثنَا معمر عَن يحيى بن أبي كثير عَن زيد بن سَلام عَن عبد الله بن زيد الْأَزْرَق عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (غيرتان إِحْدَاهمَا يُحِبهَا الله عز وَجل وَالْأُخْرَى يبغضها الله عز وَجل: الْغيرَة فِي الرِّيبَة يُحِبهَا، والغيرة فِي غَيرهَا يبغضها الله ... .) الحَدِيث. وَقَالَ شَيخنَا: لَكِن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص، فَرب رجل شَدِيد التخيل فيظن مَا لَيْسَ بريبة رِيبَة، وَرب رجل متساهل فِي ذَلِك فَيحمل الرِّيبَة على محمل يحسن بِهِ ظَنّه.
0225 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ شقِيقٍ عنْ عبْدِ الله بن مَسْعُودٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا مِنْ أحَدٍ أغْيَرَ مِنَ الله مِنْ أجْلِ ذالِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَمَا أحَدٌ أحَبَّ إلَيْهِ المَدْحُ مِنَ الله.
)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَحَفْص هُوَ ابْن غياث وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وشقيق هُوَ ابْن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد بِهَذَا السَّنَد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عُثْمَان ب أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أبي كريب وَغَيره.
قَوْله: (مَا من أحد) كلمة: من زَائِدَة وزيادتها فِي النَّفْي لَا خلاف فِيهِ، وَالْخلاف فِي زيادتها فِي الْإِثْبَات. قَوْله: (أغير) أفعل التَّفْضِيل، وَقد مر معنى الْغيرَة فِي حق الله عز وَجل وَيجوز فِي أغير الرّفْع وَالنّصب بتاء على اللغتين الحجازية والتميمة فِي كلمة مَا قَوْله: (من أجل ذَلِك) أَي: من أجل أَن الله أغير من كل أحد (حرم الْفَوَاحِش) وَهُوَ جمع فَاحِشَة وَهِي كل خصْلَة قبيحة من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْفُحْش والفاحشة وَالْفَوَاحِش فِي الحَدِيث كل مَا يشْتَد قبحه من الذُّنُوب والمعاصي، وَكَثِيرًا مَا ترد الْفَاحِشَة بِمَعْنى الزِّنَا. قَوْله: (مَا أحد) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ اسْم: مَا وَقَوله: (أحب) بِالنّصب خَبَرهَا إِن جَعلتهَا حجازية، وترفعه على أَنه خبر لأحد إِن كَانَت تميمية. وَقَوله: (الْمَدْح) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل أحب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ مثل مَسْأَلَة الْكحل، ويروى بِالرَّفْع على إِلْغَاء عمل: مَا قيل: وَلَا يجوز أَن يرفع أحب على أَنه خبر للمدح أَو مُبْتَدأ والمدح خَبره، لِأَنَّك تكون حيئنذ تفرق بَين الصِّلَة والموصول بالْخبر لِأَن من الله، صلَة أحب، وَتَمَامه: فَلَا تفرق بَين تَمام الْمُبْتَدَأ وصلته بالْخبر الَّذِي هُوَ الْمَدْح وَحَقِيقَة قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا أحد أحب إِلَيْهِ الْمَدْح من الله، إِنَّه مصلحَة للعباد لأَنهم يثنون عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيثيبهم فينتفعون، وَالله سُبْحَانَهُ غَنِي عَن الْعَالمين لَا يَنْفَعهُ مدحهم وَلَا يضرّهُ تَركهم ذَلِك.
وَفِيه: تَنْبِيه على فضل الثَّنَاء عَلَيْهِ وتسبيحه وتهليله وتحميده وتكبيره وَسَائِر الْأَذْكَار.
1225 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَة عنْ مالِكٍ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّد {مَا أحَدٌ أغْيَرَ مِنَ الله أنْ يَرَى عبْدَهُ أوْ أمَّتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ} لوْ تَعْلَمونَ مَا أعْلَمْ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا حَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث الْكُسُوف.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي النعوت عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
قَوْله: (أَو أمته تَزني) ، هَكَذَا وَقع فِي صَلَاة الْكُسُوف فِي: بَاب الصَّدَقَة فِي الْكُسُوف: (يَا أمة مُحَمَّد! وَالله مَا من أحد أغير من الله أَن يَزْنِي عَبده أَو تَزني أمته) قَالَ بَعضهم: الَّذِي يظْهر أَنه من سبق الْقَلَم هُنَا، أَو لَعَلَّ لَفظه تَزني سَقَطت هُنَا غَلطا من الأَصْل فأخرها النَّاسِخ عَن محلهَا. قلت: لَا يحْتَاج هُنَا إِلَى نِسْبَة هَذَا إِلَى الْغَلَط وَتصرف الناسح بِغَيْر وَجه فَإِن قَوْله: (تَزني) يجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث، فالتذكير بِالنّظرِ إِلَى أَنه خبر عَن العَبْد فِي الأَصْل، والتأنيث بِالنّظرِ إِلَى أَنه خبر عَن الْأمة. قَوْله: (مَا أعلم) أَي: من شُؤْم الزِّنَا ووخامة عاقبته، أَو مَا أعلم من أَحْوَال الْآخِرَة وأهوالها.(20/206)
2225 - حدّثنا مُوسى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا هَمَّامٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ أنَّ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عنُ أُمَّةِ أسْماءَ أنَّها سَمِعَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: لاَ شَيْءَ أغْيَرُ مِنَ الله؛ وعنْ يَحْيَى أنَّ أَبَا سلَمَةَ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الْبَصْرِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَسْمَاء هِيَ بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي قَالَ: حَدثنَا بشر بن الْمفضل عَن همام عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَا شَيْء أغير من الله) قَوْله: (وَعَن يحيى) هُوَ مَعْطُوف على السَّنَد الَّذِي قبله تَقْدِيره: حَدثنَا مُوسَى عَن همام عَن يحيى أَن أَبَا سَلمَة حَدثهُ، وَأَن أَبَا هُرَيْرَة حَدثهُ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسْبق هُنَا الْمَتْن. وَأخرجه مُسلم: حَدثنَا عمر والناقد عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عَلَيْهِ عَن حجاج بن أبي عُثْمَان، قَالَ: قَالَ يحيى: وحَدثني أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله يغار وَإِن الْمُؤمن يغار، وغيرة الله أَن يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم الله عَلَيْهِ. قَوْله: (لَا شَيْء أغير من الله) يقْرَأ بِرَفْع الرَّاء ونصبها، فَمن نصب جعله نعتا لشَيْء على إعرابه لِأَن شَيْئا مَنْصُوب، وَمن رفع جعله نعتا لشَيْء قبل دُخُول لَا عَلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: {مالكم من إِلَه غَيره} (الْأَعْرَاف: 95 56) وَيجوز رفع شَيْء مثل: {لَا لَغْو فِيهِ} (الطّور: 32) .
3225 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا شَيْبَانُ عنْ يَحْيَى عنْ أبي سلَمَةَ أنَّهُ سَمعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنّهُ قَالَ: إنَّ الله يَغارُ وغَيْرةُ الله أنْ يأتِيَ المُؤْمِنَ مَا حَرَّمَ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان هُوَ النَّحْوِيّ.
قَوْله: (أَن يَأْتِي) قَالَ الغساني: فِي جَمِيع النّسخ: أَن لَا يَأْتِي، وَالصَّوَاب أَن يَأْتِي. قَالَ الْكرْمَانِي: لَا شكّ أَنه لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن غيرَة الله هُوَ نفس الْإِتْيَان أَو عَدمه، فَلَا بُد من تَقْدِير نَحْو أَن لَا يَأْتِي أَي: غيرَة الله على النَّهْي عَن الْإِتْيَان، أَو على عدم إتْيَان الْمُؤمن بِهِ، وَهُوَ الْمُوَافق لما تقدم حَيْثُ قَالَ: وَمن ذَلِك حرم الْفَوَاحِش، فَيكون مَا فِي النّسخ صَوَابا، ثمَّ نقُول: إِن كَانَ الْمَعْنى لَا يَصح مَعَ لَا فَذَلِك قرينَة لكَونهَا زَائِدَة نَحْو: {مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} (الْأَعْرَاف: 21) قَالَ الطَّيِّبِيّ: هُوَ مُبْتَدأ وَخبر بِتَقْدِير اللَّام أَي: غيرَة الله ثَابِتَة لأجل أَن لَا يَأْتِي.
4225 - حدّثنا مَحْمُودٌ حَدثنَا أبُو أسامَةَ حَدثنَا هشامٌ قَالَ: أخْبَرَني أبي عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا، قالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ ومالُه فِي الأرْضِ مِنْ مالٍ ولاَ مَمْلُوكٍ وَلَا شيْءٍ غَيْرَ ناضِجٍ وغيْرَ فَرَسِهِ، فَكنْت أعْلِفُ فَرَسَهُ وأسْتَقِي المَاءَ وأخْرِزُ غَرْبَهُ وأعْجِنُ ولَمْ أكُنْ أُحْسِنُ أخْبِزُ، وكانَ يخْبِزُ جارَاتٌ لِي مِنَ الأنْصَارِ، وكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وكُنْتُ أنْقُلُ النَّوى مِنْ أرْضِ الزُّبَيْرِ الّتي أقْطَعَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على رأسِي، وهْيَ مِنِّي علَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْما والنَّوَى علَى رَأسِي فَلَقِيتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ فَدَعانِي ثُمَّ قَالَ: إخْ إخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فاسْتَحْيَيْتُ أنْ أسِيرَ مَعَ الرِّجالِ، وذَكَرْتُ الزُّبَيْر وغَيْرَتَهُ وكانَ أغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزبَيْرَ فَقْلُتُ: لَقِيَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعلَى رأسِي النَّوَى ومَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أصْحابِهِ فأناحَ لأرْكَبَ فاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ: وَالله لَحَمْلُكِ النَّوَى كانَ أشَدَّ عَليَّ مِنْ ركُوبِكِ مَعَهُ. قالَتْ: حتَّى أرسَلَ إلَيّ(20/207)
َ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذالِكَ بِخادِمٍ يَكْفِيني سِياسَةَ الفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أعْتَقَنِي.
(انْظُر الحَدِيث 1513)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَذكرت الزبير وغيرته) وَفِي قَوْله: (وَعرفت غيرتك) .
ومحمود هُوَ ابْن غيلَان بالغين الْمُعْجَمَة الْمروزِي وَأَبُو أُسَامَة هُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْخمس مُقْتَصرا على قصَّة النَّوَى. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الاسْتِئْذَان عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المَخْزُومِي.
قَوْله: (الزبير) هُوَ ابْن الْعَوام. قَوْله: (من مَال) وَالْمَال فِي الأَصْل مَا يملك من الذَّهَب وَالْفِضَّة. ثمَّ أطلق على كل مَا يقتنى وَيملك من الْأَعْيَان، وَأكْثر مَا يُطلق المَال عِنْد الْعَرَب على الْإِبِل لِأَنَّهَا كَانَت أَكثر أَمْوَالهم، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْمَالِ هُنَا الْإِبِل لِأَنَّهَا أعز أَمْوَال الْعَرَب. قَوْله: (وَلَا مَمْلُوك) عطف خَاص على عَام، وَالْمرَاد بِهِ العبيد وَالْإِمَاء. قَوْله: (وَلَا شَيْء) عطف عَام على خَاص وَهُوَ يَشْمَل كل مَا يتَمَلَّك ويتمول، لَكِن أَرَادَت إِخْرَاج مَا لَا بُد مِنْهُ من مسكن وملبس ومطعم وَنَحْوهَا من الضروريات، وَلِهَذَا استثنت مِنْهُ الناضح وَهُوَ الْجمل الَّذِي يَسْتَقِي عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الأَرْض الَّتِي أقطع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من أعز الْأَمْوَال وأفخرها. قلت: لم تكن مَمْلُوكَة لَهُ وَلَا يملك رقبَتهَا، وَإِنَّمَا ملك مَنْفَعَتهَا فَلذَلِك لم تستثنها أَسمَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَكنت أعلف فرسه) وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة أبي كريب عَن أبي أُسَامَة: وأكفيه مؤونته وأسوسه وأدق النَّوَى وأرضخه وأعلفه، وَلمُسلم أَيْضا من طَرِيق ابْن أبي مليكَة عَن أَسمَاء: كنت أخدم الزبير خدمَة الْبَيْت، وَكَانَ لَهُ فرس وَكنت أسوسه فَلم يكن فِي خدمته شَيْء أَشد عَليّ من سياسة الْفرس، كنت أحتش لَهُ فأقوم عَلَيْهِ. قَوْله: (وأستقي المَاء) وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: وأسقي، بِغَيْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ على حذف الْمَفْعُول أَي: وأسقي الْفرس أَو الناضح المَاء وأستقي الَّذِي هُوَ من بَاب الافتعال أشمل وَأكْثر فَائِدَة. قَوْله: (وأخرز) بخاء مُعْجمَة وَرَاء ثمَّ زَاي من الخرز وَهُوَ الْخياطَة فِي الْجُلُود وَنَحْوهَا. قَوْله: (غربه) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة وَهُوَ الْوَلَد الْكَبِير. قَوْله: (وَلم أكن أحسن) بِضَم الْهمزَة و (أخبز) بِفَتْح الْهمزَة وَالْمعْنَى: وَلم أحسن أَن أخبز الْخبز قَوْله: (وَكَانَ تخبز جارات لي) وَهُوَ جمع جَارة، فِي رِوَايَة مُسلم: وَكَانَ يخبز لي. قَوْله: (وَكن) أَي: الجارات (نسْوَة صدق) بِالْإِضَافَة وَالصّفة، والصدق بِمَعْنى الصّلاح والجودة أَرَادَت كن نسَاء صالحات فِي حسن الْعشْرَة وَالْوَفَاء بالعهد ورعاية حق الْجوَار. قَوْله: (وَكنت أنقل النَّوَى من أَرض الزبير) وَكَانَت هَذِه الأَرْض مِمَّا أَفَاء الله تَعَالَى على رَسُوله من أَمْوَال بني النَّضِير وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أقطعه إِيَّاهَا وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَائِل قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة. قَوْله: (وَهِي مني) أَي: الأَرْض الْمَذْكُورَة من مَكَان سكناي (على ثُلثي فَرسَخ) والفرسخ ثَلَاثَة أَمْيَال كل ميل أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة. قَوْله: (والنوى) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (إخ إخ) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهِي كلمة تقال عِنْد إناخة الْبَعِير، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: نخ، مُشَدّدَة ومخففة صَوت إناخته، وهخ واخ مثله. قَوْله: (ليحملني خَلفه) أَرَادَت بِهِ الارتداف، وَإِنَّمَا عرض عَلَيْهَا الرّكُوب لِأَنَّهَا ذَات محرم مِنْهُ، لِأَن عَائِشَة عِنْده، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي أُخْتهَا أَو كَانَ ذَلِك قبل الْحجاب كَمَا فعل بِأم صبية الجهنية. قَوْله: (فَاسْتَحْيَيْت) ، بياءين على الأَصْل، لِأَن الأَصْل حَيّ وَفِي لُغَة: استحيت، بياء وَاحِدَة، يُقَال: اسْتَحى واستحيى. قَوْله: (قَالَ: وَالله لحملك النَّوَى) أَي: قَالَ الزبير لأسماء: وَالله لحملك النَّوَى، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وحملك مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، والنوى مَفْعُوله (كَانَ أَشد عَليّ) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي: قَوْله: (لحملك) فَإِنَّهُ مُبْتَدأ. قَوْله: (كَانَ أَشد عليَّ من ركوبك مَعَه) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: كَانَ أَشد عَلَيْك وَلَيْسَ هَذِه اللَّفْظَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم، وَوجه قَول الزبير هَذَا أَنه لَا عَار فِي الرّكُوب مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف حمل النَّوَى فَإِنَّهُ يتَوَهَّم مِنْهُ النَّاس خسة النَّفس ودناءة الهمة، وَقلة التَّمْيِيز، وَأما عدم الْعَار فِي الرّكُوب مَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا ذكرنَا عَن قريب، وَأما وَجه صبره على ذَلِك وسكوت زَوجهَا وأبيها على ذَلِك فلكونها مشغولين بِالْجِهَادِ وَغَيره، وَكَانَا لَا يتفرغان للْقِيَام بِأُمُور الْبَيْت ولضيق مَا بأيديهما عَن اسْتِخْدَام من يقوم بذلك. قَوْله: (حَتَّى أرسل إِلَيّ) بتَشْديد الْيَاء، (وَأَبُو بكر) فَاعل أرسل. قَوْله: (بخادم يَكْفِينِي) إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ أبي مليكَة عِنْد مُسلم: جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبي فَأعْطَاهُ خَادِمًا، والتوفيق بَينهمَا بِأَن السَّبي لما جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى أَبَا بكر مِنْهُ خَادِمًا ليرسله إِلَى بنته أَسمَاء، فَصدق(20/208)
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْمُعْطِي وَلَكِن وصل إِلَيْهَا بِوَاسِطَة. فَافْهَم. وَاسْتدلَّ قوم بِهَذِهِ الْقِصَّة، مِنْهُم أَبُو ثَوْر، على أَن على الْمَرْأَة الْقيام بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ زَوجهَا من الْخدمَة وَالْجُمْهُور أجابوا عَن هَذَا بِأَنَّهَا كَانَت متطوعة بذلك وَلم يكن لَازِما.
5225 - حدّثنا عَلِيٌّ حَدثنَا ابنُ عُلَيَّةَ عنْ حُمِيْدٍ عنْ أنَسٍ قَالَ: كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْدَ بَعْضِ نِسائِهِ، فأرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بصَحْفَةٍ فِيها طَعامٌ، فَضَرَبتِ الّتي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَيْتِها يَدَ الخادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةِ فانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِلَقَ الصَّحْفَة ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيها الطَّعَامَ الَّذِي كانَ فِي الصَّحْفَةِ، ويَقُولُ: غارَتْ أُمُّكُمْ، ثُمَّ حَبَسَ الخادِمَ حتَّى أُتيَ بصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتي هُوَ فِي بَيْتِها، فَدفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُها وأمَّكَ المَكْسُورَة فِي بَيْتِ الّتِي كُسِرَتْ فِيهِ.
(انْظُر الحَدِيث 1842)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (غارت أمكُم) وَعلي هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَابْن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْأَسدي الْبَصْرِيّ، وَعَلِيهِ اسْم أمة كَانَت مولاة لبني أَسد، وَحميد هُوَ ابْن أبي حميد الطَّوِيل أَبُو عُبَيْدَة الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (عِنْد بعض نِسَائِهِ) هِيَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ) هِيَ زَيْنَب بنت جحش، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هِيَ صَفِيَّة، وَقيل؛ زَيْنَب، وَقيل: أم سَلمَة. قَوْله: (بصحفة) هِيَ إِنَاء كالقصعة المبسوطة وَنَحْوهَا وَيجمع على صحاف. قَوْله: (فلق الصحفة) بِكَسْر الْفَاء وَفتح اللَّام جمع فلقَة وَهِي الْقطعَة. قَوْله: (غارت أمكُم) الْخطاب للحاضرين وَالْمرَاد بِالْأُمِّ هِيَ الضاربة. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : غارت أمكُم يُرِيد سارة لما غارت على هَاجر حَتَّى أخرج إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، طفْلا مَعَ أمه إِلَى وَاد غير ذِي زرع. ثمَّ قَالَ: أَو يُرِيد كاسرة الصحفة وَهُوَ الْأَظْهر. قَوْله: (فَدفع الصحفة الصَّحِيحَة) إِلَى آخِره. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقَصعَة لَيْسَ من الْمِثْلِيَّات بل هِيَ من المتقومات. ثمَّ أجَاب بقوله: كَانَت القصعتان لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلهُ التَّصَرُّف بِمَا شَاءَ فيهمَا.
قَالُوا: وَفِي الحَدِيث: إِشَارَة إِلَى عدم مُؤَاخذَة الْغيرَة بِمَا يصدر مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالة يكون عقلهَا محجوبا بِشدَّة الْغَضَب الَّذِي أثارته الْغيرَة، وَقد أخرج أَبُو يعلى بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مَرْفُوعا أَن الْغيرَة لَا تبصر أَسْفَل الْوَادي من أَعْلَاهُ. وَعَن ابْن مَسْعُود رَفعه: إِن الله كتب الْغيرَة على النِّسَاء، فَمن صَبر مِنْهُنَّ كَانَ لَهُ أجر شَهِيد، رَوَاهُ الْبَزَّار بِرِجَال ثِقَات.
6225 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّميُّ حَدثنَا معْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنكَدِرِ عنْ جابِرِ بنِ عبْد الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: دَخَلْتُ الجَنَّة أَو: أتَيْتُ الجَنةَ فأبْصَرْتُ قَصْرا. فَقُلْتُ: لِمَنْ هاذَا؟ قالُوا: لِعُمَرَ بنِ الخَطَّاب، فأرَدْتُ أَن أدْخُلَهُ فلَمْ يَمْنَعَنِي إلاّ عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: يَا رسولَ الله! بِأبي أنْتَ وأُمِّي يَا نَبِيَّ الله أوَ علَيْكَ أغَارُ.
(انْظُر الحَدِيث 9763)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد بن أبي بكر الْمقدمِي، بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من التَّقْدِيم، ومعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ.
والْحَدِيث معضى مطولا فِي مَنَاقِب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَمضى شَرحه هُنَاكَ.
قَوْله: (بِأبي) ، الْبَاء مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره أَنْت مفدى بِأبي وَأمي.
وَفِيه: منقبة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: أَن الْجنَّة مخلوقة.
7225 - حدّثنا عبْدَانُ أخبرنَا عبْدُ الله عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبرنِي ابنُ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْما نَحْنُ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جُلُوسٌ فَقَالَ رَسُول الله(20/209)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَمَا أَنا نائِمٌ رَأيْتَنِي فِي الجَنَّة فإذَا امْرَأةٌ تَتَوَضّأُ إِلَى جانِبِ قِصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قالُوا: هَذَا لِعُمَرَ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلّيْتُ مْدّبِرا فَبَكَى عُمرَ وهْوَ فِي المجْلِسِ. ثُمَّ قَالَ: أوَ عَلَيْك يَا رسولَ الله أغارُ؟
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.
والْحَدِيث مضى فِي بَاب مَا جَاءَ فِي صفة الْجنَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب إِلَى آخر. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس إِلَى آخِره نَحوه.
قَوْله: (جُلُوس) جمع جَالس. قَوْله: (رَأَيْتنِي) أَي: رَأَيْت نَفسِي قَوْله: (فَإِذا) كلمة مفاجأة قَوْله: (تتوضأ) قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا من الْوضُوء وَإِمَّا من الوضاء. قلت: الْأَوْجه أَن يكون من الْوَضَاءَة على مَا لَا يخفى، وَذكر ابْن قُتَيْبَة فِي قَوْله: (فَإِذا امْرَأَة تتوضأ إِلَى جَانب قصر) فَإِذا امْرَأَة شوهاء إِلَى جَانب قصر من حَدِيث ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب، وَفَسرهُ، وَقَالَ: الشوهاء الْحَسَنَة الرائعة، حَدثنِي بذلك أَبُو حَاتِم عَن أبي عُبَيْدَة، قَالَ: وَيُقَال: فرس شوهاء، وَلَا يُقَال: فرس أشوه، وَقَالَ فِي (الْمطَالع) : رجل أشوه وَامْرَأَة شوهاء، يَعْنِي قبيحة قَالَ: وَيُقَال أَيْضا: الْحَسَنَة، وَهُوَ من الأضداد. والشوهاء أَيْضا الواسعة الْفَم، وَأَيْضًا الصَّغِيرَة الْفَم. وَقَالَ ابْن بطال: يشبه أَن تكون هَذِه الرِّوَايَة هِيَ الصَّوَاب، وتتوضأ تَصْحِيف لِأَن الْحور طاهرات فَلَا وضوء عَلَيْهِنَّ، فَلذَلِك كل من دخل الْجنَّة لَا يلْزمه طَهَارَة وَلَا عبَادَة، وحروف شوهاء يُمكن تصحيفها بحروف تتوضأ، لقرب صور بَعْضهَا من بعض. وَقَالَ ابْن التِّين: تتوضأ، قيل: إِنَّهَا تَصْحِيف لِأَن الْجنَّة لَا تَكْلِيف فِيهَا، وَفِيمَا قَالَه ابْن بطال نظر لِأَن أحدا مَا ادّعى أَن عَلَيْهِنَّ الْوضُوء، وَمن ادّعى أَن كل من دخل الْجنَّة يلْزمه طَهَارَة أَو عبَادَة فَلم لَا يجوز أَن يصدر عَن أحد من أهل الْجنَّة عبَادَة بِاخْتِيَارِهِ مَا شَاءَ من أَنْوَاع الْعِبَادَة. قَالَ عز وَجل: {وَلَكِن فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم} (فصلت: 13) وَيرد كَلَام ابْن التِّين أَيْضا بِمَا ذكراناه.
801 - (بابُ غَيْرَةِ النِّساءِ ووَجْدِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غيرَة النِّسَاء، وَقد مر تَفْسِيرهَا. قَوْله: (ووجدهن) بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْجِيم قَالَ الْكرْمَانِي: أَي غضبهن وحزنهن، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وجد عَلَيْهِ فِي الْغَصْب موجدة، وَوجد فِي الْحزن وجدا بِالْفَتْح، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: وجدت بفلانة إِذا أحببتها حبا شَدِيدا، وَلم يبين حكم الْبَاب لاخْتِلَاف ذَلِك بختلاف الْأَحْوَال والأشخاص.
157 - (حَدثنَا عبيد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي لأعْلم إِذا كنت عني راضية وَإِذا كنت عَليّ غَضبى قَالَت فَقلت من أَيْن تعرف ذَلِك فَقَالَ أما إِذا كنت عني راضية فَإنَّك تَقُولِينَ لَا وَرب مُحَمَّد وَإِذا كنت عَليّ غَضبى قلت لَا وَرب إِبْرَاهِيم قَالَت قلت أجل وَالله يَا رَسُول الله مَا أَهجر إِلَّا اسْمك) مطابقته للشطر الثَّانِي من التَّرْجَمَة وَعبيد بن إِسْمَاعِيل الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي واسْمه فِي الأَصْل عبد الله وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أُسَامَة يروي عَن هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فضل عَائِشَة عَن أبي كريب عَن أُسَامَة قَوْله حَدثنَا عبيد وَفِي رِوَايَة أبي ذَر حَدثنِي بِالْإِفْرَادِ قَوْله إِنِّي لأعْلم إِلَى آخِره فِيهِ أَنه يعلم أَن الْمَرْأَة هَل هِيَ راضية على زَوجهَا أَو غَضبى عَلَيْهَا بِحَالِهَا من فعلهَا وَقَوْلها قَوْله وَرب إِبْرَاهِيم إِنَّمَا ذكرت إِبْرَاهِيم دون غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلِأَنَّهُ أولى النَّاس بِهِ كَمَا نَص عَلَيْهِ الْقُرْآن وَفِيه دلَالَة على فطنة عَائِشَة وَقُوَّة ذكائها قَوْله " أجل " أَي نعم قَوْله مَا أَهجر إِلَّا اسْمك قَالَ الطَّيِّبِيّ رَحمَه الله هَذَا الْحصْر فِي غَايَة من اللطف لِأَنَّهَا أخْبرت إِذا كَانَت فِي غَايَة الْغَضَب الَّذِي يسلب الْعَاقِل اخْتِيَاره لَا يغيرها عَن كَمَال الْمحبَّة(20/210)
المستغرقة ظَاهرهَا وباطنها الممتزجة بروحها وَإِنَّمَا عبرت عَن التّرْك بالهجران لتدل بِهِ على أَنَّهَا تتألم من هَذَا التّرْك الَّذِي لَا اخْتِيَار لَهَا فِيهِ قَالَ الشَّاعِر
(إِنِّي لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأميل)
وَقَالَ الْمُهلب قَوْلهَا مَا أَهجر إِلَّا اسْمك يدل على أَن الِاسْم من المخلوقين غير الْمُسَمّى وَلَو كَانَ عين الْمُسَمّى وهجرت اسْمه لهجرته بِعَيْنِه وَيدل على ذَلِك أَن من قَالَ أكلت اسْم الْعَسَل لَا يفهم مِنْهُ أَنه أكل الْعَسَل وَإِذا قلت لقِيت اسْم زيد لَا يدل على أَنه لَقِي زيدا وَإِنَّمَا الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى فِي الله عز وَجل وَحده لَا فِيمَا سواهُ من المخلوقين لمباينته عز وَجل وأسمائه وَصِفَاته حكم أَسمَاء المخلوقين وصفاتهم انْتهى وَالتَّحْقِيق فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن قَوْلهم الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى على معَان ثَلَاثَة. الأول مَا يجْرِي مجْرى الْمجَاز وَالثَّانِي مَا يجْرِي مجْرى الْحَقِيقَة. وَالثَّالِث مَا يجْرِي مجْرى الْمَعْنى فَالْأول نَحْو قَوْلك رَأَيْت جملا يتَصَوَّر من هَذَا الِاسْم فِي نفس السَّامع مَا يتَصَوَّر من الْمُسَمّى الْوَاقِع تَحْتَهُ لَو شَاهده فَلَمَّا نَاب الِاسْم من هَذَا الْوَجْه مناب الْمُسَمّى فِي التَّصَوُّر وَكَانَ التَّصَوُّر فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا شَيْئا وَاحِدًا صَحَّ أَن يُقَال أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى على ضرب من التَّأْوِيل وَإِن كُنَّا لَا نشك فِي أَن الْعبارَة غير الْمعبر عَنهُ وَالثَّانِي أَكثر مَا يتَبَيَّن فِي الْأَسْمَاء الَّتِي تشتق للمسمى من معَان مَوْجُودَة فِيهِ قَائِمَة بِهِ كَقَوْلِنَا لمن وجدت مِنْهُ الْحَيَاة حَيّ وَلمن وجدت مِنْهُ الْحَرَكَة متحرك فالاسم فِي هَذَا النَّوْع لَازم للمسمى يرْتَفع بارتفاعه وَيُوجد بِوُجُودِهِ الثَّالِث الْعَرَب تذْهب بِالِاسْمِ إِلَى الْمَعْنى الْوَاقِع تَحت التَّسْمِيَة فَيَقُولُونَ هَذَا مُسَمّى زيد أَي اسْم هَذَا الْمُسَمّى بِهَذِهِ اللَّفْظَة الَّتِي هِيَ الزَّاي وَالْيَاء وَالدَّال وَيَقُولُونَ فِي الْمَعْنى هَذَا اسْم زيد فيجعلون الِاسْم والمسمى فِي هَذَا الْبَاب مترادفين على الْمَعْنى الْوَاقِع تَحت التَّسْمِيَة كَمَا جعلُوا الِاسْم وَالتَّسْمِيَة مترادفين على الْعبارَة
9225 - حدّثني أحْمَدُ بنُ أبي رَجَاء حَدثنَا النَّضْرُ عنْ هِشامٍ، قَالَ: أَخْبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أَنَّهَا قالَتْ: مَا غرْتُ علَى امْرَأةٍ لِرسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَما غِرْتُ علَى خدِيجَة لِكَثْرَةُ ذِكْرِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاها وثَنائِهِ عَلَيْها، وقَدْ أُوحِيَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُبَشِّرَها بِبَيْتٍ لَها فِي الجنّةِ مِنْ قَصَبٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن أبي رَجَاء ضد الْخَوْف وَاسم أبي رَجَاء عبد الله بن أَيُّوب الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، وَالنضْر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: هُوَ ابْن شُمَيْل، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
والْحَدِيث قد مر بطرق كَثِيرَة فِي: بَاب تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَدِيجَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (من قصب) وَهُوَ أنابيب من جَوْهَر.
901 - (بابُ ذَبِّ الرَّجُلِ عنِ ابْنَتِهِ فِي الغَيْرَةِ والإنْصاف)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذب الرجل بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، أَي: دَفعه على ابْنَته الْغيرَة، وَفِي بَيَان الانصاف لَهَا، والإنصاف من أنصف إِذا عدل، يُقَال: أنصفه من نَفسه وانتصفت أَنا مِنْهُ وتناصفوا أَي: أنصف بَعضهم بَعْضًا من نَفسه.
0325 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا الليْثُ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ، وهْوَ عَلى المِنْبَر: إنَّ بَنِي هِشامِ بنِ المُغَيْرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ علِيَّ بنَ أبي طالِبٍ، فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ إلاّ أنْ يُرِيدَ ابنْ أبِي طالِبٍ أنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي ويَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أرَابها ويؤذِيني مَا آذَاها.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِخْبَار عَن ذب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ابْنَته فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي الْغيرَة والإنصاف لَهَا.
وَابْن أبي مليكَة وَهُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة اسْم أبي مليكَة زُهَيْر بن عبد الله التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن الزبير، والمسور كسر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْخَاء(20/211)
الْمُعْجَمَة ابْن نَوْفَل الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي مَنَاقِب فَاطِمَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَسَيَجِيءُ فِي الطَّلَاق أَيْضا. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة أَيْضا وَهنا كَذَا رَوَاهُ اللَّيْث وَتَابعه عَمْرو بن دِينَار وَغير وَاحِد وَخَالفهُم أَيُّوب فَقَالَ: عَن ابْن أبي مليكَة عَن عبد الله بن الزبير أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن، وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ، ثمَّ قَالَ: يحْتَمل أَن يككون ابْن أبي مليكَة حمله عَنْهُمَا.
قَوْله: (وَهُوَ على الْمِنْبَر) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله: (إِن بني هِشَام) ، وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: هَاشم بن الْمُغيرَة، وَالصَّوَاب: هِشَام. لِأَنَّهُ جد المخطوبة. وَبَنُو هِشَام هم أعماهم بنت أبي جهل، لِأَنَّهُ أَبُو الحكم عَمْرو بن هِشَام بن الْمُغيرَة، وَقد أسلم أَخَوَاهُ الْحَارِث بن هِشَام وَسَلَمَة بن هِشَام عَام الْفَتْح وَحسن إسلامهما، وَمِمَّنْ يدْخل فِي إِطْلَاق بني هِشَام بن الْمُغيرَة عِكْرِمَة بن أبي جهل بني هِشَام جد المخطوبة، وَقد أسلم أَيْضا وَحسن إِسْلَامه. قَوْله: (اسْتَأْذنُوا) ، فِي رِوَايَة الْكشميهني: اسْتَأْذنُوا فِي أَن ينكحوا ابنتهم عَليّ بن أبي طَالب، وَجَاء أَن عليا رَضِي الله عَنهُ اسْتَأْذن بِنَفسِهِ على مَا أخرجه الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ صَحِيح إِلَى سُوَيْد بن غَفلَة، قَالَ: خطب عَليّ بنت أبي جهل إِلَى عَمها الْحَارِث بن هِشَام، فَاسْتَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: عَن حسبها تَسْأَلنِي؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِن أتأمرني بهَا، قَالَ: لَا، فَاطِمَة بضعَة مني وَلَا أَحسب إلاَّ أَنَّهَا تحزن أَو تجزع. فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا آتِي شَيْئا تكرههُ. وَاسم المخطوبة جويرة أَو العوراء أَو جميلَة. قَوْله: (لَا آذن) ، ذكر ثَلَاثَة مَرَّات تَأْكِيدًا. قَوْله: (إلاَّ أَن يُرِيد ابْن أبي طَالب) هُوَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَأَنَّهُ كره ذَلِك من عَليّ، فَلذَلِك لم يقل عَليّ بن أبي طَالب. وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ أَيْضا: وَإِنِّي لست أحرم أحرم حَلَالا وَلَا أحلل حَرَامًا، وَلَكِن وَالله لَا تَجْتَمِع بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبنت عَدو الله أبدا. وَفِي رِوَايَة مُسلم مَكَانا وَاحِدًا أبدا، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عِنْد رجل وَاحِد. قَوْله: (بضعَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة أَي: قِطْعَة، وَوَقع فِي رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة مُضْغَة، بِضَم الْمِيم وبالغين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (يريبني مَا أرابها) بِضَم الْيَاء ن أراب يريب، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: يرئبني من رأب ثلاثي، يُقَال: أرأبني فلَان إِذا رأى مني مَا يكرههُ، وَهَذَا لُغَة هُذَيْل أَعنِي: بِزِيَادَة الْألف فِي أول ماضيه، وَزَاد فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: وَأَنا أَتَخَوَّف أَن يفتن فِي دينهَا يَعْنِي أَنَّهَا لَا تصبر على الْغيرَة فَيَقَع مِنْهَا فِي حق زَوجهَا فِي حَال الْغَضَب مَا لَا يَلِيق بِحَالِهَا فِي الدّين، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: وَأَنا أكره أَن يسوءها أَي: تَزْوِيج غَيرهَا عَلَيْهَا. قَوْله: (وَيُؤْذِينِي مَا أذاها) فِي رِوَايَة أبي حَنْظَلَة: (فَمن آذاها فقد آذَانِي) ، وَفِي حَدِيث عبد الله بن الزبير: يُؤْذِينِي مَا آذاها وينصبني مَا أنصبها، من النَّصب بنُون وصاد مُهْملَة وباء مُوَحدَة وَهُوَ التَّعَب وَالْمَشَقَّة.
وَفِيه: تَحْرِيم أدنى أَذَى من يتَأَذَّى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتأذيه. وَفِيه: بَقَاء الْعَار الْحَاصِل للآباء فِي أَعْقَابهم لقَوْله: بنت عَدو الله. وَفِيه: إكرام من ينتسب إِلَى الْخَيْر أَو الشّرف أَو الدّيانَة.
011 - (بابٌ يَقِلُّ الرِّجالُ ويَكْثُرُ النِّساءُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: يقل الرِّجَال وَيكثر النِّسَاء، يَعْنِي: فِي آخر الزَّمَان.
وَقَالَ أبُو مُوسَى عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وتَرَى الرَّجُلَ الوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلّةِ الرِّجالِ وكَثْرَةِ النِّساءِ.
أَبُو مُوسَى عبد الله قيس الْأَشْعَرِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق مضى مَوْصُولا فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الصَّدَقَة قبل الرَّد. قَوْله: (أَرْبَعُونَ امْرَأَة) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: أَرْبَعُونَ نسْوَة، وَهُوَ خلاف الْقيَاس. قَوْله: (يلذن) من لَاذَ يلوذ لوذا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة إِذا التجأ بِهِ وانضم واستغاث، وَذَلِكَ إِمَّا لكونهن نِسَاءَهُ وسرايره، وَقيل: من الْبَنَات وَالْأَخَوَات وشبههن من الْقرَابَات، وَتَكون قلَّة الرِّجَال من اشتداد الْفِتَن وترادف المحن فيقل الرِّجَال.
1325 - حدّثنا حَفْصُ بنْ عُمَرَ الحَوْضِيُّ حَدثنَا هِشامٌ عنْ قَتادَةَ عَن أنَسٍ، ري الله عَنهُ، قَالَ: ل أُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثا سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أحَدٌ غيْرِي، مِعْتُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: إنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرفَعَ العِلْمُ ويَكْثُرَ الجَهْلُ ويَكْثُرَ الزِّنا ويَكْثُرَ شُرْبُ الخَمْرِ ويَقِلَّ الرِّجالُ ويَكْثُرَ النِّساءُ حتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأةً الْقَيِّمُ الوَاحِدُ.(20/212)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والحوضي نِسْبَة إِلَى حَوْض دَاوُد وَهِي محلّة بِبَغْدَاد، وَدَاوُد هُوَ ابْن الْمهْدي الْمَنْصُور، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: همام، وَقَالَ الغساني: وَالْأول هوالمحفوظ، وَهِشَام وَهَمَّام كِلَاهُمَا من شُيُوخ حَفْص بن عمر شيخ البُخَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب رفع الْعلم فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس الخ نَحوه.
قَوْله: (حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة) ، (فَإِن قلت) فِي الحَدِيث السَّابِق أَرْبَعُونَ؟ قلت: الْأَرْبَعُونَ دَاخل فِي الْخمسين، وَقيل: الغدد غير مُرَاد، بل المُرَاد الْمُبَالغَة فِي كَثْرَة النِّسَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَال، وَقيل: الْأَرْبَعُونَ عدد من يلذن بِهِ، وَالْخَمْسُونَ عدد من يتبعنه وَهُوَ أَعم من أَن يلذن بِهِ. قَوْله: (الْقيم) ، أَي: الَّذِي يقوم بأمورهن ويتولى مصالحهن، قيل: يحْتَمل بَان يكنى بِهِ عَن اتباعهن لَهُ لطلب النِّكَاح حَلَالا أَو حَرَامًا.
111 - (بابٌ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأةٍ إلاْ ذُو محْرَمِ والدُّخُولُ عَلى المُغِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يخلون رجل بِامْرَأَة ... الخ. وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على حكمين: أَحدهمَا: عدم جَوَاز اختلاء الرجل بِامْرَأَة أَجْنَبِيَّة. وَالثَّانِي: عدم جَوَاز الدُّخُول على المغيبة، فَحَدِيث الْبَاب يدل على الحكم الأول، وَالْحكم الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ بطرِيق الاستنباط. قَوْله: (إِلَّا ذُو محرم) وَهُوَ من لَا يحل لَهُ نِكَاحهَا من الْأَقَارِب كَالْأَبِ والإبن وَالْأَخ وَالْعم وَمن يجْرِي مجراهم قَوْله: (وَالدُّخُول) بِالْجَرِّ وَالرَّفْع، قَالَ بَعضهم: وَلم يبين وجههما. قلت: أما الْجَرّ فللعطف عَليّ بِامْرَأَة، على تَقْدِير: وَلَا بِالدُّخُولِ على المغيبة، وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَتَقْدِيره: وَكَذَا الدُّخُول على المغيبة، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوجهَا، يُقَال: أغابت الْمَرْأَة إِذا غَابَ زَوجهَا فَهِيَ مغيبة، وَتجمع على: مغيبات، وَقد روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث نصر بن عَليّ: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تلجوا على المغيبات، فَإِن الشَّيْطَان يجْرِي من أحدكُم مجْرى الدَّم ... الحَدِيث. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد تكلم بَعضهم فِي مجَالد بن سعيد من قبل حفظه.
2325 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حدَّثنا لَ يْثٌ بن يَزِيدَ بن أبِي حَبِيبٍ عنْ أبِي الْخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساء، فَقَالَ رجُلٌ مِنَ الأنْصار: يَا رسُولَ الله! أفرأيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: الحَمْوُ المَوْتُ.
مطابقته للشطر الأول من التَّرْجَمَة كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَلَيْث هُوَ ابْن سعد، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب الْمصْرِيّ، وَاسم أبي حبيب سُوَيْد، أعْتقهُ امْرَأَة مولاة لبني حسان بن عَامر بن لؤَي الْقرشِي، وَأم يزِيد مولاة لنجيب، وَأَبُو الْخَيْر ضد الشَّرّ اسْمه مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبالدال الْمُهْملَة ابْن عبد الله الْيَزنِي الْمصْرِيّ، وَعقبَة بن عَامِرًا لجهني، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن قُتَيْبَة فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة اشْتَركُوا فِي إِخْرَاجه عَن قُتَيْبَة، وَمُسلم أخرجه عَن غَيره أَيْضا.
قَوْله: (عَن عقبَة) وَفِي رِوَايَة أبي نعيم سَمِعت عقبَة. قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالدُّخُول) بِالنّصب على التحذير، وَإِيَّاكُم مفعول بِفعل مُضْمر تَقْدِيره: اتَّقوا أَنفسكُم أَن تدْخلُوا على النِّسَاء، ويتضمن منع مُجَرّد الدُّخُول منع الْخلْوَة بهَا بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (أَفَرَأَيْت الحمو) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالواو يَعْنِي: أَخْبرنِي عَن دُخُول الحمو؟ فَأجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الحمو الْمَوْت) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: يُقَال الحمو أَب الزَّوْج، كَأَنَّهُ كره لَهُ أَن يَخْلُو بهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب عِنْد مُسلم: وَسمعت اللَّيْث يَقُول: الحمو أَخُو الزَّوْج وَمَا أشبهه من أقَارِب الزَّوْج ابْن الْعم وَنَحْوه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد من الحمو فِي الحَدِيث أقَارِب الزَّوْج غير آبَائِهِ وأبنائه لأَنهم محارم للزَّوْجَة يجوز لَهُم الْخلْوَة بهَا، وَلَا يوصفون بِالْمَوْتِ. قَالَ: وَإِنَّمَا المُرَاد: الْأَخ وَابْن الْأَخ وَالْعم وَابْن الْعم وَابْن الْأُخْت وَنَحْوهم مِمَّن يحل لَهَا تزوجيه لَو لم تكن متزوجة، وَجَرت الْعَادة بالتساهل فِيهِ، فيخلو الْأَخ بِامْرَأَة أَخِيه فشبهه بِالْمَوْتِ. وَقَالَ القَاضِي: الْخلْوَة بالأحماء مؤدية إِلَى الْهَلَاك فِي(20/213)
الدّين. وَقيل: مَعْنَاهُ، احْذَرُوا الحمو كَمَا يحذر الْمَوْت، فَهَذَا فِي أَب الزَّوْج فَكيف فِي غَيره؟ وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هِيَ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب كَمَا يُقَال الْأسد الْمَوْت، أَي لقاؤه مثل الْمَوْت، وكما يُقَال: السُّلْطَان نَار، وَيُقَال: مَعْنَاهُ فليمت وَلَا يفعل ذَلِك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَنه يُفْضِي إِلَى موت الدّين أَو إِلَى مَوتهَا بِطَلَاقِهَا عِنْد غيرَة الزَّوْج، أَو برجمها إِن زنت مَعَه.
وَفِي (مجمع الغرائب) : يحْتَمل أَن يُرَاد بِالْحَدِيثِ أَن الْمَرْأَة إِذا خلت فَهِيَ مَحل الآفة فَلَا يُؤمن عَلَيْهَا أحد فَلْيَكُن حموها الْمَوْت، أَي: لَا يجوز أَن يدْخل عَلَيْهَا أحد إلاَّ الْمَوْت، كَمَا قَالَ الآخر: والقبر صهر ضَامِن، وَهَذَا مُتَّجه لَائِق بِكَمَال الْغيرَة وَالْحمية، والحمو مُفْرد الأحماء، قَالَ الْأَصْمَعِي: الأحماء من قبل الزَّوْج، والأختان من قبل الْمَرْأَة، والأصهاري يجمع الْفَرِيقَيْنِ. وَفِي (الإفصاح) لِابْنِ بزِي: عَن الْأَصْمَعِي: الأحماء من قبل الْمَرْأَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: حاء الحمو هُنَا مهموزا والمهموز أحد لغاته، وَيُقَال فِيهِ: حمو، بواو مَضْمُومَة متحركة كدلو، وَحمى مَقْصُور كعصا، قَالَ: وَالْأَشْهر فِيهِ أَنه من الْأَسْمَاء السِّتَّة المعتلة المضافة الَّتِي تعرب فِي حَال إضافتها إِلَى غير يَاء الْمُتَكَلّم بِالْوَاو رفْعَة وبالألف نصبا وبالياء خفضا، وَيكون على قَول الْأَصْمَعِي إِنَّه مَهْمُوز مثل كمء وَإِعْرَابه بالحركات كَسَائِر الْأَسْمَاء الصَّحِيحَة، وَمن قصره لَا يدْخلهُ سوى التَّنْوِين فِي الرع وَالنّصب والجر إِذا لم يضف، وَحكى عِيَاض: هَذَا حمؤك، بِإِسْكَان الْمِيم وهمزة مَرْفُوعَة، وحم كأب.
3325 - حدّثنا عَليُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا عَمْرٌ وعنْ أبي مَعْبَدٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرَأةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فقامَ رجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَقَالَ: يَا رسولَ الله! امْرَأتِي خَرَجَتْ حاجَّةً واكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وكَذَا، قَالَ: إرْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأتكَ.
)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَأَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة واسْمه نَافِذ، بالنُّون وَالْفَاء وبالذال الْمُعْجَمَة: مولى ابْن عَبَّاس.
والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب حج النِّسَاء فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو عَن أبي معبد ... الخ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِيه: إِبَاحَة الرُّجُوع عَن الْجِهَاد إِلَى إحجاج امْرَأَته، لِأَن سترهَا وصيانتها فرض عَلَيْهِ، وَالْجهَاد فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ يقوم بِهِ غَيره، فَلذَلِك أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحجّ مَعهَا إِذا لم يكن مَعهَا محرم يحجّ مَعهَا، وَهَذَا صَرِيح فِي أَن الْحَج لَا يجب على الْمَرْأَة عِنْد الِاسْتِطَاعَة إِلَّا بزوجها أَو بِمحرم مَعهَا. وَالله أَعم.
211 - (بابُ مَا يَجُوزُ أنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بالمَرْأةِ عِندَ النَّاسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يجوز أَن يَخْلُو الرجل بِالْمَرْأَةِ، حَاصِلَة أَن الرجل الْأمين لَيْسَ عَلَيْهِ بَأْس إِذا خلا بِامْرَأَة فِي نَاحيَة من النَّاس لما تسأله عَن بواطن أمرهَا فِي دينهَا وَغير ذَلِك من أمورها، وَلَيْسَ المُرَاد من قَوْله: (أَن يَخْلُو الرجل) أَن يغيب عَن أبصار النَّاس، فَلذَلِك قَيده بقوله: (عِنْد النَّاس) وَإِنَّمَا يَخْلُو بهَا حَيْثُ لَا يسمع الَّذِي بالحضرة كَلَامهَا وَلَا شكواها إِلَيْهِ. فَإِن قلت لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَنه خلا بهَا عِنْد النَّاس قلت: قَول أنس فِي الحَدِيث فَخَلا بهَا، يدل على أَنه كَانَ مَعَ النَّاس فَتنحّى بهَا نَاحيَة لِأَن أنسا الَّذِي هُوَ رَاوِي الحَدِيث كَانَ هُنَاكَ، وَجَاء فِي بعض طرقه أَنه كَانَ مَعهَا صبي أَيْضا، فصح أَنه كَانَ عِنْد النَّاس، وَلَا سِيمَا. أَنهم سمعُوا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنْتُم أحب النَّاس إِلَيّ، يُرِيد بهم الْأَنْصَار، وهم قوم الْمَرْأَة.
4325 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارِ غُنْدَرٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ هِشامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مَالك، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: جاءَتِ امْرَأةٌ منَ الأنْصارِ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَلاَ بِها، فَقَالَ: وَالله إنَّكُنَّ لأحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ.
(انْظُر الحَدِيث 6873 وطرفه)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَخَلا بهَا) . وغندر قد تكَرر ذكره وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَهِشَام هُوَ ابْن زيد بن أنس بن مَالك يروي عَن جده أنس.
والْحَدِيث مضى فِي فضل الْأَنْصَار عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن بهز بن أَسد عَن شُعْبَة عَن هِشَام بن زيد،(20/214)
وَلَيْسَ فِيهِ: (فَخَلا بهَا) وَمَعَهَا صبي لَهَا، وَفِيه: إِنَّكُم أحب النَّاس إِلَيّ، مرَّتَيْنِ.
وَأخرجه فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور من طَرِيق وهب بن جرير عَن شُعْبَة لفظ ثَلَاث مَرَّات، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِيه: أَن مُفَاوَضَة الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة سرا لَا يقْدَح فِي الدّين عِنْد أَمن الْفِتْنَة. وَفِيه: سَعَة حلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتواضعه وَصَبره على قَضَاء حوائج الصَّغِير وَالْكَبِير. وَفِيه: منقبة عَظِيمَة للْأَنْصَار. وَفِيه: تَعْلِيم الْأمة وَكَيْفِيَّة الْخلْوَة بِالْمَرْأَةِ.
311 - (بَاب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُول المُتَشَبِّهينَ بالنِّساءِ علَى المَرْأةِ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: فِي بَيَان النَّهْي من دُخُول الرِّجَال الَّذين يتشبهون بِالنسَاء فِي أخلاقهن. قَوْله: (على الْمَرْأَة) ، يتَعَلَّق بقوله: من دُخُول.
5325 - حدّثنا عثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حَدثنَا عَبْدَةُ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عَن أبِيهِ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أمِّ سَلَمَةَ عنْ أمِّ سَلَمَةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ عِنْدَها. وَفِي البَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ المُخَنَّثُ لأخي أُمِّ سلمَةَ عبْدِ لله بنِ أبي أُمَيَّةَ: إنْ فَتَحَ الله لَكُمُ الطَّائِفَ غَدا أدُلكَ علَى ابْنَةِ غَيْلاَنَ فَإنَّها تُقْبِلُ بأرْبَعٍ وتُدْبِرُ بِثَمانٍ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُمْ.
)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَعُثْمَان بن أبي شيبَة أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَاسم أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان، وَعُثْمَان شيخ البُخَارِيّ هُوَ مُحَمَّد بن أبي شيبَة وَاسم أَخِيه أبي بكر عبد الله، وَكِلَاهُمَا من شُيُوخ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَعَبدَة ضد الْحرَّة ابْن سُلَيْمَان، وَزَيْنَب بنت أم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة، وَزَيْنَب ربيبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولدت بِأَرْض الْحَبَشَة وَكَانَ اسْمهَا برة فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زَيْنَب وأبوها أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي: بَاب غَزْوَة الطَّائِف، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أمهَا أم سَلمَة. الخ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (حَدثنَا عُثْمَان) ، ويروى: حَدثنِي. قَوْله: (عَن زَيْنَب ابْنة أم سَلمَة عَن أم سَلمَة) وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن هِشَام بن عُرْوَة فِي غَزْوَة الطَّائِف: عَن أمهَا أم سَلمَة، وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام، فَقَالَ: عَن أَبِيه عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة، وَقَالَ معمر: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَرَوَاهُ معمر أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وأرسله مَالك فَلم يذكر فَوق عُرْوَة أحدا، أخرجه النَّسَائِيّ قَوْله: (وَفِي الْبَيْت) ، أَي: الْبَيْت الَّذِي هِيَ فِيهِ قَوْله: (مخنث) ، بِفَتْح النُّون وَكسرهَا وَهُوَ الَّذِي يشبه النِّسَاء فِي أخلاقهن، وَهُوَ على نَوْعَيْنِ: من خلق كَذَلِك فَلَا ذمّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْذُور، وَلِهَذَا لم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَولا دُخُوله عَلَيْهِنَّ، وَمن يتَكَلَّف ذَلِك وَهُوَ المذموم، وَاسم هَذَا المخنث: هيت، بِكَسْر الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق على الْأَصَح، وَذكر ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي أَن اسْم المخنث فِي حَدِيث الْبَاب: ماتع، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل: بالنُّون، وَحكى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كَون ماتع لقب هيت أَو بِالْعَكْسِ أَو أَنَّهُمَا اثْنَان خلافًا، وَجزم الْوَاقِدِيّ بالتعدد فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ هيت مولى عبد الله بن أبي أُميَّة، وَكَانَ ماتع مولى فَاخِتَة، وَذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفاهما إِلَى الْحمى، وَذكر الْمَاوَرْدِيّ فِي (الصَّحَابَة) من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن أبي بكر بن حَفْص أَن عَائِشَة قَالَت لمخنث كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُقَال لَهُ: أَنه، بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد النُّون: أَلا تدلنا على امْرَأَة نخطبها على عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر؟ قَالَ: بلَى، فوصف امْرَأَة تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان، فَسَمعهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا أَنه أخرج من الْمَدِينَة إِلَى حَمْرَاء الْأسد وَليكن بهَا مَنْزِلك، وَقَالَ ابْن حبيب: المخنث هُوَ الْمُؤَنَّث من الرِّجَال وَإِن لم يعرف مِنْهُ فَاحِشَة، مَأْخُوذَة من التكسر فِي الشَّيْء وَغَيره، وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد أَتَى بمخنث قد خضب يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، فَقيل: يَا رَسُول الله إِن هَذَا يتشبه بِالنسَاء، فنفاه إِلَى النقيع بالنُّون ثمَّ الْقَاف. قَوْله: (فَقَالَ المخنث لأخي أم سَلمَة) وَقد وَقع فِي مُرْسل ابْن الْمُنْكَدر أَنه قَالَ ذَلِك لعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَيحمل على تعدد القَوْل لكل مِنْهُمَا لأخي عَائِشَة، ولأخي أم سَلمَة، وَالْعجب أَنه لم يقدر أَن الْمَرْأَة الموصوفة حصلت لوَاحِد مِنْهُمَا، لِأَن الطَّائِف لم يفتح حيئنذ، وَقتل عبد الله بن أبي أُميَّة فِي حَال الْحصار قلت: عبد الله بن(20/215)
أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم أَخُو أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمه عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب بن هَاشم، وَكَانَ شَدِيدا على الْمُسلمين مُخَالفا مبغضا وَهُوَ الَّذِي {قَالَ لن نؤمن لَك حَتَّى تفجر لنا من الأَرْض ينبوعا} (الْإِسْرَاء: 09) {وَيكون ذَلِك بَيت من زخرف} (الْإِسْرَاء: 39) الْآيَة، وَكَانَ شَدِيد الْعَدَاوَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أَنه خرج مُهَاجرا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَقِيَهُ بِالطَّرِيقِ بَين السقيا وَالْعَرج وَهُوَ يُرِيد مَكَّة عَام الْفَتْح، فَتَلقاهُ فَأَعْرض عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة بعد مرّة، فَدخل إِلَى أُخْته وسألها أَن تشفع فشفعت لَهُ أُخْته أم سَلمَة وَهِي أُخْته لِأَبِيهِ فشفعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ. وَأسلم وَحسن إِسْلَامه وَشهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتح مَكَّة مُسلما، وَشهد حنينا والطائف وَرمي يَوْم الطَّائِف بِسَهْم فَقتله وَمَات يَوْمئِذٍ، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَزعم مُسلم بن الْحجَّاج أَن عُرْوَة بن الزبير روى عَنهُ أَنه: رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت أم سَلمَة فِي ثوب وَاحِد ملتحفا بِهِ مُخَالفا بَين طَرفَيْهِ، وَذَلِكَ غلط، وَإِنَّمَا الَّذِي روى عَنهُ عُرْوَة بن عبد الله بن أبي أُميَّة. قَوْله: (إِن فتح الله لكم الطَّائِف غَدا) . وَوَقع فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة عَن هِشَام فِي أَوله وَهُوَ محاصر الطَّائِف يَوْمئِذٍ. قَوْله: (فَعَلَيْك) كلمة إغراء مَعْنَاهُ احرص على تَحْصِيلهَا والزمها. قَوْله: (على ابْنة غيلَان) ، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة: لَو قد فتحت لكم الطَّائِف لقد أريتك بادية بنت غيلَان، وَهِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف ضد الْحَاضِرَة وَعَلِيهِ الْجُمْهُور. وَقيل بالنُّون مَوضِع الْبَاء الْمُوَحدَة، وغيلان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن مسلمة بن معتب، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة ابْن مَالك بن كَعْب بن عَمْرو بن سعد بن عَوْف بن قسي وَهُوَ ثَقِيف وَأمه سبيعة بنت عبد شمس، أسلم بعد فتح الطَّائِف، وَلم يُهَاجر وَكَانَ أحد وُجُوه ثَقِيف ومقدميهم وَكَانَ شَاعِرًا محسنا، وَتُوفِّي فِي آخر خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ الَّذِي أسلم وَتَحْته عشر نسْوَة، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخْتَار أَرْبَعَة. قَوْله: (تقبل بأَرْبعَة وتدبر بثمان) أَي أَن لَهَا أَربع عُكَن لسمنها تقبل بِهن من كل نَاحيَة ثِنْتَانِ وَلكُل وَاحِدَة طرفان، فَإِذا أَدْبَرت صَارَت الأطرف ثَمَانِيَة أَي السمينة لَهَا فِي بَطنهَا عُكَن أَربع وَترى من وَرَائِهَا لكل عكنة طرفان قلت: العكنة بِالضَّمِّ الطي الَّذِي فِي الْبَطن من السّمن، وَقَالَ ابْن حبيب: عَن مَالك فِي معنى قَوْله: (تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان) أَن أعكانها يَنْعَطِف بَعْضهَا على بعض وَهِي فِي بَطنهَا أَربع طرائق وتبلغ أطرافها إِلَى حاضرتها فِي كل جَانب أَربع ولإرادة العكن ذكر الْأَرْبَع والثمان وَإِلَّا فَلَو أَرَادَ الْأَطْرَاف لقَالَ: ثَمَانِيَة. قَوْله: (لَا يدخلن هَذَا عَلَيْكُم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: عليكن، وَهِي رِوَايَة مُسلم. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا حجبه عَن الدُّخُول إِلَى النِّسَاء لما سَمعه يصف الْمَرْأَة بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي تهيج قُلُوب الرِّجَال، فَمَنعه لِئَلَّا يصف الْأزْوَاج للنَّاس فَيسْقط معنى الْحجاب. انْتهى. وَيُقَال: إِنَّمَا كَانَ يدْخل عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ يعتقدنه من غير أولي الإربة، فَلَمَّا وصف هَذَا الْوَصْف دلّ على أَنه من أولى الإربة، فَاسْتحقَّ الْمَنْع لدفع فَسَاده، وَغير أولي الإربة هُوَ الأبله الْعنين الَّذِي لَا يفْطن بمحاسن النِّسَاء وَلَا إرب لَهُ فِيهِنَّ، والأرب بِالْكَسْرِ الْحَاجة.
411 - (بابُ نَظَر المرْأةِ إِلَى الحَبَشِ وغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ رَيبَةٍ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي جَوَاز نظر الْمَرْأَة إِلَى الْحَبَشَة وَغَيرهم من غير رِيبَة. أَي: من غير تُهْمَة، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن عِنْده جَوَاز نظر الْمَرْأَة إِلَى الْأَجْنَبِيّ دون نظر الْأَجْنَبِيّ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذكر الْحَبَشَة، وَإِن كَانَ الحكم فِي غَيرهم كَذَلِك، لأجل مَا ورد فِي حَدِيث الْبَاب على مَا يَأْتِي. وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهِ الرَّد لحَدِيث ابْن شهَاب عَن نَبهَان مولى أم سَلمَة أَنَّهَا قَالَت: كنت أَنا ومَيْمُونَة جالستين عِنْد على مَا يَأْتِي. وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهِ الرَّد لحَدِيث ابْن شهَاب عَن نَبهَان مولى أم سَلمَة أَنَّهَا قَالَت: كنت أَنا ومَيْمُونَة جالستين عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ ابْن أم مَكْتُوم، فَقَالَ: احتجبا مِنْهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله: أَلَيْسَ أعمى لَا يُبصرنَا وَلَا يعرفنا؟ فَقَالَ: أفعمياوان أَنْتُمَا؟ ألستما تبصرانه؟ أخرجه الْأَرْبَعَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَكَذَا صَححهُ ابْن حبَان فَإِن قلت مَا وَجه رد حدث نَبهَان وَهُوَ حَدِيث صَححهُ الْأَئِمَّة بِإِسْنَاد قوي؟ قلت: قَالَ ابْن بطال: حَدِيث عَائِشَة، أَعنِي: حَدِيث الْبَاب أصح من حَدِيث نَبهَان، لِأَن نَبهَان لَيْسَ بِمَعْرُوف بِنَقْل الْعلم. وَلَا يروي إلاَّ حديثين هَذَا، وَالْمكَاتب إِذا كَانَ مَعَه مَا يُؤَدِّي احْتَجَبت عَنهُ سيدته، فَلَا يعْمل بِحَدِيث نَبهَان لمعارضته الْأَحَادِيث الثَّابِتَة. فَإِن قلت: قد عرف نَبهَان بِنَقْل الْعلم جمَاعَة مِنْهُم ابْن حبَان(20/216)
وَالْحَاكِم إِذْ صححا حَدِيثه وَأَبُو عَليّ الطوسي وَحسنه، وروى عَنهُ ابْن شهَاب وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن مولى طَلْحَة، وَذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَمن يعرفهُ الزُّهْرِيّ ويصفه بِأَنَّهُ مكَاتب أم سَلمَة وَلم يُخرجهُ حد لَا ترد رِوَايَته، وَأما الْمُعَارضَة فَلَا نقُول بهَا بل نقُول: إِن عَائِشَة إِذْ ذَاك كَانَت صَغِيرَة فَلَا خرج عَلَيْهَا فِي النّظر إِلَيْهِم، أَو نقُول: إِنَّه رخص فِي الأعياد مَا لَا يرخص فِي غَيرهَا أَو نقُول: حَدِيث نَبهَان نَاسخ لحَدِيث عَائِشَة، أَو نقُول: إِن زَوْجَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خصصن بِمَا لم يخصص بِهِ غَيْرهنَّ لعظم حرمتهن، أَو نقُول: إِن الْحَبَشَة كَانُوا صبيانا لَيْسُوا بالغين. قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال بِالْجمعِ بَين الْحَدِيثين لاحْتِمَال تقدم الواقعية، أَو أَن يكون فِي حَدِيث نَبهَان شَيْء يمْنَع النِّسَاء من رُؤْيَته، لكَون ابْن أم مَكْتُوم أعمى، فَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْهُ شَيْء ينْكَشف وَلَا يشْعر بِهِ، وَيُؤَيّد قَول من قَالَ بِالْجَوَازِ اسْتِمْرَار الْعَمَل على جَوَاز خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد والأسواق والأسفار منتقبات لِئَلَّا يراهن الرِّجَال، وَلم يُؤمر الرِّجَال قطّ بالانتقاب لِئَلَّا تراهم النِّسَاء، فَدلَّ على مُغَايرَة الحكم بَين الطَّائِفَتَيْنِ.
6325 - حدّثنا إسْحاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ عنْ عِيسَى عنِ الأوْزَاعِيِّ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: رأيْتُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتُرُني برِدَائِهِ وَأَنا أنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ حتَّى أكُونَ أَنا الّذي أسْأمُ، فاقْدُرُوا قَدْرَ الجارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ الحَريصَةِ عَلى اللَّهْوِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والحنظلي هُوَ إِسْحَاق الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَعِيسَى هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث مر بأتم مِنْهُ فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) أَي: فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَنا الَّذِي أسأم) كَذَا وَقع فِي الْأُصُول، وَذكر ابْن التِّين: أَنا الَّذِي، ثمَّ قَالَ: وَصَوَابه: أَنا الَّتِي قَوْله: (أسأم) ، أَي أمل من السَّآمَة وَهِي الملالة. قَوْله: (فاقدروا قدر الْجَارِيَة) من قدرت الْأَمر كَذَا إِذا نظرت فِيهِ ودبرته، ورادت بِهِ أَنَّهَا وَكَانَت صَغِيرَة دون الْبلُوغ، قَالَه النَّوَوِيّ، وَيرد عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق الحَدِيث أَن ذَلِك كَانَ بعد قدوم وَفد الْحَبَشَة، وَأَن قدومهم كَانَ سنة سبع، ولعائشة يَوْمئِذٍ سِتّ عشرَة سنة، فَكَانَت بَالِغَة، وَكَانَ ذَلِك بعد الْحجاب.
وَفِي (التَّلْوِيح) : فِي الحَدِيث: جَوَاز نظر النِّسَاء إِلَى اللَّهْو واللعب لَا سِيمَا حَدِيثَة السن فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد عذرها، أَي: عَائِشَة، لحداثة سنّهَا، وَيُعَكر عَلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَالَ: وَفِيه: أَنه لَا بَأْس بِنَظَر الْمَرْأَة إِلَى الرجل من غير رِيبَة، أَلا ترى مَا اتّفق عَلَيْهِ الْعلمَاء من الشَّهَادَة عَلَيْهَا أَن ذَلِك لَا يكون إلاَّ بِالنّظرِ إِلَى وَجههَا؟ وَمَعْلُوم أَنَّهَا تنظر إِلَيْهِ حِينَئِذٍ كَمَا ينظر الرجل إِلَيْهَا، وَالله أعلم.
511 - (بابُ خُرُوجِ النِّساءِ لِحَوَائِجِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز خُرُوج النِّسَاء لأجل حوائجهن، وَهُوَ جمع حَاجَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: جمع الْحَاجة حاجات وَجمع الْجمع حَاج، وَلَا يُقَال: حوائج، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالَّذِي ذكر أهل اللُّغَة أَن جمع حَاجَة حوائج، وَقَول الدَّاودِيّ غير صَحِيح، وَفِي (الْمُنْتَهى) : الْحَاجة فِيهَا لُغَات: حَاجَة وحوجاء وحائجة، فَجمع السَّلامَة: حاجات، وَجمع التكسير: حَاج، مثل رَاحَة وَرَاح، وَجمع حوجاء حواج، مثل: صحراء وصحار، وَيجمع على حوج أَيْضا نَحْو عوجاء وعوج، وَجمع الْحَاجة حوائج مثل حائجة وحوائج، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يُنكره، وَيَقُول: هُوَ مولد، وَإِنَّمَا أنكرهُ لِخُرُوجِهِ عَن الْقيَاس فِي جمع حَاجَة، وإلاَّ فَهُوَ كثير فِي الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر:
(نَهَار الْمَرْء أمثل حِين يقْضِي ... حَوَائِجه من اللَّيْل الطَّوِيل)
وَيُقَال: مَا فِي صَدره حوجاء وَلَا لوجاء وَلَا شكّ وَلَا مرية بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: لَيْسَ فِي أَمرك حويجاء وَلَا لويجاء، وَلَا لفُلَان عنْدك حَاجَة وَلَا حائجة وَلَا حوجاء وَلَا حواشية بالشين وَالسِّين وَلَا لماسة وَلَا لبَابَة وَلَا إرب وَلَا مأربة ونواة وبهجة وأشكلة وشاكلة وشكلة وشهلاء، كُله بِمَعْنى وَاحِد.
7325 - حدّثنا فَرْوَةُ بنُ أبي المَغْرَاءِ حَدثنَا علِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ. قالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلاً فَرَآها عُمَرُ فَعَرَفَهَا. فَقَالَ: إنّكِ وَالله يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا(20/217)
فَرَجَععَتْ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وهْوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى، وإنَّ فِي يَدِهِ لَغَرْقا فأنْزَلَ الله عَلَيْهِ فرُفِعَ عَنْهُ وهْوَ يَقُولُ: قَدْ أذِنَ الله لَكُنَّ أنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه قد مر عَن قريب فِي: بَاب دُخُول الرجل على نِسَائِهِ فِي الْيَوْم.
والْحَدِيث قد مر بأتم مِنْهُ فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا تخفين) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء وَأَصله: تخفين، على وزن تفعلين فاستثقلت الكسرة على الْيَاء فحذفت فَاجْتمع ساكنان وهما الياءان فحذفت الْيَاء الأولى لِأَن الثَّانِيَة ضمير المخاطبة فَبَقيَ تخفين على وزن تفعين. قَوْله: (لعرقا) ، اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة، والعرق بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وبالقاف وَهُوَ الْعظم الَّذِي أَخذ لحْمَة. قَوْله: (فَأنْزل الله عَلَيْهِ) ، ويروي: فَأنْزل عَلَيْهِ بِصِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: فَأوحى الله إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن النِّسَاء يخْرجن لكل مَا أُبِيح لَهُنَّ الْخُرُوج فِيهِ من زِيَارَة الْآبَاء والأمهات وَذَوي الْمَحَارِم وَغير ذَلِك مِمَّا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حكم خروجهن إِلَى الْمَسَاجِد. وَفِيه: خُرُوج الْمَرْأَة بِغَيْر إِذن زَوجهَا إِلَى الْمَكَان الْمُعْتَاد للْإِذْن الْعَام فِيهِ. وَفِيه: منقبة عَظِيمَة لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه: تَنْبِيه أهل الْفضل على مصالحهم ونصحهم.
611 - (بابُ اسْتِئْذَانِ المَرْأةِ زَوْجَهَا فِي الخُرُوجِ إِلَى المَسْجِدِ وغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِئْذَان الْمَرْأَة أَي: طلب الْإِذْن من زَوجهَا لأجل الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد. قَوْله: (وَغَيره) أَي: غير الْمَسْجِد مِمَّا لَهَا فِيهِ حَاجَة ضَرُورِيَّة شَرْعِيَّة.
8325 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا الزُّهْرِيُّ عنْ سالِمٍ عنْ أبِيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إذَا اسْتأْذَنَتِ امْرَأةُ أحَدِكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الْمَسْجِد، فِي غير الْمَسْجِد بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَالشّرط فِي الْجَوَاز فيهمَا الْأَمْن من الْفِتْنَة.
وعَلى ابْن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَهُوَ يرْوى عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمضى الحَدِيث فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي بَاب خُرُوج النَّسَائِيّ إِلَى الْمَسَاجِد بِاللَّيْلِ والغلس.
711 - (بابُ مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ والنظَرِ إِلَى النِّسا فِي الرِّضاعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحل من الدُّخُول على النِّسَاء وَالنَّظَر إلَيْهِنَّ فِي وجود الرَّضَاع بَين الدَّاخِل والمدخول إِلَيْهَا لِأَن وجود الرَّضَاع يُبِيح ذَلِك.
9325 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَن عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، أنّها قالَتْ: جاءَ عَمِّي مِنَ الرِّضاعَةِ فاسْتأذَنَ عَليَّ فأبَيْتُ أنْ آذَنَ لهُ حتَّى أسْألَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسألْتُهُ عنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: إنَّهُ عَمُّكِ فأْذَنِي لهُ. قالَتْ: فِقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إنّما أرْضَعَتْنِي المَرْأةُ ولَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ. قالَتْ: فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ. قالَتْ عائِشَةُ: وذالِكَ بَعْدَ أنْ ضُرِبَ علَيْنا الحِجابُ. قالَتْ عائِشَةُ: يَحْرُمُ مِنَ الوِلاَدَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِنَّه عمك فليلج عَلَيْك) أَي: فَلْيدْخلْ من الولوج وَهُوَ الدُّخُول.
وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب الْفَحْل بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (جَاءَ عمي) هُوَ أَفْلح، وَفَائِدَة هَذَا الْبَاب أَنه أصل فِي أَن الرَّضَاع يحرم من النِّكَاح مَا يحرم من النّسَب، وَيَنْبَغِي أَن يسْتَأْذن على الْأَقَارِب كالأجانب لِأَنَّهُ مَتى فاجأهن فِي(20/218)
الدُّخُول يُمكن أَن يُصَادف مِنْهُنَّ عَورَة لَا يجوز لَهُ الِاطِّلَاع عَلَيْهَا، أَو أمرا يُكْرهن الْوُقُوف عَلَيْهِ، وَأما زَوجته وَأمته الْجَائِز لَهُ وَطْؤُهَا فَلَا يستأذنهما، لِأَن أَكثر مَا فِي ذَلِك أَن يصادفهما منكشفين، وَقد أُبِيح لَهُ النّظر إِلَى ذَلِك، وَالأُم وَالْأُخْت وَسَائِر ذَوَات الْمَحَارِم سَوَاء فِي الاسْتِئْذَان مِنْهُنَّ. قَوْله: (من الْولادَة) أَي: من النّسَب، وَالله أعلم.
811 - (بابٌ لَا تُباشِرُ المَرْأةُ المَرْأةَ فَتَنْعَتَها لِزَوْجِها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا تباشر، من الْمُبَاشرَة وَهِي الْمُلَامسَة فِي الثَّوْب الْوَاحِد، وَكَذَا قيد فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ. قَوْله: (فتنعتها) أَي: فتصفها من النَّعْت وَهُوَ الْوَصْف، وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ الحَدِيث. قَالَ الْقَابِسِيّ: هَذَا الحَدِيث من أبين مَا يحمى بِهِ الذرائع فَإِنَّهَا أَن وصفتها لزَوجهَا بِحسن خيف عَلَيْهِ الْفِتْنَة حَتَّى يكون ذَلِك سَببا لطلاق زَوجته ونكاج تيك، إِن كَانَت أَيّمَا وَإِن كَانَت ذَات بعل كَانَ ذَلِك سَببا لِبُغْض زَوجته، ونقصان منزلتها عِنْده، وَإِن وصفتها بقبح كَانَ ذَلِك غيبَة.
0425 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورٍ عَن أبي وائلٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تُباشر المَرأةُ المرْأةَ فَتَنْعَتَها لزَوْجِها كأنّهُ يَنْظُرُ إليْها.
(انْظُر الحَدِيث 0425 طرفه فِي: 1425)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا غيبَة، كَمَا ذكرنَا، أخرجه عَن مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي البُخَارِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة ... الخ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : مُحَمَّد بن يُوسُف هَذَا هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الصُّورِي يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّحْرِير.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْبَلْخِي، وَقد مر شَرحه الْآن.
1425 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ: حدّثني: شقِيقٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عبْدَ الله قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تُباشِر المَرْأةَ فَتَنعَتَها لِزَوْجِا كأنّهُ يَنْظُرُ إلَيْها.
(انْظُر الحَدِيث 0425)
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث لمذكور أخرجه عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالثاء الْمُثَلَّثَة: عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق هُوَ أَبُو وَائِل الْمَذْكُور وَفِي الحَدِيث السَّابِق، وروى شَقِيق عَن عبد الله بن مَسْعُود فِي الطَّرِيق الأول بالعنعنة، وَفِي هَذَا بِالسَّمَاعِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن قَوْله فتنعتها ... الخ. من كَلَام ابْن مَسْعُود، وَقَالَ ابْن التِّين وَظَاهره أَنه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
911 - (بابُ قَوْلِ الرَّجُل لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى نِسَائِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الرجل: (لأطوفن) أَي: لأدورن على نسَائِي فِي هَذِه اللَّيْلَة بِالْجِمَاعِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة إِنَّمَا وَضعهَا فِي قَول سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: لأطوفن اللَّيْلَة بِمِائَة امْرَأَة، على مَا يَجِيء الْآن، وَقَالَ بَعضهم: تقدم فِي كتاب الطَّهَارَة، بَاب من دَار على نِسَائِهِ فِي غسل وَاحِد. وَهُوَ قريب من معنى هَذِه التَّرْجَمَة، وَالْحكم فِي الشَّرِيعَة المحمدية أَن ذَلِك لَا يجوز فِي الزَّوْجَات. قلت: هَذَا الْكَلَام هُنَا طائح لِأَنَّهُ لم يقْصد من التَّرْجَمَة هَذَا، وَإِنَّمَا قصد بذلك بَيَان قَول سُلَيْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلذَلِك أورد حَدِيثه. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا يجوز أَن يجمع الرجل جماع زَوْجَاته فِي غسل وَاحِد وَلَا يطوف عَلَيْهِنَّ فِي لَيْلَة إلاَّ إِذا ابْتَدَأَ الْقسم بَينهُنَّ أَو أذنَّ لَهُ فِي ذَلِك، أَو إِذا قدم من سفر وَلَعَلَّه لم يكن فِي شَرِيعَة سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام. من فرض الْقسم بَين النِّسَاء وَالْعدْل بَينهُنَّ مَا أَخذه الله عز وَجل على هَذِه الْأمة.
2425 - حدّثنا مَحْمُودٌ حَدثنَا عَبْدُ الرَّزّاقِ أخْبَرنا مَعَمَرٌ عنِ ابنِ طاوُسِ عنْ أبِيهِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمانُ بنُ داوُدَ، عَليْهِما السَّلامُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمَائَةِ امْرَأةٍ تَلِدُ كلُّ امْرَأةٍ غُلاَما يُقاتل فِي سَبِيلِ الله، فَقَالَ لَهُ المَلكُ: قُلْ شاءَ الله، فلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ فأطافَ بِهِنَّ ولَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلاّ امْرَأةٌ نِصْفَ إنْسانٍ، قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لوْ قَالَ: إنْ شاءَ الله، لَمْ يَحْنَثْ وكانَ أرْجَى لِحاجَتِهِ.(20/219)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، وَمعمر بِفَتْح الميمن هُوَ ابْن رَاشد، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله يروي عَن أَبِيه طَاوُوس.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب من طلب الْوَلَد للْجِهَاد. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن عبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَبَّاس الْعَنْبَري.
قَوْله: (لأطوفن اللَّيْلَة بِمِائَة امْرَأَة) وَفِي كتاب الْجِهَاد: لأطوفن اللَّيْلَة على مائَة امْرَأَة أَو تسع وَتِسْعين، وَقَالَ ابْن التِّين: وَفِي بعض الرِّوَايَات: لأطوفن على سبعين، وَفِي بَعْضهَا بِأَلف. قلت: ذكر أهل التَّارِيخ أَنه كَانَت لَهُ ألف امْرَأَة: ثَلَاثمِائَة حرائر وَسَبْعمائة إِمَاء، وَالله أعلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ البُخَارِيّ: الْأَصَح تسعون، وَلَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَات إِذْ التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ الْملك) أَي جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَو الْملك من الْكِرَام الْكَاتِبين. قلت: يجوز أَن يكون ملكا غَيرهمَا أرْسلهُ الله. قَوْله: (فأطاف بِهن) أَي ألمَّ بِهن وقاربهن. قَوْله: (إِلَّا امْرَأَة نصف إِنْسَان) وَهُنَاكَ جَاءَت بشق رجل، وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله لَجَاهَدُوا فِي سَبِيل الله فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (لم يَحْنَث) أَي: لم يتَخَلَّف مُرَاده لِأَن الْحِنْث لَا يكون إلاَّ عَن يَمِين، وَيحْتَمل أَن يكون سُلَيْمَان حلف على ذَلِك، وَقيل: ينزل التَّأْكِيد الْمُسْتَفَاد من قَوْله: (لأطوفن) بمزلة الْيَمين فَلْيتَأَمَّل. وَقَالَ الْمُهلب: (لم يَحْنَث) لم يخب وَلَا عُوقِبَ بالحرمان حِين لم يسْتَثْن مَشِيئَة الله وَلم يَجْعَل الْأَمر لَهُ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث يَمِين فَيحنث فِيهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه: لما جعل لنَفسِهِ الْقُوَّة وَالْفِعْل عاقبه الله تَعَالَى بالحرمان، فَكَانَ الْحِنْث بِمَعْنى التخييب. وَقد احْتج بعض الْفُقَهَاء بِهِ على أَن الِاسْتِثْنَاء بعد السُّكُوت عَن النَّهْي جَائِز بِخِلَاف قَول مَالك: وَاحْتَجُّوا بقوله: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله لم يَحْنَث، وَلَيْسَ كَمَا توهموه، لِأَن هَذَا لم يُمكن يَمِينا وَإِنَّمَا كَانَ قولا جعل الْأَمر لنَفسِهِ وَلم يجب فِيهِ كَفَّارَة فَتسقط عَنهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
021 - (بابٌ لاَ يَطْرُقْ أهْلَهُ لَيْلاً إذَا أَطَالَ الغَيْبَةَ مَخافَةَ أنْ يخَوِّنَهُمْ أوْ يَلْتَمِسَ عَثَراتِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يطْرق الْغَائِب أَهله ليلاٌ. ويطرق بِضَم الرَّاء: من الطروق وَهُوَ إتْيَان الْمنزل لَيْلًا، يُقَال: أَتَانَا طروقا إِذا جَاءَ لَيْلًا وَهُوَ مصدر فِي مَوضِع الْحَال. قَوْله: (لَيْلًا) تَأْكِيد لِأَن الطروق لَا يكون إلاَّ لَيْلًا. وَذكر ابْن فَارس أَن بَعضهم حكى أَن الطروق قد يُقَال فِي النَّهَار، فعلى هَذَا التَّأْكِيد لَا يكون إلاَّ على القَوْل الأول، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَقيد بقوله: (إِذا أَطَالَ الْغَيْبَة) لِأَنَّهُ إِذا لم يطلها لَا يتَوَهَّم مَا كَانَ يتَوَهَّم عِنْد إطالة الْغَيْبَة. قَوْله: (مَخَافَة) نصب على التَّعْلِيل وَهُوَ مصدر ميمي أَي: لأجل خوف أَن يخونهم، وَكلمَة: أَن مَصْدَرِيَّة أَي: لأجل خوف تخوينه إيَّاهُم وَهُوَ بالنُّون من الْخِيَانَة أَي: ينسبهم إِلَى الْخِيَانَة. قَوْله: (أَو يلْتَمس) أَي: يطْلب عثراتهم جمع عَثْرَة، وَهُوَ بِالْمُثَلثَةِ الزلة، قَالَ ابْن التِّين. قَوْله: (إِذا أَطَالَ) إِلَى آخِره لَيْسَ فِي أَكثر الرِّوَايَات.
3425 - حدّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ حَدثنَا مُحارِبُ بنُ دِثارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله، رَضِي الله عَنْهُمَا، قالَ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَكْرَهُ أنْ يأتِيَ الرَّجُلُ أهْلَهُ طُرُوقا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من لفظ الحَدِيث. والترجمة مُشْتَمِلَة على ثَلَاثَة أَجزَاء. الأول: قَوْله: لَا يطْرق أَهله لَيْلًا، وَهَذَا الحَدِيث يطابقه الْجُزْء الثَّانِي قَوْله إِذا أَطَالَ الْغَيْبَة فَلَا يطابقه إلاَّ الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي وَهُوَ رِوَايَة الشّعبِيّ عَن جَابر الْجُزْء الثَّالِث قَوْله مَخَافَة أَن يخونهم لَا يطابقه شَيْء من حَدِيث الْبَاب وَإِنَّمَا ورد هَذَا فِي طَرِيق آخر لحَدِيث جَابر: أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن محَارب بن دثار عَن جَابر، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يطْرق الرجل أَهله لَيْلًا فيخونهم أَو يطْلب عثراتهم وَأخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي نعيم عَن سُفْيَان كَذَلِك وَأخرجه أَبُو عوَانَة من وَجه آخر عَن سُفْيَان كَذَلِك، فبيَّن الشَّارِع بِهَذَا اللَّفْظ الْمَعْنى الَّذِي من أَجله نهى أَن يطْرق أَهله لَيْلًا وَمعنى كَون طروق اللَّيْل سَببا لتخوينهم أَنه وَقت خلْوَة وَانْقِطَاع مراقبة النَّاس بَعضهم لبَعض، فَكَانَ ذَلِك سَببا لتوطن أَهله بِهِ، وَلَا سِيمَا إِذا أَطَالَ الْغَيْبَة لِأَن طول الْغَيْبَة مَظَنَّة الْأَمْن من الهجوم، بِخِلَاف مَا إِذا خرج لِحَاجَتِهِ مثلا نَهَارا وَرجع لَيْلًا لَا يَتَأَتَّى لَهُ مَا يحذر من الَّذِي يُطِيل الْغَيْبَة، وَمن أعلم أَهله بوصوله فِي وَقت كَذَا مثلا لَا يتَنَاوَلهُ هَذَا النَّهْي. وَأخرج حَدِيث جَابر هَذَا عَن آدم ابْن أبي(20/220)
إِيَاس عَن شُعْبَة عَن محَارب ضد الْمصَالح ابْن دثار ضد الشعار عَن جَابر، وَمضى الحَدِيث فِي الْحَج عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك مَا أخرجه أَبُو عوَانَة من حَدِيث محَارب بن دثار عَن جَابر بن عبد الله بن أَن عبد الله رَوَاحَة أَتَى امْرَأَته لَيْلًا وَعِنْدهَا امْرَأَة تمشطهَا، فظنها رجلا فَأَشَارَ إِلَيْهَا بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا ذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يطْرق الرجل أَهله لَيْلًا.
4425 - حدّثنا مُحَمَّد بنُ مُقاتِلٍ أخبرنَا عبدُ الله أخبرنَا عاصِمُ بنُ سُلَيْمانَ عنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَ بن عَبْدِ الله يَقُولُ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وإذَا أطالَ أحَدُكُمْ الغَيْبَةَ فَلاَ يَطْرُقْ أهْلَهُ لَيْلاً.
قد ذكرنَا وَجه الْمُطَابقَة آنِفا. وَمُحَمّد بن مقَاتل الْمروزِي، وَعبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي، وَعَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول الْبَصْرِيّ، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن بنْدَار عَن غنْدر وَعَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان عَن جرير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن بنْدَار وَعَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (إِذا أَطَالَ أحدكُم الْغَيْبَة) نهى عَن الطروق عِنْد إطالة الْغَيْبَة لِأَنَّهَا تبعد مراقبتها لَهُ وَتَكون آيسة من تَعْجِيله إِلَيْهَا فيجد الشَّيْطَان سَبِيلا إِلَى إِيقَاع سوء الظَّن، وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح وَغَيرهم ذكر حد طول الْغَيْبَة، وَالظَّاهِر أَنه يعلم من علم مقصد الرجل فِي ذَهَابه إِلَيْهِ وَالله أعلم.
121 - (بابُ طَلَبِ الولَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان طلب الرجل الْوَلَد بالاستكثار من جماع الْمَرْأَة على قصد الِاسْتِيلَاد لَا الِاقْتِصَار على مُجَرّد اللَّذَّة، وَطلب الْوَلَد مَنْدُوب إِلَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة حَفْص ابْن أخي أنس عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
5425 - حدّثنا مُسَدَّدٌ عنْ هَشِيمٍ عنْ سَيَّارٍ عنِ الشَّعْبِيِّ عنْ جابِرِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غَزْوَةٍ فَلمَّا قَفلْنا تَعَجَّلْتُ علَى بعِيرٍ قطُوفٍ، فَلحِقَنِي راكبٌ مِنْ خَلْفِي فالْتَفَتُّ فإذَا أَنا بِرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا يُعَجِّلُكَ؟ قُلْتُ: إنِّي حَدِيثُ عَهد بِعُرْسٍ، قَالَ؛ فَبِكرا تَزَوَّجْتَ أمْ ثَيِّبا؟ قُلْتُ: بلْ ثَيِّبا قَالَ: فَهلاَّ جاريَةً تُلاَعِبُها وتُلاعِبُكَ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدمْنا ذَهَبْنا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: أمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً أيْ: عِشاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ.
قَالَ: وحدّثني: الثِّقَةُ أنّهُ قَالَ فِي هاذا الحَدِيثِ: الكَيْسَ الكَيْسَ يَا جابِرُ، يَعْنِي الوَلَدَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة لَا يتأتي أَخذهَا إلاَّ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْكيس الْكيس يَا جَابر يَعْنِي الْوَلَد) وَالْمرَاد مِنْهُ الْحَث على ابْتِغَاء الْوَلَد. يُقَال: أَكيس الرجل إِذا ولد لَهُ أَوْلَاد أكياس.
وهشيم مصغر هشم ابْن بشير الوَاسِطِيّ أَصله من بَلخ نزل وَاسِط للتِّجَارَة وسيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَبعد الْألف رَاء هُوَ ابْن أبي سيار واسْمه وردان أَن أَبُو الحكم الْعَنزي الوَاسِطِيّ، يروي عَن عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي النُّعْمَان وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن غنْدر عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى وَفِي الْجِهَاد عَنهُ وَعَن إِسْمَاعِيل وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن هشيم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل وَغَيره.
قَوْله: (عَن سيار عَن الشّعبِيّ) وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق شُرَيْح بن النُّعْمَان: حَدثنَا سيار حَدثنَا الشّعبِيّ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من وَجه آخر: سَمِعت الشّعبِيّ. قَوْله: (قَفَلْنَا) بِالْقَافِ وبفتح الْفَاء المخففة، أَي: رَجعْنَا. قَوْله: (قطوف) بِفَتْح الْقَاف أَي: بطيء الْمَشْي. قَوْله: (مَا يعجلك؟) بِضَم الْيَاء أَي: أَي شَيْء أَي يعجلك؟ قَوْله: حَدِيث عهد بعرس، أَي: جَدِيد التَّزْوِيج، وطابق السُّؤَال الْجَواب بلازمه وَهُوَ الحداثة. قَوْله: (فبكرا تزوجت؟) . مَنْصُوب بقوله: زوجت، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ مَحْذُوف أَي تزوجته. قَوْله: (بل ثَيِّبًا) مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر أَي تزوجت ثَيِّبًا. قَوْله: (أَي عشَاء) إِنَّمَا فسر بِهِ لِئَلَّا يُعَارض مَا تقدم أَنه لَا يطْرق أَهله لَيْلًا، مَعَ أَن الْمُنَافَاة(20/221)
منتفية من حَيْثُ إِن ذَلِك فِيمَن جَاءَ بَغْتَة وَأما هُنَا فقد بلغ خبر مجيئهم وَعلم النَّاس وصولهم. قَوْله: (الشعثة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة وَهِي المغبرة الرَّأْس المنتشرة الشّعْر. قَوْله: (وتستحد المغيبة) وَقد فسرناها عَن قريب، وَهِي الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوجهَا، والاستحداد اسْتِعْمَال الْحَدِيد فِي شعر الْعَانَة وَهِي إِزَالَته بِالْمُوسَى، هَذَا فِي حق الرِّجَال، وَأما النِّسَاء فَلَا يستعملن إلاَّ النورة أَو غَيرهَا مِمَّا يزِيل الشّعْر.
قَوْله: (قَالَ: وحَدثني الثِّقَة) الْقَائِل هُوَ هشيم، أَشَارَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه البُخَارِيّ أَو مُسَدّد. قلت: هُوَ جرى على ظَاهر اللَّفْظ وَالْمُعْتَمد مَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا يُقَال هَذَا رِوَايَة عَن مَجْهُول لِأَنَّهُ إِذا ثَبت عِنْد الرَّاوِي عَنهُ أَنه ثِقَة فَلَا بَأْس بِعَدَمِ الْعلم باسمه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِنَّمَا لم يُصَرح بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ لَعَلَّه نَسيَه أَو لم يحققه. وَفِيه تَأمل. قَوْله: (قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ: وَقَالَ، بِإِثْبَات الْوَاو، وَكَذَا أخرجه أَحْمد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَلَفظه: قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا دخلت فَعَلَيْك الْكيس الْكيس. قَوْله: (الْكيس الْكيس) مَذْكُور مرَّتَيْنِ ومنصوب على الإغراء، والكيس وَالْجِمَاع وَالْعقل، وَالْمرَاد حثه على ابْتِغَاء الْوَلَد. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْكيس هُنَا يجْرِي مجْرى الحذر من الْعَجز عَن الْجِمَاع. فَفِيهِ الْحَث على الْجِمَاع، وَقد يكون بِمَعْنى الرِّفْق وَحسن التائي، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْكيس الْعقل كَأَنَّهُ جعل طلب الْوَلَد عقلا. وَفِي اللُّغَة: الكوس، بِالسِّين الْمُهْملَة والمعجمة: الْجِمَاع، يُقَال كاس الْجَارِيَة وكاسها وكارسها وكاوسها مكاوسة وكواسا واكتاسها كل ذَلِك: إِذا جَامعهَا.
6425 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيدِ حَدثنَا مُحَمَّدُ بن جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَيَّارٍ عَن الشَّعْبِيِّ عَن جابِرِ بنِ عبْدِ الله رَضِي الله عَنْهُمَا، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إذَا دَخَلْتَ لَيْلاً فَلا تَدْخُلْ عَلى أهْلكَ حتَّى تَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ وتَمْتَشِط الشَّعَثَةُ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَعَلَيْكَ بالكَيْسِ الكَيْسِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عبد الحميد الملقب بحمدان، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا. وَمُحَمّد بن جَعْفَر هُوَ غنْدر.
تابَعَهُ عُبَيْدُ الله عنْ وَهبٍ عنْ جابِرٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الكَيْسِ.
أَي: تَابع الشّعبِيّ عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رِوَايَة لفظ الْكيس، والمتابع فِي الْحَقِيقَة هُوَ وهب لكنه نَسَبهَا إِلَى عبيد الله لِتَفَرُّدِهِ بذلك عَن وهب، وَتَقَدَّمت رِوَايَة عبيد الله بن عمر مَوْصُولَة فِي أَوَائِل الْبيُوع فِي أثْنَاء حَدِيث أَوله: كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غزَاة فَأَبْطَأَ بِي حملي الحَدِيث بِطُولِهِ.
22 - (بابٌ تَسْتَحِدُّ المُغِيبَةُ وتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، وَقد مر تفسيرهما الْآن.
7425 - حدّثني يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا هُشَيْمٌ أخْبَرَنَا سَيَّارٌ عنِ الشَّعبِيِّ عنْ جابِرِ بنِ عبْدِ الله قَالَ: كُنَّ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غَزوَةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا كِنَّا قَرِيبا مِنَ المَدِينَةِ تَعَجَّلْتُ عَلى بَعِيرٍ لي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخس بَعِيري بِعَنْزَةٍ كانَتْ مَعَهُ فَسارَ بَعيري كأحْسَنِ مَا أنْتَ راءٍ من الإبِلِ، فالْتَفَتُّ فإذَا أَنا بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقُلْتُ: يَا رسُولَ الله {إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ} قَالَ: أتَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أبِكْرا أمْ ثَيِّبا؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبا. قَالَ: فَهَلاَّ بِكْرا تُلاَعِبُها وتُلاَعِبُكَ؟ قَالَ: فلمَّا قَدمْنا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: أمْهِلُوا حتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً أَي: عِشاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتَسْتَحِدَّ المُغِيبةُ.(20/222)
هَذَا وَجه آخر فِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور فِيمَا قبله، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ مستقصى.
قَوْله: (فَنَخَسَ) بالنُّون وبالخاء الْمُعْجَمَة وبالسين الْمُهْملَة، وأصل النخس الدّفع وَالْحَرَكَة، قَالَه ابْن الْأَثِير فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث، وَفِي (الغرب) : نخس دَابَّته إِذا طَعنهَا بِعُود وَنَحْوه، والعنزة عصى نَحْو نصف الرمْح.
321 - (بابٌ { (24) وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا لبعولتهن} إِلَى قَوْله { (24) لم يظهروا على عورات النِّسَاء} (النُّور: 13)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا يبدين زينتهن} أَي وَلَا يظهرن (زينتهن) يَعْنِي: مَا يتزين بِهِ من حلي أَو كحل أَو خضاب، والزينة مِنْهَا مَا هُوَ ظَاهر وَهُوَ الثِّيَاب والرداء فَلَا بَأْس بإبداء هَذَا للأجانب، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِي كالخلخال والسوار والدملج والقرط والقلادة والإكليل والوشاح، وَلَا يبدينها (إِلَّا لبعولتهن) وَهُوَ جمع بعل وَهُوَ الزَّوْج {أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخوانهن} وَهُوَ جمع أَخ {أَو بني أخواتهن أَو نسائهن} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قيل فِي نسائهن: هن الْمُؤْمِنَات لِأَنَّهُ لَيْسَ للمؤمنة أَن تتجرد بَين يَدي مُشركَة أَو كنابية. وَالظَّاهِر أَنه عني بنسائهن وَمَا ملكت أيمانهن فِي صبحتهن وخدمتهن من الْحَرَائِر وَالْإِمَاء، وَالنِّسَاء كُلهنَّ سَوَاء فِي حل نظر بَعضهنَّ إِلَى بعض، وَقيل: مَا ملكت أيمانهن هم الذُّكُور وَالْإِنَاث جَمِيعًا. قَوْله: (أَو التَّابِعين) هم الْقَوْم الَّذين يتبعُون الْقَوْم وَيَكُونُونَ مَعَهم لإرفاقهم إيَّاهُم، أَو لأَنهم نشأوا فيهم {غير أولي الإربة} أَي: الْحَاجة (من الرِّجَال) ، وَلَا حَاجَة لَهُم فِي النِّسَاء وَلَا يشتهونهن، وَقيل: التَّابِع الأحمق الَّذِي لَا تشتهيه الْمَرْأَة وَلَا يغار عَلَيْهِ الرجل، وَقيل: هُوَ الأبله الَّذِي يُرِيد الطَّعَام وَلَا يُرِيد النِّسَاء، وَقيل: الْعنين، وَقيل: الشَّيْخ الفاني، وَقيل: إِنَّه الْمَجْبُوب، وَالْمعْنَى لَا يبدين زينتهن لمماليكهن وَلَا أتباعهن إِلَّا أَن يَكُونُوا غير أولي الإربة {أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء} فيعطلوا عَلَيْهَا. قيل: لم يظهروا، إِمَّا من ظهر على الشَّيْء إِذا اطلع عَلَيْهِ، أَي: لَا يعْرفُونَ مَا الْعَوْرَة وَلَا يميزون بَينهَا وَبَين غَيرهَا، وَإِمَّا من ظهر على فلَان إِذا قوي عَلَيْهِ أَي: لم يبلغُوا أَوَان الْقُدْرَة على الْوَطْء. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِه الْآيَة نزلت بعد الْحجاب، ثمَّ الزِّينَة هِيَ الْوَجْه والكفان، وَقيل: اليدان إِلَى المرافقين، وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أُبِيح للنِّسَاء أَن يبدين زينتهن لمن ذكر فِي هَذِه الْآيَة إلاَّ فِي العبيد، وَعَن سعيد بن الْمسيب لَا تغرنكم هَذِه الْآيَة، إِنَّمَا عَنى بهَا الْإِمَاء وَلم يعن بِهِ العبيد، وَكَانَ الشّعبِيّ يكره أَن ينظر الْمَمْلُوك إِلَى شعر مولاته، وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد، وَعَن ابْن عَبَّاس: يجوز ذَلِك، فَدلَّ على أَن الْآيَة عِنْده على الْعُمُوم فِي المماليك، وَقيل: لم يذكر فِي الْآيَة الْخَال وَالْعم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ اسْتغنى عَن ذكرهمَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِمَا لِأَن الْعم ينزل منزلَة الْأَب، وَالْخَال منزلَة الْأُم.
8425 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ أبِي حازمٍ قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بأيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَسَأَلَ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وكانَ مِنْ آخِر مَنْ بَقِيَ مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمَدينةِ، فَقَالَ: وَمَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي. كانَتْ فاطِمَةُ، علَيْها السَّلاَمُ تَغْسلُ الدَّمَ عنْ وَجْهِهِ وعليٌّ يَأْتِي بالماءِ علَى تُرْسِهِ فأُخِذَ حَصِيرٌ فَحُرِّقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ.
وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذِه الْآيَة وَبَين الحَدِيث إِنَّمَا يظْهر من قَوْله: {إِلَّا لبعولتهن أَو آبائهن} وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو حَازِم هُوَ سَلمَة بن دِينَار.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب غسل الْمَرْأَة الدَّم عَن وَجه أَبِيهَا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن سُفْيَان إِلَى آخِره.
قَوْله: (فَحرق) وَفِي الأَصْل فَأحرق من بَاب الْأَفْعَال، وَحرق من بَاب التفعيل على صِيغَة الْمَجْهُول، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت هُنَاكَ.
421 - (بَاب { (24) وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم} (النُّور: 85)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم} (النُّور: 85) وَقَبله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات} إِلَى قَوْله: {وَالله عليم حَكِيم} (النُّور: 85) وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَاما من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ مُدْلِج بن عَمْرو إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقت الظهيرة(20/223)
لِيَدْعُوهُ، فَدخل فَرَأى عمر بِحَالَة كره عمر رُؤْيَة ذَلِك، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! وددت لَو أَن الله أمرنَا ونهانا فِي حَالَة الاسْتِئْذَان فَنزلت هَذِه الْآيَة، وَقَالَ مقَاتل تزلت هَذِه الْآيَة فِي أَسمَاء بنت مرْثَد الحارثية، وَكَانَ لَهَا غُلَام كَبِير فَدخل عَلَيْهَا وَفِي وَقت كرهته، فَأَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِن خدمنا وغلماننا يدْخلُونَ علينا فِي حَالَة نكْرههَا فَأنْزل الله الْآيَة قيل: ظَاهر الْخطاب للرِّجَال وَالْمرَاد بِهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء تَغْلِيبًا للمذكر على الْمُؤَنَّث. قَالَ الإِمَام: وَالْأولَى أَن يكون الْخطاب للرِّجَال وَالْحكم ثَابت للنِّسَاء بِقِيَاس جلي لِأَن النِّسَاء فِي بَاب حفظ الْعَوْرَة أَشد حَالا من الرِّجَال. وَمعنى الْكَلَام: لِيَسْتَأْذِنكُم مماليككم فِي الدُّخُول عَلَيْكُم، قَالَ أَبُو يعلى: وَالْأَظْهَر أَن يكون المُرَاد العبيد الصغار لِأَن العَبْد الْبَالِغ بِمَنْزِلَة الْحر الْبَالِغ فِي تَحْرِيم النّظر إِلَى مولاته: {وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم} أَي من الْأَحْرَار من الذُّكُور وَالْإِنَاث قَوْله: {ثَلَاث مَرَّات} أَي: ثَلَاث أَوْقَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من قبل صَلَاة الْفجْر لِأَنَّهُ وَقت الْقيام من الْمضَاجِع وَطرح مَا ينَام فِيهِ من الثِّيَاب وَلبس ثِيَاب الْيَقَظَة {وَحين تضعون ثيابكم} من الظهيرة القائلة، وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء لِأَنَّهُ وَقت التجرد من ثِيَاب الْيَقَظَة والالتحاف بِثِيَاب النّوم، وَإِنَّمَا خص هَذِه الْأَوْقَات لِأَنَّهَا سَاعَات الْغَفْلَة وَالْخلْوَة وَوضع الثِّيَاب وَالْكِسْوَة. قَوْله: (ثَلَاث عورات لكم) سمى كل وَاحِدَة من هَذِه الْأَحْوَال عَورَة لِأَن النَّاس يخْتل تسترهم وتحفظهم فِيهَا، والعورة الْخلَل.
9425 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ أخْبرنا عبْدُ الله أخبرنَا سُفْيانُ عنْ عبدِ الرَّحْمانِ بنِ عابِسٍ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، سألَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، العيدَ أضْحًى أوْ فِطْرا؟ قَالَ: نَعَمْ، ولوْلا مَكانِي منْه مَا شهِدْتُهُ يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ قَالَ: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ولَمْ يَذُكُرْ أذَانَا وَلَا إقامَةَ، ثُمَّ أتَى النِّساءَ فَوَعَظَهُنَّ وذَكَرَهُنَّ وأمَرَهُنَّ بالصَّدَقَةِ، فَرَأيْتَهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذانِهِنَّ وحُلُوقِهنَّ يَدْفَعْنَ إِلَى بَلاَلٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا قَالَه الْمُهلب: كَانَ ابْن عَبَّاس فِي هَذَا لوقت مِمَّن يطلع على عورات النِّسَاء، وَلذَلِك قَالَ: لَوْلَا مَكَاني من الصغر مَا عهدته، وَهَذَا هوموضع التَّرْجَمَة بقوله: بَاب {وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم} قَالَ: وَكَانَ بِلَال من الْبَالِغين قَالَ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم} (النُّور: 85) فَأجرى الَّذين ملكت أمانهم مجْرى الَّذين لم يبلغُوا الْحلم، وَأمر بالاستئذان فِي العورات الثَّلَاث، لِأَن النَّاس ينكشفون فِي تِلْكَ الْأَوْقَات وَلَا يكونُونَ فِي التستر فِيهَا كَمَا يكونُونَ فِي غَيرهَا.
وَأحمد بن مُحَمَّد الملقب بمردويه، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَضم الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: السمسار الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة من العبوس النَّخعِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث قد مر فِي صَلَاة الْعِيد فن بَاب الْعلم الَّذِي بالمصلى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن عَابس إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (لَوْلَا مَكَاني مِنْهُ) أَي: منزلتي من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (من صغره) ، فِيهِ الْتِفَات، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: من صغري على الأَصْل، كَذَا قَالَ بَعضهم. قلت: الظَّاهِر أَن قَوْله: (من صغره) لَيْسَ من كَلَام ابْن عَبَّاس، بل من كَلَام أحد الروَاة بِدَلِيل قَوْله: (يَعْنِي من صغره) على مَا لَا يخفى، وَأما على رِوَايَة السَّرخسِيّ فَمن كَلَامه بِلَا نزاع فَافْهَم. قَوْله: (ويهوين) ، من بَاب ضرب يضْرب قَالَ الْكرْمَانِي: من الإهواء أَي: يقصدن، قلت: فَحِينَئِذٍ بِضَم الْيَاء من أَهْوى إِذا أَرَادَ أَن يَأْخُذ شَيْئا. قَوْله: (يدفعن) حَال قَوْله: (ثمَّ ارْتَفع هُوَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: رَجَعَ هُوَ وبلال مَعَه وَفِي رِوَايَة صَلَاة الْعِيد: ثمَّ انْطلق هُوَ وبلال إِلَى بَيته. وَقَالَ ابْن التِّين: اخْتلف فِي أول من ابتدع الْأَذَان أَولا للعيد، فَقيل: ابْن الزبير، وَقيل: مُعَاوِيَة، وَقيل: ابْن هِشَام، وَعَن الدَّاودِيّ: مَرْوَان، وَقَالَ الْقُضَاعِي: زِيَاد.
521
- (بابُ قَوْل الرَّجُلِ لِصاحِبِهِ: هَلْ أعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟ وطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الْخاصِرَةِ عِنْدَ العِتابِ) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الرجل لصَاحبه هَل أعرستم اللَّيْلَة؟ وَهَذَا الْمِقْدَار زَاده ابْن بطال فِي شَرحه وَلم يذكرهُ غَيره(20/224)
إِلَّا نَاب طعن الرجل ابْنَته فِي الخاصرة عِنْد العتاب، ثمَّ قَالَ ابْن بطال: لم يخرج البُخَارِيّ فِيهِ حَدِيثا، واخرج فِي أول كتاب الْعَقِيقَة رِوَايَة أنس، قَالَ: كَانَ ابْن لأبي طَلْحَة يشتكي، فَخرج أَبُو طَلْحَة فَقبض الصَّبِي، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَة قَالَ: مَا فعل ابْني؟ قَالَت أم سليم: هُوَ أسكن مِمَّا كَانَ، فقربت إِلَيْهِ الْعشَاء فتعشى، ثمَّ أصَاب مِنْهَا ... الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: أعرستم اللَّيْلَة؟ فَذكره، وَهُوَ من أعرس الرجل فَهُوَ معرس إِذا دخل بامرأته عِنْد بنائها وَأَرَادَ بِهِ هَهُنَا الْوَطْء، فَسَماهُ إعراسا لِأَنَّهُ من تَوَابِع الإعراس، وَلَا يُقَال فِيهِ عرس، قَوْله: (وَطعن الرجل) عطف على قَول: الرجل، وَهُوَ مصدر مُضَاف إِلَى فَاعل، وَابْنَته بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (عِنْد العتاب) أَي فِي حَالَة المعاتبة.
0525 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القاسِمِ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، قالَتْ: عاتَبَنِي أبُو بَكْرٍ وجَعَل يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خاصرَتِي فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إلاّ مَكانُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأسُهُ عَلى فَخِذِي.
التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة مُشْتَمِلَة على جزءين أَحدهمَا هُوَ قَوْله: قَول الرجل لصَاحبه: هَل أعرستم اللَّيْلَة؟ فَإِن كَانَ هَذَا الْجُزْء مفقودا فِي أَكثر الرِّوَايَات، على مَا قَالَه ابْن بطال، فَلَا وَجه إِلَى ذكر شَيْء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وعَلى تَقْدِيره وجوده فوجهه أَن البُخَارِيّ يترجم وَلَا يذكر حَدِيثا يُنَاسِبه إشعارا بِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا بِشَرْطِهِ يدل عَلَيْهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِوَجْه، فَإِن الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي كتاب الْعَقِيقَة عَن أنس يطابقه، وَهُوَ على شَرطه فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكرهُ هَهُنَا، وَقيل: لما كَانَت كل وَاحِدَة من الْحَالَتَيْنِ مَمْنُوعَة فِي غير الْحَالة الَّتِي ورد فِيهَا، كَانَ ذَلِك جَامعا بَينهمَا، فَإِن طعن الخاصرة لَا يجوز إلاَّ مَخْصُوصًا بِحَالَة العتاب، وَكَذَلِكَ سُؤال الرجل عَن الْجِمَاع لَا يجوز إلاَّ فِي مثل حَالَة أبي طَلْحَة من تسليته من مصيبته وبشارته بِغَيْر ذَلِك. قلت: هَذَا لَا يَخْلُو عَن تعسف، والجزء الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: وَطعن الرجل ... إِلَى آخِره، ومطابقة حَدِيث الْبَاب لَهُ ظَاهِرَة.
وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْقَاسِم يروي عَن أَبِيه الْقَاسِم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث عَائِشَة، وَقد مضى فِي أول كتاب التَّيَمُّم مطولا وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
86 - (كتابُ الطلاَقِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الطَّلَاق وأنواعه، وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْكِتَابَيْنِ ظَاهر إِذْ الطَّلَاق يعقب النِّكَاح فِي الْوُجُود، فَكَذَلِك فِي وضع الْأَحْكَام فيهمَا. وَالطَّلَاق اسْم للتطليق كالسلام اسْم للتسليم، يُقَال: طلق يُطلق تطليقا، وَطلقت بِفَتْح اللَّام تطلق طَلَاقا فَهِيَ طَالِق وطالقة أَيْضا. وَقَالَ الْأَخْفَش: لَا يُقَال: طلقت، بِالضَّمِّ وَطلقت أَيْضا بِضَم أَوله وَكسر اللَّام الثَّقِيلَة، فَإِن خففت فَهُوَ خَاص بِالْولادَةِ، والمضارع فيهمَا بِضَم اللَّام، والمصدر فِي الْولادَة: طلق، بِسُكُون اللَّام فَهِيَ طَالِق فيهمَا. وَمعنى الطَّلَاق فِي اللُّغَة: رفع الْقَيْد مُطلقًا، مَأْخُوذ من إِطْلَاق الْبَعِير وَهُوَ إرْسَاله من عقاله، وَفِي الشَّرْع: رفع قيد النِّكَاح وَيُقَال: حل عقدَة التَّزْوِيج.
1 - (بَاب وقوْلِ الله تَعَالَى: { (65) يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا الْعدة أحصيناه حفظناه وعددناه} (الطَّلَاق: 1) أحْصَيْناهُ حَفِظْناهُ وعَدَدْناهُ.)
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: الطَّلَاق قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِي} خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِلَفْظ الْجمع تَعْظِيمًا،. أَو على إِرَادَة ضم أمته، إِلَيْهِ وَالتَّقْدِير: يَا أَيهَا النَّبِي وَأمته (إِذا طلّقْتُم النِّسَاء) أَي إِذا أردتم تطليق النِّسَاء (فطلقوهن لعدتهن) يَعْنِي: طلقوهن مستقبلات لعدتهن. كَقَوْلِك: آتِيَة لليلة بقيت من الْمحرم أَي: مُسْتَقْبلا لَهَا، وَالْمرَاد أَن يُطَلِّقهُنَّ فِي طهر لم يجامعهن فِيهِ ثمَّ يخلين حَتَّى تَنْقَضِي عدتهن، وَهَذَا أحسن الطَّلَاق وَأدْخلهُ فِي السّنة وأبعده من النَّدَم. وَقَالَ النَّسَفِيّ (فطلقوهن لعدتهن) وَهُوَ أَن يطلقهَا ثَلَاثًا من غير جماع. وَقيل: طلقوهن لطهرهن الَّذِي يحصينه من عدتهن وَلَا تطلقوهن لحيضهن الَّذِي لَا يعتدن بِهِ من قرئهن، وَهَذَا للمدخول بهَا، لِأَن من لم يدْخل بهَا لَا عدَّة عَلَيْهَا.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة، فَقَالَ الواحدي:(20/225)
عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ: طلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَفْصَة فَأنْزل الله عز وَجل قَوْله تَعَالَى: قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الطَّلَاق: 1) الْآيَة. وَقيل لَهُ: رَاجعهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَة قوامه، وَهِي من إِحْدَى أَزوَاجك ونسائك فِي الْجنَّة. وَقَالَ السّديّ: نزلت فِي عبد الله بن عمر، وَذَلِكَ أَنه طلق امْرَأَته حَائِضًا، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُرَاجِعهَا. وَقَالَ مقَاتل: نزلت فِي عبد الله بن عمر وَعقبَة بن عَمْرو الْمَازِني، وطفيل بن الْحَارِث بن الْمطلب، وَعَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : قَالَ عبد الله: وَذَلِكَ أَن عمر وَنَفَرًا مَعَه من الْمُهَاجِرين كَانُوا يطلقون بِغَيْر عدَّة ويراجعون بِغَيْر شُهُود، فَنزلت وَالطَّلَاق أبْغض الْمُبَاحَات وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن من أبْغض الْحَلَال إِلَى الله الطَّلَاق، وَقَالَ: تزوجوا وَلَا تطلقوا فَإِن الطَّلَاق يَهْتَز مِنْهُ الْعَرْش، وَقَالَ: لَا تطلقوا النِّسَاء إلاَّ من رِيبَة فَإِن الله لَا يحب الذواقين وَلَا يحب الذواقات، وَقَالَ: مَا حلف بِالطَّلَاق وَلَا اسْتحْلف بِهِ إلاَّ مُنَافِق.
وطَلاَقُ السُّنَّةِ أنح يُطَلِّقبَها طاهِرا مِنْ غَيْرِ جِماعٍ، ويُشْهِدَ شاهِدَيْنِ
أَي: الطَّلَاق السّني أَن يُطلق امْرَأَته حَالَة طَهَارَتهَا عَن الْحيض، وَلَا تكون مَوْطُوءَة فِي ذَلِك الطُّهْر وَأَن يشْهد شَاهِدين على الطَّلَاق، فمفهومه: أَنه إِن طَلقهَا فِي الْحيض أَو فِي طهر وَطئهَا فِيهِ أَو لم يشْهد يكون طَلَاقا بدعيا. وَاخْتلفُوا فِي طَلَاق السّنة، فَقَالَ مَالك: طَلَاق السّنة أَن يُطلق الرجل امْرَأَته فِي طهر لم يسمهَا فِيهِ تَطْلِيقَة وَاحِدَة ثنم يَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة بِرُؤْيَة أول الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة. وَهُوَ قَول اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هَذَا حسن من الطَّلَاق، وَله قَول آخر، وَهُوَ: مَا إِذا أَرَادَ أَن يطلقهَا ثَلَاثًا طَلقهَا عِنْد كل طهر طَلْقَة وَاحِدَة من غير جماع، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأَشْهَب، وَزعم المرغيناني أَن الطَّلَاق على ثَلَاثَة أوجه عِنْد أَصْحَاب أبي حنيفَة: حسن وَأحسن وبدعي، فَالْأَحْسَن أَن يطلقهَا وَهِي مَدْخُول بهَا تَطْلِيقَة وَاحِدَة فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ وَيَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا، وَالْحسن وَهُوَ طَلَاق السّنة وَهُوَ أَن يُطلق الْمَدْخُول بهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَة أطهار، والبدعي أَن يطلقهَا ثلاقا بِكَلِمَة وَاحِدَة، أَو ثَلَاثًا فِي طهر وَاحِد، فَإِذا فعل ذَلِك وَقع الطَّلَاق وَكَانَ عَاصِيا.
1525 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبدِ الله بنِ عُمَر رَضِي الله عَنْهُمَا، أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهْيَ حائِضٌ علَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عنْ ذَلك؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مُرْهُ فلْيُرَاجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حتَّى تَطْهَرُ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهَرُ ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدُ، وإنْ شاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتي أمَرَ الله أَن تُطَلَّقَ لَهَا النِّساء.
إِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرج النَّسَائِيّ أَيْضا فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم.
قَوْله: (طلق امْرَأَته) وَهِي آمِنَة بنت غفار، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء، قَالَه النَّوَوِيّ فِي (تهذيبه) وَقيل: بنت عمار، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم، وَوَقع فِي (مُسْند أَحْمد) أَن اسْمهَا نوار، وَيُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن يكون اسْمهَا: آمِنَة ونوار لقبها، وآمنة بِهَمْزَة مَفْتُوحَة ممدودة وَمِيم مَكْسُورَة وَنون، ونوار بنُون مَفْتُوحَة. قَوْله: (وَهِي حَائِض) ، قيل: هَذِه جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، فالمطابقة بَينهمَا شَرط. وَأجِيب بِأَن الصّفة إِذا كَانَت خَاصَّة بِالنسَاء فَلَا حَاجَة إِلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة قَاسم بن إصبغ من طَرِيق عبد الحميد بن جَعْفَر عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَنه طلق امْرَأَته وَهِي فِي دَمهَا حَائِض، وَعند الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر: أَنه طلق امْرَأَته فِي حَيْضهَا وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَمَان طرق صِحَاح. مِنْهَا: عَن نصر بن مَرْزُوق وَابْن أبي دَاوُد كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر أخبرهُ: أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض فَذكر ذَلِك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتغيظ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لتراجعها ثمَّ(20/226)
ليمسكها حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض فَتطهر، فَإِن بدا لَهُ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا طَاهِرا قبل أَن يَمَسهَا، فَتلك الْعدة كَمَا أَمر الله) قَوْله: (على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي فِي زَمَنه وأيامه، كَذَا وَقع هَذَا فِي رِوَايَة مَالك، وَكَذَا وَقع عِنْد مُسلم فِي رِوَايَة أبي الزبير عَن ابْن عمر، وَأكْثر الروَاة لم يذكرُوا هَذَا لِأَن قَوْله فَسَأَلَهُ عمر عَن ذَلِك يُغني عَن هَذَا. قَوْله: (فَسَأَلَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك) ، أَي: عَن حكم طَلَاق ابْنه عبد الله على هَذَا الْوَجْه، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع: فَأتى عمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر لَهُ ذَلِك، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي رِوَايَة يُونُس بن عبيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن يُونُس بن جُبَير. قَوْله: (مره) أَي: مر عبد الله.
اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْأَمر، فَقَالَ مَالك: هَذَا للْوُجُوب وَمن طلق زَوجته حَائِضًا أَو نفسَاء فَإِنَّهُ يجْبر على رَجعتهَا فسوى دم النّفاس بِدَم الْحيض، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين: يُؤمر برجعتها وَلَا يجْبر على ذَلِك، وحملوا الْأَمر فِي ذَلِك على النّدب ليَقَع الطَّلَاق على سنة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وهم من قَالَ: إِن قَوْله: (مره فَلْيُرَاجِعهَا) من كَلَام ابْن عمر لَا من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن صَرِيح فِيهِ وَقَول بَعضهم: إِنَّه أَمر عمر لِابْنِهِ أغرب مِنْهُ، وَهَهُنَا مَسْأَلَة أصولية، وَهِي أَن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء: هَل هُوَ أَمر بذلك الشَّيْء أم لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مره، فَأمره بِأَن يَأْمر بأَمْره حَكَاهَا ابْن الْحَاجِب، فَقَالَ: الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا بذلك الشَّيْء، وَقَالَ الرَّازِيّ: الْأَمر بِالْأَمر بالشي أَمر بالشَّيْء وبسطها فِي الْأُصُول.
قَوْله: (فَلْيُرَاجِعهَا) فِي رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع: فَأمره أَن يُرَاجِعهَا، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَرَاجعهَا عبد الله كَمَا أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاخْتلف فِي وجوب الرّجْعَة فَذهب إِلَيْهِ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَالْمَشْهُور عَنهُ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: إِنَّهَا مُسْتَحبَّة، وَذكر صَاحب (الْهِدَايَة) أَنَّهَا وَاجِبَة لوُرُود الْأَمر بهَا. قَوْله: {ليمسكها} أَي: ليستمر بهَا فِي عصمته حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر، وَفِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع: ثمَّ لِيَدَعْهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض حَيْضَة أُخْرَى، فَإِذا طهرت فَلْيُطَلِّقهَا، وَنَحْوه فِي رِوَايَة اللَّيْث وَأَيوب عَن نَافِع، وَكَذَا عِنْد مُسلم فِي رِوَايَة عبد الله بن دِينَار. قَوْله: (إِن شَاءَ أمسك بعد) أَي: بعد الطُّهْر من الْحيض الثَّانِي قَوْله: (قبل أَن يمس) أَي: قبل أَن يُجَامع. قَوْله: (فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله تَعَالَى) أَي بقوله: {فطلقوهن لعدتهن} (الطَّلَاق: 1) وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللَّام بِمَعْنى: فِي يَعْنِي فِي يعْنى فِي قَوْله: أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء. قلت: لَا نسلم أَن اللَّام هَهُنَا بِمَعْنى الظّرْف لِأَن مَعَانِيهَا الَّتِي جَاءَت لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على كَونهَا ظرفا بل اللَّام هُنَا للاستقبال كَمَا فِي قَوْلهم: تأهب للشتاء، وكما فِي قَوْلهم: لثلاث بَقينَ من الشَّهْر، أَي مُسْتَقْبلا لثلاث، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فطلقوهن لعدتهن} يَعْنِي: مستقبلات لعدتهن.
ويستنبط من هَذَا الحَدِيث أَحْكَام: الأول: أَن الطَّلَاق فِي الْحيض محرم وَلكنه وَاقع، وَذكر عِيَاض عَن الْبَعْض أَنه لَا يَقع. قلت: هُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة، وروى مثل ذَلِك عَن بعض التَّابِعين وَهُوَ شذوذ لم يعرج عَلَيْهِ أصلا. الثَّانِي: أَن الْأَمر فِيهِ بالرجعة على الْوُجُوب أم لَا؟ . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. الثَّالِث: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن طَلَاق السّنة أَن يكون فِي طهر الرَّابِع: قَوْله: (فَلْيُرَاجِعهَا) دَلِيل على أَن الطَّلَاق غير الْبَائِن لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى رضَا الْمَرْأَة. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل على أَن الرّجْعَة تصح بالْقَوْل، وَلَا خلاف فِيهِ. وَأما بِالْفِعْلِ فَفِيهِ خلاف، فَأَبُو حنيفَة أثْبته، وَالشَّافِعِيّ نَفَاهُ. السَّادِس: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة أَن من طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض أَثم وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يُرَاجِعهَا، فَإِن تَركهَا حَتَّى مَضَت الْعدة بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاق، وَفِي هَذَا الْموضع كَلَام كثير جدا، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَليُرَاجع إِلَى (شرحنا لمعاني الْآثَار للطحاوي) رَحمَه الله تَعَالَى.
2 - (بابٌ إذَا طُلِّقَتِ الحائِضُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الطّلاَقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ إِذا طلقت الْمَرْأَة وَهِي حَائِض يعْتَبر ذَلِك الطَّلَاق، وَعَلِيهِ أجمع أَئِمَّة الْفَتْوَى من التَّابِعين وَغَيرهم، وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة والخوارج والرافضة لَا يَقع، وَحكى عَن ابْن علية أَيْضا.
2525 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أنَس بنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عْمَرَ قَالَ: طَلّقَ ابنُ عُمَرَ امْرَأتَهُ وهْيَ حائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: لُيَراجِعْها قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: فَمَهْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأنس بن سِيرِين هُوَ أَخُو مُحَمَّد بن سِيرِين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن الْمثنى(20/227)
وَعَن آخَرين.
قَوْله: (ليراجعها) دَلِيل على وُقُوع الطَّلَاق فِي الْحيض. قَوْله: (قلت: تحتسب) الْقَائِل أنس بن سِيرِين، وَتحْتَسب على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: تحتسب طَلْقَة من عدد الطلقات؟ (قَالَ: فَمه) أَي: قَالَ ابْن عمر: فِيهِ أَصله فَمَا للاستفهام وأبدل الْألف: خاء أَي، فَمَا يكون إِن لم تحتسب طَلْقَة؟ وَيحْتَمل أَن يكون كلمة: مَه، للكف والزجر أَي: انزجر عَنهُ فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي وُقُوع الطَّلَاق. وَكَونه محسوبا فِي عدد الطلقات،.
وَقَالَ عبد الْحق: روى ابْن وهب عَن ابْن أبي ذِئْب أَن نَافِعًا أخبرهُ عَن ابْن عمر أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَسَأَلَ عمر عَن ذَلِك، فَقَالَ: مره فَلْيُرَاجِعهَا ثمَّ يمْسِكهَا ... الحَدِيث، وَفِي آخِره: وَهِي وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ ذكره الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هِيَ وَاحِدَة، وَبِهَذَا رد عبد الْحق على ابْن حزم فِي قَوْله: إِنَّه لَا يحْتَسب من الطَّلَاق. قَالَ: فَهَذَا نَص فِي مَوضِع الْخلاف، وَلَيْسَ فِي مَا تقدم من الْكَلَام شَيْء يصلح أَن يعود عَلَيْهِ الضَّمِير إِلَّا الطَّلَاق الْمُتَقَدّم. وَقَالَ ابْن حزم: لَعَلَّ قَوْله: وَهِي وَاحِدَة، لَيْسَ من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ عبد الْحق: كَيفَ هَذَا وَفِي الحَدِيث: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَقَالَ ابْن حزم: أَو يكون معنى قَوْله: وَهِي وَاحِدَة أَي: وَاحِدَة أَخطَأ فِيهَا ابْن عمر أَو قَضِيَّة وَاحِدَة لَازِمَة لكل مُطلق قَالَ عبد الْحق: وَيَكْفِي فِي هَذَا التَّأْوِيل سَمَاعه، وَلَو فعل هَذَا غَيره لقام وَقعد.
وعَنْ قَتَادَةَ عنْ يُونُسَ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: أرَأيْتَ إنْ عَجَزَ واسْتَحْمَقَ؟ .
هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: عَن أنس بن سِيرِين فَهُوَ مَوْصُول. وَيُونُس بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آُر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: أَبُو غلاب، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وبالباء الْمُوَحدَة: الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ قبل أنس وَأوصى أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ أنس.
قَوْله: (قلت تحتسب؟) الْقَائِل يُونُس بن جُبَير، وَهِي على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَرَأَيْت؟) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: أرأيته؟ وَقَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد: (أَرَأَيْت إِن عجز واستحمق؟) أَي: أيسقط عَجزه وحمقه حكم الطَّلَاق الَّذِي أوقعه فِي الْحيض؟ وَهَذَا من الْمَحْذُوف الْجَواب الَّذِي يدل عَلَيْهِ الفحوى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أفيرتفع عَنهُ الطَّلَاق وَإِن عجز واستحمق؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام إنكاري، وَتَقْدِيره: نعم، يحْتَسب وَلَا يمْنَع احتسابها لعَجزه وحماقته، وَالْقَائِل لهَذَا الْكَلَام هُوَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، صَاحب الْقِصَّة وبريد بِهِ نَفسه، وَإِن أعَاد: الضَّمِير بِلَفْظ الْغَيْبَة، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم أَن ابْن عمر قَالَ: مَالِي لَا أَعْتَد بهَا وَإِن كنت عجزت واستحمقت؟ وَقَالَ القَاضِي: أَي: إِن عجز عَن الرّجْعَة، وَفعل فعل الأحمق. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون كلمة ... أَن نَافِيَة أَي: مَا عجز ابْن عمر، وَمَا استحمق يَعْنِي: لَيْسَ طفْلا وَلَا مَجْنُونا حَتَّى لَا يَقع طَلَاقه وَالْعجز لَازم الطِّفْل، والحمق لَازم الْجُنُون وَهُوَ من إِطْلَاق اللَّازِم وَإِرَادَة الْمَلْزُوم، وَأَن يكون مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، لَو صحت الرِّوَايَة بِالْفَتْح فَالْمَعْنى أظهر، وَقَالَ ابْن الخشاب: التَّاء فِي استحمق مَفْتُوحَة وَالْمعْنَى: فعل فعلا يصير بِهِ أَحمَق عَاجِزا، فَيسْقط عَنهُ عَجزه وحمقه حكم الطَّلَاق، وَهَذِه الْمَادَّة، أَعنِي: مَادَّة الاستفعال، إِشَارَة إِلَى أَنه تكلّف الْحمق بِمَا فعله من تطليق امْرَأَته، وَهِي حَائِض. قيل: قد وَقع فِي بعض الْأُصُول بِضَم التَّاء، أَعنِي على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي أَن النَّاس استحمقوه بِمَا فعل. وَقَالَ الْمُهلب: معنى قَوْله: (إِن عجز واستحمق) يَعْنِي فِي الْمُرَاجَعَة الَّتِي أَمر بهَا عَن إِيقَاع الطَّلَاق أَو فقد عقله فَلم يكن مِنْهُ الرّجْعَة، أتبقى الْمَرْأَة معلقَة لَا ذَات بعل وَلَا مُطلقَة؟ وَقد نهى الله عز وَجل عَن ذَلِك، فَلَا بُد أَن يحْتَسب بِتِلْكَ التطليقة الَّتِي أوقعهَا على غير وَجههَا، كَمَا أَنه لَو عجز عَن فرض آخر لله تَعَالَى فَلم يقمه واستحمق فَلم يَأْتِ بِهِ مَا كَانَ يعْذر بذلك، وَسقط عَنهُ.
3525 - حدّثنا وَقَالَ أَبُو مَعْمَر: حدَّثنا عبْدُ الوَارثِ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ.
(انْظُر الحَدِيث 8094)
أَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري الْبَصْرِيّ المقعد، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، قَالَ أَبُو معمر: وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا أَبُو معمر، وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ أصلا، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ. قَوْله: (حسبت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (عَليّ) بتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة. وَأخرج هَذَا الْمُعَلق أَبُو نعيم من طَرِيق عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه مثل مَا أخرجه البُخَارِيّ مُخْتَصرا، وَزَاد يَعْنِي: حِين طلق امْرَأَته، فَسَأَلَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن(20/228)
حزم: حسبت عَليّ تَطْلِيقَة، لم يُصَرح فِيهِ من الَّذِي هُوَ حسبها عَلَيْهِ، وَلَا حجَّة فِي أحد دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأجِيب بِأَن هَذَا مثل قَول الصَّحَابِيّ: أمرنَا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَى من لَهُ الْأَمر حِينَئِذٍ، وَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قيل: مَحل هَذَا لَا يكون فِيهِ اطلَاع صَرِيح من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَفِي قصَّة ابْن عمر هَذِه، النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْآمِر بالمراجعة، فَهَذِهِ أقوى من قَول الصَّحَابِيّ: أمرنَا فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا، مَعَ أَن فِيهِ خلافًا، وَلَا يتَوَهَّم فِي ابْن عمر أَنه يفعل فِي الْقِصَّة شَيْئا بِرَأْيهِ، مَعَ أَن الدَّارَقُطْنِيّ خرّج من طَرِيق زيد بن هَارُون عَن ابْن أبي ذِئْب وَابْن إِسْحَاق جَمِيعًا عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هِيَ وَاحِدَة.
3 - (بابُ مَنْ طَلَّقَ، وهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ بالطّلاَقِ؟)
أَي: هَذَا بَاب وَهُوَ مُشْتَمل على جزأين: أَحدهمَا: قَوْله: (من طلق) وَهَذَا كَلَام لَا يُفِيد، إلاَّ بِتَقْدِير شَيْء، فَقَالَ بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ قصد إِثْبَات مَشْرُوعِيَّة جَوَاز الطَّلَاق، وَحمل حَدِيث: أبْغض الْحَلَال إِلَى الله الطَّلَاق، على مَا إِذا وَقع من غير سَبَب. قلت: هَذَا بعيد جدا، فَكيف قَوْله: من يُطلق، على هَذَا الْمَعْنى؟ وَلِهَذَا حذف ابْن بطال هَذَا من التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لم يظْهر لَهُ معنى، وعَلى تَقْدِير وجوده يُمكن أَن يُقَال: تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من طلق امْرَأَته هَل يُبَاح لَهُ ذَلِك؟ وَلم يذكر جَوَابه، وَهُوَ: نعم يُبَاح ذَلِك، لِأَن الله عز وَجل شرع الطَّلَاق كَمَا شرع النكاج. الْجُزْء الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: (وَهل يواجه الرجل امْرَأَته بِالطَّلَاق) وَهَذَا الِاسْتِفْهَام مَعْطُوف على الِاسْتِفْهَام الَّذِي قدرناه، وَلم يذكر جَوَابه أَيْضا، اعْتِمَادًا على مَا يفهم من حَدِيث الْبَاب.
4525 - حدّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا الولِيدُ حَدثنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ: سألْتُ الزُّهْرِيَّ أيُّ أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أخبرَني عُرْوَةُ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ ابْنَةَ الجَوْن لمّا أُدْخِلَتْ علَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودَنا مِنْها، قالَتْ: أعْوذُ بِاللَّه مِنْكَ. فَقَالَ لَها: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الحَقِي بأهْلِكِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تؤخذه من قَوْله: (إلحقي بأهلك) لِأَنَّهُ كِنَايَة عَن الطَّلَاق، وَقد واجهها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، فَدلَّ على أَنه يجوز، وَلَكِن تَركه أرْفق وألطف، إلاَّ أَن احْتِيجَ إِلَى ذَلِك.
والْحميدِي هُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى مَنْسُوب إِلَى حميد أحد أجداده، والوليد هُوَ ابْن مُسلم الدِّمَشْقِي، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عمر، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح أَيْضا عَن حُسَيْن بن حُرَيْث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ أَيْضا عَن دُحَيْم.
قَوْله: (إِن ابْنة الجون) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره نون: اسْمهَا أُمَيْمَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي مصغر الْأمة قلت: مصغر الْأمة أُميَّة وَهَذِه أُمَيْمَة مصغر أمة بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْمِيم وَقع فِي (كتاب الصَّحَابَة) لأبي نعيم: عَن عَائِشَة أَن عمْرَة بنت الجون تعوذت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين أدخلت عَلَيْهِ، وَفِي سَنَده عبيد بن الْقَاسِم مَتْرُوك، وَقيل: اسْمهَا أَسمَاء بنت كند الْجَوْنِية، رَوَاهُ يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَجمعُوا على أَنه تزوج أَسمَاء بنت النُّعْمَان بن أبي الجون بن شرَاحِيل، وَقيل: أَسمَاء بنت الْأسود بن الْحَارِث بن النُّعْمَان الكندية، وَاخْتلفُوا فِي فراقها، فَقيل: لما دخلت عَلَيْهِ دَعَاهَا فَقَالَت: تعال أَنْت، وأبت أَن تَجِيء، وَزعم بَعضهم أَنَّهَا استعاذت مِنْهُ فَطلقهَا، وَقيل بل كَانَ بهَا وضح كوضح العامرية، فَفعل بهَا كَفِعْلِهِ بهَا، وَقيل: المستعيذة امْرَأَة من بلعنبر من سبي ذَات الشقوق، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وبالقافين أولاهما مَضْمُومَة، وَهِي اسْم منزل بطرِيق مَكَّة، وَكَانَت جميلَة فخافت نساؤه أَن تغلبهن عَلَيْهِ، فَقُلْنَ لَهَا: إِنَّه يُعجبهُ أَن تقولي أعوذ بِاللَّه مِنْك. وَقَالَ ابْن عقيل: نكح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة من كِنْدَة وَهِي الشقية، فَسَأَلته أَن يردهَا إِلَى أَهلهَا فَردهَا إِلَى أَهلهَا مَعَ أبي أسيد، فَتَزَوجهَا المُهَاجر بن أبي أُميَّة، ثمَّ خلف عَلَيْهَا قيس بن مكشوح.
وَفِي (الِاسْتِيعَاب) : تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عمْرَة بنت يزِيد الْكلابِيَّة، فَبَلغهُ أَن بهَا بَيَاضًا فَطلقهَا، وَقيل: إِنَّهَا هِيَ الَّتِي تعوذت مِنْهُ. وَذكر الرشاطي أَن أَبَاهَا وصفهَا لسيدنا رَسُول الله، فَقَالَ: وَأَزِيدك أَنَّهَا لم تمرض قطّ. فَقَالَ: مَا لهَذِهِ عِنْد الله خير قطّ، فَطلقهَا وَلم يبين عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا أسيد السَّاعِدِيّ ليخطب عَلَيْهِ هِنْد بنت يزِيد بن البرصاء، فَقدم بهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا بنى عَلَيْهَا وَلم يكن رَآهَا رأى بهَا بَيَاضًا فَطلقهَا، وَذكر الشهرستاني: تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك الْكلابِيَّة، فَلَمَّا خير نِسَاءَهُ اخْتَارَتْ قَومهَا فَكَانَت تلقط البعر(20/229)
وَتقول: أَنا الشقية.
قَوْله: (لقد عذت) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة من العوذ وَهُوَ الالتجاء. قَوْله: (بعظيم) أَي: بِرَبّ عَظِيم. قَوْله: (إلحقي) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون اللَّام من اللحوق، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي قَول إلحقي بأهلك وَشبهه من كنايات الطَّلَاق، فَقَالَت طَائِفَة، يَنْوِي فِي ذَلِك فَإِن أَرَادَ طَلَاقا، وَإِن لم يردهُ لم يلْزمه شَيْء، هَذَا قَول الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة، قَالَا: إِذا نوى وَاحِدَة أَو ثَلَاثًا فَهُوَ مَا نوى، وَإِن نوى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَة، وَقَالَ مَالك: إِن أَرَادَ بِهِ الطَّلَاق فَهُوَ مَا نوى وَاحِدَة أَو ثِنْتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَإِن لم يرد شَيْئا فَلَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الْحسن وَالشعْبِيّ: إِذا قَالَ: إلحقي بأهلك، أَو: لَا سَبِيل عَلَيْك أَو: الطَّرِيق لَك وَاسع إِن نوى طَلَاقا فَهِيَ وَاحِدَة وَإِلَّا فَلَيْسَ بِشَيْء.
قَالَ أبُو عبْدِ الله: روَاهُ حَجَّاجُ بنُ أبي مَنِيعٍ عنْ جَدِّهِ عنِ الزّهْرِيِّ أنَّ عُرْوَةَ أخْبَرَهُ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ.
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَلَيْسَ بموجود فِي بعض النّسخ. قَوْله: (رَوَاهُ) أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور حجاج ابْن أبي منيع، بِفَتْح الْمِيم وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، وَهُوَ حجاج بن يُوسُف بن أبي منيع، وَاسم أبي منيع عبيد الله بن أبي زِيَاد الْوَصَّافِي بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة وبالفاء، وَكَانَ يكون بحلب، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ إلاَّ مُعَلّقا، وَكَذَا لجده، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ يَعْقُوب بن سُفْيَان النسوى فِي مشيخته، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر للجونية إِنَّمَا فِيهِ: أَنَّهَا كلابية، وَقَالَ: حَدثنَا حجاج بن أبي منيع عبيد الله بن أبي زِيَاد بحلب، حَدثنَا جدي عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَالِيَة بنت ظبْيَان بن عَمْرو، من بني أبي بكر بن كلاب، فَدخل بهَا فَطلقهَا، وَقَالَ حجاج: حَدثنَا جدي حَدثنَا مُحَمَّد بن مُسلم أَن عُرْوَة أخبرهُ أَن عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: فَدلَّ الضَّحَّاك بن سُفْيَان من بني أبي بكر بن كلاب عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: بيني وَبَينهَا الْحجاب يَا رَسُول الله، هَل لَك فِي أُخْت أم شبيب؟ قَالَت: وَأم شبيب امْرَأَة الضَّحَّاك.
5525 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا عبدُ الرَّحْمنِ بنُ غَسِيلٍ عنْ حَمْزَةَ بنِ أبي أُسَيْدٍ عنْ أبي أُسَيْدٍ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: خَرَجْنَا معَ النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حائَطٍ يُقالُ لهُ الشَّوْظ حتَّى انْتَهَيْنا إِلَى حائِطَيْنِ فَجَلَسْنَا بَيْنَهُما، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اجْلِسُوا هاهُنا، ودَخَلَ وقَدْ أُتِيَ بالجَوْنِيّةِ فأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَها دايَتُها حاضِنَةٌ لَها، فَلمَّا دَخَلَ علَيْها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: هَبِي نَفْسَكِ لي: قالَتْ: وهَلْ تَهَبُ المَلِكةُ نَفْسَها لِلسُّوقَةِ؟ قَالَ: فأهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْها لَتَسْكُنَ، فَقَالَتْ أعُوذُ بِاللَّه مِنْكَ فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمعاذٍ ثُمَّ خَرَجَ علَيْنا فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْد! إكسُها رازقِيَّيْنِ وألحِقْها بِأَهْلِهَا.
(انْظُر الحَدِيث 5525 طرفه فِي: 7525)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يواجه الْجَوْنِية الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث بقوله الحقي بأهلك، وَإِنَّمَا قَالَ لأبي أسيد: (ألحقها بِأَهْلِهَا) . والترجمة بالاستفهام من غير تعْيين شَيْء من أَمر المواجهة وَعدمهَا، وَقد ذكرنَا أَنه يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ، غير أَن ترك المواجهة أرْفق وألطف، وَهَهُنَا الْمُطَابقَة فِي ترك المواجهة. فَافْهَم.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ دلّ الحَدِيث على التَّرْجَمَة إِذْ لَا طَلَاق إِذْ لم يكن ثمَّة عقد نِكَاح، إِذا مَا وهبت نَفسهَا وَلم يكن أَيْضا بالمواجهة إِذْ قَالَ بعد الْخُرُوج: (ألحقها بِأَهْلِهَا؟) قلت: لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُزَوّج من نَفسه بِلَا إِذن الْمَرْأَة ووليها، وَكَانَ صُدُور قَوْله: (هبي بِنَفْسِك لي) مِنْهُ لاستماله خاطرها وَأما حِكَايَة المواجهة فقد ثبتَتْ فِي الحَدِيث السَّابِق بقوله: الْحق بأهلك، وَأمره أَبَا أسيد بالإلحاق بعد الْخُرُوج لَا يُنَافِيهِ، بل يعضده انْتهى. قلت: هَذَا كُله كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن سُؤَاله أَولا بقوله: إِذْ لَا طَلَاق، إِلَى: وَلم يكن أَيْضا بالمواجهة، غير موجه لِأَنَّهُ كَانَ من الْمَعْلُوم قطعا أَن الَّذِي ذكره فِي الْجَواب من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يَقع سُؤَاله فِي مَحَله، وَكَذَلِكَ قَوْله وَأما حِكَايَة المواجهة ... الخ غير وَاقع فِي مَحَله، لِأَن ثُبُوت المواجهة فِي الحَدِيث السَّابِق لَا يسْتَلْزم المواجهة فِي هَذَا الحَدِيث، فَكيف يثبت بِهَذَا الْكَلَام الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث؟ وَمَعَ هَذَا لم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطابه إِيَّاهَا على قَوْله: (قد عذت بمعاذ) وَلم(20/230)
يَأْمر بالإلحاق إلاَّ لأبي أسيد، فَأَيْنَ المواجهة لَهَا بذلك؟ وَكَذَلِكَ قَوْله وَأمره أَبَا أسيد بالإلحاق بعد الْخُرُوج، لَا يُنَافِيهِ غير صَوَاب لِأَن عدم الْمُنَافَاة إِنَّمَا يكون لَو قَالَ لَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إلحقي بأهلك ثمَّ قَالَ لأبي أسيد: ألحقها بِأَهْلِهَا، وَلم يكتف بِمَا قَالَ هَذِه الْمقَالة حَتَّى يَقُول: بل يعضده، وَكَيف يعضده شَيْء لم يقلهُ؟ وَهَذَا عَجِيب جدا وَمِمَّا يؤكده مَا قُلْنَاهُ مَا قَالَه ابْن بطال: لَيْسَ فِي هَذَا أَنه واجهها بِالطَّلَاق، وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن ذَلِك ثَبت فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أول أَحَادِيث الْبَاب، فَيحمل على أَنه قَالَ لَهَا: إلحق بأهلك، ثمَّ لما خرج إِلَى أبي أسيد قَالَ لَهُ: ألحقها بِأَهْلِهَا، فَلَا مُنَافَاة، فَالْأول قصد بِهِ الطَّلَاق، وَالثَّانِي أَرَادَ بِهِ حَقِيقَة اللَّفْظ، وَهُوَ أَن يُعِيدهَا إِلَى أَهلهَا انْتهى. قلت: يرد هَذَا الِاعْتِرَاض بِمَا رددنا بِهِ كَلَام الْكرْمَانِي، لِأَن كلاميهما من وَجه وَاحِد، وأعجب من الْكل أَن بَعضهم نقل كَلَام الْكرْمَانِي برمتِهِ بطرِيق الإدماج حَيْثُ قَالَ: وَاعْترض بَعضهم بِأَنَّهُ لم يَتَزَوَّجهَا، إِذْ لم يجر ذكر صُورَة العقد، وَسَاقه مثل مَا قَالَه الْكرْمَانِي، لَكِن بتغيير الْعبارَة، وَرَضي بِهِ حَيْثُ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة لِابْنِ غسيل أَنه اتّفق مَعَ أَبِيهَا على مِقْدَار صَدَاقهَا، وَأَن أَبَاهَا قَالَ لَهُ: أَنَّهَا رغبت فِيك وحطت إِلَيْك، انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا عَن الْمَقْصُود، لِأَن الْكَلَام فِي أَمر المواجهة وَعدمهَا، وَقد ذكرنَا وَجه ذَلِك من غير تعميق فِيمَا لَا يَنْبَغِي.
ثمَّ إِن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث عَن أبي نعيم وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن غسيل بِدُونِ الْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: عبد الرَّحْمَن بن الغسيل، بِالْألف وَاللَّام وَعبد الرَّحْمَن هَذَا هُوَ ابْن سُلَيْمَان بن عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر الْأنْصَارِيّ، وحَنْظَلَة هُوَ غسيل الْمَلَائِكَة، اسْتشْهد بِأحد وَهُوَ جنب فغسلته الْمَلَائِكَة، وقصته مَشْهُورَة وَعبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور نسب إِلَى جد أَبِيه، وَلَعَلَّ الرِّوَايَة كَانَت ابْن غسيل الْمَلَائِكَة، فَسَقَطت لَفْظَة: الْمَلَائِكَة، وعوضت عَنْهَا الْألف وَاللَّام، وَحَمْزَة بن أبي أسيد بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين، يروي عَن أَبِيه أبي أيد، واسْمه مَالك بن ربيعَة بن الْبدن بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالنُّون، وَقيل: الْبَدِيِّ بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَهُوَ تَصْحِيف ابْن عَامر بن عَوْف بن حَارِثَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج بن سَاعِدَة الْأنْصَارِيّ السَّاعِدِيّ شهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ فِيمَا ذكره الْمَدَائِنِي، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الْبَدْرِيِّينَ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (إِلَى حَائِط) ، هُوَ الْبُسْتَان من النخيل إِذا كَانَ عَلَيْهِ جِدَار. قَوْله: (الشوظ) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو فِي آخِره ظاء مُعْجمَة، وَقيل: مُهْملَة، وَهُوَ بُسْتَان فِي الْمَدِينَة مَعْرُوف. قَوْله: (وَدخل) أَي: إِلَى الْحَائِط. قَوْله: (وَقد أَتَى) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بالجونية) نِسْبَة إِلَى الجون، قَالَ الْكرْمَانِي بِضَم الْجِيم، قلت: لَيْسَ كَذَلِك بل بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وبالنون، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: بَنو الجون قَبيلَة من الأزد، وَقَالَ الرشاطي: الجون فِي كِنْدَة وَفِي الأزد، فَالَّذِي فِي كِنْدَة الجون وَهُوَ مُعَاوِيَة بن حجر آكل المرار، وَسَاقه إِلَى كِنْدَة، ثمَّ قَالَ: مِنْهُم أَسمَاء بنت النُّعْمَان بن الْأسود بن الْحَارِث بن شرَاحِيل بن كِنْدَة تزوج بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتعوذت مِنْهُ فَطلقهَا، وَقَالَ ابْن حبيب: والجونية امْرَأَة من كِنْدَة وَلَيْسَت بأسماء، وَالَّذِي فِي الأزد الجون بن عَوْف بن مَالك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: اسْم الْجَوْنِية أَمَامه. قَوْله: (فِي بَيت فِي نخل فِي بَيت) كلهَا بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (أُمَيْمَة) بِالرَّفْع بدل عَن الْجَوْنِية أَو عطف بَيَان لَهَا وَهِي بنت النُّعْمَان بن شرَاحِيل، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة. قَوْله: (وَمَعَهَا دايتها) بِالدَّال الْمُهْملَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق قَالَ: أَي ظئرها، وَقَالَ بَعضهم: الظِّئْر الْمُرْضع، قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا الداية هِيَ الْمَرْأَة الَّتِي تولد الْأَوْلَاد، وَهِي الْقَابِلَة، وَهُوَ لفظ مُعرب. قَوْله: (هِيَ) أَمر للمؤنث من وهب يهب وَأَصله: أوهبي حذفت الْوَاو تبعا لفعله الْمُضَارع، واستغنيت عَن الْهمزَة فَصَارَت هِيَ على وزن على قَوْله: (للسوقة) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة، يُقَال للْوَاحِد من الرّعية وَالْجمع، وَإِنَّمَا قيل لَهُم ذَلِك لِأَن الْملك يسوقهم فيساقون لَهُ على مُرَاده، وَأما أهل السُّوق فالواحد مِنْهُم يُسمى سوقيا وَقَالَ الْجَوْهَرِي: السوقة خلاف الْملك، وَلم تعرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا وَكَانَت بعد ذَلِك تسمي نَفسهَا بالشقية. قَوْله: فَأَهوى بِيَدِهِ أَي أمالها إِلَيْهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة لِابْنِ سعد: فَأَهوى إِلَيْهَا ليقبلها. قَوْله: (فَقَالَت أعوذ بِاللَّه مِنْك) ، روى ابْن سعد عَن هِشَام بن مُحَمَّد عَن عبد الرَّحْمَن بن الغسيل بِإِسْنَاد حَدِيث الْبَاب: أَن عَائِشَة وَحَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، دخلتا عَلَيْهَا أول مَا قدمت، فمشطتاها وخضبتاها، وَقَالَت لَهَا إِحْدَاهمَا: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعجبهُ من الْمَرْأَة إِذا(20/231)
دخل عَلَيْهَا أَن تَقول: أعوذ بِاللَّه مِنْك. قَوْله: (قد عذت بمعاذ) بِفَتْح الْمِيم قَالَ الْكرْمَانِي: اسْم مَكَان العوذ قلت يجوز أَن يكون مصدرا ميميا بِمَعْنى العوذ والتنوين فِيهِ للتعظيم، وَفِي رِوَايَة ابْن سعد: فَقَالَ بمكه على وَجهه وَقَالَ: عذت معَاذًا، ثَلَاث مَرَّات وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: أَمن عَائِذ الله. قَوْله: (ثمَّ خرج) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (رازقيين) برَاء وَبعد الْألف زَاي مَكْسُورَة ثمَّ قَاف على لفظ تَثْنِيَة صفة موصوفها مَحْذُوف أَي: بثوبين رازقيين والرازقية ثِيَاب من كتَّان بيض طوال قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَقيل؛ يكون فِي دَاخل بياضها زرقة، والرازقي الصفيق، وَمعنى: اكسها رازقيين: أعْطهَا ثَوْبَيْنِ من ذَلِك الْجِنْس، وَقَالَ ابْن التِّين مَتعهَا بذلك، إِمَّا وجوبا وَإِمَّا تفضلاً لقولها. قَوْله: (وألحقها) بِفَتْح الْهمزَة من الْإِلْحَاق.
6525 - وَقَالَ الحُسَيْنُ بنُ الوَلِيدِ النَّيْسابُورِيُّ: عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ عَبَّاس بنِ سَهْلٍ عَن أبِيهِ، وَأبي أُسَيْدٍ قَالَا: تَزَوَّجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ علَيْهِ بَسَدَ يَدَهُ إلَيْهَا فَكأنَّها كَرِهَتْ ذالِكَ، فأمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَن يُخْرِجَها ويَكْسُوَها ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ.
(انْظُر الحَدِيث 5525)
الْحُسَيْن بن الْوَلِيد، بِفَتْح الْوَاو النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه السخي الْوَرع وَرِوَايَة البُخَارِيّ عَنهُ معلقَة لِأَن وَفَاة الْحُسَيْن سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ ومولد البُخَارِيّ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، ووفاته سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الغسيل وعباس بن سهل يروي عَن أَبِيه سهل بن سعد وَأبي أسيد الْمَذْكُور، كِلَاهُمَا قَالَا: تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق أبي أَحْمد الْفراء عَن الْحُسَيْن بن الْوَلِيد.
قَوْله: (أُمَيْمَة بنت شرَاحِيل) وَهِي أُمَيْمَة بنت النُّعْمَان بن شرَاحِيل الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث السَّابِق، وَلَكِن هُنَا نَسَبهَا إِلَى جدها. قَوْله: (أَن يُخرجهَا) ويروى: ويجهزها ويكسوها، قَالَ ابْن المرابط: أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالكسوة لَهَا تفضلاً مِنْهُ عَلَيْهَا، لِأَن ذَلِك لم يكن لَازِما لَهُ لِأَنَّهَا لم تكن زَوْجَة، وَبِهَذَا التَّبْوِيب خرجه النَّسَائِيّ، فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن بعض نِسَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت لَهَا: إِذا أردْت الخطوة فَقولِي لَهُ: أعوذ بِاللَّه مِنْك قلت: فِيهِ نظر لما فِي نفس الحَدِيث من أَنَّهَا لم تعرفه، وَإِنَّمَا نظر إِلَيْهَا نظر الْخَاطِب للمخطوبة. فَإِن قلت: ذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من كشف خمار امْرَأَة وَنظر إِلَيْهَا فقد وَجب الصَدَاق دخل بهَا أَو لم يدْخل قلت: هَذَا مَعَ إرْسَاله فِيهِ ابْن لَهِيعَة، وَيحمل على أَنه بعد العقد، وَذكر الْمُهلب أَن هَذِه الْكسْوَة هِيَ الْمُتْعَة الَّتِي للمطلقة الَّتِي لم يدْخل بهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون عقد نِكَاحهَا تفويضا فَيكون لَهَا الْمُتْعَة، أَو يكون سمى لَهَا صَدَاقا فتفضل عَلَيْهَا بذلك.
7525 - حدّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّد حَدثنَا إبْرَاهِيمُ بنُ أبي الوَزِيرِ حَدثنَا عبْدُ الرَّحْمانِ عنْ حَمْزَةَ عنْ أبِيهِ وعنْ عبَّاس بنِ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ بِهَذَا.
(انْظُر الحَدِيث 6525 طرفه: 7365)
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي عَن إِبْرَاهِيم بن أبي الْوَزير وَاسم أبي الْوَزير عمر بن مطرف الْحِجَازِي: نزل الْبَصْرَة وَقد أدْركهُ البُخَارِيّ، وَلم يلقه، وروى عَنهُ بِوَاسِطَة. وَذكره فِي (تَارِيخه) مَا مَاتَ فِي بضع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَهُوَ يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن الغسيل عَن حَمْزَة بن أبي أسيد عَن أَبِيه أبي أسيد، ويروى أَيْضا عَن عَبَّاس بن سهل وَهُوَ يروي عَن أَبِيه سهل بن سعد. قَوْله: (حَدثنِي) ويروى: حَدثنَا. قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
8525 - حدّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا همَّامُ بنُ يحْيَى عنْ قَتَادَةَ عنْ أبي غَلاَّبٍ يُونُسَ ابْن جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لابنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهْيَ حائِضٌ، فَقَالَ: تَعْرِفُ ابنَ عُمَرَ؟ إنَّ ابنَ عُمَرَ طلَّق امْرأتَهُ وهْيَ حائِضٌ، فأتَى عُمَرُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لهُ، فأمَرَهُ أَن يُرَاجِعَها، فإذَا(20/232)
طهرت طَهُرَتْ فأرَادَ أَن يُطَلِّقَها فَلْيُطَلِّقْها. قُلْتُ: فَهَلْ عَدَّ ذالِكَ طَلاَقا؟ قَالَ: أرَأيْتَ إنْ عَجَزَ واسْتَحْمَقَ.
كَانَ وَجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله. وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال بالتعسف إِن قَوْله: (إِن ابْن عمر طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض) أَعم من أَنه واجهها بِالطَّلَاق أَو لَا. وَلَكِن قيل: إِنَّه واجهها لِأَنَّهُ طَلقهَا عَن شقَاق، وَفِيه نظر لَا يخفى، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
وَهَمَّام على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الْبَصْرِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَأَبُو غلاب بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وبالباء الْمُوَحدَة هُوَ كنية يُونُس بن جُبَير بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (فَقَالَ: أتعرف ابْن عمر) إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك مَعَ أَنه يعرف أَنه يعرفهُ، وَهُوَ الَّذِي يخاطبه ليقرر على اتِّبَاع السّنة، وعَلى الْقبُول من ناقلها وَإنَّهُ يلْزمه الْعَامَّة الِاقْتِدَاء بمشاهير الْعلمَاء فقرره على مَا يلْزمه من ذَلِك لَا أَنه ظن أَنه لَا يعرفهُ. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي وَلم يشْتَرط هُنَا تكْرَار الطُّهْر بِخِلَاف الحَدِيث الَّذِي سبق لِأَن التّكْرَار هُوَ الْأَوْلَوِيَّة والأفضلية وَإِلَّا فَالْوَاجِب هُوَ حُصُول الطُّهْر فَقَط.
4 - (بابُ مَنْ أجازَ طَلاَقَ الثَّلاَثِ لقَوْل الله تَعَالَى: { (2) الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} (الْبَقَرَة: 922)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أجَاز تطليق الْمَرْأَة بِالطَّلَاق الثَّلَاث دفْعَة وَاحِدَة. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب من جوز الطَّلَاق الثَّلَاث، وَهَذَا أوجه وَاضح، وَوضع البُخَارِيّ هَذِه التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَن من السّلف من لم يجوز وُقُوع الطَّلَاق الثَّلَاث، وَفِيه خلاف. فَذهب طَاوُوس وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَالْحجاج بن أَرْطَأَة وَالنَّخَعِيّ وَابْن مقَاتل والظاهرية إِلَى أَن الرجل إِذا طلق امْرَأَته ثَلَاثًا مَعًا فقد وَقعت عَلَيْهَا وَاحِدَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث طَاوُوس: أَن أَبَا الصَّهْبَاء قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: الْعلم إِنَّمَا كَانَت الثَّلَاث تجْعَل وَاحِدَة على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر، وَثَلَاثًا من إِمَارَة عمر. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: نعم. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَقيل: لَا يَقع شَيْء وَمذهب جَمَاهِير الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ مِنْهُم: الْأَوْزَاعِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأَصْحَابه وَمَالك وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأحمد وَأَصْحَابه، وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، عل أَن من طلق امْرَأَته ثَلَاثًا وقعن، وَلكنه يَأْثَم، وَقَالُوا: من خَالف فِيهِ فَهُوَ شَاذ مُخَالف لأهل السّنة، وَإِنَّمَا تعلق بِهِ أهل الْبدع وَمن لَا يلْتَفت إِلَيْهِ لشذوذه عَن الْجَمَاعَة الَّتِي لَا يجوز عَلَيْهِم التواطؤ على تَحْرِيف الْكتاب وَالسّنة. وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس بِمَا ملخصه إِنَّه مَنْسُوخ، بَيَانه أَنه لما كَانَ زمن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (يَا أَيهَا النَّاس! قد كَانَ لكم فِي الطَّلَاق أَنَاة وَإنَّهُ من تعجل أَنَاة الله فِي الطَّلَاق ألزمناه إِيَّاه) ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وخاطب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بذلك النَّاس الَّذين قد علمُوا مَا قد تقدم من ذَلِك فَفِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يُنكر عَلَيْهِ مِنْهُم مُنكر وَلم يَدْفَعهُ دَافع، فَكَانَ ذَلِك أكبر الْحجَج فِي نسخ مَا تقدم من ذَلِك، وَقد كَانَ فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشْيَاء على معانٍ فَجَعلهَا أَصْحَابه من بعده على خلاف تِلْكَ الْمعَانِي، فَكَانَ ذَلِك حجَّة ناسخة لما تقدم، من ذَلِك: تدوين الدَّوَاوِين وَبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد قد كن يبعن قبل ذَلِك، والتوقيت فِي حد الْخمر وَلم يكن فِيهِ تَوْقِيت. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا النّسخ وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا ينْسَخ؟ وَكَيف يكون النّسخ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لما خَاطب عمر الصَّحَابَة بذلك فَلم يَقع إِنْكَار صَار إِجْمَاعًا، والنسخ بِالْإِجْمَاع جوزه بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع مُوجب علم الْيَقِين كالنص فَيجوز أَن يثبت النّسخ بِهِ، وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور، فَإِذا كَانَ النّسخ جَائِزا بالْخبر الْمَشْهُور فِي الزِّيَادَة على النَّص فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى فَإِن قلت: هَذَا إِجْمَاع على النّسخ من تِلْقَاء أنفسهم فَلَا يجوز ذَلِك فِي حَقهم قلت: يحْتَمل أَن يكون ظهر لَهُم نَص أوجب النّسخ وَلم ينْقل إِلَيْنَا ذَلِك، على أَن الطَّحَاوِيّ وَقد روى أَحَادِيث عَن ابْن عَبَّاس تشهد بانتساخ مَا قَالَه من ذَلِك، مِنْهَا: مَا رَوَاهُ من حَدِيث الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ: إِن عمي طلق امْرَأَته ثَلَاثًا، فَقَالَ: إِن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشَّيْطَان، فَلم يَجْعَل لَهُ مخرجا. فَقلت: فَكيف ترى فِي رجل يحلهَا لَهُ؟ فَقَالَ: من يُخَادع الله يخادعه) . وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يشبه أَن يكون ابْن عَبَّاس ثقد علم شَيْئا ثمَّ نسخ لِأَنَّهُ لَا يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا ثمَّ يُخَالِفهُ بِشَيْء(20/233)
لَا يُعلمهُ كَانَ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ خلاف، فَأجَاب قوم عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمُتَقَدّم: إِنَّه فِي غير الْمَدْخُول بهَا، وَقَالَ الْجَصَّاص: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا مُنكر. قَوْله: (لقَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاق مراتان} (الْبَقَرَة: 922)) إِلَى آخِره وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} مَعْنَاهُ: مرّة بعد مرّة، فَإِذا جَازَ الْجمع بَين ثِنْتَيْنِ جَازَ بَين الثَّلَاث، وَأحسن مِنْهُ أَن يُقَال إِن قَوْله: {أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} (الْبَقَرَة: 922) عَام متناول لأيقاع الثَّلَاث دَفعه وَاحِدَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أَنا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قِرَاءَة عَلَيْهِ، أَنا ابْن وهب أَخْبرنِي سُفْيَان الثَّوْريّ حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن سميع سَمِعت أَبَا رزين يَقُول: حاء رجل إِلَى النَّبِي، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {أرأيتت قَول الله عز وَجل: {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} (الْبَقَرَة: 922) أَيْن الثَّالِثَة؟ قَالَ: التسريح بِالْإِحْسَانِ، هَذَا إِسْنَاده صَحِيح وَلكنه مُرْسل، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق قيس بن الرّبيع عَن إِسْمَاعِيل بن سميع عَن أبي رزين مُرْسلا، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن عبد الرَّحِيم حَدثنَا أَحْمد بن يحيى حَدثنَا عبيد الله بن جرير بن خَالِد حَدثنَا عَنْبَسَة عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} ذكر الله الطَّلَاق مرَّتَيْنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَة؟ قَالَ: {إمْسَاك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} .
وَقَالَ ابنُ الزّبَيْرِ فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ: لَا أرَى أنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ
أَي: قَالَ عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فِي مَرِيض طلق امْرَأَته أَي: طَلَاقا باتا (لَا أرى) بِفَتْح الْهمزَة (أَن تَرث مبتوتته) أَي: الَّتِي طلقت طَلَاقا باتا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مبتوتة، بِقطع الضَّمِير لِأَنَّهُ يعلم أَنَّهَا متبوتة هَذَا الْمُطلق. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي قَول الرجل: أَنْت طَالِق الْبَتَّةَ، فَذكر ابْن الْمُنْذر عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنَّهَا وَاحِدَة، وَإِن أَرَادَ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. . وَقَالَت طَائِفَة: الْبَتَّةَ ثَلَاث، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عمر وَابْن الْمسيب وَعُرْوَة وَالزهْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي عبيد، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم، قَالَ: حدقنا يحيى بن سعيد الْقطَّان قَالَ: حَدثنَا ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة أَنه سُئِلَ ابْن الزبير عَن المبتوتة فِي الْمَرَض فَقَالَ: طلق عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ابْنة الإصبغ الْكَلْبِيَّة فبتها ثمَّ مَاتَ وَهِي فِي عدتهَا فَورثَهَا عُثْمَان، قَالَ ابْن الزبير: وَأما أَنا فَلَا أرى أَن تَرث المبتوتة.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَرِثُهُ
أَي: قَالَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ: تَرث المبتوتة زَوجهَا فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة، وَهَذَا التلعيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ فِي رجل طلق امْرَأَته ثَلَاثًا فِي مَرضه، قَالَا: تَعْتَد عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا وترثه مَا كَانَت فِي الْعدة، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْمُطلق ثَلَاثًا فِي مَرضه: تَرثه مَا دَامَت فِي الْعدة وَلَا يَرِثهَا، وَورث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أم الْبَنِينَ من عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما احْتضرَ وَطَلقهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: تَرثه مَا دَامَت فِي الْعدة، قَالَ طَاوُوس وَعُرْوَة بن الزبير وَابْن سِيرِين وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: يَقُولُونَ: كل من فر من كتاب الله رد إِلَيْهِ، وَقَالَ عِكْرِمَة: لَو لم يبْق من عدتهَا إلاَّ يَوْم وَاحِد ثمَّ مَاتَ ورثت، واستأنفت عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا.
وَقَالَ ابنُ شُبْرُمَةَ تَزَوَّجُ إذَا انْقَضَتِ العِدَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أرَأيْتَ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ فَرَجَعَ عَن ذالِكَ؟
أَي: قَالَ عبد الله بن شبْرمَة، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الرَّاء: الضَّبِّيّ قَاضِي الْكُوفَة التَّابِعِيّ، يَعْنِي: قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: تزوج أَي: هَل تتَزَوَّج هَذِه الْمَرْأَة بعد الْعدة وَقبل وَفَاة الزَّوْج الأول أم لَا؟ قَالَ: نعم أَي: قَالَ الشّعبِيّ: نعم تزوج، وأصل تزوج تتَزَوَّج وَهُوَ فعل مضارع، فحذفت مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ للتَّخْفِيف، كَمَا فِي قَوْله عز وَجل: {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 41) أَصله: تتلظى. قَوْله: (قَالَ أَرَأَيْت؟) أَي: قَالَ ابْن شبْرمَة لِلشَّعْبِيِّ: أَرَأَيْت؟ أَي: أَخْبرنِي أَن الزَّوْج الآخر إِذا مَاتَ تَرث مِنْهُ أَيْضا فَيلْزم إرثها من الزَّوْجَيْنِ مَعًا فِي حَالَة وَاحِدَة. قَوْله: (فَرجع) أَي الشّعبِيّ عَن ذَلِك أَي: رَجَعَ عَمَّا قَالَه من أَنَّهَا تَرثه، مَا دَامَت فِي الْعدة، وَقد اختصر البُخَارِيّ هَذَا جدا.
9525 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ أنّ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السّاعِدِيَّ أخبرَهُ أنَّ عُوَيمِرا العَجلاَنِيَّ جاءَ إِلَى عاصِمٍ بنِ عَدِيٍّ الأنْصَارِيِّ فَقَالَ لهِ: يَا عاصَمُ! أرَأيْتُ رجُلاً(20/234)
وجَدَ مَعَ امْرَأتهِ رجُلاً أيقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عاصِمُ عنْ ذَلِكَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَ عاصِمٌ عنْ ذَلِكَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَسائِلَ وعابَها حَتَّى كَبُرَ علَى عاصِمٍ مَا سَمِعَ منْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلَمّا رجَعَ عاصِمٌ إِلَى أهْلِهِ جاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عاصِمُ {ماذَا قَالَ لَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ عاصِمٌ: لَمْ تأتِني بخَيْرٍ قدْ كَرِهَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَسْألَةَ الَّتِي سألْتُهُ عنْها. قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَالله لَا أنْتَهِي حتّى أسألَهُ عَنْها، فأقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حتَّى أتَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسْطَ النَّاس، فَقَالَ: يَا رسولَ الله أرَأيْتَ رجُلاً وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلاً أيَقْتُلُهُ فتَقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ أنْزَلَ الله فِيكَ وفِي صاحِبَتك، فاذْهَبْ فأتِ بِها، قَالَ سَهْلٌ: فتَلاَعَنا وَأَنا مَعَ النَّاس عنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلَمَّا فَرَغا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كذَبْتُ علَيْها يَا رسولَ الله إنْ أمَسَكْتُها، فطلَّقَها ثَلاٍ ث قبْلَ أنْ يأمُرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ ابنُ شِهابٍ: فكانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ المُتَلاَعِنِيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَطلقهَا) وأمضاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُنكر عَلَيْهِ فَدلَّ على أَن من طلق ثَلَاثًا يَقع ثَلَاثًا.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة النُّور فِي موضِعين: أَحدهمَا: مطولا عَن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ. وَالْآخر: عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن أبي الرّبيع عَن فليح عَن الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أخبرنَا عَن حكمه. قَوْله: (وَكره الْمسَائِل) ، أَي: الَّتِي لَا يحْتَاج إِلَيْهَا سِيمَا مَا فِيهِ إِشَاعَة فَاحِشَة. قَوْله: (حَتَّى كبر) ، بِضَم الْبَاء أَي: عظم وشق. قَوْله: (قد أنزل الله فِيك) ، أَي: آيَة اللّعان. قَوْله: (وَتلك) أَي: التَّفْرِقَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
0625 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدثنِي اللّيْثُ قَالَ: حدّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ امْرَأةَ رِفاعَةَ القُرْطِيِّ جاءَتْ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ: يَا رسولَ الله} إنَّ رَفاعَةَ طَلَّقَنِي فبَتَّ طلاَقِي وإنِّي نَكحْتُ بَعْدَهُ عبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الزُّبيْرِ القُرَظِيَّ، وإنّمَا معَهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لعلّكِ تُرِيدِين أنْ تَرْجِعي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتّى يَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ وتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: فَبت طَلَاقي، أَي: قطع قطعا كليا فاللفظ يحْتَمل أَن يكون الثَّلَاث دفْعَة وَاحِدَة وَهُوَ مَحل التَّرْجَمَة أَو مُتَفَرِّقَة.
وَسَعِيد بن عفير هُوَ سعيد بن كثير بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: الْمصْرِيّ، وروى مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة.
قَوْله: (إِن امْرَأَة رِفَاعَة) ، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء وَبعد الْألف عين الْمُهْملَة: ابْن سموأل، وَيُقَال: رِفَاعَة بن رِفَاعَة القرطي من بني قريظ، وَاسم الْمَرْأَة تَمِيمَة بنت وهب، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. قَالَت: كَانَت امْرَأَة من قريظ يُقَال لَهَا: تَمِيمَة بنت وهب تَحت عبد الرَّحْمَن بن الزبير، فَطلقهَا فَتَزَوجهَا رِفَاعَة رجل من بني قُرَيْظَة ثمَّ فَارقهَا، فَأَرَادَتْ أَن ترجع إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الزبير، فَقَالَت: وَالله يَا رَسُول الله مَا هُوَ مِنْهُ إلاَّ كهدبة الثَّوْب، فَقَالَ: وَالله يَا تَمِيمَة لَا ترجعين إِلَى عبد الرَّحْمَن حَتَّى يَذُوق عُسَيْلَتك رجل غَيره، وَهَذَا الْمَتْن عكس متن الصَّحِيح، وَإِنَّمَا أوردناه هُنَا لأجل بَيَان اسْم الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة. قَوْله: (عبد الرَّحْمَن بن الزبير) بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن باطيا الْقرظِيّ. قَوْله: (مثل الهدبة) بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال: هدبة الثَّوْب، وَهُوَ طرفه مِمَّا يَلِي طرته، وَيُقَال لَهَا: هدابة الثَّوْب. قَوْله: (لَا) أَي: لَا ترجعين. قَوْله: (عُسَيْلَتك) هِيَ كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَالْعَسَل رُبمَا يؤنث فِي بعض اللُّغَات فيصغر على عسيلة، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) حَدثنَا مَرْوَان أَنبأَنَا أَبُو عبد الْملك الْمَكِّيّ حَدثنَا عبد الله بن(20/235)
أبي مليكَة عَن عَائِشَة قَالَ: الْعسيلَة هِيَ الْجِمَاع. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) ، والمكي مَجْهُول فِي (التَّلْوِيح) لفظ النِّكَاح فِي جَمِيع الْقُرْآن الْعَظِيم أُرِيد بِهِ العقد لَا الْوَطْء إِلَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} (الْبَقَرَة: 032) فَإِنَّهُ أُرِيد بِلَفْظ النِّكَاح العقد وَالْوَطْء جَمِيعًا بِدَلِيل حَدِيث الْعسيلَة، فَإِن الْعسيلَة. فَإِن الْعسيلَة هُنَا الْوَطْء وَفِيه نظر لِأَن لفظ النِّكَاح أسْند إِلَى الْمَرْأَة فَلَو أُرِيد بِهِ الْوَطْء لَكِن الْمَعْنى: حَتَّى تطَأ زوجا غَيره، وَهَذَا فَاسد، لِأَن الْمَرْأَة مَوْطُوءَة لَا واطئة وَالرجل واطىء، بل مَعْنَاهُ أَيْضا: العقد، وَوَجَب الْوَطْء بِحَدِيث الْعسيلَة فَإِنَّهُ خبر مَشْهُور يجوز بِهِ الزِّيَادَة على النَّص، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ إلاَّ لسَعِيد بن الْمسيب فَإِنَّهُ قَالَ: العقد الصَّحِيح كَاف، وَيحصل بِهِ التَّحْلِيل للزَّوْج الأول وَلم يُوَافقهُ على هَذَا أحد إلاَّ طَائِفَة من الْخَوَارِج، وَذكر فِي (كتاب الْقنية) لأبي الرَّجَاء مُخْتَار بن مَحْمُود الزَّاهدِيّ: إِن سعيد بن الْمسيب رَجَعَ عَن مذْهبه هَذَا فَلَو قضى بِهِ قاضٍ لَا ينفذ قَضَاؤُهُ، وَإِن أفتى بِهِ أحذ عزّر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْإِنْزَال شَرط، لَا تحل للْأولِ حَتَّى يَطَأهَا الثَّانِي وطأ فِيهِ إِنْزَال، وَزعم أَن معنى الْعسيلَة الْإِنْزَال، وَخَالفهُ سَائِر الْفُقَهَاء، فَقَالُوا: التقاء الختانين يحلهَا للزَّوْج الأول. وَهُوَ مَا يفْسد الصَّوْم وَالْحج وَيُوجب الْحَد وَالْغسْل ويحصن الزَّوْجَيْنِ ويكمل الصَدَاق. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَو أَتَاهَا الزَّوْج الثَّانِي وَهِي نَائِمَة أَو معنى عَلَيْهَا لَا تشعر أَنَّهَا لَا تحل للزَّوْج حَتَّى يذوقان جَمِيعًا الْعسيلَة، إِذْ غير جَائِز أَن يُسَوِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا فِي ذوق الْعسيلَة وَتحل بِأَن يَذُوق أَحدهمَا.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي عقد نِكَاح الْمُحَلّل، فَقَالَ مَالك: لَا يحلهَا إلاَّ بِنِكَاح رَغْبَة، فَإِن قصد التَّحْلِيل لم يحلهَا، وَسَوَاء علم الزَّوْجَانِ بذلك أَو لم يعلمَا، وَيفْسخ قبل الدُّخُول وَبعده، وَهُوَ قَول اللَّيْث وسُفْيَان بن سعيد وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ: النِّكَاح جَائِز وَله أَن يُقيم على نِكَاحه أَو لَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحكم، وَقَالَ الْقَاسِم وَسَالم وَعُرْوَة وَالشعْبِيّ: لَا بَأْس أَن يَتَزَوَّجهَا لِيحِلهَا إِذا لم يعلم بذلك الزَّوْجَانِ، وَهُوَ مأجور بذلك. وَهُوَ قَول ربيعَة وَيحيى بن سعيد، وَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر إِلَى أَن نِكَاح الَّذِي يفْسد هُوَ الَّذِي يعْقد عَلَيْهِ فِي نفس عقد النِّكَاح أَنه إِنَّمَا يَتَزَوَّجهَا ليحللها ثمَّ يطلقهَا، وَمن لم يشْتَرط ذَلِك، فَهُوَ عقد صَحِيح، وروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله، وروى أَيْضا عَن مُحَمَّد عَن يَعْقُوب عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا نوى الثَّانِي تحليلها للْأولِ لم يحل لَهُ ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وروى الْحسن بن زِيَاد عَن زفر عَن أبي حنيفَة أَنه إِن شَرط عَلَيْهِ فِي نفس العقد أَنه إِنَّمَا يَتَزَوَّجهَا لِيحِلهَا للْأولِ فَإِنَّهُ نِكَاح صَحِيح ويحصنان بِهِ وَيبْطل الشَّرْط، وَله أَن يمْسِكهَا، فَإِن طَلقهَا حلت للْأولِ. وَفِي (الْقنية) إِذا أَتَاهَا الزَّوْج الثَّانِي فِي دبرهَا لَا تحل للْأولِ، وَإِن أولج إِلَى مَحل الْبكارَة حلت للْأولِ، وَالْمَوْت لَا يقوم مقَام الدُّخُول فِي حق التَّحْلِيل، وَكَذَا الْخلْوَة فَافْهَم. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من غير وَجه عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي قيس واسْمه عبد الرَّحْمَن بن ثروان الأودي عَن هُذَيْل بن شُرَحْبِيل عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المحلِّل والمحلِّل لَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن الْحَارِث عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المحلِّل والمحلَّل لَهُ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر بن عبد الله بِنَحْوِهِ سَوَاء، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث اللَّيْث بن سعد قَالَ: قَالَ لي أَبُو مُصعب مشرح بن هاعان قَالَ عقبَة بن عَامر: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخْبركُم بالتيس الْمُسْتَعَار؟ قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله. قَالَ: هُوَ الْمُحَلّل، لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِنَحْوِهِ سَوَاء، وروى أَحْمد وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مسانيدهم) من حَدِيث المَقْبُري عَن ابْن عَبَّاس بِنَحْوِهِ سَوَاء، وروى ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة قبيصَة بن جَابر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا أُوتِيَ بِمُحَلل ومحلل لَهُ إلاَّ رجمتها، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن عبد الله بن شريك العامري سَمِعت ابْن عمر يسْأَل عمر: طلق امْرَأَته ثمَّ نَدم، فَأَرَادَ رجل أَن يَتَزَوَّجهَا ليحللها لَهُ، فَقَالَ ابْن عمر: كِلَاهُمَا زانٍ وَلَو مكثا عشْرين سنة، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث والْآثَار كلهَا تدل على كَرَاهِيَة النِّكَاح الْمَشْرُوط بِهِ التَّحْلِيل، وَظَاهره يَقْتَضِي التَّحْرِيم. قلت: لفظ الْمُحَلّل يدل على صِحَة النِّكَاح، لِأَن الْمُحَلّل هُوَ الْمُثبت للْحلّ، فَلَو كَانَ فَاسِدا لما سَمَّاهُ محللاً، وَلَا يدْخل أحد مِنْهُم تَحت اللَّعْنَة إلاَّ ءذا قصد الاستحلال وَحَدِيث على رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ شكّ أَبُو دَاوُد حَيْثُ قَالَ: لَا أرَاهُ رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعلول بِالْحَارِثِ، وَحَدِيث عقبَة بن عَامر قَالَ عبد الْحق: إِسْنَاده حسن، وَقَالَ(20/236)
التِّرْمِذِيّ فِي (علله الْكُبْرَى) اللَّيْث بن سعد: مَا أرَاهُ سمع من مشرح بن هاعان، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن حَدِيث رَوَاهُ اللَّيْث بن سعد عَن مشرج بن هاعان على عقبَة بن عَامر فَذكره، فَقَالَ: لم يسمع اللَّيْث من مشرح وَلَا روى عَنهُ، وَأما أثر عمر الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هُوَ مَحْمُول عَن التَّشْدِيد والتغليظ كنحو مَا هم بِهِ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحرق على من تخلف عَن الْجَمَاعَة بُيُوتهم، وَكَذَا مَا روى عَن ابْنه عبد الله.
1625 - حدّثني مُحَمَّد بنُ بَشّارٍ حدَّثَنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ: حدّثني القاسِمُ بنُ مُحَمَّد عنُ عائِشَةَ أنَّ رَجُلاً امْرَأتَهُ ثَلاثا فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: لاَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ.
ول الله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: من خيَّر نِسَاءَهُ، لِأَن مَحَله مجرور بِإِضَافَة لفظ: بَاب إِلَيْهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
2625 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حَدثنَا مُسْلِمٌ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: خَيَّرَنا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاخْتَرْنا الله ورسولَهُ، فلَمْ يَعُدَّ ذالِكَ عَلَيْنا شَيْئا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح بِالتَّصْغِيرِ أَبُو الضُّحَى مَشْهُور بكنيته أَكثر من اسْمه، وَقَالَ بَعضهم: فِي طبقته مُسلم البطين وَهُوَ من رجال البُخَارِيّ لكنه، وَإِن روى عَنهُ الْأَعْمَش، لَا يروي عَن مَسْرُوق، وَفِي طبقتهما مُسلم بن كيسَان الْأَعْوَر وَلَيْسَ هُوَ من رجال الصَّحِيح وَلَا لَهُ رِوَايَة عَن مَسْرُوق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَمُسلم بِلَفْظ فَاعل الْإِسْلَام. يحْتَمل أَن يكون هُوَ أَبُو الضُّحَى بن صبيح مصغر الصُّبْح وَأَن يكون مُسلم البطين بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن أبي عمرَان لِأَنَّهُمَا يرويان عَن مَسْرُوق، ويروي الْأَعْمَش عَنْهُمَا، وَلَا قدم بِهَذَا الالتباس لِأَنَّهُمَا يرويان بِشَرْط البُخَارِيّ. انْتهى قلت: ذكر فِي كتاب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) أَن مُسلما البطين سمع مسروقا روى عَنهُ الْأَعْمَش، فَهَذَا يرد كَلَام بَعضهم الْمَذْكُور، وَلَكِن الْحَافِظ الْمزي قَالَ: مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى، عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة حَدِيث: خيرنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن بشر بن خلف وَفِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّلَاق عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (فَلم يعد) بِضَم الْعين وَتَشْديد الدَّال من الْعدَد، ويروى: فَلم يعدد، بفك الْإِدْغَام. ويروى: فَلم يعْتد، بِسُكُون الْعين وَفتح التَّاء المثتاة من فَوق وَتَشْديد الدَّال من الِاعْتِدَاد. قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى التخبير الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (خيرنا) قَوْله: (شَيْئا) أَي: طَلَاقا. وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَلم يعده طَلَاقا.
3625 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يحْياى عنْ إسْماعِيلَ حَدثنَا عامِرٌ عنْ مَسْرُوق قالَ: سألتُ عائِشَة(20/237)
عنِ الخَيْرَةِ فقالَتْ خَيَّرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أفَكَانَ طَلاَقا؟ قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا أُبالي أخَيَّرْتُها واحِدَةً أوْ مائَةً بعْدَ أنْ تَخُتَارَنِي.
(انْظُر الحَدِيث 2625)
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان بن أبي خَالِد عَن عَامر الشّعبِيّ.
قَوْله: (عَن الْخيرَة) بِكَسْر الْخَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي جعل الطَّلَاق بيد الْمَرْأَة. قَوْله: (أَفَكَانَ طَلَاقا) اسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار، أَرَادَت لم يكن طَلَاقا لِأَنَّهُنَّ اخْترْنَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل: فَهَل كَانَ طَلَاقا؟ وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن يحيى الْقطَّان عَن إِسْمَاعِيل قَوْله: (قَالَ مَسْرُوق) إِلَى آخِره مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (أخيَّرتها؟) أَي: امْرَأَتي، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، قَالَ: مَا أُبَالِي خيرت امْرَأَتي وَاحِدَة أَو مائَة أَو ألفا بعد أَن تختارني، وَلَكِن قَول مَسْرُوق هَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم قبل قَوْله: سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد روى مثل قَول مَسْرُوق عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمن التَّابِعين قَول عَطاء وَسليمَان بن يسَار وَرَبِيعَة وَالزهْرِيّ. كلهم قَالُوا: إِذا اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَيْسَ بِشَيْء، وَهُوَ قَول أَئِمَّة الْفَتْوَى. وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا؟ فَحكى التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ أَنه وَاحِدَة بَائِنَة، وَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَعَن زيد بن ثَابت: إِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَثَلَاث، وَإِن اختاررت زَوجهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَعَن عمر وَابْن مَسْعُود: إِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة وعنهما رَجْعِيَّة، وَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء.
6 - (بابٌ إذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ أوْ سَرَّحْتُكِ أوِ: الخَلِيَّةُ أوِ البَرِيَّةُ أوْ مَا عُنِيَ بهِ الطَّلاَقُ فَهُوَ علَى نِيَّتِهِ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مَا إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته: فارقتك أَو سرحتك أَو أَنْت خلية أَو بَريَّة، فَالْحكم فِي هَذِه الْأَلْفَاظ يعْتَبر بنيته وَهُوَ معنى قَوْله: (فَهُوَ على نِيَّته) لِأَن هَذِه كنايات عَن الطَّلَاق، فَإِن نوى الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا يَقع شَيْء، وَإِنَّمَا كَانَت الْكِنَايَة للطَّلَاق وَلم تكن للنِّكَاح لِأَن النِّكَاح لَا يَصح إلاَّ بِالْإِشْهَادِ. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: لَا صَرِيح إلاَّ لفظ الطَّلَاق وَمَا يتَصَرَّف مِنْهُ، وَنَصّ فِي الْجَدِيد على أَن الصَّرِيح لفظ الطَّلَاق. والفراق والسراح لوُرُود ذَلِك فِي الْقُرْآن، وَقدر حج الطَّبَرِيّ والمحاملي وَغَيرهمَا قَوْله الْقَدِيم، وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف فِي قَوْله: فارقتك أَو خلعتك أَو خليت سَبِيلك، أَو لَا ملك لي عَلَيْك إِنَّه ثَلَاث، وَاخْتلفُوا فِي الخلية والبرية، فَعَن عَليّ: أَنه ثَلَاث. وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَعَن ابْن عمر: ثَلَاث فِي الْمَدْخُول بهَا، وَبِه قَالَ مَالك ويدين فِي الَّتِي لم يدْخل بهَا بتطليقة وَاحِدَة أَرَادَ أم ثَلَاثًا، وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة تعْتَبر نِيَّته فِي ذَلِك، فَإِن نوى ثَلَاثًا فَثَلَاث، وَإِن نوى وَاحِدَة فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَهِي أَحَق بِنَفسِهَا وَإِن نوى ثِنْتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَة، وَفِي (التَّلْوِيح) . وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ فِي ذَلِك كُله غير مُطلق حَتَّى يَقُول، أردْت بمخرج الْكَلَام مني طَلَاقا فَيكون مَا نَوَاه، فَإِن نوى دون الثَّلَاث كَانَ جَمِيعًا، وَلَو طَلقهَا وَاحِدَة بَائِنَة كَانَت رَجْعِيَّة. وَقَالَ إِسْحَاق: هُوَ إِلَى نِيَّته يدين، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: هِيَ تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة وَلَا يسْأَل عَن نِيَّته فِي ذَلِك، وَحكى الدَّارمِيّ عَن ابْن خيران أَن من لم يعرف إلاَّ الطَّلَاق فَهُوَ صَرِيح فِي حَقه فَقَط، وَنَحْوه للروياني فَإِنَّهُ لَو قَالَ: اغربي فارقتك، وَلم يعرف أَنَّهَا صَرِيحَة لَا يكون صَرِيحًا فِي حَقه، وَاتَّفَقُوا عل أَن لفظ الطَّلَاق وَمَا يتَصَرَّف مِنْهُ صَرِيح، لَكِن أخرج أَبُو عبيد فِي (غَرِيب الحَدِيث) من طَرِيق عبيد الله بن شهَاب الْخَولَانِيّ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رفع إِلَيْهِ رجل قَالَت لَهُ امْرَأَته يشبهني. فَقَالَ: كَأَنَّك ظَبْيَة. قَالَت: لَا قَالَ: كَأَنَّك حمامة. قَالَت: لَا أرْضى حَتَّى تَقول: أَنْت خلية طَالِق، فَقَالَ لَهُ عمر: خُذ بِيَدِهَا فَهِيَ امْرَأَتك. قَالَ أَبُو عبيد قَوْله خلية طَالِق أَي: نَاقَة كَانَت معقولة ثمَّ أطلقت من عقالها، وخلى عَنْهَا فسميت خلية لِأَنَّهَا خليت عَن العقال، وَطَالِق لِأَنَّهَا أطلقت مِنْهُ فَأَرَادَ الرجل أَنَّهَا تشبه النَّاقة وَلم يقْصد الطَّلَاق بِمَعْنى الْفِرَاق أصلا، فأسقط عمر عَنهُ الطَّلَاق، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَهَذَا أصل لكل من تكلم بِشَيْء من أَلْفَاظ الطَّلَاق، وَلم يرد الْفِرَاق بل أَرَادَ غَيره فَالْقَوْل قَوْله فِيهِ فِيمَا بَينه وَبَين االله تَعَالَى. وَفِي (الْمُحِيط) : لَو قَالَ: أَنْت طَالِق، وَقَالَ: عنيت بِهِ عَن الوثاق لَا يصدق قَضَاء وَيصدق ديانَة، وَلَو قَالَ: أَنْت طَالِق من وثاق لم يَقع شَيْء فِي الْقَضَاء، وَلَو قَالَ: أردْت أَنَّهَا طَالِق من الْعَمَل لم يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى،(20/238)
وَعَن أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه يدين، لَو قَالَ: أَنْت طَالِق من هَذَا الْعَمَل وقف فِي الْقَضَاء وَلَا يَقع فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَلَو قَالَ؛ أَنْت طَالِق من هَذَا الْقَيْد لم تطلق.
وَقَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: { (33) وسرحوهن سراحا جميلا} (الْأَحْزَاب: 94) وَقَالَ: { (33) وأسرحكن سراحا جميلا} (الْأَحْزَاب: 82) وَقَالَ: { (2) فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} (الْبَقَرَة: 922) وَقَالَ: { (65) أَو فارقوهن بِمَعْرُوف} (الطَّلَاق: 2) [/ ح.
لما ذكر فِي التَّرْجَمَة لفظ الْمُفَارقَة والتسريح ذكر بعض هَذِه الْآيَات الَّتِي فِيهَا ذكر الله تَعَالَى هذَيْن اللَّفْظَيْنِ مِنْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وسرحوهن سراحا جميلاً} وأوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ} أَي: من قبل أَن تجامعوهن {فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها فمتعوهن} أَي: أعطوهن مَا يستمتعن بِهِ. وَقَالَ قَتَادَة: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم} (الْبَقَرَة: 732) قيل: هُوَ أَمر ندب، والمتعة مُسْتَحبَّة وَنصف الْمهْر. وأجب: وسرحوهن أَي: أرسلوهن وخلوا سبيلهن، وَقيل: أخرجوهن من مَنَازِلكُمْ إِذْ لَيْسَ لكم عَلَيْهِنَّ عدَّة. وَكَانَ البُخَارِيّ: أورد هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن لفظ التسريح هُنَا بِمَعْنى الْإِرْسَال لَا بِمَعْنى الطَّلَاق، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل: طلقوهن للسّنة، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ ذكر قبله {ثمَّ طلقوهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ} يَعْنِي: قبل الدُّخُول، وَلم يبْق مَحل للطَّلَاق بعد التَّطْلِيق قَوْله: (سراحا) نصب على المصدرية بِمَعْنى: تسريحا. قَوْله: (جميلاً) يَعْنِي: بِالْمَعْرُوفِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وأسرحكن سراحا جميلاً} وأوله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلاً} وَقَالَ بَعضهم: التسريح فِي هَذِه الْآيَة يحْتَمل التَّطْلِيق والإرسال، فَإِذا كَانَ صَالحا للأمرين انْتَفَى أَن يكون صَرِيحًا فِي الطَّلَاق. قلت: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى قَوْله: أسرحكن، أطلقكن، وَهَذَا ظَاهر لِأَنَّهُ لم يسْبق هُنَا طَلَاق، فَمن أَيْن يَأْتِي الِاحْتِمَال وَلَيْسَ المُرَاد إلاَّ التَّطْلِيق؟ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فإمساك بِمَعْرُوف} وَقَبله قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} فَالْمُرَاد بالتسريح هُنَا الطَّلقَة الثَّالِثَة. وَالْمعْنَى: الطَّلَاق مرّة بعد مرّة يَعْنِي ثِنْتَيْنِ، وَكَانَ الرجل إِذا طلق امْرَأَته فَهُوَ أَحَق برجعتها وَإِن طَلقهَا ثَلَاثًا فنسخ ذَلِك فَقَالَ الله تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} الْآيَة، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: إِذا طلق الرجل امْرَأَته تَطْلِيقَتَيْنِ فليتق الله فِي الثَّالِثَة فَلهُ أَن يمْسِكهَا بِمَعْرُوف فَيحسن صحبتهَا أَو يسرحها بِإِحْسَان فَلَا يظلهما من حَقّهَا شَيْئا، وَقد ذكرنَا عَن قريب: أَن أَبَا رزين قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت قَول الله عز وَجل: {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} أَيْن الثَّالِثَة؟ قَالَ: التسريح بِالْإِحْسَانِ، وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل: {أَو فارقوهن بِمَعْرُوف} .
وقالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يأمْرَانِي بِفِرَاقِهِ
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث التَّخْيِير الَّذِي فِي أَوَائِل تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
7 - (بابُ مَنْ قَالَ لامْرَأتِهِ: أنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَالَ لامْرَأَته: أَنْت عليَّ حرَام. وَلم يذكر جَوَاب من الَّذِي هُوَ حكم هَذَا الْكَلَام اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب.
وَقَالَ الحَسَنُ: نِيَّتُهُ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا قَالَ لامْرَأَته: أَنْت عَليّ حرَام، الِاعْتِبَار فِيهِ نِيَّته، وَوصل عبد الرَّزَّاق هَذَا التَّعْلِيق عَن معمر عَنهُ، قَالَ: إِذا نوى طَلَاقا فَهُوَ طَلَاق وإلاَّ فَهُوَ يَمِين انْتهى. وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عمر، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وطاووس. وَفِي (التَّوْضِيح) : فِي هَذِه الصُّورَة أَرْبَعَة عشر مذهبا. قلت: ذكر الْقُرْطُبِيّ ثَمَانِيَة عشر قولا. قيل: وَزَاد غَيره عَلَيْهَا، وَذكر ابْن بطال مِنْهَا ثَمَانِيَة أَقْوَال. فَقَالَت طَائِفَة: هِيَ ثَلَاث، وَلَا يسْأَل عَن نِيَّته، روى ذَلِك عَن عَليّ وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي رِوَايَة الحكم بن عتيبة وَابْن أبي ليلى وَمَالك، وروى عَنهُ وَعَن أَكثر أَصْحَابه أَن قَالَ ذَلِك لامْرَأَته قبل الدُّخُول فَثَلَاث، إلاَّ أَن يَقُول: نَوَيْت وَاحِدَة. وَقَالَ عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة هِيَ وَاحِدَة إلاَّ أَن يَقُول أردْت ثَلَاثًا فَثَلَاث، وَإِن نوى وَاحِدَة فَوَاحِدَة(20/239)
بَائِنَة وَإِن نوى يَمِينا فَهُوَ يَمِين يكفرهَا وَإِن لم ينْو فرقة وَلَا يَمِينا فَهِيَ كذبة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، غير أَنهم قَالُوا: إِن نوى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَة، وَإِن لم ينْو طَلَاقا فَهِيَ يَمِين وَهُوَ قَول. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن نوى طَلَاقا فَهِيَ تطليقه وَهُوَ أملك بهَا وَإِن لم ينْو طَلَاقا فَهِيَ يَمِين يكفرهَا. وَعَن ابْن عمر مثله. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ قَوْله: (أَنْت حرَام) بِطَلَاق حَتَّى ينويه فَإِن أَرَادَ الطَّلَاق فَهُوَ مَا أَرَادَ من الطَّلَاق، وَإِن قَالَ: أردْت تجريما لَا طَلَاق كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين وَلَيْسَ بقول، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يلْزمه كَفَّارَة ظِهَار، وَهُوَ قَول أبي قلَابَة وَسَعِيد بن جُبَير وَأحمد، وَقيل: إِنَّهَا يَمِين فيكفر، وروى عَن الصّديق وَعمر وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر، وَقيل: لَا شَيْء فِيهِ وَلَا كَفَّارَة كتحريم المَاء، وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ ومسروق وَأبي سَلمَة، وَقَالَ أَبُو سَلمَة: مَا أَدْرِي حرمتهَا أوحرمت الْقُرْآن، وَهُوَ شذوذ.
وَقَالَ أهْلُ العِلْمِ: إذَا طَلَّقَ ثَلاَثا فَقدْ حَرُمَتْ عَليْهِ، فَسَمَّوْهُ حَرَاما بالطَّلاَقِ والفِرَاق، ولَيْسَ هاذَا كالَّذِي يُحَرِّمُ الطعامَ لأنهُ لَا يُقالُ لِطَعامِ الحِلِّ: حرَامٌ، ويُقالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ. وَقَالَ فِي الطَّلاَقِ ثَلاَثا: لَا تَحِلُّ لهُ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ.
لما وضع التَّرْجَمَة بقوله: من قَالَ لامْرَأَته أَنْت عَليّ حرَام وَلم يذكر الْجَواب فِيهَا أَشَارَ بقوله: (وَقَالَ أهل الْعلم) الخ. إِلَى أَن تَحْرِيم الْحَلَال لَيْسَ على إِطْلَاقه، فَإِن من طلق امْرَأَته ثَلَاثًا تحرم عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى قَوْله: (فقد حرمت عَلَيْهِ) فَسَموهُ أَي: فَسَماهُ الْعلمَاء حَرَامًا بِالطَّلَاق، أَي: بقول الرجل: طلقت امْرَأَتي ثَلَاثًا. قَوْله: (والفراق) أَي وَبِقَوْلِهِ: فارقتك، وَمن حرم عَلَيْهِ أكل الطَّعَام لَا يحرم عَلَيْهِ وَهُوَ معنى قَوْله: (وَلَيْسَ هَذَا) أَي: الحكم الْمَذْكُور فِي الطَّلَاق ثَلَاثًا كَالَّذي يحرم الطَّعَام أَي كَحكم الَّذِي يَقُول: هَذَا الطَّعَام على حرَام لَا آكله فَإِنَّهُ لَا يحرم، وَأَشَارَ إِلَى الْفرق بَينهمَا بقوله: لَا يُقَال لطعام الْحل أَي الْحَلَال حرَام، وَيُقَال للمطلقة ثَلَاثًا حرَام. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن طَلقهَا} أَي: الثَّالِثَة {فَلَا تحل لَهُ حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} (الْبَقَرَة: 032) وَقَالَ الْمُهلب: من نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة، فِيمَا خفف عَنْهُم، أَن من قبلهم كَانُوا إِذا حرمُوا على أنفسهم شَيْئا حرم عَلَيْهِم، كَمَا وَقع ليعقوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَخفف الله ذَلِك عَن هَذِه الْأمة ونهاهم عَن أَن يحرموا على أنفسهم شَيْئا مِمَّا أحل لَهُم، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} (الْمَائِدَة: 78) انْتهى. وَحَاصِل الْكَلَام أَن بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ فرقا، وَأَن تَحْرِيم الْمُبَاح يَمِين، وَأَن فِيهِ ردا على من لم يفرق بَين قَوْله لامْرَأَته: أَنْت عَليّ حرَام، وَبَين قَوْله: هَذَا الطَّعَام عَليّ حرَام، حَيْثُ لَا يلْزمه شَيْء فيهمَا، كَمَا ذكرنَا عَن قريب من قَالَ ذَلِك، وَذكرنَا أَقْوَال الْعلمَاء فِيهِ.
4625 - حدّثنا وَقَالَ اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ: كانَ ابنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاَثا، قَالَ: لوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ فَإِن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَنِي بهاذَا، فإنْ طَلَّقَها ثَلاَثا حَرُمَتْ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَكَ.
لَا مُنَاسبَة بَينهمَا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَكَأن البُخَارِيّ أَرَادَ بإيراد هَذَا أَن فِيهِ لَفْظَة: حرمت عَلَيْك، وإلاَّ فَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا فِي الْبَاب (قلت) هَذَا أقرب إِلَيْهِ، وَصَاحب (التَّلْوِيح) أبعد.
قَوْله: (عَن نَافِع) ويروى: حَدثنِي نَافِع (كَانَ عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِذا سُئِلَ عَمَّن طلق امْرَأَته ثَلَاثًا) أَي ثَلَاث تَطْلِيقَات، قَالَ: لَو طلقت مرّة أَي طَلْقَة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ أَي: طَلْقَتَيْنِ قَالَ الْكرْمَانِي: وَجَوَاب لَو، يَعْنِي جَزَاؤُهُ مَحْذُوف، وَهُوَ لَكَانَ خيرا، أَو هُوَ حرف لَو لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ كَمَا قَالَ، بل الْجَواب لَكَانَ لَك الرّجْعَة. قلت: مَقْصُود الْكرْمَانِي أَن: لَو إِذا كَانَ للشّرط لَا بُد لَهُ من جَزَاء. فَلذَلِك قدره بقوله: لَكَانَ خيرا، وَهُوَ معنى قَوْله: لَكَانَ لَك الرّجْعَة، وَذَلِكَ لانسداد بَاب الرّجْعَة بعد الثَّلَاث، بِخِلَاف مَا بعد مرّة أَو مرَّتَيْنِ. وَهَذَا الْقُرْطُبِيّ أَيْضا قَالَ فِي هَذَا الْموضع: فَكَأَنَّهُ قَالَ للسَّائِل: إِن طلقت تَطْلِيقَة أَو تَطْلِيقَتَيْنِ فَأَنت مَأْمُور بالمراجعة لأجل الْحيض، وَإِن طلقت ثَلَاثًا لم يكن لَك مُرَاجعَة، لِأَنَّهُ لَا تحل لَك إلاَّ بعد زوج انْتهى.(20/240)
وَهَكَذَا قدر الْجَزَاء بِمَا ذكره، وَتَقْدِير الْكرْمَانِي مثله أَو قريب مِنْهُ، فَلَا حَاجَة إِلَى الرَّد عَلَيْهِ بِغَيْر وَجه. قَوْله: (فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمرنِي بِهَذَا) أَي: بِأَن رَاجع بعد الْمَرَّتَيْنِ. قَوْله: (فَإِن طَلقهَا) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني بِصِيغَة الْمُفْرد الْغَائِب من الْمَاضِي: (حرمت عَلَيْهِ) بضمير الْغَائِب، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَإِن طَلقتهَا بتاء الْمُخَاطب حرمت عَلَيْك. حَتَّى تنْكح أَي الْمَرْأَة زوجا غَيْرك ويروى: غَيره. وَهَذَا لَا يَجِيء إلاَّ على رِوَايَة الْكشميهني فَافْهَم. وَالتَّعْلِيق الْمَذْكُور رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن يحيى بن يحيى وقتيبه وَمُحَمّد بن رمح عَن اللَّيْث.
5625 - حدّثنا مُحَمَّدٌ حَدثنَا أبُو مُعاوِيَةَ حَدثنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرأتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوّا غَيْرَهُ فَطَلَّقَها وكانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيءٍ تُرِيدُهُ، فلَمْ يَلْبَثْ أنْ طَلَّقَها، فأتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالتْ: يَا رسُولَ الله! إنَّ زَوْجي طَلَّقَنِي، وإنِّي تَزَوَّجْتُ زَوْجا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي ولَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلاَّ مِثْلُ الهُدْبَةِ فَلمْ يَقْرَبْنِي إلاّ هَنَةً واحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْء، فأحلُّ لِزَوْجِي الأوَّل؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّل حتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لَا تحلين لزوجك) فَإِنَّهُ كَانَ قد طَلقهَا ثَلَاثًا وَأَنه أطلق الْحَرَام بعد الطلقات الثَّلَاث.
وَحَدِيث عَائِشَة فِي هَذَا الْبَاب قد مر، وَهَذِه رِوَايَة أُخْرَى عَنْهَا أخرجهَا البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (مثل الهدبة) قد مر تَفْسِيرهَا أَنَّهَا طرف الثَّوْب مِمَّا يَلِي طرته. قَوْله: (فَلم تصل مِنْهُ) أَي: لم تصل الْمَرْأَة من زَوجهَا إِلَى شَيْء تريده هِيَ، وَهُوَ الْوَطْء المشبع. قَوْله: (وإلاَّ هنة وَاحِدَة) ، بِفَتْح الْهَاء وَتَخْفِيف النُّون، وَقد حكى الْهَرَوِيّ تشديدها وَأنْكرهُ الْأَزْهَرِي قبله، وَقَالَ الْخَلِيل هِيَ كلمة يكنى بهَا عَن شَيْء يستحي من ذكره باسمه، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ لم يطأني إلاَّ مرّة وَاحِدَة، يُقَال هُنَا: امْرَأَته إِذا غشيها، وروى ابْن السكن بباء مُوَحدَة ثَقيلَة أَي: مرّة وَاحِدَة، ذكره صَاحب (الْمَشَارِق) عَنهُ، وَكَذَا ذكره الْكرْمَانِي، وَقَالَ: فِي أَكثر النّسخ بموحدة ثَقيلَة أَي: مرّة، وَقَالَ صَاحب (الْمَشَارِق) وَعند الكافة بالنُّون، وَقيل: هِيَ من هَب إِذا احْتَاجَ إِلَى الْجِمَاع، يُقَال: هَب التيس يهب هبيبا.
8 - (بابٌ { (66) لم تحرم مَا أحل الله لَك} (التَّحْرِيم: 1)
وَقد مر تَفْسِيره فِي أول سُورَة التَّحْرِيم، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لفظ: بَاب، وَوَقع عوضهَا: قَوْله تَعَالَى: { (66) لم تحرم} .
6625 - حدّثنا الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ الرَّبِيعَ بنَ نافعٍ حَدثنَا مُعاوِيَةُ عنْ يَحْيى بن أبي كَثِيرٍ عنْ يَعْلَى بنِ حَكِيمٍ هنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ أنّهُ أخْبَرَهُ أنّهُ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إذَا حَرَّمَ امْرَأتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: لَكُمْ فِي رسولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
(انْظُر الحَدِيث 1194)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن الصَّباح بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْبَزَّار بالراء فِي آخِره الوَاسِطِيّ، وَنزل بَغْدَاد وثقة الْجُمْهُور، وَلينه النَّسَائِيّ قَلِيلا. وَأخرج عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوْضُوع وَلم يكثر، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان بَقينَ من ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وللبخاري شيخ آخر يُقَال لَهُ: الْحسن بن الصَّباح الزَّعْفَرَانِي، لَكِن إِذا وَقع هَكَذَا يكون مَنْسُوبا لجده فَهُوَ الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَهُوَ الَّذِي روى عَنهُ فِي الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا الْبَاب، وَله أَيْضا فِي الروَاة عَن شُيُوخه وَمن فِي طبقتهم مُحَمَّد بن الصَّباح الدولابي أخرج عَنهُ فِي الصَّلَاة والبيوع وَغَيرهمَا وَلَيْسَ هُوَ أَخا لِلْحسنِ بن الصَّباح، وَفِيهِمْ أَيْضا مُحَمَّد بن الصَّباح الجرجر. أخرج عَنهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَهُوَ غير الدولابي، وَعبد الله بن الصَّباح أخرج عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع وَغَيره(20/241)
وَلَيْسَ أحد من هَؤُلَاءِ أَخا للْآخر، وَالربيع بن نَافِع الْحلَبِي أَبُو ثوبة سكن طرسوس، وَمُعَاوِيَة هُوَ ابْن سَلام بتَشْديد اللَّام، وَيحيى ويعلى وَسَعِيد كلهم من التَّابِعين روى بَعضهم عَن بعض.
والْحَدِيث مر فِي أول سُورَة التَّحْرِيم عَن معَاذ بن فضَالة.
قَوْله: (وَإِذا حرم امْرَأَته) أَي: إِذا حرم رجل امْرَأَته بِأَن قَالَ: أَنْت عَليّ حرَام. قَوْله: (لَيْسَ بِشَيْء) يَعْنِي هَذَا القَوْل لَيْسَ بِشَيْء يَعْنِي: لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَيست بِشَيْء. أَي: هَذِه الْكَلِمَة والمقالة لَيست بِشَيْء قَوْله: (وَقَالَ: لكم فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة حَسَنَة) وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الأسوة الْقدْوَة، والمواساة الْمُشَاركَة. وَفِي (الْمغرب) الأسوة اسْم من ائتسى بِهِ إِذا اقْتدى بِهِ وَاتبعهُ، وَأَشَارَ بِهِ ابْن عَبَّاس مستدلاً على مَا ذهب إِلَيْهِ إِلَى قصَّة التَّحْرِيم، وبينّا ذَلِك فِي سُورَة التَّحْرِيم.
7625 - حدّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ بنِ الصَّبَّاحِ حَدثنَا حَجَّاجٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ عطاءٌ أنّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدِ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ ويَشْرَبُ عِنْدَها عَسَلاً، فَتَواصَيْتُ أَنا وحَفْصَةُ أنَّ أيَّتَنا دَخَلَ عَليْها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلْتَقُلْ: إنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغافِيرَ، أكَلْتَ مَغافِير؟ فَدَخَلَ عَلى إحْدَاهُمَا فقالَتْ لهُ ذالِكَ، فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، ولَنْ أعُودَ لهُ. فَنَزَلَتْ: { (66) يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} { (66) إِن تَتُوبَا إِلَى الله} (التَّحْرِيم: 1 4) لِعائِشَةَ وحَفْصَةَ و { (66) إِذْ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} (التَّحْرِيم: 3) لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح هُوَ الزَّعْفَرَانِي. وَقد مر ذكره عَن قريب، وحجاج هُوَ ابْن مُحَمَّد الْأَعْوَر، وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَأهل الْحجاز يطلقون الزَّعْم على مُطلق القَوْل، وَالْمعْنَى: قَالَ: قَالَ عَطاء، وَوَقع فِي رِوَايَة هِشَام بن يُوسُف عَن ابْن جريج عَن عَطاء، وَقد مضى فِي التَّفْسِير: وَعبيد بن عُمَيْر كِلَاهُمَا بِالتَّصْغِيرِ هُوَ أَبُو عَاصِم اللَّيْثِيّ الْمَكِّيّ.
وَهنا ثَلَاثَة مكيون مُتَوَالِيَة، وهم: ابْن جريج وَعَطَاء وَعبيد.
والْحَدِيث قد مر فِي سُورَة التَّحْرِيم. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فتواصيت) بالصَّاد الْمُهْملَة قَالَ بَعضهم من المواصاة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل من التواصي، وَمن لم يفرق بَين بَاب التفاعل وَبَاب المفاعلة كَيفَ تقدم إِلَى ميدان الشَّرْح، وَفِي رِوَايَة هِشَام: فَتَوَاطَأت بِالطَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور إِنَّه من المواطأة، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ من التواطؤ. وَفِيه: قَوْله: (أَن أَيَّتنَا) بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهِي كلمة: أَي، أضيفت إِلَى نون الْمُتَكَلّم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى أَن أوتينا وَدخل علينا. قلت: وَلَا تحققت لي صِحَّتهَا، ويروى: مَا دخل وَكلمَة: مَا زَائِدَة. قَوْله: (مَغَافِير) بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف بعد الْفَاء فِي جَمِيع نسخ البُخَارِيّ، وَوَقع فِي بعض النسح عِنْد مُسلم فِي بعض الْمَوَاضِع: مغافر بِحَذْف الْيَاء، وَقَالَ عِيَاض: الصَّوَاب إِثْبَاتهَا لِأَنَّهَا عوض عَن الْوَاو الَّتِي للمفرد، لِأَنَّهُ جمع مغْفُور بِضَم الْمِيم وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَضم الْفَاء وبالواو وَالرَّاء، وَلَيْسَ فِي كَلَامهم مفعول بِالضَّمِّ إلاَّ مغْفُور ومغرور بالغين الْمُعْجَمَة من أَسمَاء الكماة، ومنخور من أَسمَاء الْأنف ومغلوق بالغين الْمُعْجَمَة، وَاحِد المغاليق وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المغفور صمغ حُلْو لَهُ رَائِحَة كريهة، وَذكر البُخَارِيّ: إِن المغفور شَبيه بالصمغ يكون فِي الرمث بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ من الشّجر الَّتِي ترعاها الْإِبِل، وَهُوَ من الحمض، وَفِي الصمغ الْمَذْكُور حلاوة وَذكر أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ أَن المغفور يكون فِي الْعشْر بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وبالراء فِي الثمام بالثاء الْمُثَلَّثَة والسدر والطلح، وَيُقَال: المغافير جمع مغفار، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ نوع من الصمغ يحلب عَن بعض الشّجر يحل بِالْمَاءِ وَيشْرب، وَله رَائِحَة كريهة: وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) : يُقَال: معثور، بالثاء الْمُثَلَّثَة مَوضِع الْفَاء، وَقيل: الْمِيم فِيهِ زَائِدَة، وَبِه قَالَ الْفراء وَالْجُمْهُور على أَنَّهَا أَصْلِيَّة. قَوْله: (أكلت مَغَافِير؟) أَصله بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام فحذفت. قَوْله: (فَدخل) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على إِحْدَاهمَا(20/242)
أَي إِحْدَى المذكورتين وهما عَائِشَة وَحَفْصَة، وَلم يعلم أَيَّتهمَا كَانَت قبل، وبالظن أَنَّهَا حَفْصَة. قَوْله: (لَا بل شربت عسلاً) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن شُيُوخه: لَا شربت بل بل عسلاً، قَوْله: قَوْله: (وَلنْ أَعُود لَهُ) أَي للشُّرْب، وَزَاد فِي رِوَايَة هِشَام: وَقد حَلَفت لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا، فَظهر بِهَذِهِ الزِّيَادَة أَن الْكَفَّارَة فِي قَوْله: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} (التَّحْرِيم: 2) لأجل يَمِينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله، وَقد حَلَفت وَلم يكن لمُجَرّد التَّحْرِيم، وبهذه الزِّيَادَة أَيْضا مُنَاسبَة. قَوْله: (فِي رِوَايَة حجاج بن مُحَمَّد) فَنزلت {يَا أَيهَا النَّبِي} (التَّحْرِيم: 3) الْآيَة وَبِدُون هَذِه الزِّيَادَة لَا يظْهر لقَوْله: فَنزلت، معنى يُطَابق مَا قبله. قَوْله إِلَى {إِن تنويا} (التَّحْرِيم: 1) أَي قَرَأَ من أول السُّور إِلَى هَذَا الْموضع قَوْله: (لعَائِشَة وَحَفْصَة) أَي: الْخطاب لَهما فِي قَوْله: إِن تَتُوبَا قَوْله: {وَإِذا أسر النَّبِي} (التَّحْرِيم: 3) إِلَى آخِره، من بَقِيَّة الحَدِيث، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي آخر الحَدِيث، وَكَانَ الْمَعْنى: وَأما المُرَاد بقوله تَعَالَى: {وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} (التَّحْرِيم: 3) ففهو لأجل قَوْله: (بل شربت عسلاً) .
8625 - حدّثنا فَرْوَةُ بنُ أبي المَغرَاءِ حَدثنَا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُحبُّ العَسَلَ والحَلْوَاءَ، وكانَ إِذا انصَرَفَ مِنَ العَصْرِ دَخَلَ علَى نِسائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ علَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فاحْتَبَسَ أكْثَرَ مَا كانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسألْتُ عنْ ذالِكَ فَقِيلَ لِي: أهْدَتْ لَهَا امْرَأةٌ من قَوْمِها عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتِ: أما وَالله لَنَحْتالَنَّ لهُ. فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فإذَا دَنا منْكِ فَقُولي: أكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فإنَّهُ سَيقُولُ لَكِ: لَا، فَقُولِي لهُ: مَا هاذِهِ الرِّيحُ الَّتي أجِدُ مِنْكَ؟ فإنَّهُ سَيَقُولَ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَل، فَقُولي لهُ: جَرَسَتْ نَحلُهُ العُرْفُطَ. وسأقُولُ ذَلِكِ، وقُولِي أنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ، قالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: فَوَالله مَا هُوَ إلاّ أنْ قامَ علَى البابِ، فأرَدْتُ أنْ أُبادِئَهُ بِما أمَرْتنِي بهِ فَرَقا منْكِ، فلَمَّا دَنا مِنْها قالَتْ لهُ سَوْدَةُ: يَا رسولَ الله أكَلْتَ مَغافِيرَ؟ قَالَ: لَا. قالَتْ: فَما هاذِهِ الرِّيحُ الّتي أجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فقالَتْ: جَرِسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، فلَمّا دارَ إليَّ قُلْتُ لهُ نَحْوَ ذالِكَ، فَلمّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قالَتْ لهُ مِثلَ، فلَمّا دارَ إِلَى حَفْصَةَ قالَتْ: يَا رسولَ الله أَلا أسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا حاجَة لي فِيهِ. قالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالله لَقَدْ حرَمْناهُ. قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه عَن شرب الْعَسَل، يفهم ذَلِك من قَوْله: (لَا حَاجَة لي فِيهِ) وَيُؤَيّد هَذَا زِيَادَة هِشَام فِي رِوَايَته فِي الحَدِيث السَّابِق: وَقد حَلَفت لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا، فَنزلت: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم} الْآيَة. وَقَالَ القَاضِي: اخْتلف فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، فَقَالَت عَائِشَة: فِي قصَّة الْعَسَل، وَعَن زيد بن أسلم: أَنَّهَا نزلت فِي تَحْرِيم مَارِيَة جَارِيَته وحلفه أَن لَا يَطَأهَا. وَالصَّحِيح فِي سَبَب نزُول الْآيَة أَنه فِي قصَّة الْعَسَل لَا فِي قصَّة مَارِيَة الْمَرْوِيّ فِي غير (الصَّحِيحَيْنِ) وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلم تأت قصَّة مَارِيَة من طَرِيق صَحِيح قَالَ النَّسَائِيّ: حَدِيث عَائِشَة فِي الْعَسَل حَدِيث صَحِيح غَايَة.
ثمَّ إِن البُخَارِيّ أخرج طرفا من هَذَا الحَدِيث فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب دُخُول الرجل على نِسَائِهِ فِي الْيَوْم، عَن فَرْوَة عَن عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، ثمَّ أخرجه هُنَا مطولا بِهَذَا الْإِسْنَاد ثمَّ صَدره بقول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الْعَسَل والحلواء، تمهيدا لما سَيذكرُهُ من قصَّة الْعَسَل مَعَ أَنه أفرد ذكر محبَّة الْعَسَل، والحلواء فِي كتاب الْأَطْعِمَة، وَكتاب الْأَشْرِبَة وَغَيرهمَا على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق أبي أُمَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مطولا نَحْو إِخْرَاج البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وحدثنيه سُوَيْد بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهَذَا الْإِسْنَاد نَحوه، مطولا وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يحب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل) ، بِتَقْدِيم الْحَلْوَاء على الْعَسَل، وَهَهُنَا قدم الْعَسَل على الْحَلْوَاء. وَقَالَ(20/243)
الْكرْمَانِي: ذكر الْعَسَل بعده للتّنْبِيه على شرفه، وَهُوَ من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : قَالَ الْعلمَاء: المُرَاد بالحلواء هُنَا كل شَيْء حُلْو، وَذكر الْعَسَل بعْدهَا تَنْبِيها على شرفه ومزيته وَهُوَ من بَاب ذكر الْخَاص بعد الْعَام. وَقَالَ بَعضهم: ولتقديم كل مِنْهُمَا على الآخر جِهَة من جِهَات التَّقْدِيم، فتقديم الْعَسَل لشرفه وَلِأَنَّهُ أصل من أصُول الْحَلْوَاء وَلِأَنَّهُ مُفْرد والحلواء مركب، وَتَقْدِيم الْحَلْوَاء لشمولها وتنوعها لِأَنَّهَا تتَّخذ من الْعَسَل وَغَيره، وَلَيْسَ ذَلِك من عطف الْعَام على الْخَاص كَمَا زعم بَعضهم، وَإِنَّمَا الْعَام الَّذِي يدْخل الْجَمِيع فِيهِ انْتهى قلت: الظَّاهِر أَن تشنيعه على الْكرْمَانِي لَا وَجه لَهُ لِأَن الصَّرِيح من كَلَامه أَنه من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} (الْحجر: 78) وَقَوله: إِنَّمَا الْعَام الَّذِي يدْخل فِيهِ الْجَمِيع يرد عَلَيْهِ كَلَامه: لِأَن الْحَلْوَاء يدْخل فِيهَا كل شَيْء حُلْو، كَمَا ذكره النَّوَوِيّ، فَكيف يَقُول: وَلَيْسَ ذَلِك من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص؟ وَهَذِه مُكَابَرَة ظَاهِرَة، فَأَما النَّوَوِيّ فَإِنَّهُ صرح بِأَنَّهُ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح} (الْقدر: 4) وكل مِنْهُمَا ذكر مَا يَلِيق بالْمقَام.
قَوْله: (الْعَسَل) ، وَهُوَ فِي الأَصْل يذكر وَيُؤَنث. قَوْله: (والحلواء) فِيهِ الْمَدّ وَالْقصر، قَالَه ابْن فَارس، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ مَقْصُورَة تكْتب بِالْيَاءِ، وَوَقعت فِي رِوَايَة عَليّ بن مسْهر بِالْقصرِ، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة بِالْمدِّ. قَوْله: (من الْعَصْر) ، أَي: من صَلَاة الْعَصْر، كَذَا ذكر فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَخَالفهُم حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة، فَقَالَ: من الْفجْر، أخرجه عبد بن حميد فِي تَفْسِيره عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد، وتساعده رِوَايَة يزِيد بن رُومَان عَن ابْن عَبَّاس، فَفِيهَا: وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الصُّبْح جلس فِي مُصَلَّاهُ وَجلسَ النَّاس حوله حَتَّى تطلع الشَّمْس، ثمَّ يدْخل على نِسَائِهِ امْرأ امْرَأَة يسلم عَلَيْهِنَّ وَيَدْعُو لَهُنَّ، فَإِذا كَانَ يَوْم إِحْدَاهُنَّ كَانَ عِنْدهَا ... الحَدِيث أخرجه ابْن مرْدَوَيْه. (فَإِن قلت) كَيفَ التَّوْفِيق بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: رِوَايَة عَائِشَة من الْعَصْر مَحْفُوظ، وَرِوَايَة حَمَّاد شَاذَّة وَلَئِن سلمنَا فَيمكن أَن فَيمكن أَن تحمل رِوَايَة، إِذا انْصَرف من صَلَاة الْفجْر أَو الصُّبْح، على أَنه كَانَ الَّذِي يَقع مِنْهُ فِي أول النَّهَار مَحْض السَّلَام وَالدُّعَاء، وَالَّذِي كَانَ بعد الْعَصْر الْجُلُوس والاستئناس والمحادثة، أَو نقُول: إِنَّه كَانَ فِي أول النَّهَار تَارَة وَفِي آخِره تَارَة، وَلم يكن مستمرا فِي وَاحِد مِنْهُمَا. قَوْله: (دخل على نِسَائِهِ) ، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: أجَاز إِلَى نِسَائِهِ أَي: مضى قَوْله: (فيدنو من إِحْدَاهُنَّ) أَي: يقرب مِنْهُنَّ. وَالْمرَاد التَّقْبِيل والمباشرة من غير جماع. قَوْله: (فاحتبس) ، أَي: مكث زَمَانا عِنْد حَفْصَة وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: (فاحتبس عِنْدهَا أَكثر مَا كَانَ يحتبس) ، وَكلمَة مَا مَصْدَرِيَّة أَي: أَكثر احتباسه خَارِجا عَن الْعَادة. قَوْله: (فغرت) أَي: قَالَت عَائِشَة: فغرت، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَضم التَّاء: من الْغيرَة، وَهِي الَّتِي تعرض للنِّسَاء من الضرائر. قَوْله: (فَسَأَلت عَن ذَلِك) أَي: عَن احتباسه الْخَارِج عَن الْعَادة عِنْد حَفْصَة، وَوَقع فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس بَيَان ذَلِك. وَلَفظه: فأنكرت عَائِشَة احتباسه عِنْد حَفْصَة، فَقَالَت لجويرية حبشية يُقَال لَهَا خضراء: إِذا دخل على حَفْصَة فادخلي عَلَيْهَا فانظري مَاذَا تصنع، فَإِن قلت: فِي الحَدِيث السَّابِق أَنه شرب فِي بَيت زَيْنَب، وَفِي هَذَا الحَدِيث أَنه شرب فِي بَيت حَفْصَة، فَهَذَا مَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وروى ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن شرب الْعَسَل كَانَ عِنْد سَوْدَة. قلت: قَالُوا طَرِيق الْجمع بَين هَذَا الِاخْتِلَاف الْحمل على التَّعَدُّد، فَلَا يمْتَنع تعدد السَّبَب لِلْأَمْرِ الْوَاحِد، وَأما مَا وَقع فِي (تَفْسِير السّديّ) : أَن شرب الْعَسَل كَانَ عِنْد أم سَلمَة، أخرجه الطَّبَرِيّ وَغَيره، فَهُوَ مَرْجُوح لإرساله وشذوذه. قَوْله: (أَهْدَت لَهَا) أَي: لحفصة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، (امْرَأَة من قوهمها) لم يدر اسْمهَا (عكة من عسل) وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: عسل من طائف، والعكة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْكَاف: وَهِي الزق الصَّغِير. وَقيل: آنِية السّمن. قَوْله: (أما وَالله) كلمة: أما، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم حرف استفتاح، وَيكثر قبل الْقسم. قَوْله: (لنحتالن) بِفَتْح اللَّام للتَّأْكِيد من الاحتيال. قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ جَازَ على أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاحتيال؟ فَأجَاب بِأَنَّهُ من مقتضيات الْغيرَة الطبيعية للنِّسَاء وَهُوَ صَغِيرَة مَعْفُو عَنْهَا مكفرة. قَوْله: (إِنَّه) أَي: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سيدنو مِنْك) ، وَقد مر بَيَان المُرَاد من الدنو عَن قريب. قَوْله: (فَإِذا دنا مِنْك) وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة: إِذا دخل على إحداكن فلتأخذ بأنفها، فَإِذا قَالَ مَا شَأْنك؟ فَقولِي: ريح المغافير، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله: (سقتني حَفْصَة شربة عسل) وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة: إِنَّمَا هِيَ عسيلة سقتنيها حَفْصَة. ققوله: (جرست نحله العرفط) جرست بِفَتْح الْجِيم وَالرَّاء وَالسِّين الْمُهْملَة أَي: رعت، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي أكلت، وَقَالَ(20/244)
صَاحب (الْعين) جرست النَّحْل بالعسل يجرسه جرسا وَهُوَ لحسها إِيَّاه، والعرفط بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَالْفَاء وَسُكُون الرَّاء وبالطاء الْمُهْملَة من شجر الْعضَاة، والعضاة كل شجر لَهُ شوك، وَإِذا استيك بِهِ كَانَت لَهُ رَائِحَة حَسَنَة تشبه رَائِحَة طيب الند، وَيُقَال: هُوَ نَبَات لَهُ ورقة عريضة تفترش على الأَرْض لَهُ شَوْكَة حجناء وَثَمَرَة بَيْضَاء كالقطن مثل ذَر الْقَمِيص خَبِيث الرَّائِحَة يلحسه النَّحْل وَيَأْكُل مِنْهُ ليحصل مِنْهُ الْعَسَل، قيل: هُوَ الشّجر الَّذِي صمغه المغافير. قَوْله: (يَا صَفِيَّة) أَي: بنت حييّ أم الْمُؤمنِينَ قَوْله: (ذَاك) إِشَارَة إِلَى قَوْله: (أكلت المغافير؟) قَوْله قَالَت: تَقول سَوْدَة أَي: قَالَت عَائِشَة حِكَايَة عَن قَول سَوْدَة لما دخل عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (فوَاللَّه) إِلَى قَوْله: (فَلَمَّا دنا مِنْهَا) مقول سَوْدَة. قَوْله: (مَا هُوَ إلاّ أَن قَامَ على الْبَاب) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأَرَدْت أَن أناديه) بالنُّون من المناداة. هَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات: أبادئه، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والهمزة، من المبادأة وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: أبادره، من الْمُبَادرَة، وَهِي المسارعة. قَوْله: (فرقا مِنْك) أَي: خوفًا. وَالْخطاب للعائشة. قَوْله: (فَلَمَّا دنا مِنْهَا) أَي: فَلَمَّا دنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سَوْدَة. قَوْله: (فَلَمَّا دَار ءلى) من الدوران، مَعْنَاهُ: لما دخل عَلَيْهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: فَلم دَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا وَلم يكن لَهَا نوبَة. فَأجَاب بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يدْخل عَلَيْهَا ويتردد إِلَيْهَا، أَو كَانَ هَذَا قبل هبة نوبتها، وَكَذَا معنى قَوْله: (فَلَمَّا دَار إِلَى صَفِيَّة) . قَوْله: (قَالَت لَهُ مثل ذَلِك) أَي: مثل مَا قَالَت سَوْدَة: (جرست نحلة العرفط) فَإِن قلت: قَالَ عِنْد إِسْنَاد القَوْل إِلَى صَفِيَّة مثل ذَلِك، وَفِي إِسْنَاده إِلَى سَوْدَة نَحْو ذَلِك أَي نَحْو مَا قَالَت عَائِشَة لِأَنَّهَا أَيْضا قَالَت، لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَا قبل عَن عَائِشَة، وسأقول ذَلِك، وَقَوْلِي أَنْت يَا صَفِيَّة. قلت: قَالَ بَعضهم مَا ملخصه: إِن عَائِشَة لما كَانَت مبتكرة لهَذَا الْأَمر، قيل: نَحْو ذَلِك لهَذَا الْأَمر، وَأما صَفِيَّة فَإِنَّهَا كَانَت مأمورة بِهِ، وَلَيْسَ لَهَا تصرف قيل مثل ذَلِك، ثمَّ قَالَ: رجعت إِلَى سِيَاق أبي أُسَامَة فَوَجَدته عبَّر بِالْمثلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فغلب على الظَّن أَن تَغْيِير ذَلِك من ترف الروَاة. قلت: لم يذكر جَوَابا بشفي العليل وَلَا يروي الغليل، فَإِذا علم الْفرق بَين النُّجُوم والمثل علمت النُّكْتَة فِيهِ، فالنحو فِي اللُّغَة عبارَة عَن الْقَصْد، يُقَال: نحوت نَحْوك أَي: قصدت قصدك، وَمثل الشَّيْء شُبْهَة ومماثل لَهُ، ثمَّ إِنَّهُم يستعملون لفظ النَّحْو بِمَعْنى الْمثل إِذا كَانَ لَهُم قصد كلي فِي بَيَان الْمُمَاثلَة، بِخِلَاف لَفْظَة الْمثل، فَإِن فِيهَا مُجَرّد بَيَان الْمُمَاثلَة مَعَ قطع النّظر عَن غَيرهَا، وَلما كَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قاصدة بِالْقَصْدِ الْكُلِّي تَبْلِيغ هَذِه الْكَلِمَة، أَعنِي لفظ: (جرست نحله العرفط) قَالَت سَوْدَة: نَحْو ذَلِك، بِخِلَاف صَفِيَّة فَإِنَّهَا لم تقصد ذَلِك أصلا، وَلكنهَا قالته للامتثال، وَلَا يَنْبَغِي أَن يظنّ فِي الروَاة التَّغْيِير بِالظَّنِّ الْفَاسِد، فَأَقل الْأَمر فِيهِ أَن يُقَال: هَذَا من بَاب التفنن فَإِن فِيهِ تَحْصِيل الرونق للْكَلَام فَافْهَم قَوْله: (جرمناه) بتَخْفِيف الرَّاء الْمَفْتُوحَة أَي: منعناه، من حرم يحرم من بَاب ضرب يضْرب، يُقَال: حرمه الشَّيْء يحرمه حرما بِالْكَسْرِ وَحرمه كَذَلِك وحريمه وحرمانا إِذا مَنعه، وَكَذَلِكَ أحرمهُ، وَأما حرَّم الشَّيْء بِضَم الرَّاء فمصدره: حُرْمَة بِالضَّمِّ. قَوْله: (قلت لَهَا: اسلتي) أَي: قَالَت عَائِشَة لسودة كَأَنَّهَا خشيت أَن يفشو ذَلِك فَيظْهر مَا دَبرته من كيدها لحفصة.
ثمَّ اعْلَم أَن فِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: أَن الْغيرَة مجبولة فِي النِّسَاء طبعا، فالغيري تعذر فِي منع مَا يَقع مِنْهَا من الاحتيال فِي وَقع ضَرَر الضرة. وَمِنْهَا: مَا فِيهِ بَيَان علو مرتبَة عَائِشَة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كَانَت ضَرَّتهَا تهابها وتطيعها فِي كل شَيْء تأمرها بِهِ حَتَّى فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة مَعَ الزَّوْج الَّذِي هُوَ أرفع النَّاس قدرا. وَمِنْهَا: أَن عماد الْقسم اللَّيْل وَإِن النَّهَار يجوز فِيهِ الِاجْتِمَاع بِالْجَمِيعِ بِشَرْط ترك المجامعة إلاَّ مَعَ صَاحِبَة النّوبَة، وَمِنْهَا: أَن الْأَدَب اسْتِعْمَال الْكِنَايَات فِيمَا يستحي من ذكره كَمَا فِي قَوْله فِي الحَدِيث: فيدنو مِنْهُنَّ وَالْمرَاد التَّقْبِيل والتحضين لَا مُجَرّد الدنو، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فَضِيلَة الْعَسَل والحلواء لمحبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاهُمَا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ بَيَان صَبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَايَة مَا يكون وَنِهَايَة حلمه وَكَرمه الْوَاسِع.
9 - (بابٌ لَا طَلاَقَ قَبْلَ النِّكاحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَنه: لَا طَلَاق قبل وجود النِّكَاح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَذْهَب الْحَنَفِيَّة صِحَة الطَّلَاق قب النِّكَاح، فَأَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد عَلَيْهِم. قلت: لم تقل الْحَنَفِيَّة: إِن الطَّلَاق يَقع قبل وجود النِّكَاح، وَلَيْسَ هَذَا بِمذهب لأحد، فالعجب من الْكرْمَانِي وَمن وَافقه فِي كَلَامه هَذَا كَيفَ يصدر مِنْهُم مثل هَذَا الْكَلَام، ثمَّ يردون بِهِ عَلَيْهِم من غير وَجه، وَإِنَّمَا تشبثهم فِي(20/245)
هَذَا بِمَسْأَلَة التَّعْلِيق وَهِي مَا إِذا قَالَ رجل لأجنبية، إِذا تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق، فَإِذا تزَوجهَا يَقع الطَّلَاق عِنْد الْحَنَفِيَّة، خلافًا للشَّافِعِيَّة، فَإِن أشلاءهم على الْحَنَفِيَّة هَهُنَا، ويحتجون فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقول ابْن عَبَّاس، على مَا يَجِيء الْآن، بِمَا رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نذر لِابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا طَلَاق لِابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا بيع فِيمَا لَا يملك وَالْحَنَفِيَّة يَقُولُونَ: هَذَا تَعْلِيق بِالشّرطِ وَهُوَ يَمِين فَلَا يتَوَقَّف صِحَّته على وجود ملك الْمحل كاليمين بِاللَّه، وَعند وجود الشَّرْط يَقع الطَّلَاق وَهُوَ طَلَاق بعد وجود النِّكَاح، فَكيف يُقَال: إِنَّه طَلَاق قبل النِّكَاح؟ وَالطَّلَاق قبل النِّكَاح فِيمَا إِذا قَالَ لأجنبيه: أَنْت طَالِق فَهَذَا كَلَام لَغْو، وَفِي مثل هَذَا يُقَال لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، والْحَدِيث الْمَذْكُور لم يَصح، قَالَه أَحْمد، وَقَالَ أَبُو الْفرج: رُوِيَ بطرِيق مخية بِمرَّة، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أخبارهم لَيْسَ لَهَا أصل فِي الصِّحَّة فَلَا تشتغل بهَا، وَلَئِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على التَّخْيِير.
وقَوْلُ الله تَعَالَى: ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو اْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الْأَحْزَاب: 94) [/ ح.
أَكثر النّسخ هَكَذَا: بَاب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} الْآيَة، وَلَيْسَ فِيهِ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، غير أَنه قَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وساقها إِلَى قَوْله: {من عدَّة} وَحذف الْبَاقِي. وَقَالَ: الْآيَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} الْآيَة، وَعَلِيهِ أَكثر النّسخ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ ابْن التِّين: احتجاج البُخَارِيّ بِهَذِهِ الْآيَة على عدم الْوُقُوع لَا دلَالَة فِيهِ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: لَيْسَ فِيهَا دَلِيل لِأَنَّهَا إِخْبَار عَن صُورَة وَقع فِيهِ الطَّلَاق بعد النِّكَاح، وَلَا حصر هُنَاكَ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يَقْتَضِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: احْتج بِالْآيَةِ قبل البُخَارِيّ ترجمان الْقُرْآن عبد الله بن عَبَّاس وَمرَاده هُوَ قَوْله: جعل الله الطَّلَاق بعد النِّكَاح. قلت: هَذَا هروب من هَذَا الْقَائِل لعَجزه عَن الْجَواب عَمَّا قَالَه ابْن التِّين وَابْن الْمُنِير، وانباض عرق العصبية لمذهبه، ولترويج كَلَام البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، ونتكلم فِي هَذَا الْآن بِمَا يَقْتَضِيهِ طَرِيق الصَّوَاب من غير ميل عَن الْحق فِي الْجَواب.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ جَعَلَ الله الطَّلاَقَ بعْدَ النِّكاحِ
هَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: (لَا طَلَاق إلاَّ بعد نكاج وَلَا عتق إلاّ بعد ملك) انْتهى، هَذَا لَا خلاف فِيهِ أَن الله جعل الطَّلَاق بعد النِّكَاح، وَالْحَنَفِيَّة قَائِلُونَ بِهِ، فَلَا يجوز للشَّافِعِيَّة أَن يحتجوا بِهِ عَلَيْهِم فِي مَسْأَلَة التَّعْلِيق، فَإِن تَعْلِيق الطَّلَاق غير الطَّلَاق، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاق فِي الْحَال، فَلَا يشْتَرط لصِحَّته قيام الْمحل. وَحكى أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن الزُّهْرِيّ فِي قَوْله: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح، قَالَ: هُوَ الرجل يُقَال لَهُ: تزوج فُلَانَة، فَيَقُول: هِيَ طَالِق، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، فَأَما من قَالَ: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، فَإِنَّمَا تطلق حِين يَتَزَوَّجهَا، وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ فِي رجل قَالَ: كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق، وكل أمة تشتريها فَهِيَ حرَّة، كَمَا قَالَ: فَقَالَ معمر: أَو لَيْسَ قد جَاءَ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق إِلَّا بعد ملك؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِك أَن يَقُول الرجل: امْرَأَة فلَان طَالِق وَعبد فلَان حر، وَاحْتج بَعضهم أَيْضا بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن الرجل يَقُول: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق قَالَ لَيْسَ بِشَيْء، إِنَّمَا الطَّلَاق لما ملك. قَالُوا: فَابْن مَسْعُود كَانَ يَقُول: إِذا وَقت وقتا فَهُوَ كَمَا قَالَ! قَالَ: رحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن لَو كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ الله تَعَالَى: {إِذا طلّقْتُم الْمُؤْمِنَات ثمَّ نكحتموهن} انْتهى. قَالُوا: الْآيَة دلّت على أَنه إِذا وجد النِّكَاح ثمَّ طلق قبل الْمَسِيس فَلَا عدَّة، وَلم تتعرض الْآيَة لصورة النزاع أصلا، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حبس الأَصْل وسبل الثَّمَرَة، فَدلَّ على جَوَاز الْمَعْقُود فِيمَا لم يملكهُ وَقت العقد، بل فِيمَا يسْتَأْنف، وَأَجْمعُوا على أَن لَو أوصى بِثلث مَاله أَنه يعْتَبر وَقت الْمَوْت لَا وَقت الْوَصِيَّة، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن} (التَّوْبَة: 57) فَهَذَا نَظِير: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، وَفِي (الاستذكار) لم يخْتَلف عَن مَالك أَنه إِن عمم لم يلْزمه. وَإِن سمى امْرَأَة أَو أَرضًا أَو قَبيلَة لزمَه، وَبِه قَالَ ابْن أبي ليلى وَالْحسن(20/246)
بن صَالح وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث، وروى عَن الثَّوْريّ، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عبد الله بن نمير وَأَبُو أُسَامَة عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: كَانَ الْقَاسِم وَسَالم وَعمر بن عبد الْعَزِيز يرَوْنَ الطَّلَاق جَائِزا عَلَيْهِ إِذا عين، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن عمر بن حَمْزَة أَنه سَأَلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد وسالما وَأَبا بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبا بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن رجل قَالَ: يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق الْبَتَّةَ، فَقَالُوا كلهم: لَا يَتَزَوَّجهَا وَقَالَ أَيْضا: حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن عبيد الله بن عمر، قَالَ: سَأَلت الْقَاسِم عَن رجل قَالَ: يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ: هِيَ طَالِق.
ويُرْوَى فِي ذالِكَ عنْ علِيٍّ وسعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ وَأبي بَكْرِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ وعُبَيْدِ الله بنِ عبْدِ الله بن عُتْبَةَ وأبانَ بنِ عُثْمَانَ وعليِّ بنِ حُسَيْنٍ وشَريحٍ وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ والقاسِمِ وسالِمٍ وطاوُوس والحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وعَطاءِ وعامِرِ بنِ سَعْدٍ وجابِرِ بنِ زَيْدٍ ونافِعِ بنِ جُبَيْرٍ ومَحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ وسُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ ومُجاهِدٍ والقاسِمِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ وعَمْرٍ وبنِ هَرِمِ والشَّعْبِيِّ: أنَّها لَا تَطْلُقُ.
أَي: يرْوى فِي أَن لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، عَن عَليّ بن أبي طَالب إِلَى آخِره، وَذكر الرِّوَايَة عَنْهُم بِصِيغَة التمريض، وَلَو ثَبت عِنْده فِي ذَلِك خبر مَرْفُوع صَحِيح لذكره، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ذَهَبُوا إِلَى أَن لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، وَهَؤُلَاء كلهم تابعيون، إلاَّ أَوَّلهمْ وَهُوَ عَليّ بن أبي طَالب، وإلاَّ ابْن هرم فَإِنَّهُ من أَتبَاع التَّابِعين. أما التَّعْلِيق عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن فضل عَن لَيْث عَن عبد الْملك بن ميسرَة عَن النزال عَنهُ، وَأما التَّعْلِيق عَن عُرْوَة فَرَوَاهُ أَيْضا عَن الثَّقَفِيّ عَن عُرْوَة فَذكره، وَأما التَّعْلِيق عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام فَرَوَاهُ يَعْقُوب بن سُفْيَان وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن يزِيد بن الْهَاد عَن الْمُنْذر بن عَليّ بن أبي الحكم أَن ابْن أَخِيه خطب ابْنة عَمه، فتشاجروا فِي بعض الْأَمر فَقَالَ الْفَتى: هِيَ طَالِق إِن نكحتها حَتَّى آكل الغضيض، قَالَ: والغضيض طلع النّخل الذّكر، ثمَّ ندموا على مَا كَانَ من الْأَمر، فَقَالَ الْمُنْذر: أَنا آتيكم بِالْبَيَانِ من ذَلِك، فَانْطَلق إِلَى سعيد بن الْمسيب فَذكر لَهُ فَقَالَ ابْن الْمسيب: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء طلق مَا لَا يملك. وَلَا طَلَاق لَهُ فِيمَا لَا يملك قَالَ: ثمَّ إِنِّي سَأَلت عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ سَأَلت أَبَا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن فَقَالَ مثل ذَلِك. ثمَّ سَأَلت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ سَأَلت عبيد الله بن عتيبة بن مَسْعُود فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ سَأَلت عمر بن عبد الْعَزِيز، فَقَالَ: هَل سَأَلت أحدا؟ قلت: نعم. فسماهم قَالَ: ثمَّ رجعت إِلَى الْقَوْم فَأَخْبَرتهمْ، وَأما تَعْلِيق عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة فَفِي مَا ذكره يَعْقُوب بن سُفْيَان الْمَذْكُور الْآن، وَأما تَعْلِيق أبان بن عُثْمَان فَلم يذكرهُ أحد من الشُّرَّاح، وَأما تَعْلِيق عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ الْمَشْهُور بزين العابدين فَذكره فِي (الغيلانيات) من طَرِيق شُعْبَة عَن الحكم هُوَ ابْن عتيبة؛ سَمِعت عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ يَقُول: (لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح) ، وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة عَن غنْدر عَن شُعْبَة. وَأما تَعْلِيق شُرَيْح القَاضِي فَرَوَاهُ أَيْضا ابْن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع حَدثنَا شُعْبَة عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ، قَالَ: لَا طَلَاق قبل نِكَاح. وَأما تَعْلِيق سعيد بن جُبَير فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن عبد الله بن نمير عَن عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن سعيد بن جُبَير فِي الرجل يَقُول: يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء، إِنَّمَا الطَّلَاق بعد النِّكَاح. وَأما تَعْلِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي (كتاب النِّكَاح) لَهُ عَن هشيم، وَيزِيد بن هَارُون كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: كَانَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم بن عبد الله بن عمر وَعمر بن عبد الْعَزِيز لَا يرَوْنَ الطَّلَاق قبل النِّكَاح. وَأما تَعْلِيق سَالم بن عبد الله فَهُوَ الْمَذْكُور الْآن وَأما تَعْلِيق طَاوُوس فَرَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة أَيْضا عَن مُعْتَمر عَن لَيْث عَن عَطاء. وطاووس بِهِ. وَأما تَعْلِيق الْحسن فَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن وَقَتَادَة قَالَا: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق قبل الْملك. وَأما تَعْلِيق عِكْرِمَة فَرَوَاهُ أَبُو بكر الْأَثْرَم عَن الْفضل بن دُكَيْن عَن سُوَيْد بن نجيح، قَالَ: سَأَلت عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. قلت: رجل قَالُوا لَهُ: تزوج فُلَانَة(20/247)
قَالَ: هِيَ يَوْم أَتَزَوَّجهَا طَالِق. كَذَا، وَكَذَا قَالَ: إِنَّمَا الطَّلَاق بعد النِّكَاح. وَأما تَعْلِيق عَطاء فقد مر مَعَ طَاوُوس. وَأما تَعْلِيق عَامر بن سعد، قيل: البَجلِيّ الْكُوفِي من كبار التَّابِعين. فَلم أَقف على أَثَره. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عَامر بن سعد بن أبي وَقاص، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر. قلت: لم يذكر صَاحب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) عَامر بن سعد البَجلِيّ هَذَا، وَالظَّاهِر أَنه عَامر بن سعد بن أبي وَقاص فَإِنَّهُ أَيْضا من كبار التَّابِعين. وَأما تَعْلِيق جَابر بن زيد وَهُوَ أَبُو الشعْثَاء الْبَصْرِيّ فَأخْرجهُ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيقه وَأما تَعْلِيق نَافِع بن جُبَير بن مطعم وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة عَن جَعْفَر بن عون عَن أُسَامَة بن زيد عَنْهُمَا قَالَا: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح وَأما تَعْلِيق سُلَيْمَان بن يسَار فَأخْرجهُ سعيد بن مَنْصُور عَن عتاب بن بشير عَن خصيف عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه حلف فِي امْرَأَة إِن تزَوجهَا فَهِيَ طَالِق، فَتَزَوجهَا فَأخْبر بذلك عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ أَمِير على الْمَدِينَة، فَأرْسل إِلَيْهِ: بَلغنِي أَنَّك حَلَفت فِي كَذَا؟ قَالَ: نعم قَالَ: أَفلا تخلي سَبِيلهَا؟ قَالَ؛ لَا، فَتَركه عَمْرو وَلم يفرق بَينهمَا. وَأما تَعْلِيق مُجَاهِد فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الْحُسَيْن بن الرماح، سَأَلت سعيد بن الْمسيب ومجاهدا وَعَطَاء عَن رجل قَالَ: يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، فكلهم قَالُوا: لَيْسَ بِشَيْء زَاد سعيد: أَيكُون سيل قبل مطر؟ وَأما تَعْلِيق الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مَسْعُود فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مَعْرُوف بن وَاصل، قَالَ: سَأَلت الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح. وَأما تَعْلِيق عَمْرو بن هرم الْأَزْدِيّ، من أَتبَاع التَّابِعين، فَأخْرجهُ أَبُو عبيد من طَرِيقه، قَالَه بعض الشُّرَّاح. وَأما تَعْلِيق عَامر الشّعبِيّ فَرَوَاهُ وَكِيع عَن مَنْصُور عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ. أَنه قَالَ: كل امْرَأَة تزَوجهَا فَهِيَ طَالِق، فَلَيْسَ بِشَيْء وَإِذا وَقت لزمَه، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت البُخَارِيّ وَقد ذكر هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين بصيعة التمريض وَنسب جَمِيع من ذكر عَنْهُم إِلَى القَوْل بِعَدَمِ الْوُقُوع مُطلقًا مَعَ أَن فِي بعض من ذكر عَنهُ تَفْصِيلًا، وَفِي سَنَد الْبَعْض كلَاما على مَا نشِير إِلَى الْبَعْض.
فَنَقُول: أثر عَليّ بن أبي طَالب رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق من طَرِيق الْحسن الْبَصْرِيّ، وَالْحسن لم يسمع من عَليّ. وَأما رِوَايَة ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْملك بن ميسرَة ضعفه يحيى بن معِين، فَإِن قلت: أخرج ابْن مَاجَه عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن النزار بن سُبْرَة عَن عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح. قلت: جُوَيْبِر بن سعيد الْبَلْخِي ضَعِيف. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا حَدثنَا هشيم عَامر الْأَحول عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نذر لإبن آدم فِيمَا لَا يملك وَلَا عتق لَهُ فِيمَا لَا يملك. وَقَالَ: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو حَدِيث حسن صَحِيح، وَهُوَ أحسن شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب. قلت: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده كَلَام كثير فَمن النَّاس من رده فَعَن أَحْمد: عَمْرو بن شُعَيْب لَهُ أَشْيَاء مَنَاكِير، وَإِنَّمَا يكْتب حَدِيثه وَيعْتَبر بِهِ فَأَما أَن يكون حجَّة فَلَا. وَقَالَ أَبُو عبيد الْآجُرِيّ: قيل لأبي دَاوُد عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: لَا وَلَا نصف حجَّة. وَقَالَ البُخَارِيّ: رَأَيْت أَحْمد بن حَنْبَل، وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبا عبيد وَعَامة أَصْحَابنَا يحتجون بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: مَا تَركه أحد من الْمُسلمين قَالَ البُخَارِيّ من النَّاس بعدهمْ، وَأجَاب أَصْحَابنَا بعد التَّسْلِيم بِصِحَّتِهِ. أَنا أَيْضا قَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا طَلَاق للرجل فِيمَا لَا يملك، وَوُقُوع الطَّلَاق فِيمَا قُلْنَا بعد أَن يملك بِالتَّزْوِيجِ الْمُعَلق فَيكون الطَّلَاق بعد النِّكَاح، كَمَا ذكرنَا فِي أول الْبَاب، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ ومعاذ بن جبل وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: حَدِيث عَليّ قد ذَكرْنَاهُ، وَحَدِيث معَاذ بن جبل رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة عبد الحميد وَهُوَ ابْن رواد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن طَاوُوس عَن معَاذ بن جبل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا طَلَاق قبل نِكَاح وَلَا نذر فِيمَا لَا يملك. قلت: وطاووس عَن معَاذ مُنْقَطع، وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة يزِيد بن عِيَاض عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح، وَإِن سميت الْمَرْأَة بِعَينهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يزِيد بن عِيَاض ضَعِيف، وَقَالَ شَيخنَا: ابْن الْمسيب عَن معَاذ مُرْسل، وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة عمر بن عَمْرو السقلاني عَن أبي فَاطِمَة النَّخعِيّ عَن ثَوْر بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن معَاذ بن جبل مَرْفُوعا لإِطْلَاق إلاَّ بعد ملك، وَعمر بن عَمْرو(20/248)
يروي الموضوعات، وَأَبُو فَاطِمَة لَا يعرف. وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن عَطاء عَن جَابر قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا طَلَاق لمن لم يملك وَلَا عتاق لمن لم يملك. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قلت: قَالَ شَيخنَا: وَاخْتلف فِي عَليّ بن أبي ذِئْب فَرَوَاهُ أَبُو مجلز الْحَنَفِيّ هَكَذَا، وَخَالفهُ وَكِيع فَرَوَاهُ عَنهُ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر يرفعهُ. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان عَن يحيى بن أبي كثير عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رسو الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نذر إلاَّ فِيمَا أطيع الله فِيهِ وَلَا يَمِين فِي قطيعة رحم وَلَا عتاق وَلَا طَلَاق فِيمَا لَا يملك. قلت: ذكره عبد الْحق فِي أَحْكَامه من جِهَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وعلته سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَإِنَّهُ شيخ ضَعِيف الحَدِيث، قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : هَذَا حَدِيث لَا يَصح فَإِن سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان بن دَاوُد الْيَمَانِيّ مُتَّفق على ضعفه، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْوَلِيد بن سَلمَة الْأَزْدِيّ عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن غروة عَن عَائِشَة، قَالَت: بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا سُفْيَان بن حَرْب فَكَانَ فِيمَا عهد إِلَيْهِ أَن لَا يُطلق الرجل مَا يتَزَوَّج وَلَا يعْتق مَا لَا يملك قلت: قَالَ: فِي (التَّنْقِيح) : الْوَلَد بن سَلمَة الْأَزْدِيّ قَالَ ابْن حبَان كَانَ يضع الحَدِيث.
فَإِن قلت: وَفِي الْبَاب عَن الْمسور بن مخرمَة وَعبد الله بن عَمْرو وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي. أما حَدِيث الْمسور فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة هِشَام بن سعد المَخْزُومِي عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن الْمسور بن مخرمَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق قبل ملك قلت: أوردهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) فِي تَرْجَمَة هِشَام بن سعد وَضَعفه، وَقَالَ: رَوَاهُ مرّة مَرْفُوعا وَمرَّة عَن عُرْوَة مُرْسلا وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي خَالِد الوَاسِطِيّ عَن أبي هَاشم الرماني عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ عَن رجل قَالَ يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ: طلق مَا لَا يملك. قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) هَذَا حَدِيث بَاطِل، وَأَبُو خَالِد الوَاسِطِيّ هُوَ عَمْرو بن خَالِد وضَّاع. وَقَالَ أَحْمد وَيحيى: كَذَّاب. وَأما حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَليّ بن قرين حَدثنَا بَقِيَّة عَن الثور بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي قَالَ: قَالَ عَم لي: أعمل لي عملا حَتَّى أزَوجك ابْنَتي فَقَالَ: إِن تزوجهتا فَهِيَ طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ بدا لي أَن أَتَزَوَّجهَا، فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلته، فَقَالَ: تزَوجهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاق إلاَّ بعد النِّكَاح، قَالَ: فتزوجتها فَولدت لي سَعْدا وسعيدا. قلت: قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : هَذَا أَيْضا بَاطِل، وَعلي بن قرين كذبه يحيى بن معِين وَغَيره، وَقَالَ ابْن عدي: يسرق الحَدِيث. قلت: أَبُو ثَعْلَبَة الْخُشَنِي اخْتلف فِي اسْمه وَفِي اسْم أَبِيه اخْتِلَافا كثيرا. فَقيل: اسْمه جرهم، وَقيل: جر ثوم. وَقيل: ابْن ناشب، وَقيل: ابْن ناشم وَقيل: بل اسْمه عَمْرو بن جر ثوم، وَقيل غير ذَلِك، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي صحبته، وَقَالَ أَبُو عمر: بَايع تَحت الشَّجَرَة ثمَّ نزل الشَّام وَمَات فِي خِلَافه مُعَاوِيَة، ونسبته إِلَى خشين بِضَم الْخَاء وَفتح الشين المعجمتين وَهُوَ وَائِل بن الثَّمر بن وبرة بن ثَعْلَبَة بن حلوان بن عمرَان بن ألحاف بن قضاعة، وَالله أعلم.
01 - (بابٌ إِذا قَالَ لامْرأتِهِ وهْوَ مُكْرَهٌ هاذِهِ أُخْتِي، فَلاَ شيءَ عليْهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَالَ لامْرَأَته، وَالْحَال أَنه مكره: هَذِه أُخْتِي، فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، يَعْنِي: لَا يكون طَلَاقا وَلَا ظِهَارًا.
قَالَ إبْراهيمُ لِسَارَةَ هاذِهِ أخْتِي، وَذَلِكَ فِي ذَات الله عز وَجل.
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لزوجته سارة أم إِسْحَاق عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَوَقع فِي (شرح الْكرْمَانِي) : أم إِسْمَاعِيل، وَهُوَ خطأ، وَالظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ، وَأم إِسْمَاعِيل هَاجر وَسَارة ابْنة عَم إِبْرَاهِيم هاران أُخْت لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلقَوْل إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذِه أُخْتِي قصَّة، وَهِي أَن الشَّام وَقع فِيهِ قحط فَسَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى مصر وَمَعَهُ سارة وَلُوط،، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ بهَا فِرْعَوْن وَهُوَ أول الفراعنة عَاشَ دهرا طَويلا، وَكَانَت سارة من أجمل النِّسَاء، فَأتى إِلَى فِرْعَوْن رجل وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ قدم رجل وَمَعَهُ امْرَأَة من أحسن(20/249)
النِّسَاء فَأرْسل إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: مَا هَذِه الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: أُخْتِي وَخَافَ أَن يَقُول لَهُ هَذِه امْرَأَتي أَن يقْتله، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ أَهْوى إِلَيْهَا بِيَدِهِ فيبست إِلَى صَدره، فَقَالَ لَهَا: سَلِي إلهك أَن يُطلق عني فَقَالَت سارة أللهم إِن كَانَ صَادِقا فَأطلق لَهُ يَده، فأطلقها الله، قيل: فعل ذَلِك مَرَّات، فَلَمَّا رأى ذَلِك ردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ووهب لَهَا هَاجر وَهِي جَارِيَة قبطية. قَوْله: (وَذَلِكَ فِي ذَات الله تَعَالَى) أَي: قَول إِبْرَاهِيم لسارة: أُخْتِي لرضا الله تَعَالَى، لِأَنَّهَا كَانَت أُخْته فِي الدّين وَلم يكن يَوْمئِذٍ مُسلم غَيره وَغير سارة وَلُوط، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب رد قَول من نهى أَن يَقُول الرجل لامْرَأَته: يَا أُخْتِي، فَمن قَالَ لامْرَأَته كَذَلِك وَهُوَ يَنْوِي مَا نَوَاه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا يضرّهُ شَيْء قَالَ أَبُو يُوسُف: إِن لم يكن لَهُ نِيَّة فَهُوَ تَحْرِيم، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: هُوَ ظِهَار إِذا لم يكن لَهُ نِيَّة، ذكره الْخطابِيّ، وَقَالَ بَعضهم: وَقيد البُخَارِيّ بِكَوْن قَائِل ذَلِك إِذا كَانَ مكْرها لم يضرّهُ، وَتعقبه بعض الشُّرَّاح بِأَنَّهُ لم يَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم إِكْرَاه، وَهُوَ كَذَلِك. قلت: لَا تعقب على البُخَارِيّ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذكر قصَّة إِبْرَاهِيم الِاسْتِدْلَال على أَن من قَالَ ذَلِك فِي حَالَة الْإِكْرَاه لَا يضرّهُ، قِيَاسا على مَا وَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: قَوْله: وَهُوَ كَذَلِك، لَيْسَ كَذَلِك لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يتَحَقَّق أَن هَذَا الفرعون كَانَ يقتل من خَالفه فِيمَا يردهُ، وَكَانَ حَاله فِي ذَلِك الْوَقْت مثل حَال الْمُكْره، بل أقوى، لشدَّة كفر هَذ الفرعون وَشدَّة ظلمه وتعذيبه لمن يُخَالِفهُ بِأَدْنَى شَيْء فَكيف إِذا خَالفه من حَاله فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة؟ وَالله أعلم.
11 - (بابُ الطَّلاقِ فِي الإغْلاقِ والكُرْهِ والسَّكْرَانِ والمَجْنُونِ وأمْرِهما والغَلَطِ والنِّسْيان فِي الطَّلاَقِ والشِّرْكِ وغيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الإغلاق أَي: الْإِكْرَاه، لِأَن الْمُكْره يغلق عَلَيْهِ فِي أمره. وَيُقَال: كَأَنَّهُ يغلق عَلَيْهِ الْبَاب ويضيق عَلَيْهِ حَتَّى يُطلق. وَقيل: لَا يُطلق التطليقات فِي دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء، لَكِن يُطلق طَلَاق السّنة. وَفِي (الْمُحكم) وَغَيره: احتد فلَان فنشب فِي حِدته وغلق فِي (الْجَامِع) : غلق إِذا غضب غَضبا شَدِيدا، وَلما ذكر الْفَارِسِي فِي كِتَابه (مجمع الغرائب) قَول من قَالَ: الإغلاق الْغَضَب، قَالَ: هَذَا غلط لِأَن أَكثر طَلَاق النَّاس فِي الْغَضَب إِنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاه، وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدِيث عَائِشَة: (لَا طَلَاق وَلَا عتاق فِي إغلاق) ، قَالَ أَبُو دَاوُد: الغلاق أَظُنهُ الْغَضَب، وَترْجم على الحَدِيث الطَّلَاق على غيظ، وَوَقع عِنْده بِغَيْر ألف فِي أَوله، وَحكى الْبَيْهَقِيّ أَنه روى بِالْوَجْهَيْنِ، فَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه فِي هَذَا الحَدِيث: الإغلاق، بِالْألف، وَترْجم عَلَيْهِ: طَلَاق الْمُكْره، وَقَالَ ابْن المرابط: الإغلاق حرج النَّفس وَلَيْسَ يَقع على أَن مرتكبه فَارق عقله حَتَّى صَار مَجْنُونا فيدعى أَنه كَانَ فِي غير عقله، وَلَو جَازَ هَذَا لَكَانَ لكل وَاحِد من خلق الله عز وَجل مِمَّن يجوز عَلَيْهِ الْحَرج أَن يَدعِي فِي كل مَا جناه أَنه كَانَ فِي حَال إغلاق فَتسقط عَنهُ الْحُدُود وَتصير الْحُدُود خَاصَّة لَا عَامَّة لغير الْحَرج، وَقَالَ ابْن بطال: فَإِذا ضيق على الْمُكْره وشدد عَلَيْهِ لم يَقع حكم طَلَاقه، فَكَأَنَّهُ لم يُطلق. وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : أَن الشّعبِيّ كَانَ يرى طَلَاق الْمُكْره جَائِزا، وَكَذَا قَالَه إِبْرَاهِيم وَأَبُو قلَابَة وَابْن الْمسيب وَشُرَيْح. وَقَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير. وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وروى الْفرج بن فضَالة عَن عَمْرو بن شرَاحِيل أَن امْرَأَة أكرهت زَوجهَا على طَلاقهَا فَطلقهَا، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر فَأمْضى طَلاقهَا. وَعَن ابْن عمر نَحوه، وَكَذَا عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَأما من لم يره شَيْئا فعلي بن أبي طلب وَابْن عمر وَابْن الزبير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن بن أبي الْحسن وَعبد الله بن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب وَالضَّحَّاك. قَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن طَاوُوس وَجَابِر بن زيد قَالَ: وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حيى وَالشَّافِعِيّ وَأبي سُلَيْمَان وأصحابهم، وَعَن إِبْرَاهِيم تَفْصِيل آخر، وَهُوَ أَنه: إِن ورى الْمُكْره لم يَقع، وإلاَّ وَقع. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِن أكرهه اللُّصُوص وَقع وَإِن أكرهه السُّلْطَان فَلَا، أخرجه ابْن أبي شيبَة. قَوْله: (والكره) بِضَم الْكَاف وسكوت الرَّاء فِي النّسخ كلهَا وَهُوَ بِالْجَرِّ ظَاهره أَنه عطف على قَوْله: (فِي الإغلاق) لَكِن هَذَا لَا يَسْتَقِيم إلاَّ إِذا فسر الإغلاق بِالْغَضَبِ كَمَا فسره أَبُو دَاوُد وَترْجم عَلَيْهِ بقوله: الطَّلَاق على غيظ. وَلَكِن فِي رِوَايَته الغلاق، بِدُونِ الْألف فِي أَوله. وَقد فسروه أَيْضا مَعَ وجود الْألف فِي أَوله بِالْغَضَبِ، وَلَكِن إِن قدر قبل الْكَاف مِيم لِأَنَّهُ(20/250)
عطف عَلَيْهِ لفظ السَّكْرَان فيستقيم الْكَلَام وَيكون الْمَعْنى: بَاب حكم الطَّلَاق فِي الإغلاق وَحكم الْمُكْره والسكران إِلَى آخِره، فَهَذِهِ التَّرْجَمَة تشْتَمل على أَحْكَام وَلم يذكرهَا اكْتِفَاء بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكره.
أما حكم الطَّلَاق فِي الْغَضَب فَإِنَّهُ يَقع، وَفِي رِوَايَة عَن الْحَنَابِلَة إِنَّه لَا يَقع، قيل: وَأَرَادَ البُخَارِيّ بذلك الرَّد على مَذْهَب من يرى أَن الطَّلَاق فِي الْغَضَب لَا يَقع، وَأما حكم الْإِكْرَاه فقد مر، وَأما طَلَاق السَّكْرَان هَل يَقع أم لَا؟ فَإِن النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ، فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّه لَا يَقع، عُثْمَان بن عَفَّان وَجَابِر بن زيد وَعَطَاء وطاووس وَعِكْرِمَة وَالقَاسِم وَعمر بن عبد الْعَزِيز، ذكره ابْن أبي شيبَة، وَزَاد ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَإِسْحَاق والمزني، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَذهب مُجَاهِد إِلَى أَن طَلَاقه يَقع، وَكَذَا قَالَه مُحَمَّد وَالْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ وَمَيْمُون بن مهْرَان وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَسَالم بن عبد الله وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة، وَاخْتلف فِيهِ قَول الشَّافِعِي، فَأَجَازَهُ مرّة وَمنعه أُخْرَى، وألزمه مَالك الطَّلَاق والقود من الْجراح وَمن الْقَتْل وَلم يلْزمه النِّكَاح وَالْبيع، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَقُول السَّكْرَان وعقوده كلهَا ثَابِتَة كَفعل الصاحي إلاَّ الردَّة فَإِذا ارْتَدَّ لَا تبين امْرَأَته اسْتِحْسَانًا، قَالَ أَبُو يُوسُف: يكون مُرْتَدا فِي حَال سكره وَهُوَ قَول الشَّافِعِي إلاَّ إِنَّا لَا نَقْتُلهُ فِي حَال سكره وَلَا نستتيبه، وَأما الْمَجْنُون فالإجماع وَاقع على أَن طَلَاق الْمَجْنُون وَالْمَعْتُوه وَاقع، وقا لمَالِك: وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون الَّذِي يفِيق أَحْيَانًا يُطلق فِي حَال جُنُونه والمبرسم قد رفع عَنهُ الْقَلَم لغَلَبَة الْعلم بِأَنَّهُ فَاسد الْمَقَاصِد، وَأما حكم طَلَاق الغالط أَو النَّاسِي فَإِنَّهُ وَاقع، وَهُوَ قَول عَطاء وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَإِسْحَاق وَمَالك وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيين، وَعَن الْحسن: أَن النَّاسِي كالعامد إلاَّ أَن اشْترط فَقَالَ: إلاَّ أَن أنسي، وَأما المخطىء فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا يَقع طَلَاقه، وَعند الْحَنَفِيَّة إِذا أَرَادَ رجل أَن يَقُول لامْرَأَته شَيْئا فَسبق لِسَانه، فَقَالَ: أَنْت طَالِق، يلْزمه الطَّلَاق.
قَوْله: (وَأَمرهمَا) أَي: أَمر السَّكْرَان وَالْمَجْنُون، أَي: فِي بَيَان أَمرهمَا من أقوالهما وأفعالهما هَل حكمهمَا وَاحِد أَو مُخْتَلف؟ على مَا يَجِيء. قَوْله: (والغلط وَالنِّسْيَان) أَي: وَفِي بَيَان الْغَلَط وَالنِّسْيَان الحاصلين فِي الطَّلَاق، أَرَادَ أَنه لَو وَقع من الْمُكَلف مَا يَقْتَضِي الطَّلَاق غَلطا أَو نِسْيَانا. قَوْله: (والشرك) ، أَي؛ وَفِي بَيَان الشّرك لَو وَقع من الْمُكَلف مَا يَقْتَضِي الشّرك غَلطا أَو نِسْيَانا هَل يحكم عَلَيْهِ بِهِ؟ وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَقع فِي كثير من النّسخ: وَالنِّسْيَان فِي الطَّلَاق والشرك بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء فَهُوَ خطأ وَالصَّوَاب فِي الشَّك، مَكَان الشّرك. قلت: سبقه بِهَذَا ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: وَقع فِي كثير من النّسخ. وَالنِّسْيَان فِي الطَّلَاق والشرك وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب: وَالشَّكّ مَكَان الشّرك، وَأما طَلَاق الْمُشرك فجَاء عَن الْحسن وَقَتَادَة وَرَبِيعَة أَنه لَا يَقع، وَنسب إِلَى مَالك وَدَاوُد، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه يُوقع كَمَا يَصح نِكَاحه وعتقه وَغير ذَلِك من أَحْكَامه. قَوْله: (وَغَيره) قَالَ بَعضهم: أَي: وَغير الشّرك مِمَّا هُوَ دونه. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: وَغير الْمَذْكُور من الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة نَحْو الْخَطَأ وَسبق اللِّسَان والهزل، وَقد ذكرنَا الْآن حكم الْخَطَأ وَسبق اللِّسَان، وَأما حكم الهازل فِي طَلَاقه ونكاحه ورجعته فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْله: (كنت هازلاً) وَلَا يدين أَيْضا فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَذَلِكَ لما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث جدهن جد وهزلهن جد: النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاعْلَم أَنه ذكر هَذِه الْأَشْيَاء وَلم يذكر مَا الْجَواب فِيهَا اكْتِفَاء بقوله.
لقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ ولِكُلِّ امْرىءٍ مَا نَوى
أَشَارَ بِهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي سبق ذكره فِي أول الْكتاب على اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ أَن الِاعْتِبَار فِي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة النِّيَّة، لِأَن الحكم فِي الأَصْل إِنَّمَا يتَوَجَّه على الْعَاقِل الْمُخْتَار الْعَامِد الذاكر وَالْمكْره غير مُخْتَار والسكران غير عَاقل فِي سكره، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون فِي حَال جُنُونه، والغالط وَالنَّاسِي غير ذاكرين، وَقد ذكرنَا الْأَحْكَام فِيهَا مستقصاة.
وتلاَ الشَّعْبِيُّ: { (2) لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} (الْبَقَرَة: 682)(20/251)
أَي: قَرَأَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ هَذِه الْآيَة لما سُئِلَ عَن طَلَاق النَّاسِي والمخطىء، وَاحْتج بهَا على عدم وُقُوع طَلَاق النَّاسِي والمخطىء، وَجه الِاسْتِدْلَال بهَا ظَاهر.
وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إقْرَارِ المُوسْوِس
هُوَ عطف على قَوْله: الطَّلَاق فِي الإغلاق، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان مَا لَا يجوز من إِقْرَار الموسوس على صِيغَة الْفَاعِل وسوس توسوس نَفسه إِلَيْهِ، والوسوسة حَدِيث النَّفس وَلَا مُؤَاخذَة بِمَا يَقع فِي النَّفس.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِلَّذِي أقَرَّ علَى نفْسِهِ أبِكَ جُنُونٌ؟
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي عدم وُقُوع طَلَاق الْمَجْنُون، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث أخرجه فِي المتحاربين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: أَتَى رجلٌ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِد فناداه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي زَنَيْت، فَأَعْرض عَنهُ حَتَّى ردده عَلَيْهِ أَربع مَرَّات، فَلَمَّا شهد على نَفسه أَربع شَهَادَات دَعَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أبك جُنُون؟ فَقَالَ: لَا ... الحَدِيث، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله: (للَّذي أقرّ) أَي: الرجل الَّذِي أقرّ على نَفسه بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: أبك جُنُون؟ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثَبت عَنهُ أَنه مَجْنُون كَانَ أسقط الْحَد عَنهُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: بقَر حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شارِفَيَّ، فَطَفِقَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَلُومُ حَمْزَةَ، فإذَا حَمْزَةُ قدْ ثَمِلَ مُحَمَرَةٌ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأبي؟ فَعَرَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وخَرَجْنَا معَهُ.
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِأَن السَّكْرَان لَا يُؤَاخذ بِمَا صدر مِنْهُ فِي حَال سكره من طَلَاق وَغَيره، وَعلي هُوَ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث قد مَضَت فِي غَزْوَة بدر فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب شُهُود الْمَلَائِكَة بَدْرًا. مطولا. قَوْله: (بقر) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْقَاف أَي: شقّ قَوْله: (خواصر) جمع خاصرة. قَوْله: (شارفي) تَثْنِيَة شَارف أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم وَالْفَاء الْمَفْتُوحَة وَالْيَاء مُشَدّدَة، والشارف بالشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وَهِي المسنة من النوق قَوْله: (فَطَفِقَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شرع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلوم حَمْزَة بن عبد الْمطلب على فعله هَذَا قَوْله فَإِذا كلمة مفاجأة وَحَمْزَة مُبْتَدأ وَقد ثمل خَبره بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْمِيم أَي: قد أَخذه الشَّرَاب وَالرجل ثمل بِكَسْر الْمِيم أَيْضا، وَلكنه فِي الحَدِيث مَاض فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي قَوْلنَا: الرجل ثمل، صفة مشبهة فَافْهَم، ويروى: فَإِذا حَمْزَة ثمل، على صِيغَة الصّفة المشبهة فَافْهَم. قَوْله: (محمرة عَيناهُ) خبر بعد خبر وَيجوز أَن يكون حَالا فَحِينَئِذٍ تنصب محمرة، قَوْله: (فَخرج) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد حَمْزَة وَخَرجْنَا مَعَه. وَاعْترض الْمُهلب بِأَن الْخمر حِينَئِذٍ كَانَت مُبَاحَة، قَالَ: فبذلك سقط عَنهُ حكم مَا نطق بِهِ فِي تِلْكَ الْحَال، قَالَ: وبسب هَذِه الْقِصَّة كَانَ تَحْرِيم الْخمر، ورد عَلَيْهِ بِأَن الِاحْتِجَاج بِهَذِهِ الْقِصَّة إِنَّمَا هُوَ بِعَدَمِ مُؤَاخذَة السَّكْرَان. لما يصدر مِنْهُ، وَلَا يفْتَرق الْحَال بَين أَن يكون الشّرْب فِيهِ مُبَاحا أَولا، وبسبب هَذِه القسعة كَانَ تَحْرِيم الْخمر، غير صَحِيح، لِأَن قصَّة الشارفين كَانَت قبل أحد اتِّفَاقًا، لِأَن حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اسْتشْهد بِأحد وَكَانَ ذَلِك بَين بدر وَأحد عِنْد تَزْوِيج عَليّ بفاطمة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَن جمَاعَة اصطحبوا الْخمر يَوْم أحد واستشهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم، فَكَانَ تَحْرِيم الْخمر بعد أحد لهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح.
وَقَالَ عُثْمانُ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طلاقٌ
أَي: قَالَ عُثْمَان بن عَفَّان أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَيْسَ لمَجْنُون وَلَا لسكران طَلَاق، يَعْنِي: لَا يَقع طلاقهما، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبان بن عُثْمَان عَنهُ بِلَفْظ: كَانَ لَا يُجِيز طَلَاق السَّكْرَان وَالْمَجْنُون، وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يُجِيز ذَلِك جتى حَدثهُ أبان بِهَذَا.
قَالَ ابنُ عبّاس: طَلاَقُ السَّكْرَانِ والمُسْتَكْرَهِ ليْسَ بجَائِزٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن هشيم عَن عبد الله بن طَلْحَة الْخُزَاعِيّ عَن أبي يزِيد الْمَدِينِيّ عَن عِكْرِمَة(20/252)
عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: لَيْسَ لسكران وَلَا لمضطهد طَلَاق، يَعْنِي المغلوب المقهور والمضطهد بضاد مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ طاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء ثمَّ دَال مُهْملَة. قَوْله: (لَيْسَ بجائز) لَيْسَ باقع.
وَقَالَ عُقْبَةُ بنُ عامِر: لَا يَجُوزُ طَلاقُ المُوَسْوِس
عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف: ابْن عَامر بن عبس الْجُهَنِيّ من جُهَيْنَة ابْن زيد بن سود بن أسلم بن عَمْرو بن الحاف ابْن قضاعة، وَقَالَ أَبُو عمر: سكن عقبَة بن عَامر مصر وَكَانَ واليا عَلَيْهَا وابتنى بهَا دَارا، وَتُوفِّي فِي آخر خِلَافه مُعَاوِيَة قلت: ولي مصر من قبل مُعَاوِيَة سنة أَربع وَأَرْبَعين، ثمَّ عَزله بِمسلمَة بن مخلد، وَكَانَ لَهُ دَار بِدِمَشْق بِنَاحِيَة قنطرة سِنَان من بَاب تومما، وَذكر خَليفَة بن خياط قتل أَبُو عَامر عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ يَوْم النهروان شَهِيدا، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا غلط مِنْهُ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: شهد صفّين مَعَ مُعَاوِيَة وتحول إِلَى مصر وَتُوفِّي آخر خِلَافه مُعَاوِيَة وَدفن بالمقطم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الشريف الْمقري الفرضي الفصيح، هُوَ كَانَ الْبَرِيد إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَن، بِفَتْح دمشق، وَوصل إِلَى الْمَدِينَة فِي سَبْعَة أَيَّام وَرجع مِنْهَا إِلَى الشَّام فِي يَوْمَيْنِ وَنصف بدعائه عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يجوز طَلَاق الموسوس لِأَن الوسوسة حَدِيث النَّفس، وَلَا مُؤَاخذَة بِمَا يَقع فِي النَّفس.
وَقَالَ عَطاءٌ: إذَا بَدَأ بالطّلاَق فلهُ شَرْطُهُ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (إِذا بَدَأَ بِالطَّلَاق) يَعْنِي إِذا أَرَادَ أَن يُطلق وَبَدَأَ (فَلهُ شَرطه) أَي فَلهُ أَن يشْتَرط ويعلق طَلاقهَا على شَرط، يَعْنِي: لَا يلْزم أَن يكون الشَّرْط مقدما على الطَّلَاق، بل يَصح أَن يُقَال: أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار، كَمَا فِي الْعَكْس، وَنقل عَن الْبَعْض أَنه لَا ينْتَفع بِشَرْطِهِ.
وَقَالَ نافِعٌ: طَلَّقَ رجُلٌ امْرَأتهُ البَتَّةَ إِن خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْن عُمَر: إِن خَرَجَتْ فقَدْ بتّتْ مِنْهُ، وإنْ لمْ تَخْرُجْ فلَيْسَ بشَيْءٍ.
أَي: قَالَ نَافِع مولى ابْن عمر لَهُ: مَا حكم رجل طلق امْرَأَته الْبَتَّةَ يَعْنِي: بَائِنا إِن خرجت من الدَّار؟ فَأجَاب ابْن عمر: إِن خرجت وَقع طَلَاقه بَائِنا، وَإِن لم تخرج لَا يَقع شَيْء، لِأَنَّهُ تَعْلِيق بِالشّرطِ فَلَا يتنجز إلاَّ عِنْد وجود الشَّرْط. قَوْله: (الْبَتَّةَ) نصب على المصدرية من بته بَيته ويبته بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، والبت الْقطع، وَيُقَال: لَا أَفعلهُ بتة، وَلَا أَفعلهُ الْبَتَّةَ، لكل أَمر لَا رَجْعَة فِيهِ، وَيُقَال: طَلقهَا ثَلَاثًا بتة، أَي قَاطِعَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت النُّحَاة: قطع همزَة الْبَتَّةَ بمعزل عَن الْقيَاس، وَقَالَ بَعضهم فِي دَعْوَى أَنَّهَا تقال بِالْقطعِ نظر، فَإِن ألف الْبَتَّةَ ألف وصل قطعا، وَالَّذِي قَالَه أهل اللُّغَة الْبَتَّةَ: الْقطع، وَهُوَ تَفْسِيرهَا بمرادفها لِأَن المُرَاد أَنَّهَا تقال بِالْقطعِ قلت النُّحَاة لم يَقُولُوا الْبَتَّةَ الْقطع فَحسب، وَإِنَّمَا قَالُوا: قطع همزَة الْبَتَّةَ، بتصريح نِسْبَة الْقطع إِلَى الْهمزَة قَوْله: (فقد بتت) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: انْقَطَعت عَن الزَّوْج بِحَيْثُ لَا رَجْعَة فِيهَا، ويروى: فقد بَانَتْ. قَوْله: (وَإِن لم تخرج) أَي: وَإِن لم يحصل الشَّرْط فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أفْعَلْ كَذا وكَذا فامْرأتي طالِقٌ ثَلاَثا عمَّا يسْأَل قَالَ وعقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حينَ حلَفَ بتِلْكَ اليَمِينِ، فإنْ سَمَّى أَََجَلًا أرادَهُ وعَقَدَ علَيْهِ قَبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دينِهِ وأمانَتِهِ.
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: صور الْمَسْأَلَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا تَعْلِيق يتنجز عِنْد وجود الشَّرْط غير أَن الزُّهْرِيّ زَاد فِيهَا قَوْله: يسْأَل عَمَّا قَالَ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (جعل ذَلِك فِي دينه) يَعْنِي: يدين بَينه وَبَين الله تَعَالَى.
وَقَالَ إبْراهِميمُ: إنْ قَالَ: لَا حاجَةَ لِي فِيكَ، نِيّتُهُ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: إِن قَالَ رجل لامْرَأَته: لَا حَاجَة لي فِيك نِيَّته. أَي تعْتَبر فِيهِ نِيَّته، فَإِن قصد طَلَاقا طلقت، وإلاَّ فَلَا. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص هُوَ ابْن غياث عَن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم فِي رجل قَالَ لامْرَأَته: لَا حَاجَة لي فِيك، قَالَ: نِيَّته.(20/253)
وطَلاَقُ كُلِّ قوْمٍ بلِسانِهِمْ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم: طَلَاق كل قوم من عَرَبِيّ وعجمي جَائِز بلسانهم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن ابْن إِدْرِيس وَجَرِير، فَالْأول: عَن مطرف، وَالثَّانِي: عَن مُغيرَة كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: طَلَاق العجمي بِلِسَانِهِ جَائِز، وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) : الطَّلَاق بِالْفَارِسِيَّةِ المتعارفة أَرْبَعَة: أَحدهَا: لَو قَالَ لَهَا: هشتم ترا، أَو بهشتم ترا أززني، روى ابْن رستم فِي (نوادره) عَن أبي حنيفَة: لَا يكون طَلَاقا إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَن مَعْنَاهُ يؤول إِلَى معنى التَّخْلِيَة وَلَفظ التَّخْلِيَة لَا يَصح إلاَّ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظ الثَّانِي: لَو قَالَ؛ بله كردم، وَاللَّفْظ الثَّالِث: لَو قَالَ: اي كشادة كردم، يَقع راجعيا بِلَا نِيَّة. وَاللَّفْظ الرَّابِع: لَو قَالَ: دست باز داشتم، قيل: يكون رَجْعِيًا، وَقيل: بَائِنا، وَلَو قَالَ: جهار رَاه برتو كشاده است، لَا يَقع وَإِن نوى. وَلَو قَالَ بالتركي: (بو شادم سني بر طَلَاق) تقع وَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَلَو قَالَ: (إيكي طَلَاق) يَقع ثتنان، وَلَو قَالَ: (أوج طَلَاق) يَقع ثَلَاث.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذا قَالَ؛ إِذا حَمَلْتِ فأنْتِ طالِقٌ ثَلاثا، يَغْشَاها عنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِن اسْتَبانَ حَمْلُها فقَدْ بانَتْ مِنْهُ.
أَي: قَالَ قَتَادَة بن دعامة: إِذا قَالَ رجل لامْرَأَته: إِذا حملت فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، يَغْشَاهَا أَي؛ يُجَامِعهَا فِي كل طهر مرّة لَا مرَّتَيْنِ لاحْتِمَال أَنه بِالْجِمَاعِ الأول صَارَت حَامِلا، فَطلقت بِهِ. وَقَالَ ابْن سِيرِين: يَغْشَاهَا حَتَّى تحمل، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة نَحوه.
وَقَالَ الحَسَنُ: إِذا قَالَ: إلْحَقِي بأهْلِكِ، نيّتُهُ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا قَالَ لامْرَأَته: إلحقي بأهلك تعْتَبر نِيَّته أَرَادَ أَنه كِنَايَة يعْتَبر فِيهِ قَصده إِن نوى الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا. وروى عبد الرَّزَّاق بِلَفْظ: هُوَ مَا نوى.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ: الطّلاَقُ عنْ وطَرِ والعَتاقُ مَا أرِيدَ بهِ وَجْهُ الله تَعَالَى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: الطَّلَاق عَن حَاجَة أَرَادَ بِهِ أَنه لَا يُطلق امْرَأَته إلاَّ عِنْد الْحَاجة مثل النُّشُوز، وَكلمَة: عَن، تتَعَلَّق بِمَحْذُوف أَي: الطَّلَاق لَا يَنْبَغِي وُقُوعه إلاَّ عِنْد الْحَاجة، والوطر بِفتْحَتَيْنِ، قَالَ أهل اللُّغَة: لَا يَبْنِي مِنْهُ فعل. قَوْله: وَالْعتاق أُرِيد بِهِ وَجه الله، يَعْنِي: الْعتاق لله فَهُوَ مَطْلُوب دَائِما.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِن قَالَ: مَا أنْتِ بامْرَأتِي نِيّتُهُ، وإنْ نَوَى طلاَقا فهوَ مَا نَوَى
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: إِن قَالَ رجل لامْرَأَته: مَا أَنْت بامرأتي تعْتَبر نِيَّته، فَإِن نوى طَلَاقا فَهُوَ مَا نوى، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ بِطَلَاق، وَقَالَ اللَّيْث: هِيَ كذبة.
وَقَالَ علِيٌّ: ألَمْ تَعْلَمَ أنَّ القلَمَ رُفِعَ عنْ ثَلاثَةٍ: عنِ المَجْنُونِ حتّى يُفِيقَ. وعنِ الصَّبيِّ حتّى يُدْرِكَ وعنِ النَّائِمِ حتّى يَسْتَيْقِظ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ألم تعلم؟ يُخَاطب بِهِ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذَلِكَ أَن عمر أَتَى بمجنونة قد زنت وَهِي حُبْلَى، فَأَرَادَ أَن يرجمها، فَقَالَ عَليّ لَهُ: ألم تعلم ... إِلَى آخِره، وَذكر بِصِيغَة جزم لِأَنَّهُ حَدِيث ثَابت، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: رفع الْقَلَم ... الحَدِيث، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) مَرْفُوعا من حَدِيث ابْن وهب عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مر على عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بمجنونة، وَفِيه فَقَالَ عَليّ: أَو مَا تذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون المغلوب على عقله، عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم؟ قَالَ: صدقت) وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن جريج عَن الْقَاسِم بن يزِيد عَن عَليّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(20/254)
قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن الصَّغِير وَعَن الْمَجْنُون وَعَن النَّائِم) قَوْله: (حَتَّى يدْرك) أَي: حَتَّى يبلغ، وَفِي (الْفَتَاوَى الصُّغْرَى) لأبي يَعْقُوب بن يُوسُف الجصاصي: إِن الْجُنُون الطَّبَق عَن أبي يُوسُف أَكثر السّنة وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة، وَفِي رِوَايَة سَبْعَة أشهر، وَالصَّحِيح ثَلَاثَة أَيَّام. وَاخْتلفُوا فِي طَلَاق الصَّبِي، فَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن: يلْزم إِذا عقل وميز، وَحده عِنْد أَحْمد أَن يُطيق الصّيام ويحصي، وَعند عَطاء إِذا بلغ اثْنَتَيْ عشر سنة، وَعَن مَالك رِوَايَة إِذا ناهز الِاحْتِلَام.
وَقَالَ عليٌّ وكُلُّ الطَّلاَقِ جائِزٌ إلاّ طَلاقَ المَعْتُوهُ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَذكره أَيْضا بِصِيغَة الْجَزْم لِأَنَّهُ ثَابت، وَوَصله الْبَغَوِيّ فِي (الجعديات) عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النحعي عَن عَابس بن ربيعَة: أَن عليا قَالَ: كل طَلَاق جَائِز إلاّ طَلَاق الْمَعْتُوه، وَالْمَعْتُوه، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا: وَهُوَ النَّاقِص الْعقل فَيدْخل فِيهِ الطِّفْل وَالْمَجْنُون والسكران. وَقد روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا مَرْوَان بن أبي مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن عَطاء بن عجلَان عَن عِكْرِمَة بن خَالِد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل طَلَاق جَائِز إلاَّ طَلَاق الْمَعْتُوه والمغلوب على عقله) . قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من حَدِيث عَطاء بن عجلَان، وَهُوَ ضَعِيف ذَاهِب الحَدِيث، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم: إِن طَلَاق الْمَعْتُوه المغلوب على عقله لَا يجوز إلاَّ أَن يكون معتوها يفِيق الأحيان فيطلق فِي حَال إِفَاقَته. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَعَطَاء بن عجلَان لَيْسَ لَهُ عِنْد التِّرْمِذِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَلَيْسَ لَهُ فِي بَقِيَّة الْكتاب السِّتَّة شَيْء، وَهُوَ حَنَفِيّ بَصرِي يكنى أَبَا مُحَمَّد، وَيعرف بالعطار، اتَّفقُوا على ضعفه. قَالَ ابْن معِين وَالْفَلَّاس: كَذَّاب، وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، زَاد أَبُو حَاتِم جدا، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. قَوْله: (وكل طَلَاق) ، ويروى: (وكل الطَّلَاق) ، بِالْألف وَاللَّام. قَوْله: (جَائِز) أَي: وَاقع.
9625 - حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا هَشامٌ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ زُرَارَة بنِ أوْفَى عنِ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عنهْ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إنَّ الله تجاوَزَ عَن أمّتي مَا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَها مَا لمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ.
(انْظُر الحَدِيث 8252 وطرفه)
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن يكون بَينه وَبَين حَدِيث عقبَة بن عَامر الْمَذْكُور فِي أَخْبَار بَاب التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ قَوْله: لَا يجوز طَلَاق الموسوس، وَقد أعلم أَن الوسوسة من أَحَادِيث النَّفس، فَإِذا تجَاوز الله عَن عَبده مَا حدثت بِهِ نَفسه يدْخل فِيهِ طَلَاق الموسوس أَنه لَا يَقع.
وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وزرارة بِضَم الزَّاي وخفة الرَّاء الأولى ابْن أوفى على وزن أفعل من الْوَفَاء العامري قَاضِي الْبَصْرَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْعتْق فِي: بَاب الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي الْعتَاقَة وَالطَّلَاق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن مسعر عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا) بِالْفَتْح على المفعولية، وَذكر المطرزي عَن أهل اللُّغَة أَنهم يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا. قلت قَوْله: بِالضَّمِّ، لَيْسَ بجيد، بل الصَّوَاب بِالرَّفْع، وَلَا تعلق لَهُ بِأَهْل اللُّغَة بل الْكل سَائِغ فِي اللُّغَة: حدثت نَفسِي بِكَذَا، وحدثتني نَفسِي بِكَذَا. قَوْله: (مَا لم تعْمل) ، أَي: فِي العمليات (أَو تَتَكَلَّم) فِي القوليات. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: من عزم على ترك وَاجِب أَو فعل محرم وَلَو بعد عشْرين سنة مثلا عصى فِي الْحَال. وَأجَاب بِأَن المُرَاد بِحَدِيث النَّفس مَا لم يبلغ إِلَى حد الْجَزْم وَلم يسْتَقرّ. أما إِذا عقد قلبه بِهِ وَاسْتقر عَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَاخذَة بذلك الْجَزْم، نعم لَو بَقِي ذَلِك الخاطر وَلم يتْركهُ يسْتَقرّ لَا يؤاخذه خُذ بِهِ بل يكْتَسب لَهُ بِهِ حَسَنَة. وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من خَصَائِص هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة كَانُوا يؤاخذون بذلك، وَقد اخْتلف أَيْضا: هَل كَانَ ذَلِك يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك عَنْهُم، أَو هُوَ تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ الله} (الْبَقَرَة: 482) فقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة، مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَابْن عَسَاكِر: إِنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) وَاعْلَم أَن المُرَاد بالْكلَام كَلَام اللِّسَان لِأَن الْكَلَام حَقِيقَة، وَقَول ابْن الْعَرَبِيّ المُرَاد بِهِ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَإِن(20/255)
القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمَوْجُود بِالْقَلْبِ الْمُوَافق للْعلم، مَرْدُود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه تعصبا لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع الطَّلَاق بالعزم وَإِن لم يتَلَفَّظ، وَلَيْسَ لأحد خلاف أَنه إِذا نوى الطَّلَاق بِقَلْبِه وَلم يتَلَفَّظ بِهِ أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْخطابِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَمَالك: أَنه يَقع بالعزم، وَحَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد ونقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار وَغَيره، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على أَنه لَو عزم على الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يتَلَفَّظ بِهِ، وَلَو حدث نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قَاذِفا، وَلَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة. وَقد حرم الله الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل، وَقد قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهز جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة، وَمِمَّنْ قَالَ: إِن طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَاسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة أَنه إِذا كتب بِالطَّلَاق وَقع لِأَن الْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط فِيهِ مَالك الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي غَايَة إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا، وَفِي (الْمُحِيط) : إِذا كتاب طَلَاق امْرَأَته فِي كتاب أَو لوح أَو على حَائِض أَو أَرض وَكَانَ مستبينا وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَقع، وَإِن لم يكن مستبينا أَو كتب فِي الْهَوَاء وَالْمَاء لَا يَقع، وَإِن نوى.
وَقال قَتَادَةُ: إِذا طَلَّقَ فِي نفْسِهِ فلَيْسَ بِشَيْءٍ
وَقع هَذَا فِي بعض النّسخ قبل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهنا أنسب كَمَا لَا يخفى على الفطن، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قتاد وَالْحسن قَالَا: من طلق سرا فِي نَفسه فَلَيْسَ طَلَاقه ذَلِك بِشَيْء.
0725 - حدّثنا أصْبَغُ أخْبرنا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شهَاب قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرٍ أنَّ رجُلاً مِن أسْلَم أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أعْرَضَ، فَشَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ بِك جُنُونٌ؟ هَلْ أحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فأمَرَ بِهِ أنْ يُرْجَمَ بالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحَجَارَةُ جَمَزَ حتَّى أُدْرِكَ بالحَرَّةِ فَقُتِلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَالْمَجْنُون، فَإِن الرجل الَّذِي قتل لَو كَانَ مَجْنُونا لم يعْمل بِإِقْرَارِهِ.
وإصبغ هُوَ ابْن الْفرج بِالْجِيم أَبُو عبد الله الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَفِي الرَّجْم عَن ابْن السَّرْح وَغَيره.
قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ مَاعِز بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالزاي ابْن مَالك الْأَسْلَمِيّ، مَعْدُود فِي الْمَدَنِيين ونسبته إِلَى أسلم قَبيلَة. قَوْله: (فَتنحّى) قَالَ الْخطابِيّ: تفعل من نحى إِذا قصد الْجِهَة، أَي: الَّتِي إِلَيْهَا وَجهه ونحى نَحوه، وَيُقَال: قصد شقَّه الَّذِي أعرض إِلَيْهِ. قَوْله: (فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) المُرَاد بهَا أَربع أقارير.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: جَاءَ مَاعِز بن مَالك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الْأَبْعَد زنى، فَقَالَ لَهُ: ويل لَك، مَا يدْريك من الزِّنَا. فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة فَقَالَ مثل ذَلِك، فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة فَقَالَ ذَلِك فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج. ثمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَة، فَقَالَ مثل ذَلِك، قَالَ: أدخلت وأخرجت؟ قَالَ: نعم، فَأمر بِهِ أَن يرْجم. وَسَنذكر الْخلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة. وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَأحمد من حَدِيث هِشَام بن سعد: أَخْبرنِي يزِيد بن نعيم بن هزال عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ مَاعِز بن مَالك فِي حجر أبي فَأصَاب جَارِيَة من الْحَيّ. فَقَالَ لَهُ أبي: ائْتِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا صنعت لَعَلَّه يسْتَغْفر لَك، وَإِنَّمَا يُرِيد بذلك رَجَاء أَن يكون لَهُ مخرج، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي زَنَيْت فأقم عَليّ كتاب الله عز وَجل، فَأَعْرض عَنهُ إِلَى أَن أَتَاهُ الرَّابِعَة، قَالَ: هَل باشرتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: هَل جامعتها. قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ فرجم. فَوجدَ مس الْحِجَارَة فَخرج(20/256)
يشْتَد فَلَقِيَهُ عبد بن أنيس فَنزع لَهُ بوظيف بعير فَقتله، وَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّه يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ. وَزَاد فِيهِ أَحْمد: قَالَ هِشَام فَحَدثني يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ حِين رَآهُ يَا هزال {لَو كنت سترته لَكَانَ خيرا لَك مِمَّا صنعت بِهِ. قَالَ فِي (التَّنْقِيح) إِسْنَاده صَالح وَهِشَام بن سعد روى لَهُ مُسلم وَكَذَلِكَ روى ليزِيد بن نعيم. قلت: يزِيد بن نعيم بن هزال وَيزِيد من رجال مُسلم كَمَا ذكرنَا ونعيم مُخْتَلف فِي صحبته وهزال هُوَ ابْن دياب بن يزِيد بن كُلَيْب الْأَسْلَمِيّ روى عَنهُ ابْنه وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر حَدِيثا وَاحِدًا، قَالَ أَبُو عمر مَا أَظن لَهُ غَيره، وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا هزال لَو سترته بردائك.
قَوْله: (هَل بك جُنُون) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليتَحَقَّق حَاله، فَإِن الْغَالِب أَن الْإِنْسَان لَا يصر على مَا يَقْتَضِي قَتله مَعَ أَن لَهُ طَرِيقا إِلَى سُقُوط الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ. قَوْله: (هَل أحصنت؟) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: هَل تزوجت قطّ؟ قَوْله: (بالمصلى) وَهُوَ الْموضع الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهِ الأعياد وعَلى الْمَوْتَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْأَكْثَر على أَنه مصلى الْجَنَائِز وَهُوَ بَقِيع الفرقد. قَوْله: (فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وباللام وَالْقَاف أَي أقلقته يَعْنِي: بلغ مِنْهُ الْجهد حَتَّى قلق، وَيُقَال: أَي أَصَابَته بحدها فعقرته، وذلق كل شَيْء حَده. قَوْله: (جمز) بِالْجِيم وَالْمِيم والزاء أَي: أسْرع هَارِبا من الْقَتْل، يُقَال: جمز يجمز جمزا من بَاب ضرب يضْرب. قَوْله: (حَتَّى أدْرك) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي أَرض ذَات حِجَارَة سود خَارج الْمَدِينَة. قَوْله: (فَقتل) على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام:
الأول: فِيهِ فَضِيلَة مَاعِز حَيْثُ لم يرجع عَن إِقْرَاره بِالزِّنَا حَتَّى رجم، وَقَالَ فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه الْآن لفي أَنهَار الْجنَّة ينغمس فِيهَا، وَفِي حَدِيث أخرجه أَحْمد عَن أبي ذَر فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره قَالَ: يَا أَبَا ذَر} ألم تَرَ إِلَى صَاحبكُم؟ غفر لَهُ وَأدْخل الْجنَّة.
الثَّانِي: أَنه لَا يجب حد الزَّانِي على الْمُعْتَرف بِالزِّنَا حَتَّى يقر بِهِ على نَفسه أَربع مَرَّات، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالْحكم بن عتيبة وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد فِي الْأَصَح وَإِسْحَاق، وَاحْتَجُّوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقوله: (فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) وَقَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعُثْمَان البتي وَالْحسن بن حَيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو ثَوْر: إِذا أقرّ الزَّانِي بِالزِّنَا مرّة وَاحِدَة يجب عَلَيْهِ الْحَد، وَلَا يحْتَاج إِلَى مرَّتَيْنِ أَو أَكثر، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الغامدية، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأنيس: أغد يَا أنيس فارجمها، وَكَانَت اعْترفت مرّة وَاحِدَة، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون أنيس قد كَانَ على الِاعْتِرَاف الَّذِي يُوجب الْحَد على الْمُعْتَرف مَا هُوَ بِمَا علمهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَاعِز وَغَيره، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّاوِي قد يختصر الحَدِيث فَلَا يلْزم من عدم الذّكر عدم الْوُقُوع، على أَنه قد ورد فِي بعض طرق حَدِيث الغامدية أَنه ردهَا أَربع مَرَّات، أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) فَإِن قلت: الْإِقْرَار حجَّة فِي الشَّرْع لرجحان جَانب الصدْق على جَانب الْكَذِب، وَهَذَا الْمَعْنى عِنْد التّكْرَار والتوحيد سَوَاء. قلت: هَذَا هُوَ الْقيَاس، وَلَكنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَنه رد ماعزا أَربع مَرَّات. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون رده أَربع مَرَّات لكَونه اتهمه بِأَنَّهُ لَا يدْرِي مَا الزِّنَا؟ قلت: روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه: أَن مَاعِز بن مَالك الْأَسْلَمِيّ أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي قد ظلمت نَفسِي وزنيت، وَإِنِّي أُرِيد أَن تطهرني فَرده، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي قد زَنَيْت، فَرده الثَّانِيَة، فَأرْسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قومه فَقَالَ: أتعلمون بعقله بَأْسا تنكرون مِنْهُ شَيْئا؟ فَقَالُوا: مَا تعلمه إلاَّ وَفِي الْعقل من صالحينا فِيمَا نرى، فَأَتَاهُ الثَّالِثَة فَأرْسل إِلَيْهِم أَيْضا فَسَأَلَهُمْ عَنهُ فأخبروه أَنه لَا بَأْس بِهِ وَلَا بعقله، فَلَمَّا كَانَت الرَّابِعَة حفر لَهُ حُفْرَة ... الحَدِيث، فقد غفل الْكرْمَانِي عَن هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: الْإِقْرَار بالأربع لم يكن على سَبِيل الْوُجُوب بِدَلِيل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت فارجمها، وَلم يشْتَرط عددا، وَقد مر الْجَواب الْآن عَن حَدِيث أنيس وَكَيف لَا يشْتَرط الْعدَد، وَقد ورد فِي حَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لماعز: إِنَّك قد قلتهَا أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لَهُ عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّك شهِدت على نَفسك أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لِابْنِ أبي شيبَة: أَلَيْسَ أَنَّك قلتهَا أَربع مَرَّات؟ فرتب الرَّجْم على الْأَرْبَع، وإلاَّ فَمن الْمَعْلُوم أَنه قَالَهَا أَربع مَرَّات.(20/257)
الثَّالِث: أَن الْإِحْصَان شَرط فِي الرَّجْم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَل أحصنت) والإحصان على نَوْعَيْنِ: إِحْصَان الرَّجْم وإحصان الْقَذْف. أما إِحْصَان الرَّجْم فَهُوَ فِي الشَّرْع عبارَة عَن اجْتِمَاع صِفَات اعتبرها لوُجُوب الرَّجْم وَهِي سَبْعَة: الْعقل وَالْبُلُوغ، وَالْحريَّة، والاسلام، وَالنِّكَاح الصَّحِيح، وَالدُّخُول فِي النِّكَاح الصَّحِيح. وَأما إِحْصَان الْقَذْف فخمسة: الْعقل، والبلوع وَالْحريَّة، وَالْإِسْلَام، والعفة عَن الزِّنَا. وَشرط أَبُو حنيفَة الْإِسْلَام فِي الْإِحْصَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن. رَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَيْسَ الْإِسْلَام بِشَرْط فِي الْإِحْصَان لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم يهوديين. قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الزَّانِي الْمُحصن.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجمع فِي مَاعِز بَين الْجلد وَالرَّجم، وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة: يجلد الْمُحصن ثمَّ يرْجم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهم، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر: أَن رجلا زنى فَأمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجلد، ثمَّ أخبر أَنه كَانَ قد أحصن فَأمر بِهِ فرجم، رَوَاهُ أَب دَاوُد والطَّحَاوِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْأَصَح: حد الْمُحصن الرَّجْم فَقَط لحَدِيث مَاعِز. فَإِن قلت: روى عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر يجلد وينفى، وَالثَّيِّب يجلد ويرجم، رَوَاهُ مُسلم وَغَيره. قلت: حَدِيث عبَادَة مَنْسُوخ بِحَدِيث العسيف، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: فَإِن اعْترفت فارجمها ... الحَدِيث، وَهَذَا آخر الْأَمريْنِ، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَة الْإِسْلَام وَلم يتَعَرَّض فِيهِ للجلد، وَاسْتدلَّ الأصوليون أَيْضا على تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم ماعزا وَلم يجلده، وَآيَة الْجلد شَامِلَة للمحصن وَغَيره.
الْخَامِس: فِيهِ: الاستفسار عَن حَال الَّذِي اعْترف فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لماعز: (هَل أحصنت؟) وَجَاء فِي حَدِيثه أَيْضا: هَل جامعتها وَهل باشرتها، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَأقبل فِي الْخَامِسَة، فَقَالَ: أنكحتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ حَتَّى غَابَ ذَلِك مِنْك فِي ذَلِك مِنْهَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: كَمَا يغيب المرود فِي المكحلة والرشاء فِي الْبِئْر؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَهَل تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نعم، أتيت مِنْهَا حَرَامًا مثل مَا أَتَى الرجل من امْرَأَته حَلَالا ... الحَدِيث.
وَفِي حَدِيث مَاعِز يُسْتَفَاد أَحْكَام أُخْرَى غير مَا ذكرنَا هُنَا.
مِنْهَا: أَن السّتْر فِيهِ مَنْدُوب لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهزال لما أرسل ماعزا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: لَو سترته بثوبك لَكَانَ خير لَك، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر الْحَد إِلَى أَن يتم الْإِقْرَار أَربع مَرَّات. وَمِنْهَا: أَن على الإِمَام أَن يرادد الْمقر بِالزِّنَا بقوله: لَعَلَّك قبلت أَو مسست، وَفِي لفظ البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت. قَالَ: لَا. قَالَ: أفنلتها؟ قَالَ: نعم.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم يصلى عَلَيْهِ، كَمَا روى البُخَارِيّ على مَا سَيَأْتِي فِي كتاب الْمُحَاربين: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، فَذكر قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره، ثمَّ أَمر بِهِ فرجم، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيرا، وَصلى عَلَيْهِ. فَإِن قلت: قيل للْبُخَارِيّ قَوْله: وَصلى عَلَيْهِ، قَالَه غير معمر، قَالَ: لَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل وَالْحسن بن عَليّ كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الْحسن بن عَليّ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَمُحَمّد بن رَافع ونوح بن حبيب، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَقَالُوا كلهم فِيهِ: وَلم يصل عَلَيْهِ. قلت: أُجِيب بِأَن معنى قَوْله: فصلى عَلَيْهِ، دَعَا لَهُ، وَبِهَذَا تتفق الْأَخْبَار، وَلَكِن يُعَكر على هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة الزبيرِي عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي بكر عَن أبي أَيُّوب عَن أبي أُمَامَة بن سهل الْأنْصَارِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر يَوْم رجم مَاعِز، فطول فِي الْأَوليين حَتَّى كَاد النَّاس يعجزون من طول الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف وَمر بِهِ فرجم فَلم يصل حَتَّى رَمَاه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلحي بعير فَأصَاب رَأسه فَقتله، وَصلى عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر: حَدثنِي ثِقَة من أهل الْبَصْرَة عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل على مَاعِز بن مَالك وَلم ينْه عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ. قلت: ضعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) بِأَن فِيهِ مَجَاهِيل. فَإِن قلت:(20/258)
أخرج أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس: أَن مَاعِز بن مَالك أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّه زنى، فَأمر بِهِ فرجم وَلم يصل عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : إِسْنَاده صَحِيح. قلت: أخرجه النَّسَائِيّ مُرْسلا، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَإِن رِوَايَة الْإِثْبَات مُقَدّمَة لِأَنَّهَا زِيَادَة علم.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا يفعل بالمرجوم كَمَا يفعل بِسَائِر الْمَوْتَى لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) فِي كتاب الْجَنَائِز حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن أبي حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: (لما رجم مَاعِز قَالُوا: يَا رَسُول الله {مَا نصْنَع بِهِ؟ قَالَ: اصنعوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بموتاكم من الْغسْل والكفن والحنوط وَالصَّلَاة عَلَيْهِ) .
وَمِنْهَا: أَنه يحْفر للمرجوم، لما رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَتَاهُ رجل يُقَال إِنَّه زنى، فَأَعْرض عَنهُ ثمَّ ثنى ثمَّ ثلث ثمَّ ربع فَأمرنَا فَحَفَرْنَا لَهُ فرجم. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : أما الْحفر للمرجوم والمرجومة فَفِيهِ مَذَاهِب للْعُلَمَاء، قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنْهُم: لَا يحْفر لوَاحِد مِنْهُمَا. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو حنيفَة فِي رِوَايَة: يحْفر لَهما، وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة وأصحابنا: لَا يحْفر للرجل سَوَاء ثَبت زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أم بِالْإِقْرَارِ، وَأما الْمَرْأَة فَفِيهَا ثَلَاثَة أوجه لِأَصْحَابِنَا: أَحدهَا: يسْتَحبّ الْحفر إِلَى صدرها ليَكُون أستر لَهَا. وَالثَّانِي: لَا يسْتَحبّ وَلَا يكره بل هُوَ إِلَى خيرة الإِمَام. وَالثَّالِث: وَهُوَ الْأَصَح: إِن ثَبت زنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ اسْتحبَّ، وَإِن ثَبت بِالْإِقْرَارِ فَلَا يُمكنهَا الْهَرَب إِن رجعت فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي ذَر الْمَذْكُور الْحفر، وَجَاء فِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه مُسلم: أَن رجلا من أسلم ... الحَدِيث. وَفِيه: فَمَا وثقناه وَلَا حفرنا لَهُ قلت: قَالُوا: إِن المُرَاد فِي قَوْله: وَلَا حفرنا لَهُ، يَعْنِي: حُفْرَة عَظِيمَة.
وَمِنْهَا: دَرْء الْحَد عَن الْمُعْتَرف إِذا رَجَعَ كَمَا ورد فِي حَدِيث مَاعِز، أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (جَاءَ مَاعِز الْأَسْلَمِيّ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنَّه قد زنى) الحَدِيث، وَفِي آخِره: هلا تركتموني؟ يَعْنِي حِين ولى ماعزها هَارِبا من ألم الْحِجَارَة، وَأخْبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم والمقتول فِي الْحُدُود والمحاربة وَغَيرهم يصلى عَلَيْهِم، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا يُصَلِّي أحد على المرجوم وَقَاتل نَفسه، وَأَبُو يُوسُف مَعَه فِي قَاتل النَّفس، وَقَالَ قَتَادَة: لَا يُصَلِّي على ولد الزِّنَا.
وَمِنْهَا: أَن الإِمَام وَأهل الْفضل يصلونَ على المرجوم كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيرهم، خلافًا لبَعض الْمَالِكِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن التَّلْقِين للرُّجُوع يسْتَحبّ لِأَن حذ الزِّنَا لَا يحْتَاط لَهُ بالتحرير والتنقير عَنهُ بل الِاحْتِيَاط فِي دَفعه، وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ادرؤا الْحُدُود عَن الْمُسلمين مَا اسْتَطَعْتُم فَإِن كَانَ لَهُ مخرج فَخلوا سَبيله، فَإِن الإِمَام لَو يخطىء فِي الْعَفو خير لَهُ من أَن يخطىء فِي الْعقُوبَة) . وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَأخرج ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إدفعوا الْحُدُود مَا وجدْتُم لَهُ مدفعا) . وَفِي سَنَده إِبْرَاهِيم بن الْفضل وَهُوَ ضَعِيف. وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تعافوا الْحُدُود فِيمَا بَيْنكُم فَمَا بَلغنِي من حد فقد وَجب) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُخْتَار التمار عَن أبي مطر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إدرؤا الْحُدُود) ومختار هُوَ ابْن نَافِع ضَعِيف، وروى ابْن عدي من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إدرؤا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ، وأقيلوا الْكِرَام عثراتهم إلاَّ فِي حد من حُدُود الله) .
1725 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِي قَالَ: أخبَرَني أبُو سلَمةَ بنُ عبْدِ الرحْمانِ وسعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أتَى رجُلٌ مِنْ أسْلَمَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ فَنادَاهُ فَقَالَ: يَا رسولَ الله} إنَّ الآخِرَ قَدْ زَنَى، يَعْنِي نَفْسَهُ، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وجِهِهِ الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إنَّ الآخرَ قَدْ زَنَى، فأعْرضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وجْهِهِ الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقَالَ لهُ ذالِكَ، فأعْرَضَ عنهُ فَتَنَحَّى لهُ الرَّابِعَةَ، فَلمَّا شَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ(20/259)
دعاهُ فَقَالَ: هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اذْهَبُوا بِهِ فارْجُمُوهُ، وكانَ قَدْ أُحْصِنَ. حدّثنا وعنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي مَنْ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله الأنْصَارِيَّ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بالمُصَلَّى بالمَدِينَةِ، فلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ جَمَزَ حتَّى أدْرَكْناهُ بالحَرَّةِ فَرَجَمْناهُ حتَّى ماتَ.
هَذَا حَدِيث آخر فِي قصَّة مَاعِز عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحُدُود عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن عَمْرو بن مَنْصُور كِلَاهُمَا عَن أبي الْيَمَان.
قَوْله: (أَتَى رجل) ، هُوَ مَاعِز بن مَالك الْأَسْلَمِيّ. قَوْله: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِد) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (أَن الآخِر) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْخَاء أَي الْمُتَأَخر عَن السَّعَادَة الْمُدبر المنحوس، وَقيل: الأرذل، وَقيل اللَّئِيم. قَوْله: (قبله) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) عطف على قَوْله: شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، إِنَّمَا لم يبين الزُّهْرِيّ هُنَا من هُوَ الَّذِي سَمعه مِنْهُ، وَقد صرح فِيمَا قبله بِأَن الَّذِي سَمعه مِنْهُ هُوَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَسَعِيد بن الْمسيب إِشَارَة إِلَى أَن لَهُ شَيخا آخر غير أبي سَلمَة، وَسَعِيد قد سمع عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
21 - (بابُ الخُلْعِ وكَيْفَ الطَّلاَقُ فِيهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخلْع، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام، مَأْخُوذ من خلع الثَّوْب والنعل وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ لِأَن الْمَرْأَة لِبَاس للرجل، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ} (الْبَقَرَة: 781) وَإِنَّمَا جَاءَ مصدره بِضَم الْخَاء تَفْرِقَة بَين الإجرام والمعاني، يُقَال خلع ثَوْبه وَنَعله خلعا بِفَتْح الْخَاء، وخلع امْرَأَته خلعا وخلعة بِالضَّمِّ، وَأما حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة فَهُوَ فِرَاق الرجل امْرَأَته على عوض يحصل لَهُ، هَكَذَا قَالَه شَيخنَا فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) وَقَالَ: هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ كثير من الْفُقَهَاء: هُوَ مُفَارقَة الرجل امْرَأَته على مَال، وَلَيْسَ بجيد، فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط كَون عرض الْخلْع مَالا، فَإِنَّهُ لَو خَالعهَا عَلَيْهِ من دين أَو خَالعهَا على قصاص لَهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَحِيح، وَإِن لم يَأْخُذ الزَّوْج مِنْهَا شَيْئا فَلذَلِك عبرت بالحصول لَا بِالْأَخْذِ. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الْخلْع إِزَالَة الزَّوْجِيَّة بِمَا يُعْطِيهِ من المَال. وَقَالَ النَّسَفِيّ: الْخلْع الْفَصْل من النِّكَاح بِأخذ المَال بِلَفْظ الْخلْع، وَشَرطه شَرط الطَّلَاق، وَحكمه وُقُوع الطَّلَاق الْبَائِن، وَهُوَ من جِهَته يَمِين وَمن جِهَتهَا مُعَاوضَة. وَأجْمع الْعلمَاء على مَشْرُوعِيَّة الْخلْع إلاَّ بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) قَالَ عقبَة بن أبي الصَّهْبَاء: سَأَلت بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن الرجل يُرِيد أَن يخالع امْرَأَته، فَقَالَ: لَا يحل لَهُ أَن يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا. قلت: فَأَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت} (الْبَقَرَة: 922) قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة. قلت: وَمَا نسخهَا؟ قَالَ: مَا فِي سُورَة النِّسَاء، قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أردتم استبدال زوج مَكَان زوج وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (النِّسَاء: 02) الْآيَة قَالَ ابْن عبد الْبر: قَول بكر بن عبد الله هَذَا خلاف السّنة الثَّابِتَة فِي قصَّة ثَابت بن قيس وحبيبة بنت سهل وَخَالف جمَاعَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام انْتهى وخصص ابْن سِيرِين وَأَبُو قلَابَة جَوَازه بِوُقُوع الْفَاحِشَة فَكَانَا يَقُولَانِ: لَا يحل للزَّوْج الْخلْع حَتَّى يجد على بَطنهَا رجلا، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} (النِّسَاء: 91، الطَّلَاق: 1) قَالَ أَبُو قلَابَة: فَإِذا كَانَ ذلكف قد جَازَ لَهُ أَن يضارها ويشق عَلَيْهَا حَتَّى تختلع مِنْهُ. قَالَ أَبُو عمر: لَيْسَ هَذَا بِشَيْء لِأَن لَهُ أَن يطلقهَا أَو يلاعنها، وَأما أَن يضارها ليَأْخُذ مَالهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك. قَوْله: وَكَيف الطَّلَاق فِيهِ؟ أَي: كَيفَ حكم الطَّلَاق فِي الْخلْع؟ هَل تقع الطَّلَاق بِمُجَرَّدِهِ أَو لَا يَقع حَتَّى يذكر الطَّلَاق إِمَّا اللَّفْظ أَو بِالنِّيَّةِ؟ وللفقهاء فِيهِ خلاف فَعِنْدَ أَصْحَابنَا الْوَاقِع بِلَفْظ الْخلْع وَالْوَاقِع بِالطَّلَاق على مَال بَائِن. وَعند الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم فسخ وَلَيْسَ بِطَلَاق، يرْوى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، حَتَّى لَو خَالعهَا مرَارًا ينْعَقد النِّكَاح بَينهمَا بِغَيْر تزوج بِزَوْج آخر، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَفِي قَول الشَّافِعِي: إِنَّه رَجْعِيّ، وَفِي قَول وَهُوَ أصح أَقْوَاله: إِنَّه طَلَاق بَائِن كمذهبنا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْخلْع تَطْلِيقَة بَائِنَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد نَص الشَّافِعِي فِي الْإِمْلَاء على أَنه من صرائح الطَّلَاق.
وَفِي (التَّوْضِيح) : اخْتلف الْعلمَاء فِي الْبَيْنُونَة بِالْخلْعِ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: إِنَّه تَطْلِيقَة بَائِنَة، رُوِيَ عَن عُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود، إِلَّا أَن تكون سمت ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري(20/260)
وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيين وَأحد قولي الشَّافِعِي. وَالثَّانِي: إِنَّه فسخ وَلَيْسَ بِطَلَاق إِلَّا أَن ينويه، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وطاووس وَعِكْرِمَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الآخر. انْتهى. والْحَدِيث الَّذِي احْتج بِهِ أَصْحَابنَا وذكروه فِي كتبهمْ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سُنَنهمَا) من حَدِيث عباد بن كثير عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جعل الْخلْع تَطْلِيقَة بَائِنَة، وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَأعله بعباد بن كثير الثَّقَفِيّ وَأسْندَ عَن البُخَارِيّ، قَالَ: تَرَكُوهُ، وَعَن النَّسَائِيّ مَتْرُوك الحَدِيث، وَعَن شُعْبَة: إحذروا حَدِيثه، وَسكت عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ إلاَّ أَنه أخرجه عَن ابْن عَبَّاس خِلَافه من رِوَايَة طَاوُوس عَنهُ، قَالَ: الْخلْع فرقة وَلَيْسَ بِطَلَاق وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا بن جريج عَن دَاوُد بن أبي عَاصِم عَن سعيد بن الْمسيب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْخلْع تَطْلِيقَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
وقَوْلِ الله تَعَالَى: { (2) وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا} إِلَى قَوْله: { (2) الظَّالِمُونَ} (الْبَقَرَة: 922)
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله الْخلْع، الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظ الْبَاب، وَفِي لفظ رِوَايَة أبي ذَر: وَقَول الله: {وَلَا يحل لكم} إِلَى قَوْله: {إِلَّا أَن يُقِيمَا حُدُود الله} (الْبَقَرَة: 922) وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: وَقَول الله تَعَالَى: {وَلَا يحل لكم} إِلَى قَوْله: {إِلَّا أَن يخافا} وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا من أول الْآيَة إِلَى قَوْله: {الظَّالِمُونَ} وَهَذَا كُله لَيْسَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، بل ذكر بعض الْآيَة كافٍ، وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة لِأَنَّهَا نزلت فِي قَضِيَّة امْرَأَة ثَابت ابْن قيس بن شماس الَّتِي اخْتلعت مِنْهُ، وَهُوَ أول خلع كَانَ فِي الْإِسْلَام، وفيهَا بَيَان مَا يفعل فِي الْخلْع. قَوْله: (وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا) أَي: لَا يحل لكم أَن تضاجروهن وتضيقوا عَلَيْهِنَّ ليفتدين مِنْكُم بِمَا أعطيتموهن من الأصدقة أَو بِبَعْضِه. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِن قلت الْخطاب للأزواج لم يطابقه: {فَإِن أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} وَإِن قلت للأئمة والحكام، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بآخذين مِنْهُم وَلَا بمؤتيهن. ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ يجوز الْأَمْرَانِ جَمِيعًا أَن يكون أول الْخطاب للأزواج وَآخره للأئمة والحكام، وَأَن يكون الْخطاب كُله للأئمة والحكام لأَنهم الَّذين يأمرون بِالْأَخْذِ والإيتاء عندالترافع إِلَيْهِم، فكأنهم الآخذون والمؤتون. قَوْله: (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أَي: مِمَّا أعطيتموهن من الصَّدقَات. قَوْله: (إِلَّا أَن يخافا) أَي: الزَّوْجَانِ {أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} أَي: أَلا يُقِيمَا مَا يلْزمهُمَا من مواجب الزَّوْجِيَّة لما يحدث من نشوز الْمَرْأَة وَسُوء خلقهَا، وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَحَمْزَة: يخافا بِضَم الْيَاء وَفِي قِرَاءَة عبد الله: إِلَّا أَن يخَافُوا. قَوْله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} أَي: على الزَّوْج فِيمَا أَخذ وعَلى الْمَرْأَة فِيمَا أَعْطَتْ، وَأما إِذا لم يكن لَهَا عذر وَسَأَلت الافتداء مِنْهُ فقد دخلت فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا امْرَأَة سَأَلت زَوجهَا طَلاقهَا من غير بَأْس فَحَرَام عَلَيْهَا رَائِحَة الْجنَّة. أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ثَوْبَان، وَرَوَاهُ ابْن جرير أَيْضا، وَفِي آخِره قَالَ: المختلعات من المنافقات.
وأجازَ عُمَرُ الخلْعَ دُونَ السلْطَانِ
أَي: أجَاز عمر بن الْخطاب الْخلْع دون السُّلْطَان، أَي: بِغَيْر حُضُور السُّلْطَان، وَأَرَادَ بِهِ الْحَاكِم، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن خَيْثَمَة، قَالَ: أَتَى بشر بن مَرْوَان فِي خلع كَانَ بَين رجل وَامْرَأَته، فَلم يجزه، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن شهَاب: شهِدت عمر بن الْخطاب أَتَى فِي خلع كَانَ بَين رجل وَامْرَأَته فَأَجَازَهُ، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن ابْن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَمُحَمّد بن شهَاب وَيحيى بن سعيد، وَقَالَ الْحسن: لَا يكون الْخلْع دون السُّلْطَان، أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن يُونُس عَنهُ.
وأجازَ عُثْمانُ الخُلْعَ دُونَ عِقاصِ رأسِها
أَي: أجَاز عُثْمَان بن عَفَّان الْخلْع دون عقَاص رَأسهَا أَي: رَأس الْمَرْأَة والعقاص بِكَسْر الْعين جمع عقصة أَو عقيصة، وَهِي الضفيرة. وَقيل: هُوَ الْخَيط الَّذِي يعقص بِهِ أَطْرَاف الذوائب. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْأول أوجه، وَالْمعْنَى أَن المختلعة إِذا افتدت نَفسهَا من زَوجهَا بِجَمِيعِ مَا تملك كَانَ لَهُ أَن يَأْخُذ مَا دون عقَاص شعرهَا من جَمِيع ملكهَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا اللَّفْظ يَعْنِي قَوْله: أجَاز عُثْمَان الْخلْع دون عقَاص رَأسهَا، لم أره إلاَّ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ أَبُو بكر عَن عَفَّان: حَدثنَا همام حَدثنَا مطر عَن ثَابت عَن عبد الله بن رَبَاح: أَن عمر قَالَ: اخْلَعْهَا بِمَا دون عقاصها، وَفِي لفظ(20/261)
اخْلَعْهَا وَلَو من قُرْطهَا، وَعَن ابْن عَبَّاس: حَتَّى من عقاصها. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَأثر عُثْمَان لَا يحضرني نعم أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن عَفَّان ... الخ نَحْو مَا قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه رَوَاهُ مَوْصُولا فِي (أمالي أبي الْقَاسِم) من طَرِيق شريك عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن عقيل عَن الرّبيع بنت معوذ قَالَت: اخْتلعت من زَوجي بِمَا دون عقَاص رَأْسِي، فَأجَاز ذَلِك عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق روح بن الْقَاسِم عَن ابْن عقيل مطولا، وَقَالَ فِي آخِره: فَدفعت إِلَيْهِ كل شَيْء حَتَّى أجفت الْبَاب بيني وَبَينه، وَهَذَا يدل على أَن معنى: دون، سوى أَي: أجَاز للرجل أَن يَأْخُذ من الْمَرْأَة فِي الْخلْع مَا سوى عقَاص رَأسهَا. انْتهى. قلت: قَول ابْن عَبَّاس الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا يدل على أَنه يَأْخُذ عقَاص شعرهَا، وَهُوَ الْخَيط الَّذِي يعقص بِهِ أَطْرَاف الذوائب، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ ابْن كثير: وَمعنى هَذَا أَنه لَا يجوز أَن يَأْخُذ كل مَا بِيَدِهَا من قَلِيل وَكثير، وَلَا يتْرك لَهَا سوى عقَاص شعرهَا، وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وبنحوه قَالَ ابْن عمر وَعُثْمَان بن عَفَّان وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَدَاوُد وروى عبد الرَّزَّاق عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن لَيْث بن أبي سليم عَن الحكم بن عتيبة: أَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا يَأْخُذ من المختلعة فَوق مَا أَعْطَاهَا. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا لَا يَصح عَن عَليّ لِأَنَّهُ مُنْقَطع، وَفِيه لَيْث، وَذكر هَذَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عَطاء وطاووس وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَمُحَمّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب وَالْحكم وَحَمَّاد وَقبيصَة بن ذُؤَيْب، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة: إِن كَانَ الْإِضْرَار من جِهَته لم يجز أَن يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا، وَإِن أَخذ جَازَ فِي الْقَضَاء وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ أَبُو حنيفَة: فَإِن أَخذ أَكثر مِمَّا أَعْطَاهُم فليتصدق بِهِ. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو عبيد وَإِسْحَاق: لَا يجوز أَن يَأْخُذ أَكثر مِمَّا أَعْطَاهَا، وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان: إِن أَخذ أَكثر مِمَّا أَعْطَاهَا فَلم يسرح بِإِحْسَان، وَعَن عبد االملك الْجَزرِي: لَا أحب أَن يَأْخُذ مِنْهَا كل مَا أَعْطَاهَا حَتَّى يدع لَهَا مَا يعيشها.
وَقَالَ طاوُوسٌ: { (2) إِلَّا أَن يخافا أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} (الْبَقَرَة: 922) فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ واحِدٍ منْهُما علَى صاحبِهِ فِي العِشْرَةِ والصُّحْبَةِ، ولَمْ يَقَلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لَا يحِلُّ حتَّى تَقُولَ: لَا أغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جنَابَةٍ.
أَي: قَالَ طَاوُوس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَن يخافا} أَي: الزَّوْجَانِ {أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} ... الخ قَوْله: (لم يقل) أَي: وَلم يقل الله (قَول السُّفَهَاء) : لَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا إِلَّا أَن تَقول الْمَرْأَة: لَا أَغْتَسِل لَك من جَنَابَة، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تصير نَاشِزَة فَيحل الْأَخْذ مِنْهَا. وَقَوْلها: (لَا اغْتسل) إِمَّا كِنَايَة عَن الْوَطْء وَإِمَّا حَقِيقَة. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية حَدثنَا ابْن جريج عَنهُ بِلَفْظ: يحل لَهُ الْفِدَاء، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: {إِلَّا أَن يخافا أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} وَلم يكن يَقُول قَول السُّفَهَاء حَتَّى تَقول: لَا أَغْتَسِل لَك من جَنَابَة، وَلكنه كَانَ يَقُول: {إِلَّا أَن يخافا أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} فِيمَا افْترض لكل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه فِي الْعشْرَة.
3725 - حدّثنا أزْهَرُ بنُ جَمِيلٍ حَدثنَا عبْدُ الوَهَّابِ الثقَفِيُّ حَدثنَا خالِدٌ عنُ عِكْرمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ امْرَأةَ ثابِتِ بن قَيْسً أتَت النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رسولَ الله {ثابِتٌ بن قَسْسٍ} مَا أعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلقٍ ولاَ دِينٍ، ولَكنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإسْلاَمِ. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتَرُدِّينَ علَيْهه حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْبَل الحَدِيقَةَ وطَلِّقْها تَطْلِيقَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ بَيَان كَيفَ الطَّلَاق فِي الْخلْع. وأزهر، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الزَّاي وَفتح الْهَاء: ابْن جميل بِفَتْح الْجِيم أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده لم يخرج عَنهُ فِي الْخلْع غير هَذَا الْموضع. وَقد أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ أَيْضا، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف وَالْفَاء، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء.
قَوْله: (أَن امْرَأَة ثَابت بن قيس) أبهم البُخَارِيّ اسْمهَا هُنَا وَفِي الطَّرِيق الَّتِي بعْدهَا، وسماها فِي آخر الْبَاب بجميلة، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الْمِيم. قَالَ(20/262)
أَبُو عمر: جميلَة بنت أبي بن سلول امْرَأَة ثَابت بن قيس الَّتِي خالعته وَردت عَلَيْهِ حديقته، هَكَذَا روى البصريون، وَخَالفهُم أهل الْمَدِينَة فَقَالُوا: إِنَّهَا حَبِيبَة بنت سهل الْأنْصَارِيّ، قَالَ: وَكَانَت جميلَة قبل ثَابت بن قيس تَحت حَنْظَلَة بن أبي عَامر الغسيل، ثمَّ تزَوجهَا بعده ثَابت بن قيس بن مَالك بن دخشم ثمَّ تزَوجهَا بعده حبيب بن أساف الْأنْصَارِيّ.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: اخْتلفت طرق الحَدِيث فِي اسْم امْرَأَة ثَابت بن قيس الَّتِي خَالعهَا، فَفِي أَكثر طرقه أَن اسْمهَا: حَبِيبَة بنت سهل، هَكَذَا عِنْد مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) من حَدِيثهَا وَمن طَرِيقه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَكَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد أبي دَاوُد، وَكَذَا فِي حَدِيث عبد الله بن عمر، وَعند ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّهَا جميلَة بنت سلول، وسلول هِيَ أمهَا، وَيُقَال: اخْتلف فِي سلول: هَل هِيَ أم أبي أَو امْرَأَته، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الرّبيع بنت معوذ: جميلَة بنت عبد الله بن أبي، وَبِذَلِك جزم ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) فَقَالَ: جميلَة بنت عبد الله بن أبي، وَوَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة: أُخْت عبد الله بن أبي، وَهُوَ كَبِير الْخَزْرَج وَرَأس النِّفَاق، وَقع عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث الرّبيع بنت معوذ أَن اسْمهَا: مَرْيَم المغالية، وَعند الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي الزبير: أَن ثَابت بن قيس كَانَت عِنْده زَيْنَب بنت عبد الله بن أبي بن سلول. قَالَ الشَّيْخ: وَأَصَح طرقه حَدِيث حَبِيبَة بنت سهل على أَنه يجوز أَن يكون الْخلْع قد تعدد غير مرّة من ثَابت بن قيس لهَذِهِ فَإِن فِي بعض طرقه: أصدقهَا حديقة، وَفِي بَعْضهَا: حديقتين، وَلَا مَانع أَن يكون وَاقِعَتَيْنِ فَأكْثر. وَقد صَحَّ كَونهَا حَبِيبَة وَصَحَّ كَونهَا جميلَة، وَصَحَّ كَونهَا مَرْيَم، وَأما تَسْمِيَتهَا زَيْنَب فَلم يَصح قلت: لم يذكر أَبُو عمر مَرْيَم وَذكرهَا الذَّهَبِيّ، وَقَالَ: مَرْيَم الْأَنْصَارِيَّة المغالية من بني مغالة امْرَأَة ثَابت بن قيس، لَهَا ذكر فِي حَدِيث الرّبيع انْتهى. وثابت بن قيس بن شماس بن مَالك بن امرىء الْقَيْس الخزرجي، وَكَانَ خطيب الْأَنْصَار، وَيُقَال: خطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُقَال لحسان بن ثَابت: شَاعِر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شهد أحدا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (وَمَا أَعتب) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسرهَا من عتب عَلَيْهِ إِذا وجد عَلَيْهِ يُقَال: عتب على فلَان أَعتب عتبا وَالِاسْم المعتبة، والعتاب هُوَ الْخطاب بإدلال، ويروى: وَمَا أعيب، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف من الْعَيْب أَي: لَا أغضب عَلَيْهِ، وَلَا أُرِيد مُفَارقَته لسوء خلقه وَلَا لنُقْصَان دينه، وَلَكِن أكرهه طبعا فَأَخَاف على نَفسِي فِي الْإِسْلَام مَا يُنَافِي مُقْتَضى الْإِسْلَام باسم مَا يُنَافِي فِي نفس الْإِسْلَام، وَهُوَ الْكفْر، وَيحْتَمل أَن يكون من بَاب الْإِضْمَار أَي: لكني أكره لَوَازِم الْكفْر من المعاداة والنفاق وَالْخُصُومَة وَنَحْوهَا، وَجَاء فِي رِوَايَة جرير بن حَازِم إلاَّ أَنِّي أَخَاف الْكفْر، قيل: كَأَنَّهَا أشارت إِلَى أَنَّهَا قد تحملهَا شدَّة كراهتها على إِظْهَار الْكفْر لينفسخ نِكَاحهَا مِنْهُ، وَهِي تعرف أَن ذَلِك حرَام، لَكِن خشيت أَن يحملهَا شدَّة البغض على الْوُقُوع فِيهِ. وَقيل: يحْتَمل أَن يُرِيد بالْكفْر كفران العشير إِذْ هُوَ تَقْصِير الْمَرْأَة فِي حق الزَّوْج، وَجَاء فِي رِوَايَة ابْن جرير: وَالله مَا كرهت مِنْهُ خلقا وَلَا ذَنبا إلاَّ أَنِّي كرهت دمامته، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ قَالَت: يَا رَسُول الله {لَا يجمع رَأْسِي وَرَأسه شَيْئا أبدا إِنِّي رفعت جَانب الْحيَاء فرأيته أقبل فِي عدَّة فَإِذا هُوَ أَشَّدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وَجها ... الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: كَانَ رجلا دميما، فَقَالَت: يَا رَسُول الله} وَالله لَوْلَا مَخَافَة الله إِذا دخل عَليّ بصقت فِي وَجهه وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، قَالَ: بَلغنِي أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! وَبِي من الْجمال مَا ترى وثابت رجل دميم فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: أَنه كسر يَدهَا فَكيف تَقول لَا أَعتب ... الخ؟ قلت: أردْت أَنه سيء الْخلق لَكِنَّهَا مَا تعيبته بذلك، وَلَكِن تعييبها إِيَّاه كَانَ بالوجوه الَّتِي ذَكرنَاهَا. قَوْله: (حديقته) ، أَي: بستانه الَّذِي أَعْطَاهَا. قَوْله: (وطلِّقها) الْأَمر فِيهِ للإرشاد والاستصلاح لَا للْإِيجَاب والإلزام، وَوَقع فِي رِوَايَة جرير بن حَازِم: فَردَّتْ عَلَيْهِ فَأمره ففارقها.
قَالَ أبُو عبْدِ الله: لَا يُتابَعُ فِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه أَي: لَا يُتَابع أَزْهَر بن جميل على ذكر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي هَذَا الحَدِيث بل أرْسلهُ غَيره، وَمرَاده بذلك خُصُوص طَرِيق خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة، وَلِهَذَا عقبه بِرِوَايَة خَالِد على مَا يَأْتِي الْآن.(20/263)
4725 - إسْحاقُ الوَاسِطِيُّ حَدثنَا خالِدٌ عنْ خَالِد الحَذَّاء عنْ عِكْرِمَةَ: أنَّ أُخْتَ عبْدِ الله بن أُبَيٍّ بهاذَا، وَقَالَ: تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْها وأمَرَهُ يُطَلِّقْها وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ خالِدٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر هَذَا تأييدا لقَوْله: لَا يُتَابع فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس، أَرَادَ أَنه عَن عِكْرِمَة فَقَط أخرجه عَن إِسْحَاق الوَاسِطِيّ وَهُوَ إِسْحَاق ابْن شاهين أَبُو بشر، يروي عَن خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مُرْسلا.
قَوْله: (وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان) بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء: الْهَرَوِيّ وَسكن نيسابور، ويروي عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يذكر فِيهِ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بل أرْسلهُ، وَوصل هَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن إِبْرَاهِيم عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على مَا يَجِيء الْآن.
6725 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الله بنِ المُبارَكِ المخَرِّمِيُّ حَدثنَا قُرَادٌ أبُو نُوحٍ حَدثنَا جَرِيرُ بنُ جازِمٍ عَن أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: جاءَتِ امْرَأةُ ثابتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ: يَا سولَ الله! ماأنْقمُ علَى ثابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ إلاّ أنِّي أخافُ اللكُفْرَ. فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَتَرُدِّينَ عَليْهِ حَديقَتَهُ؟ فقالَتْ: نَعَمْ. فَرُدَّتْ عَليْهِ وأمَرَهُ ففارَقَها.
هَذَا طَرِيق آخر وَهُوَ مَوْصُول أخرجه عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المخرمي، بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة: مَنْسُوب إِلَى محلّة من محَال بَغْدَاد أبي جَعْفَر الْحَافِظ قَاضِي حلوان، مَاتَ سنة أَربع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وقراد بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الرَّاء لقب، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن غَزوَان، وكنيته أَبُو نوح وَهُوَ من كبار الْحفاظ وثقوه، وَلَكِن خَطؤُهُ فِي حَدِيث وَاحِد حدث بِهِ عَن اللَّيْث خُولِفَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع.
قَوْله: (فَردَّتْ عَلَيْهِ) بِصِيغَة الْمَجْهُول أَي: ردَّتْ الحديقة على ثَابت. قَوْله: (وَأمره) أَي: وَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ففارقها.
7725 - حدّثنا سُلَيْمَانُ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ أنَّ جَمِيلَةَ فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
(انْظُر الحَدِيث 3725 أَطْرَافه)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اسْم الْمَرْأَة الَّتِي خَالعهَا ثَابت بن قيس جميلَة بِالْجِيم، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِيهِ عَن قريب، أخرجه عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، فَذكر الحَدِيث الْمَذْكُور الخ.
31 - (بابُ الشِّقاقِ وهَلْ يُشِيرُ بالخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ)(20/264)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشقاق الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} قَالَ ابْن عَبَّاس الْخَوْف هُنَا بمهنى الْعلم والشقاق بِالْكَسْرِ: الْخلاف، وَقيل: الْخِصَام. قَوْله: (هَل يُشِير بِالْخلْعِ) فَاعل يُشِير مَحْذُوف وَهُوَ إِمَّا الحكم من أحد الزَّوْجَيْنِ أَو الْوَلِيّ أَو أحد مِنْهُمَا أَو الْحَاكِم إِذا ترافعا إِلَيْهِ، والقرينة الحالية والمقالية تدل على ذَلِك. قَوْله: (عِنْد الضَّرُورَة) وَعند النَّسَفِيّ للضَّرَر أَي لأجل الضَّرَر الْحَاصِل لأحد الزَّوْجَيْنِ أَو لَهما.
وقَوْلهِ تَعَالَى: { (4) وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا فَابْعَثُوا حكما من أَهله} إلَى قَوْلِه { (4) خَبِيرا} (النِّسَاء: 53) .
وَقَوله بِالْجَرِّ عطف على: الشقاق، الْمَجْرُور بِالْإِضَافَة، وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله تَعَالَى، وَعند أبي ذَر والنسفي: وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} الْآيَة، وَزَاد غَيرهمَا. {فَابْعَثُوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا} إِلَى قَوْله: {خَبِيرا} قَوْله: (وَإِن خِفْتُمْ) الْخطاب للحكام، وشقاق مُضَاف إِلَى قَوْله: بَينهمَا، على طَرِيق الاتساع كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} (سبأ: 33) وَالضَّمِير يرجع إِلَى الزَّوْجَيْنِ وَلم يجر ذكرهمَا لجري ذكر مَا يدل عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقَالَ ابْن بطال: المُرَاد بقوله: {إِن يُرِيد إصلاحا} الحكمان، وَإِن الْحكمَيْنِ يكون أَحدهمَا من جِهَة الرجل وَالْآخر من جِهَة الْمَرْأَة إلاَّ أَن لَا يُوجد من أهلهما من يصلح فَيجوز أَن يكون من الْأَجَانِب مِمَّن يصلح لذَلِك، وأنهما إِذا اخْتلفَا لم ينفذ قَوْلهمَا، وَإِن اتفقَا نفذ فِي الْجَمِيع بَينهمَا من غير تَوْكِيل.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا اتفقَا على الْفرْقَة، فَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق: ينفذ من غير تَوْكِيل وَلَا إِذن من الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يحتاجان إِلَى الْإِذْن، لِأَن الطَّلَاق بيد الزَّوْج، فَإِن أذن فِي ذَلِك وإلاَّ فالحاكم طلق عَلَيْهِ، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: الحكمان بهما يجمع الله وَبِهِمَا يفرق. وَقَالَ الشّعبِيّ: مَا قضى الحكمان جَازَ، وَقَالَ أَبُو سَلمَة: الحكمان إِن شاءا جمعا وَإِن شاءا فرقا. وَقَالَ مُجَاهِد نَحوه، وَعَن الْحسن: إِذا اخْتلفَا جعل غَيرهمَا وَإِن اتفقَا جَازَ حكمهمَا. وَسُئِلَ عَامر عَن رجل وَامْرَأَة حكَّما رجلا ثمَّ بدا لَهما أَن يرجعا، فَقَالَ: ذَلِك لَهما مَا لم يتكلما، فَإِذا تكلما فَلَيْسَ لَهما أَن يرجعا. وَقَالَ مَالك فِي الْحكمَيْنِ يطلقان ثَلَاثًا، قَالَ: تكون وَاحِدَة وَلَيْسَ لَهما الْفِرَاق بِأَكْثَرَ من وَاحِدَة بَائِنَة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يلْزم الثَّلَاث إِن اجْتمعَا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمُغيرَة وَأَشْهَب وَابْن الْمَاجشون وإصبغ: وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: إِن حكم أَحدهمَا بِوَاحِدَة وَالْآخر بِثَلَاث فَهِيَ وَاحِدَة، وَحكى ابْن حبيب عَن إصبغ أَن ذَلِك لَيْسَ بِشَيْء.
23 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا اللَّيْث عَن ابْن أبي مليكَة عَن الْمسور بن مخرمَة الزُّهْرِيّ قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول إِن بني الْمُغيرَة اسْتَأْذنُوا فِي أَن ينْكح عَليّ ابنتهم فَلَا آذن) قَالَ ابْن التِّين لَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على مَا ترْجم أَرَادَ أَنه لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة وَعَن الْمُهلب حاول البُخَارِيّ بإيراده أَن يَجْعَل قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا آذن خلعا وَلَا يقوى ذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَر إِلَّا أَن يُرِيد ابْن أبي طَالب أَن يُطلق ابْنَتي فَدلَّ على الطَّلَاق فَإِن أَرَادَ أَن يسْتَدلّ بِالطَّلَاق على الْخلْع فَهُوَ ضَعِيف وَقيل فِي بَيَان الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة بقوله يُمكن أَن تُؤْخَذ من كَونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشَارَ بقوله فَلَا آذن إِلَى أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يتْرك الْخطْبَة فَإِذا سَاغَ جَوَاز الْإِشَارَة بِعَدَمِ النِّكَاح الْتحق بِهِ جَوَاز الْإِشَارَة بِقطع النِّكَاح انْتهى وَأحسن من هَذَا وأوجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي بقوله أورد هَذَا الحَدِيث هُنَا لِأَن فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مَا كَانَت ترْضى بذلك وَكَانَ الشقاق بَينهَا وَبَين عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ متوقعا فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دفع وُقُوعه انْتهى وَقيل يحْتَمل أَن يكون وَجه الْمُطَابقَة من بَاقِي الحَدِيث وَهُوَ إِلَّا أَن يُرِيد عَليّ أَن يُطلق ابْنَتي فَيكون من بَاب الْإِشَارَة بِالْخلْعِ وَفِيه تَأمل وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ملكية واسْمه زُهَيْر الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن الزبير والمسور بِكَسْر الْمِيم ابْن مخرمَة بِفَتْح الميمين الزُّهْرِيّ وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث فِي خطْبَة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بنت أبي جهل وَقد مر فِي كتاب النِّكَاح فِي بَاب ذب الرجل عَن ابْنَته فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن أبي مليكَة عَن الْمسور بن مخرمَة إِلَى آخِره وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ(20/265)
41 - (بابٌ لَا يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ طَلاَقا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا يكون بيع الْأمة الْمُزَوجَة طَلَاقا، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي طَلاقهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص، وَمذهب كَافَّة الْفُقَهَاء، وَقَالَ آخَرُونَ: بيعهَا طَلَاق، رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَابْن السيب وَالْحسن وَمُجاهد.
9725 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ رَبِيعَةَ بن أبي عبْدِ الرَّحْمانِ عنِ القاسِمِ بن مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قالَتْ: كانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ: إحْدَى السُّنَنِ أنَّها أُعْتِقَتْ فخيرت فِي زَوْجِها، وَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الوَلاء لِمَنْ أعْتَقَ، ودَخَل رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إلَيْهِ خُبْزٌ وأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ، فَقَالَ: ألَمْ أرَ البُرْمَةَ فِيهَا لَحمٌ؟ قالُوا: بَلى ولَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصَدِّقَ بِهِ علَى بَرِيرَةَ وأنْتَ لَا تأكُلُ الصَّدَقَةَ. قَالَ: علَيْها صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعتْق إِذا لم يكن طَلَاقا فَالْبيع بطرِيق الأولى، وَلَو كَانَ ذَلِك طَلَاقا لما خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وقصة بَرِيرَة مَضَت فِي سَبْعَة عشر موضعا. وَأخرج أَولا فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، وَمَضَت أَيْضا فِي عدَّة مَوَاضِع مِنْهَا فِي: بَاب الْمكَاتب فِي مَوَاضِع، وَمِنْهَا فِي الْهِبَة فِي: بَاب قبُول الْهَدِيَّة، وَمِنْهَا فِي الشُّرُوط فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْوَلَاء، وَفِي: بَاب الْمكَاتب وَمَا لَا يحل من الشُّرُوط، وَمِنْهَا فِي آخر كتاب الْعتْق وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
وبريرة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى مولاة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قيل: إِنَّهَا نبطية بِفَتْح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: قبطية بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَاخْتلف فِي مواليها فَفِي رِوَايَة أُسَامَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة أَن بَرِيرَة كَانَت لناس من الْأَنْصَار، وَكَذَا عِنْد النَّسَائِيّ من رِوَايَة سماك عَن عبد الرَّحْمَن، وَقيل: لآل بني هِلَال أخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة جرير عَن هِشَام.
قَوْله: (ثَلَاث سنَن) وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه: ثَلَاث قضيات، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أَحْمد وَأبي دَاوُد قضى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع قضيات، فَذكر نَحْو حَدِيث عَائِشَة، وَزَاد: وأمرها أَن تَعْتَد عدَّة الْحرَّة، أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَلم تقع هَذِه الزِّيَادَة فِي حَدِيث عَائِشَة، فَلذَلِك اقتصرت عَليّ ثَلَاث. قَوْله: (أعتقت فخيرت) كِلَاهُمَا على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي زَوجهَا) قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن اسْمه مغيث، وَكَانَ عبدا أسود. قَوْله: (وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: دخل بَيت عَائِشَة، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر. قَوْله: (والبرمة) الْوَاو فِيهِ للْحَال، والبرمة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي الْقدر مُطلقًا، وَهِي فِي الأَصْل المتخدة من الْحجر الْمَعْرُوف بالحجاز واليمن. قَوْله: (وأدم) بِضَم الْهمزَة الأدام، وَقد أَكثر النَّاس فِي الْكَلَام فِي معنى هَذَا الحَدِيث وَتَخْرِيج وجوهه، وَلِلنَّاسِ فِيهِ تصانيف، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة.
51 - (بابُ خِيارِ الأمَةِ تَحْتَ العَبْدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْخِيَار للْأمة الَّتِي كَانَت تَحت العَبْد إِذا أعتقت، وَهَذِه التَّرْجَمَة تدل على أَن البُخَارِيّ ترجح عِنْده قَول من قَالَ: كَانَ زوج بَرِيرَة عبدا، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَن زَوجهَا كَانَ عبدا وَأجِيب: بِأَن عَادَته أَنه يُشِير إِلَى مَا فِي بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وقصة بَرِيرَة لم تَتَعَدَّد فترجح عِنْده أَنه كَانَ عبدا أسود. وَأخرج الْجَمَاعَة إلاَّ مُسلما عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا أسود فَالْبُخَارِي أخرجه فِي هَذَا الْبَاب وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق(20/266)
عَن قَتَادَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرَّضَاع عَن أَيُّوب وَقَتَادَة عَن عِكْرِمَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن خَالِد الْحذاء بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّلَاق عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة بِهِ. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَزَاد فِيهِ: وأمرها أَن تَعْتَد عدَّة الْحرَّة، هَكَذَا عزاهُ عبد الْحق فِي أَحْكَامه للدارقطني وَلم أَجِدهُ فَليُرَاجع لكنه فِي ابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة: وأمرها أَن تَعْتَد ثَلَاث حيض، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِمَا أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة محيلاً على مَا قبله فِي قصَّة بَرِيرَة، وَزَاد وَقَالَ: وَكَانَ زَوجهَا عبدا فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاخْتَارَتْ نَفسهَا، وَلَو كَانَ حرا لم يخيرها. انْتهى. قيل: هَذَا الْأَخير من كَلَام عُرْوَة قطعا لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه قَالَ: وفاعله مُذَكّر. وَالثَّانِي: أَن النَّسَائِيّ صرح فِيهِ بقوله: قَالَ عُرْوَة. وَلَو كَانَ حرا مَا خَيرهَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ النَّسَائِيّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن يكون هَذَا من كَلَام عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام عُرْوَة. فبالاحتمال الأول: لَا يثبت الِاحْتِجَاج الْقطعِي، وَلَئِن سلمنَا أَنه من كَلَام عَائِشَة، وَلَكِن قد تَعَارَضَت روايتاها فَسقط الِاحْتِجَاج بهما. فَإِن قلت: رِوَايَة الْأسود قد عارضها من هُوَ ألصق بعائشة وأقعد بهَا من الْأسود، وهما: الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَعُرْوَة بن الزبير، فرويا عَنْهَا أَنه كَانَ عبدا، وَالْأسود كُوفِي سمع مِنْهَا من وَرَاء الْحجاب، وَعُرْوَة وَالقَاسِم كَانَا يسمعان مِنْهَا بِغَيْر حجاب، لِأَنَّهَا خَالَة عُرْوَة وعمة الْقَاسِم فهما أقعد بهَا من الْأسود. قلت: لَا كَلَام فِي صِحَة الطَّرِيقَيْنِ، والأقعدية لَا تنَافِي التَّعَارُض، فَافْهَم. واستدلت طَائِفَة بِأَنَّهُ كَانَ حرا بِحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ زوج بَرِيرَة حرا حِين أعتقت وَأَنَّهَا خيرت وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: كَانَ حرا. وَذهب طَائِفَة أَنه كَانَ حرا وهم: الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن سِيرِين وطاووس وَمُجاهد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَآخَرُونَ، وَلَكنهُمْ قَالُوا: الْأمة إِذا أعتقت فلهَا الْخِيَار فِي نَفسهَا سَوَاء أَكَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا، وَإِلَيْهِ ذهب الظَّاهِرِيَّة. وَقَالَت الطَّائِفَة الأولى: إِن كَانَ زَوجهَا عبدا فلهَا الْخِيَار، وَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا.
0825 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ وهَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ عِكِرْمَةَ عنِ ابنِ عباسٍ قَالَ: رَأيْتُهُ عَبْدا، يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام. وَقد مر عَن قريب، وَهَمَّام بِالتَّشْدِيدِ ابْن يحيى الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، والاحتجاج بِهِ على أَنه كَانَ عبدا حِين أعتقت بَرِيرَة غير قوي لِأَن قَوْله: (رَأَيْته عبدا يَعْنِي زوج بَرِيرَة) لَا يدل على أَنه كَانَ عبدا حِين أعتقت بَرِيرَة، لِأَن الظَّاهِر أَنه يخبر بِأَنَّهُ كَانَ عبدا فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ. وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن نقُول: إِن اخْتلَافهمْ فِيهِ فِي صفتين لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَالَة وَاحِدَة فنجعلها فِي حالتين بِمَعْنى أَنه كَانَ عبدا فِي حَالَة، حرا فِي أُخْرَى، فب الضَّرُورَة تكون إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ مُتَأَخِّرَة عَن الْأُخْرَى، وَقد علم أَن الرّقّ تعقبه الْحُرِّيَّة وَالْحريَّة لَا يعقبها الرّقّ، وَهَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك جعلنَا حَال الْعُبُودِيَّة مُتَقَدّمَة وَحَال الْحُرِّيَّة مُتَأَخِّرَة، فَثَبت بِهَذَا الطَّرِيق أَنه كَانَ حرا فِي الْوَقْت الَّذِي خيرت فِيهِ بَرِيرَة وعبدا قبل ذَلِك فَيكون قَول من قَالَ كَانَ عبدا، مَحْمُولا على الْحَالة الْمُتَقَدّمَة، وَقَول من قَالَ: كَانَ حرا، مَحْمُولا على الْحَالة الْمُتَأَخِّرَة، فَإِذا لَا يبْقى تعَارض، وَيثبت قَول من قَالَ: إِنَّه كَانَ حرا فَيتَعَلَّق الحكم بِهِ، وَلَئِن سلمنَا أَن جَمِيع الرِّوَايَات أخْبرت بِأَنَّهُ كَانَ عبدا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على صِحَة مَا يذهب مِمَّن يذهب أَن زوج الْأمة إِذا كَانَ حرا فأعتقت الْأمة لَيْسَ لَهَا الْخِيَار. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يَأْتِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: إِنَّمَا خيرتها لِأَن زَوجهَا عبد، وَهَذَا لَا يُوجد أصلا فِي الْآثَار، فَثَبت أَنه خَيرهَا لكَونهَا قد أعتقت، فَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي فِيهِ أَن يكون زَوجهَا حرا أَو عبدا، ورد بِهَذَا على صَاحب (التَّوْضِيح) فِي قَوْله: (لِأَن خِيَارهَا إِنَّمَا وَقع من أجل كَونه عبدا) وَلَو اطلع هَذَا على مَا قُلْنَا من التَّحْقِيق لما قَالَ هَكَذَا.(20/267)
1825 - حدّثنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ حَدثنَا وُهَيْبٌ حَدثنَا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاس قَالَ: ذَاكَ مُغَيثٌ عبْدُ ببَني فُلاَنٍ، يَعْنِي: زَوْجَ بَرِيرَةَ كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَتْبَعُها فِي سِكَكِ المَدِينَةِ يَبْكِي عَليْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ووهيب مصغر وهب، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن الثَّقَفِيّ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن هناد.
قَوْله: (ذَاك) إِشَارَة إِلَى زوج بررة، وَقد وضحه بقوله: (يَعْنِي زوج بَرِيرَة) قَوْله: (مغيث) بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، وَوَقع عِنْد العسكري بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَالظَّاهِر أَنه تَصْحِيف، وَذكر ابْن عبد الْبر مغيثا هَذَا فِي الصَّحَابَة، قَالَ: وَكَانَ عبدا لبَعض بني مُطِيع، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: كَانَ عبدا أسود لِابْنِ الْمُغيرَة، فِي رِوَايَة هشيم عِنْد سعيد بن مَنْصُور: وَكَانَ عبدا لآل بني الْمُغيرَة من بني مَخْزُوم، وَوَقع فِي (الْمعرفَة) لِابْنِ مَنْدَه: مغيث مولى ابْن أَحْمد بن جحش، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: عبدا لآل أبي أَحْمد، وَالْجمع بَينهم بعيد، إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه كَانَ مُشْتَركا بَينهم، وَفِيه تَأمل. قَوْله: (فِي سِكَك الْمَدِينَة) جمع سكَّة، وَالسِّكَّة فِي الأَصْل المصطفة من النّخل، وَمِنْهَا قيل للأزقة: سِكَك، لاصطفاف الدّور فِيهَا.
2825 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا عبْدُ الوَهَّابِ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: كانَ زَوْجُ بَرِرَةَ عَبْدا أسْوَدَ يُقالُ لهُ: مُغِيثٌ، عَبْدا لِبَنِي فُلان كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ ورَاءَها فِي سِكَكِ المَدِينَةِ.
)
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن خَالِد الْحذاء ... الخ، ويروى هَهُنَا أَيْضا: يبكي عَلَيْهَا كَمَا فِي الرِّوَايَة الأولى.
61 - (بابُ شَفَاعَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زَوجِ بَرِيرَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَفَاعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِي زوج بَرِيرَة لأجل أَن تعود بَرِيرَة إِلَى عصمته. قيل: مَوضِع هَذِه التَّرْجَمَة من الْفِقْه: تسويغ الشَّفَاعَة للْحَاكِم عِنْد الْخصم فِي خَصمه أَن يحط عَنهُ أَو يسْقط أَو يتْرك دَعْوَاهُ وَنَحْو ذَلِك، وَاعْترض على هَذَا بِأَن قصَّة بَرِيرَة لم يَقع الشَّفَاعَة فِيهَا عِنْد الترافع. قلت: هَذَا الِاعْتِرَاض سَاقِط لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: لَو راجعته، فَلم يكن هَذَا إلاَّ عِنْد الترافع.
3825 - حدّثنا مُحَمَّدٌ أخْبَرنا عبْدُ الوَهَّابِ حَدثنَا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كانَ عبْدا يُقالُ لَهُ مُغِيثٌ، كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي ودُمُوعُهُ تَسِيلُ علَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَبَّاسٍ: يَا عَبَّاسُ {ألاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ ومِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثا؟ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوْ رَاجَعْتِهِ؟ قالَتْ: يَا رسولَ الله} تأمُرُنِي؟ قَالَ: إنَّما أَنا أشْفَعُ. قالَنْ: لَا حاجَةَ لي فِيهِ.
)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا أشفع) . وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن بشار أَو مُحَمَّد بن الْمثنى فَإِنَّهُمَا من شُيُوخ البُخَارِيّ، فَإِن النَّسَائِيّ أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار، وَابْن مَاجَه من حَدِيث مُحَمَّد بن مثنى وكلاهمنا رويا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وخَالِد هوالحذاء.
قَوْله: (لعباس) ، هُوَ ابْن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووالد رَاوِي الحَدِيث، قيل: هَذَا يدل على أَن قصَّة بَرِيرَة كَانَت مُتَأَخِّرَة فِي السّنة التَّاسِعَة أَو الْعَاشِرَة، لِأَن الْعَبَّاس إِنَّمَا سكن الْمَدِينَة بعد رجوعهم من غَزْوَة الطَّائِف. وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان، وَيُؤَيّد هَذَا قَول ابْن عَبَّاس: إِنَّه شَاهد ذَلِك، وَهُوَ إِنَّمَا قدم الْمَدِينَة مَعَ أَبَوَيْهِ، وَهَذَا يرد قَوْله من قَالَ: إِن قصَّة بَرِيرَة قبل الْإِفْك، وَالَّذِي حمل هَذَا الْقَائِل على هَذَا وُقُوع ذكرهَا فِي حَدِيث الْإِفْك. قَوْله: (أَلا تعجب) ؟ مَحل التَّعَجُّب هُنَا هُوَ أَن الْغَالِب فِي الْعَادة أَن الْمُحب لَا يكون إلاَّ محبوبا وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (لَو راجعته) كَذَا فِي الْأُصُول بِكَسْر(20/268)
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا ضمير، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: لَو راجعتيه، بِإِثْبَات الْيَاء آخر الْحُرُوف بعد التَّاء، وَهِي لُغَة ضَعِيفَة، قَالَه بَعضهم قلت: إِن صَحَّ هَذَا فِي الرِّوَايَة فَهِيَ لُغَة فصيحة لِأَنَّهَا من أفْصح الْخلق، وَزَاد ابْن مَاجَه فِي رِوَايَته: فَإِنَّهُ أَبُو ولدك. قَوْله: (تَأْمُرنِي؟) وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ بعده. قَالَ: لَا قيل فِيهِ إِشْعَار بِأَن صِيغَة الْأَمر لَا تَنْحَصِر فِي لفظ: افْعَل، وَفِيه نظر، لِأَن الْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل إفعل، وَإِنَّمَا معنى قَوْلهَا: أتأمرني؟ أَشَيْء وَاجِب عَليّ؟ كَمَا وَقع هَكَذَا فِي مُرْسل ابْن سِيرِين فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَشَيْء وَاجِب عَليّ؟ قَالَ: لَا.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ فَوَائِد الأولى: استشفاع الإِمَام والعالم والخليفة فِي حوائج الرّعية، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشفعوا تؤجروا وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ) ، والساعي فِيهِ مأجور وَإِن لم تنقض الْحَاجة. الثَّانِيَة: أَنه لَا حرج على الإِمَام وَالْحَاكِم إِذا ثَبت الْحق على أحد الْخَصْمَيْنِ إِذا سَأَلَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق أَن يسْأَل من الَّذِي ثَبت لَهُ تَأْخِير حَقه، أَو وَضعه عَنهُ. الثَّالِثَة: أَن من يسْأَل من الْأُمُور مِمَّا هُوَ غير واحب عَلَيْهِ فعله فَلهُ رد سائله وَترك قَضَاء حَاجته، وَإِن كَانَ الشَّفِيع سُلْطَانا أَو عَالما أَو شريفا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر على بَرِيرَة ردهَا إِيَّاه فِيمَا شفع فِيهِ. الرَّابِعَة: أَن بغض الرجل للرجل الْمُسلم لَا على وَجه الْعَدَاوَة لَهُ، وَلمن لاختيار الْبعد عَنهُ لسوء خلقه وخبث عشرته، أَو لأجل شَيْء يكرههُ النَّاس جَائِز كَمَا فِي قصَّة امْرَأَة ثَابت بن قيس بن شماس، فَإِنَّهَا بغضته مَعَ مكانته مَعَ الدّين وَالْفضل لغير بَأْس لأجل دمامته وَسُوء خلقه، حَتَّى افتدت مِنْهُ. الْخَامِسَة: أَنه لَا حرج على مُسلم فِي هوى امْرَأَة مسلمة وحبه لَهَا، ظهر ذَلِك أَو خَفِي، لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي ذَلِك؟ وَإِن أفرط مَا لم بَات محرما وَلم يغش إِثْمًا.
71 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب ذكره مُجَردا لِأَنَّهُ كالفصل لما قبله وَقد جرت عَادَته بذلك كَمَا يذكر الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ فصل، بعد ذكر لَفظه: كتاب أَو بَاب.
4825 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجاءِ أخبرنَا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ أنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فأبَى مَوَالِيها إلاّ أنْ يَشْتَرِطوا الْوَلاَءَ، فَذَكَرَتْ للِنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: اشتَرِيها وأعْتِقِيها فإنَّما الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ، وَأُتِيَ النبيُّ بِلَحْمِ فَقِيلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ هاذا مَا تُصُدِّقَ بِهِ علَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: هُو لَهَا صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيّةٌ.
مَا ذكر هَذَا هُنَا، لِأَنَّهُ من تعلقات قصَّة بَرِيرَة الَّتِي ذكرت مرَارًا عديدة. أخرجه عَن عبد الله بن رَجَاء ضد الْإِيَاس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ضد الْخَوْف، وَلَيْسَ كَذَلِك الغداني الْبَصْرِيّ، وروى مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة. . وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَالْأسود بن يزِيد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ غير مرّة.
قَوْله: (ومواليها) ، أَي: ملاكها الَّذين باعوها، قَالُوا: لَا نبيعها إلاّ بِشَرْط أَن يكونَ ولاؤها لنا.
حدّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ، وزَادَ: فَخُيِّرَتْ مِنْ زَوْجها.
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة وَلم يسق لَفظه لَكِن قَالَ: (وَزَاد فخيرت من زَوجهَا) وَقد أخرجه فِي الزَّكَاة بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلم يذكر هَذِه الزِّيَادَة. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر عَن آدم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، فَجعل هَذِه الزِّيَادَة من قَول إِبْرَاهِيم وَلَفظه فِي آخِره: قَالَ الحكم: قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانَ زَوجهَا حرا فخيرت من زَوجهَا، فَظهر أَن هَذِه الزِّيَادَة مدرجة، لم يذكرهَا فِي الزَّكَاة.
81 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { (2) وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن وَلأمة مؤمونة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم} )
قَالَ: فحجز النَّاس عَنْهُن حَتَّى نزلت الْآيَة الَّتِي بعْدهَا:؛ وَالْمُحصنَات الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} وَهَذَا الْمِقْدَار فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة إِلَى قَوْله: {وَلَو أَعجبتكُم} وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تَوْطِئَة للأحاديث الَّتِي ذكرهَا فِي هَذَا الْبَاب وَفِي الْبَابَيْنِ اللَّذين بعده، وَإِنَّمَا لم يُنَبه على الْمَقْصُود من إيرادها للِاخْتِلَاف الْقَائِم فِيهَا، وَقد أَخذ ابْن عمر بِعُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} حَتَّى كره نِكَاح(20/269)
أهل الْكتاب، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ بإيراد حَدِيثه فِي هَذَا الْبَاب: وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى اسْتثْنى من ذَلِك نسَاء أهل الْكتاب فخصت هَذِه الْآيَة بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَة، وَهِي قَوْله عز وَجل: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} (الْمَائِدَة: 5) وروى ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) فنكح النَّاس نسَاء أهل الْكتاب، ونكح جمَاعَة من الصَّحَابَة نسَاء نصرانيات، وَلم يرَوا بذلك بَأْسا، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَبِه جَاءَت الْآثَار، وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأهل الْعلم بعدهمْ: أَن نِكَاح الكتابيات حَلَال، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَعَامة الْعلمَاء، وَقَالَ غَيره: وَلَا يرْوى خلاف ذَلِك إلاَّ عَن ابْن عمر، فَإِنَّهُ شَذَّ عَن جمَاعَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلم يجز نِكَاح الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَخَالف ظَاهر قَوْله وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب وَلم يلْتَفت أحد من الْعلمَاء إِلَى قَوْله: (وَقد تزوج) عُثْمَان بن عَفَّان نائلة بنت الفرافضة الْكَلْبِيَّة، وَهِي نَصْرَانِيَّة تزَوجهَا على نِسَائِهِ، وَتزَوج طَلْحَة بن عبيد الله يَهُودِيَّة، وَتزَوج حُذَيْفَة يَهُودِيَّة وَعِنْده حرتان مسلمتان، وَعنهُ إِبَاحَة نِكَاح الْمَجُوسِيَّة، وَتَأَول قَوْله تَعَالَى: {وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة} (الْبَقَرَة: 122) على أَن هَذَا لَيْسَ بِلَفْظ التَّحْرِيم، وَقيل: بني على أَن لَهُم كتابا. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن الصَّلْت عَن شَقِيق بن سَلمَة، قَالَ: تزوج حُذَيْفَة يَهُودِيَّة، وَمن طَرِيق أُخْرَى: وَعِنْده عربيتان، فَكتب إِلَيْهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنه خل سَبِيلهَا. قلت: أرسل حُذَيْفَة إِلَيْهِ: أحرام هِيَ؟ فَكتب إِلَيْهِ عمر: لَا، وَلَكِن أَخَاف أَن يتواقع الْمُؤْمِنَات مِنْهُنَّ؟ يَعْنِي الزواني مِنْهُنَّ، وَقَالَ أَبُو عبيد: والمسلمون الْيَوْم على الرُّخْصَة فِي نسَاء أهل الْكتاب، ويرون أَن التَّحْلِيل نَاسخ للتَّحْرِيم، قلت: فَدلَّ هَذَا على أَن قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} (الْبَقَرَة: 122) مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} (الْمَائِدَة: 5) وروى أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن آيَة الْبَقَرَة مَنْسُوخَة بِآيَة الْمَائِدَة، وَقيل: المُرَاد بقوله: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} (الْبَقَرَة: 122) يَعْنِي من عَبدة الْأَوْثَان. وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) {وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات} (الْمَائِدَة: 5) قيل: الْحَرَائِر دون الْإِمَاء؟ وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالمحصنات العفائف عَن الزِّنَا، كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {محصنات غير مسافحات وَلَا متخذات أخدان} (النِّسَاء: 52) ثمَّ اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ أَنه: هَل يعم كل كِتَابِيَّة عفيفة سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة؟ فَقيل: الْحَرَائِر العفيفات، وَقيل: المُرَاد بِأَهْل الْكتاب هَهُنَا الْإسْرَائِيلِيات، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَقيل: المُرَاد بذلك الذميات دون الحربيات، وَالله أعلم.
5825 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا لَ يْثٌ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عمَرَ كانَ إذَا سئِلَ عنْ نِكاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيّةِ قَالَ: إنَّ الله حَرَّمَ المُشْرِكاتِ على المُؤْمِنِينَ، وَلَا أعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئاً أكْبَرَ مِنْ أنْ تَقُولَ المَرْأَةُ: رَبُّها عِيسَى، وهْوَ عبدٌ مِنْ عِبادِ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عمر قد عمل بِعُمُوم الْآيَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة وَلم يرهَا مَخْصُوصَة وَلَا مَنْسُوخَة.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أكبر) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالمثلثة، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا قَالَت النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن الله، وَالْيَهُود قَالُوا: عُزَيْر ابْن الله قَوْله: (وَهُوَ) أَي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عبد من عباد الله.
91 - (بابُ نِكاحِ مَنْ أسْلَمَ مِنَ المُشْرِكَاتِ وعِدَّتِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أسلم من المشركات وَبَيَان حم عدتهن؛ فَإِذا أسلمت المشركة وَهَاجَرت إِلَى الْمُسلمين فقد وَقعت الْفرْقَة بإسلامها بَينهَا وَبَين زَوجهَا الْكَافِر عِنْد جمَاعَة الْفُقَهَاء، وَوَجَب استبراؤها بِثَلَاث حيض ثمَّ تحل للأزواج، هَذَا قَول مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ: لَا عدَّة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا اسْتِبْرَاء رَحمهَا بِحَيْضَة، وَاحْتج بِأَن الْعدة إِنَّمَا تكون عَن طَلَاق، وإسلامها فسخ وَلَيْسَ بِطَلَاق.
6825 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسى أخبرنَا هِشامٌ عنِ ابنِ جُرَيجٍ، وَقَالَ عَطاءٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: كانَ المُشْرِكُونَ علَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمُؤْمِنِينَ: كانُوا مُشْرِكِي أهْلِ حَرْبٍ(20/270)
يُقاتِلُهُمْ ويَقاتِلُونَهُ، ومُشْرِكِي أهْلِ عَهْدٍ لَا يُقاتِلُهُمْ وَلَا يُقاتِلُونَهُ، وكانَ إِذا هاجَرَتِ امْرَأةٌ منْ أهْلِ الحَرْبِ لمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وتَطْهُرَ فَإِذا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكاحُ، فإنْ هاجَرَ زَوْجُها قبْلَ أنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إليْهِ، وإنْ هاجَرَ عبْدٌ مِنْهُمْ أوْ أمَةٌ فهُما حُرَّانِ ولَهما مَا لِلْمُهاجِرِينَ، ثمَّ ذكَرَ منْ أهْلِ العَهْدِ مثلَ حَدِيثِ مُجاهِدٍ، وإنْ هاجَرَ عبْدٌ أوْ أمَةٌ للْمُشْرِكِينَ أهْلِ العَهْدِ لمْ يُرَدُّوا ورُدَّتْ أثمانُهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد الْفراء الرَّازِيّ أَبُو إِسْحَاق يعرف بالصغير، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرحمان الْيَمَانِيّ قاضيها وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج قَوْله: (وَقَالَ عَطاء مَعْطُوف على شَيْء مَحْذُوف) ، كَأَنَّهُ كَانَ فِي جملَة أَحَادِيث حدث بهَا ابْن جريج عَن عَطاء، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. وَقَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي: هَذَا الحَدِيث فِي (تَفْسِير ابْن جريج) : عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس، وَكَانَ البُخَارِيّ ظَنّه عَطاء بن أبي رَبَاح، وَابْن جريج لم يسمع التَّفْسِير من عَطاء الْخُرَاسَانِي، بل إِنَّمَا أَخذ الْكتاب من ابْنه وَنظر فِيهِ، وَنبهَ على هَذِه الْعلَّة أَيْضا شيخ البُخَارِيّ عَليّ بن الْمَدِينِيّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُمْدَة فِي هَذَا الْفَنّ على مَا لَا يخفى. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الحَدِيث عِنْد ابْن جريج بالإسنادين لِأَن مثل ذَلِك لَا يخفى على البُخَارِيّ مَعَ تشدده فِي شَرط الا تصال.
قَوْله: (لم تخْطب) بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (مِنْهُم) ، أَي من أهل الْحَرْب. قَوْله: (وَلَهُمَا) أَي: للْعَبد والأمَة (مَا للمهاجرين) من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة فِي تَمام حُرْمَة الْإِسْلَام وَالْحريَّة. قَوْله: (ثمَّ ذكر) أَي: عَطاء. قَوْله: (من أهل الْعَهْد) أَي: من قصَّة أهل الْعَهْد (مثل حَدِيث مُجَاهِد) الَّذِي وَصفه بالمثلية، وَهُوَ مَا ذكره بعده من قَوْله: (وَإِن هَاجر عبد أَو أمة للْمُشْرِكين أهل الْعَهْد لم يردوا وَردت أثمانهم) وَهَذَا من بَاب فدَاء أسرى الْمُؤمنِينَ وَلم يجز تملكهم لانْتِفَاء عِلّة الاسترقاق الَّتِي هِيَ الْكفْر فيهم، وَقيل: يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ كلَاما آخر يتَعَلَّق بنساء أهل الْعَهْد، وَهُوَ أولى لِأَنَّهُ قسم الْمُشْركين على قسمَيْنِ من أهل حَرْب وَأهل عهد، وَذكر حكم نسَاء أهل الْحل وَالْحَرب، ثمَّ ذكر أرقاءهم فَكَأَنَّهُ أحَال حكم نسَاء أهل الْعَهْد على حَدِيث مُجَاهِد، ثمَّ عقبه بِذكر أرقائهم وَحَدِيث مُجَاهِد وَصله عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ فِي قَوْله: {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم} (الممتحنة: 11) أَي: إِن أصبْتُم مغنماً من قُرَيْش فأعطوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا عوضا.
7825 - حدّثنا وَقَالَ عَطَاءٌ عنِ ابنِ عبّاسٍ: كانَتْ قَرِيبَةُ بنْتُ أبي أُميةَ عنْدَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ فَطلّقهَا فَتَزوَّجَها مُعاوِيَةُ ابنُ أبي سُفْيانَ، وكانَتْ أُمُّ الحَكمِ ابْنَةُ أبِي سُفْيانَ تَحْتَ عِياضِ بنِ غَنْم الفِهْرِيِّ فطَلَّقها فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الله بنُ عُثْمانَ الثَّقَفِيُّ.
هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: عَن ابْن جريج، وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس بالتقدير الَّذِي مر ذكره هُنَاكَ.
قَوْله: (قريبَة) بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء مصغر قربَة كَذَا هُوَ فِي أَكثر النّسخ، وضبطها الْحَافِظ الدمياطي فتح الْقَاف وكسرا الرَّاء وَكَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي مضى فِي الشُّرُوط، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني وَهِي بنت أبي أُميَّة أُخْت أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، وَأَبُو أُميَّة ابْن الْمُغيرَة ابْن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم، وَاسم أبي أُميَّة حُذَيْفَة، وَقيل سُهَيْل، وَاسم أم سَلمَة: هِنْد، وَقَرِيبَة ذكرت فِي الصحابيات ذكرهَا الذَّهَبِيّ أَيْضا، وَكَانَت حَاضِرَة بِبِنَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أُخْتهَا، وَأم الحكم أسلمت يَوْم الْفَتْح وَكَانَت أُخْت أم حَبِيبَة وَمُعَاوِيَة لأبيهما، وَقَالَ أَبُو عمر: كَانَت فِي حِين نزُول: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} (الممتحنة: 01) تحتب عِيَاض بن غنم الفِهري فَطلقهَا حينئذٍ فَتَزَوجهَا عبد الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، وَهِي أم عبد الرَّحْمَن بن الحكم، وَقَالَ ابْن سعد: أمهَا هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة، وعياض ابْن غنم بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون، قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم خلافًا أَنه افْتتح عَامَّة بِلَاد الجزيرة والرقة وَصَالَحَهُ وُجُوه أَهلهَا، وَهُوَ أول من أجَاز الدَّرْب إِلَى الرّوم، وَكَانَ شريفاً فِي قومه، مَاتَ بِالشَّام سنة عشْرين وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة، وَعبد الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، بالثاء الْمُثَلَّثَة.(20/271)
02 - (بابٌ إِذا أسلْمَتِ المُشْرِكَةُ أوِ النَّصْرَانِيّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَو الحَرْبِيِّ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا إِذا أسلمت المشركة أَو النَّصْرَانِيَّة، واقتصاره على النَّصْرَانِيَّة لَيْسَ بِقَيْد لِأَن الْيَهُودِيَّة أَيْضا مثلهَا. وَلَو قَالَ: إِذا أسلمت المشركة أَو الذِّمِّيَّة لَكَانَ أحسن وأشمل، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا الَّذِي هُوَ الحكم لإشكاله. قَالَ بَعضهم: قلت: هَذَا غير موجه فَإِذا كَانَ مُشكلا فَمَا فَائِدَة وضع التَّرْجَمَة؟ بل جرت عَادَته على أَنه يذكر غَالب التراجم مُجَرّدَة عَن بَيَان الحكم فِيهَا اكْتِفَاء بِمَا يعلم الحكم من أَحَادِيث الْبَاب الَّتِي فِيهِ، وَحكم الْمَسْأَلَة الَّتِي وضعت التَّرْجَمَة لَهُ هُوَ أَن الْمَرْأَة إِذا أسلمت قبل زَوجهَا هَل تقع الْفرْقَة بَينهمَا بِمُجَرَّد إسْلَامهَا أَو يثبت لَهَا الْخِيَار أَو يُوقف فِي الْعدة؟ فَإِن أسلم اسْتمرّ النِّكَاح وإلاَّ وَقعت الْفرْقَة بَينهمَا.
وَفِيه اخْتِلَاف مَشْهُور. وَقَالَ ابْن بطال: الَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس وَعَطَاء إِن إِسْلَام النَّصْرَانِيَّة قبل زَوجهَا فاسخ لنكاحها لعُمُوم قَوْله عز وَجل: {لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} (الممتحنة: 01) فَلم يخص وَقت الْعدة من غَيرهَا، وروى مثله عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول طَاوُوس وَأبي ثَوْر. وَقَالَت طَائِفَة: إِذا أسلم فِي الْعدة تزَوجهَا، هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد. وَقَالَت طَائِفَة: إِذا عرض على زَوجهَا الْإِسْلَام فَإِن أسلم فهما على نِكَاحهمَا وَإِن أَبى أَن يسلم فرق بَينهمَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة إِذا كَانَا فِي دَار الْإِسْلَام، وَأما فِي دَار الْحَرْب فَإِذا أسلمت وَخرجت إِلَيْنَا بَانَتْ مِنْهُ بافتراق الدَّاريْنِ، وَفِيه قَول آخر يرْوى عَن عمر بن الْخطاب أَنه: خيَّر نَصْرَانِيَّة أسلمت وَزوجهَا نَصْرَانِيّ إِن شَاءَت فارقته وَإِن شَاءَت أَقَامَت مَعَه.
وَقَالَ عبْدُ الوَارِث: عنْ خالِدٍ عنْ عِكْرِمَةَ عَن ابنِ عَبّاسٍ: إِذا أسْلمَتِ النَّصْرَانِيّةُ قبْلَ زَوْجِها بِساعةٍ حَرُمَتْ علَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وتوضيح التَّرْجَمَة أَيْضا أوردهُ مُعَلّقا عَن عبد الْوَارِث بن سعيد التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ عَن خَالِد الْحذاء إِلَى آخِره، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَهُوَ عَام يَشْمَل الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا.
وَقَالَ داوُدُ: عنْ إبْرااهِيم الصَّائِغِ سُئِلَ عَطَاءٌ عنِ امْرَأةٍ منْ أهْلِ العَهْدِ أسْلَمتْ ثُمَّ أسْلَمَ زَوْجُها فِي العِدَّةِ أهِيَ امْرَأتُه؟ قَالَ: لَا، إلاَّ أنْ تَشاءَ هِيَ بِنكاحٍ جدِيد وصَدَاقِ.
أخرج هَذَا الْمُعَلق عَن دَاوُد ن أبي الْفُرَات واسْمه عَمْرو بن الْفُرَات عَن إِبْرَاهِيم بن مَيْمُون الصَّائِغ الْمروزِي، قتل سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (من أهل الْعَهْد) أَي: من أهل الذِّمَّة إِلَى آخِره. وَأخرج ابْن أبي شيبَة بِمَعْنَاهُ: عَن عبَادَة بن الْعَوام عَن حجاج عَن عَطاء فِي النَّصْرَانِيَّة تسلم تَحت زَوجهَا، قَالَ: يفرق بَينهمَا.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: إِذا أسْلَمَ فِي العِدَّةِ يتَزَوِّجُها.
أخرج هَذَا الْمُعَلق أَيْضا عَن مُجَاهِد: إِذا أسلم ذمِّي فِي عدَّة الْمَرْأَة صورته أسلمت امْرَأَته، ثمَّ أسلم هُوَ فِي عدتهَا لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: { (60) لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} (الممتحنة: 01) [/ ح.
أورد البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة للاستدلال بهَا فِي تَقْوِيَة قَول عَطاء الْمَذْكُور (الْآن) وَأَنه اخْتَار هَذَا القَوْل، وَهُوَ أَن النَّصْرَانِيَّة إِذا أسلمت ثمَّ أسلم زَوجهَا فِي الْعدة فَإِنَّهَا لَا تحل لَهُ إلاّ بِنِكَاح جَدِيد وصداق. فَإِن قلت: روى عَطاء فِي الْبَاب الَّذِي قبله عَن ابْن عَبَّاس أَن الْمَرْأَة إِذا هَاجَرت من أهل الْحَرْب لم تخْطب حَتَّى تحيض وتطهر، فَإِذا طهرت حل لَهَا النِّكَاح، فَإِن هَاجر زَوجهَا قبل أَن تنْكح ردَّتْ إِلَيْهِ. . الحَدِيث، فَبين قَوْله، وَرِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس تعَارض. قلت: أُجِيب بِأَن قَوْله: لم تخْطب حَتَّى تحيض وتطهر، يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ انْتِظَار إِسْلَام زَوجهَا مَا دَامَت هِيَ فِي عدتهَا، وَيحْتَمل أَيْضا أَن تَأْخِير الْخطْبَة إِنَّمَا هُوَ لكَون الْمُعْتَدَّة لَا تخْطب مَا دَامَت فِي الْعدة، فَإِذا حمل على الِاحْتِمَال الثَّانِي يَنْتَفِي التَّعَارُض.(20/272)
وَقَالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ فِي مَجُوسِيَّيْنِ أسْلمَا: هُما عَلى نِكاحِهما، وإذَا سَبَقَ أحَدُهُما صاحِبَهُ وأبَى الآخَرُ بانَتْ، لَا سَبِيلَ لهُ علَيْها.
أَي قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة ن دعامة. إِلَى آخِره، وَهُوَ ظَاهر، وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن كل مِنْهُمَا نَحوه.
وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: امْرَأةٌ منَ المُشرِكِينَ جاءَتْ إِلَى المُسْلِمِينَ، أيُعاوَضُ زَوْجُها مِنْها؟ لقَوْلِهِ تَعَالَى { (60) وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} (الممتحنة: 01) قَالَ: لَا! إنَّمَا كانَ ذَاكَ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبَيْنَ أهْلِ العَهْدِ.
أَي: قَالَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج إِلَى آخِره. . قَوْله: (أيعاوض) على صِيغَة الْمَجْهُول، من الْمُعَاوضَة، ويروى: أيعاض، من الْعِوَض أَرَادَ: هَل يعْطى زَوجهَا الْمُشرك عوض صَدَاقهَا؟ قَالَ عَطاء: لَا يعْطى لِأَن قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} إِنَّمَا كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينه وَبَين الْمُشْركين من أهل الْعَهْد، وَكَانَ الصُّلْح انْعَقَد بَينهم على ذَلِك، وَأما الْيَوْم فَلَا. وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء ... إِلَى آخِره نَحوه.
وَقَالَ مُجاهدٌ: هَذَا كُلهُ فِي صُلْحِ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبَيْنَ قُرَيْشٍ.
أَشَارَ بقوله هَذَا إِلَى إِعْطَاء الْمَرْأَة الَّتِي جَاءَت إِلَى الْمُسلمين زَوجهَا الْمُشرك عوض صَدَاقهَا. ويوضح هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {واسألوا مَا أنفقتم وليسألوا مَا أَنْفقُوا} (الممتحنة: 01) قَالَ: من ذهب من أَزوَاج الْمُسلمين إِلَى الْكفَّار فليعطهم الْكفَّار صدقاتهن وليمسكوهن، وَمن ذهب من أَزوَاج الْكفَّار إِلَى أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك، هَذَا كُله فِي صلح كَانَ بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين قُرَيْش.
8825 - حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدثَنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عَن ابنِ شِهابٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ: حدّثني ابنُ وهْبٍ حَدثنِي يُونسُ قَالَ ابنُ شهَاب: أخْبرِني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قالَتْ: كانَتِ المُؤْمِناتُ إذَا هاجَرْنَ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمْتَحِنُهُنَّ بقَوْلِ الله تَعَالَى: { (60) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم. . فامتحنوهن} (الممتحنة: 01) إِلَى آخرِ الآيةِ. قالَتْ عائِشَةُ: فَمنْ أقَرَّ بهاذا الشَّرْطِ من المُؤْمِناتِ فقَدْ أقَرَّ بالْمِحْنَةِ، فكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إذَا أقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قوْلهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: انْطَلِقْنَ فقَدْ بايَعْتُكُنَّ لَا وَالله مَا مَسَّتْ يَدُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. يَدَ امْرَأةٍ قَطُّ غيْرَ أنّهُ بايَعَهُنَّ بالكَلاَمِ، وَالله مَا أخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على النِّساءِ إلاّ بمَا أمَرَهُ الله يقُولُ لهُنَّ إذَا أخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بايَعْتُكُنَّ كَلاَماً.
ابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن لَهُ تعلقاً بِأَصْل الْمَسْأَلَة الَّذِي تضمنتها التَّرْجَمَة وَلَا يلْزم التنقير فِي وَجه الْمُطَابقَة، بل الْوَجْه الْيَسِير كافٍ فَافْهَم.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا مَوْصُول: عَن يحيى بن بكير وَهُوَ يحيى بن عبد الله ابْن بكير المَخْزُومِي الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ عَن عقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأمَوِي الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ. وَالْآخر مُعَلّق: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الله الْمَدِينِيّ عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب فرواية الْمَوْصُول تقدّمت فِي أول الشُّرُوط فِيمَا مضى، والمعَلق وَصله ابْن مَسْعُود عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر.
قَوْله: (إِذا هَاجَرْنَ) أَي: من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة قبل عَام الْفَتْح. قَوْله: (يمتحنهن) أَي: يختبرهن فِيمَا يتَعَلَّق بِالْإِيمَان فِيمَا يرجع إِلَى ظَاهر الْحَال دون الإطلاع على مَا فِي الْقُلُوب، وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: {الله اعْلَم بإيمانهن} (الممتحنة: 01) قَوْله: (وَالْمُؤْمِنَات) سماهن مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بِكَلِمَة الشَّهَادَة. وَلم يظْهر مِنْهُنَّ مَا ينافى ذَلِك قَوْله: (مهاجرات) نصب على الْحَال جمع مهاجرة(20/273)
أَي: حَال كونهن مهاجرات من دَار الْكفْر إِلَى دَار الْإِسْلَام. قَوْله تَعَالَى: {فامتحنوهن} (الممتحنة: 01) أَي: فابتلوهن بِالْحلف وَالنَّظَر فِي الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن. وَعَن ابْن عَبَّاس: معنى امتحانهن أَن يستحلفن مَا خرجن من بغض زوج، وَمَا خرجن رَغْبَة من أَرض إِلَى أَرض، وَمَا خرجن لالتماس دنيا، وَمَا خرجن إلاَّ حبًّا لله وَرَسُوله. قَوْله: (الله أعلم بإيمانهن) يَعْنِي: أعلم مِنْكُم لأنكم لَا تكسبون فِيهِ علما تطمئِن مَعَه نفوسكم وَإِن استحلفتموهن. وَعند الله حَقِيقَة الْعلم بِهِ، فَإِن علمتموهن مؤمنات الْعلم الَّذِي تبلغه طاقتكم، وَهُوَ الظَّن الْغَالِب بِالْحلف وَظُهُور الأمارات، فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار يَعْنِي: لَا تردوهن إِلَى أَزوَاجهنَّ الْكفَّار، لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لهنَّ لِأَنَّهُ أَي: لَا حل بَين المؤمنة والمشرك، وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا مثل مَا دفعُوا إلَيْهِنَّ من الْمهْر. وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ أَي: مهورهن، وَإِن كَانَ لَهُنَّ أَزوَاج كفار فِي دَار الْحَرْب لِأَنَّهُ فرق الْإِسْلَام بَينهم. قَوْله: (وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر) (الممتحنة: 01) قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تَأْخُذُوا بِعقد الكوافر، فَمن كَانَت لَهُ امْرَأَة كَافِرَة بِمَكَّة فَلَا يعتدن بهَا فقد انْقَطَعت عصمتها مِنْهُ وَلَيْسَت لَهُ بِامْرَأَة، وَإِن جَاءَت امْرَأَة من أهل مَكَّة وَلها بهَا زوج فَلَا تعتدن بِهِ فقد انْقَطَعت عصمته مِنْهَا، والعصم جمع عصمَة وَهِي مَا يعتصم بِهِ من عقد. قَوْله: (واسألوا مَا أنفقتم) أَي: أسالوا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين ذهبت أَزوَاجهم فلحقن بالمشركين مَا أنفقتم عَلَيْهِنَّ من الصَدَاق من يزوجهن مِنْهُم. قَوْله: (وليسألوا) يَعْنِي الْمُشْركين الَّذين لحقت أَزوَاجهم بكم مؤمنات إِذا تزوجهن فِيكُم من يَتَزَوَّجهَا مِنْكُم مَا أَنْفقُوا، أَي: أَزوَاجهنَّ الْمُشْركُونَ من الْمهْر. قَوْله: (ذَلِكُم) إِشَارَة إِلَى جَمِيع مَا ذكر فِي هَذِه الْآيَة، حكم الله يحكم بَيْنكُم كَلَام مُسْتَأْنف، وَقيل: حَال من حكم الله على حذف الضَّمِير أَي: يحكمه الله بَيْنكُم وَالله عليم بِجَمِيعِ أحوالكم، حَكِيم يضع الْأَشْيَاء فِي محلهَا، وَإِنَّمَا فسرت هَذِه الْآيَة بكمالها لِأَنَّهُ قَالَ: (فامتحنوهن. .) الْآيَة. قَوْله: (قَالَت عَائِشَة) مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَمن أقرّ بِهَذَا الشَّرْط) وَهُوَ أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين. قَوْله: (فقد أقرّ بالمحنة) أَي: بالامتحان، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا المُرَاد بِالْإِقْرَارِ بالمحنة؟ فَأجَاب بقوله: من أقرّ بِعَدَمِ الْإِشْرَاك وَنَحْوه فقد أقرّ بِوُقُوع المحنة وَلم يحوجه فِي وُقُوعهَا إِلَى الْمُبَايعَة بِالْيَدِ وَنَحْوهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَقِيَّة الرِّوَايَة: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا التزمن هَذِه الْأُمُور كَانَ يَقُول: انطلقن، يَعْنِي: فقد حصل الامتحان. قَوْله: (انطلقن فقد بايعتكن) بيّنت هَذَا بعد ذَلِك بقولِهَا فِي آخر الحَدِيث: فقد بايعتكن كلَاما، أَي: بقوله، وَوَقع فِي رِوَايَة عقيل: كلَاما مَا يكلمها بِهِ وَلَا يُبَايع بِضَرْب الْيَد على الْيَد كَمَا كَانَ يُبَايع الرِّجَال، وأوضحت ذَلِك بقولِهَا: لَا وَالله مَا مست يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. وَفِي رِوَايَة عقيل فِي الْمُبَايعَة: غير أَنه بايعهن بالْكلَام.
12 - (بابُ قوْلِ الله تَعَالَى: { (2) للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} إِلَى قَوْله: { (2) سميع عليم} (الْبَقَرَة: 622 722)
وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة من لفظ: بَاب إِلَى (سميع عليم) وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين إِلَى قَوْله: (تربص أَرْبَعَة أشهر) وَفِي بعض النّسخ: بَاب الْإِيلَاء وَقَوله تَعَالَى: {للَّذين يؤلون} الْآيَة. الْإِيلَاء فِي اللُّغَة الْحلف، يُقَال: آلى يولي إِيلَاء: حلف قَوْله: (تربص أَرْبَعَة أشهر) مُبْتَدأ وَقَوله: (للَّذين يؤلون) خَبره أَي: للَّذين يحلفُونَ على ترك الْجِمَاع من نِسَائِهِم تربص أَي: انْتِظَار (أَرْبَعَة أشهر) من حِين الْحلف ثمَّ يُوقف وَيُطَالب بالفيئة أَو الطَّلَاق، وَلِهَذَا قَالَ: (فَإِن فاؤا) أَي رجعُوا (إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ) وَهُوَ كِنَايَة عَن الْجِمَاع، قَالَه ابْن عَبَّاس ومسروق وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَغير وَاحِد، مِنْهُم ابْن جرير {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} (الْبَقَرَة: 622) أَي: لما سلف من التَّقْصِير فِي حقهن بِسَبَب الْيَمين، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن فاؤا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} (الْبَقَرَة: 622) دلَالَة لأحد قولي الْعلمَاء، وَهُوَ القَوْل الْقَدِيم للشَّافِعِيّ: إِن الْمولي إِذا فَاء بعد الْأَرْبَعَة أشهر أَنه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، وَفِي التَّفْسِير: فَإِن فاؤا أَي: فِي الْأَشْهر، بِدَلِيل قِرَاءَة عبد الله فَإِن فاؤا فيهنّ.
وَاعْلَم أَن الْكَلَام هَهُنَا فِي مَوَاضِع.
الأول: الْإِيلَاء الْمَذْكُور فِي قَوْله: {للَّذين يؤلون} مَا هُوَ؟ هُوَ الْحلف على ترك قرْبَان امْرَأَته أَي: وَطئهَا أَرْبَعَة أشهر وَأكْثر مِنْهَا، كَقَوْلِه لامْرَأَته: وَالله لَا أقْربك أَرْبَعَة أشهر، أَو: لَا أقْربك، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، ويروى عَن عَطاء، قَالَ ابْن الْمُنْذر: أَكثر أهل الْعلم قَالُوا: لَا يكون الْإِيلَاء أقل من أَرْبَعَة أشهر، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ إِيلَاء أهل الْجَاهِلِيَّة السّنة والسنتين وَأكْثر، فوقت لَهُم أَرْبَعَة أشهر، فَمن كَانَ إيلاؤه أقل من أَرْبَعَة أشهر فَلَيْسَ بإيلاء قَالَت طَائِفَة: إِذا حلف لَا يقرب امْرَأَته يَوْمًا أَو أقل أَو أَكثر ثمَّ لم يَطَأهَا أَرْبَعَة أشهر بَانَتْ مِنْهُ بالايلاء، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن مَسْعُود(20/274)
وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْحكم، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: الْإِيلَاء أَن يحلف أَن لَا يطَأ امْرَأَته أَكثر من أَرْبَعَة أشهر، فَإِن حلف على أَرْبَعَة أشهر، أَو: فَمَا دونهَا لم يكن موليا، وَهَذَا عِنْدهم يَمِين مخفي لَو وطىء فِي هَذَا الْيَمين حنث وَلَزِمتهُ الْكَفَّارَة، وَإِن لم يطَأ حَتَّى انْقَضتْ الْمدَّة لم يكن عَلَيْهِ شَيْء كَسَائِر الْأَيْمَان. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس لَا يكون موليا حَتَّى يحلف أَن لَا يَطَأهَا أبدا.
الْموضع الثَّانِي: فِي حكم الْإِيلَاء: وَهُوَ أَنه أَن وَطئهَا فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهر كفر لِأَنَّهُ حنث فِي يَمِينه وَإِن لم يَطَأهَا حَتَّى مَضَت أَرْبَعَة أشهر بَانَتْ الْمَرْأَة مِنْهُ بتطليقة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم، وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين ومسروق وَالْقَاضِي وَالقَاسِم وَسَالم وَالْحسن وَقَتَادَة وَشُرَيْح القَاضِي وَقبيصَة بن ذُؤَيْب وَالْحسن بن صَالح، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَعند سعيد بن الْمسيب وَمَكْحُول وَرَبِيعَة وَالزهْرِيّ ومروان بن الحكم: يَقع تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة. وَذكر البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: أَن الْمولى يُوقف حَتَّى يُطلق، وَقَالَ مَالك: كَذَلِك الْأَمر عندنَا، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، فَإِن طلق فَهِيَ وَاحِدَة رَجْعِيَّة، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: لَا تصح رجعته حَتَّى يطَأ فِي الْعدة، وَلَا يعلم أحد قَالَه غَيره.
والموضع الثَّالِث: فِي أَن الْإِيلَاء لَا يَصح إِلَّا باسم الله تَعَالَى. أَو بِشَيْء يتَحَقَّق بِهِ الْيَمين، كَمَا لَو حلف بِحَجّ بِأَن قَالَ: إِن قربتك فَللَّه عَليّ حجَّة، أَو بِصَوْم بِأَن قَالَ: إِن قربتك فَللَّه عَليّ صَوْم شهر، أَو صَدَقَة بِأَن قَالَ: إِن قربتك فَللَّه عَليّ أَن أَتصدق بِمِائَة دِرْهَم مثلا، أَو عتق بِأَن قَالَ: إِن قربتك فَللَّه عَليّ عتق رقبةٍ أَو فَعَبْدي حر فَهُوَ مولٍ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، بِخِلَاف الْحلف بِالصَّلَاةِ أَو الْغَزْو. وَعند مُحَمَّد يكون موليا فيهمَا أَيْضا لِأَنَّهُ قربَة وَهُوَ قَول أبي يُوسُف أَولا. وَفِي عتق العَبْد الْمعِين خلاف لأبي يُوسُف، وَقَالَ ابْن حزم: وَمن حلف فِي ذَلِك بِطَلَاق أَو عتق أَو صَوْم أَو صَدَقَة أَو مشي أَو غير ذَلِك فَلَيْسَ بمول، وَعَلِيهِ الْأَدَب. وَفِي (الرَّوْضَة) للشَّافِعِيَّة: هَل يخْتَص الْإِيلَاء بِالْيَمِينِ بِاللَّه وَصِفَاته؟ فِيهِ قَولَانِ: الْقَدِيم: نعم، والجديد الْأَظْهر: لَا، بل إِذا قَالَ: إِن وَطئتك فعلي صَوْم أَو صَلَاة أَو حج أَو فَعَبْدي حر أَو فَأَنت طَالِق أَو فضرتك طَالِق أَو نَحْو ذَلِك كَانَ موليا وَفِي (الْجَوَاهِر) للمالكية: الْمَحْلُوف بِهِ هُوَ الله تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته النفسية المعنوية أَو مَا فِيهِ الْتِزَام من عتق أَو طَلَاق أَو لُزُوم صَدَقَة أَو صَوْم أَو نَحوه على بِالْوَطْءِ كل ذَلِك إِيلَاء. وَفِي (الْحَاوِي) فِي فقه أَحْمد: الْإِيلَاء بحلفه بِاللَّه أَو باسمه أَو بِصفتِهِ، فَإِن حلف بِعِتْق أَو طَلَاق أَو نذر أَو ظِهَار أَو تَحْرِيم مُبَاح، أَو يَمِين أُخْرَى فروايتان، وَعنهُ: لَا ينْعَقد بِغَيْر يَمِين مكفرة.
الْموضع الرَّابِع: أَن إِيلَاء الذِّمِّيّ مُنْعَقد عِنْد أبي حنيفَة، خلافًا لَهما ولمالك، وَبقول أبي حنيفَة قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَفِي (الرَّوْضَة) : سَوَاء فِي صِحَة الْإِيلَاء العَبْد وَالْأمة وَالْكَافِر وأضدادهم وَلَا ينْحل الْإِيلَاء بِإِسْلَام الْكَافِر، وَإِذا ترافع إِلَيْنَا ذميان وَقد آلى، أَوجَبْنَا الحكم، وَإِن لم نوجبه لم يجْبر الْحَاكِم الزَّوْج على الْفَيْئَة وَلَا الطَّلَاق، وَلَا يُطلق عَلَيْهِ، بل لَا بُد من رِضَاهُ. وَقَالَ أَحْمد فِيمَا حكى عَنهُ الْخلال فِي (علله) يرْوى عَن الزُّهْرِيّ أَنه كَانَ يَقُول: إِيلَاء العَبْد شَهْرَان، وَقَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ عَن عَطاء أَنه قَالَ: لَا إِيلَاء للْعَبد دون سَيّده وَهُوَ شَهْرَان، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وإساق، وَقَالَت طَائِفَة: الحكم فِي ذَلِك للنِّسَاء، فَإِن كَانَت أمة فلزوجها الْحر وَالْعَبْد عَلَيْهَا شَهْرَان، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم وَقَتَادَة وَالْحسن وَالْحكم وَالشعْبِيّ وَالضَّحَّاك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَقَالَت طَائِفَة: إِيلَاء الْحر وَالْعَبْد من الزَّوْجَة الْحرَّة وَالْأمة سَوَاء، وَهُوَ أَرْبَعَة أشهر، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَأبي ثَوْر وَأبي سُلَيْمَان وأصحابهم.
الْموضع الْخَامِس: أَنَّهَا تَعْتَد بثلااث حيض، قَالَه مَسْرُوق وَشُرَيْح وَعَطَاء قَالَ ابْن عبد الْبر: كل الْفُقَهَاء فِيمَا علمت يَقُولُونَ: إِنَّهَا تَعْتَد بعد الطَّلَاق عدَّة الْمُطلقَة إلاَّ جَابر بن زيد فَإِنَّهُ يَقُول: لَا تَعْتَد، يَعْنِي: إِذا، كَانَت حَاضَت ثَلَاث حيض فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهر، وَقَالَ بقوله طَائِفَة، وَكَانَ الشَّافِعِي يَقُول بِهِ فِي الْقَدِيم ثمَّ رَجَعَ عَنهُ، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
الْموضع السَّادِس: فِي حكم الْفَيْء للعاجز، قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِن عجز الْمولي عَن وَطئهَا بِسَبَب مَرضه أَو مَرضهَا أَو بِسَبَب الرتق، وَهُوَ انسداد فَم الرَّحِم بلحمة أَو عَظمَة أَو نَحْوهمَا، أَو بِسَبَب الصَّفْرَاء أَو لبعد مَسَافَة بَينهمَا ففيؤه أَن يَقُول: فئت إِلَيْهَا بِشَرْط أَن يكون عَاجِزا من وَقت الْإِيلَاء إِلَى أَن تمْضِي أَرْبَعَة أشهر، حَتَّى لَو آلى مِنْهَا وَهُوَ قَادر ثمَّ عجز عَن الْوَطْء بعد ذَلِك لمَرض أَو بعد مَسَافَة أَو حبس أَو أسر أَو جب أَو نَحْو ذَلِك، أَو كَانَ عَاجِزا حِين آلى وَزَالَ الْعَجز فِي الْمدَّة لم يَصح فيؤه بِاللِّسَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يَصح الْفَيْء بِاللِّسَانِ أصلا، وَإِلَيْهِ ذهب الطَّحَاوِيّ وَأحمد، وتحرير مَذْهَب(20/275)
الشَّافِعِي مَا ذكره فِي (الرَّوْضَة) إِذا وجد مَانع من الْجِمَاع بعد مُضِيّ الْمدَّة المحسوبة نظر أهوَ فِيهَا أم فِي الزَّوْج؟ . فَإِن كَانَ فِيهَا بِأَن كَانَت مَرِيضَة لَا يُمكن وَطْؤُهَا أَو محبوسة لَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهَا، أَو حَائِضًا أَو نفسَاء أَو مُحرمَة أَو صَائِمَة أَو معتكفة لم يثبت لَهَا الْفَيْئَة بالمطالبة لَا فعلا وَلَا قولا، وَإِن كَانَ الْمَانِع فِيهِ فَهُوَ طبيعي وشرعي، فالطبيعي: أَن يكون مَرِيضا لَا يقدر على الْوَطْء أَو يخَاف مِنْهُ زِيَادَة الْعلَّة أَو بطء الْبُرْء فَيُطَالب بالفيئة بِاللِّسَانِ أَو بِالطَّلَاق إِن لم يَفِ، والفيئة بِاللِّسَانِ أَن يَقُول: إِذا قدرت فئت، وَاعْتبر الشَّيْخ أَبُو حَامِد أَن يَقُول مَعَ ذَلِك: نَدِمت على مَا فعلت، وَإِن كَانَ مجوساً ظلما فكالمريض، وَإِن حبس فِي دين يقدر على وفائه أَمر بِالْأَدَاءِ والفيئة بِالْوَطْءِ أَو الطَّلَاق، وَأما الشَّرْعِيّ: فكالصوم وَالْإِحْرَام وَالظِّهَار قبل التَّكْفِير فَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: وَهُوَ الْأَصَح: يُطَالب بِالطَّلَاق، وَالْآخر: يقنع مِنْهُ بفيئة اللِّسَان. وَمذهب أَحْمد إِن كَانَ الْعذر بِالرجلِ طَويلا أَو عجز عَن الْوَطْء شرعا أَو حسا فَاء نطقاً، وَإِن كَانَ مُظَاهرا لم يطَأ حَتَّى يكفر. وَمذهب مَالك: لَا مُطَالبَة للمريضة الَّتِي لَا تتحمل الْجِمَاع وَلَا للرتقاء وَلَا للحائض حَالَة الْحيض، وَإِن كَانَ للرجل مَانع طبيعي كالمرض فلهَا مُطَالبَته بالوعد والفيئة بِاللِّسَانِ وتكفير الْيَمين، وَإِن كَانَ شَرْعِيًّا كالظهار وَالصَّوْم وَالْإِحْرَام فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالبَة، وَعَلِيهِ أَن يُطلق إلاّ أَن يقْضِي بِالْوَطْءِ. وَقيل: لَا يَصح بِالْوَطْءِ الْمحرم، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِذا آلى وَهِي صَغِيرَة لَا يُجَامع مثلهَا لم يكن موليا حَتَّى تبلغ الْوَطْء، ثمَّ يُوقف بعد مُضِيّ أَرْبَعَة أشهر مُنْذُ بلغت الْوَطْء، قَالَ: وَلَا يُوقف الْخصي بل إِنَّمَا يُوقف من قدر على الْجِمَاع. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا لم يبْق للخصي مَا ينَال بِهِ من الْمَرْأَة مَا يَنَالهُ الصَّحِيح بمغيب الْحَشَفَة فَهُوَ كالمجبوب فَاء بِلِسَانِهِ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: لَا إِيلَاء على مجبوب، وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: وَلَو كَانَ أَحدهمَا محرما بِالْحَجِّ وَبَينه وَبَين وَقت الْحَج أَرْبَعَة أشهر لم يكن فيئه إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَكَذَا الْمَحْبُوس، وَقَالَ زفر: فيئه بالْقَوْل، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا آلى وَهِي بكر وَقَالَ: لَا أقدر على افتضاضها أُجِّل أجَل العنِّين.
فإنْ فاؤُا رجَعُوا.
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى: فاؤا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن فاؤا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} (الْبَقَرَة: 622) رجعُوا عَن الْيَمين، هَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة فِي هَذِه الْآيَة، يُقَال: فَاء يفِيء فَيْئا وَأخرج الطَّبَرِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: الْفَيْء الرُّجُوع بِاللِّسَانِ، وَمثله عَن أبي قلَابَة، وَعَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعِكْرِمَة: الْفَيْء الرُّجُوع بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان لمن بِهِ مَانع عَن الْجِمَاع، وَفِي غَيره بِالْجِمَاعِ.
9825 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسِ عنْ أَخِيه عنْ سُلَيْمان عنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ أنّهُ سَمِعَ أنسَ بنَ مالِكٍ يقُولُ: آلَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ نِسائهِ وكانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فأقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعاً وعِشرِينَ ثُمَّ نَزَلَ، فَقالوا: يَا رسولَ الله! آلَيْتَ شَهْراً، فَقَالَ: الشّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ.
ل: لَا وَجه لإيراد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لِأَن الْإِيلَاء الْمَعْقُود لَهُ الْبَاب حرَام يَأْثَم بِهِ من علم بِحَالهِ، فَلَا يجوز نسبته إِلَى النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى. قلت: يرد مَا قَالَه مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا الْحسن بن قزعة الْبَصْرِيّ حَدثنَا مُسلم بن عَلْقَمَة حَدثنَا دَاوُد عَن عَامر عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَت: آلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نِسَائِهِ وَحرم، فَجعل الْحَرَام حَلَالا وَجعل فِي الْيَمين كَفَّارَة. انْتهى. قلت: فسر شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله قَوْله: وحرَم فَجعل الْحَرَام حَلَالا، لَيْسَ قَوْله: فَجعل، بَيَانا للتَّحْرِيم فِي قَوْله: وَحرم، وَلَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ: فَجعل الْحَلَال حَرَامًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان لما جعله الله فِيمَن حرم حَلَالا، وعَلى هَذَا فإمَّا أَن يكون فَاعل حرم هُوَ الله تَعَالَى، أَو يكون فَاعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ الَّذِي بَين الحكم عَن الله تَعَالَى. قلت: فِيهِ نظر قوي الأن قَوْله: وَحرم. عطف على قَوْله آلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف يكون فَاعله هُوَ الله تَعَالَى؟ لِأَن فِيهِ انفكاك الضَّمِير فَلَا يجوز، ظَاهر الْمَعْنى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم ثمَّ جعل ذَلِك الْحَرَام الَّذِي كَانَ فِي الأَصْل مُبَاحا حَلَالا، وَلِهَذَا قَالَ: وَجعل فِي الْيَمين كَفَّارَة، لِأَن تَحْرِيم الْمُبَاح يَمِين فَفِيهِ الْكَفَّارَة، وَالَّذِي يُقَال هُنَا إِن المُرَاد بالإيلاء الْمَذْكُور فِي الْآيَة الْإِيلَاء الشَّرْعِيّ وَهُوَ الْحلف على ترك قرْبَان امْرَأَته أَرْبَعَة أشهر أَو أَكثر، كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب، وَالْإِيلَاء الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب الْإِيلَاء اللّغَوِيّ وَهُوَ الْحلف، فَالْمَعْنى(20/276)
اللّغَوِيّ لَا يَنْفَكّ عَن الْمَعْنى الشَّرْعِيّ، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تُوجد الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث، وَأدنى الْمُطَابقَة كافٍ فَافْهَم.
وَإِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَأَبُو أويس اسْمه عبد الله، وَأَخُوهُ عبد الحميد، وسلميان هُوَ ابْن هِلَال.
والْحَدِيث قد مر فِي الصَّوْم عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَسَيَجِيءُ فِي النّذر عَنهُ أَيْضا. وَفِي النِّكَاح عَن خَالِد بن مخلد. وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (مشربَة) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَضمّهَا وبالباء الْمُوَحدَة: وَهِي الغرفة. قَوْله: (الشَّهْر) أَي: ذَلِك الشَّهْر الْمَعْهُود (تسع وَعِشْرُونَ يَوْمًا) أَرَادَ أَنه كَانَ نَاقِصا.
0925 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا اللّيْثُ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ، رضِي الله عَنْهُمَا، كانَ يقُولُ، فِي الإيلاَءِ الّذي سَمَّى الله تَعَالَى: لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدَ الأجَلِ إلاّ أنْ يُمْسِكَ بالمَعْرُوفِ أوْ يَعْزِمَ بالطّلاَقِ كَمَا أمَرَ الله عَزَّ وجَلَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة هَذَا وَمَا بعده إِلَى آخر الْبَاب لم يثبت فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَثَبت فِي رِوَايَة البَاقِينَ، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث جمَاعَة مِنْهُم الشَّافِعِي، وَقَالُوا: إِن الْمدَّة إِذا انْقَضتْ يُخَيّر الْحَالِف إِمَّا أَن يفِيء وَإِمَّا أَن يُطلق، وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: إِن فَاء بِالْجِمَاعِ قبل انْقِضَاء الْمدَّة استمرت الْعِصْمَة، وَإِن مَضَت الْمدَّة وَقع الطَّلَاق بِنَفس مُضِيّ الْمدَّة، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا معمر عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن: أَن عُثْمَان بن عَفَّان وَزيد بن ثَابت رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَا يَقُولَانِ فِي الْإِيلَاء: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة وَاحِدَة، وَهِي أَحَق بِنَفسِهَا، وَتعْتَد عدَّة الْمُطلقَة، وَقَالَ: أخبرنَا معمر عَن قَتَادَة أَن عليا وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالُوا: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة، وَهِي أَحَق بِنَفسِهَا وَتعْتَد عدَّة الْمُطلقَة، فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن عَليّ خلاف هَذَا مَالك عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول: إِذا آلى الرجل من امْرَأَته لم يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق، فَإِن مَضَت الْأَرْبَعَة أشهر يُوقف حَتَّى يُطلق أَو يفِيء. قلت: هَذَا ابْن عمر أَيْضا رُوِيَ عَنهُ خلاف مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن حبيب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر قَالَا: إِذا آلى فَلم يفيءْ حَتَّى مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة.
1925 - حدّثنا وَقَالَ لِي إسْماعِيلُ: حدّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ: إذَا مَضَتْ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ يُوقَفُ حَتّى يُطَلِّقَ وَلَا يَقعُ علَيْهِ الطَّلاَقُ حَتى يُطَلِّقَ.
إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس الْمَذْكُور آنِفا. ويروى: قَالَ إِسْمَاعِيل، بِدُونِ لَفْظَة: لي، وَبِه جزمت جمَاعَة، فَيكون تَعْلِيقا والعمدة على الأول وَهُوَ أَيْضا رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره، وَإِنَّمَا لم يقل حَدثنِي إشعاراً بِالْفرقِ بَين مَا يكون على سَبِيل التحديث وَمَا يكون على سَبِيل المحاورة، والمذاكرة، وَقد ذكرنَا الْآن فِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة خلاف هَذَا عَن ابْن عمر.
ويُذْكَرُ ذالِكَ عنْ عُثْمانَ وعلِيٍّ وَأبي الدَّرْدَاءِ وعائِشَةَ واثْنَىْ عشَرَ رجُلاً منْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذَلِك إِشَارَة إِلَى الإيقاف الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (يُوقف حَتَّى تطلق) أَي: يحبس وَلَا يَقع الطَّلَاق بِنَفسِهِ بعد انْقِضَاء الْمدَّة والامتناع من الْفَيْء. قَوْله: (يذكر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول لأجل التمريض، أما الَّذِي ذكره ممرضاً عَن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن علية عَن مسعر عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن طَاوُوس عَن عُثْمَان قَالَ أَبُو حَاتِم: طَاوُوس أدْرك زمن عُثْمَان؟ قلت: روى عَن عُثْمَان خلاف هَذَا، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن عبد الرَّزَّاق آنِفا. وَقَول أبي حَاتِم: طَاوُوس أدْرك زمن عُثْمَان، لَا يسْتَلْزم سَمَاعه عَنهُ، وَأما أثر عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن الشَّيْبَانِيّ عَن بكير ابْن الْأَخْفَش عَن مُجَاهِد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَنهُ. قلت: قد ذكرنَا فِي رِوَايَة عَن عبد الرَّزَّاق عَن عَليّ خلاف هَذَا، وَأما أثر أبي الدَّرْدَاء فَرَوَاهُ أَيْضا ابْن أبي شيبَة عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن أبان الْعَطَّار عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب عَنهُ أَنه قَالَ: يُوقف فِي الإيلاه عِنْد انْقِضَاء الْأَرْبَعَة، فإمَّا أَن يُطلق وَإِمَّا أَن يفِيء. قلت: فِي سَماع سعيد بن الْمسيب عَن أبي الدَّرْدَاء نظر، وَأما أثر عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِسَنَد صَحِيح عَنْهَا بِلَفْظ: أَنَّهَا كَانَت لَا ترى الْإِيلَاء حَتَّى يُوقف،(20/277)
وَأما الرِّوَايَة بذلك عَن اثْنَي عشر رجلا من الصَّحَابَة فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ) من طَرِيق عبد ربه بن سعيد بن ثَابت بن عبيد مولى زيد بن ثَابت عَن اثْنَي عشر رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالُوا: الْإِيلَاء لَا يكون طَلَاقا حَتَّى يُوقف، وَأخرجه الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من هَذَا الْوَجْه فَقَالَ: بضعَة عشر. وَأخرج إِسْمَاعِيل القَاضِي من طَرِيق يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ: أدْركْت بضعَة عشر رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا: الْإِيلَاء لَا يكون طَلَاقا حَتَّى يُوقف. وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه أَنه قَالَ: سَأَلت اثْنَي عشر رجلا من الصَّحَابَة عَن الرجل يولي. فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء حَتَّى تمْضِي أَرْبَعَة أشهر فَيُوقف، فَإِن فَاء لَا طَلَاق. قلت: قد جَاءَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مُعينين بِخِلَاف ذَلِك. وَهُوَ أقوى من الذّكر بالإجمال وهم: عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَزيد بن ثَابت، وَقد ذكرنَا الرِّوَايَات عَن الْكل هُنَا فِي هَذَا الْبَاب مَا خلا رِوَايَة عمر بن الْخطاب فنذكرها الْآن فروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَقُول: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ طَالِق تَطْلِيقَة، وَهُوَ أملك بردهَا فِي عدتهَا.
22 - (بابُ حُكْمِ المَفْقُودِ فِي أهْلِهِ ومالِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَفْقُود حَال كَونه فِي أَهله وَمَاله، وَحكم المَال لَا يتَعَلَّق بِأَبْوَاب الطَّلَاق وَلكنه ذكره هُنَا اسْتِطْرَادًا، وَحكم الْأَهْل يتَعَلَّق وَلكنه مَا أفْصح بِهِ اكْتِفَاء بِمَا يذكرهُ فِي بَابه جَريا على عَادَته فِي ذَلِك كَذَلِك.
وَقَالَ ابنُ المُسَيِّبِ: إِذا فقِدَ فِي الصفِّ عنْدَ القِتالِ تَرَبَّصُ امْرَأتُهُ سَنَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَتَعْلِيق سعيد بن الْمسيب هَذَا وَصله عبد الرَّزَّاق بأتم مِنْهُ عَن الثَّوْريّ عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَنهُ قَالَ: إِذا فقد فِي الصَّفّ تربصت امْرَأَته سنة، وَإِذا فقد فِي غير الصَّفّ فأربع سِنِين. قَوْله: (تربص امْرَأَته) بِفَتْح التَّاء وَضم الصَّاد، أَصله تتريص فحذفت مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 41) أَصله: تتلظى. قَوْله: (سنة) كَذَا هُوَ فِي جَمِيع النّسخ والشروح وَغَيرهَا من المستخرجات إِلَّا ابْن التِّين فَإِنَّهُ قد وَقع عِنْده: سِتَّة أشهر، فَلفظ: سِتَّة تَصْحِيف وَلَفظ: أشهر، زِيَادَة. قَوْله: (تربص) يَعْنِي تنْتَظر سنة يَعْنِي تؤجل، وروى أَشهب عَن مَالك أَنه يضْرب لامْرَأَته أجل سنة بعد أَن ينظر فِي أمرهَا وَلَا يضْرب لَهَا من يَوْم فقد، وَسَوَاء فقد فِي الصَّفّ بَين الْمُسلمين أَو فِي قتال الْمُشْركين. وروى عِيسَى عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: إِذا فقد فِي المعترك أَو فِي فتن الْمُسلمين بَينهم أَنه ينْتَظر يَسِيرا بِمِقْدَار مَا ينْصَرف المنهزم ثمَّ تَعْتَد امْرَأَته وَيقسم مَاله، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك فِي الْمَفْقُود فِي فتن الْمُسلمين أَنه يضْرب لامْرَأَته سنة ثمَّ تتَزَوَّج، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري فِي الَّذِي يفقد بَين الصفين كَقَوْلِهِم فِي الْمَفْقُود وَلَا يفرق بَينهمَا، والكوفيون يَقُولُونَ: لَا يقسم مَاله حَتَّى يَأْتِي عَلَيْهِ من الزَّمَان مَا لَا يعِيش مثله، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يقسم مَاله حَتَّى تعلم وَفَاته.
واشْتَرَى ابنُ مَسْعُودٍ جارِيَةً والْتَمَسَ صاحِبَها سَنَةً فلَمْ يَجِدْهُ وفُقِدَ فأخَذَ يُعْطِى الدِّرْهَمَ والدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عنْ فُلاَنٍ فإنْ أبَى فلانٌ فلِي وعلَيَّ. وَقَالَ: هاكَذَا فافْعَلُوا باللُّقَطَةِ.
لم يَقع هَذَا من رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ. وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي (جَامعه) من رِوَايَة سعيد بن عبد الرَّحْمَن عَنهُ. وَأخرجه أَيْضا سعيد بن مَنْصُور عَنهُ بِسَنَد لَهُ جيد إِن ابْن مَسْعُود اشْترى جَارِيَة بسبعمائة دِرْهَم فإمَّا غَابَ عَنْهَا صَاحبهَا وَإِمَّا تَركهَا فنشده حولا فَلم يجده، فَخرج بهَا إِلَى مَسَاكِين عِنْد سدة بَابه وَجل يقبض وَيُعْطِي، وَيَقُول: اللَّهُمَّ عَن صَاحبهَا فَإِن أَبى فمني وعليُّ الْغرم. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح عَن شريك عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل بِلَفْظ: اشْترى عبد الله جَارِيَة بسبعمائة دِرْهَم فَغَاب صَاحبهَا فأنشده حولا، أَو قَالَ: سنة ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد فَجعل يتَصَدَّق وَيَقُول: اللَّهُمَّ فَلهُ، وَإِن أَبى فعليّ. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا افعلوا باللقطة والضالة. قَوْله: (وَالْتمس صَاحبهَا) أَي طلب بَائِعهَا ليسلم إِلَيْهِ الثّمن(20/278)
فَلم يجده فَأخذ عبد الله يعْطى الدِّرْهَم وَالدِّرْهَمَيْنِ للْفُقَرَاء من ثمن الْجَارِيَة، وَيَقُول: اللَّهُمَّ تقبله عَن فلَان أَي: صَاحب الْجَارِيَة. قَوْله: (فَإِن أَبى) من الإباء وَهُوَ الِامْتِنَاع، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: فَإِن أَتَى، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق من الْإِتْيَان، أَي: فَإِن جَاءَ. قَوْله: (فلي وَعلي) فلي الثَّوَاب وَعلي الغرامة. أَرَادَ أَن صَاحبهَا إِذا جَاءَ بعد الصَّدَقَة بِثمنِهَا وأبى فعله ذَلِك وَطلب ثمنهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن أَبى فالثواب وَالْعِقَاب ملتبسان بِي، أَو فالثواب لي وَعلي دينه من ثمنهَا. وَقَالَ بَعضهم: وغفل بعض الشُّرَّاح، وَأَرَادَ بِهِ الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ نقل كَلَامه مثل مَا قُلْنَا ثمَّ نسبه إِلَى الْغَفْلَة ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي قلته أولى لِأَنَّهُ وَقع مُفَسرًا فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة كَمَا ترى. قلت: الْغَفْلَة مِنْهُ لَا من الْكرْمَانِي، لِأَن الَّذِي فسره لَا يُخَالف تَفْسِير ابْن عُيَيْنَة فِي الْحَقِيقَة بل أدق مِنْهُ. يظْهر ذَلِك بِالنّظرِ والتأمل. قَوْله: (وَقَالَ: هَكَذَا) أَي: قَالَ ابْن مَسْعُود. (هَكَذَا افعلوا باللقطة) ، وَعرف حكم اللّقطَة فِي موضعهَا فِي الْفُرُوع. وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه انتزع فعله فِي ذَلِك من حكم اللّقطَة لِلْأَمْرِ بتعريفها سنة وَالتَّصَرُّف فِيهَا بعد ذَلِك انْتهى. قلت: لِأَن حكم اللّقطَة مَعْلُوما عِنْدهم، وَلم تكن قَضِيَّة ابْن مَسْعُود مَعْلُومَة عِنْدهم، فَلذَلِك قَالَ لَهُم: إفعلوا مثل اللّقطَة؟ يَعْنِي افعلوا فِي مثل قضيتي إِذا وَقعت مثل مَا كُنْتُم تفعلونه فِي اللّقطَة بالتعريف سنة وَالتَّصَرُّف فِيهَا بعد ذَلِك على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْفُرُوع.
وَقَالَ ابنُ عَبّاسِ نَحْوُهُ.
هَذَا التَّعْلِيق عَن ابْن عَبَّاس لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَوَصله سعد بن مَنْصُور من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن ربيع عَن أَبِيه: أَنه ابْتَاعَ ثوبا من رجل بِمَكَّة فضل مِنْهُ فِي الزحامِ، قَالَ: فَأتيت ابْن عَبَّاس فَقَالَ: إِذا كَانَ الْعَام الْمقبل فأنشده فِي الْمَكَان الَّذِي اشْتريت مِنْهُ فَإِن قدرت عَلَيْهِ وإلاَّ تدق بهَا، فَإِن جَاءَ فخيره بَين الصَّدَقَة وإعطاه الدَّرَاهِم.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الأسِيرِ يُعْلمُ مَكانُهُ: لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأتُهُ وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ، فإذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فسُنْتُهُ سُنَّةُ المفْقُودِ.
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ الخ، وَوصل تَعْلِيقه ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ. قَالَ: سَأَلت الزُّهْرِيّ عَن الْأَسير فِي أَرض الْعَدو مَتى تزوج امْرَأَته؟ فَقَالَ: لَا تزوج مَا علمت أَنه حَيّ، وَمن وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: يُوقف مَال الْأَسير وَامْرَأَته حَتَّى يسلما أَو يموتا. قَوْله: (فسنته) أَي: حكمه حكم الْمَفْقُود، وَمذهب الزُّهْرِيّ فِي امْرَأَة الْمَفْقُود أَنَّهَا تربص أَربع سِنِين، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم على أَن زَوْجَة الْأَسير لَا تنْكح حَتَّى يعلم يَقِين وَفَاته مَا دَامَ على الْإِسْلَام، هَذَا قَول النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول وَيحيى الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر وَأبي عبيد، وَبِه نقُول.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي حكم الْمَفْقُود إِذا لم يعلم مَكَانَهُ وَعمي خَبره، فَقَالَت طَائِفَة: إِذا خرج من بَيته وَعمي خَبره فَإِن امْرَأَته لَا تنْكح أبدا وَلَا يفرق بَينه وَبَينهَا حَتَّى يُوقن بوفاته أَو يَنْقَضِي تعميره، وسبيل زَوجته سَبِيل مَاله، رُوِيَ هَذَا القَوْل عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ. وَقَالَت طَائِفَة: تَتَرَبَّص امْرَأَته أَربع سِنِين ثمَّ تَعْتَد عدَّة الْوَفَاة. وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو وَعَطَاء وَابْن أبي رَبَاح، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَأهل الْمَدِينَة وَأحمد وَإِسْحَاق.
2925 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنْ يَحْيَى بنِ سعِيدِ عنْ يَزِيدَ مَوْلاى المُنْبَعِثِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عنْ ضالَّةِ الغَنَمِ فَقَالَ: خُذْها فإنّما هِيَ لَكَ أوْ لإخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ. وسُئِلَ عنْ ضالّةِ الإبِلِ فَغَضِبَ واحْمَرَّتْ وجْنَتاهُ. وَقَالَ: مَالكَ ولَها معَه الحِذَاءُ والسِّقاءُ؟ تشْرَبُ المَاءَ وتأكُلُ الشَّجَرَ حتّى يَلْقاها رَبُّها. وسُئلَ عنِ اللّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَها وعِفاصَها وعَرِّفْها سَنَةً، فإنْ جاءَ مَنْ يَعْرِفُها وإلاّ فاخْلِطْها بِمِالِكَ.
قَالَ سُفْيَانُ: فَلقِيتُ ربِيعَةَ بنَ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ سُفْيانُ: ولَمْ أحْفَظْ عنْهُ شَيْئاً غَيْرَ هاذَا، فَقُلْتُ: أرَأيْتَ حَدِيثَ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ فِي أمْرِ الضَّالَّةِ هُوَ عنْ زَيْدِ(20/279)
ابنِ خالِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ يَحْيَى: ويَقُولُ رَبِيعَةُ عنْ يَزِيدَ مَوْلى المُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ قَالَ سُفْيانُ: فَلَقِيتُ رَبيعَةَ فَقُلْتُ لهُ.
ابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الضَّالة كالمفقود فَكَمَا لم يزل ملك الْمَالِك فِيهَا فَكَذَلِك يجب أَن يكون النِّكَاح بَاقِيا بَينهمَا.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَيزِيد من الزِّيَادَة مولى المنبعث بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وبالمثلثة الْمَدِينِيّ التَّابِعِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث قد مُضِيّ فِي كتاب الْعلم وَفِي كتاب اللّقطَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب مُتَوَالِيَة وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَهَذَا ظَاهره فِي الأول مُرْسل وَيعلم من قَوْله فِي آخِره: (فَقلت: أَرَأَيْت حَدِيث يزِيد) ؟ إِلَى آخِره أَنه مُسْند.
قَوْله: (مَعهَا الْحذاء) وَهُوَ مَا وطىء عَلَيْهِ الْبَعِير من خفه، والحذاء النَّعْل. قَوْله: (والسقاء) قربه المَاء وَالْمرَاد هُنَا بظنها قَوْله: (عَن اللّقطَة) وَهِي فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء: مَا ضَاعَ عَن الشَّخْص بِسُقُوط أَو غَفلَة فَيَأْخذهُ، وَهِي بِفَتْح الْقَاف على اللُّغَة الفصيحة الْمَشْهُورَة، وَقيل بسكونها، وَقَالَ الْخَلِيل بِالْفَتْح هُوَ اللاقط وبالسكون الملقوط (والوكاه) بِكَسْر الْوَاو وَهُوَ الَّذِي يشد بِهِ رَأس الصرة والكيس وَنَحْوهمَا (والعفاص) بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالفاء وبالصاد المهلمة هُوَ مَا يكون فِيهِ النَّفَقَة. قَوْله: (فاخلطها بِمَالك) أَخذ بِظَاهِرِهِ دَاوُد على أَنه يملكهَا، وَخَالف فُقَهَاء الْأَمْصَار وَالْمرَاد: خلها بِهِ على جِهَة الضَّمَان، بِدَلِيل الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ.
قَوْله: (ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن) هُوَ الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي. قَوْله: (قَالَ: يحيى) يَعْنِي ابْن سعيد الَّذِي حَدثهُ مُرْسلا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن أَكثر مَقَاصِد سُفْيَان الحَدِيث وَالْغَالِب على ربيعَة الْفِقْه. قَوْله: (قلت لَهُ) قيل: لم كَرَّرَه؟ وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ بمكرر إِذْ الْمَفْعُول الثَّانِي لَهُ هُوَ نَقله عَن يحيى، وَهُوَ غير مَا قَالَ لَهُ أَولا، فَافْهَم وَالله أعلم.
32 - (بابُ الظِّهارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الظِّهَار، وَهُوَ بِكَسْر الظَّاء. وَقَالَ صَاحب (كتاب الْعين) : هُوَ مُظَاهرَة الرجل من امْرَأَته إِذا قَالَ: هِيَ على كَظهر ذَات رحم محرم، وَفِي (الْمُحكم) : ظَاهر الرجل امْرَأَته مُظَاهرَة وظهاراً إِذا قَالَ: هِيَ عَليّ كَظهر ذَات رحم محرم، وَقد تظهر مِنْهَا وتظاهر، زَاد المطرزي: وَظَاهر، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: ظَاهر الرجل من ارمأته إِذا قَالَ: أَنْت على كَظهر أُمِّي، أَو: كذات محرم، وَتَبعهُ على هَذَا غير وَاحِد من اللغويين، وَقَالَ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ: الظِّهَار تَشْبِيه الْمَنْكُوحَة بِامْرَأَة مُحرمَة عَلَيْهِ على التَّأْبِيد مثل: (الْأُم وَالْبِنْت وَالْأُخْت، حرم عَلَيْهِ الْوَطْء ودواعيه بقوله: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي) حَتَّى يكفر، وَقيل: إِنَّمَا خص الظّهْر بذلك دون سَائِر الْأَعْضَاء لِأَنَّهُ مَحل الرّكُوب غَالِبا، وَلذَلِك يُسمى المركوب ظهرا فَشبه الزَّوْجَة بذلك لِأَنَّهَا مركوب ظهرا فَشبه الزَّوْجَة بذلك لِأَنَّهَا مركوب الرجل، فَلَو أضَاف لغير الظّهْر مثل الْبَطن والفخذ والفرج كَانَ ظِهَارًا بِخِلَاف الْيَد، وَعند الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: لَا يكون ظِهَارًا لَو قَالَ كَظهر أُخْتِي، بل يخْتَص بِالْأُمِّ، وَلَو قَالَ: كَظهر أبي مثلا لَا يكون ظِهَارًا عِنْد الْجُمْهُور، وَعَن أَحْمد فِي رِوَايَة: ظِهَار.
وقَوْل الله تَعَالَى: { (58) قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} إِلَى قَوْله: { (58) فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} (المجادلة: 1 4) [/ ح.
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله الظِّهَار. وَقَوله: إِلَى قَوْله: (فَمن لم يسْتَطع) يَعْنِي لم يسْبق بالتلاوة قَوْله تَعَالَى: {قد سمع الله} إِلَى قَوْله: {سِتِّينَ مِسْكينا} كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والأكثرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة سَاق الْآيَات كلهَا بِالْكِتَابَةِ إِلَى الْموضع الْمَذْكُور، وَهِي ثَلَاث آيَات قَوْله: (قَول الَّتِي) أَي: قَول الْمَرْأَة الَّتِي تُجَادِلك أَي: تخاصمك وتحاورك فِي زَوجهَا وَهِي امْرَأَة من الْأَنْصَار ثمَّ من الْخَزْرَج، وَاخْتلفُوا فِي اسْمهَا ونسبها، فَعَن ابْن عَبَّاس: هِيَ خَوْلَة بنت خويلد وَعَن أبي الْعَالِيَة: خَوْلَة بنت دليم، وَعَن قَتَادَة: خُوَيْلَة بنت ثَعْلَبَة، وَعَن مقَاتل بن حَيَّان: خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة بن مَالك بن حرَام الخزرجية من بني عَمْرو بن عَوْف، وَعَن عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس: خَوْلَة بنت الصَّامِت، وروى هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة أَن اسْمهَا: جميلَة وَزوجهَا أَوْس بن الصَّامِت أَخُو عبَادَة بن الصَّامِت، وَقيل: كَانَت أمة لعبد الله بن أبي، وَهِي الَّتِي نزل فِيهَا: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} (النُّور: 33) وَقَالَ أَبُو عمر: هِيَ خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة بن أَصْرَم بن(20/280)
فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم بن سَالم بن عَوْف وَهُوَ الْأَصَح، وَلَا يثبت شَيْء غير ذَلِك، وَزوجهَا أَوْس بن الصَّامِت بن قيس بن أَصْرَم بن فهر ابْن ثَعْلَبَة بن غنم بن سَالم بن عَوْف بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ، شهد بَدْرًا وأحداً والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَقِي إِلَى زمن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ.
ثمَّ الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول فِي سَبَب نزُول هَذ الْآيَات، وَهُوَ أَن خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة كَانَت امْرَأَة جسيمة الْجِسْم فرآها زَوجهَا سَاجِدَة فِي صلَاتهَا فَنظر إِلَى عجيزتها، فَلَمَّا انصرفت أرادها فامتنعت عَلَيْهِ وَكَانَ أمرأ فِيهِ سرعَة ولمم فَقَالَ لَهَا: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي، ثمَّ نَدم على مَا قَالَ. وَكَانَ الْإِيلَاء وَالظِّهَار من طَلَاق أهل الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ لَهَا: مَا أَظُنك إلاَّ قد حرمت عَليّ، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله {إِن زَوجي أَوْس بن الصَّامِت تزَوجنِي وَأَنا شَابة غنية ذَات مَال وَأهل حَتَّى أكل مَالِي وأفنى شَبَابِي وتفرق أَهلِي وَكبر سني ظَاهر مني، وَقد نَدم فَهَل من شَيْء يجمعني وإياه ينعشني بِهِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حرمت عَلَيْهِ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله} وَالَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مَا ذكر طَلَاقا وَإنَّهُ أَبُو وَلَدي وَأحب النَّاس إِلَيّ. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حرمت عَلَيْهِ. فَقَالَت: أَشْكُو إِلَى الله فَاقَتِي وَوحْدَتِي. قد طَالَتْ صحبتي ونفضت لَهُ بَطْني، أَي: كثر وَلَدي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أَرَاك إِلَّا قد حرمت عَلَيْهِ، وَلم أومر فِي شَأْنك بِشَيْء، فَجعلت تراجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا قَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حرمت عَلَيْهِ، هَتَفت وَقَالَت: أَشْكُو إِلَى الله فَاقَتِي وَشدَّة حَالي، أللهم أنزل على لِسَان نبيك، وَكَانَ هَذَا أول ظِهَار فِي الْإِسْلَام، فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} (المجادلة: 1)
الْآيَات قَالَ لَهَا: إدعي زَوجك، فجَاء فَتلا عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قد سمع الله) الْآيَات ثمَّ قَالَ لَهُ: هَل تَسْتَطِيع أَن تعْتق رَقَبَة؟ قَالَ: إِذا يذهب مَالِي كُله، الرَّقَبَة غَالِيَة وَأَنا قَلِيل المَال. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ: وَالله يَا رَسُول الله إِن لم آكل فِي الْيَوْم ثَلَاث مَرَّات كلَّ بَصرِي وخشيت أَن تغشو عَيْني، قَالَ فَهَل تَسْتَطِيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا وَالله إلاَّ أَن تعينني على ذَلِك يَا رَسُول الله. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنِّي معينك بِخَمْسَة عشر صَاعا، وَاجْتمعَ لَهما أَمرهمَا، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يظاهرون مِنْكُم من نِسَائِهِم} (المجادلة: 2) وَكلمَة: مِنْكُم، توبيخ للْعَرَب وتهجين لعادتهم فِي الظِّهَار لِأَنَّهُ كَانَ من إِيمَان أهل جاهليتهم خَاصَّة دون سَائِر الْأُمَم. قَوْله: {مَا هن أمهاتهم} أَي: لَيست النِّسَاء اللَّاتِي يظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتهم، لِأَنَّهُ تَشْبِيه بَاطِل لتباين الْحَالين. {إِن أمهاتهم} أَي: مَا أمهاتهم {إِلَّا اللائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل} (المجادلة: 2) لَا يعرف صِحَّته {وزورا} يَعْنِي: كذبا بَاطِلا منحرفاً عَن الْحق.
النَّوْع الثَّانِي: فِي صُورَة الظِّهَار: إعلم أَن الْأَلْفَاظ الَّتِي يصير بهَا الْمَرْء مُظَاهرا على نَوْعَيْنِ: صَرِيح، نَحْو أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي، أَو أَنْت عِنْدِي كَظهر أُمِّي، وكناية نَحْو: أَن يَقُول: أَنْت عَليّ كأمي، أَو مثل أُمِّي، أَو نَحْوهمَا، يعْتَبر فِيهِ نِيَّته، فَإِن أَرَادَ ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا، وَإِن لم ينْو لَا يصير ظِهَارًا وَعند مُحَمَّد بن الْحسن: هُوَ ظِهَار، وَعَن أبي يُوسُف: هُوَ مثله إِن كَانَ فِي الْغَضَب وَعنهُ أَن يكون إِيلَاء وَإِن نوى طَلَاقا. كَانَ طَلَاقا بَائِنا.
النَّوْع الثَّالِث: لَا يكون الظِّهَار إِلَّا بالتشبيه بِذَات محرم، فَإِذا ظَاهر بِغَيْر ذَات محرم فَلَيْسَ بظهار، وَبِه قَالَ الْحسن وَعَطَاء وَالشعْبِيّ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَعنهُ وَهُوَ أشهر أَقْوَاله: إِن كل من ظَاهر بِامْرَأَة حل لَهُ نِكَاحهَا يَوْمًا من الدَّهْر فَلَيْسَ ظِهَارًا، وَمن ظَاهر بِامْرَأَة لم يحل لَهُ نِكَاحهَا قطّ فَهُوَ ظِهَار. وَقَالَ مَالك: من ظَاهر بِذَات محرم أَو بأجنبية فَهُوَ كُله ظِهَار، وَعَن الشّعبِيّ: لَا ظِهَار إلاّ بِأم أَو جده، وَهُوَ قَول للشَّافِعِيّ رَوَاهُ عَنهُ أَبُو ثَوْر، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة.
وَاخْتلفُوا فِيمَن ظَاهر من أَجْنَبِيَّة ثمَّ تزَوجهَا، فروى الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن تزَوجهَا فَلَا يقربهَا حَتَّى يكفر، وَهُوَ قَول عَطاء وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعُرْوَة، قَالَ ابْن حزم: صَحَّ ذَلِك عَنْهُم. قلت: إِن أَرَادَ بِالصِّحَّةِ عَن الْمَذْكُورين فالأثر عَن عمر مُنْقَطع لِأَن الْقَاسِم لم يُولد إلاَّ بعد قتل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِن أَرَادَ البَاقِينَ فَيمكن. وَقَالَ فِي (التَّلْوِيح) : قَالَ ابْن عمر: قَالَ ابْن أبي ليلى وَالْحسن بن حَيّ: إِن قَالَ: كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ على كَظهر أُمِّي، أَو سمي قَرْيَة أَو قَبيلَة لزمَه الظِّهَار، وَقَالَ الثَّوْريّ فِيمَن قَالَ: إِن تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق، وَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي، وَوَاللَّه لَا أقْربك أَرْبَعَة أشهر فَمَا زَاد، ثمَّ تزَوجهَا وَقع الطَّلَاق وَسقط الظِّهَار وَالْإِيلَاء لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالطَّلَاق.
النَّوْع الرَّابِع: فِيمَن يَصح مِنْهُ الظِّهَار وَمن لَا يَصح، كل زوج صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره سَوَاء كَانَ حرا أَو رَقِيقا مُسلما أَو ذِمِّيا دخل بِالْمَرْأَةِ أَو لم(20/281)
يدْخل بهَا، أَو كَانَ قَادِرًا على جِمَاعهَا أَو عَاجِزا عَنهُ، وَكَذَلِكَ يَصح من كل زَوْجَة صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة عَاقِلَة أَو مَجْنُونَة أَو رتقاء أَو سليمَة مُحرمَة أَو غير مُحرمَة ذِمِّيَّة أَو مسلمة أَو فِي عدَّة تملك رَجعتهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح ظِهَار الذِّمِّيّ، وَقَالَ مَالك: لَا يَصح ظِهَار العَبْد، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يَصح ظِهَار غير الْمَدْخُول بهَا، وَقَالَ الْمُزنِيّ: إِذا طلق الرجل امْرَأَته طَلْقَة رَجْعِيَّة ثمَّ ظَاهر مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَصح.
وَاخْتلف فِي الظِّهَار من الْأمة وَأم الْوَلَد، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ: لَا يَصح الظِّهَار مِنْهُمَا، وَقَالَ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث: لَا يكون من أمته مُظَاهرا. احْتج الْكُوفِيُّونَ بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم} (المجادلة: 2)
وَالْأمة لَيست من نسائنا.
النَّوْع الْخَامِس: فِي بَيَان الْكَفَّارَة، وَهُوَ تَحْرِير رَقَبَة قبل الْوَطْء سَوَاء كَانَت ذكرا أَو أُنْثَى صَغِيرَة أَو كَبِيرَة مسلمة أَو كَافِرَة لإِطْلَاق النَّص. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا تجوز الْكَفَّارَة بالكافرة وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَقَالَ ابْن حزم: يجوز الْمُؤمن وَالْكَافِر والسالم والمعيب وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك: لَا تجوز الرَّقَبَة المعيبة وَقَالَ ابْن حزم: وروينا عَن النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ أَن عتق الْأَعْمَى يَجْزِي فِي ذَلِك، وَعَن ابْن جريج: إِن الأشل يَجْزِي فِي ذَلِك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْمَجْنُون لَا يَصح.
وَأعلم أَن الْكَفَّارَة على أَنْوَاع:
الأول: عتق الرَّقَبَة. فَإِن عجز صَامَ شَهْرَيْن مُتَتَابعين لَيْسَ فيهمَا شهر رَمَضَان وَالْأَيَّام المنهية، وَهِي يَوْمًا الْعِيدَيْنِ وَأَيَّام التَّشْرِيق، فَإِن وطىء فيهمَا لَيْلًا أَو نَهَارا نَاسِيا أَو عَامِدًا اسْتَأْنف الصَّوْم، وَذكر ابْن حزم عَن مَالك أَنه إِذا وطىء الَّتِي ظَاهر مِنْهَا لَيْلًا قبل تَمام الشَّهْرَيْنِ يبتدىء بهما من ذِي قبل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يتمهما بانياً على مَا صَامَ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: فَإِن وَطئهَا فِي الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا عَامِدًا أَو يَوْمًا نَاسِيا، أَو أفطر فيهمَا مُطلقًا يَعْنِي: سَوَاء كَانَ بِعُذْر أَو بِغَيْر عذر اسْتَأْنف الصَّوْم عِنْدهمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف: وَلَا يسْتَأْنف إلاَّ بالإفطار. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك وَأحمد: إِن كَانَ بِعُذْر لَا يسْتَأْنف وَلم يجز للْعَبد إلاَّ الصَّوْم، فَإِن لم يسْتَطع الصَّوْم أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا كالفطرة فِي قدر الْوَاجِب يَعْنِي: نصف صَاع من بر أَو صَاع من تمر أَو شعير، وَقَالَ الشَّافِعِي: لكل مِسْكين مد من غَالب قوت بَلَده، وَعند مَالك مد بِمد هِشَام وَهُوَ مدان بِمد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعند أَحْمد من الْبر مد وَمن تمر وشعير مدان، وَإِن طعم ثَلَاثِينَ مِسْكينا، ثمَّ وطيء، فَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة: يتم الْإِطْعَام كَمَا لَو وطىء قبل أَن يطعم لم يكن عَلَيْهِ إلاَّ إطْعَام وَاحِد. وَقَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك يسْتَأْنف إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا.
النَّوْع السَّادِس: فِيمَن ظَاهر ثمَّ كرر ثَانِيَة أَو ثَالِثَة فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، فَإِن كرر رَابِعَة فَعَلَيهِ كَفَّارَة أُخْرَى. قَالَه ابْن حزم، وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. إِذا ظَاهر فِي مجْلِس وَاحِد مرَارًا فكفارة وَاحِدَة، وَإِن ظَاهر فِي مقاعد شَتَّى فَعَلَيهِ كَفَّارَات شَتَّى، وَالْإِيمَان كَذَلِك وَهُوَ قَول قَتَادَة وَعَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ ذَلِك عَنْهُمَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ فِي ذَلِك إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، قَالَ ابْن حزم: روينَا عَن طَاوُوس وَعَطَاء وَالشعْبِيّ أَنهم قَالُوا: إِذا ظَاهر من امْرَأَة خمسين مرّة فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة، وَصَحَّ مثله عَن الْحسن، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ الْحسن أَيْضا: إِذا ظَاهر مرَارًا فَإِن كَانَ فِي مجَالِس شَتَّى فكفارة وَاحِدَة مَا لم يكفر وَالْإِيمَان كَذَلِك، قَالَ معمر: وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ، وَقَول مَالك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ كرر الظِّهَار فِي مجْلِس وَاحِد وَنوى التّكْرَار فكفارة وَاحِدَة، وَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة فَلِكُل ظِهَار كَفَّارَة، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك فِي مجْلِس وَاحِد أَو مجَالِس.
النَّوْع السَّابِع: فِيمَا يجوز للمظاهر أَن يفعل مَعَ امْرَأَته الَّتِي ظَاهر مِنْهَا، رُوِيَ عَن الثَّوْريّ أَنه: لَا بَأْس أَن يقتل الَّتِي ظَاهر مِنْهَا قبل التَّكْفِير، ويباشرها فبمَا دون الْفرج لِأَن الْمَسِيس هُنَا الْجِمَاع، وَهُوَ قَول الْحسن وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار وَقَتَادَة وَقَول أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: أحب إِلَيّ أَن يمْتَنع من الْقبْلَة والتلذذ احْتِيَاطًا، وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: لَا بَأْس أَن يقبل ويباشر وَأبي مَالك من ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا. وَكَذَا فِي صِيَام الشَّهْرَيْنِ، قَالَ: وَلَا ينظر إِلَى شعرهَا وَلَا إِلَى صدرها حَتَّى يكفِّر، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يَأْتِي مِنْهَا مَا دون الْإِزَار كالحائض، وَقَالَ أَصْحَابنَا، كَمَا يحرم عَلَيْهِ الْوَطْء قبل التَّكْفِير حرمت عَلَيْهِ دواعيه كاللمس والقبلة بِشَهْوَة.
النَّوْع الثَّامِن: فِيمَن وَجَبت عَلَيْهِ كَفَّارَة الظِّهَار، وَلم تسْقط بِمَوْتِهِ وَلَا بموتها وَلَا طَلَاقه لَهَا هِيَ من رَأس مَاله إِن مَاتَ أوصى بهَا أَو لم يوصِ، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيَّة وَعند أَصْحَابنَا الدُّيُون نَوْعَانِ حُقُوق الله وَحُقُوق الْعباد، فَحق الله أَن(20/282)
لم يوص بِهِ يسْقط سَوَاء كَانَ صَلَاة أَو زَكَاة، وَيبقى عَلَيْهِ الْإِثْم والمطالبة فِي حكم الْآخِرَة، وَإِن أوصى بِهِ يعْتَبر من الثُّلُث، فعلى الْوَارِث أَن يطعم عَنهُ لكل صَلَاة، وَقت نصف صَاع كَمَا فِي الْفطْرَة، وللوتر أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة، وَإِن كَانَ صوما يَصُوم لكل يَوْم كَصَلَاة كل وَقت، وَإِن كَانَ حجا فعلى الْوَارِث الإحجاج عَنهُ من الثُّلُث وَكَذَا الحكم فِي النذور وَالْكَفَّارَات، وَأما دين الْعباد فَهُوَ مقدم بِكُل حَال.
النَّوْع التَّاسِع: فِي ظِهَار العَبْد. فَفِي (موطأ مَالك) أَنه سَأَلَ ابْن شهَاب عَن ظِهَار العَبْد، فَقَالَ نَحْو ظِهَار الْحر، وَقَالَ مَالك: صِيَام العَبْد فِي الظِّهَار شَهْرَان. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الظِّهَار للْعَبد لَازم. وَأَن كَفَّارَته الْمجمع عَلَيْهَا الصَّوْم، قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي الْعتْق وَالْإِطْعَام، فَأجَاز أَبُو ثَوْر وَدَاوُد للْعَبد الْعتْق إِن إعطاه سَيّده وَأبي ذَلِك سَائِر الْعلمَاء، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَن أطْعم بِإِذن مَوْلَاهُ جَازَ، وَإِن أعتق بِلَا إِذْنه لم يجز وَأحب إِلَيْنَا أَن يَصُوم، وَقَالَ مَالك: وإطعام العَبْد كإطعام الْحر سِتِّينَ مِسْكينا لَا أعلم فِيهِ خلافًا.
النَّوْع الْعَاشِر: فِي بَيَان الْعود. الْمَذْكُور فِي الْآيَة. وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ الشَّافِعِي: الْعود الْمُوجب لِلْكَفَّارَةِ أَن يمسك عَن طَلاقهَا بعد الظِّهَار بِمُضِيِّ مُدَّة يُمكنهُ أَن يطلقهَا فَلم يطلقهَا، وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يعودون لما قَالُوا} (المجادلة: 3) يُرِيد أَن يَغْشَاهَا ويطأها بَعْدَمَا حرمهَا وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة قَالَ: إِن عزم على وَطئهَا وَنوى أَن يَغْشَاهَا يكون عوداً وَيلْزمهُ الْكَفَّارَة، وَإِن لم يعزم على الْوَطْء لَا يكون عوداً، وَقَالَ مَالك: إِن وَطئهَا كَانَ عوداً وَإِن لم يَطَأهَا لم يكن عوداً. وَقَالَ أَصْحَاب الظَّاهِر: إِن كرر اللَّفْظ كَانَ عوداً وإلاَّ لم يكن عوداً. وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَذكر ابْن بطال أَن الْعود عِنْد مَالك هُوَ الْعَزْم على الْوَطْء، وَحكى عَنهُ أَن الْوَطْء بِعَيْنِه، وَلَكِن تقدم الْكَفَّارَة عَلَيْهِ وَهُوَ قَول ابْن الْقَاسِم وَأَشَارَ فِي (الْمُوَطَّأ) إِلَى أَنه الْعَزْم على الْإِمْسَاك والإصابة، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق وَذهب الْحسن وطاووس وَالزهْرِيّ إِلَى أَن الْوَطْء نَفسه هُوَ الْعود. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: معنى الْعود عِنْد أبي حنيفَة أَنه لَا يستبيح وَطأهَا إلاَّ بكفارة يقدمهَا. وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: معنى الْعود أَن الظِّهَار يُوجب تَحْرِيمًا لَا يرفعهُ إلاَّ الْكَفَّارَة إلاَّ أَنه إِن لم يَطَأهَا مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى مَاتَت فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، سَوَاء أَرَادَ فِي خلال ذَلِك وَطأهَا أَو لم يرد، فَإِن طَلقهَا ثَلَاثًا فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، فَإِن تزَوجهَا بعد زوج آخر عَاد عَلَيْهِ حكم الظِّهَار وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يكفر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الظِّهَار قَول كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة فنهوا عَنهُ. فَكل من قَالَه فقد عَاد لما قَالَ. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا لَا يحفظ عَن غَيره، قَالَ ابْن عبد الْبر: قَالَه قبله غَيره، وروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف أَنه لَو وَطئهَا ثمَّ مَاتَ أَحدهمَا لم يكن عَلَيْهِ كَفَّارَة، وَلَا كَفَّارَة بعد الْجِمَاع.
وَقَالَ لِي إسْمَاعِيلُ: حدّثني مالِكٌ أنّهُ سألَ ابنَ شِهِابٍ عنْ ظِهارِ العَبْدِ، فَقَالَ: نَحْوَ ظِهارِ الحُرِّ. قَالَ مالِك: وصِيام العَبْدِ شَهْرَانِ.
أَي: قَالَ البُخَارِيّ قَالَ لي إِسْمَاعِيل: وَهُوَ ابْن أبي أويس، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِكَلِمَة لي بعد قَوْله؛ قَالَ: وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: قَالَ إِسْمَاعِيل، بِدُونِ لَفْظَة لي، وَهَذَا حكمه حكم الْمَوْصُول، وَيسْتَعْمل هَذَا فِيمَا تحمله عَن شُيُوخه بطرِيق المذاكرة. قَوْله: سَأَلَ ابْن شهَاب، وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
وَقَالَ الحَسَنُ بنُ الحُرِّ: ظهِارُ الحُرِّ والعَبْدِ مِنَ الحُرَّةِ والأمَةِ سَوَاءٌ.
الْحسن بن الْحر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء النَّخعِيّ الْكُوفِي ثمَّ الدِّمَشْقِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروي الْحسن بن حَيّ ضد الْمَيِّت الْهَمدَانِي الْفَقِيه، مَاتَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة ونسبته لجد أَبِيه وَهُوَ الْحسن بن صَالح بن حَيّ، وَاسم حَيّ حَيَّان فَقِيه ثِقَة عَابِد من طبقَة الثَّوْريّ: قلت: رِوَايَة الْأَكْثَرين: الْحسن بن الْحر، وَفِي رِوَايَة: أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي: الْحسن بن حَيّ، ويروى: الْحسن مُجَردا، وَيحْتَمل أَن يكون أحد الحسنين الْمَذْكُورين، وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ فِي كتاب (اخْتِلَاف الْعلمَاء) عَن الْحسن بن حَيّ هَذَا الْأَثر، ويروى عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ مثله.(20/283)
وَقَالَ عِكْرَمَةُ: إنُ ظاهَرَ مِنْ أمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيءٍ، إنّما الظِّهارُ مِنَ النِّساءِ.
عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس قَوْله: (من النِّسَاء) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي المزوجات الْحَرَائِر. قلت: لفظ النِّسَاء يتَنَاوَل الْحَرَائِر وَالْإِمَاء فَلذَلِك هُوَ فَسرهَا بالمزوجات الْحَرَائِر، وَلَو قيل: من الْحَرَائِر، لَكَانَ أولى. وَقَالَ ابْن حزم: وروى الشّعبِيّ مثله وَلم يَصح عَنْهُمَا، وَصَحَّ عَن مُجَاهِد وَابْن أبي مليكَة وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، إلاَّ أَن أَحْمد قَالَ: فِي الظِّهَار من ملك الْيَمين كَفَّارَة، وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة خِلَافه، قَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا ابْن جريج أَخْبرنِي الحكم ابْن أبان عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس يكفّر عَن ظِهَار الْأمة مثل كَفَّارَة الْحرَّة، قيل: يحْتَمل أَن يكون الْمَنْقُول عَن عِكْرِمَة الْأمة الْمُزَوجَة، فَلَا يكون بَين قوليه اخْتِلَاف، وَالله أعلم.
وَفِي العَرَبِيَّةِ: لما قالُوا: أَي فِيما قالُوا، وَفِي نَقْصِ مَا قالُوا، وهاذَا أوْلى لأنَّ الله تَعَالَى لَمْ يَدُلَّ علَى المُنْكَرِ وعلَى قَوْلِ الزُّورِ.
أَي: يسْتَعْمل فِي كَلَام الْعَرَب لفظ عَاد لَهُ، بِمَعْنى: عَاد فِيهِ، أَي: نقضه وأبطله، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ثمَّ يعودون لما قَالُوا، أَي: يتداركون مَا قَالُوا، لِأَن المتدارك لِلْأَمْرِ عَائِد إِلَيْهِ أَي: تَدَارُكه بالإصلاح بِأَن يكفر عَنهُ. قَوْله: (وَفِي نقض مَا قَالُوا) بالنُّون وَالْقَاف فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ والكشميهني، وَفِي بعض بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْعين الْمُهْملَة. قَوْله: (وَهَذَا أولى) أَي: معنى يعودون لما قَالُوا، أَي: ينقضون مَا قَالُوا أولى مِمَّا قَالُوا: إِن معنى الْعود هُوَ تكْرَار لفظ الظِّهَار، وغرض البُخَارِيّ من هَذَا الرَّد على دَاوُد الظَّاهِرِيّ حَيْثُ قَالَ: إِن الْعود هُوَ تَكْرِير كلمة الظِّهَار. قَوْله: (لِأَن الله لم يدل) تَعْلِيق لقَوْله: وَهَذَا أولى، وَجه الْأَوْلَوِيَّة أَنه إِذا كَانَ مَعْنَاهُ كَمَا زَعمه دَاوُد لَكَانَ الله دَالا على الْمُنكر وَقَول الزُّور تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا، وَقَالَ الْفراء والأخفش: الْمَعْنى على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، أَي: وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة، وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ قَول حسن، وَقَالَ غَيره: يجوز أَن يكون: مَا، بِتَقْدِير الْمصدر، وَالتَّقْدِير: ثمَّ يعودون لِلْقَوْلِ، سمى القَوْل باسم الْمصدر، كَمَا قَالُوا: نسج الْيمن وَدِرْهَم ضرب الْأَمِير، وَإِنَّمَا هُوَ منسوج الْيمن ومضروب الْأَمِير، وَقَالَ آخَرُونَ: يجوز أَن يكون: مَا بِمَعْنى: من كَأَنَّهُ قَالَ: ثمَّ يعود دون لمن قَالُوا فِيهِنَّ، أولهنَّ، أنتن علينا كظهور أمهاتنا. وَقَالَ ابْن المرابط: قَالَت فرقة: ثمَّ يعودون لما قَالُوا من الظِّهَار فَيَقُولُونَ بالظهار مرّة أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي أنكرهُ البُخَارِيّ. فَإِن قلت: اقْتصر البُخَارِيّ فِي: بَاب الظِّهَار على ذكر. قَوْله تَعَالَى: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} (المجادلة: 1 4) إِلَى قَوْله: {فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} (المجادلة: 1 4) وعَلى ذكر بعض الْآثَار، وَقد ورد فِيهِ أَحَادِيث عَن ابْن عَبَّاس وَسَلَمَة بن صَخْر الْأنْصَارِيّ البياضي وَخَوْلَة بنت ثَعْلَبَة وَأَوْس ابْن الصَّامِت وَعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَلم يذكر مِنْهَا حَدِيثا. قلت: لَيْسَ فِيهَا حَدِيث على شَرطه فَلذَلِك لم يذكر مِنْهَا حَدِيثا، غير أَنه ذكر فِي أَوَائِل كتاب التَّوْحِيد من حَدِيث عَائِشَة مُعَلّقا، على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، إِمَّا حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ الْأَرْبَعَة، وَأما حَدِيث سَلمَة بن صَخْر، وَيُقَال: سُلَيْمَان بن صَخْر، فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَأما حَدِيث خَوْلَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد، وَأما حَدِيث أَوْس بن الصَّامِت زوج خَوْلَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا، وَذكرنَا هَذَا الْمِقْدَار طلبا للاختصار.
42 - (بابُ الإشارَةِ فِي الطّلاَقِ والأُمُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِشَارَة فِي الطَّلَاق، وَقَالَ ابْن التِّين: أَرَادَ الْإِشَارَة الَّتِي يفهم مِنْهَا الطَّلَاق من الصَّحِيح والأخرس، وَقَالَ الْمُهلب: الْإِشَارَة إِذا فهمت يحكم بهَا وأوكد مَا أَتَى بهَا من الْإِشَارَة مَا حكم بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أَمر السَّوْدَاء حِين قَالَ لَهَا: أَيْن الله؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاء. فَقَالَ: أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة، فَأجَاز الْإِسْلَام بِالْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ أصل الدّيانَة، وَحكم بإيمانها كَمَا يحكم بنطق من يَقُول ذَلِك، فَيجب أَن تكون الْإِشَارَة عَامَّة فِي سَائِر الديانَات، وَهُوَ قَول عَامَّة الْفُقَهَاء. وَقَالَ مَالك: الْأَخْرَس إِذا أَشَارَ بِالطَّلَاق يلْزمه. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الرجل يمرض فيختل لِسَانه: فَهُوَ كالأخرس فِي الطَّلَاق(20/284)
وَالرَّجْعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِن كَانَت إِشَارَته تعرف فِي طَلَاقه ونكاحه وَبيعه فَهُوَ جَائِز عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ يشك فِيهِ فَهُوَ بَاطِل، وَقَالَ: وَلَيْسَ ذَلِك بِقِيَاس، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَان، وَالْقِيَاس فِي هَذَا كُله بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يتَكَلَّم وَلَا تعقل إِشَارَته، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي ذَلِك إِقْرَار من أبي حنيفَة أَنه حكم بِالْبَاطِلِ لِأَن الْقيَاس عِنْده حق، فَإِذا حكم بضده وَهُوَ الِاسْتِحْسَان فقد حكم بضد الْحق، وَفِي إِظْهَار القَوْل بالاستحسان وَهُوَ ضد الْقيَاس دفع مِنْهُ للْقِيَاس الَّذِي هُوَ عِنْده حق انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام من لَا يفهم دقائق الْأَحْكَام مَعَ المكابرة والجرأة على مثل الإِمَام الْأَعْظَم الَّذِي انتشى فِي خير الْقُرُون، وَقَول أبي حنيفَة: الْقيَاس فِي هَذَا بَاطِل، هَل يسْتَلْزم بطلَان الأقيسة كلهَا، وَلَيْسَ الِاسْتِحْسَان ضد الْقيَاس، بل هُوَ نوع مِنْهُ لِأَن الْقيَاس على نَوْعَيْنِ: جلي وخفى وَالِاسْتِحْسَان قِيَاس خَفِي، وَمن لَا يدْرِي هَذَا كَيفَ يتحدث بِكَلَام فِيهِ افتراء وجرأة بِغَيْر حق؟ وَكَذَلِكَ ابْن بطال الَّذِي أطلق لِسَانه فِي أبي حنيفَة بِوَجْه بَاطِل حَيْثُ قَالَ حاول البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب الرَّد على أبي حنيفَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم بِالْإِشَارَةِ فِي هَذِه الْأَحَادِيث، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَحَادِيث الْبَاب، ثمَّ نقل كَلَام ابْن الْمُنْذر، ثمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا حمل أَبَا حنيفَة على قَوْله هَذَا لِأَنَّهُ لم يعلم السّنَن الَّتِي جَاءَت بِجَوَاز الإشارات فِي أَحْكَام مُخْتَلفَة. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه أدب فَمن قَالَ: إِن أَبَا حنيفَة لم يعلم هَذِه السّنَن، وَمن نقل عَنهُ أَنه لم يجوز الْعَمَل بِالْإِشَارَةِ، وَهَذِه كتب أَصْحَابنَا ناطقة بِجَوَاز ذَلِك كَمَا نبهنا على بعض شَيْء من ذَلِك وَقَالَ أَصْحَابنَا إِشَارَة الْأَخْرَس وكتابته كالبيان بِاللِّسَانِ فَيلْزمهُ الْأَحْكَام بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَة حَتَّى يجوز نِكَاحه وطلاقه وعتاقه وَبيعه وشراؤه وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام، بِخِلَاف معتقل اللِّسَان يَعْنِي: الَّذِي حبس لِسَانه فَإِن إِشَارَته غير مُعْتَبرَة لِأَن الْإِشَارَة لَا تنبىء عَن المُرَاد إلاَّ إِذا طَالَتْ وَصَارَت معهودة كالأخرس، وَقدر التُّمُرْتَاشِيّ الامتداد بِالسنةِ وَعَن أبي حنيفَة: أَن العقلة إِن دَامَت إِلَى وَقت الْمَوْت يَجْعَل إِقْرَاره بِالْإِشَارَةِ، وَيجوز الْإِشْهَاد عَلَيْهِ. قَالُوا: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى، وَفِي (الْمُحِيط) : وَلَو أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى امْرَأَة وَقَالَ: زَيْنَب أَنْت طَالِق فَإِذا هِيَ عمْرَة، طلقت عمْرَة لِأَنَّهُ أَشَارَ وسمى، فَالْعِبْرَة للْإِشَارَة لَا للتسمية. قَوْله: (والأمور) أَي: الْأُمُور الْحكمِيَّة وَغَيرهَا.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يُعَذِّبُ الله بِدَمْعِ العَيْنِ ولاكِنْ يُعَذِّبُ بِهاذَا فأشارَ إِلَى لِسانِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْإِشَارَة الَّتِي يفهم مِنْهَا الْأَمر من الْأُمُور كالنطق بِاللِّسَانِ، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه فِي كتاب الْجَنَائِز مُسْندًا بأتم مِنْهُ فِي: بَاب الْبكاء عِنْد الْمَرِيض.
وَقَالَ كَعْبُ بنُ مالِكٍ: أَشَارَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَيَّ أَي تخُذِ النِّصفَ.
تقدم هَذَا التَّعْلِيق فِي كتاب الْمُلَازمَة مُسْندًا عَن كَعْب بن مَالك: أَنه كَانَ لَهُ على عبد الله بن أبي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ دين، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فتكلما حَتَّى ارْتَفَعت أصواتهما، فَمر بهما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا كَعْب، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُول: النّصْف: فَأخذ نصف مَا عَلَيْهِ وَترك نصفا.
وقالَتْ أسْماءُ صَلّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا شأْنُ النّاسِ وهْيَ تُصَلِّي؟ فأوْمأتْ بِرَأْسِها إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيةٌ. فأوْمأتْ بِرَأْسِها: أنْ نَعَمْ.
تقدم هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا مُسْندًا فِي الْكُسُوف فِي: بَاب صَلَاة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال فِي الْكُسُوف عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهَا قَالَت: أتيت عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين خسفت الشَّمْس فَإِذا النَّاس قيام يصلونَ فَإِذا هِيَ قَائِمَة تصلي، فَقلت: للنَّاس؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاء، وَقَالَت: سُبْحَانَ الله. فَقلت: آيَة؟ فَأَشَارَتْ، أَي: نعم، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَقَالَ أنَسٌ: أوْمأ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إِلَى أبي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ.
تقدم هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا فِي كتاب الصَّلَاة مُسْندًا فِي: بَاب أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ، عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثًا فأقيمت الصَّلَاة ... الحَدِيث، وَفِيه: فَأَوْمأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إِلَى أبي بكر أَن يتَقَدَّم إِلَى آخِره.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: أومْأ النيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ: لَا حَرَجَ.
تقدم هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا مُسْندًا فِي كتاب الْحَج قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) . قلت: بِهَذَا اللَّفْظ مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْفتيا بِإِشَارَة(20/285)
الْيَد وَالرَّأْس عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ فِي حجَّته، فَقَالَ: ذبحت. قبل أَن أرمي قَالَ: فأوما بِيَدِهِ، قَالَ: وَلَا حرج.
وَقَالَ أَبُو قُتَادَةَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: آحَدٌ مِنْكُمْ أمَرَهُ أنْ يَحمِلَ عَلَيْها أوْ أشارَ إلَيْها؟ قالُوا: لَا. قَالَ: فكُلُوا.
تقدم هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا فِي الْحَج فِي: بَاب لَا يُشِير الْمحرم إِلَى الصَّيْد عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج حَاجا الحَدِيث، وَفِيه: فَرَأَيْنَا حمر وَحش فَحمل عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَة، إِلَى أَن قَالَ: فحملنا مَا بَقِي من لَحمهَا. قَالَ: أمنكم أحد أمره أَن يحمل عَلَيْهَا أَو أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِي من لَحمهَا.
3925 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا أبُو عامِرٍ عبْدُ المَلِكِ بن عُمْرٍ وَحدثنَا إبْرَاهِيمُ عنْ خالِدٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: طافَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على بَعِيرِهِ وكانَ كُلّما أتَى علَى الرُّكْنِ أشارَ إلَيْهِ وكَبَّرَ، وقالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فتِحَ مِنْ رَدْمِ يأْجُوجَ ومأْجُوجَ مِثْلُ هاذِهِ وهاذِهِ، وعَقَدَ تِسْعِينَ.
دم حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الْحَج أَيْضا فِي: بَاب من أَشَارَ إِلَى الرُّكْن إِذا أَتَى عَلَيْهِ. عَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَفِي آخِره: أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْء كَانَ عِنْده وَكبر.
وَأَبُو عَامر عبد الْملك الْعَقدي وَإِبْرَاهِيم قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ ابْن طهْمَان وَجزم بِهِ الْحَافِظ الْمزي وَقيل: هُوَ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ.
وَأما تَعْلِيق زَيْنَب بنت جشح أم الْمُؤمنِينَ فقد مضى مَوْصُولا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فِي: بَاب عَلَامَات النُّبُوَّة، عَن زَيْنَب بنت جشح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل عَلَيْهَا فَزعًا يَقُول: لَا إِلَه إلاَّ الله ويل للْعَرَب من شَرّ قد اقْترب، فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذَا، وَحلق بإصبعه وبالتي تَلِيهَا ... الحَدِيث. قيل: لَيْسَ فِيهِ الْإِشَارَة. وَأجِيب: بِأَن عقد الْأَصَابِع نوع من الْإِشَارَة.
4925 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا بِشْرُ بنُ المُفَضْلِ حَدثنَا سَلمةُ بنُ عَلْقَمَةَ عنْ مُحَمَّد بنِ سِيرينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أبُو القاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِي الجُمُعَةِ ساعَة لَا يُوَافِقُها مُسْلمٌ قائِمٌ يُصَلِّي فَسأل الله خَيْراً إلاّ أُعطاهُ، وَقَالَ بِيَدِهِ، ووَضَعَ أنْمُلَتَهُ علَى بَطْنِ الوُسْطَى والخنْصِرِ، قُلْنا: يَزُهِّدُها.
(انْظُر الحَدِيث: 539 وطرفه) .
مطابقته للجزء الْأَخير من التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقَالَ بِيَدِهِ) لِأَن مَعْنَاهُ أَشَارَ بِيَدِهِ، وَتُؤْخَذ الْمُطَابقَة أَيْضا من قَوْله: (وَوضع أنملته) إِلَى آخِره، لِأَن وضع الْأُنْمُلَة على الْوُسْطَى إِيمَاء إِلَى أَن تِلْكَ السَّاعَة فِي وسط النَّهَار، وعَلى الْخِنْصر إِلَى أَنَّهَا فِي آخر النَّهَار.
وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من التَّفْضِيل بالضاد الْمُعْجَمَة الْبَصْرِيّ، وَسَلَمَة بِفتْحَتَيْنِ ابْن عَلْقَمَة التَّمِيمِي.
والْحَدِيث تقدم فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة، وَلَكِن من حَدِيث الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَفِي آخِره: وَأَشَارَ بِيَدِهِ يقللها، وَهنا: يزهدها. من التزهيد وَهُوَ التقليل.
5925 - وَقَالَ الأوَيْسِيُّ. حدّثنا إبْرَاهِيمٌ بنُ سَعْدٍ عنْ شُعْبَةَ بنِ الحَجَّاجِ عنْ هِشامِ ابنِ زَيْدٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ: عَدَا يَهُوديٌّ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى جاريَةٍ فأخَذَ أوْضاحاً كانَتْ علَيْها ورَضَخَ رأْسَها، فأتَى بهَا أهْلُها رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وقَدْ صُمَتَتْ فَقَالَ لَهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ قَتَلَكِ؟ فُلاَنٌ لِغَيْرِ الّذِي قَتَلَها فأشارَتْ بِرَأْسِهَا أنْ لَا قَالَ. فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الذِي قَتَلَها. فأشارَتْ أنْ لَا، فَقَالَ: فَفَلاَنٌ لِقاتِلِها، فأشارتْ أنْ نَعَمْ، فأَمَرَ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرُضِخ رأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.(20/286)
مطابقته للجزء الْأَخير من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والأويسي، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عَمْرو بن أويس العامري الْمَدِينِيّ، أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، وَقد مر فِي الْعلم ونسبته إِلَى أحد أجداده أويس، وَهِشَام بن زيد بن أنس بن مَالك يروي عَن جده أنس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن مُحَمَّد وَهُوَ ابْن سَلام وَعَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أبي مُوسَى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الدِّيات عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بنْدَار وَغَيره.
قَوْله: (عدا يَهُودِيّ) ، يَعْنِي: تعدى قَوْله: (فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي زَمَنه وأيامه قَوْله: (فَأخذ أَوْضَاحًا) ، بِفَتْح الْهمزَة جمع وضح بالضاد الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة، وَهُوَ نوع من الْحلِيّ يعْمل من الْفضة سميت بهَا لبياضها وصفائها، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الأوضاح الْحلِيّ من الدَّرَاهِم الصِّحَاح، سميت بذلك لوضوحها وبياضها وصفائها، وَقيل: وَمِنْه أَنه أَمر بصيام الأواضح، وَهِي أَيَّام الْبيض، وَفِي حَدِيث آخر: (صُومُوا من وضح إِلَى وضح) ، أَي: من الضَّوْء إِلَى الضَّوْء، وَقيل: من الْهلَال إِلَى الْهلَال، وَهُوَ الْوَجْه لِأَن سِيَاق الحَدِيث يدل عَلَيْهِ، وَتَمَامه: فَإِن خَفِي عَلَيْكُم فَأتمُّوا الْعدة ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قلت: الأواضح جمع وَاضِحَة لِأَن أَصله وواضح قلبت الْوَاو الأولى همزَة. قَوْله: (كَانَت عَلَيْهَا) ، جملَة وَقعت صفة لأوضاح. قَوْله: (ورضخ) بالمعجمتين من الرضخ وَهُوَ الدق وَالْكَسْر هَهُنَا، وَيَجِيء بِمَعْنى الشدخ والقطعة. قَوْله: (فِي آخر رَمق) ، الرمق بَقِيَّة الرّوح. قَوْله: (وَقد أصمتت) على صِيغَة الْمَعْلُوم وَبِمَعْنى الْمَجْهُول أَيْضا. يُقَال: صمت العليل وأصمت فَهُوَ صَامت ومصمت إِذا اعتقل لِسَانه وَسكت، والصموت والإصمات بِمَعْنى. قَوْله: (فلَان؟) أَي: أفلان؟ الْهمزَة فِيهِ مقدرَة، ويروى كَذَلِك. قَوْله: (أَن لَا) أَي: لَيْسَ فلَان قتلني، وَكلمَة: أَن تفسيرية فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة. قَوْله: (فرضخ) على صِيغَة الْمَجْهُول وَقد مر مَعْنَاهُ.
وَقد اخْتلفت أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث هُنَا، فَروِيَ: رض رَأسه بَين حجرين، كَذَا فِي رِوَايَة لمُسلم، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن أنس: أَن يَهُودِيّا قتل جَارِيَة من الْأَنْصَار على حلي لَهَا ثمَّ أَلْقَاهَا فِي قليب ورضح رَأسهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأخذ فَأتي بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمر بِهِ أَن يرْجم حَتَّى يَمُوت، فرجم حَتَّى مَاتَ، وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث جمَاعَة على أَن الْقَاتِل يقتل بِمَا قتل بِهِ، وهم: عمر بن عبد الْعَزِيز وَقَتَادَة وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو إِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَجَمَاعَة الظَّاهِرِيَّة.
وَخَالفهُم آخَرُونَ وَقَالُوا: كل من وَجب عَلَيْهِ الْقود لم يقتل إلاَّ بِالسَّيْفِ، وهم: الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ ابْن حزم: وَهُوَ قَول أبي سُلَيْمَان. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ) ، روى هَذَا عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة وهم: أَبُو بكرَة والنعمان بن بشير وَابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. أما حديثأبي بكرَة فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث الْحسن عَن أبي بكرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ) ، وَأما حَدِيث النُّعْمَان فَأخْرجهُ ابْن ماجة أَيْضا عَن جَابر الْجعْفِيّ عَن أبي عَازِب عَن النُّعْمَان بن بشير، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ) ، وَأما حديثابن مَسْعُود فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) من حَدِيث عَلْقَمَة عَنهُ مَرْفُوعا نَحوه. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. نَحوه وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا قَود فِي النَّفس وَغَيرهَا إلاَّ بحديدة.
فَإِن قلت: قَالَ الْبَزَّار فِي حَدِيث أبي بكرَة بعد أَن أخرجه: النَّاس يَرْوُونَهُ عَن الْحسن مُرْسلا. قلت: تَابعه الْوَلِيد بن صَالح ابْن مُحَمَّد الْأَيْلِي عَن مبارك بن فضَالة عَن الْحسن عَن أبي بكرَة مَرْفُوعا. فَإِن قلت: رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَأعله بالوليد، وَقَالَ: أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالْمبَارك بن فضَالة لَا يحْتَج بِهِ. قلت: أخرج لَهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَوَثَّقَهُ، والمرسل: الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَزَّار رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) مَرْفُوعا: حَدثنَا هشيم حَدثنَا أَشْعَث عَن عبد الْملك عَن الْحسن مَرْفُوعا: لَا قَود إلاَّ بحديدة. وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن أَشْعَث وَعمر وَعَن الْحسن مَرْفُوعا نَحوه. فَإِن قلت: فِي حَدِيث النُّعْمَان عَن جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: اتَّفقُوا على(20/287)
ضعفه، قَالَه فِي (التَّنْقِيح) . قلت: عجبا مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي غَيره: وَجَابِر الْجعْفِيّ قد وَثَّقَهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وناهيك بهما فَكيف يَقُول هَذَا ثمَّ يَحْكِي الِاتِّفَاق على ضعفه؟ هَذَا تنَاقض بيّن. وَأَبُو عَازِب اسْمه مُسلم بن عَمْرو، فَإِن قلت: فِي سَنَد حَدِيث ابْن مَسْعُود عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق وَهُوَ ضَعِيف. قلت: حَدِيثه قد تقوى بِغَيْرِهِ. فَإِن قلت: فِي سَنَد حَدِيث أبي هُرَيْرَة سُلَيْمَان ابْن أَرقم وَهُوَ مَتْرُوك. قلت: فِي غَيره كِفَايَة. فَإِن قلت: فِي سَنَد حَدِيث عَليّ مُعلى بن هِلَال وَهُوَ مَتْرُوك. قلت: الْمَتْرُوك قد يسْتَعْمل عِنْد وجود المقبول. وَقد يسكت عَنهُ لحُصُول الْمَقْصُود بِغَيْرِهِ. وَلَا شكّ أَن بعض هَذِه الْأَحَادِيث تشهد لبَعض وَأَقل أَحْوَاله أَن يكون حسنا فَيصح الِاحْتِجَاج بِهِ، وَالْعجب من الْكرْمَانِي حَيْثُ يَقُول: وَفِيه أَي: وَفِي حَدِيث الْبَاب ثُبُوت الْقصاص بِالْمثلِ خلافًا للحنفية، فَلم. لَا يَقُول فِي هَذِه الْأَحَادِيث: لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ خلافًا للشَّافِعِيَّة؟ وأعجب مِنْهُ صَاحب (التَّوْضِيح) حَيْثُ يَقُول: وَهُوَ حجَّة على أبي حنيفَة فِي قَوْله: لَا يُقَاد إلاَّ بِالسَّيْفِ، فَمَا معنى تَخْصِيص أبي حنيفَة من بَين الْجَمَاعَة الَّذين قَالُوا بقوله وهم: الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَهَؤُلَاء أساطين فِي أُمُور الدّين؟ وَلَكِن هَذَا من نبض عرق العصبية الْبَارِدَة.
وَأجَاب أَصْحَاب أبي حنيفَة عَن حَدِيث الْبَاب بأجوبة. الأول: بِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام يقتل الْقَاتِل بقول الْمَقْتُول وَبِمَا قتل بِهِ. الثَّانِي: مَا قَتله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. إلاَّ باعترافه، فَإِن لفظ الِاعْتِرَاف أخرجه البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَفِي (صَحِيح مُسلم) : فَأخذ الْيَهُودِيّ فاعترف. وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: فَلم يزل بِهِ حَتَّى أقرّ. الثَّالِث: أَنه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، علمه بِالْوَحْي، فَلذَلِك لم يحْتَج إِلَى الْبَيِّنَة وَلَا إِلَى الْإِقْرَار. وَالرَّابِع: مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى أَن ذَلِك الْقَاتِل يجب قَتله لله، إِذْ كَانَ إِنَّمَا قتل على مَال قد، بَين ذَلِك فِي بعض الحَدِيث، ثمَّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل دم ذَلِك الْيَهُود قد وَجب لله عز وَجل كَمَا يجب دم قَاطع الطَّرِيق لله تَعَالَى، فَكَانَ لَهُ أَن يقْتله كَيفَ شَاءَ بِسيف وَبِغير ذَلِك. الْخَامِس: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زمن كَانَت المُثلة مُبَاحَة، كَمَا فِي العرنيين، ثمَّ نسخ ذَلِك بانتساخ المُثلة.
6925 - حدّثني قَبِيصَةُ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ عبْدِ الله بن دينارٍ عنِ ابْن عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: الفِتْنَةُ مِنْ هُنا، وأشارَ إِلَى المَشْرِقِ.
ابقته للجزء الْأَخير من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقبيصَة هُوَ ابْن عقبَة الْكُوفِي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
7925 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنْ أبِي إسْحاقَ الشَّيْبَانِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبي أوْفَى قَالَ: كُنَّا فِي سفَرٍ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لرَجُلٍ: انْزِلْ فاجْدَحْ لِي. قَالَ: يَا رسولَ الله {لوْ أمْسَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: انُزِلْ فاجْدَحْ. قَالَ: قَالَ يَا رسولَ الله لوْ أمْسَيْتَ} إنَّ عَلَيْكَ نَهاراً، ثُمَّ قَالَ: انْزِلِ فاجْدَحْ، فنَزَلَ فَجَدَحَ لهُ فِي الثالِثَةِ، فشَرِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أوْمأ بِيَدِهِ إِلَى المَشْرِقِ فَقَالَ: إذَا رأيْتُمُ اللّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِنْ هاهُنا فَقَدْ أفْطَرَ الصائِمُ.
ابقته للجزء الْأَخير من التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أَوْمَأ بِيَدِهِ إِلَى الْمشرق) .
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ وَأَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان واسْمه فَيْرُوز الْكُوفِي، وَعبد الله بن أبي أوفي، وَقيل: ابْن أوفى، فَلَيْسَ بِصَحِيح وَاسم أبي أوفى عَلْقَمَة الْأَسْلَمِيّ، قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَهُوَ آخر من مَاتَ بِالْكُوفَةِ من الصَّحَابَة. رَوَاهُ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب مَتى يحل فطر الصَّائِم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق الوَاسِطِيّ عَن خَالِد عَن الشَّيْبَانِيّ إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فاجدح) أَمر من الجدح بِالْجِيم وبالمهملتين وَهُوَ بل السويق بِالْمَاءِ. قَوْله: (فقد أفطر الصَّائِم) أَي: قد دخل وَقت الْإِفْطَار نَحْو: أحصد الزَّرْع.(20/288)
8925 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَة حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عنْ أبي عُثْمَانَ عنْ عبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله عنْهُ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَمْنَعَنَّ أحَداً مِنْكُمْ نِدَاءُ بِلاَلٍ، أوْ قَالَ: أذَانُهُ مِنْ سَحُورِهِ فَإنَّما يُنادِيَ أوْ قَالَ: يُؤَذِّنُ لِيَرْجِعَ قائِمُكُمْ ولَيْسَ أنْ يَقُولَ كأنّهُ يَعْنِي الصُّبْحَ أوِ الفَجْرِ، وأظْهَرَ يَزِيدُ يَدَيْهِ ثُمَّ مَدَّ إحْدَاهُمَا مِنَ الأُخْرَى.
ابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَأظْهر يزِيد) إِلَى آخِره، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي الْأَذَان، وَقَالَ بأصابعه ورفعهما إِلَى فَوق وطأطأ إِلَى أَسْفَل حَتَّى يَقُول: هَكَذَا، وَبِه يظْهر المُرَاد من الْإِشَارَة.
وَعبد الله بن مسلمة بِفَتْح الْمِيم فِي أَوله، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع، وَسليمَان التَّيْمِيّ هُوَ سلميان بن طرخان وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح الون.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْأَذَان قبل الْفجْر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (من سحوره) ، بِضَم السِّين وَهُوَ التسحر. قَوْله: (ليرْجع) ، يجوز أَن يكون من الرُّجُوع أَو من الرجع، وقائمكم بِالنّصب على المفعولية، والقائم هُوَ المتهجد أَي: يعود إِلَى الاسْتِرَاحَة بِأَن ينَام سَاعَة قبل الصُّبْح قَوْله: (كَأَنَّهُ) ، غَرَضه أَن اسْم لَيْسَ هُوَ الصُّبْح يَعْنِي: لَيْسَ الْمُعْتَبر هُوَ أَن يكون الضَّوْء مستطيلاً من الْعُلُوّ إِلَى أَسْفَل، وَهُوَ الْكَاذِب، بل الصُّبْح هُوَ الضَّوْء الْمُعْتَرض من الْيَمين إِلَى الشمَال وَهُوَ الصُّبْح الصَّادِق. قَوْله: (أَو الْفجْر) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (وَأظْهر) ، فعل ماضٍ (وَيزِيد) فَاعله وَهُوَ يزِيد بن زُرَيْع الرَّاوِي، أَي: جعل إِحْدَى يَدَيْهِ على ظهر الْأُخْرَى ومدها عَنْهَا، وَالْحَاصِل أَن قَوْله: (وَأظْهر يزِيد. .،) إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى صُورَة الصُّبْح الْكَاذِب. قَوْله: (ثمَّ مد إِحْدَاهمَا من الْأُخْرَى) ، إِشَارَة إِلَى الصُّبْح الصَّادِق.
9925 - قَالَ اللّيْثُ: حدّثني جَعْفَرُ بنُ ربِيعَةَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بن هُرْمُزَ سَمَعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَثَلُ البَخِيلِ والمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتانٍ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيَيْهِما إِلَى تَرَاقِيهما، فأمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ شَيْئاً إلاّ مادَّتْ عَلى جِلْدِهِ حتَّى تَجِنَّ بَنَانَهُ وتَعْفُوَ أثَرَهُ، وأمَّا البَخِيلُ فَلا يُرِيدُ يُنْفِقُ إلاّ لَزِمتْ كلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعها فَهُوَ يُوسِّعُها فَلاَ تَتَّسِعُ، ويُشِيرُ بأصْبُعِهِ إِلَى حلْقِهِ.
ابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيُشِير بإصبعه إِلَى حلقه) . وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد.
والْحَدِيث قد مر مَوْصُولا فِي الزَّكَاة فِي: بَاب التَّصَدُّق والبخيل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن عبد الرَّحْمَن أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة، وَقَالَ هُنَاكَ أَيْضا: قَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر عَن ابْن هُرْمُز: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جبتان، وَسكت وَهنا سَاقه بِتَمَامِهِ.
قَوْله: (جبتان) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُنَاكَ جنتان بالنُّون مَوضِع الْمُوَحدَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (من لدن ثدييهما) بالتثنية، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: ثديهما، بِضَم الثَّاء وَكسر الدَّال وَتَشْديد الْيَاء جمع ثدي قَوْله: (إِلَى تراقيهما) ، جمع ترقوة وَهِي الْعظم الْكَبِير الَّذِي بَين ثغرة النَّحْر والعاتق، ووزنها فَعَلُوهُ. قَوْله: (إلاَّ مادت) ، بتَشْديد الدَّال أَصله: ماددت، فأدغمت الدَّال فِي الدَّال، وَذكر ابْن بطال أَنه مارت برَاء خَفِيفَة بدل الدَّال، وَنقل عَن الْخَلِيل: مار الشَّيْء يمور موراً إِذا تردد. قَوْله: (حَتَّى تجن) ، بِفَتْح أَوله وَكسر الْجِيم كَذَا ضَبطه ابْن التِّين، قَالَ: وَيجوز بِضَم أَوله وَكسر الْجِيم من: أجن، وَهُوَ الَّذِي ثَبت فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَمَعْنَاهُ: تستر بنانه وَهُوَ أَطْرَاف الْأَصَابِع. قَوْله: (وَتَعْفُو) ، أَي: تمحو، من عُفيَ الشَّيْء إِذا محاه.
52 - (بابُ اللِّعانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام اللّعان، وَهُوَ مصدر: لَا عَن يُلَاعن ملاعنة ولعاناً وَهُوَ مُشْتَقّ من اللَّعْن. وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد لبعدهما من الرَّحْمَة أَو لبعد كل مِنْهُمَا عَن الآخر، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا. وَاللّعان والالتعان، والملاعنة بِمَعْنى، وَيُقَال: تلاعنا والتعنا ولاعن(20/289)
الْحَاكِم بَينهمَا. وَالرجل ملاعن وَالْمَرْأَة ملاعنة وَسمي بِهِ لما فِيهِ من لعن نَفسه فِي الْخَامِسَة، وَهِي من تَسْمِيَة الْكل باسم الْبَعْض كَالصَّلَاةِ تسمى رُكُوعًا وسجوداً، وَمَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ: شَهَادَات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن. وَقَالَ الشَّافِعِي: هِيَ أَيْمَان مؤكدات بِلَفْظ الشَّهَادَة فَيشْتَرط أَهْلِيَّة الْيَمين عِنْده فَيجْرِي بَين الْمُسلم وَامْرَأَته الْكَافِرَة، وَبَين الْكَافِر والكافرة، وَبَين العَبْد وَامْرَأَته، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَعِنْدنَا يشْتَرط أَهْلِيَّة الشَّهَادَة فَلَا يجْرِي إلاَّ بَين الْمُسلمين الحرين العاقلين الْبَالِغين غير محدودين فِي قذف، واختير لفظ اللَّعْن على لفظ الْغَضَب وَإِن كُنَّا مذكورين فِي الْآيَة لتقدمه فيهمَا، وَلِأَن جَانب الرجل فِيهِ أقوى من جَانب الْمَرْأَة، لِأَنَّهُ قَادر على الِابْتِدَاء بِاللّعانِ دونهَا. وَلِأَنَّهُ قد ينكف لِعَانه عَن لعانها وَلَا ينعكس، واختصت الْمَرْأَة بِالْغَضَبِ لعظم الذَّنب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا لِأَن الرجل إِن كَانَ كَاذِبًا لم يصل ذَنبه إِلَى أَكثر من الْقَذْف، وَإِن كَانَت هِيَ كَاذِبَة فذنبها أعظم لما فِيهِ من تلويث الْفراش والتعرض لإلحاق من لَيْسَ من الزَّوْج بِهِ فتنتشر الْمَحْرَمِيَّة وَتثبت الْولَايَة وَالْمِيرَاث لمن لَا يستحقهما، وَجوز اللّعان لحفظ الْأَنْسَاب وَدفع المعرة عَن الْأزْوَاج، واجمع الْعلمَاء على صِحَّته.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: { (24) وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم} إِلَى قَوْله: { (24) إِن كَانَ من الصَّادِقين} (النُّور: 6) [/ ح.
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على لفظ اللّعان الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظ بَاب، وَهَذَا الْمِقْدَار ذكر من الْآيَة عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة سَاق الْآيَات كلهَا، وَنزلت هَذِه الْآيَات فِي شعْبَان سنة تسع فِي عُوَيْمِر الْعجْلَاني مُنصَرفه من تَبُوك، أَو فِي هِلَال بن أُميَّة، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، وَقَالَ الْمُهلب: الصَّحِيح أَن الْقَاذِف عُوَيْمِر وهلال بن أُميَّة بن سعد بن أُميَّة خطا، وَقد روى أَبُو الْقَاسِم عَن ابْن عَبَّاس أَن الْعجْلَاني عُوَيْمِر قذف امْرَأَته، كَمَا روى ابْن عمر وَسَهل بن سعد، وَأَظنهُ غَلطا من هِشَام بن حسان، وَمِمَّا يدل على أَنَّهَا قصَّة وَاحِدَة توقفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا حَتَّى نزلت الْآيَة الْكَرِيمَة، وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف على الحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا نزل عَلَيْهِ فِي الأولى، وَالظَّاهِر أَنه تبع فِي هَذَا الْكَلَام مُحَمَّد بن جرير فَإِنَّهُ قَالَ فِي (التَّهْذِيب) يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث: هِلَال ابْن أُميَّة، وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر بن الْحَارِث بن زيد بن الْجد بن عجلَان. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيمَا قَالَاه نظر، لِأَن قصَّة هِلَال وقذفه زَوجته بِشريك ثَابِتَة فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) فِي موضِعين: فِي الشَّهَادَات وَالتَّفْسِير، وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث هِشَام عَن مُحَمَّد قَالَ: (سَأَلت أنس بن مَالك، وَأَنا أرى أَن عِنْده مِنْهُ علما، فَقَالَ: إِن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته بِشريك بن سمحاء، وَكَانَ أَخا للبراء بن مَالك لأمه، وَكَانَ أول رجل لَا عَن فِي الْإِسْلَام قَالَ: فَتَلَاعَنا) . . الحَدِيث.
فإذَا قَذَفَ الأخْرَسُ امْرَأتَهُ بِكِتابَةٍ أوْ إشارَةٍ أوْ بإيماءٍ مَعْرُوفٍ فَهْوَ كالمُتَكَلِّمِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَدْ أجازَ الإشارَةَ فِي الفَرَائِضِ، وهْوَ قَوْلُ بَعْضِ أهلِ الحِجازِ وأهْلِ العلْمِ، وقالَ الله تَعَالَى: { (19) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} (مَرْيَم: 92) وَقَالَ الضحَّاكُ: إلاَّ رَمْزاً: إلاَّ إشارَةً.
وَقَالَ بَعْضُ النّاسِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، ثُمَّ زَعَمَ أنَّ الطلاَقَ بِكِتابٍ أوْ إشارَةٍ أوْ إيماءٍ جائِزٌ، ولَيْسَ بَيْنَ الطَّلاَقِ والقَذْفِ فَرْقٌ، فإنْ قَالَ: القَذْفُ لَا يَكُونُ إلاَّ بِكَلاَمٍ، قِيلَ لهُ: كَذَلِكَ الطَّلاَقُ لَا يَجُوزُ إلاَّ بِكَلاَمٍ، وإلاّ بَطَلَ الطَّلاَقُ والقَذْفُ، وكَذَلِكَ الأصَمُّ يُلاَعِنُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وقَتادَةُ: إذَا قَال: أنْتِ طالِقٌ، فأشارَ بأصابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بإشارَتِه.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: الأْخرَسُ إذَا كَتَبَ الطَّلاَقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ.
وَقَالَ حمَّادٌ: الأخرَسُ والأصَمُّ إنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جازَ.
أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْكَلَام كُله بَيَان الِاخْتِلَاف بَين أهل الْحجاز وَبَين الْكُوفِيّين فِي حكم الْأَخْرَس فِي اللّعان وَالْحَد، فَلذَلِك قَالَ: فَإِذا قذف الْأَخْرَس إِلَى آخِره، بِالْفَاءِ عقيب ذكر قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} (النُّور: 6)
الْآيَة. وَأخذ بِعُمُوم قَوْله: يرْمونَ، لِأَن الرَّمْي أَعم من أَن يكون بِاللَّفْظِ أَو بِالْإِشَارَةِ المفهمة، وَبنى على هَذَا كَلَامه، فَقَالَ: إِذا قذف الْأَخْرَس امْرَأَته(20/290)
بِكِتَابَة، وَعند الكشيهني: بِكِتَاب، بِدُونِ التَّاء إِذا فهم الْكِتَابَة. قَوْله: (أَو إِشَارَة) أَي: أَو قذفه بِإِشَارَة مفهمة أَو إِيمَاء مفهم أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (مَعْرُوف) وَقيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا لم يكن مَعْرُوفا مِنْهُ ذَلِك لَا يبْنى عَلَيْهِ حكم. وَالْفرق بَين الْإِشَارَة والإيماء بِأَن الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن فِي الِاسْتِعْمَال إِن الْإِشَارَة بِالْيَدِ والإيماء بِالرَّأْسِ أَو الجفن وَنَحْوه. قَوْله: (فَهُوَ كالمتكلم) جَوَاب: (فَإِذا قذف) أَي: فَحكمه حكم الْمُتَكَلّم، يَعْنِي: حكم النَّاطِق بِهِ، وَإِنَّمَا أَدخل الْفَاء لتضمن إِذا معنى الشَّرْط، وَهُوَ قَوْله: مَعْرُوف، وَهُوَ وَإِن كَانَ صفة لقَوْله أَو إِيمَاء، بِحَسب الظَّاهِر وَلكنه فِي نفس الْأَمر يرجع إِلَى الْكل لِأَنَّهُ إِذا لم يفهم الْكِتَابَة أَو الْإِشَارَة أَو الْإِيمَاء لَا يبْنى عَلَيْهِ حكم، ثمَّ إِنَّه إِذا كَانَ كالمتكلم يكون قذفه بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مُعْتَبر فيترتب عَلَيْهِ اللّعان وَحكمه. قَوْله: (لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَال بِمَا ذكره بَيَانه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قد أجَاز الْإِشَارَة فِي الْفَرَائِض) أَي: فِي الْأُمُور الْمَفْرُوضَة كَمَا فِي الصَّلَاة فَإِن الْعَاجِز عَن غير الْإِشَارَة يُصَلِّي بِالْإِشَارَةِ قَوْله: (وَهُوَ قَول بعض أهل الْحجاز) أَي: مَا ذكر من قذف الْأَخْرَس ... إِلَى آخِره قَول بعض أهل الْحجاز، وَأَرَادَ بِهِ الإِمَام مَالِكًا وَمن تبعه فِيمَا ذهب إِلَيْهِ. قَوْله: (وَأهل الْعلم) أَي: وَبَعض أهل الْعلم من غير أهل الْحجاز، وَمِمَّنْ قَالَ من أهل الْعلم وَأَبُو ثَوْر فَإِنَّهُ ذهب إِلَى مَا قَالَه مَالك. قَوْله: (قَالَ الله تَعَالَى: {فاشارت إِلَيْهِ} ) (مَرْيَم: 92) إِلَى قَوْله: (إلاَّ إِشَارَة) اسْتِدْلَال من البُخَارِيّ لقَوْل بعض أهل الْحجاز بقوله تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أَي: أشارت مَرْيَم إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَت لقومها بِالْإِشَارَةِ لما قَالُوا لَهَا: {لقد جِئْت شَيْئا فريا} (مَرْيَم: 72) كلموا عِيسَى وَهُوَ فِي المهد {قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} (مَرْيَم: 92) فعرفوا من إشارتها مَا كَانُوا عرفوه من نطقها. قَوْله: (وَقَالَ الضَّحَّاك إِلَّا رمزاً إلاَّ إِشَارَة) هَذَا اسْتِدْلَال آخر بقوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إلاَّ رمزاً} (آل عمرَان: 14) وَحكى عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم قَالَ بَعضهم: كَذَا ابْن مُزَاحم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الضَّحَّاك بن شرَاحِيل الْهَمدَانِي التَّابِعِيّ الْمُفَسّر، قلت: الضَّحَّاك بن مُزَاحم أَبُو الْقَاسِم الْهِلَالِي الْخُرَاسَانِي كَانَ يكون بسمرقند وبلخ ونيسابور، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة: ابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو وَزيد بن أَرقم وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَلم يثبت سَمَاعه مِنْهُم، وَوَثَّقَهُ يحيى بن معِين، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة كُوفِي مَاتَ سنة خمس وَمِائَة، وروى لَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَفسّر قَوْله: (إلاَّ رمزاً) ، بقوله: (إلاَّ إِشَارَة) وَلَوْلَا أَنه يفهم مِنْهَا مَا يفهم من الْكَلَام لم يقل الله عز وَجل لَا تكلمهم إلاَّ رمزاً، وَهَذَا فِي قَضِيَّة زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلما قَالَ الله تَعَالَى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى} (مَرْيَم: 7) . فَقَالَ: يَا رب {أَنى يكون لي غُلَام} إِلَى قَوْله: قَالَ رَبِّ اجْعَل لِىءَايَةً قَالَءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} (مَرْيَم: 8 01) وَذكر فِي سُورَة آل عمرَان قَالَ: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} (آل عمرَان: 14) وَفَسرهُ الضَّحَّاك بقوله: (إلاَّ إِشَارَة) قَوْله: (وَقَالَ بعض النَّاس) أَرَادَ بِهِ الْكُوفِيّين لِأَنَّهُ لما فرغ من الِاحْتِجَاج لكَلَام أهل الْحجاز شرع فِي بَيَان قَول الْكُوفِيّين فِي قذف الْأَخْرَس. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: بعض النَّاس، يُرِيد بِهِ الْحَنَفِيَّة، حَيْثُ قَالُوا لَا حدّ على الْأَخْرَس لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَار لقذفه وَلَا لعان عَلَيْهِ، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : قذف الْأَخْرَس لَا يتلق بِهِ اللّعان لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالصَّرِيحِ كَحَد الْقَذْف، ثمَّ قَالَ: وَلَا يعْتد بِالْإِشَارَةِ فِي الْقَذْف لِانْعِدَامِ الْقَذْف صَرِيحًا. ثمَّ قَالَ: وَطَلَاق الْأَخْرَس وَاقع بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا صَارَت معهودة، فأقيمت مقَام الْعبارَة دفعا للْحَاجة. قَوْله: (ثمَّ زعم. .) الخ أَي: ثمَّ زعم بعض النَّاس وَأَرَادَ بهم الْحَنَفِيَّة، وَقيل: ثمَّ زعم، أَي: أَبُو حنيفَة، لِأَن مُرَاده من قَوْله: وَقَالَ بعض النَّاس، هُوَ أَبُو حنيفَة، وَأَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى أَن مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة من ذَلِك تحكم لأَنهم قَالُوا: إِلَّا اعْتِبَار لقذف الْأَخْرَس واعتبروا طَلَاقه، فَهُوَ فرق بِدُونِ الِافْتِرَاق وَتَخْصِيص بِلَا اخْتِصَاص، وأجابت الْحَنَفِيَّة: بِأَن صِحَة الْقَذْف تتَعَلَّق بِصَرِيح الزِّنَا دون مَعْنَاهُ، وَهَذَا لَا يحصل من الْأَخْرَس ضَرُورَة فَلم يكن قَاذِفا، والشبهة تدرأ الْحُدُود. قَوْله: (وَلَيْسَ بَين الطَّلَاق وَالْقَذْف فرق) . من كَلَام البُخَارِيّ، وَدَعوى عدم الْفرق بَينهمَا مَمْنُوعَة لِأَن لفظ الطَّلَاق صَرِيح فِي أَدَاء مَعْنَاهُ، بِخِلَاف الْقَذْف فَإِنَّهُ إِن لم يكن فِيهِ التَّصْرِيح بِالزِّنَا لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر لفظا وَمعنى. قَوْله: (فَإِن قَالَ: الْقَذْف لَا يكون إلاَّ بِكَلَام؟) أَي: فَإِن قَالَ ذَلِك الْبَعْض الْمَذْكُور فِي قَوْله: وَقَالَ بعض النَّاس، هَذَا سُؤال يُورِدهُ البُخَارِيّ من جِهَة الْبَعْض من النَّاس على قَوْله: فَإِذا قذف الْأَخْرَس. . الخ، بَيَان السُّؤَال، إِذا قَالُوا: الْقَذْف لَا يكون إلاَّ بِكَلَام وَقذف الْأَخْرَس لَيْسَ بِكَلَام فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حدّ وَلَا لعان، ثمَّ(20/291)
أجَاب عَن هَذَا السُّؤَال بقوله: (كَذَلِك الطَّلَاق لَا يجوز إلاَّ بِكَلَام) وَهَذَا الْجَواب واهٍ جدا لِأَن بَين الْكَلَامَيْنِ فرقا عَظِيما دَقِيقًا لَا يفهمهُ كَمَا يَنْبَغِي إلاَّ من لَهُ دقة نظر، وَذَلِكَ أَن المُرَاد بالْكلَام فِي الطَّلَاق إِظْهَار مَعْنَاهُ، فَإِن لم يتَلَفَّظ بِلَفْظ الطَّلَاق لَا يَقع شَيْء، بِخِلَاف الْأَخْرَس، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَلَام ضَرُورَة، وَإِنَّمَا لَهُ الْإِشَارَة، وَالْإِشَارَة تَتَضَمَّن وَجْهَيْن فَلم يجز إِيجَاب الْحَد بهَا كالكتابة والتعريض. أَلا ترى أَن من قَالَ لآخر: وطِئت وطأ حَرَامًا. لم يكن قذفا لاحْتِمَال أَن يكون وطىء وطأ شُبْهَة فَاعْتقد الْقَائِل بِأَنَّهُ حرَام؟ وَالْإِشَارَة لَا يَتَّضِح بهَا التَّفْصِيل بَين الْمَعْنيين، وَلذَلِك لَا يجب الْحَد بالتعريض. وَقَالَ بَعضهم: وَأجَاب ابْن الْقصار بِالنَّقْضِ عَلَيْهِم بنفوذ الْقَذْف بِغَيْر اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَهُوَ ضَعِيف، وَنقض غَيره بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى عمد وَشبه عمد وَخطأ، ويتميز بِالْإِشَارَةِ. وَهُوَ قوي، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن اللّعان شَهَادَة، وَشَهَادَة الْأَخْرَس مَرْدُودَة بِالْإِجْمَاع. وَتعقب بَان مَالِكًا ذكر قبُولهَا فَلَا إِجْمَاع. وَبِأَن اللّعان عِنْد الْأَكْثَرين يَمِين. انْتهى.
قلت: الإيرادات الْمَذْكُورَة كلهَا غير وَارِدَة. أما الأول: فَلِأَن الشَّرْط التَّصْرِيح بِلَفْظ الزِّنَا وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا كَمَا يَنْبَغِي فِي غير لِسَان الْعَرَب. وَأما الثَّانِي الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَائِل، وَهُوَ قوي. فأضعف من الأول لِأَن الْقَتْل يَنْقَسِم إِلَى عمد وَشبه عمد وَخطأ والجاري مجْرى الْخَطَأ وَالْقَتْل بِالسَّبَبِ، فالتمييز عَن الْأَخْرَس فِيهَا مُتَعَذر. وَأما الثالثفإن شَهَادَة الْأَخْرَس مَرْدُودَة، فاللعان عندنَا شَهَادَة مُؤَكدَة بِالْيَمِينِ فَلَا يحْتَاج أَن يَقُول بِالْإِجْمَاع لِأَن شَهَادَته مَرْدُودَة عندنَا سَوَاء كَانَ فِيهِ قَول بِالْقبُولِ أَو لَا. وَأما الرَّابِع، فقد قُلْنَا: إِن اللّعان شهدة فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح.
قَوْله: (وإلاَّ بَطل الطَّلَاق وَالْقَذْف) ، يَعْنِي: وَإِن لم يقل بِالْفرقِ فَلَا بُد من بطلانهما لِأَن بطلَان الْقَذْف فَقَط. قَوْله: (وَكَذَلِكَ الْعتْق) أَي: كَذَلِك حكمه حكم الْقَذْف فَيجب أَيْضا أَن تبطل إِشَارَته بِالْعِتْقِ، وَلَكنهُمْ قَالُوا بِصِحَّتِهِ. قَوْله: (وَكَذَلِكَ الْأَصَم يُلَاعن) أَي: إِذا أُشير إِلَيْهِ حَتَّى فهم، وَقَالَ الْمُهلب: فِي أمره إِشْكَال لَكِن قد يرْتَفع بترداد الْإِشَارَة إِلَى أَن ينفهم معرفَة ذَلِك.
قَوْله: (وَقَالَ الشّعبِيّ) وَهُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَقَتَادَة بن دعامة: إِذا قَالَ الْأَخْرَس لامْرَأَته: أَنْت طَالِق فَأَشَارَ بأصابعه تبين مِنْهُ بإشارته وَاحِدَة أَو ثِنْتَانِ أَو ثَلَاث، يَعْنِي: إِذا عبر عَمَّا نَوَاه من الْعدَد بِالْإِشَارَةِ يظْهر مِنْهَا مَا نَوَاه من وَاحِدَة أَو أَكثر.
قَوْله: (وَقَالَ إِبْرَاهِيم) أَي النَّخعِيّ: إِذا كتب الْأَخْرَس الطَّلَاق بِيَدِهِ لزمَه، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذا كَانَ رجل أصمت أَيَّامًا فَكتب لم يجز من ذَلِك شَيْء، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: الخرس مُخَالف للصمت، كَمَا أَن الْعَجز عَن الْجِمَاع الْعَارِض بِالْمرضِ يَوْمًا أَو نَحوه مُخَالف للعجز المأنوس مِنْهُ الْجِمَاع، نَحْو الْجُنُون فِي بَاب خِيَار الْمَرْأَة فِي الْفرْقَة.
قَوْله: (وَقَالَ حَمَّاد) أَي: ابْن أبي سُلَيْمَان شيخ أبي حينفة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (الْأَخْرَس والأصم إِن قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ) أَي: إِن أَشَارَ بِرَأْسِهِ فِيمَا يسْأَل عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ أَرَادَ إِلْزَام الْكُوفِيّين بقول شيخهم. قلت: لم يدر هَذَا الْقَائِل مَا مُرَاد الشَّيْخ من هَذَا، وَلَو عرف لما قَالَ هَذَا وَمُرَاد الشَّيْخ من هَذَا أَن إِشَارَة الْأَخْرَس معهودة فأقيمت مقَام الْعبارَة، والكوفيون قَائِلُونَ بِهِ، فَمن أَيْن يأتى إلزمهم؟ .
0035 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأنْصارِي أنْهُ سَمِعَ أنَسَ بن مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألاَ اخبْرِكُمْ بِخَيْرِ دُوِ الأنْصارِ؟ قالُوا: بَلى يَا رسولَ الله! قَالَ: بَنُو النّجَّارِ، ثمَّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ: بَنو عَبْدِ الأشْهَلِ، ثُمَّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ: بَنُو الحارِثِ بنِ الخزْرَجِ، ثُمَّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ: بنُو ساعِدَة، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَ أصابِعَهُ ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كالرَّامِي بِيدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وفِي كلِّ دُورِ الأنْصارِ خَيْرٌ.
قيل: هَذَا الحَدِيث وَمَا بعده لَا تعلق لَهُ بِاللّعانِ الَّذِي عقد عَلَيْهِ التَّرْجَمَة. وَأجِيب: لَعَلَّهَا كَانَت مُتَقَدّمَة فأخرها النَّاسِخ عَنهُ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، بل ذكر هَذَا الحَدِيث وَالْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي بعْدهَا كلهَا فِي الْإِشَارَة تَحْقِيقا لَهَا بِفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللّعان، وَالْإِشَارَة فِي هَذَا الحَدِيث. فِي قَوْله: (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ) لِأَن مَعْنَاهُ: ثمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ.
والْحَدِيث قد مضى فِي مَنَاقِب(20/292)
الْأَنْصَار فِي: بَاب فضل دور الْأَنْصَار، من طَرِيق آخر. وَفِيه: عَن أنس عَن أبي أسيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (كالرامي بِيَدِهِ) أَي: كَالَّذي بِيَدِهِ الشَّيْء، فضم أَصَابِعه عَلَيْهِ ثمَّ رَمَاه فانتشر.
1035 - حدّثنا عَلِيٌّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ، قَالَ أبُو حازِمٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعدِيِّ صاحِبِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بُعِثْتُ أَنا والسَّاعَةُ كهَذِهِ مِنْ هاذِهِ، أوْ قالَ: كَهاتَيْنِ، وفَرَقَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ والوُسطى.
(انْظُر الحَدِيث 6394 وطرفه) .
مطابقته للْحَدِيث السَّابِق فِي قَوْله كذهه من هَذِه لِأَنَّهُ إِشَارَة وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَلَفظه: حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي حَازِم، وَصرح الْحميدِي عَن سُفْيَان بِالتَّحْدِيثِ، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم عَن أبي حَازِم أَنه سمع سهلاً.
قَوْله: (صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ذكره بِأَنَّهُ صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ علمه بذلك وَكَونه مَعْلُوما لبَيَان تَعْظِيمه للْعَالم والإعلام للجاهل قَوْله: (كهذه من هَذِه) أَي: كقرب هَذِه، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى السبابَة وَأَشَارَ بقوله: (من هَذِه) إِلَى الْوُسْطَى. قَوْله: (وكهاتين) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد انْقَضى من يَوْم بعثته إِلَى يَوْمنَا سَبْعمِائة وَثَمَانُونَ سنة، فَكيف تكون مُقَارنَة السَّاعَة مَعَ بعثته؟ ثمَّ أجَاب بِمَا قَالَه الْخطابِيّ: يُرِيد أَن مَا بيني وَبَين السَّاعَة من مُسْتَقْبل الزَّمَان بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا مضى مِنْهُ مِقْدَار فضل الوسطي على السبابَة، وَلَو كَانَ النَّبِي أَرَادَ غير هَذَا الْمَعْنى لَكَانَ قيام السَّاعَة مَعَ بعثته فِي زمَان وَاحِد. انْتهى قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، بل هَذِه كِنَايَة عَن شدَّة الْقرب جدا، وَقَول الْكرْمَانِي: إِلَى يَوْمنَا سَبْعمِائة وَثَمَانُونَ سنة إِشَارَة إِلَى أَن وجوده كَانَ فِي هَذَا التَّارِيخ وَمَات رَحمَه الله بطرِيق الْحجاز بِمَنْزِلَة تعرف بروض مهنى فِي رُجُوعه من مَكَّة المشرفة، وَنقل إِلَى بَغْدَاد وَذَلِكَ يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس عشر من محرم سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَهُوَ الشَّيْخ الإِمَام شمس الدّين مُحَمَّد بن يُوسُف بن عَليّ السعيدي الْكرْمَانِي. قَوْله: (وَفرق) بِالْفَاءِ من التَّفْرِيق، ويروى: وَقرن بِالْقَافِ.
2035 - حدّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا جَبَلَةُ بنُ سُحَيْمِ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الشَّهْر هاكَذَا وهاكَذَا يَعْنِي: ثَلاَثِينَ، ثُمَّ قَالَ: وهاكَذَا وهاكَذَا وهاكَذَا، يَعْنِي: تِسْعاً وعِشْرِينَ، يَقُولُ مَرَّة ثَلاَثِينَ ومَرَّةً تِسعاً وعِشْرينَ.
ابقته للْحَدِيث الَّذِي قبله فِي قَوْله: (هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) . وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وجبلة بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحتين ابْن سحيم مصغر سحم بالمهملتين الْكُوفِي. والْحَدِيث مر فِي كتاب الصّيام فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّا لَا نكتب وَلَا نحسب.
46 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس عَن أبي مَسْعُود قَالَ وَأَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن الْإِيمَان هَهُنَا مرَّتَيْنِ أَلا وَإِن الْقَسْوَة وَغلظ الْقُلُوب فِي الْفَدادِين حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان ربيعَة وَمُضر) مطابقته للَّذي قبله فِي قَوْله وَأَشَارَ وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقطَّان وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عَمْرو البدري وَوَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ والكشميهني ابْن مَسْعُود قَالَ عِيَاض هُوَ وهم وَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَن الحَدِيث مضى فِي بَدْء الْخلق فِي بَاب الْجِنّ وَهُوَ مُصَرح باسمه وَلَفظه حَدثنِي قيس عَن عقبَة بن عَمْرو أبي مَسْعُود قَوْله الْإِيمَان هَهُنَا مقول قَوْله قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله وَأَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن جملَة مُعْتَرضَة بَينهمَا وَمعنى قَوْله الْإِيمَان يمَان لِأَن الْإِيمَان بَدَأَ من مَكَّة وَهِي من تهَامَة وتهامة من أَرض الْيمن وَلِهَذَا يُقَال للكعبة اليمانية وَقيل إِنَّمَا قَالَ هَذَا القَوْل وَهُوَ بتبوك وَمَكَّة(20/293)
وَالْمَدينَة يَوْمئِذٍ بَينه وَبَين الْيمن فَأَشَارَ إِلَى نَاحيَة الْيمن وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدينَة وَقيل أَرَادَ بِهَذَا القَوْل الْأَنْصَار لأَنهم يمانيون وهم نصروا الْإِيمَان وَالْمُؤمنِينَ وآووهم فنسب الْإِيمَان إِلَيْهِم قَوْله وَغلظ الْقُلُوب بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام قَوْله " فِي الْفَدادِين " بِالتَّشْدِيدِ جمع فداد وَهُوَ الشَّديد الصَّوْت وبالتخفيف جمع الفدان وَهُوَ آلَة الْحَرْث وَإِنَّمَا ذمّ أَهله لِأَنَّهُ يشْتَغل عَن أَمر الدّين وَيكون مَعهَا قساوة الْقلب وَنَحْوهَا قَوْله قرنا الشَّيْطَان أَي جانبا رَأسه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ينْتَصب فِي محاذاة مطلع الشَّمْس حَتَّى إِذا طلعت كَانَت بَين قرنيه فَتَقَع سَجْدَة عَبدة الشَّمْس لَهُ قَوْله ربيعَة وَمُضر بدل من الْفَدادِين وهما قبيلتان مشهورتان
4035 - حدّثنا عَمْرو بنُ زْرَارَةَ أخبرنَا عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي حازِمِ عنْ أبِيهِ عنْ سَهْلٍ قَالَ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا وكافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هاكَذَا، وأشارَ بالسَّبَّايَةِ والوُسْطَى وفَرَّجَ بَيْنَهُما شَيْئاً.
(الحَدِيث 4035 طرفه فِي: 5006) .
مطابقته للْحَدِيث الَّذِي قبله فِي قَوْله: (وَأَشَارَ) . وَعَمْرو بن زُرَارَة بِضَم الزَّاي وخفة الرَّاء الأولى النَّيْسَابُورِي، وَسَهل هُوَ ابْن سعد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الثَّانِي من أَحَادِيث الْبَاب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن عبد الله بن عمرَان.
قَوْله: (كافل الْيَتِيم) أَي: الْقيم بأَمْره ومصالحه. قَوْله: (بالسبابة) ويروى: بالسماحة وَإِنَّمَا فَرح بَينهمَا إِشَارَة إِلَى التَّفَاوُت بَين دَرَجَة الْأَنْبِيَاء وآحاد الْأمة والسباية هِيَ المسبحة، وَيُقَال: لما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك اسْتَوَت سبايته ووسطاه اسْتِوَاء بَينا فِي تِلْكَ السَّاعَة ثمَّ عادتا إِلَى حَالهمَا الطبيعية الْأَصْلِيَّة، وَذَلِكَ لتوكيد أَمر كَفَالَة الْيَتِيم.
62 - (بابٌ إذَا عَرَّضَ بَنَفْي الوَلَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من عرّض بِالتَّشْدِيدِ بِنَفْي الْوَلَد، وَعرض كِنَايَة تكون مسوقة لأجل مَوْصُوف غير مَذْكُور، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، التَّعْرِيض أَن تذكر شَيْئا تدل بِهِ على شَيْء لم تذكره، وَالْكِنَايَة أَن تذكر الشَّيْء بِغَيْر لَفظه الْمَوْضُوع لَهُ.
5035 - حدّثنا يَحْيَى بنُ قَزَعَةَ حَدثنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رسولَ الله! وُلِدَ لِي غُلامٌ أسْوَدُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: مَا ألْوَانُها؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيها مِنْ أوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فأنَّى ذالِك؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَةُ عِرْقٌ قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هاذَا نَزَعَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ولد لي غُلَام أسود) فَإِن فِيهِ تعريضاً لنفيه عَنهُ يَعْنِي: أَنا أَبيض وَهَذَا أسود فَلَا يكون مني؟
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك.
قَوْله: (أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة أبي مُصعب: جَاءَ أَعْرَابِي، وَكَذَا سَيَأْتِي فِي الْحُدُود عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: وَجَاء رجل من أهل الْبَادِيَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة أَشهب عَن مَالك عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أَن أَعْرَابِيًا من بني فَزَارَة، وَكَذَا عِنْد مُسلم، وَاسم هَذَا الْأَعرَابِي ضَمْضَم بن قَتَادَة. قَوْله: (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب صرح بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (حمر) بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْمِيم، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن مُصعب عَن مَالك عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ: رمك، جمع أرمك وَهُوَ الْأَبْيَض إِلَى حمرَة. قَوْله: (أَوْرَق) وَهُوَ الَّذِي فِي لَونه بَيَاض إِلَى سَواد، وَيُقَال: الأورق الأغبر الَّذِي فِيهِ سَواد وَبَيَاض وَلَيْسَ بناصع الْبيَاض كلون الرماد، وَمِنْه سميت الْحَمَامَة: وَرْقَاء، لذَلِك. قَوْله: (فأنَّى ذَلِك؟) أَي: فَمن أَيْن ذَلِك؟ قَوْله: (لَعَلَّه نَزعه عرق) أَي: جذبه إِلَيْهِ وَأظْهر لَونه عَلَيْهِ، يَعْنِي: أشبهه، هَذِه رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: لَعَلَّ نَزعه عرق، بِدُونِ الضَّمِير، والعرق الأَصْل من النّسَب، قيل: الصَّوَاب لَعَلَّ عرقاً نَزعه عرق. قلت: لَعَلَّه عرق نَزعه أَيْضا صَوَاب لِأَن الْهَاء ضمير الشَّأْن، وَهُوَ: اسْم لَعَلَّ، وَالْجُمْلَة الَّتِي بعد خَبره فَافْهَم. قَوْله: (فَلَعَلَّ ابْنك هَذَا نَزعه) أَي: نزع الْعرق، وَقَالَ الدَّاودِيّ: (لَعَلَّ) هُنَا للتحقيق.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ، فَقَالُوا: لَا حدّ فِي التَّعْرِيض وَلَا لعان بِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُوجب على هَذَا الرجل الَّذِي عرض بامرأته حدا، وَأوجب مَالك الْحَد بالتعريض وَاللّعان بِهِ أَيْضا إِذا(20/294)
فهم مِنْهُ مَا يفهم من التَّصْرِيح وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَفِي الحَدِيث دَلِيل قَاطع على صِحَة الْقيَاس وَالِاعْتِبَار بنظيره من طَرِيق وَاحِدَة قَوِيَّة، وَهُوَ اعْتِبَار الشّبَه الخلقي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه يلْحق الْوَلَد الزَّوْج، وَإِن اخْتلفت ألوانها وَلَا يحل لَهُ نفيهُ بِمُجَرَّد الْمُخَالفَة فِي اللَّوْن، وَفِيه زجر عَن تَحْقِيق ظن السوء.
72 - (بابُ إحْلافِ المُلاَعِنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إحلاف الْملَاعن، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا النُّطْق بِكَلِمَات اللّعان الْمَعْرُوفَة.
6035 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حَدثنَا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ عنْ عبْدِ الله، رضيَ الله عنهُ، أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصارِ قذَف امْرَأتَهُ، فأخْلَفَهُما النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ فَرَّق بَيْنَهُما.
ابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَجُوَيْرِية، تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم ابْن أَسمَاء، وَهُوَ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث.
والْحَدِيث من أَفْرَاده مُخْتَصرا هُنَا وَسَيَأْتِي بعد سِتَّة أَبْوَاب من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، وَمضى فِي تَفْسِير سُورَة النُّور من وَجه آخر بِلَفْظ: لَاعن بَين رجل وَامْرَأَة.
قَوْله: (فَأَحْلفهُمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد بِهَذَا أَيْمَان اللّعان الْمَعْرُوفَة، لِأَن الرجل لما قذف امْرَأَته كَانَ عَلَيْهِ الْحَد إِن لم يَأْتِ بِشُهُود أَرْبَعَة. يصدقونه، فَلَمَّا رمى هَذَا الْعجْلَاني زَوجته أنزل الله عز وَجل: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} (النُّور: 6) فَأخْرج الزَّوْج عَن عُمُوم الْآيَة وَأقَام أيمانه الْأَرْبَع مَعَ الْخَامِسَة مقَام الشُّهُود الْأَرْبَعَة ليدرأ عَن نَفسه الْحَد، كَمَا يدْرَأ سَائِر النَّاس عَن أنفسهم بالشهود الْأَرْبَعَة حد الْقَذْف، فَإِذا حلف بهَا لزم الْمَرْأَة الْحَد إِن لم تلتعن، فَإِن التعنت وَحلفت دفعت عَن نَفسهَا الْحَد كَمَا فعل الزَّوْج.
82 - (بابٌ يَبْدَأُ الرَّجُلُ بالتَّلاَعُنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ يبْدَأ الرجل بالملاعنة قبل الْمَرْأَة.
7035 - حدّثني مُحَمَّد بنُ بَشَّارٍ حَدثنَا ابنُ أبي عَدِيٍّ عنْ هِشامِ بنِ حَسَّانَ حَدثنَا عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، رضِي الله عَنْهُمَا، أنَّ هِلاَلَ بنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ فَشَهِدَ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: إنَّ الله يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ. فَهَلْ مِنْكُما تائِبٌ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهدَتْ.
(انْظُر الحَدِيث 1762 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يتَضَمَّن اللّعان والبادي فِيهِ الرجل. وَابْن أبي عدي هُوَ مُحَمَّد، وَاسم أبي عدي إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو الْبَصْرِيّ، وهلال بن أُميَّة أحد الثَّلَاثَة الَّذِي تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك وَتَابَ الله عَلَيْهِم.
وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث طَوِيل أخرجه فِي سُورَة النُّور بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن الرجل يبْدَأ بِاللّعانِ قبل الْمَرْأَة لِأَن الله بَدَأَ بِهِ، فَإِن بدأت الْمَرْأَة قبل زَوجهَا لم يجز وأعادت اللّعان بعده على مَا رتبه الله، عز وَجل، وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن التِّين: فَإِن التعنت قبله صَحَّ مَعَ مُخَالفَة السّنة، قَالَه ابْن الْقَاسِم وَأَبُو حنيفَة، وَقَالَ أَشهب وَالشَّافِعِيّ: لَا يَصح وتعيده.
قَوْله: (إِن الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب) ظَاهره يَقْتَضِي أَنه إِنَّمَا قَالَه بعد الْمُلَاعنَة لِأَنَّهُ حينئذٍ تحقق الْكَذِب وَوَجَبَت التَّوْبَة، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه قَالَه قبل اللّعان لَا بعده تحذيراً لَهما ووعظاً، وَقَالَ بَعضهم: وَكِلَاهُمَا قريب من معنى الآخر.
92 - (بابُ اللِّعان ومَنْ طَلَّقَ بَعْد اللِّعانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي اللّعان وفيمن طلق امْرَأَته بعد اللّعان أَي: بعد أَن لَاعن، وَفِيه إِشَارَة إِلَى خلاف: هَل تقع الْفرْقَة فِي اللّعان بِنَفس اللّعان أَو بإيقاع الْحَاكِم بعد الْفَرَاغ أَو بإيقاع الزَّوْج؟ فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمن تبعهما إِلَى أَن الْفرْقَة تقع بِنَفس اللّعان، قَالَ مَالك وغالب أَصْحَابه: بعد فرَاغ الْمَرْأَة. وَقَالَ الشَّافِعِي واتباعه وَسَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: بعد فرَاغ الزَّوْج، وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وأتباعهما: لَا تقع الْفرْقَة حَتَّى يوقعها عَلَيْهِمَا الْحَاكِم، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَذهب عُثْمَان البتي إِلَى أَنه لَا تقع الْفرْقَة حَتَّى يوقعها الزَّوْج، وَنقل الطَّبَرِيّ نَحوه عَن أبي الْأَشْعَث جَابر بن زيد، وَقَالَ أَبُو عبيد: الْفرْقَة تقع بَينهمَا بِنَفس الْقَذْف وَلَو لم يَقع اللّعان، وَكَأَنَّهُ مُفَرع على وجوب اللّعان على من تحقق ذَلِك من الْمَرْأَة، فَإِذا أُخل بِهِ عُوقِبَ بالفرقة تَغْلِيظًا عَلَيْهِ.(20/295)
8035 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهاب أنَّ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أخْبَرَهُ أنْ عُوَيْمِراً العَجْلانيَّ جاءَ إِلَى عاصِمِ بنِ عَدِيٍّ الأنْصارِيِّ فَقَالَ لهُ: يَا عاصِمُ {أرَأيْتَ رجُلاً وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً أيَقْتُلُهُ فَتقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عاصِمُ عنْ ذالِكَ. فَسألَ عاصِمٌ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عنْ ذالِكَ فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، المَسائلَ وعابَها حتَّى كَبُرَ علَى عاصمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَّما رجَعَ عاصمٌ إِلَى أهْلِهِ جاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عاصِمُ} ماذَا قَالَ لَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ عاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تأتِني بخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَسْألَةَ الَّتِي سألْتُهُ عنْها. فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَالله لَا أنْتَهِي حتَّى أسألَهُ عَنْها، فأقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حتَّى جاءَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَطَ النّاسِ، فَقَالَ: يَا رسولَ الله {أرَأيْتَ رجلا وجَدَ معَ امْرَأتِهِ رجُلاً أيَقْتُلُهُ فتَقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلَ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَدْ أنْزَلَ الله فِيكَ وَفِي صاحِبَتِكَ فاذْهَبْ فأتِ بِها؛ قَالَ سَهْل: فتلاَعَنَا وَأَنا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَّما فَرَغا منْ تَلاَعنُهِما قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ علَيْها يَا رسولَ الله إنْ أمْسَكْتُها، فطَلَّقَها ثَلاثاً قَبْلَ أنْ يأمُرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ ابنُ شِهاب: فكانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الأول مِنْهَا فِي قَوْله: (فَتَلَاعَنا) وللجزء الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: وَمن طلق بعد اللّعان فِي قَوْله: (فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِنَّهُ طَلقهَا بعد أَن لَاعن.
وَهَذَا الحَدِيث أول مَا ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة مُخْتَصرا فِي: بَاب الْقَضَاء وَاللّعان فِي الْمَسْجِد. وَأخرجه فِي التَّفْسِير فِي سُورَة النُّور فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} (النُّور: 6) الْآيَة عَن إِسْحَاق وَأخرجه أَيْضا فِي قَوْله: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ} (النُّور: 7) عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه غَيره، وَمَا يتَعَلَّق بمعانيه وَالْأَحْكَام المستنبطة مِنْهُ مُسْتَوفى فَإِذا أعدنا الْكَلَام يطول بِلَا فَائِدَة.
03 - (بابُ التَّلاَعُنِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز التلاعن فِي الْمَسْجِد، وَقَالَ بَعضهم أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى خلاف الْحَنَفِيَّة: أَن اللّعان لَا يتَعَيَّن فِي الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا يكون حَيْثُ كَانَ الإِمَام أَو حَيْثُ شَاءَ. قلت: الَّذِي يفهم مِمَّا قَالَه إِنَّمَا وضع هَذِه التَّرْجَمَة لتعين اللّعان فِي الْمَسْجِد وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هَذَا بَيَان مَا قد وَقع من التلاعن فِي الْمَسْجِد، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْمَسْجِد مُتَعَيّنا، وَلِهَذَا قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : اسْتحبَّ جمَاعَة أَن يكون التلاعن بعد الْعَصْر فِي أَي مَكَان كَانَ، وَالْمَسْجِد الْجَامِع أَحْرَى.
9035 - حدّثنا يَحْيَى بنُ جَعْفَرٍ أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبرنِي ابنُ شِهابٍ عنِ المُتَلاَعِنَةِ وَعَن السُّنَّةِ فِيها عنْ حَدِيثِ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أخِي بَنِي ساعِدَةَ: أنَّ رجُلاً مِنَ الأنْصارِ جاءَ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رسُولَ الله} أرَأيْتَ رجُلاً وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً أيَقْتُلُهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فأنْزَلَ الله فِي شأنِهِ مَا ذَكَرَ فِي القُرْآنِ مِنْ أمْرِ المُتَلاَعِنَيْن، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَدْ قَضَى الله فِيكَ وَفِي امْرَأتِكَ، قَالَ: فَتَلاَعَنا فِي المَسْجِدِ وَأَنا شاهِدٌ، فَلَمَّا فَرَغا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْها يَا رسولَ الله إنْ أمْسَكْتُها، فَطَلَّقَها ثَلاثاً قَبْلَ أنْ يأْمُرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَ فَرَغا مِنَ التَّلاعُنِ، فَفَارَقَها عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كلِّ مُتَلاَعِنَيْنِ. قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابنُ شِهابٍ: فكانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُما أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ المتَلاَعِنَيْنِ، وكانَتْ حامِلاً وكانَ ابْنُها يُدْعَى لأُمِّهِ(20/296)
قَالَ: ثمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي مِيرَاثِها أنِها تَرِثُهُ وَيرِثُ مِنْها مَا فَرَضَ الله لَهُ.
قَالَ ابنُ جرَيْجٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي هاذا الحَدِيثِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنْ جاءَتْ بِهِ أحْمَرَ قَصِيراً كأنَّهُ وحَرَةٌ فَلاَ أُرَاها إلاّ قَدْ صَدَقَتْ وكَذَبَ عَلَيْها، وإنْ جاءَتْ بِهِ أسْوَدَ أعْيَنَ ذَا ألْيَتَيْنِ فَلاَ أُرَاهُ إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْها، فَجَاءَتْ بِهِ علَى المَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ.
ابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد) . وَيحيى هُوَ ابْن جَعْفَر البُخَارِيّ البيكندي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي، يحيى هَذَا إِمَّا ابْن مُوسَى الختي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَشدَّة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَإِمَّا يحيى بن جَعْفَر البُخَارِيّ، قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنِي يحيى، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا يحيى، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
قَوْله: (أخبرنَا عبد الرَّزَّاق) ، وَفِي بعض النّسخ حَدثنَا. قَوْله: (أخي بني سَاعِدَة) الْغَرَض مِنْهُ أَنه ساعدي فَهُوَ فِي الْأَنْصَار فِي الْخَزْرَج ينْسب إِلَى سَاعِدَة بن كَعْب بن الْخَزْرَج، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سَاعِدَة اسْم من أَسمَاء الْأسد. والْحَدِيث قدر مر فِي التَّفْسِير. قَوْله: (أَرَأَيْت؟) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (أم كَيفَ يفعل؟) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد) يُقَال: فِيهِ دلَالَة على أَنه يَنْبَغِي لكل حَاكم من حكام الْمُسلمين كل من أَرَادَ استحلافه على عَظِيم من الْأَمر كالقسامة على الدَّم وعَلى المَال ذِي الْقدر والخطر الْعَظِيم وَنَحْو ذَلِك فِي الْمَسَاجِد الْعِظَام، وَإِن كَانَا بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ منبرها، وَإِن كَانَا بِمَكَّة فَبين الرُّكْن وَالْمقَام، وَإِن كَانَا بِبَيْت الْمُقَدّس فَفِي مَسْجِدهَا فِي مَوضِع الصَّخْرَة، وَإِن كَانَا ببلدة غَيرهَا فَفِي جَامعهَا وَحَيْثُ يعظم مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَمرهمَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللّعانِ فِي مَسْجده لعلمه أَنَّهُمَا يعظمانه فَأَرَادَ التَّعْظِيم عَلَيْهِمَا ليرْجع الْمُبْطل مِنْهُمَا إِلَى الْحق وينحجز عَن الْأَيْمَان الكاذبة، وَكَذَلِكَ كَانَ لعانهما بعد العصرلعظم الْيَمين الكاذبة فِي ذَلِك الْوَقْت. وَقَالَ الشَّافِعِي: يُلَاعن فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون حَائِضًا فعلى بَاب الْمَسْجِد. قَوْله: (قَالَ ابْن جريج قَالَ ابْن شهَاب) مَوْصُول إِلَيْهِ بالسند الْمُتَقَدّم. قَوْله: (وَكَانَت حَامِلا) أَي: كَانَت الْمَرْأَة حَامِلا حِين وَقع اللّعان بَينهمَا، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي سُورَة النُّور فِي بَاب: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين} (النُّور: 7) وَفِيه: وَكَانَت حَامِلا فَأنْكر حمالها، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز الْمُلَاعنَة بِالْحملِ وَإِلَيْهِ ذهب ابْن أبي ليلى وَمَالك وَأَبُو عبيد وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة فَإِنَّهُم قَالُوا: من نفى حمل امْرَأَته لَاعن بَينهمَا القَاضِي وَألْحق الْوَلَد بِأُمِّهِ. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة ابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة وَزفر بن الْهُذيْل: لَا يُلَاعن بِالْحملِ، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بِأَن اللّعان فِيهِ كَانَ بِالْقَذْفِ لَا بِالْحملِ، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فِي مِيرَاثهَا) أَي: فِي مِيرَاث الْمُلَاعنَة. وَأجْمع الْعلمَاء على جَرَيَان التَّوَارُث بَين الْوَلَد وَبَين أَصْحَاب الْفُرُوض من جِهَة أمه وهم إخْوَته وأخواته من أمه وجداته من أمه ثمَّ إِذا دفع إِلَى أمه فَرضهَا وَإِلَى أَصْحَاب الْفُرُوض وَبَقِي شَيْء فَهُوَ لمولى أمه إِن كَانَ عَلَيْهَا وَلَاء. وَإِلَّا يكون لبيت المَال عِنْد من لَا يرى بِالرَّدِّ وَلَا بتوريث ذَوي الْأَرْحَام. قَوْله: (مَا فرض الله لَهَا) ، وَهُوَ الثُّلُث إِن لم يكن لَهُ ولد وَلَا ولد ابْن وَلَا اثْنَان من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات، فَإِن كَانَ شَيْء من ذَلِك فلهَا السُّدس، فَإِن فضل شَيْء من أَصْحَاب الْفُرُوض فَهُوَ لبيت المَال عِنْد الزُّهْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأبي ثَوْر. وَقَالَ الحكم وَحَمَّاد: تَرثه وَرَثَة أمه، وَقَالَ آخَرُونَ: عصبته عصبَة أمه، رُوِيَ هَذَا عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَعَطَاء أَحْمد بن حَنْبَل. قَالَ أَحْمد: فَإِن انْفَرَدت الْأُم أخذت جَمِيع مَاله بالعصوبة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا انْفَرَدت أخذت الْجَمِيع الثُّلُث بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي بِالرَّدِّ على قَاعِدَته.
قَوْله: (قَالَ ابْن جريج عَن ابْن شهَاب) ، هُوَ أَيْضا مَوْصُول بالسند الْمُتَقَدّم. قَوْله: (إِن جَاءَت بِهِ) أَي: إِن جَاءَت الْمُلَاعنَة بِالْوَلَدِ الْمَنْفِيّ (أَحْمَر قَصِيرا) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أُحَيْمِر بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي: أشقر، وَقَالَ ثَعْلَب: المُرَاد بالأحمر الْأَبْيَض لِأَن الْحمرَة إِنَّمَا تبدو فِي الْبيَاض قَوْله: (وحرة) ، بِفَتْح الْوَاو والحاء الْمُهْملَة وبالراء وَهِي: دويبة تترامى على الطَّعَام وَاللَّحم وتفسده هِيَ من نوع الوزغ، وَقيل: دويبة حَمْرَاء تلزق بِالْأَرْضِ. قَوْله: (أعين) بِلَفْظ أفعل الصّفة، أَي وَاسع الْعين. قَوْله: (ذَا أليتين) أَي: أليتين عظيمتين. قَوْله: (فَجَاءَت بِهِ على الْمَكْرُوه من ذَلِك) ، وَهُوَ الْأسود إِنَّمَا كره لِأَنَّهُ مُسْتَلْزم لتحقيق الزِّنَا وتصديق الزَّوْج.
13 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْ كُنْتُ راجِعاً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ)(20/297)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو كنت راجماً) أجداً (بِغَيْر بَيِّنَة) لرجمته، وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف وَهُوَ الَّذِي قدرناه.
0135 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني الليْثُ عنْ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القاسِمِ عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّهُ ذُكِرَ التّلاَعُنُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عاصِمُ بنُ عَديٍّ فِي ذالِكَ قَوْلاً ثُمَّ انْصَرَفَ. فأتاهُ رجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إلَيْهِ أنَّهُ قَدْ وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً، فَقَالَ عاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهاذا إِلَّا لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَهُ بالَّذِي وجَدَ عَلَيْهِ امْرَأتَهُ، وكانَ ذالِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وكانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أنّهُ وجَدَهُ عِنْدَ أهْلِهِ خَدْلاً آدَمَ كَثِيرَ اللّحْمِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فجاءَتْ بِهِ شَبِيهاً بالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُها أنَّهُ وجَدَهُ، فَلاَعَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُما، قَالَ رجُلٌ لابنِ عَبَّاسٍ فِي المَجْلِسِ: هِي الّتِي قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْ رَجَمتُ أحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هاذِهِ؟ فَقَالَ: لَا تِلْكَ امْرأةٌ كانَتْ تُظْهِرُ فِي الإسْلاَمِ السُّوءَ.
قَالَ أبُو صالِحٍ وعبْدُ الله بنُ يُوسُفَ: خَدِلاً.
(الحَدِيث 0135 أَطْرَافه: فِي: 6135، 5586، 6586، 8327) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو رجمت أحدا بِغَيْر بَيِّنَة رجمت هَذِه) وَسَعِيد بن عفير هُوَ سعيد بن كثير بن عفير بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء مولى الْأَنْصَار الْمصْرِيّ، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم يروي عَن أَبِيه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن مُحَمَّد بن رمح وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق وَفِي الرَّجْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد بِهِ، وَفِي الطَّلَاق أَيْضا عَن يحيى بن مُحَمَّد.
قَوْله: (أَنه ذكر التلاعن) ، يَعْنِي: أَنه قَالَ: ذكر فَحذف لفظ: قَالَ: وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة سُلَيْمَان الَّتِي تَأتي. قَوْله: (ذكر) على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى التلاعن أَي: ذكر حكم الرجل الَّذِي يَرْمِي امْرَأَته بِالزِّنَا، فَعبر عَنهُ بالتلاعن باعتبارها آل إِلَيْهِ الْأَمر بعد نزُول الْآيَة، وَوَقع فِي رِوَايَة سُلَيْمَان ذكر المتلاعنان. قَوْله: (فَقَالَ عَاصِم بن عدي) أَي: ابْن الْجد بن العجلان بن حَارِثَة بن ضبيعة الْعجْلَاني ثمَّ البدري، وَهُوَ صَاحب عُوَيْمِر الْعجْلَاني الَّذِي قَالَ لَهُ: سل لي يَا عَاصِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث اللّعان، وَعَاصِم شهد بَدْرًا وأحداً وَالْخَنْدَق والمشاهد كلهَا، وَقيل: لم يشْهد بَدْرًا بِنَفسِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتَخْلَفَهُ حِين خرج إِلَى بدر على قبَاء وَأهل الْعَالِيَة وَضرب لَهُ بسهمه فَكَأَنَّهُ كَانَ قد شَهِدَهَا وَتُوفِّي سنة خمس وَأَرْبَعين، وَقد بلغ قَرِيبا من عشْرين وَمِائَة سنة. قَوْله: (فِي ذَلِك) قولا هُوَ أَنه كَانَ قد قَالَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو وجد مَعَ امْرَأَته رجلا لضربه بِالسَّيْفِ حَتَّى يقْتله، فابتلي بعويمر الْعجْلَاني وَهُوَ من قومه ليريه الله تَعَالَى كَيفَ حكمه فِي ذَلِك وليعرفه أَن التسليط فِي الدِّمَاء لَا يسوغ فِي الدَّعْوَى، وَلَا يكون إلاَّ بِحكم الله تَعَالَى، ليرْفَع أَمر الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي قولا أَي: كلَاما لَا يَلِيق نَحْو مَا يدل على عجب النَّفس والنخوة والغيرة وَعدم الْحِوَالَة إِلَى إِرَادَة وَحَوله وقوته. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ ذَلِك بمعزل عَن الْوَاقِع ثمَّ طول الْكَلَام. قلت: لَيْسَ فِي كَلَامه مَا هُوَ بمعزل عَن الْوَاقِع، لكنه لم يُصَرح فِيهِ. قَوْله: إِنَّه لَو وجد مَعَ امْرَأَته رجلا لضربه بِالسَّيْفِ، وَذكرهَا مَا يَقْتَضِيهِ أَن يفعل فعل من عِنْده نخوة ومروءة وغيرة عِنْد وجودهذا الْأَمر، وَأما عدم حِوَالَة الْأَمر فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى فَيمكن أَنه لم يكن علم مَا حكم الله فِي هَذَا حَتَّى ابْتُلِيَ وَعرف. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف) أَي: عَاصِم من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأَتَاهُ رجل) هُوَ عُوَيْمِر. قَوْله: (من قومه) لِأَن كلا مِنْهُمَا عجلاني. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى عَاصِم. قَوْله: (مَا ابْتليت) على صِيغَة الْمَجْهُول (إلاَّ لقولي) وَهُوَ قَوْله: لَو وجدت رجلا مَعَ امْرَأَتي لضربته بِالسَّيْفِ، أَو كَانَ عيَّراً أحدا فابتلي بِهِ، كَذَا قَالَه الدَّاودِيّ، ورد عَلَيْهِ(20/298)
بَعضهم بِأَن هَذَا بمعزل عَن الْوَاقِع، فقد وَقع فِي مُرْسل مقَاتل بن حبَان عِنْد ابْن أبي حَاتِم: فَقَالَ عَاصِم: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، هَذَا وَالله سُؤَالِي عَن هَذَا الْأَمر بَين النَّاس فابتليت بِهِ، وَالَّذِي كَانَ قَالَ: لَو رَأَيْته لضربته بِالسَّيْفِ هُوَ سعد بن عبَادَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن قَول سعد بن عبَادَة فِي قَضِيَّة هِلَال بن أُميَّة، وَقَول عَاصِم فِي قَضِيَّة عُوَيْمِر، فالكلامان مُخْتَلِفَانِ، وَذكر أَن ابْن سِيرِين عيَّر رجلا بفلس ثمَّ نَدم وانتظر الْعقُوبَة أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ نزل بِهِ. قَوْله: (وَكَانَ ذَلِك الرجل) أَي: الَّذِي رمى امْرَأَته بِهِ. قَوْله: (مصفراً) بتَشْديد الرَّاء أَي: قوي الصُّفْرَة، وَهَذَا لَا يُخَالف قَوْله فِي حَدِيث سهل: إِنَّه كَانَ أَحْمَر أَو أشقر، لِأَن ذَاك لَونه الْأَصْلِيّ والصفرة عارضة. قَوْله: (قَلِيل اللَّحْم) أَي: نحيف الْجِسْم. قَوْله: (سبط الشّعْر) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وإسكانها وَهُوَ ضد الجعودة أَي: مسترسلاً غير جعد. قَوْله: (خدلاً) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الدَّال الْمُهْملَة وَهُوَ الممتلىء السَّاق الضخم، وَقَالَ ابْن الْفَارِس: ممتلىء الْأَعْضَاء، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لَا يكون إلاَّ مَعَ غلظ الْعظم مَعَ اللَّحْم، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي بعض الْكتب بِكَسْر الدَّال وَتَخْفِيف اللَّام وَفِي بَعْضهَا بتَشْديد اللاَّم، وَفِي بَعْضهَا بِسُكُون الدَّال، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي كتب اللُّغَة، وَكَذَا ضبط فِي رِوَايَة أبي صَالح وَابْن يُوسُف. قَوْله: (اللَّهُمَّ بيّن) أَي: حكم الْمَسْأَلَة، وَيُقَال: مَعْنَاهُ الْحِرْص على أَن يعلم من بَاطِن الْمَسْأَلَة مَا يقف بِهِ على حَقِيقَتهَا وَإِن كات شَرِيعَته قد احكمها الله فِي الْقَضَاء بِالظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا صَارَت شرائع الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، يقْضى فِيهَا بِالظَّاهِرِ لِأَنَّهَا تكون سَببا لمن بعدهمْ من أممهم مِمَّن لَا سَبِيل لَهُ إِلَى وَحي يعلم بِهِ بواطن الْأُمُور. قَوْله: (فَجَاءَت) فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال: فَوضعت. قَوْله: (فلاعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا) قيل: اللّعان مقدم على وضع الْوَلَد، فعلى مَا عطف: فلاعن؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد مِنْهُ: فَحكم بِمُقْتَضى اللّعان، وَقيل: ظَاهره أَن الْمُلَاعنَة بَينهمَا تَأَخَّرت حَتَّى وضعت، وَلَكِن مَعْنَاهُ أَن قَوْله: (فلاعن) معقب بقوله: فَذهب بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِالَّذِي وجد عَلَيْهِ امْرَأَته، وَاعْترض قَوْله: (وَكَانَ ذَلِك الرجل) إِلَى آخِره. قَوْله: (فَقَالَ رجل) هُوَ عبد الله بن شَدَّاد ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الْمُحَاربين. قَوْله: (قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو رجمت أحدا بِغَيْر بيِّنة رجمت هَذِه) ، أَرَادَ بِهِ امْرَأَة عُوَيْمِر، يَعْنِي: إِنَّمَا لَاعن بَينهَا وَبَين زَوجهَا وَلم يرجمها بالشبه، لِأَن الرَّجْم لَا يكون إلاَّ بِبَيِّنَة. قَوْله: (تِلْكَ امْرَأَة) إِشَارَة إِلَى امْرَأَة عُوَيْمِر، وَأَرَادَ: بالسوء، الْفَاحِشَة. قَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ جَوَاز الْغَيْبَة لمن يظْهر السوء، وَفِي الحَدِيث: لَا غيبَة لمجاهر.
قَوْله: (قَالَ أَبُو صَالح) هُوَ عبد الله بن صَالح الْجُهَنِيّ بِالْجِيم وَالْهَاء وَالنُّون، وَهُوَ كَاتب اللَّيْث بن سعد وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون الْمَكْسُورَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى تنيس بَلْدَة كَانَت فِي جَزِيرَة فِي وسط بحيرة بِالْقربِ من دمياط وَخَربَتْ وبادت. قَوْله: (خدلاً) قَالَ الْكرْمَانِي: هما قَالَا آدم خدلاً بِدُونِ ذكر: كثير اللَّحْم؟ قلت: رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف أخرجهَا البُخَارِيّ فِي كتاب الْمُحَاربين وَلَفظه: وجده عِنْد أَهله آدم خدلاً كثير اللَّحْم، فَالَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي يُخَالف هَذِه، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك بالتخمين، بل المُرَاد أَن فِي روايتهما خدلاً بِفَتْح الْخَاء وَكسر الدَّال، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: خدلاً، بِسُكُون الدَّال. فَافْهَم.
(صدَاق الْمُلَاعنَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الحكم فِي صدَاق الْمَرْأَة الْمُلَاعنَة.
0135 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني الليْثُ عنْ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القاسِمِ عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّهُ ذُكِرَ التّلاَعُنُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عاصِمُ بنُ عَديٍّ فِي ذالِكَ قَوْلاً ثُمَّ انْصَرَفَ. فأتاهُ رجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إلَيْهِ أنَّهُ قَدْ وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً، فَقَالَ عاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهاذا إِلَّا لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَهُ بالَّذِي وجَدَ عَلَيْهِ امْرَأتَهُ، وكانَ ذالِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وكانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أنّهُ وجَدَهُ عِنْدَ أهْلِهِ خَدْلاً آدَمَ كَثِيرَ اللّحْمِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فجاءَتْ بِهِ شَبِيهاً بالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُها أنَّهُ وجَدَهُ، فَلاَعَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُما، قَالَ رجُلٌ لابنِ عَبَّاسٍ فِي المَجْلِسِ: هِي الّتِي قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْ رَجَمتُ أحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هاذِهِ؟ فَقَالَ: لَا تِلْكَ امْرأةٌ كانَتْ تُظْهِرُ فِي الإسْلاَمِ السُّوءَ.
قَالَ أبُو صالِحٍ وعبْدُ الله بنُ يُوسُفَ: خَدِلاً.
(الحَدِيث 0135 أَطْرَافه: فِي: 6135، 5586، 6586، 8327) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو رجمت أحدا بِغَيْر بَيِّنَة رجمت هَذِه) وَسَعِيد بن عفير هُوَ سعيد بن كثير بن عفير بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء مولى الْأَنْصَار الْمصْرِيّ، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم يروي عَن أَبِيه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن مُحَمَّد بن رمح وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق وَفِي الرَّجْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد بِهِ، وَفِي الطَّلَاق أَيْضا عَن يحيى بن مُحَمَّد.
قَوْله: (أَنه ذكر التلاعن) ، يَعْنِي: أَنه قَالَ: ذكر فَحذف لفظ: قَالَ: وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة سُلَيْمَان الَّتِي تَأتي. قَوْله: (ذكر) على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى التلاعن أَي: ذكر حكم الرجل الَّذِي يَرْمِي امْرَأَته بِالزِّنَا، فَعبر عَنهُ بالتلاعن باعتبارها آل إِلَيْهِ الْأَمر بعد نزُول الْآيَة، وَوَقع فِي رِوَايَة سُلَيْمَان ذكر المتلاعنان. قَوْله: (فَقَالَ عَاصِم بن عدي) أَي: ابْن الْجد بن العجلان بن حَارِثَة بن ضبيعة الْعجْلَاني ثمَّ البدري، وَهُوَ صَاحب عُوَيْمِر الْعجْلَاني الَّذِي قَالَ لَهُ: سل لي يَا عَاصِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث اللّعان، وَعَاصِم شهد بَدْرًا وأحداً وَالْخَنْدَق والمشاهد كلهَا، وَقيل: لم يشْهد بَدْرًا بِنَفسِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتَخْلَفَهُ حِين خرج إِلَى بدر على قبَاء وَأهل الْعَالِيَة وَضرب لَهُ بسهمه فَكَأَنَّهُ كَانَ قد شَهِدَهَا وَتُوفِّي سنة خمس وَأَرْبَعين، وَقد بلغ قَرِيبا من عشْرين وَمِائَة سنة. قَوْله: (فِي ذَلِك) قولا هُوَ أَنه كَانَ قد قَالَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو وجد مَعَ امْرَأَته رجلا لضربه بِالسَّيْفِ حَتَّى يقْتله، فابتلي بعويمر الْعجْلَاني وَهُوَ من قومه ليريه الله تَعَالَى كَيفَ حكمه فِي ذَلِك وليعرفه أَن التسليط فِي الدِّمَاء لَا يسوغ فِي الدَّعْوَى، وَلَا يكون إلاَّ بِحكم الله تَعَالَى، ليرْفَع أَمر الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي قولا أَي: كلَاما لَا يَلِيق نَحْو مَا يدل على عجب النَّفس والنخوة والغيرة وَعدم الْحِوَالَة إِلَى إِرَادَة وَحَوله وقوته. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ ذَلِك بمعزل عَن الْوَاقِع ثمَّ طول الْكَلَام. قلت: لَيْسَ فِي كَلَامه مَا هُوَ بمعزل عَن الْوَاقِع، لكنه لم يُصَرح فِيهِ. قَوْله: إِنَّه لَو وجد مَعَ امْرَأَته رجلا لضربه بِالسَّيْفِ، وَذكرهَا مَا يَقْتَضِيهِ أَن يفعل فعل من عِنْده نخوة ومروءة وغيرة عِنْد وجودهذا الْأَمر، وَأما عدم حِوَالَة الْأَمر فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى فَيمكن أَنه لم يكن علم مَا حكم الله فِي هَذَا حَتَّى ابْتُلِيَ وَعرف. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف) أَي: عَاصِم من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأَتَاهُ رجل) هُوَ عُوَيْمِر. قَوْله: (من قومه) لِأَن كلا مِنْهُمَا عجلاني. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى عَاصِم. قَوْله: (مَا ابْتليت) على صِيغَة الْمَجْهُول (إلاَّ لقولي) وَهُوَ قَوْله: لَو وجدت رجلا مَعَ امْرَأَتي لضربته بِالسَّيْفِ، أَو كَانَ عيَّراً أحدا فابتلي بِهِ، كَذَا قَالَه الدَّاودِيّ، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن هَذَا بمعزل عَن الْوَاقِع، فقد وَقع فِي مُرْسل مقَاتل بن حبَان عِنْد ابْن أبي حَاتِم: فَقَالَ عَاصِم: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، هَذَا وَالله سُؤَالِي عَن هَذَا الْأَمر بَين النَّاس فابتليت بِهِ، وَالَّذِي كَانَ قَالَ: لَو رَأَيْته لضربته بِالسَّيْفِ هُوَ سعد بن عبَادَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن قَول سعد بن عبَادَة فِي قَضِيَّة هِلَال بن أُميَّة، وَقَول عَاصِم فِي قَضِيَّة عُوَيْمِر، فالكلامان مُخْتَلِفَانِ، وَذكر أَن ابْن سِيرِين عيَّر رجلا بفلس ثمَّ نَدم وانتظر الْعقُوبَة أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ نزل بِهِ. قَوْله: (وَكَانَ ذَلِك الرجل) أَي: الَّذِي رمى امْرَأَته بِهِ. قَوْله: (مصفراً) بتَشْديد الرَّاء أَي: قوي الصُّفْرَة، وَهَذَا لَا يُخَالف قَوْله فِي حَدِيث سهل: إِنَّه كَانَ أَحْمَر أَو أشقر، لِأَن ذَاك لَونه الْأَصْلِيّ والصفرة عارضة. قَوْله: (قَلِيل اللَّحْم) أَي: نحيف الْجِسْم. قَوْله: (سبط الشّعْر) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وإسكانها وَهُوَ ضد الجعودة أَي: مسترسلاً غير جعد. قَوْله: (خدلاً) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الدَّال الْمُهْملَة وَهُوَ الممتلىء السَّاق الضخم، وَقَالَ ابْن الْفَارِس: ممتلىء الْأَعْضَاء، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لَا يكون إلاَّ مَعَ غلظ الْعظم مَعَ اللَّحْم، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي بعض الْكتب بِكَسْر الدَّال وَتَخْفِيف اللَّام وَفِي بَعْضهَا بتَشْديد اللاَّم، وَفِي بَعْضهَا بِسُكُون الدَّال، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي كتب اللُّغَة، وَكَذَا ضبط فِي رِوَايَة أبي صَالح وَابْن يُوسُف. قَوْله: (اللَّهُمَّ بيّن) أَي: حكم الْمَسْأَلَة، وَيُقَال: مَعْنَاهُ الْحِرْص على أَن يعلم من بَاطِن الْمَسْأَلَة مَا يقف بِهِ على حَقِيقَتهَا وَإِن كات شَرِيعَته قد احكمها الله فِي الْقَضَاء بِالظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا صَارَت شرائع الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، يقْضى فِيهَا بِالظَّاهِرِ لِأَنَّهَا تكون سَببا لمن بعدهمْ من أممهم مِمَّن لَا سَبِيل لَهُ إِلَى وَحي يعلم بِهِ بواطن الْأُمُور. قَوْله: (فَجَاءَت) فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال: فَوضعت. قَوْله: (فلاعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا) قيل: اللّعان مقدم على وضع الْوَلَد، فعلى مَا عطف: فلاعن؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد مِنْهُ: فَحكم بِمُقْتَضى اللّعان، وَقيل: ظَاهره أَن الْمُلَاعنَة بَينهمَا تَأَخَّرت حَتَّى وضعت، وَلَكِن مَعْنَاهُ أَن قَوْله: (فلاعن) معقب بقوله: فَذهب بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِالَّذِي وجد عَلَيْهِ امْرَأَته، وَاعْترض قَوْله: (وَكَانَ ذَلِك الرجل) إِلَى آخِره. قَوْله: (فَقَالَ رجل) هُوَ عبد الله بن شَدَّاد ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الْمُحَاربين. قَوْله: (قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو رجمت أحدا بِغَيْر بيِّنة رجمت هَذِه) ، أَرَادَ بِهِ امْرَأَة عُوَيْمِر، يَعْنِي: إِنَّمَا لَاعن بَينهَا وَبَين زَوجهَا وَلم يرجمها بالشبه، لِأَن الرَّجْم لَا يكون إلاَّ بِبَيِّنَة. قَوْله: (تِلْكَ امْرَأَة) إِشَارَة إِلَى امْرَأَة عُوَيْمِر، وَأَرَادَ: بالسوء، الْفَاحِشَة. قَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ جَوَاز الْغَيْبَة لمن يظْهر السوء، وَفِي الحَدِيث: لَا غيبَة لمجاهر.
قَوْله: (قَالَ أَبُو صَالح) هُوَ عبد الله بن صَالح الْجُهَنِيّ بِالْجِيم وَالْهَاء وَالنُّون، وَهُوَ كَاتب اللَّيْث بن سعد وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون الْمَكْسُورَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى تنيس بَلْدَة كَانَت فِي جَزِيرَة فِي وسط بحيرة بِالْقربِ من دمياط وَخَربَتْ وبادت. قَوْله: (خدلاً) قَالَ الْكرْمَانِي: هما قَالَا آدم خدلاً بِدُونِ ذكر: كثير اللَّحْم؟ قلت: رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف أخرجهَا البُخَارِيّ فِي كتاب الْمُحَاربين وَلَفظه: وجده عِنْد أَهله آدم خدلاً كثير اللَّحْم، فَالَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي يُخَالف هَذِه، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك بالتخمين، بل المُرَاد أَن فِي روايتهما خدلاً بِفَتْح الْخَاء وَكسر الدَّال، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: خدلاً، بِسُكُون الدَّال. فَافْهَم.
(صدَاق الْمُلَاعنَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الحكم فِي صدَاق الْمَرْأَة الْمُلَاعنَة.
1135 - حدّثني عَمْرُو بنُ زُرَارَة أخبرنَا إسْماعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ ل ابْنِ عُمَرَ: رجُلٌ قَذَفَ امْرَأتَهُ؟ فَقَالَ: فَرَّقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ أخَوَيْ بَنِي العَجْلاَنِ، وَقَالَ: الله يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذبٌ فَهَلْ مِنْكما تائِبٌ؟ فأبَيا، فَقَالَ: الله يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُما تائِبٌ؟ فأبَيا، فَقَالَ: الله يَعْلَمُ أَن أحَدَكُما كاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُما تائِبٌ؟ فَأبَيا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أيُّوبُ: فَقَالَ لِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ: إنَّ فِي الحدِيثِ شَيْئاً لَا أرَاكَ تُحَدِّثُهُ. قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي؟ قَالَ: قِيلَ: لَا مالَ لَكَ، إنْ كُنْتَ صادِقاً فَقَدْ دَخَلَتْ بِها، وإنْ كُنْتَ كاذِباً فَهْوَ أبْعَدُ مِنْكَ.
.(20/299)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله (لَا مَال لَك) إِلَى آخِره، لِأَن المُرَاد مِنْهُ الصَدَاق الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ وَدخل بهَا، وانعقد الْإِجْمَاع على أَن الْمَدْخُول بهَا تسْتَحقّ جَمِيع الصَدَاق، وَالْخلاف فِي غير الْمَدْخُول بهَا، فالجمهور على: أَن لَهَا النّصْف كَغَيْرِهَا من المطلقات قبل الدُّخُول وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد وَالْحكم وَحَمَّاد: بل لَهَا جَمِيعه، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا شَيْء لَهَا أصلا، وَرُوِيَ عَن مَالك نَحوه. وَعَمْرو بن زُرَارَة مر عَن قريب.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
قَوْله: (رجل قذف امْرَأَته) ، يَعْنِي: مَا الحكم فِيهِ. قَوْله: (بَين أخوي بني العجلان) ، حَاصِل مَعْنَاهُ: بَين الزَّوْجَيْنِ كليهمَا من قَبيلَة بني عجلَان. وَقَوله: (بَين أخوي بني العجلان) من بَاب التغليب حَيْثُ جعل الْأُخْت كالأخ، وَإِطْلَاق الإخوَّة بِالنّظرِ إِلَى أَن الْمُؤمنِينَ أخوة، وَالْعرب تطلق الْأَخ عل الْوَاحِد من قوم فَيَقُولُونَ: يَا أَخا بني تَمِيم، يُرِيدُونَ وَاحِدًا مِنْهُم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح} (الشُّعَرَاء: 601) . قيل: أخوهم لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُم. قَوْله: (وَقَالَ: الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب) ، يحْتَمل أَن يكون قبل اللّعان تحذيراً لَهما مِنْهُ وترغيباً فِي تَركه، وَأَن يكون بعده، وَالْمرَاد بَيَان أَنه يلْزم الْكَاذِب التَّوْبَة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: أَحَدكُمَا لَكَاذِب، بِاللَّامِ. قَوْله: (فَهَل مِنْكُمَا تائب؟) ظَاهره أَن ذَلِك كَانَ قبل صُدُور اللّعان مِنْهُمَا.
قَوْله: (قَالَ أَيُّوب) مَوْصُول بالسند الْمُتَقَدّم، وَهُوَ أَيُّوب السختاين الرَّاوِي. قَوْله: (قَالَ لي عَمْرو بن دِينَار) إِلَى آخِره، حَاصله أَن عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب سمعا الحَدِيث من سعيد بن جُبَير فحفظ عَمْرو مَا لم يحفظه أَيُّوب وَهُوَ قَوْله: (قَالَ الرجل: مَالِي) أَي: الصَدَاق الَّذِي دَفعه إِلَيْهَا، فَقيل لَهُ: لَا مَال لَك لِأَنَّك إِن كنت صَادِقا فِيمَا ادعيته عَلَيْهَا فقد دخلت بهَا واستوفيت حَقك مِنْهَا قبل ذَلِك، وَإِن كنت كَاذِبًا فِيمَا قلته فَهُوَ أبعد لَك من مطالبتها بِمَال، لِئَلَّا تجمع عَلَيْهَا الظُّلم فِي عرضهَا ومطالبتها بِمَال قَبضته مِنْك قبضا صَحِيحا تستحقه.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فِيهِ: دَلِيل على وجوب صَدَاقهَا، وَأَن الزَّوْج لَا يرجع عَلَيْهَا بِالْمهْرِ وَإِن أقرَّت بِالزِّنَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن كنت صَادِقا. .) الخ.
33 - (بابُ قَوْلِ الإمامِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: إنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُما تائِبٌ؟ .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الإِمَام إِلَى آخِره، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ تَغْلِيب الْمُذكر على الْمُؤَنَّث. قلت: لَا يُقَال فِي مثل هَذَا: تَغْلِيب للمذكر على الْمُؤَنَّث، لِأَن التَّثْنِيَة إِذا كَانَت للخطاب يَسْتَوْفِي فِيهَا الْمُذكر والمؤنث، وَقَالَ عِيَاض: فِي قَوْله: أَحَدكُمَا، رد على من قَالَ من النُّحَاة: إِن لفظ أحد لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي النَّفْي، وعَلى من قَالَ مِنْهُم: لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي الْوَصْف، وَأَنه لَا يوضع مَوضِع وَاحِد وَلَا يَقع موقعه، وَقد جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيث فِي غير وصف وَلَا نفي، وَبِمَعْنى: وَاحِد، ورد عَلَيْهِ بِأَن الَّذِي قالته النُّحَاة إِنَّمَا هُوَ فِي أحد الَّذِي للْعُمُوم نَحْو: فِي الدَّار من أحد، وَمَا جَاءَنِي من أحد، وَأما أحد بِمَعْنى وَاحِد فَلَا خلاف فِي اسْتِعْمَاله فِي الْإِثْبَات. نَحْو: {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) وَنَحْو: {فشهادة أحدهم} (النُّور: 6) وَنَحْو: أَحَدكُمَا كَاذِب. قَوْله: (فَهَل مِنْكُمَا تائب) يحْتَمل أَن يكون إرشاداً لِأَنَّهُ لم يحصل مِنْهُمَا وَلَا من أَحدهمَا اعْتِرَاف، وَلِأَن الزَّوْج إِذا أكذب نَفسه كَانَت تَوْبَة مِنْهُ.
2135 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ عَمْرٌ و: سَمِعْتُ سَعيدَ بنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سألْتُ ابنَ عُمَرَ عَن المُتَلاعِنَيْنِ، فَقال: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: حِسابُكُما علَى الله، أحَدُكُما كاذِبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ عَليْها. قَالَ: مالِي؟ قَالَ: لَا مالَ لَكَ، إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا استحللت فَهُوَ من فرجهَا وَإِن كنت كذبت عَلَيْها فَذَاكَ أبْعَدُ لَكَ.
قَالَ سُفيْانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍ و. وَقَالَ أيُّوبُ سَمِعْتُ سَعِيد بنَ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لابنِ عُمَرَ: رجلٌ لَا عَنَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ باصْبَعَيْهِ، وفَرَّقَ سُفْيانُ بَيْنَ أصْبَعَيْهِ السَّبَّايَةِ والوُسْطَى، وفَرَّقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ أخَوَيْ بَنِي العَجْلاَنِ، وَقَالَ: الله يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ فَهَلْ مِنْكما تائِبٌ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، قَالَ سُفْيانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍ ووأيُّوبَ كَمَا أخْبَرْتُكَ.(20/300)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
قَوْله: (عَن المتلاعنين) أَي: عَن حكمهمَا. قَوْله: (لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا) أَي: على الْمُلَاعنَة لِأَن اللّعان رفع سَبيله عَلَيْهَا. قَوْله: (فَذَاك) ويروى: فَذَلِك إِشَارَة إِلَى الطّلب، وَاللَّام فِي ذَلِك للْبَيَان نَحْو: هيت لَك.
قَوْله: (وَقَالَ أَيُّوب) مَوْصُول بالسند الْمُتَقَدّم وَلَيْسَ بتعليق. قَوْله: (فَقَالَ بإصبعيه) هُوَ من إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان: حفظته من عَمْرو وَأَيوب) ، هَذَا من كَلَام عَليّ بن عبد الله شيخ البُخَارِيّ، يُرِيد بِهِ سَماع سُفْيَان من عَمْرو وَأَيوب.
43 - (بابُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُتَلاَعَنَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّفْرِيق بَين الزَّوْجَيْنِ المتلاعنين، وَهَذِه التَّرْجَمَة ثبتَتْ للمستملي وَثَبت لفظ: بَاب، فَقَط عِنْد النَّسَفِيّ بِلَا تَرْجَمَة وَسقط ذَلِك للباقين.
3135 - حدّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثَنَا أنَسُ بنُ عِياضٍ عنْ عُبَيْدٍ الله عنْ نافِعٍ: أنَّ ابنَ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَّقَ بَيْنَ رجُلِ وامرَأةٍ قَذَفَهَا وأحْلَفَهُما.
ابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ. قَوْله: (قَذفهَا) جملَة وَقعت حَالا أَي: حَال كَونه قذف الْمَرْأَة بِالزِّنَا. قَوْله: (واحلفهما) من الإحلاف قَوْله: (فرق) ، دَلِيل لأبي حنيفَة وصاحبيه أَن اللّعان لَا يتم إلاَّ بتفريق الْحَاكِم، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ أَيْضا وَقد مر الْكَلَام فِيهِ بسوطاً.
4135 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: لَا عَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَ رجُلٍ وامرْأة منَ الأنْصارِ، وفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
اطريق آخر فِي حَدِيث ابْن عمر. أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (بَين رجل وَامْرَأَة) من الْأَنْصَار، فالرجل هُوَ هِلَال بن أُميَّة الْأنْصَارِيّ وَهُوَ الَّذِي قذف امْرَأَته بِشريك بن السحماء وَهُوَ شريك بن عبد بن مغيث حَلِيف للْأَنْصَار وسحماء بِالسِّين الْمُهْملَة اسْم أمه، وَقَالَ أَبُو عمر رَحمَه الله: رُوِيَ جرير بن حَازِم عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما قذف هِلَال بن أُميَّة امْرَأَته قيل لَهُ: وَالله ليجلدنك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَمَانِينَ. فَقَالَ: الله أعدل، وَقد علم أَنِّي رَأَيْت، فَنزلت آيَة الْمُلَاعنَة. وَقَالَ ابْن التِّين: الْأَصَح أَن هلالاً لَاعن قبل عُوَيْمِر وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) : الْأَكْثَرُونَ على أَن قصَّة هِلَال أسبق من قصَّة عُوَيْمِر، وَفِي (الشَّامِل) لِابْنِ الصّباغ: قصَّة هِلَال تنبىء أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِيهِ أَولا، وَمَا قيل لعويمر: قد أنزل فِيك وَفِي صَاحبَتك، يَعْنِي: مَا نزل فِي قصَّة هِلَال، لِأَن ذَلِك حكم عَام لجَمِيع النَّاس. قلت: هَذَا الَّذِي يَقُوله الأصوليون الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب. فَإِن قلت: قَالَ فِي الرِّوَايَة الأولى: فرق بَين رجل وَامْرَأَة قَذفهَا واحلفهما، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة: قَالَ: (لَاعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، ثمَّ قَالَ: وَفرق بَينهمَا. قلت: لَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى فِي الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ لَا بُد من الْمُلَاعنَة. . والتفريق من الْحَاكِم. وَهُوَ حجَّة قَوِيَّة للحنفية أَن اللّعان لَا يتم إلاَّ بتفريق الْحَاكِم بَينهمَا، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب.
53 - (بابٌ يُلْحَقُ الوَلدُ بالمُلاَعَنِةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْوَلَد يلْحق بِالْمَرْأَةِ الْمُلَاعنَة إِذا نَفَاهُ الزَّوْج قبل الْوَضع أَو بعده.
5135 - حدّثنا يحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا مالِك قَالَ: حدّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاعَنَ بَيْنَ رجُلٍ وامْرَأتِهِ فانْتَفَى مِنْ وَلدها، فَفَرَّقَ بَيْنَهما وألْحق الوَلَدَ بالمَرْأَةِ.
ابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن يحيى بن قزعة. وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح، وَالنَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّلَاق عَن أَحْمد بن سِنَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي سبعتهم عَن مَالك بِهِ.
وَهَذَا الحَدِيث(20/301)
مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام.
الأول: اللّعان، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف وَأَجْمعُوا على صِحَّته ومشروعيته.
الثَّانِي: التَّفْرِقَة. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهَا، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ أَنه تقع الْفرْقَة بَينهمَا بِنَفس التلاعن، وَعَن أبي حنيفَة. لَا يحصل إلاَّ بتفريق الْحَاكِم لظَاهِر الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهُوَ حجَّة على الْمُخَالفين.
الثَّالِث: إِلْحَاق الْوَلَد بِالْأُمِّ. بِظَاهِر الحَدِيث، وَذَلِكَ أَنه إِذا لاعنها وَنفى عَنهُ نسب الْحمل انْتَفَى عَنهُ وَيثبت نسبه من الْأُم ويرثها وترث مِنْهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: ذهب قوم إِلَى أَن الرجل إِذا نفى ولد امْرَأَته لم ينتف بِهِ وَلم يُلَاعن بِهِ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْوَلَد للْفراش وللعاهد الْحجر. قلت: أخرجه الْجَمَاعَة من حَدِيث عَائِشَة غير التِّرْمِذِيّ قَالُوا: الْفراش يُوجب حق الْوَلَد فِي إِثْبَات نسبه من الزَّوْج وَالْمَرْأَة فَلَيْسَ لَهما إِخْرَاجه بِلعان وَلَا غَيره. قلت: أَرَادَ الطَّحَاوِيّ بالقوم هَؤُلَاءِ: عَامر الشّعبِيّ وَمُحَمّد بن أبي ذِئْب وَبَعض أهل الْمَدِينَة، وَخَالفهُم الْآخرُونَ وهم جُمْهُور الْفُقَهَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأصحابهم فَإِنَّهُم قَالُوا: إِذا نفى الرجل ولد امْرَأَته يُلَاعن وينتفي نسبه مِنْهُ، وَيلْزم أمه ثمَّ فِيهِ خلاف آخر من وَجه آخر، فَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا كَانَ الْقَذْف بِنَفْي الْوَلَد بِحَضْرَة الْولادَة أَو بعْدهَا بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ أَو نَحْو ذَلِك من مُدَّة يَأْخُذ فِيهَا التهنئة وابتياع آلَات الْولادَة عَادَة صَحَّ ذَلِك. فَإِن نَفَاهُ بعد ذَلِك لَا يَنْتَفِي، وَلم يُوَقت أَبُو حنيفَة، رَحمَه الله، وقتا، وروى عَنهُ أَنه وقَّت لذَلِك سَبْعَة أَيَّام وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وقتاه بِأَكْثَرَ النّفاس وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَالشَّافِعِيّ، رَحمَه الله: اعْتبر الْفَوْر، فَقَالَ: إِن نَفَاهُ على الْفَوْر انْتَفَى وإلاَّ لَا. وَأَجَابُوا عَن حَدِيث أهل الْمقَالة الأولى أَنه: لَا يَنْفِي وجوب اللّعان بِنَفْي الْوَلَد، وَلَا يُعَارض الْأَحَادِيث الَّتِي تدل على ذَلِك.
63 - (بابُ قوْلِ الإمامِ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قون الإِمَام فِي اللّعان: اللَّهُمَّ بيّن، أَي: أظهر حكم هَذِه الْمَسْأَلَة الْوَاقِعَة. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ، رَحمَه الله: لَيْسَ معنى هَذَا الدُّعَاء طلب ثُبُوت صدق قَول الإِمَام فَقَط، بل مَعْنَاهُ أَن تَلد ليظْهر الشّبَه.
6135 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني سُليْمانُ بنُ بلاَلٍ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ: أخبرَني عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ القاسِمِ عَن القاسِمِ بن مُحَمَّدٍ عَن ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ قَالَ: ذُكرِ المُتَلاَعِنانِ عِنْدَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عاصِمُ بنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلاً ثمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَذَكَرَ لهُ أنَّهُ وجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً، فَقَالَ عاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بهاذَا الأمْرِ إلاَّ لِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأخْبَرَهُ بالَّذِي وجَد عَليْهِ امْرَأتَهُ، وكانَ ذلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وكانَ الذِي وجَدَ عِنْدَ أهْلِهِ آدَمَ خَدْلا كَثِيرَ اللَّحْمِ جَعْداً قَطَطاً، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهاً بالرَّجُلِ الّذِي ذَكَرَ زَوْجُها أنّهُ وجَدَ عِنْدَها، فَلاَعَنَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَهُما فَقَالَ رجُلٌ لابْنِ عبَّاسٍ فِي المَجْلِسِ: هِيَ الّتِي قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْ رَجَمْتُ أحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لرَجَمتُ هاذِهِ؟ فَقَالَ ابنُ عبَّاس: لَا، تِلْكَ امْرَأةٌ كانَتْ تُظْهر السُّوءَ فِي الإسْلاَمِ.
ابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اللَّهُمَّ بَين فَوضعت. .) إِلَى آخِره. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ. والْحَدِيث قد مر قبله بأَرْبعَة أَبْوَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا.
قَوْله: (قططاً) بالفتحات مَعْنَاهُ: الشَّديد الجعودة، وَقيل: الْحسن الجعودة، الأول أَكثر. قَوْله: (فَوضعت) أَي: ولدا، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: فَجَاءَت شَبِيها بِالرجلِ الَّذِي ذكره.
73 - (بابٌ إذَا طَلّقها ثَلاثاً ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ العِدَّةِ زَوْجاً غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا إِذا طَلقهَا الْملَاعن ثَلَاث طلقات ثمَّ تزوجت الْمُلَاعنَة بعد انْقِضَاء عدتهَا زوجا غَيره فَلم يَمَسهَا. أَي: فَلم(20/302)
يُجَامِعهَا، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل تحل للْأولِ إِن طَلقهَا الثَّانِي، قبل الْمَسِيس أم لَا؟ وَتَمام الْجَواب: لَا تحل للْأولِ إلاَّ بِطَلَاق الزَّوْج الثَّانِي، وَكَانَ قد وَطئهَا.
7135 - حدّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ حَدثنَا يَحْيَى حَدثنَا هِشامٌ قَالَ: حدّثني أبي عنْ عائِشَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
حدّثنا عُثْمَانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حَدثنَا عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رضِي الله عَنْهَا: أنَّ رِفاعَةَ القُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فأتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَتْ لهُ أنَّهُ لَا يأتِيها وأنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إلاَّ مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: لَا حتَّى تَذُوقِي عُسَيلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ.
ابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ويوضح الحَدِيث معنى التَّرْجَمَة.
وَأخرجه من طَرِيقين. الأول: عَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس بِالْفَاءِ وَتَشْديد اللَّام عَن يحيى الْقطَّان عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة. الثانيعن عُثْمَان بن أبي شيبَة أخي أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عَبدة بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن سُلَيْمَان الْكُوفِي، واسْمه عبد الرَّحْمَن وَعَبدَة لقبه عَن هِشَام إِلَى آخِره.
والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب من أجَاز الطَّلَاق الثَّلَاث، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
7135 - حدّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ حَدثنَا يَحْيَى حَدثنَا هِشامٌ قَالَ: حدّثني أبي عنْ عائِشَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
حدّثنا عُثْمَانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حَدثنَا عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رضِي الله عَنْهَا: أنَّ رِفاعَةَ القُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فأتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَتْ لهُ أنَّهُ لَا يأتِيها وأنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إلاَّ مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: لَا حتَّى تَذُوقِي عُسَيلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ.
ابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ويوضح الحَدِيث معنى التَّرْجَمَة.
وَأخرجه من طَرِيقين. الأول: عَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس بِالْفَاءِ وَتَشْديد اللَّام عَن يحيى الْقطَّان عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة. الثانيعن عُثْمَان بن أبي شيبَة أخي أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عَبدة بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن سُلَيْمَان الْكُوفِي، واسْمه عبد الرَّحْمَن وَعَبدَة لقبه عَن هِشَام إِلَى آخِره.
والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب من أجَاز الطَّلَاق الثَّلَاث، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
(كتابُ العِدَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْعدة، وَلَفظ: كتاب، وَقع فِي كتاب ابْن بطال وَهُوَ الصَّوَاب، وَالْعدة اسْم لمُدَّة تَتَرَبَّص بهَا الْمَرْأَة عَن الزَّوْج بعد وَفَاة زَوجهَا أَو فِرَاقه لَهَا إِمَّا بِالْولادَةِ أَو بالإقراء أَو بِالْأَشْهرِ. قلت: الْعدة مصدر من عد يعد، يُقَال: عددت الشَّيْء إِذا أحصيته، وَفِي الشَّرْع: هِيَ ترُّبص أَي انْتِظَار مُدَّة تلْزم الْمَرْأَة عِنْد زَوَال النِّكَاح أَو شبهه، وعدة الْمَرْأَة الْحرَّة للطَّلَاق أَو الْفَسْخ بِغَيْر طَلَاق مثل خِيَار الْعتْق وَالْبُلُوغ، وَملك أحد الزَّوْجَيْنِ صَاحبه، وَالرِّدَّة، وَعدم الْكَفَاءَة: ثَلَاثَة أَقراء إِن كَانَت من ذَوَات الْحيض وَكَانَ بعد الدُّخُول بهَا، وَثَلَاثَة أشهر لصِغَر أَو كبر، وللموت أَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام سَوَاء كَانَت الْمَرْأَة مسلمة أَو كِتَابِيَّة تَحت مُسلم، صَغِيرَة أَو كَبِيرَة قبل الدُّخُول أَو بعده، وللأمة قُرْآن فِي الطَّلَاق إِن كَانَت مِمَّن تحيض، وَإِن كَانَت مِمَّن لَا تحيض لصغرٍ أَو كبرٍ أَو كَانَت توفّي عَنْهَا زَوجهَا شهر وَنصف فِي الطَّلَاق بعد الدُّخُول، وشهران وَخَمْسَة أَيَّام فِي الْوَفَاة، وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين القنة وَأم الْوَلَد والمدبرة وَالْمُكَاتبَة ومعتقة الْبَعْض عِنْد أبي حنيفَة، وعدة الْحَامِل وَضعه أَي: وضع الْحمل سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة، وَسَوَاء كَانَت الْعدة عَن طَلَاق أَو وَفَاة أَو غير ذَلِك، وعدة الفار أبعد الْأَجَليْنِ من عدَّة الْوَفَاة من عدَّة الطَّلَاق عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، وَعند أبي يُوسُف: تَعْتَد عدَّة الْوَفَاة.
83
- (بابُ قَوْلِ الله {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم إِن ارتبتم} ) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {واللائي} . إِلَى آخِره، وَسقط لفظ: بَاب، لأبي ذَر ولكريمة، وَثَبت للباقين، وَقَالَ الْفراء فِي (كتاب مَعَاني الْقُرْآن) : ذكرُوا أَن معَاذ بن جبل، رَضِي الله عَنهُ، سَأَلَ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله {قد عرفنَا عدَّة الَّتِي تحيض، فَمَا عدَّة الْكَبِيرَة الَّتِي يئست؟ فَنزلت؟ {فعدتهن ثَلَاثَة أشهر} (الطَّلَاق: 4) ، فَقَامَ رجل فَقَالَ: فَمَا عدَّة الصَّغِيرَة الَّتِي لم تَحض؟ فَقَالَ {واللائي لم يحضن} بِمَنْزِلَة الْكَبِيرَة الَّتِي قد يئست عدتهَا ثَلَاثَة أشهر، فَقَامَ آخر فَقَالَ: فالحوامل يَا رَسُول الله مَا عدتهن؟ فَقَالَ: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} (الطَّلَاق: 4) فَإِذا وضعت الْحَامِل ذَا بَطنهَا حلت للزَّوْج وَإِن كَانَ الْمَيِّت على السرير لم يدْفن، وَذكره عبد بن حميد فِي تَفْسِيره عَن عمر بن الْخطاب نَحوه، وَعند الواحدي من حَدِيث أبي عُثْمَان عَمْرو بن سَالم قَالَ: لما نزلت عدَّة النِّسَاء فِي سُورَة الْبَقَرَة قَالَ أبي بن كَعْب: يَا رَسُول الله} إِن أُنَاسًا من أهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ: قد بَقِي من النِّسَاء مَا لم يذكر فِيهِنَّ شَيْء ... قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الصغار والكبار وَذَوَات الْحمل؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة. وَفِي (تَفْسِير مقَاتل) قَالَ خَلاد الْأنْصَارِيّ:(20/303)
يَا رَسُول الله! مَا عدَّة من لم تَحض؟ فَنزلت.
قَالَ مُجاهدٌ: إنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أوْ لاَ يَحِضْنَ والّلائِي قَعَدْنَ عَن الحَيْضِ والّلائِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أشْهُرٍ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله: {إِن أرتبتم} (الطَّلَاق: 4) بقوله: (إِن لم تعلمُوا) . . الخ وَوصل هَذَا التَّعْلِيق عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَقد أجمع الْعلمَاء على أَن عدَّة الآيسة من الْمَحِيض ثَلَاثَة أشهر، وَأما أولات الْأَحْمَال. . فَقَالَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: أَكثر الْعلمَاء، وَالَّذِي، مضى عَلَيْهِ الْعَمَل أَنَّهَا إِذا وضعت حملهَا فقد انْقَضتْ عدتهَا، وَخَالف فِي ذَلِك عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِنَّهُمَا قَالَا: عدتهَا آخر الْأَجَليْنِ، وَرُوِيَ أَيْضا عَن سَحْنُون، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: الرُّجُوع عَن ذَلِك، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن أَصْحَابه عَطاء وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد قَالُوا كَقَوْل الْجَمَاعَة، وَقَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان: لَا تخرج عَن الْعدة حَتَّى يَنْقَضِي نفَاسهَا وتغتسل مِنْهُ.
93 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: { (65) وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} (الطَّلَاق: 4) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال} (الطَّلَاق: 4) وَقد مر بَيَانه عَن قريب، وَأولَات الْأَحْمَال الحبالى.
8135 - حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللّيْثُ عنْ جَعْفَرِ بنِ ربِيعَةَ عنْ عبْد الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ الأعْرَجِ قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سَلَمَة بنُ عبدِ الرَّحمْنِ أنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أبي سَلَمَة أخْبَرَتْهُ عنْ أُمِّها أُمِّ سَلَمَة زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنَّ امْرَأةً مِنْ أسْلَمَ يُقالُ لَهَا: سُبَيْعَةُ، كانَتْ تَحْتَ زَوْجِها تُوُفِّيَ عنْها وهْي حُبْلَى، فَخَطَبَها أبُو السَّنابِلِ بنُ بَعْكَكٍ، فأبَتْ أنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَالله مَا يَصْلُحُ أنْ تَنْكحِيهِ حتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأجَلْيْنِ، فَمَكَثَتْ قَرِيباً مِنْ عَشْرِ لَيالٍ ثُمَّ جاءَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أنْكِحِي.
(انْظُر الحَدِيث: 9094) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق أَيْضا عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده بِهِ.
قَوْله: (من أسلم) بِلَفْظ أفعل التَّفْضِيل نِسْبَة إِلَى أسلم بن أفصى بن حَارِثَة بن عَمْرو. قَوْله: (سبيعة) مصغر السَّبْعَة الَّتِي بعد السِّتَّة بنت الْحَارِث، وَزوجهَا سعد بن خَوْلَة من بني عَامر بن لؤَي من أنفسهم، وَقيل: هُوَ حَلِيف لَهُم، مَاتَ بِمَكَّة فِي حجَّة الْوَدَاع وَهُوَ الصَّحِيح. قَوْله: (وَهِي حُبْلَى) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (أَبُو السنابل) جمع سنبلة، واسْمه عَمْرو، وَقيل: حَبَّة بن بعكك بن الْحجَّاج بن الْحَارِث ابْن السباق بن عبد الدَّار بن قصي الْقرشِي الْعَبدَرِي، كَانَ من مسلمة الْفَتْح، وَكَانَ شَاعِرًا وَمَات بِمَكَّة. قَوْله: (فَأَبت أَن تنكحه) أَي: فامتنعت من أَن تنكحه، وَأَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (فَقَالَ) الْقَائِل هُوَ أَبُو السنابل، وَوَقع عِنْد الشَّيْخ أبي الْحسن: فَقَالَت، وَهُوَ تَحْرِيف لِأَن أَبَا السنابل خاطبها بذلك. قَوْله: (آخر الْأَجَليْنِ) يَعْنِي: وضع الْحمل وتربص أَرْبَعَة أشهر وَعشر، يَعْنِي: تعتدي بأطولها. قَوْله: (أنكحي) أمرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنِّكَاحِ لِأَن مدَّتهَا انْقَضتْ بِوَضْع الْحمل لقَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال} (الطَّلَاق: 4)
الْآيَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا أَيْضا خصص عُمُوم الْآيَة لِأَن الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} (الطَّلَاق: 4) عَامَّة فِي كل مُعْتَدَّة من طَلَاق أَو وَفَاة إِذْ جَاءَت مجملة لم يذكر فِيهَا أَنَّهَا للمطلقة خَاصَّة، وَلَا للمتوفى عَنْهَا زَوجهَا، خَاصَّة. وَالْعَمَل على حَدِيث الْبَاب بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام، وَلَا يعلم فِيهِ مُخَالف إلاَّ مَا رُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي آخر الْبَاب الَّذِي قبل.
9135 - حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ عنِ اللَّيْثِ عنْ يَزيدَ أنَّ ابنَ شِهابٍ كَتَبَ إلَيْهِ أنَّ عُبَيْدَ الله ابنَ عبْدِ الله أخْبَرَهُ عنْ أبِيهِ أنّهُ كَتَبَ إِلَى ابنِ الأرْقَمِ أَن يَسْألَ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةَ: كَيْفَ أفْتاها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فقالَتْ: أفْتانِي إذَا وضَعْتُ أنْ أنْكَحَ.
(انْظُر الحَدِيث: 1993) .(20/304)
هَذَا طَرِيق آخر عَن يحيى بن بكير عَن يزِيد، وَيزِيد هَذَا من الزِّيَادَة هُوَ ابْن أبي حبيب أَبُو رَجَاء الْمصْرِيّ وَاسم أبي حبيب سُوَيْد، أَعتَقته امْرَأَة مولاة لبني حسان بن عَامر بن لؤَي الْقرشِي، وَأم يزِيد مولاة نجيب، كَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُود فِي (أَطْرَافه) إِنَّه يزِيد بن أبي حبيب، وَصرح بِهِ أَبُو نعيم وَالطَّبَرَانِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي رواياتهم. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَأبي ذَلِك شَيخنَا أَبُو مُحَمَّد الدمياطي، فَقَالَ: يزِيد هَذَا هُوَ ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد، وَخَالفهُم وَخَالف الشُّرَّاح أَيْضا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَصَاحب (التَّوْضِيح) : فَينْظر، وَقيل: هَذَا وهم مِنْهُ. قلت: الظَّاهِر أَنه وهم.
قَوْله: (كتب إِلَيْهِ) فِيهِ حجَّة فِي جَوَاز الرِّوَايَة بالمكاتبة. قَوْله: (أَن عبيد الله بن عبد الله أخبرهُ عَن أَبِيه) ، هُوَ عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود. قَوْله: (إِلَى ابْن الأرقم) هُوَ عمر بن عبد الله بن الأرقم، كَذَا فِي (صَحِيح مُسلم) مُصَرحًا بِهِ، وَلَفظه: عَن ابْن شهَاب قَالَ: حَدثنِي عبيد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أَن أَبَاهُ كتب إِلَى عمر بن عبد الله ابْن الأرقم، وَجَمِيع الشُّرَّاح جزموا أَنه عبد الله بن الأرقم، وَالظَّاهِر أَن أول شَارِح للْبُخَارِيّ وهم فِيهِ ثمَّ تبعه كل من أَتَى بعده من الشُّرَّاح، وَأما تَرْجَمَة عبد الله فَهُوَ: عبد الله بن الأرقم بن عبد يَغُوث بن وهب بن عبد منَاف بن زهرَة، أسلم يَوْم الْفَتْح وَكتب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لأبي بكر ثمَّ لعمر، وَاسْتَعْملهُ عُثْمَان على بَيت المَال سِنِين، ثمَّ استعفاه فأعفاه. وَقَالَ خَليفَة بن خياط: لم يزل عبد الله بن الأرقم على بَيت المَال خلَافَة عمر كلهَا وسنتين من خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَا رَأَيْت أحدا أخْشَى لله مِنْهُ.
0235 - حَدثنَا يَحْيَى بن قَزَعَةَ حَدثنَا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ أنَّ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وفاةِ زوْجِها بِلَيالٍ، فَجَاءَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستَأْذَنَتْهُ أنْ تَنْكِحَ، فأذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن يحيى بن قزعة إِلَى آخِره.
قَوْله: (نفست) ، بِضَم النُّون وَفتحهَا وَكسر الْفَاء من النّفاس بِمَعْنى الْولادَة، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: إِذا حَاضَت فالفتح لَا غَيره. قَوْله: (بِليَال) ، قيل: خمس وَعِشْرُونَ لَيْلَة، وَقيل: أقل من ذَلِك، وَوَقع فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: (فَلم تلبث أَن وضعت) ، وَعند أَحْمد: (فَلم أمكث إلاَّ شَهْرَيْن حَتَّى وضعت) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة فِي تَفْسِير الطَّلَاق: فَوضعت بعد مَوته بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة، وَعند النَّسَائِيّ: بِعشْرين لَيْلَة، وَعند أبي حَاتِم: بِعشْرين أَو خمس عشرَة، وَعند التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: بِثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا أَو خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا، وَعند ابْن مَاجَه ببضع وَعشْرين، وَالْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات مُتَعَذر لِاتِّحَاد الْقِصَّة، فَلَعَلَّ ذَلِك هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام من أبهم الْمدَّة.
04
- (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { (2) والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بأنْفُسهِنَّ ثَلاَثَة قُرُوء} (الْبَقَرَة: 822) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات} . . إِلَى آخِره، وَسقط لفظ: بَاب، لأبي ذَر، وَثَبت لغيره، وَالْمرَاد بالمطلقات الْمَدْخُول بِهن من ذَوَات الإقراء. قَوْله: (يَتَرَبَّصْنَ) أَي: ينتظرن، وَهَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر {ثَلَاثَة قُرُوء بعد طَلَاق زَوجهَا ثمَّ تتَزَوَّج إِن شَاءَت، وَقد أخرج الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة من هَذَا الْعُمُوم الْأمة إِذا طلقت فَإِنَّهَا تَعْتَد عِنْدهم بقرأين لِأَنَّهَا على النّصْف من الْحرَّة، والقرء لَا يَتَبَعَّض فكمل لَهَا قُرْآن، وَلما رَوَاهُ ابْن جريج عَن مظَاهر بن أسلم المَخْزُومِي الْمدنِي عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (طَلَاق الْأمة تَطْلِيقَتَانِ وعدتها حيضتان) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، قَالَ ابْن كثير: وَلَكِن ظَاهر هَذَا ضَعِيف بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره: الصَّحِيح أَنه من قَول الْقَاسِم بن مُحَمَّد نَفسه، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ سَالم وَنَافِع عَن ابْن عمر. قَوْله: وَهَكَذَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، قَالُوا: وَلم يعرف بَين الصَّحَابَة خلاف، وَقَالَ بعض السّلف: بل عدتهَا عدَّة الْحرَّة لعُمُوم الْآيَة، وَلِأَن هَذَا أَمر جبلي فالحرائر وَالْإِمَاء فِي ذَلِك سَوَاء، وَحكى هَذَا القَوْل أَبُو عمر عَن ابْن سِيرِين وَبَعض أهل الظَّاهِر وَضَعفه.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ، فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي العِدَّةِ فَحاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاَثَ حِيَضٍ: بانَتْ مِنَ الأَوَّلِ(20/305)
وَلَا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ.
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَهَذِه مَسْأَلَة اجْتِمَاع العدتين، فَنَقُول أَولا: إِن الْعلمَاء مجمعون على أَن الناكح فِي الْعدة يفْسخ نِكَاحه وَيفرق بَينهمَا، فَإِذا تزوج فِي الْعدة فَحَاضَت عِنْده ثَلَاث حيض بَانَتْ من الأول لِأَنَّهَا عدتهَا مِنْهُ. قَوْله: (وَلَا تحتسب بِهِ) أَي لَا تحتسب هَذِه الْمَرْأَة بِهَذَا الْحيض لمن بعده أَي: بعد الزَّوْج الأول، بل تَعْتَد عدَّة أُخْرَى للزَّوْج الثَّانِي، هَذَا قَول إِبْرَاهِيم رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عَبدة بن أبي سُلَيْمَان عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَنهُ، وروى المدنيون عَن مَالك: إِن كَانَت حَاضَت حَيْضَة أَو حيضتين من الأول أَنَّهَا تتمّ بَقِيَّة عدتهَا مِنْهُ ثمَّ تسْتَأْنف عدَّة أُخْرَى من الآخر، على مَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَن عدَّة وَاحِدَة تكون لَهما جَمِيعًا، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَحْتَسِبُ، وَهَذَا أحَبُّ إِلَى سُفْيانَ، يَعْنِي: قَوْلَ الزُّهِرِيِّ.
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: تحتسب هَذَا الْحيض فَيكون عدَّة لَهما، كَمَا ذكرنَا الْآن، وَهَذَا أَي قَول الزُّهْرِيّ أحب إِلَى سُفْيَان الثَّوْريّ وَحجَّة الزُّهْرِيّ وَمن تبعه فِي هَذَا إِجْمَاعهم أَن الأول لَا ينْكِحهَا فِي بَقِيَّة الْعدة من الثَّانِي، فَدلَّ على أَنَّهَا فِي عدَّة من الثَّانِي، وَلَوْلَا ذَلِك لنكحها فِي عدتهَا مِنْهُ، وَحجَّة الْأَوَّلين أَنَّهُمَا حقان قد وجبا عَلَيْهَا لزوجين كَسَائِر الْحُقُوق لَا يدْخل أَحدهمَا فِي صَاحبه.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقالُ: أقْرَأَتِ المَرْأةُ إذَا دَنا حَيْضُها، وأقْرَأتْ إذَا دَنا طُهْرُها، ويُقالُ: مَا قَرَأَتْ بسِلًى قَطُّ: إذَا لَمْ تَجْمَعْ ولَداً فِي بَطْنِها.
معمر بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين هُوَ أَبُو عُبَيْدَة بن الْمثنى مَاتَ سنة عشر وَمِائَتَيْنِ. قَوْله: (يُقَال: أَقرَأت الْمَرْأَة) غَرَضه أَن الْقُرْء يسْتَعْمل بِمَعْنى الْحيض وَالطُّهْر، يَعْنِي: هُوَ من الأضداد، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْأَقْرَاء الَّتِي تجب على الْمَرْأَة إِذا طلقت، فَقَالَ الضَّحَّاك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وعلقمة وَالْأسود وَمُجاهد وَعَطَاء وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْحسن وَقَتَادَة وَالشعْبِيّ وَالربيع، وَمُقَاتِل بن حبَان وَالسُّديّ وَمَكْحُول وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي: الإقراء الْحيض، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ وَإِسْحَق، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَأبي الدَّرْدَاء وَعبادَة بن الصَّامِت وَأنس بن مَالك وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ومعاذ وَأبي بن كَعْب وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ سَالم وَالقَاسِم وَعُرْوَة وَسليمَان بن يسَار وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبَان ابْن عُثْمَان وَالزهْرِيّ وَبَقِيَّة الْفُقَهَاء السَّبْعَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة: الْأَقْرَاء هِيَ الْأَطْهَار، وَرُوِيَ عَن ان عَبَّاس وَزيد بن ثَابت، وَقَالَ أَبُو عمر، وَهُوَ قَول عَائِشَة وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر: فالمطلقة عِنْدهم تحل للأزواج بِدُخُولِهَا فِي الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَسَوَاء بَقِي من الطُّهْر الَّذِي طلقت فِيهِ الْمَرْأَة يَوْم وَاحِد أَو أَكثر أَو سَاعَة وَاحِدَة فَإِنَّهَا تحتسب بِهِ الْمَرْأَة قرءاً. وَقَالَت الطَّائِفَة الأولى: الْمُطلقَة لَا تحل للأزواج حَتَّى تَغْتَسِل من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَطَائِفَة أُخْرَى توقفوا فِي الْأَقْرَاء هَل هِيَ حيض أم أطهار؟ وهم: سُلَيْمَان بن يسَار وفضالة بن عبيد وَأحمد فِي رِوَايَة. قَوْله: (وَيُقَال: مَا قَرَأت بِسلًى) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالقصر، وَهِي الْجلْدَة الرقيقة الَّتِي يكون فِيهَا الْوَلَد من الْمَوَاشِي، مَعْنَاهُ: لم تضم رَحمهَا على ولد. وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْقُرْء جَاءَ بِمَعْنى الْجمع وَالضَّم أَيْضا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْقُرْء بِضَم الْقَاف، وَقَالَ أَبُو زيد بِفَتْح الْقَاف، وأقرأت الْمَرْأَة إِذا اسْتَقر المَاء فِي رَحمهَا، وَقَعَدت الْمَرْأَة أَيَّام إقرائها أَي: أَيَّام حَيْضهَا. وَقَالَ أَبُو عمر: أصل الْقُرْء فِي اللُّغَة الْوَقْت وَالطُّهْر وَالْحمل وَالْجمع، وَقَالَ ثَعْلَب: القروء الْأَوْقَات والواحدة قرء، وَهُوَ الْوَقْت وَقد يكون حيضا وَيكون طهرا، وَقَالَ قطرب: تَقول الْعَرَب: مَا أَقرَأت النَّاقة سلاً قطّ، أَي: لم ترم بِهِ، وأقرأت النَّاقة قرءاً، وَذَلِكَ معاودة الْفَحْل إِيَّاهَا، وَأَن كل ضراب، وَقَالُوا أَيْضا: قَرَأت الْمَرْأَة قرءاً إِذا حَاضَت وطهرت، وقرأت أَيْضا إِذا حملت، وَقيل: هُوَ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة، وَقيل: حَقِيقَة فِي الْحيض، مجَاز فِي الطُّهْر.(20/306)
14 - (بابُ قِصَّةِ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصَّة فَاطِمَة بنت قيس، لم يذكر لفظ: بَاب، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، ولبعضهم ذكر لفظ: بَاب، وَعَلِيهِ مَشى ابْن بطال. وَفَاطِمَة بنت قيس بن خَالِد الْأَكْبَر بن وهب بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن شَيبَان بن محَارب بن فهر القرشية الفهرية أُخْت الضَّحَّاك بن قيس، يُقَال: إِنَّهَا كَانَت أكبر مِنْهُ بِعشر سِنِين، وَكَانَت من الْمُهَاجِرَات الأول، وَكَانَت ذَات جمال وعقل وَكَمَال، وَفِي بَيتهَا اجْتمعت أَصْحَاب الشورى عِنْد قتل عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وخطبوا خطبتهم المأثورة، وَقَالَ الزبير: وَكَانَت امْرَأَة بخوداً، والبخود: النبيلة، قَالَ أَبُو عمر: روى عَنْهَا الشّعبِيّ وَأَبُو سَلمَة، وَأما الضَّحَّاك بن قيس فَإِنَّهُ كَانَ من صغَار الصَّحَابَة. وَقَالَ أَبُو عمر: يُقَال: إِنَّه ولد قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسبع سِنِين أَو نَحْوهَا، وينقون سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ على شرطة مُعَاوِيَة ثمَّ صَار عَاملا لَهُ على الْكُوفَة بعد زِيَاد، وولاه عَلَيْهَا مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَخمسين وعزله سنة سبع وَخمسين وَولى مَكَانَهُ عبد الرَّحْمَن بن أم الحكم وضمه إِلَى الشَّام، فَكَانَ مَعَه إِلَى أَن مَاتَ مُعَاوِيَة، فصلى عَلَيْهِ، وَقَامَ بخلافته حَتَّى قدم يزِيد ابْن مُعَاوِيَة، فَكَانَ مَعَه إِلَى أَن مَاتَ يزِيد، وَمَات بعده ابْنه مُعَاوِيَة بن يزِيد، ووثب مَرْوَان على بعض أهل الشَّام وبويع لَهُ فَبَايع الضَّحَّاك بن قيس أَكثر أهل الشَّام لِابْنِ الزبير وَعَاد إِلَيْهِ فَاقْتَتلُوا فَقتل الضَّحَّاك بن قيس بمرج راهط لِلنِّصْفِ من ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ، روى عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ وَتَمِيم بن طرفَة وَمُحَمّد بن سُوَيْد الفِهري وَمَيْمُون بن مهْرَان وَسماك بن حَرْب.
وَأما قصَّة فَاطِمَة بنت قيس فقد رويت من وُجُوه صِحَاح متواترة، وَقَالَ مُسلم فِي (صَحِيحه) : بَاب الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَا نَفَقَة لَهَا، ثمَّ روى قصَّتهَا من طرق مُتعَدِّدَة فَأول مَا رُوِيَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن عبد الله بن يزِيد مولى الْأسود ابْن سُفْيَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن فَاطِمَة بنت قيس أَن أَبَا عمر بن حَفْص طَلقهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِب، فَأرْسل إِلَيْهَا وَكيله بشعير فسخطته، فَقَالَ: وَالله مَالك علينا من شَيْء، فَجَاءَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لَك عَلَيْهِ نَفَقَة، فَأمرهَا أَن تَعْتَد فِي بَيت أم شريك، ثمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَة يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتدى عِنْد ابْن أم مَكْتُوم فَإِنَّهُ رجل أعمى تَضَعِينَ ثِيَابك فَإِذا حللت فاذنيني. قَالَت: فَلَمَّا حللت ذكرت لَهُ أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأَبا جهم خطباني، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه، وَأما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ، أنكحي أُسَامَة بن زيد فَكَرِهته ثمَّ قَالَ: أنكحي أُسَامَة فنكحته فَجعل الله فِيهِ خيرا واغتبطت. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَا نَفَقَة لَك وَلَا سُكْنى، وَفِي رِوَايَة: لَا نَفَقَة لَك فانتقلي فاذهبي إِلَى ابْن أم مَكْتُوم فكوني عِنْده، وَفِي رِوَايَة أبي بكر بن أبي الجهم. قَالَ: سَمِعت فَاطِمَة بنت قيس تَقول: أرسل إِلَيّ زَوجي أَبُو عمر بن حَفْص بن الْمُغيرَة عَيَّاش بن أبي ربيعَة بطلاقي، وَأرْسل مَعَه بِخَمْسَة آصَع تمر وَخَمْسَة آصَع شعير، فَقلت: أمالي نَفَقَة إلاَّ هَذَا وَألا اعْتد فِي منزلكم؟ قَالَ: لَا. قَالَت: فشددت عَليّ ثِيَابِي وأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: كم طَلَّقَك؟ قلت: ثَلَاثًا. قَالَ: صدق، لَيْسَ لَك نَفَقَة اعْتدى فِي بَيت ابْن عمك ابْن أم مَكْتُوم. . الحَدِيث.
وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس هَذِه من سِتَّة عشر طَرِيقا كلهَا صِحَاح. مِنْهَا: مَا قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن مَيْمُون، قَالَ: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى قَالَ: حَدثنَا أَبُو سَلمَة قَالَ: حَدثنِي فَاطِمَة بنت قيس أَن أَبَا عَمْرو بن حَفْص المَخْزُومِي طَلقهَا ثَلَاثًا. فَأمر لَهَا بِنَفَقَة فاستقلتها. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه نَحْو الْيمن، فَانْطَلق خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي نفر من بني مَخْزُوم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي بَيت مَيْمُونَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن أَبَا عَمْرو بن حَفْص طلق فَاطِمَة ثَلَاثًا فَهَل لَهَا من نَفَقَة؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ لَهَا نَفَقَة وَلَا سُكْنى وَأرْسل إِلَيْهَا أَن تنْتَقل إِلَى أم شريك، ثمَّ أرسل إِلَيْهَا أَن أم شريك يَأْتِيهَا الْمُهَاجِرُونَ الْأَولونَ فانتقلى إِلَى ابْن أم مَكْتُوم فَإنَّك إِذا وضعت خِمَارك لم يَرك.
ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب فِي فصلين. الأول: أَن الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَا تجب لَهَا النَّفَقَة وَلَا السُّكْنَى عِنْد قوم إِذا لم تكن حَامِلا، وَاحْتَجُّوا بالأحاديث الْمَذْكُورَة، وهم: الْحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وطاووس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَالشعْبِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَإِبْرَاهِيم فِي رِوَايَة وَأهل الظَّاهِر، وَقَالَ قوم: لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى حَامِلا أَو غير حَامِل، وهم حَمَّاد وَشُرَيْح وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَابْن شبْرمَة وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَهُوَ مَذْهَب عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن مسعد رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا(20/307)
وَقَالَ قوم: لَهَا السُّكْنَى بِكُل حَال وَالنَّفقَة إِذا كَانَت حَامِلا، وهم: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة وَاحْتج أَصْحَابنَا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَن عمر وَعَائِشَة وَأُسَامَة بن زيد ردوا حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس وأنكروه عَلَيْهَا وَأخذُوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة وهمت أَو نسيت، وَكَانَ عمر يَجْعَل لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى، وروى مُسلم: حَدثنَا أَبُو أَحْمد حَدثنَا عمار بن زُرَيْق عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: كنت مَعَ الْأسود بن يزِيد جَالِسا فِي الْمَسْجِد الْأَعْظَم ومعنا الشّعبِيّ، فَحدث الشّعبِيّ حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَجْعَل لَهَا سُكْنى وَلَا نَفَقَة، ثمَّ أَخذ الْأسود كفا من حصا فَحَصَبه بِهِ، فَقَالَ: وَيلك تحدث بِمثل هَذَا؟ قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا نَتْرُك كتاب الله وَسنة نَبينَا بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي حفظت أَو نسيت لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفقَة قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} (الطَّلَاق: 1) وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَلَفظه: لَا نَدْرِي أحفظت أَو لَا، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَلَفظه: قَالَ عمر لَهَا إِن جِئْت بِشَاهِدين يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا سمعاه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإلاَّ لم نَتْرُك كتاب الله لقَوْل امْرَأَة.
الْفَصْل الثَّانِي: فِي حكم خُرُوج المبتوتة بِالطَّلَاق من بَيتهَا فِي عدتهَا، فمنعت من ذَلِك طَائِفَة، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَعَائِشَة، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَسَالم وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد وَسليمَان بن يسَار، وَقَالُوا: تَعْتَد فِي بَيت زَوجهَا حَيْثُ طَلقهَا، وَحكى أَبُو عبيد هَذَا القَوْل عَن مَالك وَالثَّوْري والكوفيين، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يرَوْنَ أَن لَا تبيت المبتوتة والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا إلاَّ فِي بَيتهَا، وَفِيه قَول آخر: أَن المبتوتة تَعْتَد حَيْثُ شَاءَت، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَعَطَاء وطاووس وَالْحسن وَعِكْرِمَة، وَكَانَ مَالك يَقُول: الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا تزور وتقيم إِلَى قدر مَا يهدأ النَّاس بعد الْعشَاء ثمَّ تنْقَلب إِلَى بَيتهَا، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تخرج الْمُتَوفَّى عَنْهَا نَهَارا وَلَا تبيت إلاَّ فِي بَيتهَا، وَلَا تخرج الْمُطلقَة لَيْلًا وَلَا نَهَارا. قَالَ مُحَمَّد: لَا تخرج الْمُطلقَة وَلَا الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا فِي الْعدة، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن الرَّجْعِيَّة تسْتَحقّ السُّكْنَى وَالنَّفقَة، إِذْ حكمهَا حكم الزَّوْجَات فِي جَمِيع أمورها.
وقَوْلِهِ تَعَالَى: { (65) وَاتَّقوا الله ربكُم لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة كبينة وَتلك حُدُود الله. وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} (الطَّلَاق: 1) { (65) أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من. . حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} إِلَى قَوْله: { (65) بعد عسر يسرا} (الطَّلَاق: 6 7) [/ ح.
وَقَوله بِالْجَرِّ أَي: قَول الله تَعَالَى: {وَاتَّقوا الله} هَذَا الْمِقْدَار من الْآيَة ثَبت هُنَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بعد قَوْله: بُيُوتهنَّ الْآيَة إِلَى قَوْله: {بعد عسر يسرا} . وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة سَاق الْآيَات كلهَا وَهِي سِتّ آيَات أَولهَا من قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الطَّلَاق: 1) إِلَى قَوْله: {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} (الطَّلَاق: 7) قَوْله: {وَاتَّقوا الله ربكُم} أَوله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا الْعدة وَاتَّقوا الله ربكُم} (الطَّلَاق: 1) أَي: خَافُوا الله ربكُم الَّذِي خَلقكُم وَلَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ أَي: من مساكنهن الَّتِي يسكنهَا وَهِي بيُوت الْأزْوَاج، وأضيفت إلَيْهِنَّ لاختصاصها بِهن من حَيْثُ السُّكْنَى قَوْله: (الْآيَة) يَعْنِي: اقْرَأ الْآيَة إِلَى آخرهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة وَتلك حُدُود الله وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} قَوْله: (وَلَا يخْرجن) أَي: من مساكنهن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة، قيل: هِيَ الزِّنَا، فيخرجن لإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِنَّ، وَقيل: الْفَاحِشَة النُّشُوز، وَالْمعْنَى: إِلَّا أَن يطلقن على نشوزهن فيخرجن لِأَن النُّشُوز يسْقط حقهن فِي السُّكْنَى، وَقيل: إلاَّ أَن يبذون فَيحل إخراجهن لبذائهن، وَالْبذَاء بِالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة وبالمد: الْفُحْش فِي الْأَقْوَال، يُقَال: فلَان بذيء اللِّسَان إِذا كَانَ أَكثر كَلَامه فَاحِشا. قَوْله: (وَتلك) أَي: الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (حُدُود الله وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه) اسْتحق عِقَاب الله. قَوْله: (لَا نَدْرِي) أَي النَّفس، وَقيل: لَا تَدْرِي أَنْت يَا مُحَمَّد، وَقيل: لَا تَدْرِي أَيهَا الْمُطلق. قَوْله: (لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك) أَي: بعد الطَّلَاق مرّة أَو مرَّتَيْنِ. (أمرا) أَي رَجْعَة مَا دَامَت فِي الْعدة، وَهنا آخر الْآيَة(20/308)
من سُورَة الطَّلَاق. قَوْله: (أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم) ابْتِدَاء آيَة أُخْرَى من سُورَة الطَّلَاق أَيْضا إِلَى قَوْله: {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} قَوْله: (أسكنوهن) أَي: اسكنوا المطلقات من نِسَائِكُم. قَوْله: (من حَيْثُ سكنتم) كلمة من للتَّبْعِيض أَي: من بعض مَكَان سكناكم، وَعَن قَتَادَة: إِن لم يكن لَهُ إلاَّ بَيت وَاحِد فَإِنَّهُ يسكنهَا فِي بعض جوانبه. قَوْله: (من وجدكم) بَيَان وَتَفْسِير لقَوْله: (من حَيْثُ سكنتم) كَأَنَّهُ قيل: أسكنوهن مَكَانا من سكنكم من سعتكم وطاقتكم حَتَّى تنقضى عدتهن. قَوْله: (وَلَا تضاروهن) أَي: وَلَا تؤذوهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ مساكنهن فيخرجن. قَوْله: (وَإِن كن أولات حمل فانفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ) فيخرجن من الْعدة. قَوْله: (فَإِن أرضعن لكم) أَي: أَوْلَادكُم مِنْهُم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ على رضاعهن. قَوْله: (وائتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف) يَعْنِي: ليقبل بَعْضكُم على بعض إِذا أمروا بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الْفراء أَي: هموا، وَقَالَ الْكسَائي: أَي شاوروا، وَقيل: فَإِن أرضعن لكم يَعْنِي هَؤُلَاءِ المطلقات إِن أرضعن لكم ولدا من غَيْرهنَّ أَو مِنْهُنَّ بعد انْقِطَاع عصمَة الزَّوْجِيَّة فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ وحكمهن فِي ذَلِك حكم الآظار، وَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأَصْحَابه الِاسْتِئْجَار إِذا كَانَ الْوَلَد مِنْهُنَّ مَا لم تبن وَيجوز عِنْد الشَّافِعِي. قَوْله: (وَإِن تعاسرتم) يَعْنِي فِي الْإِرْضَاع فَأبى الزَّوْج أَن يعْطى الْمَرْأَة أُجْرَة رضاعها وأبت الْأُم أَن ترْضِعه فَلَيْسَ لَهُ إكراهها على إرضاعه (فسترضع لَهُ أُخْرَى) أَي فستوجد وَلَا تعوز مُرْضِعَة غير الْأُم ترْضِعه. قَوْله: (لينفق ذُو سَعَة من سعته) أَي: على قدر غناهُ، وَمن قدر عَلَيْهِ أَي وَمن ضيق عَلَيْهِ رزقه فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله. أَي: فلينفق من ذَلِك الَّذِي أعطَاهُ الله، وَإِن كَانَ قَلِيلا لَا بكلف الله نفسا إلاَّ مَا آتاها أَي إلاَّ مَا أَعْطَاهَا من المَال. قَوْله: (سَيجْعَلُ الله بعد عسر) أَي: بعد ضيق فِي الْمَعيشَة (يسرا) أَي: سَعَة هَذَا وعد لفقراء الْأزْوَاج بِفَتْح أَبْوَاب الرزق عَلَيْهِم.
أجُورَهُنَّ مُهُورَهُنَّ.
أَشَارَ إِلَى تَفْسِير قهول: (أُجُورهنَّ) فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} (النِّسَاء: 42) أَي: مهورهن، هَذَا فِي سُورَة النِّسَاء، وَلَا يَتَأَتَّى أَن يصرف هَذَا إِلَى قَوْله هُنَا: {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} (الطَّلَاق: 6) لِأَن المُرَاد من الأجور هُنَا الَّذِي هُوَ جمع أجر بِمَعْنى أُجْرَة الرَّضَاع، وَالَّذِي فِي سُورَة النِّسَاء جمع أجر بِمَعْنى الْمهْر، وَفِي ذكره نوعُ بعدٍ، وَلِهَذَا لَا يُوجد فِي بعض النّسخ.
1235 -، 2235 حدّثنا إسْماعِيل حَدثنَا مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ عنِ القاسمِ بنِ مُحَمَّدٍ وسُلَيْمانَ ابنِ يسارٍ أنّه سَمِعَهْما يَذْكُرَانِ أنَّ يَحْيَى بنَ سَعِيدِ بنِ العاصِ طَلَّقَ بِنْتَ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحكَم، فانْتَقَلها عبْدُ الرَّحْمانِ، فأرْسَلَتْ عائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ إِلَى مَرْوَانَ، وهْوَ أمِيرُ المَدِينَةِ: اتَّقِ الله وارْدُدْها إِلَى بيْتها. قَالَ مَرْوانُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمان: إنَّ عبْدَ الرحْمانِ بنَ الحكَمِ غَلَبَنِي.
وَقَالَ القاسِمُ ابنُ مُحَمَّدٍ: أوَ مَا بَلَغَكِ شأْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قالَتْ: لَا يَضُرُّكَ أنْ لَا تَذْكرَ حَدِيثَ فاطِمَةَ، فَقَالَ مرْوانُ بنُ الحَكَمِ: إنْ كانَ بِكِ شَرٌّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هاذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهَا بعض شَيْء من قصَّة فَاطِمَة بنت قيس.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ: وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَسليمَان بن يسَار. ضد الْيَمين مولى مَيْمُونَة، وَيحيى بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة، وَكَانَ أَبوهُ أَمِير الْمَدِينَة لمعاوية، وَيحيى هُوَ أَخُو عَمْرو بن سعيد الْمَعْرُوف بالأشدق، وَبنت عبد الرَّحْمَن بن الحكم هِيَ بنت أخي مَرْوَان الَّذِي كَانَ أَمِير الْمَدِينَة أَيْضا لمعاوية حينئذٍ، وَولي الْخلَافَة بعد ذَلِك، وَاسْمهَا: عمْرَة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك.
قَوْله: (أَنه) أَي: أَن يحيى بن سعيد (سمعهما) أَي: سمع الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد وَسليمَان بن يسَار. قَوْله: (فانتقلها) أَي: نقلهَا عبد الرَّحْمَن بن الحكم أَبوهَا من مَسْكَنهَا الَّذِي طلقت فِيهِ. قَوْله: (فَأرْسلت عَائِشَة) فِيهِ حذف أَي: سَمِعت عَائِشَة بِنَقْل عبد الرَّحْمَن بن الحكم بنته من مَسْكَنهَا الَّذِي طَلقهَا فِيهِ يحيى بن سعيد فَأرْسلت إِلَى مَرْوَان بن الحكم، وَهُوَ يومئذٍ أَمِير بِالْمَدِينَةِ، تَقول لَهُ عَائِشَة: (اتقِ الله وارددها) أَي: الْمُطلقَة الْمَذْكُورَة، يَعْنِي: احكم عَلَيْهَا بِالرُّجُوعِ(20/309)
إِلَى بَيتهَا يَعْنِي إِلَى مَسْكَنهَا الَّذِي طلقت فِيهِ. فَأجَاب مَرْوَان لعَائِشَة، فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار، إِن عبد الرَّحْمَن بن الحكم غلبني، يَعْنِي: لم أقدر على مَنعه عَن نقلهَا.
وَقَالَ الْقَاسِم فِي رِوَايَته: إِن مَرْوَان قَالَ لعَائِشَة: أَو مَا بلغك الْخطاب لعَائِشَة شَأْن فَاطِمَة؟ يَعْنِي: قصَّة فَاطِمَة بنت قيس؟ وَهِي أَنَّهَا لم تَعْتَد فِي بَيت زَوجهَا بل انْتَقَلت إِلَى غَيره. قَوْله: (قَالَت: لَا يَضرك) أَي: قَالَت عَائِشَة لمروان: لَا يَضرك أَن لَا تذكر حَدِيث فَاطِمَة أَرَادَت: لَا تحتج فِي تَركك نقلهَا إِلَى بَيت زَوجهَا بِحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس، لِأَن انتقالها من بَيت زَوجهَا كَانَ لعِلَّة وَهِي أَن مَكَانهَا كَانَ وحشاً مخوفا عَلَيْهِ، وَقيل: فِيهِ عِلّة أُخْرَى وَهِي أَنَّهَا كَانَت لَسِنَةً استطالت على أحمائها. قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان) أَي: فِي جَوَاب عَائِشَة مُخَاطبا لَهَا: إِن كَانَ بك شرّ فِي فَاطِمَة أَو فِي مَكَانهَا عِلّة لِقَوْلِك لجَوَاز انتقالها، فحسبك. أَي فكفاك فِي جَوَاز انْتِقَال هَذِه الْمُطلقَة أَيْضا مَا بَين هذَيْن أَي: الزَّوْجَيْنِ من الشَّرّ لَو سكنت دَار زَوجهَا، وَقيل: الْخطاب لبِنْت أخي مَرْوَان الْمُطلقَة أَي: لَو كَانَ شَرّ مُلْصقًا بك فحسبك من الشَّرّ مَا بَين هذَيْن الْأَمريْنِ من الطَّلَاق والانتقال إِلَى بَيت الْأَب. وَقَالَ ابْن بطال: قَول مَرْوَان لعَائِشَة: (إِن كَانَ بك شَرّ فحسبك) يدل أَن فَاطِمَة إِنَّمَا أمرت بالتحويل إِلَى الْموضع الآخر لشر كَانَ بَينهَا وَبينهمْ. قلت: حَاصِل الْكَلَام من هَذَا كُله أَن عَائِشَة لم تعْمل بِحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس وَكَانَت تنكر ذَلِك، وَكَذَلِكَ عمر كَانَ يُنكر ذَلِك، وَكَذَا أُسَامَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَآخَرُونَ، عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أنكر ذَلِك بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ مُنكر، فَدلَّ تَركهم الْإِنْكَار فِي ذَلِك عَلَيْهِ أَن مَذْهَبهم فِيهِ كمذهبه.
3235 -، 4235 حدّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ عبْدِ الرَّحْمنِ بنِ القاسِمِ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنّها قالَتْ: مَا لِفاطِمَةَ؟ ألاَ تَتَّقِي الله؟ يَعْنِي فِي قَوْلِها: لَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَة.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة: وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون مُحَمَّد بن جَعْفَر وَقد تكَرر ذكره.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر.
قَوْله: (حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار) قَالَ الْحَافِظ الْمزي: أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث عَن مُحَمَّد وَلم ينْسبهُ وَهُوَ مُحَمَّد بن بشار، وَكَذَا نسبه أَبُو مَسْعُود. قَوْله: (مَا لفاطمة؟) أَي: مَا شَأْنهَا وَمَا جرى عَلَيْهَا (أَلا تتقى الله) يَعْنِي: أَلا تخَاف الله فِي قَوْلهَا: الْمُطلقَة الْبَتَّةَ لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سكن على زَوجهَا، وَالْحَال أَنَّهَا تعرف قصَّتهَا يَقِينا فِي أَنَّهَا إِنَّمَا أمرت بالانتقال لعذر وَعلة كَانَت بهَا، وَقَالَ الْمُهلب: إِنْكَار عَائِشَة على فَاطِمَة فتياها بِمَا أَبَاحَ لَهَا الشَّارِع من الِانْتِقَال وَتَركه السُّكْنَى، وَلم يخبر بِالْعِلَّةِ.
5235 -، 6235 حدّثنا عَمْرُو بنُ عبَّاسٍ حَدثنَا ابنُ مَهْدِي حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عبْدِ الرَّحمانِ بنِ القاسمِ عنْ أبِيه قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ لِعائِشَةَ: أَلَمْ تَرَيْنَ إِلَى فُلاَنَةَ بِنْتِ الحَكَمِ طلَّقَها زَوْجُها البَتَّةَ فَخَرَجَتْ؟ فقالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ. قَالَ: أَلَمْ تَسْمِعِي فِي قَوْلِ فاطِمَةَ؟ قالَتْ: أما إنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هاذَا الحَدِيثِ.
وزَاد بنُ أبي الزِّنادِ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ: عابتْ عائِشَةُ أشَدَّ الْعَيْبِ، وقالَتْ: إنَّ فاطِمَة كانَتْ فِي مَكانٍ وحْشٍ فَخِيفَ علَى ناحِيتَها، فَلِذَلِكَ أرْخَصَ لَهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخرجه عَن عَمْرو بن عَبَّاس أبي عُثْمَان الْبَصْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ.
قَوْله: (عَن أَبِيه) هُوَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة بن الزبير) وَفِي بعض النّسخ: قَالَ عُرْوَة، بِدُونِ ذكر أَبِيه. قَوْله: (ألم تَرين) ويروى على الأَصْل: ألم ترى. قَوْله: (إِلَى فُلَانَة بنت الحكم) نَسَبهَا إِلَى جدها. وَهِي بنت عبد الرَّحْمَن بن الحكم كَمَا ذكر فِي الطَّرِيق الأول. قَوْله: (أَلْبَتَّة) همزتها للْقطع لَا للوصل وَالْمَقْصُود أَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ وَلم يكن طَلقهَا رَجْعِيًا. قَوْله: (فَخرجت) أَي: من مسكن الْفِرَاق. قَوْله: (بئس مَا صنعت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بئس صنع أَي: زَوجهَا فِي تمكينها من ذَلِك، أَو بئس مَا صنع أَبوهَا فِي موافقها. قَوْله: (قَالَ: ألم تسمعي) يحْتَمل أَن يكون فَاعل(20/310)
قَالَ هُوَ عُرْوَة، كَذَا قَالَ بَعضهم. قلت: فَاعل قَالَ هُوَ عُرْوَة بِلَا احْتِمَال، فَلْيتَأَمَّل. قَوْله: (إِمَّا أَنه) بِفَتْح همزَة أما وَتَخْفِيف ميمها، وَهِي حرف استفتاح بِمَنْزِلَة أَلا وَكلمَة: أَن، بعْدهَا تكسر بِخِلَاف، إِمَّا، الَّتِي بِمَعْنى: حَقًا فَإِنَّهَا تفتح بعْدهَا، وَالضَّمِير فِي: أَنه، للشأن. قَوْله: (لَيْسَ لَهَا خير فِي ذكر هَذَا الحَدِيث) لِأَن الشَّخْص لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يذكر شَيْئا عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَة.
قَوْله: (وَزَاد ابْن أبي الزِّنَاد) ، أَي: زَاد عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد بالنُّون واسْمه عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْمدنِي فِيهِ مقَال، فَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا يحْتَج بحَديثه، وَقَالَ ابْن عدي: بعض رواياته لَا يُتَابع عَلَيْهَا، وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: ثِقَة صَدُوق وَفِي بعض حَدِيثه ضعف، وَعَن يحيى بن معِين: أثبت النَّاس فِي هِشَام بن عُرْوَة، اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) وروى لَهُ فِي غَيره، وروى لَهُ مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه، وروى لَهُ الْأَرْبَعَة، وَوصل هَذِه الزِّيَادَة الْمُعَلقَة أَبُو دَاوُد عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد: أَنبأَنَا ابْن وهب أَخْبرنِي عبد الحمن بن أبي الزِّنَاد. . فَذكره. قَوْله: (عابت عَائِشَة) ، يَعْنِي: على فَاطِمَة بنت قيس، وَقَالَت يَعْنِي: عَائِشَة. قَوْله: (وَحش) بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة أَي: مَكَان خَال لَا أنيس بِهِ. قَوْله: (فَلذَلِك) أَي: فلأجل كَونهَا فِي مَكَان وَحش أرخص لَهَا بالانتقال وَقد احْتَرَقَ ابْن حزم هُنَا، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل لِأَنَّهُ من رِوَايَة ابْن أبي الزِّنَاد وَهُوَ ضَعِيف جدا، ورد بِمَا ذكرنَا، وَلَا سِيمَا قَول يحيى بن معِين: هُوَ أثبت النَّاس فِي هِشَام بن عُرْوَة.
وَالْحَاصِل من هَذِه الْأَحَادِيث بَيَان رد عَائِشَة حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس على الْوَجْه الَّذِي ذكرته من غير بَيَان الْعلَّة فِيهِ، وَأَن الْمُطلقَة المبانة لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَحَدِيث فَاطِمَة رده عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي صدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت؟ إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: للمطلقة الثَّلَاث النَّفَقَة وَالسُّكْنَى مَا دَامَت فِي الْعدة، ورده أَيْضا زيد بن ثَابت وَأُسَامَة بن زيد وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم، وَقَالَ بَعضهم: ادّعى. بعض الْحَنَفِيَّة أَن فِي بعض طرق حَدِيث عمر: للمطلقة ثَلَاثًا السُّكْنَى وَالنَّفقَة، ورده ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَنَّهُ من قَول بعض المجازفين فَلَا تحل رِوَايَته، وَقد أنكر أَحْمد ثُبُوت ذَلِك عَن عمر أصلا وَلَعَلَّه أَرَادَ مَا ورد من طَرِيق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لكَونه لم يلقه. انْتهى. قلت: مَا المجازف إلاَّ من ينْسب المجازفة إِلَى الْعلمَاء من غير بَيَان، فَإِن كَانَ مُسْتَنده إِنْكَار أَحْمد ثُبُوت ذَلِك عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَا يفِيدهُ ذَلِك لِأَن الَّذين قَالُوا بذلك يَقُولُونَ بِثُبُوت ذَلِك عَن عمر، فالمثبت أولى من النَّافِي لِأَن مَعَه زِيَادَة علم. وَقد قَالَ الطَّحَاوِيّ، الَّذِي هُوَ إِمَام جهبذ فِي هَذَا الْفَنّ: لما جَاءَت فَاطِمَة بنت قيس فروت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهَا: إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفقَة لمن كَانَت عَلَيْهَا الرّجْعَة، خَالَفت بذلك كتاب الله تَعَالَى نصا، لِأَن كتاب الله تَعَالَى قد جعل السُّكْنَى لمن لَا رَجْعَة عَلَيْهَا، وخالفت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ، وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف مَا رَوَت، فَخرج الْمَعْنى الَّذِي مِنْهُ أنكر عَلَيْهَا عمر مَا أنكر خُرُوجًا صَحِيحا، وَبَطل حَدِيث فَاطِمَة فَلم يجب الْعَمَل بِهِ أصلا انْتهى. وَأَرَادَ بقوله: قد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف مَا رَوَت. قَوْله: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول لَهَا: السُّكْنَى وَالنَّفقَة، أَي للمبتوتة، وَكَذَا روى جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفقَة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حَرْب بن أبي الْعَالِيَة عَن أبي الزبير عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكره. فَإِن قلت: قَالَ عبد الْحق فِي (أَحْكَامه) : وَحرب بن أبي الْعَالِيَة لَا يحْتَج بِهِ، ضعفه يحيى بن معِين فِي رِوَايَة الداروردي عَنهُ، وَضَعفه فِي رِوَايَة ابْن أبي خَيْثَمَة، وَالْأَشْبَه وَقفه على جَابر. انْتهى. قلت: حَدِيث حَرْب بن أبي الْعَالِيَة فِي (صَحِيح مُسلم) وَأخرج لَهُ أَيْضا الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَيَكْفِي توفيق مُسلم إِيَّاه، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث الشّعبِيّ عَن فَاطِمَة أَنَّهَا أخْبرت عمر بن الْخطاب بِأَن زَوجهَا طَلقهَا ثَلَاثًا، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَا نَفَقَة لَك وَلَا سُكْنى، فَأخْبرت بذلك النَّخعِيّ فَقَالَ: أخبر عمر ذَلِك فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفقَة. فَإِن قلت: لم يدْرك إِبْرَاهِيم عمر لِأَنَّهُ ولد بعده بِسنتَيْنِ. قلت: لَا يضر ذَلِك لِأَن مُرْسل إِبْرَاهِيم يحْتَج بِهِ، وَلَا سِيمَا على أصلنَا، فَافْهَم.
24 - (بابُ المُطَلَّقَة إذَا خُشِيَ عَلَيْها فِي مَسْكَنِ زوْجِها أنْ يُقْتَحَمَ عَليْها أوْ تبذُوَ على أهْلِها بِفاحشِةٍ)(20/311)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَرْأَة الْمُطلقَة إِذا خشِي عَلَيْهَا فِي مسكن زَوجهَا فِي أَيَّام عدتهَا أَن يقتحم عَلَيْهَا زَوجهَا من الاقتحام وَهُوَ الهجوم على الشَّخْص من غير إِذن. قَوْله: (أَو تبذو) من الْبذاء بِالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة. وَهُوَ القَوْل الْفَاحِش. وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: الخشية من اقتحام زَوجهَا. وَالْآخر: بذاءة اللِّسَان، وَلم يذكر مَا يُطَابق الثَّانِي وَكَأَنَّهُ قَاس الثَّانِي على الأول، وَالْجَامِع بَينهمَا رِعَايَة الْمصلحَة وَشدَّة الْحَاجة إِلَى الِاحْتِرَاز عَنهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا جَاءَ عَن عَائِشَة: أخرجك هَذَا اللِّسَان، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا على عَادَته إِمَّا أَن يقدر نَحْو: تنْتَقل أَوَّلهمْ نقلهَا إِلَى مسكن غير مسكن زَوجهَا، وَإِمَّا أَن يَكْتَفِي بِمَا يبين فِي الحَدِيث وَفِي رِوَايَة الْكشميهني على أَهله.
7235 -، 8235 حدّثني حبَّانُ أخْبرنا عبْدُ الله أخبْرنا ابنُ جُرَيْجٍ عَن ابْن شهَاب عنْ عُرْوَة: أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، أنْكَرَتْ ذالِكَ على فاطِمَة.
أخرج هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا عَن حبَان بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وتشديدالباء الْمُوَحدَة ابْن مُوسَى الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة أنْكرت ذَلِك أَي: قَوْلهَا فِي سُكْنى الْمُعْتَدَّة. فَالْبُخَارِي أورد هَذَا من طَرِيق ابْن جريج عَن ابْن شهَاب مُخْتَصرا، أَو أوردهُ مُسلم من طَرِيق صَالح بن كيسَان عَن ابْن شهَاب أَن أَبَا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخبرهُ أَن فَاطِمَة بنت قيس أخْبرته أَنَّهَا كَانَت تَحت أبي عَمْرو بن حَفْص بن الْمُغيرَة، فَطلقهَا آخر ثَلَاث تَطْلِيقَات، فَزَعَمت أَنَّهَا جَاءَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تستفتيه فِي خُرُوجهَا من بَيتهَا فَأمرهَا أَن تنْتَقل إِلَى ابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، فَأبى مَرْوَان أَن يصدق فِي خُرُوج الْمُطلقَة من بَيتهَا، وَقَالَ عُرْوَة: إِن عَائِشَة أنْكرت على فَاطِمَة بنت قيس.
وحدثنيه مُحَمَّد بن رَافع قَالَ: حَدثنَا حجين قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب بِهَذَا الْإِسْنَاد مثله مَعَ قَول عُرْوَة: إِن عَائِشَة أنْكرت ذَلِك على فَاطِمَة.
34 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { (2) وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} (الْبَقَرَة: 822) منَ الحَيْضِ والحَمْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحل لَهُنَّ} أَي: للنِّسَاء {أَن يكتمن} أَي: يخفين {مَا خلق الله فِي أرحامهن} من الْحيض وَالْحمل. كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. قَوْله: (من الْحيض وَالْحمل) وَهُوَ تَفْسِير لما قبله، وَلَيْسَ من الْآيَة، وَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَالْحكم بن عتيبة وَالربيع بن أنس وَالضَّحَّاك وَغير وَاحِد. قَوْله: (وَالْحمل) بِالْمِيم، ويروى بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَا خلق الله فِي أرحامهن من الْوَلَد أَو من أَو من دم الْحيض، وَذَلِكَ إِذا أَرَادَت الْمَرْأَة فِرَاق زَوجهَا فكتمت حملهَا لِئَلَّا تنْتَظر لطلاقها أَن تضع، وَلِئَلَّا تشفق على الْوَلَد فَيتْرك، أَو كتمت حَيْضهَا. فَقَالَت وَهِي حَائِض قد طهرت، استعجالاً للطَّلَاق. انْتهى. وَفصل أَبُو ذَر بَين قَوْله: {فِي أرحامهن} وَبَين قَوْله: من الْحيض وَالْحمل، بدائرة إِشَارَة إِلَى أَنه أُرِيد بِهِ التَّفْسِير لَا أَنَّهَا قِرَاءَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لَفْظَة: من فِي قَوْله: من الْحيض، وَالْمَقْصُود من الْآيَة أَن أَمر الْعدة لما دَار على الْحيض وَالطُّهْر والإطلاع على ذَلِك يَقع من جِهَة النِّسَاء غَالِبا، جعلت الْمَرْأَة مؤتمنة على ذَلِك. وَقَالَ أبي بن كَعْب: إِن من الْأَمَانَة أَن الْمَرْأَة ائتمنت على فرجهَا، وَقَالَ إِسْمَاعِيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن الْمَرْأَة الْمُعْتَدَّة مؤتمنة على رَحمهَا من الْحيض وَالْحمل، فَإِن قَالَت: قد حِضْت كَانَت مصدقة، وَإِن قَالَت: قد ولدت كَانَ مصدقة، إلاَّ أَن تَأتي من ذَلِك مَا يعرف من كذبهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كل مؤتمن فَالْقَوْل قَوْله.
9235 - حدّثنا سليْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ إبرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: لمَّا أَرَادَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَنْفِرَ إذَا صَفِيّةُ على بابِ خِبائِها كَئِيبَةً. فَقَالَ لَهَا: عَقْرَى أوْ حَلْقى، إنّكِ لحَابِسَتُنَا، أَكُنْتِ أفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فانْفِرِي إِذا.
ابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ شَاهدا لتصديق النِّسَاء فِيمَا يدعينه من الْحيض، أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمْتَحن صَفِيَّة فِي قَوْلهَا وَلَا أكذبها.
وَالْحكم هُوَ ابْن عتيبة، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَالْأسود هُوَ ابْن يزِيد.
والْحَدِيث قد مر فِي الْحَج فِي بَاب التَّمَتُّع.(20/312)
قَوْله: (أَن ينفر) أَي: من الْحَج وللحج نفر إِن النَّفر الأول هُوَ الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق، والنفر الثَّانِي هُوَ الْيَوْم الثَّالِث. قَوْله: (إِذا) للمفاجأة، وَصفِيَّة هِيَ بنت حييّ أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (كئيبة) أَي: حزينة. قَوْله: (عقرى) مَعْنَاهُ: عقر الله جَسدهَا وأصابها وجع فِي حلقها، وَقيل: هُوَ مصدر كدعوى، وَقيل: مصدر بِالتَّنْوِينِ وَالْألف فِي الْكِتَابَة، وَقيل: هُوَ جمع عقير، وَقَالَ الْأَصْمَعِي وَأَبُو عَمْرو يُقَال ذَلِك للْمَرْأَة إِذا كَانَت مسوفة مؤذية، وَقيل: الْعَرَب تَقول ذَلِك لمن دهمه أَمر وَهُوَ بِمَعْنى الدُّعَاء لكنه جرى على لسانهم من غير قصد إِلَيْهِ. قَوْله: (أَو حلقي) شكّ من الرَّاوِي، وروى بِالتَّنْوِينِ فِي: عقري وحلقي، بجعلهما مصدرين، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة، وَأهل الحَدِيث على ترك التَّنْوِين. قَوْله: (لحابستنا) أسْند الْحَبْس إِلَيْهَا لِأَنَّهَا كَانَت سببت توقفهم إِلَى وَقت طَهَارَتهَا عَن الْحيض. قَوْله: (أَكنت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (أفضت) . أَي: طفت طواف الزِّيَارَة. قَوْله: (أنفري) أَي: إذهبي لِأَن طواف الْوَدَاع سَاقِط عَن الْحَائِض.
44 - (بابٌ { (2) وبعولتهن أَحَق بردهن} (الْبَقَرَة: 822) فِي العِدَّةِ وكَيْفَ يُراجِعُ المْرأةَ إذَا طَلّقها واحدِةً أوْ ثِنْتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن أَحَق بردهن} والبعولة جمع بعل وَهُوَ الزَّوْج، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: زَوجهَا الَّذِي طَلقهَا أَحَق بردهَا مَا دَامَت فِي عدتهَا، وَهُوَ معنى قَوْله: فِي الْعدة، وَقيد بذلك لِأَن عدتهَا إِذا انْقَضتْ لَا يتبقى محلا للرجعة فَيحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى الاسْتِئْذَان وَالْإِشْهَاد وَالْعقد الْجَدِيد بِشُرُوطِهِ. قَوْله: (فِي الْعدة) لَيْسَ من الْآيَة، وَلذَلِك فصل أَبُو ذَر بَين قَوْله: (بردهن) وَبَين قَوْله: (فِي الْعدة) بدائرة إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ من الْآيَة، وَإِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد بأحقية الرّجْعَة من كَانَت فِي الْعدة، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَفِي بعض النّسخ: {وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك} أَي: فِي الْعدة، وَهَذَا وَاضح فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر شَيْء، وَفِي بعض النّسخ أَيْضا بعد قَوْله فِي الْعدة. {وَلَا تعضلوهن} وَلم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَاخْتلفُوا فِيمَا يكون بِهِ مراجعاً، فَقَالَت طَائِفَة: إِذا جَامعهَا فقد رَاجعهَا، رُوِيَ ذَلِك عَن سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء وطاووس وَالْأَوْزَاعِيّ، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة، وَقَالا أَيْضا: إِذا لمسها أَو نظر إِلَى فرجهَا بِشَهْوَة من غير قصد الرّجْعَة فَهِيَ رَجْعَة، وَيَنْبَغِي أَن يشْهد. وَقَالَ مَالك وَإِسْحَاق: إِذا وَطئهَا فِي الْعدة وَهُوَ يُرِيد الرّجْعَة وَجَهل أَن يشْهد فَهِيَ رَجْعَة، وَيَنْبَغِي للْمَرْأَة أَن تَمنعهُ الْوَطْء حَتَّى يشْهد. وَقَالَ ابْن أبي ليلى: إِذا رَاجع وَلم يشْهد صحت الرّجْعَة، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا أَيْضا، وَالْإِشْهَاد مُسْتَحبّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا تكون الرّجْعَة إلاَّ بالْكلَام، فَإِن جَامعهَا بنية الرّجْعَة فَلَا رَجْعَة وَلها عَلَيْهِ مهر الْمثل، وَاسْتشْكل لِأَنَّهَا فِي حكم الزَّوْجَات. وَقَالَ مَالك: إِذا طَلقهَا وَهِي حَائِض أَو نفسَاء أجبر على رَجعتهَا، وروى ابْن أبي شيبَة عَن جَابر بن زيد إِذا رَاجع فِي نَفسه فَلَيْسَ بِشَيْء قَوْله: (وَكَيف يُرَاجع) جُزْء آخر للتَّرْجَمَة، وَيُرَاجع على صِيغَة الْمَجْهُول، وَلم يذكر جَوَاب الْمَسْأَلَة إِمَّا بِنَاء على عَادَته اعْتِمَادًا على معرفَة النَّاظر بذلك، وَإِمَّا اكْتِفَاء بِمَا يعلم من أَحَادِيث الْبَاب.
0335 - حدّثني مُحَمَّدٌ أخبرنَا عبْدُ الوَهَّابِ حدَّثنا يُونُسُ عنِ الحَسَنِ قَالَ: زوَّجَ مَعْقِلٌ اخْتَهُ فَطَلّقها تَطْلِيقَةً.
1335 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا عبْدُ الأعْلَى حَدثنَا سَعِيدٌ عنْ قَتادَةَ حَدثنَا الحَسَنُ أنَّ مَعْقِلَ بنَ يَسارٍ كانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رجُلٍ فَطَلّقَها، ثُمَّ خَلَى عنْها حتَّى انْقَضَتْ عدَّتُها ثُمَّ خَطَبَها، فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنْ ذالِكَ أنفًا، فَقَالَ: خَلّى عَنْها وهْوَ يَقْدِرُ عَلَيْها ثُمَّ يَخْطُبُها؟ فَحال بَيْنَهُ وبَيْنَهَا، فأنْزَلَ الله تَعَالَى { (2) وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن} (الْبَقَرَة: 232)
إِلَى آخِرِ الآيَة، فَدَعاهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأ عَلَيْهِ فَتَرَكَ الحَمِيّةَ واسْتَقادَ لأِمْرِ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ خلَّى عَنْهَا) قَالَه الْكرْمَانِي. وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد فَذكره بِغَيْر نِسْبَة، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْجَمِيع، قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: هُوَ ابْن سَلام، وَقَالَ غَيره بِالْجَزْمِ: إِنَّه ابْن سَلام عَن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد عَن يُونُس بن عبيد الْبَصْرِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة(20/313)
عَن قَتَادَة عَن الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف: ابْن يسَار ضد الْيَمين.
والْحَدِيث مر فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْبَقَرَة فِي بَاب {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الْبَقَرَة: 132 و 232) الْآيَة، وَفِي النِّكَاح فِي: بَاب من قَالَ: (لَا نِكَاح إلاَّ بولِي) ، وَمر الْكَلَام فِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْله: (فحمي) ، بِكَسْر الْمِيم من قَوْلهم: حميت عَن كَذَا حمية بِالتَّشْدِيدِ إِذا أنفت مِنْهُ وداخلك عَار. قَوْله: (أنفًا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَالنُّون وبالفاء أَي: اترك الْفِعْل غيظاً وترفعاً. قَوْله: (وَهُوَ يقدر عَلَيْهَا) بِأَن يُرَاجِعهَا قبل انْقِضَاء الْعدة. قَوْله: (فَترك الحمية) . بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (واستقاد) ، بِالْقَافِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أَي أعْطى مقادته يَعْنِي طاوع وامتثل لأمر الله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: واستراد بالراء بدل الْقَاف من الرود وَهُوَ الطّلب أَي: طلب الزَّوْج الأول ليزوجها لأجل حكم الله بذلك، أَو أَرَادَ رُجُوعهَا إِلَى الزَّوْج الأول، وَرَضي بِهِ لحكم الله بِهِ، وَكَذَا وَقع فِي أصل الدمياطي بالراء وَفَسرهُ بقوله: لِأَن وَرجع وانقاد ... ذكره ابْن التِّين بِلَفْظ: استعاد، وَقَالَ كَذَا وَقع عِنْد الشَّيْخ أبي الْحسن، بتَشْديد الدَّال وبالألف، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن ألف المفاعلة لَا تَجْتَمِع مَعَ سين الاستفعال، ثمَّ قَالَ: وَعند أبي ذَر: واستقاد لأمر الله، أَي: أذعن وأطاع، وَهَذَا ظَاهر.
2335 - حدّثنا قُتَيْبةُ حَدثنَا اللّيْثُ عنْ نافعِ أنَّ ابنَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، رَضِي الله عَنْهُمَا، طَلّقَ امْرَأةً لهُ وهْيَ حائِضٌ تَطْلِيقَةً واحِدةً، فأمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنْ يُرَاجِعَها ثُمَّ يُمْسِكَها حتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةُ أُخْرَى ثُمَّ يُمْهِلَها حتّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِها، فإنْ أرَادَ أنْ يُطَلِّقها فَلْيُطَلِّقْها حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أنْ يُجامِعَها. فَتِلْكَ العِدَّةُ الّتِي أمَرَ الله أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّساءُ. وكانَ عبْدُ الله إذَا سُئِلَ عنْ ذالِكَ قَالَ لأَحَدِهِمْ: إنْ كُنْتَ طَلَّقْتَها ثلاَثاً فقدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غيْرَكَ.
وزَاد فِيهِ غَيْرُهُ عنِ اللَّيْثِ: حدّثني نافِعٌ، قَالَ ابنُ عُمَرَ: لوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَو مَرَّتَيْنِ فإنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرنِي بِهاذَا.
ابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مضى فِي أول كتاب الطَّلَاق، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (غَيره) أَي: غير قُتَيْبَة شيخ البُخَارِيّ. قَوْله: (لَو طلقت مرّة) جَزَاؤُهُ مَحْذُوف أَي: لَكَانَ خيرا.(20/314)
45 - (بَابُ: {مُرَاجَعَةِ الحَائِضِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مُرَاجعَة الْحَائِض الَّتِي طلقت.
5333 - حدَّثنا حَجَّاجٌ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ حدَّثني يُونُسُ بنُ جُبَيْرٍ سَأَلْتُ ابنَ عُمَرَ فَقَالَ: طَلَّقَ ابنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسألَ عُمَرُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمَرَهُ أنْ يُرَاجِعَها ثُمَّ يُطَلِّقَ مِنْ قُبُلِ عِدَّتِها. قُلْتُ: فَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: أرَأيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وحجاج على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ هُوَ ابْن منهال بِكَسْر الْمِيم، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن إِبْرَاهِيم التسترِي.
والْحَدِيث مر فِي أَوَائِل الطَّلَاق عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن ابْن سِيرِين، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (سَأَلت ابْن عمر) عَمَّن يُطلق امْرَأَته وَهِي حَائِض. فَقَالَ فِي جَوَابه (طلق ابْن عمر) معبرا بِلَفْظ الْغَيْبَة عَن نَفسه. قَوْله: (فَسَأَلَ عمر) فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَسَأَلت أبي عمر عَن ذَلِك، فَسَأَلَ عمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: (من قبل) بِضَم الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة، أَي: وَقت اسْتِقْبَال الْعدة والشروع فِيهَا أَن يطلقهَا فِي الطُّهْر. قَوْله: (قلت) الْقَائِل هُوَ يُونُس بن جُبَير. قَوْله: (فَتعْتَد) على صِيغَة الْمَجْهُول الِاسْتِفْهَام مُقَدّر أَي: تعْتَبر تِلْكَ التطليقة وتحتسبها وتحكم بِوُقُوع طَلْقَة قَوْله: (قَالَ) أَي: ابْن عمر فِي الْجَواب معبرا عَن نَفسه بِلَفْظ الْغَيْبَة أَيْضا (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي أَن ابْن عمر (إِن عجز واستحمق) فَمَا يمنعهُ أَن يكون طَلَاقا يَعْنِي: نعم تحتسب وَلَا يمْنَع احتسابها عَجزه وحماقته، وَقد مر تَحْقِيقه فِي أول الطَّلَاق.
وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ دلَالَة على أَن الْأَقْرَاء الْأَطْهَار. وَفِيه: حجَّة على أبي حنيفَة فِي قَوْله الْأَقْرَاء الْحيض قلت: سُبْحَانَ الله فَمَا معنى تَخْصِيص أبي حنيفَة فِي ذَلِك وَهُوَ لم ينْفَرد بِهَذَا القَوْل؟ وَلَكِن أريحة التعصب الْبَاطِل تحملهم على ذَلِك على مَا لَا يخفى.
46 - (بَابٌ: {تُحِدُّ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُها أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ تُحدُّ إِلَى آخِره. قَالَ بَعضهم: تحدَّ بِضَم أَوله وَكسر ثَانِيه من الرباعي. قلت: هَذَا لَيْسَ باصطلاح أهل الصّرْف بل يُقَال: هَذَا من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ من أحد، على وزن أفعل يحد إحدادا. وَقَالَ ثَعْلَب: يُقَال حدت الْمَرْأَة على زَوجهَا تحد وتحد حدادا إِذا تركت الزِّينَة فَهِيَ حاد، وَيُقَال أَيْضا: أحدت فَهِيَ مَحْدُود، وَقَالَ الْفراء: إِنَّمَا كَانَت بِغَيْر هَاء لِأَنَّهَا لَا تكون للذّكر، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: الْمَعْنى أَنَّهَا منعت الزِّينَة نَفسهَا وَالطّيب بدنهَا ومنعت بذلك الخطّاب خطبتها والطمع فِيهَا، كَمَا منع حد السكين(21/2)
وحد الدَّار مَا منعهَا. وَفِي (نَوَادِر اللحياني) بِأحد جَاءَ الحَدِيث لَا يحد، قَالَ: وَحكى الْكسَائي عَن عقيل: حدت، بِغَيْر ألف، وَفِي (شرح الدَّمِيرِيّ) روى: بِالْحَاء وبالجيم وَبِالْحَاءِ أشهر وبالجيم مَأْخُوذ من جددت الشَّيْء إِذا قطعته، فَكَأَن الْمَرْأَة انْقَطَعت عَن الزِّينَة وَمَا كَانَت عَلَيْهِ أَولا قبل ذَلِك، وَفِي (تَقْوِيم المسد) لأبي حَاتِم أبي الْأَصْمَعِي: حدت وَلم يعرف إلاَّ أحدت.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَرَى أنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ المُتَوَفَّى عَنْهَا الطَّيِبَ لأنَّ عَلَيْها العِدَّةَ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. قَوْله: (الصبية) ، بِالرَّفْع على الفاعلية، (وَالطّيب) بِالنّصب على المفعولية، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِالْعَكْسِ وَهُوَ ظَاهر، وَإِنَّمَا ذكر الصبية لِأَن فِيهِ خلافًا، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: لَا حداد عَلَيْهَا. وَقَالَ مَالك: وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر: عَلَيْهَا الْحداد. قَوْله: (لِأَن عَلَيْهَا الْعدة) ، أَي: على الصبية، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّهَا كالبالغة فِي وجوب الْعدة.
ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنَا مِالِكٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرو بنِ حَزْمِ عَنْ حُمَيْدِ بنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أبِي سَلَمَةَ أنَّها أخْبَرَتْهُ هاذِهِ الأحادِيثَ الثَلاثة.
5334 - قَ الَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَ تُوُفِيَ أبُوها أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطيِبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْها، ثُمَّ قَالَتْ: وَالله مَالِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لامْرَأَة تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثلاثِ لَيَال، إلاّ عَلَى زَوْجِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
5335 - قَ الَتْ زَيْنَبُ فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: أمَا وَالله مَالِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: لَا يَحِلّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
5336 - قَ الَتْ زَيْنَبُ وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأةٌ إلَى رَسُولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِن ابْنَتِي تُوُفِّي عَنْها زَوْجُها، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَها أفَتَكْحُلُها؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا، مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثا، كلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّما هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرا، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بَالبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ.
5337 - قَ الَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ المَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْها زَوْجُها دَخَلَتْ حِفْشا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِها وَلَمْ تَمسَّ طيبا حَتَّى تَمُرَّ بِها سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتِى بِدَابَّةٍ: حِمارٍ أوْ شَاةٍ أوْ طَائِر، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيءٍ إلاَّ مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطِى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِها ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيب أوْ غَيْرِهِ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحْمَةُ الله: مَا تَفْتَضُّ بِهِ؟ قَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَحميد بن نَافِع أَبُو أَفْلح الْأنْصَارِيّ، وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة بن عبد الْأسد، وَهِي بنت أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي ربيبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزعم ابْن التِّين أَنَّهَا لَا رِوَايَة لَهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أخرج لَهَا مُسلم حَدِيثهَا: كَانَ اسْمِي برة فسماني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب، وَأخرج لَهَا البُخَارِيّ حَدِيثا تقدم فِي أَوَائِل السِّيرَة النَّبَوِيَّة. وَقَالَ أَبُو عمر: ولدتها أمهَا بِأَرْض الْحَبَشَة وقدمت بهَا وحفظت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت عِنْد عبد الله بن زَمعَة بن الْأسود فَولدت لَهُ وَكَانَت من أفقه نسَاء(21/3)
زمانها.
والْحَدِيث الأول: من الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة وَهُوَ عَن أم حَبِيبَة. والْحَدِيث الثَّانِي: وَهُوَ عَن زَيْنَب بنت جحش. قد مضيا فِي الْجَنَائِز فِي بَاب إحداد الْمَرْأَة على غير زَوجهَا. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك إِلَى آخِره. وَأخرج. الحَدِيث الثَّالِث: وَهُوَ عَن أم سَلمَة فِي الطِّبّ عَن مُسَدّد عَن يحيى، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعني عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ عَن مَالك بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّلَاق عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
قَوْله: (قَالَت زَيْنَب: سَمِعت أم سَلمَة) هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَوَقع فِي (الْمُوَطَّأ) : سَمِعت أُمِّي أم سَلمَة، وَزَاد عبد الرَّزَّاق عَن مَالك: بنت أبي أُميَّة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة) زَاد النَّسَائِيّ من طَرِيق اللَّيْث عَن حميد بن نَافِع: جَاءَت امْرَأَة من قُرَيْش، وسماها ابْن وهب فِي موطئِهِ عَاتِكَة بنت نعيم بن عبد الله. قَوْله: (وَقد اشتكت عينهَا) قيل يجوز فِيهِ وَجْهَان ضم النُّون على الفاعلية على أَن تكون الْعين هِيَ المشتكية وَفتحهَا على أَن يكون فِي اشتكت ضمير الْفَاعِل وَهِي الْمَرْأَة، وروى: عَيناهَا، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (أفتكحلها) ؟ بِضَم الْحَاء. قَوْله: (لَا) أَي: لَا تكحلها، وَكَذَا فِي رِوَايَة شُعْبَة عَن حميد بن نَافِع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: هَذَا النَّهْي لَيْسَ على وَجه التَّحْرِيم، وَلَئِن سلمنَا أَنه للتَّحْرِيم فَإِذا كَانَت الضَّرُورَة فَإِن دين الله يسر يَعْنِي: الْحُرْمَة تثبت إلاّ عِنْد شدَّة الضَّرَر والضرورة، أَو مَعْنَاهُ: لَا تكتحل بِحَيْثُ يكون فِيهِ زِينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ: دَلِيل على تَحْرِيم الاكتحال على الحادة سَوَاء احْتَاجَت إِلَيْهِ أم لَا، ورد عَلَيْهِ الْمَنْع الْمُطلق. لِأَن الضَّرُورَة مُسْتَثْنَاة فِي الشَّرْع. وَفِي (الْمُوَطَّأ) اجعليه بِاللَّيْلِ وامسحيه بِالنَّهَارِ، وَوجه الْجمع بَينهمَا أَنَّهَا إِذا لم تحتج إِلَيْهِ لَا يحل، وَإِذا احْتَاجَت لم يجز بِالنَّهَارِ وَيجوز بِاللَّيْلِ. وَقيل: حَدِيث الْبَاب على من لم تتحق الْخَوْف على عينهَا ورد بِأَن فِي حَدِيث شُعْبَة: فحشوا على عينهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه رمدت رمدا شَدِيدا وَقد خشيت على بصرها. قَوْله: (مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) أَي: قَالَ: لَا تكتحل مرَّتَيْنِ أَو قَالَ: لَا ثَلَاث مَرَّات. وَقيل: يجوز الإكتحال، وَلَو كَانَ فِيهِ طيب، وحملوا النَّهْي على التَّنْزِيه. وَقيل: النَّهْي مَحْمُول على كحل مَخْصُوص وَهُوَ مَا يتزين بِهِ. قَوْله: (إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا) كَذَا وَقع فِي الأَصْل. بِالنّصب على لفظ الْقُرْآن، وَيجوز بِالرَّفْع على الأَصْل، وَقيل: الْحِكْمَة فِيهِ أَن الْوَلَد يتكامل يخلقته وينفخ فِيهِ الرّوح بعد مُضِيّ مائَة وَعشْرين يَوْمًا. وَهِي زِيَادَة على أَرْبَعَة أشهر بِنُقْصَان الْأَهِلّة. فَيجْبر الْكسر إِلَى الْعدة على طَرِيق الِاحْتِيَاط، وَذكر الْعشْر مؤنثاً على إراد اللَّيَالِي وَالْمرَاد مَعَ أَيَّامهَا عِنْد الْجُمْهُور فَلَا تحل حَتَّى تدخل اللَّيْلَة الْحَادِي عشر، وَعند الْأَوْزَاعِيّ وَبَعض السّلف: تَنْقَضِي بِمَعْنى اللَّيَالِي الْعشْر بعد الْأَشْهر وَتحل فِي أول الْيَوْم الْعَاشِر.
قَوْله: (قَالَ حميد) هُوَ ابْن نَافِع رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم. قَوْله: (فَقلت لِزَيْنَب) هِيَ بنت أم سَلمَة. قَوْله: (وَمَا ترمي بالبعرة) أَي: بيني لي المُرَاد بِهَذَا الْكَلَام الَّذِي خوطبت بِهِ هَذِه الْمَرْأَة. قَوْله: (فَقَالَت زَيْنَب: كَانَت الْمَرْأَة) الخ هَكَذَا وَقع غير مُسْند. قَوْله: (حفشا) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وبالشين الْمُعْجَمَة فسره أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته من طَرِيق مَالك: بِالْبَيْتِ الصَّغِير، وَعند النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن الْقَاسِم عَن مَالك الخفش الخص، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالصاد الْمُهْملَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: الخفش الْبَيْت الذَّلِيل الشعث الْبناء، وَقيل: هُوَ شَيْء من خوص يشبه القفة تجمع فِيهِ الْمُعْتَدَّة متاعها من غزل وَنَحْوه، وَقيل: بَيت صَغِير حقير قريب السّمك. وَقيل: بَيت صَغِير ضيق لَا يكَاد يَتَّسِع للتقلب. وَقَالَ: أَبُو عبيد الحفش الدرج، وَجمعه أحفاش شبه بَيت الحادة فِي صغره بالدرج، وَقَالَ الْخطابِيّ: سمي حفشا لضيقه وانضمامه والتحفش الانضمام والاجتماع. قَوْله: (حَتَّى تمر بهَا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَهَا، بِاللَّامِ. قَوْله: (ثمَّ تؤتي بِدَابَّة) بِالتَّنْوِينِ قَوْله: (حمَار) بِالْجَرِّ والتنوين على الْبِدَايَة. قَوْله: (أَو شَاة أَو طَائِر) كلمة: أَو فِيهِ للتنويع وَإِطْلَاق الدَّابَّة على مَا ذكر بطرِيق اللُّغَة لَا بطرِيق الْعرف. قَوْله: (فتفتض بِهِ) بِالْفَاءِ ثمَّ التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ بضاد مُعْجمَة وَقَالَ الْخطابِيّ من فضضت الشَّيْء إِذا كَسرته أَو فرقته أَي: أَنَّهَا كَانَت تكسر مَا كَانَت فِيهِ من الْحداد بِتِلْكَ الدَّابَّة وَقَالَ الْأَخْفَش: مَعْنَاهُ تنظف بِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْفضة تَشْبِيها لَهُ بنقائها وبياضها. وَقَالَ القتبي: سَأَلت الْحِجَازِيِّينَ عَنْهَا. فَقَالُوا: بِأَن الْمُعْتَدَّة كَانَت لَا تَغْتَسِل وَلَا تمس مَاء وَلَا تقلم ظفرا وَتخرج بعد الْحول بأقبح منظر ثمَّ تفتض أَي: تكسر مَا هِيَ فِيهِ من الْعدة بطائر تمسح بِهِ قبلهَا وتنبذه، فَلَا يكَاد يعِيش وَفَسرهُ مَالك بقوله: (تفتض بِهِ) تمسح بِهِ جلدهَا كالنشرة، كَمَا يَجِيء الْآن، وَقَالَ ابْن وهب: تمسح(21/4)
بِيَدِهَا عَلَيْهِ وعَلى ظَهره، وَقيل: مَعْنَاهُ تمسح بِهِ ثمَّ تفتض أَي: تَغْتَسِل بِالْمَاءِ العذب حَتَّى تصير بَيْضَاء نقية كالفضة، وَقَالَ الْخَلِيل: الفضض المَاء العذب يُقَال: افتضضت بِهِ أَي: اغْتَسَلت بِهِ. وَقيل: تفتض أَي تفارق مَا كَانَت عَلَيْهِ، وَذكر الْأَزْهَرِي أَن الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، رَوَاهُ: تقبص، بِالْقَافِ وبالياء الْمُوَحدَة وَالصَّاد الْمُهْملَة. وَهُوَ الْأَخْذ بأطراف الْأَصَابِع، وَقِرَاءَة الْحسن: فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول، وَالْمَعْرُوف الأول. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون الْبَاء فِي تفتض بِهِ للتعدية أَو زَائِدَة يَعْنِي: تفتض الطَّائِر بِأَن تكسر بعض أعضاءه، وَلَعَلَّ غرضهن مِنْهُ الْإِشْعَار بإهلاك مَا كن فِيهِ، وَمن الرَّمْي الِانْفِصَال مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ. قَوْله: (فتعطى) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بَعرَة) بِفَتْح النُّون وسكونها. قَوْله: (فترمى بهَا) أَي: بِتِلْكَ البعرة وَفِي رِوَايَة مطرف وَابْن الْمَاجشون عَن مَالك: ترمي ببعرة من بعر الْغنم أَو الْإِبِل فترمي بهَا أمامها فَيكون ذَلِك إحلالاً لَهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب: ترمي ببعرة من بعر الْغنم من وَرَاء ظهرهَا، ثمَّ قيل: المُرَاد برمي البعرة إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا رمت الْعدة رمي البعرة. وَقيل: إِشَارَة إِلَى أَن الْفِعْل الَّذِي فعلته من التَّرَبُّص وَالصَّبْر على الْبلَاء الَّذِي كَانَت فِيهِ لما انْقَضى، كَانَ عِنْدهَا بِمَنْزِلَة البعرة الَّتِي رمتها اسْتِخْفَافًا واستحقارا وتعظيما لحقِّ زَوجهَا وَقيل: بل ترميها على سَبِيل التفاؤل لعدم عودهَا إِلَى ذَلِك.
قَوْله: (سُئِلَ مَالك: مَا تفتض) أَي: مَا مَعْنَاهُ.
47 - (بَابُ: {الكُحْلِ لِلْحَادَّةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِعْمَال الْكحل للْمَرْأَة الحادة أَي: الَّتِي تحد، بِفَتْح التَّاء وَضم الْحَاء، وَأما المحدة فَمن أحدت كَمَا بَيناهُ عَن قريب، وَقَالَ ابْن التِّين الصَّوَاب الحاد بِلَا هَاء لِأَنَّهُ نبت للمؤنث كطالق: حَائِض، وَقَالَ بَعضهم: لكنه جَائِز فَلَيْسَ بخطأ. قلت: إِن كَانَ يُقَال فِي طَالِق طالقة وَفِي حَائِض حائضة يُقَال: أَيْضا حادة وَإِن كَانَ لَا يُقَال طالقة وَلَا حائضة فَلَا يُقَال حادة، وَالصَّوَاب مَعَ ابْن التِّين، وَالَّذِي ادّعى جَوَازه فِيهِ نظر لَا يخفى.
5338 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا حُمَيْدُ بنُ نَافعٍ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّها أنَّ امْرَأةً تُوُفِّيَ زَوْجُها فَحَشُوا عَيْنَيْها. فَأتَوْا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاستأذَنُوهُ فِي الكُحْلِ فَقَال: لَا تَكْحُلُ، قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أحْلاسها. أَو شَرِّ بَيْتها. فَإِذا كانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، فَلا حَتَّى تَمْضِيَ أرْبَعَةُ أشْهُر وَعَشْرٌ.
5339 - وَسَمِعْتُ زَيْنَبَ ابْنَةَ أُُمِّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ عَنْ أُُمِّ حَبِيبَةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يَحِلُّ لامْرَأةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أيَامٍ إلاَّ عَلَى زَوْجها أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور فِيمَا قبل هَذَا الْبَاب وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فحشوا عينيها) ويروى: على عينيها، وحشوا بِفَتْح الْحَاء وَضم الشين وَأَصله: حشيوا، بِضَم الْيَاء: استثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد سلب حركتها فَالتقى ساكنان الْيَاء وَالْوَاو فحذفت الْيَاء وَلم تحذف الْوَاو لِأَنَّهَا عَلامَة الْجمع فَصَارَت: حَشْو على وزن: فعو. فَافْهَم. قَوْله: (لَا تكحل) بِفَتْح التَّاء وَتَشْديد الْحَاء وَضم اللَّام، وَأَصله: لَا تتكحل، بتاءين فحذفت إِحْدَاهمَا، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: لَا تكحل، بِسُكُون الْكَاف وَضم الْحَاء وَاللَّام، ويروى: لَا تكتحل من الاكتحال من بَاب الافتعال. قَوْله: (أحلاسها) جمع حلْس بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون اللَّام وَهُوَ الثَّوْب أَو الكساء الرَّقِيق يكون تَحت البردعة. قَوْله: (أَو شرِّ بَيتهَا) شكّ من الرَّاوِي، وَذكر وصف ثِيَابهَا وَوصف مَكَانهَا. قَوْله: (فَلَا حَتَّى تمْضِي) أَي: فَلَا تكتحل حَتَّى تمْضِي أَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام.
قَوْله: (وَسمعت) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ حميد ابْن نَافِع الرَّاوِي، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم. قَوْله: (عَن أم حَبِيبَة) هِيَ أم الْمُؤمنِينَ بنت أبي سُفْيَان أُخْت مُعَاوِيَة، وَاسْمهَا رَملَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز بأتم مِنْهُ.
قَوْله: (وَعشرا) بِالنّصب إتباعا للفظ الْقُرْآن.(21/5)
5340 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا بِشْرٌ حدَّثنا سَلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَتْ أُُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينا أنْ نُحِدَّ أكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إلاّ بِزَوْجٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة ابْن الْمفضل، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، بنت كَعْب. وَيُقَال: بنت الْحَارِث الْأَنْصَارِيَّة.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (نهينَا) ، بِضَم النُّون على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (إلاَّ بِزَوْج) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ على زوج. فَإِن قلت: رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص للْمَرْأَة أَن تحد على زَوجهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا، وعَلى أَبِيهَا سَبْعَة أَيَّام وعَلى من سواهُ ثَلَاثَة أَيَّام؟ قلت: هَذَا غير صَحِيح لما تقدم أَن أم حَبِيبَة لما توفّي أَبوهَا تطيبت بعد ثَلَاث، ولعموم الْأَحَادِيث، وَلِأَن هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو دَاوُد فِي كتاب (الْمَرَاسِيل) عَن عَمْرو بن شُعَيْب: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَذكره معضلاً. قلت: ذكر أبي دَاوُد هَذَا فِي (الْمَرَاسِيل) غير موجه إلاَّ إِن كَانَ أَرَادَ بِالْإِرْسَال الِانْقِطَاع فَيتَّجه لِأَن عمرا لَيْسَ تابعيا. وَالله أعلم.
48 - (بَابُ: {القُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال الْقسْط للْمَرْأَة الحادة عِنْد طهرهَا من الْحيض إِذا كَانَت مِمَّن تحيض، والقسط بِضَم الْقَاف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالطاء الْمُهْملَة هُوَ عود يتبخر بِهِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقسْط ضرب من الْعود.
5341 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أنْ نَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا، وَلا نَكْتَحِلَ وَلا نَطَّيَّبَ وَلا نَلْبَسَ ثَوْبا مَصْبُوغا إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنا عِنْدَ الطُّهْرِ إذَا اغْتَسَلَتْ إحْدَانَا مِنْ مَحِيْضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتٍ أظْفَار، وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّباعَ الجنائِزِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من كست) لِأَنَّهُ الْقسْط فأبدلت الْكَاف من الْقَاف وَالتَّاء من الطَّاء، وَقد مر بَيَانه مستقصىً فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْحيض، فَأَنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد، والمتن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (كُنَّا نُنهى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَن نحد) ، بِضَم النُّون وَكسر الْحَاء. قَوْله: (إلاّ ثوب عصب) ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالباء الْمُوَحدَة وَهُوَ برود الْيمن يعصب غزلها ثمَّ يصْبغ. قَوْله: (وَقد رخص) ، على بِنَاء الْمَجْهُول. قَوْله: (من محيضها) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني من حَيْضهَا. قَوْله: (فِي نبذة) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالذال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ الْقَلِيل من الشَّيْء. قَوْله: (من كست أظفار) ، بِالْإِضَافَة وَيَأْتِي فِي الَّذِي بعده: من قسط، بِالْقَافِ. وَقَالَ الصَّنْعَانِيّ فِي النّسخ إظفار، وَصَوَابه: ظفار، وَهُوَ بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء مَوضِع بساحل عدن. وَقَالَ التَّيْمِيّ: وَهِي بِلَفْظ أظفار، وَالصَّوَاب: ظفار، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْقسْط والأظفار نَوْعَانِ معروفان من البخور وليسا من مَقْصُود الطّيب وَرخّص فيهمَا لإِزَالَة الرَّائِحَة لَا للتطيب. قَوْله: (وَكُنَّا ننهي) بِضَم النُّون الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: القُسْطُ وَالكُسْتُ مِثْلُ الكَافُورِ وَالقافُورِ، نُبْذَةٌ: أيْ قِطْعَةٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْكَاف تبدل من الْقَاف فَيُقَال فِي الْقسْط الكست، كَمَا يُقَال فِي الكافور قافور، وتبدل الْفَاء من الطَّاء لتقارب مخرجهما. قَوْله: (نبذة) ، أَي: قِطْعَة، أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله: (فِي نبذة من كست) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب وَلَيْسَ هَذَا بموجود فِي غَالب النّسخ.
49 - (بَابٌ: {تَلْبَسُ الحَادَّةُ ثِيابَ العَصْبِ} )
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (تلبس الْمَرْأَة الحادة ثِيَاب العصب) وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن العصب بالمهملتين برود يمنية يعصب غزلها أَي: يجمع ويشد ثمَّ يصْبغ وينسخ فَيَأْتِي موشيا لبَقَاء مَا عصب مِنْهُ أَبيض لم يَأْخُذهُ صبغ، يُقَال: برد عصب وبرود عصب بِالتَّنْوِينِ(21/6)
وَالْإِضَافَة، وَقيل: هِيَ برود مخططة، قَالَ ابْن الْأَثِير: فَيكون نهي الْمُعْتَدَّة عَمَّا صبغ بعد النسج.
5342 - حدَّثنا الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ حدَّثنا عَبْدِ السَّلامِ بنُ حَرْبٍ عَنْ هِشامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُُمِّ عَطِيّةَ قَالَتْ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإنَّها لَا تَكْتَحِلُ وَلا تَلْبِسُ ثَوْبا مَصْبُوغا إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ ثوب عصب) وَهِشَام هُوَ ابْن حسان الفردوسي بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ هِشَام الدستوَائي وَهُوَ غلط وَالصَّحِيح أَنه هِشَام بن حسان، وَكَذَا قَالَه الْحَافِظ الْمزي، وَحَفْصَة هِيَ بنت سِيرِين أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين، وَأورد حَدِيث أم عَطِيَّة هَذَا هُنَا مُصَرحًا بِرَفْعِهِ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن الحادة لَا يجوز لَهَا لبس المصبغة والمعصفرة إلاَّ مَا صبغ بِالسَّوَادِ وَقد رخص فِي السوَاد عُرْوَة بن الزبير وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيّ، وَكَانَ عُرْوَة يَقُول: لَا تلبس من الْحمرَة إلاَّ العصب، وَقَالَ الثَّوْريّ: تتقي الْمَصْبُوغ إلاَّ ثوب عصب. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا تلبس العصب، وَهُوَ خلاف الحَدِيث، وَقَالَ الشَّافِعِي: كل صبغ فِيهِ زِينَة أَو تلميع مثل العصب والحبرة والوشي فَلَا تلبسه غليظا كَانَ أَو رَقِيقا، وَعَن مَالك: تجتنب الْحِنَّاء والصباغ إلاَّ السوَاد إِن لم يكن حَرِيرًا وَلَا تلبس الملون من الصُّوف. قَالَ فِي (الْمُدَوَّنَة) إلاَّ أَن لَا تَجِد غَيره وَلَا تلبس رَقِيقا وَلَا عصب الْيمن ووسع فِي غليظه وتلبس رَقِيق الْبيَاض وغليظ الْحَرِير والكتان والقطن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيحرم حلي الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤ وَفِي اللُّؤْلُؤ وَجه أَنه يجوز.
5343 - الأنْصَارِيُّ: حدَّثنا هِشامٌ حدَّثَتْنَا حَفْصَةُ حدَّثَتْنِي أُُمُّ عَطِيَّةَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تَمَسَّ طيِبا إلاّ أدْنَى طَهْرِها إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأظْفَارٍ.
الْأنْصَارِيّ هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله بن أنس بن مَالك قَاضِي الْبَصْرَة شيخ البُخَارِيّ، رُوِيَ عَنهُ الْكثير بِوَاسِطَة وَبلا وَاسِطَة. وَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَخذ هَذَا عَنهُ مذاكرة فَلهَذَا لم يرو عَنهُ بِصِيغَة التحديث وَهِشَام هُوَ ابْن حسان وَقد مر عَن قريب وَقد وَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي حَاتِم الرَّازِيّ عَن الْأنْصَارِيّ بِلَفْظ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن تحد الْمَرْأَة فَوق ثَلَاثَة أَيَّام إلاَّ على زوج فَإِنَّهَا تحد عَلَيْهِ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَلَا تلبس ثوبا مصبوغا إلاَّ ثوب عصب، وَلَا تكتحل وَلَا تمس طيبا.
قَوْله: (نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تمس) فِيهِ حذف تَقْدِيره نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ: لَا تمس طيبا. قَوْله: (إلاَّ أدنى طهرهَا) ، أَي: إلاَّ فِي أول طهرهَا، والأدنى بِمَعْنى الأول. وَقيل: بِمَعْنى عِنْد، وَهُوَ الْأَوْجه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى إِلَى أدنى مَكَان إلاّ قَوْله: (نبذة) ، بِالنّصب بدل من قَوْله: (طيبا) وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره: وتمس نبذة من قسط وأظفار، بواو الْعَطف، وَهُوَ الْأَوْجه على مَا لَا يخفى.
50 - (بابٌ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا} إلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} (الْبَقَرَة: 23)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله عز وَجل: {وَالَّذين} إِلَى قَوْله: {خَيْبَر} كَذَا هَذَا الْمِقْدَار فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَرِوَايَة أبي ذَر، وسَاق فِي رِوَايَة كَرِيمَة الْآيَة بكمالها، وَقد مر تَفْسِير هَذِه الْآيَة فِي سُورَة الْبَقَرَة.
5344 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخْبَرنَا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدَّثنا شِبْلٌ عَنِ ابنِ أبِي نَجيحِ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ يَتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا} قَالَ: كَانَتْ هاذِهِ العِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أهْلِ زَوْجِها وَاجِبا فَأنْزَلَ الله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْواجا وَصِيَةً لأزْوَاجِهِمْ مَتاعا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ أخْراجٍ فَإنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ: جَعَلَ الله لَهَا(21/7)
تَمَامَ السَّنَةٍ سَبْعَةَ أشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصِيَةً إنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِها، وَإنْ شَاءَت خَرَجَتْ وَهُوَ قَوْلُ الله تَعَالَى: {غَيْرَ إخْرَاجٍ فَإنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (الْبَقَرَة: 24) فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْها زَعَمَ ذالِكَ عَنْ مُجاهِدٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وشبل بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عباد بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة المكى يرْوى عَن عبد الله بن أبي نجيح بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة واسْمه يسَار ضد الْيَمين وَقضى هَذَا بِهَذَا السَّنَد والمتن فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عَن مُجَاهِد وَالَّذين) الخ أَي: عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون} إِلَى آخِره. وَقَوله قَالَ: (كَانَت هَذِه الْعدة) توضح هَذَا الْمِقْدَار أَي: قَالَ مُجَاهِد: كَانَت هَذِه الْعدة، وَأَشَارَ بهَا إِلَى الْعدة الَّتِي تتضمنها هَذِه الْآيَة. قَوْله: (وَاجِبا) الْقيَاس وَاجِبَة بالتأنيث، وَلَكِن كَذَا وَقع فِي رِوَايَة لأبي ذَر عَن الْكشميهني، وَوَجهه إِمَّا بِاعْتِبَار الِاعْتِدَاد، وَإِمَّا بِتَقْدِير أَن يُقَال: أمرا وَاجِبا. وَإِمَّا أَن يَجْعَل الْوَاجِب اسْما لما يذم تَاركه وَيقطع النّظر عَن الوصفية، وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: وَاجِب، بِالرَّفْع وَوَجهه أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: أَمر وَاجِب: أَو أَن يكون: كَانَت تَامَّة وَيكون قَوْله: تَعْتَد مُبْتَدأ وواجب خَبره على طَريقَة قَوْلك: تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ، ويكن التَّقْدِير: وَأَن تَعْتَد، أَي: واعتدادها عِنْد أهل زَوجهَا وَاجِب. كَمَا يقدر فِي: تسمع. أَن تسمع، ثمَّ يَقُول: أَي: سماعك بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ. أَي: من رُؤْيَته. قَوْله: (قَالَ: جعل الله) أَي: قَالَ مُجَاهِد: جَعَلَ الله إِلَى آخِره، وَحَاصِل كَلَام مُجَاهِد أَنه جعل على الْمُعْتَدَّة تربص أَرْبَعَة أشهر وَعشرا أوْجَبَ على أَهلهَا أَن تبقى عِنْدهم سَبْعَة أشهر وَعشْرين لَيْلَة، تَمام الْحول. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا قَول لم يقلهُ أحد من الْمُفَسّرين غَيره وَلَا تَابعه عَلَيْهِ أحد من الْفُقَهَاء، بل أطبقوا على أَن آيَة الْحول مَنْسُوخَة وَأَن السكني تبع للعدة، فَلَمَّا نسخ الْحول فِي الْعدة بالأربعة أشهر وَعشرا نسخت السُّكْنَى أَيْضا. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يخْتَلف الْعلمَاء فِي أَن الْعدة بالحول نسخت إِلَى أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي قَوْله: (غير إِخْرَاج) الْجُمْهُور على أَنه نسخ أَيْضا. قَوْله: (زعم ذَلِك عَن مُجَاهِد) أَي: قَالَ ذَلِك ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد أَن الْعدة الْوَاجِبَة أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَتَمام السّنة باختيارها بِحَسب الْوَصِيَّة فَإِن شَاءَت قبلت الْوَصِيَّة وَتعْتَد إِلَى الْحول، وَإِن شَاءَت اكتفت بِالْوَاجِبِ، وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ الْعدة إِلَى تَمام السّنة وَاجِبَة، وَأما السُّكْنَى عِنْد أهل زَوجهَا فَفِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهر وَالْعشر وَاجِبَة، وَفِي التَّمام باختيارها، وَلَفظه: فالعدة كَمَا هِيَ وَاجِبَة عَلَيْهَا يُؤَيّد هَذَا الإحتمال، وَحَاصِله أَنه لَا يَقُول بالنسخ، وَالله أعلم.
{وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هاذِهِ الآيَةُ عِدَّتَها عِنْدَ أهْلِها فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُ الله تَعَالَى: غَيْرَ إخْرَاجٍ}
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح عَن عبد الله بن عَبَّاس إِلَى آخِره، وَقد مر فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أهْلِها وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِها وَإنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ الله: {فَلا جُناح عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ} (الْبَقَرَة: 24) قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ المِيراثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلا سُكْنَى لَهَا.
أَي: قَالَ عَطاء الْمَذْكُور. قَوْله: (لَا سُكْنى لَهَا) ، هُوَ قَول أبي حنيفَة: إِن الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا سُكْنى لَهَا، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي كَالنَّفَقَةِ، وأظهرهما الْوُجُوب، وَمذهب مَالك: إِن لَهَا السُّكْنَى إِذا كَانَت الدَّار ملكا للْمَيت.
5345 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ بنِ عَمْروِ بنِ حَزْمٍ حدَّثني حُمَيْدُ بنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُُمِّ حَبِيبَةَ ابْنَةِ أبِي سُفْيَانَ لَمَّا جَاءَها نَعِيُّ أبِيها(21/8)
دَعَتْ بِطيب فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْها وَقَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَوْلا أنِّي سَمِعْتُ النبيَّ ت يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَا يتَعَلَّق بالمعتدة، والترجمة فِي الْعدة، والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب تحد الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرا. قَوْله: (يَعْنِي أَبِيهَا) ، أَي: خبر مَوته.
51 - (بَابُ: {مَهْرِ البَغِيِّ وَالنِّكاحِ الفَاسِدِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مهر الْبَغي وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء قَالَ بَعضهم: هُوَ على وزن فعيل يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَزنه فعول قلت: على الأَصْل لِأَن أَصله بغوي، على وزن فعول اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: بغي، بِضَم الْغَيْن ثمَّ أبدلت الضمة كسرة لأجل الْيَاء فَصَارَ: بغي، وَأما قَول الْبَعْض: إِن وَزنه فعيل فَلَيْسَ بِصَحِيح، إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك للزمته الْهَاء كامرأة حليمة وكريمة، واشتقاقه من الْبغاء وَهُوَ الزِّنَا. قَوْله: (وَالنِّكَاح الْفَاسِد) أَي: وَفِي حكم النِّكَاح الْفَاسِد، وأنواعه كَثِيرَة: كَالنِّكَاحِ بِلَا شُهُود، وَبلا ولي عِنْد الْبَعْض، وَنِكَاح الْمُعْتَدَّة، وَالنِّكَاح الموقت والشغار عِنْد الْبَعْض وَنَحْوهَا.
وَقَالَ الحَسَنُ: إذَا تَزَوَّج مُحَرَّمَةً وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا مَا أخَذَتْ وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَهَا صَدَاقُها
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا تزوج مُحرمَة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء أَي: امْرَأَة مُحرمَة عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: مُحرمَة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْحَاء وَفتح الرَّاء وَالْمِيم وبالضمير، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مُحرمَة بِلَفْظ فَاعل من الْإِحْرَام، وبلفظ مفعول التَّحْرِيم وبلفظ الْمحرم بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء الْمُضَاف، وَضَبطه الدمياطي بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء، وَقَالَ ابْن التِّين: يُرِيد ذَات محرم. قَوْله: (وَهُوَ لَا يشْعر) ، أَي: وَالْحَال أَن الرجل لم يدر بذلك، فرق بَينهمَا. (وَلها مَا أخذت) من الرجل يَعْنِي صَدَاقهَا الْمُسَمّى (وَلَيْسَ لَهَا غَيره) وَهُوَ قَول مَالك الْمَشْهُور. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) ، أَي: الْحسن بعد أَن قَالَ: وَلَيْسَ لَهَا غَيره (لَهَا صَدَاقهَا) يَعْنِي: صدَاق مثلهَا، وَسَائِر الْفُقَهَاء على هذَيْن الْقَوْلَيْنِ فطائفة تَقول بِصَدَاق الْمثل، وَطَائِفَة تَقول بِالْمُسَمّى، وَأما من تزوج مُحرمَة وَهُوَ عَالم بِالتَّحْرِيمِ فَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: عَلَيْهِ الْحَد وَلَا صدَاق فِي ذَلِك، وَقَالَ الثَّوْريّ: وَأَبُو حنيفَة: لَا حد عَلَيْهِ وَإِن علم يُعَزّر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يبلغ بِهِ أَرْبَعِينَ، وَتَعْلِيق الْحسن رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد عَن مطر عَنهُ بِهِ.
5346 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ أبِي مَسْعُودٍ، رَضِيَ الله عَنهُ، قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ وَحُلوَانِ الكاهِنِ وَمَهْرِ البَغِيِّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام المَخْزُومِي وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب ثمن الْكَلْب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أبي بكر إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، أما ثمن الْكَلْب فَحَرَام عِنْد الْحسن الْبَصْرِيّ وَرَبِيعَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَدَاوُد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث. وَقَالَ عَطاء وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن كنَانَة وَسَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: الْكلاب الَّتِي ينْتَفع بهَا يجوز بيعهَا وتباح أثمانها، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بِأَنِّي النَّهْي عَنهُ إِنَّمَا كَانَ حِين أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الْكلاب، وَلما أَبَاحَ الِانْتِفَاع بهَا للاصطياد وَنَحْوه، وَنهى عَن قَتلهَا نسخ النَّهْي الْمَذْكُور، وَأما حلوان الكاهن فَإِنَّهُ رشوة يَأْخُذهَا الكاهن على مَا يَأْتِي بِهِ من الْبَاطِل، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أبي مَسْعُود: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثَلَاث هن سحت ثمَّ ذكر مثل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأما مهر الْبَغي، وَهُوَ الَّذِي يعْطى على النِّكَاح الْمحرم فَحَرَام، وَقَالَ القَاضِي: لم يخْتَلف الْعلمَاء فِي تَحْرِيم أجر الْبَغي لِأَنَّهُ ثمن عَن محرم، وَقد حرم الله الزِّنَا فَلذَلِك أبطلوا أجر الْمُغنيَة والنائحة، وَأَجْمعُوا على بُطْلَانه.(21/9)
5347 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا عَوْنُ بنُ أبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ: لَعَنَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوَاشِمَةِ وَالمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبا وَمُوكِلَهُ، وَنَهَى عَنْ ثَمِنِ الكَلْبِ وَكَسْبِ البَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو جُحَيْفَة بِضَم الْجِيم اسْمه وهب بن عبد الله السوَائِي نزل الْكُوفَة وابتنى بهَا دَارا وَمضى الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب: ثمن الْكَلْب، والواشمة من الوشم الْمُعْجَمَة وهوأن يغرز الْجلد بالأبرة ثمَّ يحشى بالكحل، والمستوشمة الَّتِي تسْأَل أَن يفعل بهَا ذَلِك، وَالْمُوكل الْمطعم والآكل الْآخِذ، وَإِنَّمَا سوى فِي الْإِثْم بَينهمَا وَإِن كَانَ أَحدهمَا رابحا وَالْآخر خاسرا لِأَنَّهُمَا فِي فعل الْحَرَام شريكان متعاونان.
5348 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ أخْبَرَنا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ جُحَادَةَ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ كَسْبِ الإمَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن المُرَاد كسب الْإِمَاء هُوَ مَا يأخذنه على الزِّنَا، فَيدْخل فِي مهر الْبَغي.
والْحَدِيث مر فِي آخر الْبيُوع، وَمُحَمّد بن جحادة، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة، الأيامي بتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: سُلَيْمَان الْأَشْجَعِيّ.
52 - (بَابُ: {المَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ الدُّخُولُ أوْ طَلَقَها قَبْلَ الدُّخُولِ وَالمَسِيسِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمهْر للْمَرْأَة الْمَدْخُول عَلَيْهَا. قَوْله: (وَكَيف الدُّخُول) ، عطف على مَا قبله. أَي: وَفِي بَيَان كَيْفيَّة الدُّخُول، يَعْنِي: بِمَ يثبت بَين الْعلمَاء، وَقَالَت طَائِفَة: إِذا أغلق بَابا أرْخى سترا على الْمَرْأَة فقد وَجب الصَدَاق كَامِلا وَالْعدة، رُوِيَ ذَلِك عَن عَمْرو وَعلي وَزيد بن ثَابت ومعاذ بن جبل وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين: وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد، وَقَالَت طَائِفَة: لَا يجب الْمهْر إلاَّ بالمسيس، أَي: الْجِمَاع، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ شُرَيْح وَالشعْبِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ ابْن الْمسيب: إِذا دخل بِالْمَرْأَةِ فِي بَيتهَا صدق عَلَيْهَا، وَإِن دخلت عَلَيْهِ فِي بَيته صدقت عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول مَالك. قَوْله: (أَو طَلقهَا قبل الدُّخُول والمسيس) ، وَقَالَ ابْن بطال: تَقْدِيره أَو كَيفَ طَلقهَا، وَاكْتفى بِذكر الْفِعْل عَن ذكر الْمصدر لدلالته عَلَيْهِ انْتهى، وَإِنَّمَا ذكر اللَّفْظَيْنِ: أَعنِي: الدُّخُول والمسيس إِشَارَة إِلَى المذهبين: الِاكْتِفَاء بالخلوة والاحتياج إِلَى الْجِمَاع، وَلَفظ الْمَسِيس لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ.
53 - (بَابُ: {المِتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُتْعَة للمطلقة الَّتِي لم يدْخل بهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا.
وَاخْتلف فِي الْمُتْعَة، فَقَالَت طَائِفَة هِيَ وَاجِبَة للمطلقة الَّتِي لم يدْخل بهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، وَهُوَ قَول عَطاء، وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ(21/10)
وَالزهْرِيّ، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَلَا يجمع مهر مَعَ الْمُتْعَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَبِه قَالَ شُرَيْح وَعبد الله بن مُغفل أَيْضا، وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: فَإِن دخل بهَا ثمَّ طَلقهَا فَإِنَّهُ يمتعها وَلَا يجْبر عَلَيْهِ هُنَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَابْن حَيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، إِلَّا أَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: فَإِن كَانَ أحد الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكا لم تجب وَقَالَ أَبُو عمر: وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي مثل قَول أبي حنيفَة وَقَالَت طَائِفَة: لكل مُطلقَة مُتْعَة مَدْخُولا بهَا كَانَت أَو غير مَدْخُول بهَا إِذا وَقع الْفِرَاق من قبله وَلم يتم إلاَّ بِهِ إلاَّ الَّتي سمى لَهَا وَطَلقهَا، قبل الدُّخُول، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لكل مُطلقَة مُتْعَة، وَمثله عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي قلَابَة. وَقَالَت طَائِفَة: الْمُتْعَة لَيست بواجبة فِي مَوضِع من الْمَوَاضِع، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث وَابْن أبي أُسَامَة.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا} (الْبَقَرَة: 237)
اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذِهِ الْآيَة على وجوب الْمُتْعَة لكل مُطلقَة مُطلقًا، وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير وَغَيره، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، وَتَمام الْآيَة: {مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} قَوْله: (متعوهن) ، أَمر بإمتاعها وَهُوَ تعويضها عَمَّا فاتها بِشَيْء تعطاه من زَوجهَا بِحَسب حَاله. (على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره) والموسع الَّذِي لَهُ سَعَة، والمقتر الضّيق الْحَال. قَوْله: (قدره) ، أَي: مِقْدَاره الَّذِي يطيقه وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار تزوج بِامْرَأَة من بني حنيفَة وَلم يسم لَهَا مهْرا ثمَّ طَلقهَا قبل الدُّخُول. فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَتعهَا وَلَو بقلنسوة. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا تجب الْمُتْعَة إلاَّ لهَذِهِ وَحدهَا، وتستحب لسَائِر المطلقات. قَوْله: (مَتَاعا) ، تَأْكِيد لقَوْله: (ومتعوهن) بِمَعْنى تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) الَّذِي يحسن فِي الشَّرْع والمروءة. قَوْله: (حَقًا) ، صفة لمتاعا أَي: مَتَاعا وَاجِبا عَلَيْهِم أَو حق ذَلِك حَقًا على الْمُحْسِنِينَ الَّذين يحسنون إِلَى المطلقات بالتمتع.
وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلِّقَاتِ مَتاعٌ بالمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى المُتَقِينَ كَذالِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَكُمْ تَعْقِلْونَ (الْبَقَرَة: 241، 242) .
أَي: لقَوْله تَعَالَى: {وللمطلقات} الْآيَة. وَاسْتدلَّ البُخَارِيّ أَيْضا بِعُمُوم هَذِه الْآيَة فِي وجوب الْمُتْعَة لكل مُطلقَة مُطلقا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: عَم المطلقات بِإِيجَاب الْمُتْعَة لَهُنَّ بَعْدَمَا أوجبهَا لوَاحِدَة مِنْهُنَّ. وَهِي الْمُطلقَة غير الْمَدْخُول بهَا. وَقَالَ: (حَقًا على الْمُتَّقِينَ) كَمَا قَالَ ثمَّة (حَقًا على الْمُحْسِنِينَ) وَالَّذِي فصل يَقُول: إِن هَذِه مَنْسُوخَة بِتِلْكَ الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء} الْآيَة. فَإِن قلت: كَيفَ نسخت الْآيَة الْمُتَقَدّمَة الْمُتَأَخِّرَة. قلت: قد تكون الْآيَة مُتَقَدّمَة فِي التِّلَاوَة وَهِي مُتَأَخِّرَة فِي التَّنْزِيل. كَقَوْلِه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء) (الْبَقَرَة: 142) مَعَ قَوْله: {قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء} (الْبَقَرَة: 144) وَقَالَ أَبُو عمر: لم يخْتَلف الْعلمَاء أَن الْمُتْعَة الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب الْعَزِيز غير مقدرَة وَلَا محدودة وَلَا مَعْلُوم مبلغها وَلَا مُوجب قدرهَا، فَروِيَ عَن مَالك أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف طلق امْرَأَة لَهُ فمتعها بوليدة، وَكَانَ ابْن سِيرِين يمتع بالخادم أَو النَّفَقَة أَو الْكسْوَة، ويمتع الْحسن بن عَليّ زَوجته بِعشْرَة آلَاف فَقَالَت: مَتَاع قَلِيل من حبيب مفارق، ويمتع شُرَيْح بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم، وَالْأسود بن يزِيد بِثَلَاث مائَة، وَعُرْوَة بخادم، وَقَالَ قَتَادَة: الْمُتْعَة جِلْبَاب وَدرع وخمار، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ: هَذَا لكل حرَّة أَو أمة أَو كِتَابِيَّة إِذا وَقع الطَّلَاق من جِهَة، وَعَن ابْن عمر: ثَلَاثُونَ درهما وَفِي رِوَايَة إِنَّه يمتع بوليدة.
{وَلَمْ يَذْكُرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي المُلاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَقَها زَوْجُها}
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أَرَادَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر فِي الْأَحَادِيث الَّتِي رويت عَنهُ فِي اللّعان مُتْعَة، وَكَأَنَّهُ تمسك بِهَذَا أَن الْمُلَاعنَة لَا مُتْعَة لَهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَفْهُوم من كَلَام البُخَارِيّ أَن لكل مُطلقَة مُتْعَة والملاعنة غير دَاخِلَة فِي جملَة المطلقات. ثمَّ قَالَ: لفظ طَلقهَا، صَرِيح فِي أَنَّهَا مُطلقَة، ثمَّ أجَاب بِأَن الْفِرَاق حَاصِل بِنَفس اللّعان حَيْثُ قَالَ: فَلَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا، وتطليقه لم يكن بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ كلَاما زَائِدا صدر مِنْهُ تَأْكِيدًا.(21/11)
5350 - حدَّثنا قُتَيْبَةَ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْروٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لِلْمُتلاعِنين: حِسابُكُما عَلَى الله أحَدُكُما كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها. قَالَ: يَا رَسُولَ الله {مالِي؟ قَالَ: لَا مَالَ لَكَ إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا. فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرُجِها. وَإنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أبْعَدُ، وَأبْعَدُ لَكَ مِنْها.
ذكر هَذَا الحَدِيث الَّذِي مضى عَن قريب فِي: بَاب صدَاق الْمُلَاعنَة تَأْكِيدًا لما قَالَه وَلم يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمُلَاعنَة مُتْعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تعرض للمتعة وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
قَوْله: (فَذَاك أبعد) لَا بُد فِيهِ من بعد وَزِيَادَة لِأَن أفعل التَّفْضِيل يَقْتَضِي ذَلِك فالبعد هُوَ طلب اسْتِيفَاء مَا يُقَابله، وَهُوَ الْوَطْء. وَالزِّيَادَة هِيَ: ضم إيذائها بِالْقَذْفِ الْمُوجب للانتقام مِنْهُ لَا للإنعام إِلَيْهِ، والتكرار لِأَنَّهُ أسقط الْحَد الْمُوجب لتشفي الْمَقْذُوف عَن نَفسه بِاللّعانِ، وَالله أعلم.
69 - (كتابُ: {النَّفَقَاتِ وَفَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ} )
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام النَّفَقَات، وَفِي بَيَان فضل النَّفَقَة على الْأَهْل، وَوَقع كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، هَكَذَا كتاب النَّفَقَات، بِسم الله الرحمان الرَّحِيم: بَاب فضل النَّفَقَة على الْأَهْل، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر لفظ: بَاب.
1 - (بَابُ: {فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ} )
وَقَوْل الله عَزّ وَجَلّ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّن الله لَكُمْ الآيَات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} (الْبَقَرَة: 219) فِي الدُّنيا والآخِرة
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على النَّفَقَات الْمَجْرُور بِإِضَافَة لفظ الْكتاب إِلَيْهِ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْجَمِيع، وَوَقع النَّسَفِيّ عِنْد قَوْله: (قل الْعَفو) سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم من مُرْسل يحيى بن أبي كثير بِسَنَد صَحِيح إِلَيْهِ أَنه بلغه أَن معَاذ بن جبل وثعلبة سَأَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَا: إِن لنا أرقاء وأهلين فَمَا ننفق من أَمْوَالنَا؟ فَنزلت قَوْله: (قل الْعَفو) ، بِالنّصب أَي: انفقوا الْعَفو، وَقَرَأَ الْحسن وَقَتَادَة وَأَبُو عَمْرو بِالرَّفْع أَي: هُوَ الْعَفو، وَمثله قَوْلهم: مَاذَا ركبت أَفرس أم بعير؟ يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْعَفو فَروِيَ عَن سَالم وَالقَاسِم: الْعَفو فضل المَال بالتصدق بِهِ عَن ظهر غنى، وَعَن مُجَاهِد: هُوَ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة. وَقَالَ الزّجاج: أَمر النَّاس أَن ينفقوا الْفضل حَتَّى فرضت الزَّكَاة. فَكَانَ أهل المكاسب يَأْخُذ من كَسبه كل يَوْم مَا يَكْفِيهِ وَيتَصَدَّق بباقيه، وَيَأْخُذ أهل الذَّهَب وَالْفِضَّة مَا ينفقونه فِي عَامهمْ وينفقون بَاقِيه وَيُقَال: الْعَفو مَا سهل، وَمِنْه: أفضل الصَّدَقَة مَا تصدق بِهِ عَن ظهر غنى. قَوْله: (لَعَلَّكُمْ تتفكرون) ، أَي: تتفكرون فتعرفون فضل الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَقيل: هُوَ على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير أَي: (وَكَذَلِكَ يبين الله لكم الْآيَات) فِي أَمر الدُّنْيَا (وَالْآخِرَة لَعَلَّكُمْ تتفكرون) .
وَقَالَ الحَسَنُ: العَفوُ الفَضْلُ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: المُرَاد بِالْعَفو فِي قَوْله تَعَالَى: {قل الْعَفو} : الْفضل أَي: الْفَاضِل عَن حَاجته، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد بن حميد عَنهُ، وَعَن الْحسن: لَا تنْفق مَالك حَتَّى تجهد فتسأل النَّاس.
5351 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إيَاسٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ. فَقُلْتُ: عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إذَا أنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُها كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ.
قَوْله: (فَقلت: عَن النَّبِي) ؟ أَي: أترويه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} أَو تَقوله عَن اجْتِهَاد وَقَالَ بَعضهم الْقَائِل: فَقلت: هُوَ شُعْبَة بَينه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَة لَهُ. قلت: لم يبين هَذَا الْقَائِل كَيفَ بَينه الْإِسْمَاعِيلِيّ. فَلم لَا يجوز أَن يكون الْقَائِل عبد الله بن يزِيد؟ بل الظَّاهِر(21/12)
يشْعر أَنه هُوَ، وَيحْتَمل أَن يكون عدي بن ثَابت على مَا لَا يخفى. قَوْله: (على أَهله) ، قَالَ صَاحب (الْمغرب) أهل الرجل امْرَأَته وَولده وَالَّذِي فِي عِيَاله وَنَفَقَته، وَكَذَا كل أَخ أَو أُخْت أَو عَم أَو ابْن عَم أَو صبي أَجْنَبِي بقوته فِي منزله، وَعَن الْأَزْهَرِي: أهل الرجل أخص النَّاس بِهِ، وَيجمع على أهلين والأهالي على غير قِيَاس، وَيُقَال: الْأَهْل يحْتَمل أَن يَشْمَل الزَّوْجَة والأقارب، وَيحْتَمل أَن يخْتَص بِالزَّوْجَةِ وَيلْحق بِهِ من عداهُ بطرِيق الأولى لِأَن الثَّوَاب إِذا ثَبت فِيمَا هُوَ وَاجِب فثبوته فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِب أولى. فَإِن قلت: كَيفَ يكون إطْعَام الرجل أَهله صَدَقَة وَهُوَ فرض عَلَيْهِ؟ قلت: جعل الله الصَّدَقَة فرضا وتطوعا وَيجْزِي العَبْد على ذَلِك بِحَسب قَصده، وَلَا مُنَافَاة بَين كَونهَا وَاجِبَة وَبَين تَسْمِيَتهَا صَدَقَة. وَقيل: إِنَّمَا أطلق الشَّارِع صَدَقَة على نَفَقَة الْفَرْض لِئَلَّا يَظُنُّوا أَن قيامهم بِالْوَاجِبِ لَا أجر لَهُم، وَقَالَ الْمُهلب: النَّفَقَة على الْأَهْل والعيال وَاجِبَة بِالْإِجْمَاع، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: النَّفَقَة على الْأَوْلَاد مَا داموا صغَارًا فرض عَلَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وأبدأ بِمن تعلو لِأَن الْوَلَد مَا دَامَ صَغِيرا فَهُوَ عِيَال. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَاخْتلفُوا فِيمَن بلغ من الْأَبْنَاء وَلَا مَال لَهُ وَلَا كسب، فَقَالَت طَائِفَة: على الْأَب أَن ينْفق على ولد صلبه الذُّكُور حَتَّى يحتلموا وَالْبَنَات حَتَّى يزوجن، فَإِن طَلقهَا. قيل الْبناء فَهِيَ على نَفَقَتهَا، وَإِن طَلقهَا بعد الْبناء أَو مَاتَ عَنْهَا فَلَا نَفَقَة لَهَا على أَبِيهَا وَلَا نَفَقَة لولد الْوَلَد على الْجد، هَذَا قَول مَالك، وَأي: نَفَقَة الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وَاجِبَة بِشَرْط الْعَجز مَعَ قيام الْحَاجة، وَأما نَفَقَة بني الْأَعْمَام وَأَوْلَاد العمات فَلَا تجب عِنْد عَامَّة الْعلمَاء. خلافًا لِابْنِ أبي ليلى. قَوْله: (وَهُوَ يحتسبها) ، أَي: يعملها حسبَة لله تَعَالَى، وَقَالَ النَّوَوِيّ: احتسبها أَي: أَرَادَ بهَا الله، وَطَرِيقه أَن يتَذَكَّر أَنه يجب عَلَيْهِ الْإِنْفَاق فينفق بنية أَدَاء مَا أَمر بِهِ.
5352 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدَّثني مَالِكٌ عَنْ أبِي الزِّنادِ عَنْ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَالَ الله: أنفِق يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أنْفق) ، بِفَتْح الْهمزَة أَمر من الْإِنْفَاق. قَوْله: (أنْفق عَلَيْك) ، بِضَم الْهمزَة بِصِيغَة الْمُضَارع جَوَاب الْأَمر، وروى مُسلم من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: أَن الله قَالَ لي: أنْفق عَلَيْك.
5353 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ قَزْعَةَ حدَّثنا مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدٍ عَنْ أبِي الغَيْثِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: السَّاعِي عَلَى الأرْمَلَةِ وَالمِسْكِينَ كَالمُجاهِد فِي سَبِيلِ الله أوْ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السَّاعِي على الأرملة هُوَ الَّذِي يسْعَى لتَحْصِيل النَّفَقَة على الأرملة الَّتِي لَا زوح لَهَا وثور بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَأَبُو الْغَيْث سَالم مولى ابْن مُطِيع الْقرشِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن القعني. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْأَدَب عَن القعني. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن إِسْحَاق بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن يَعْقُوب بن حميد.
قَوْله: (أَو الْقَائِم اللَّيْل) ، شكّ من الرَّاوِي. وَفِي رِوَايَة معن بن عِيسَى وَابْن وهب وَابْن بكير وَآخَرين عَن مَالك بِلَفْظ: أَو كَالَّذي يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن الدَّرَاورْدِي عَن ثَوْر مثله، وَلَكِن بِالْوَاو لَا بِأَو، وَيجوز فِي الْقَائِم اللَّيْل الحركات الثَّلَاثَة كَمَا فِي الْحسن الْوَجْه فِي الْوُجُوه الإعرابية، وَإِن اخْتلفَا فِي بَعْضهَا بِكَوْنِهِ حَقِيقَة أَو مجَازًا.
5354 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدٍ بنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ رَضِيَ الله عَنهُ، قَالَ: كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعُودُنِي وَأنا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لِي مَالٌ أوصِي بِمالي كُلِّه قَال: لَا. قُلْتُ: فَالشَّطْرَ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالثُلُثُ قَالَ: الثُلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِياءً خَيْرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَفُونَ النّاسَ فِي أيْدِيهِمْ. وَمَهْما أنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُها(21/13)
فِي فِيّ امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ الله يَرْفَعُكَ يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرّ بِكَ آخَرُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمهما أنفقت فَهُوَ لَك صَدَقَة) ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، قَالَه الْكرْمَانِي: وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وعامر هُوَ ابْن سعد بن أبي وَقاص يروي عَن أَبِيه.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب رثاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص عَن أَبِيه بأتم مِنْهُ.
قَوْله: (فَالشَّطْر) ، أَي: النّصْف. قَوْله: (الثُّلُث) ، الأول مَنْصُوب على الإغراء أَو على تَقْدِير: أعْط الثُّلُث، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير: الثُّلُث يَكْفِيك. (وَالثلث) الثَّانِي مُبْتَدأ وَخَبره. قَوْله: (كثير) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة أَو بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (أَن تدع) ، أَي: أَن تتْرك، وَأَن مَصْدَرِيَّة محلهَا رفع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره. هُوَ قَوْله: (خير) وَالتَّقْدِير: وَدعك أَي: تَركك وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تَدعهُمْ عَالَة، وَهُوَ جمع عائل وَهُوَ الْفَقِير. قَوْله: (يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) أَي: يمدون إِلَى النَّاس أكفهم للسؤال. قَوْله: (تضعها) فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (فِي فِي امْرَأَتك) أَي: فِي فَم امْرَأَتك، وَإِذا قصد بأبعد الْأَشْيَاء عَن الطَّاعَة وَهُوَ وضع اللُّقْمَة فِي فَم الْمَرْأَة وَجه الله تَعَالَى وَيحصل بِهِ الْأجر فَغَيره بِالطَّرِيقِ الأولى.
وَفِي الحَدِيث: معْجزَة فَإِنَّهُ انْتَعش وعاش حَتَّى فتح الْعرَاق وانتفع بِهِ أَقوام فِي دينهم ودنياهم وتضرر بِهِ الْكفَّار.
2 - (بَابُ: {وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ وَالعِيالِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب النَّفَقَة على الْأَهْل، أَرَادَ بِهِ الزَّوْجَة هُنَا، وَعطف عَلَيْهِ الْعِيَال من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. وَقد مضى الْكَلَام فِي الْأَهْل عَن قريب، وعيال الرجل من يعولهم أَي: من يقوتهم وَينْفق عَلَيْهِم، وأصل عِيَال عَوَالٍ لِأَنَّهُ من عَال عيالة وعولاً ويعالة إِذا فاتهم، قلبت الْوَاو يَاء لتحركها وانكسار مَا قبلهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَوَاحِد الْعِيَال عيل بتَشْديد الْيَاء وَالْجمع عيائل، مثل: جيد وجياد وجيائد.
5355 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا أبُو صَالِحٍ قَالَ: حدَّثني أبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ المَرْأةُ: إمَّا أنْ تُطْعِمَنِي وَإمَّا أنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ العَبْدُ: أطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الابنُ: أطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَقَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةِ: سَمِعْتَ هاذا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا هاذا مِنْ كِيسِ أبِي هُرَيْرَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز.
قَوْله: (غنى) يَعْنِي: مَا لم يجحف بالمعطي أَي: أَنَّهَا سهل عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله: مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وَقيل: مَعْنَاهُ مَا سَاق إِلَى الْمُعْطِي غنى، وَالْأول أوجه. قَوْله: (وَالْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى) قد مضى فِي الزَّكَاة أَقْوَال فِيهِ وَإِن أَصَحهَا الْعليا المعطية والسفلى السائلة. قَوْله: (وابدأ بِمن تعول) أَي: ابدأ فِي الْإِنْفَاق بعيالك ثمَّ اصرف إِلَى غَيرهم. قَوْله: ((تَقول الْمَرْأَة: إِمَّا أَن تطعمني وَإِمَّا أَن تُطَلِّقنِي) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز عَن حَفْص بن غياث بِسَنَد حَدِيث الْبَاب: إِمَّا أَن تنْفق عليّ قَوْله: (وَيَقُول العَبْد أَطْعمنِي واستعملني) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَيَقُول خادمك أَطْعمنِي وإلاَّ فبعني. قَوْله: (إِلَى من تدعني) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي: إِلَى من تَكِلنِي. قَوْله: (من كيس أبي هُرَيْرَة) ؟ قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) أَي: من قَوْله، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه الْكرْمَانِي: الْكيس بِكَسْر الْكَاف الْوِعَاء، وَهَذَا إِنْكَار على السَّائِلين عَنهُ، يَعْنِي: لَيْسَ هَذَا إلاَّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ نفي يُرِيد بِهِ الْإِثْبَات، وَإِثْبَات يُرِيد بِهِ النَّفْي على سَبِيل التعكيس، وَيحْتَمل أَن يكون لفظ: هَذَا، إِشَارَة إِلَى الْكَلَام الْأَخير إدراجا من أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ: تَقول الْمَرْأَة إِلَى آخِره. فَيكون إِثْبَاتًا لَا إنكارا يَعْنِي: هَذَا الْمِقْدَار من كيسه فَهُوَ حَقِيقَة فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات. قَالَ: وَفِي بَعْضهَا، يَعْنِي: فِي بعض الرِّوَايَات بِفَتْح الْكَاف يَعْنِي: من عقل أبي هُرَيْرَة وكياسته. قَالَ التَّيْمِيّ: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن بعضه من كَلَام أبي هُرَيْرَة وَهُوَ مدرج فِي الحَدِيث.
وَفِي(21/14)
هَذَا الحَدِيث أَحْكَام
الأول: أَن حق نفس الرجل يقدم على حق غَيره. الثَّانِي: أَن نَفَقَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة فرض بِلَا خلاف. الثَّالِث: أَن نَفَقَة الخدم وَاجِبَة أَيْضا. الرَّابِع: اسْتدلَّ بقوله: (إِمَّا أَن تطعمني وَإِمَّا أَن تُطَلِّقنِي) من قَالَ: يفرق بَين الرجل وَامْرَأَته إِذا أعْسر بِالنَّفَقَةِ واختارت فِرَاقه. قَالَ بَعضهم: وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يلْزمهَا الصَّبْر وتتعلق النَّفَقَة بِذِمَّتِهِ وَاسْتدلَّ الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: {وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا} (الْبَقَرَة: 231) وَأجَاب الْمُخَالف بِأَنَّهُ لَو كَانَ الْفِرَاق وَاجِبا لما جَازَ الْإِبْقَاء إِذا رضيت، ورد عَلَيْهِ بِأَن الِاجْتِمَاع دلّ على جَوَاز الْإِبْقَاء إِذا رضيت فَبَقيَ مَا عداهُ على عُمُوم النَّهْي، وبالقياس على الرَّقِيق وَالْحَيَوَان فَإِن من أعْسر بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ أجبر على بَيْعه. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكُوفِيُّونَ هُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن شهَاب الزُّهْرِيّ وَابْن شبْرمَة وَأبي سلمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز هُوَ المحكي عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرُوِيَ عَن عبد الْوَارِث عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر. قَالَ: كتب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى أُمَرَاء الأجناد: ادعوا فلَانا وَفُلَانًا، أُنَاسًا قد انْقَطَعُوا عَن الْمَدِينَة ورحلوا عَنْهَا، إِمَّا أَن يرجِعوا إِلَى نِسَائِهِم وَإِمَّا أَن يبعثوا بِنَفَقَة إلَيْهِنَّ وَإِمَّا أَن يطلقوا ويبعثوا بِنَفَقَة مَا مضى، وَلم يتَعَرَّض إِلَى شَيْء غير ذَلِك. وَقَول هَذَا الْقَائِل: وَأجَاب الْمُخَالف: هَل أَرَادَ بِهِ أَبَا حنيفَة أم غَيره؟ فَإِن أَرَادَ بِهِ أَبَا حنيفَة فَمَا وَجه تَخْصِيصه من بَين هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ ذَلِك إلاّ من أريحة التعصب، وَإِن أَرَادَ بِهِ غَيره مُطلقًا كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَأجَاب المخالفون، وَلَا يتم استدلالهم بقوله تَعَالَى: {وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا} لِأَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد ومسروقاً وَالْحسن رَاجعهَا ضِرَارًا لِئَلَّا تذْهب إِلَى غَيره ثمَّ يطلقهَا فتعتذ فَإِذا شارفت على انْقِضَاء الْعدة يُطلق ليطول عَلَيْهَا الْعدة فنهاهم الله عَن ذَلِك وتوعدهم عَلَيْهِ فَقَالَ {وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه} أَي: بمخالفة أَمر الله عز وَجل، فَبَطل استدلالهم بِهَذَا وَعُمُوم النَّهْي لَيْسَ فِيمَا قَالُوا: وَإِنَّمَا هُوَ فِي الَّذِي ذكر: عَن ابْن عَبَّاس وَمن مَعَه، وَالْقِيَاس على الرَّقِيق وَالْحَيَوَان قِيَاس مَعَ الْفَارِق فَلَا يَصح بَيَانه أَن الرَّقِيق وَالْحَيَوَان أَن لَا يملكَانِ شَيْئا وَلَا يجد الرَّقِيق من يسلفه وَلَا يصبران على عدم النَّفَقَة، بِخِلَاف الزَّوْجَة فَإِنَّهَا تصبر وتستدين على ذمَّة زَوجهَا، وَلِأَن التَّفْرِيق يبطل حَقّهَا وإبقاء النِّكَاح يُؤَخر حَقّهَا إِلَى زمن الْيَسَار عِنْد فقره وَإِلَى زمن الْإِحْضَار عِنْد غيبته، وَالتَّأْخِير أَهْون من الْإِبْطَال.
5356 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ ابنِ مُسافِرٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنِ ابنِ المُسَيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غَنًى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (مَا كَانَ عَن ظهر غنى) ، أَي: مَا كَانَ عفوا قد فشل عَن غنى، وَقيل: أَرَادَ مَا فضل عَن الْعِيَال وَالظّهْر قد يُزَاد فِي مثل هَذَا اتساعا للْكَلَام وتمكينا، كَأَن صدقته مستندة إِلَى ظهر قوي من المَال.
3 - (بَابٌ: {حَبْسٍ نَفَقَةِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أهْلِهِ، وَكَيْفَ نَفَقَاتُ العِيَالِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز حبس الرجل قوت سنة، يَعْنِي إدخاره الْقُوت لأجل أَهله يَكْفِيهِ سنة، وَكَيف شَأْن نفقات الْعِيَال والكيفية رَاجِعَة إِلَى صفة النَّفَقَات من حَيْثُ الْفَرِيضَة وَالْوُجُوب وعدمهما.
5357 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ أخْبَرنا وَكيعٌ عَنِ ابنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ لِي مَعْمَرٌ: قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ: هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أوْ بَعْضِ السَّنَةِ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَلَمْ يَحْضُرِنِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثا حَدَّثَناهُ ابنُ شهابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكٍ بنِ أوْسٍ عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنهُ، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لأهْلِهِ قَوتَ سَنَتِهِمْ.(21/15)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد، وَالثَّوْري هُوَ سُفْيَان.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَقد فَاتَ ابْن عُيَيْنَة سَماع هَذَا الحَدِيث من الزُّهْرِيّ فَرَوَاهُ عَنهُ بِوَاسِطَة معمر، وَقد رَوَاهُ أَيْضا عَن عَمْرو ابْن دِينَار عَن الزُّهْرِيّ بأتم من سِيَاق معمر، وَتقدم فِي سُورَة الْحَشْر. وَأخرجه أَحْمد والْحميدِي فِي (مسنديهما) عَن سُفْيَان عَن معمر وَعَمْرو بن دِينَار جَمِيعًا عَن الزُّهْرِيّ، وَقد أخرج مُسلم رِوَايَة معمر وَحدهَا عَن يحيى بن يحيى عَن سُفْيَان عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، لَكِن لم يسق لَفظه، وَأخرج إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) رِوَايَة معمر مُنْفَرِدَة عَن سُفْيَان عَنهُ عَن الزُّهْرِيّ بِلَفْظ: كَانَ ينْفق على أَهله نَفَقَة سنة من مَال بني النَّضِير، وَيحمل مَا بَقِي فِي الكراع وَالسِّلَاح.
قَوْله: (بني النَّضِير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وبالراء، وهم حَيّ من يهود خَيْبَر، وَقد دخلُوا فِي الْعَرَب وهم على نسبتهم إِلَى هَارُون أخي مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام.
قَالَ الْمُهلب: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز إدخار الْقُوت للأهل والعيال وَأَنه لَيْسَ بحكرة، وَإِن مَا ضمه الْإِنْسَان من زرعه أَو جد من نخله وثمره وحبسه لقُوته لَا يُسمى حكرة، وَلَا خلاف فِي هَذَا بَين الْفُقَهَاء. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: فِيهِ دَلِيل الرَّد على الصُّوفِيَّة حَيْثُ قَالُوا: الإدخار من يَوْم لغد يسيء فَاعله إِذْ لم يتوكل على ربه حق توكله، وَلَا خَفَاء بِفساد هَذَا القَوْل.
5358 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدَّثني عُقَيْلٌ عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أخْبَرنِي مَالِكُ بنُ أوْسٍ بنِ الحَدَثَانٍ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرٍ بنِ مِطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى مَالِكِ بنِ أوْسٍ فَسَألْتُهُ. فَقَالَ مَالِكٌ: انْطَلَقْتُ حَتَّى أدْخُلَ عَلَى عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنهُ، إذْ أتاهُ حَاجِبُهُ يَرْفأُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمانِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتأذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ {فَأذِنَ لَهُمْ. قَالَ: فَدَخَلُوا وَسَلَّمُوا فَجَلَسُوا. ثُمَّ لَبِثَ يَرْفَأُ قَلِيلاً فَقَالَ لِعُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأذِنَ لَهُمَا. فَلَمَّا دَخَلا سَلَّما وَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ} اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هاذا. فَقَالَ: الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأصْحَابُهُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! اقْضِ بَيْنَهُمَا. وَأرِحْ أحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ. فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدُوا أنْشُدُكُمْ بِالله الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكنا فَهُوَ صدقه يُرِيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه قَالَ الرَّهْط قد قَالَ ذَلِك فَأقبل عمر على عليّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أنْشُدُكُما بِالله هَلْ تَعُلَمانِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ ذالِكَ؟ قَالا: قَدْ قَالَ ذالِكَ. قَالَ عُمَرُ: فَإنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هاذا الأمْرِ: إنَّ الله كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هاذا المَالِ بِشَيْء لَمْ يُعْطِهِ أحَدا غَيْرَهُ. قَالَ الله: {مَا أفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ} فَكَانَتْ هاذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالله مَا احْتَازَها دُونَكُمْ وَلا اسْتَأْثَرَ بِها عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أعْطاكُمُوها وَبَثَّها فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْها هاذا المَالُ: فَكانَ رَسُولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هاذا المَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجَعَلَهُ مَجْعَلَ مَالِ الله فَعَمِلَ بِذالِكَ رَسُولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيَاتَهُ. أنْشُدُكُمْ بِالله هَلْ تَعْلَمُونَ ذالِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أنْشُدُكُمَا بِالله هَلْ تَعْلَمَانِ ذالِكَ؟ قَالا: نَعَمْ. ثُمَّ تَوَفَّى الله نَبِيَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: أنَا وَلِيُّ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَبَضَهَا أبُو بَكْرٍ يَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمَلَ بِهِ فِيها رَسُولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأنْتُمَا حِينئذٍ. وأقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ تَزْعُمانِ أنَّ أبَا بَكْرٍ كَذا وَكَذا، وَالله(21/16)
يَعْلَمُ أنَّهُ فِيها صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى الله أبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: أنَا وَلِيُّ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُها سَنَتَيْنٍ أعَمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتِمَانِي وَكَلِمَتُمَانِي وَاحِدَةٌ وَأمْرُكُما جَمِيعٌ، جِئْتَنِي تَسْأَلَنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابنِ أخِيكَ وَأتَى هاذا يَسْألُنِي نَصِيبَ امْرَأتِهِ مِنْ أبِيهَا فَقُلْتُ: إنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إلَيْكُمَا عَلَى أنَّ عَلَيْكُما عَهْدَ الله وَمِيثاقَهُ لَتَعْمَلانِ فِيها بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِما عَمِلَ بِهِ فِيها أبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ بِهِ فِيها مُنْذُ وُلِّيتُها وَإلاَّ فَلا تُكَلِّمانِي فِيهَا. فَقُلْتُمَا ادْفَعْها إلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُها إلَيْكُما بِذالِكَ أنْشُدُكُمْ بِالله هَلْ دَفَعْتُها إلَيْهِمَا بِذالِكَ؟ فَقَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأقْبَلَ عَلى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أنْشُدُكُمَا بِالله هَلْ دَفَعْتُها إلَيْكُمَا بِذالِكَ؟ قَالا: نَعَمْ. قَالَ: أفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذالِكَ؟ وَالَّذِي بِإذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ لَا أقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذالِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. فَإنْ عَجَزْتُمَا عَنْها فَادْفَعَاها فَأنا أكْفِيكُمَاها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْفق على أَهله نَفَقَة سنتها) الحَدِيث قد مضى فِي: بَاب فرض الْخمس زِيَادَة بعض الْأَلْفَاظ فِيهِ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة.
قَوْله: (يرفأ) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الرَّاء وبالفاء مهموزا وَغير مَهْمُوز. قَوْله: (اتئدوا) ، أَمر من الاتئاد وَهُوَ التأني وَعدم العجلة. قَوْله: (أنْشدكُمْ) ، بِضَم الشين أَي: أَسأَلكُم بِاللَّه. قَوْله: (لم يُعْطه غَيره) ، لِأَن الْفَيْء كُله على اخْتِلَاف فِيهِ كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَمَا احتازها) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي أَي: اجمعها لنَفسِهِ دونكم. قَوْله: (وَلَا اسْتَأْثر) أَي: لَا اسْتقْبل بهَا وَلَا تفرد بهَا. يُقَال: اسْتَأْثر فلَان بِهِ إِذا أَخذه لنَفسِهِ. قَوْله: (وبثها) ، أَي: فرقها. قَوْله: (هَذَا المَال) أَي: فدك وَنَحْوهَا. قَوْله: (نجْعَل مَال الله) أَي: مَوضِع جعل مَال الله فِيهِ، يَعْنِي: بَيت المَال. قَوْله: (وأنتما) ، مُبْتَدأ وَقَوله: (تزعمان) خَبره. قَوْله: (وَأَقْبل على عَليّ وعباس) جملَة حَالية مُعْتَرضَة. (كَذَا وَكَذَا) أَي: لَا يُعْطي ميراثنا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَالله يعلم أَنه) ، أَي: أَن أَبَا بكر. قَوْله: (صَادِق) ، أَي: فِي القَوْل. قَوْله: (بار) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء أَي: فِي الْعَمَل. قَوْله: (رَاشد) ، أَي: فِي الِاقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وأمركما جَمِيع) ، أَي: مُجْتَمع أَي: لم يكن بَيْنكُمَا مُنَازعَة. قَوْله: (من ابْن أَخِيك) ، أَي: لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (امْرَأَته) أَي: فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (من أَبِيهَا) أَي: نصِيبهَا الْكَائِن من أَبِيهَا وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ الرَّهْط) ، وهم: عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن وَالزُّبَيْر وَسعد. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَوْله: (فَأقبل) أَي: عمر على عَليّ وعباس قَوْله: (أفتلتمسان مني) ؟ أَي: أفتطلبان مني قَضَاء أَي حكما غير ذَلِك؟ أَي: غير مَا حكمت بِهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ هَذِه الْقِصَّة مشكلة فَإِنَّهُمَا أخذاها من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الشريطة واعترفا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: مَا تركنَا صَدَقَة فَمَا الَّذِي بدا لَهما بعد ذَلِك حَتَّى تخاصما؟ وَالْمعْنَى فِيهَا: أَنه كَانَ يشق عَلَيْهِمَا الشّركَة فطلبا أَن يقسم بَينهمَا كل مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّف فِيمَا يصير إِلَيْهِ فمنعهما عمر الْقسم لِئَلَّا يجْرِي عَلَيْهَا اسْم الْملك لِأَن الْقِسْمَة تقع فِي الْأَمْلَاك، ويتطاول الزَّمَان فيظن بِهِ الملكية.
4 - (بَابٌ وَقَالَ الله تعَالَى: {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنٍ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أرَادَ أنْ يَتِمَّ الرَّضَاعَةَ} إلَى قَوْلِهِ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الْبَقَرَة: 233)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {والوالدات} إِلَى قَوْله: (بَصِير) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والأكثرين: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين) إِلَى قَوْله: (بَصِير) وَهَذِه التَّرْجَمَة وَقعت فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بعد الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ قَوْله: (والوالدات يرضعن) خبر وَمَعْنَاهُ أَمر لما فِيهِ من الْإِلْزَام أَي: لترضع الوالدات أَوْلَادهنَّ يَعْنِي: الْأَوْلَاد من أَزوَاجهنَّ(21/17)
وَهُوَ أَحَق وَلَيْسَ ذَلِك بِإِيجَاب إِذا كَانَ الْمَوْلُود لَهُ حَيا مُوسِرًا لقَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النِّسَاء الْقصرى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} (الطَّلَاق: 6) على مايأتي، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بالوالدات هُنَا المبتوتات فَقَط وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن أجر الرَّضَاع على الزَّوْج إِذا خرجت الْمُطلقَة من الْعدة. وَاخْتلفُوا فِي ذَات الزَّوْج هَل تجبر على رضَاع وَلَدهَا؟ قَالَ ابْن أبي ليلى: نعم مَا كَانَت امْرَأَته، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي ثَوْر، وَقَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَالشَّافِعِيّ: لَا يلْزمهَا رضاعه وَهُوَ على الزَّوْج على كل حَال، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: تجبر على رضاعه إلاَّ أَن يكون مثلهَا لَا يرضع فَذَلِك على الزَّوْج. قَوْله: (حَوْلَيْنِ) مُدَّة الرَّضَاع. وَقَوله: (كَامِلين) مثل قَوْله: (تِلْكَ عشرَة كَامِلَة) (الْبَقَرَة: 96) .
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا} (الْأَحْقَاف: 15)
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة إِشَارَة إِلَى قدر الْمدَّة الَّتِي يجب فِيهَا الرَّضَاع. قَوْله: (وَحمله وفصاله) ، أَي: فطامه (ثَلَاثُونَ شهرا) وَهَذَا دَلِيل على أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر لِأَن مُدَّة الرَّضَاع حولان كاملان لقَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلين} (الْبَقَرَة: 233) فَيبقى للْحَمْل سِتَّة أشهر رُوِيَ عَن بعجة بن عبد الله الْجُهَنِيّ، قَالَ تزوج رجل منا امْرَأَة فَولدت لسِتَّة أشهر فَأتى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأمر برجمها فَأَتَاهُ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن الله عز وَجل يَقُول: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} قَالَ: {وفصاله فِي عَاميْنِ} وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا ذهبت رضاعته فَإِنَّمَا الْحمل سِتَّة أشهر.
وَقَالَ: {وَإنْ تَعَاسَرْ تُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} إلَى قَوْلِهِ: {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا} .
أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى مِقْدَار الْإِنْفَاق وَأَنه بِالنّظرِ لحَال الْمُنفق. قَوْله: (وَإِن تعاسرتم) ، أَي: فِي الْإِرْضَاع، فَأبى الزَّوْج أَن يُعْطي الْمَرْأَة أُجْرَة رضاعها وأبت الْأُم أَن ترْضِعه فَلَيْسَ لَهُ إكراهها على إرضاعه فسترضع لَهُ أُخْرَى فستوجد وَلَا تتعذر مُرْضِعَة غير الْأُم ترْضِعه، وَفِيه معاتبة الْأُم على المعاسرة أَي: سيجد الْأَب غير معاسرة ترْضع لَهُ وَلَده إِن عاسرته أمه. قَوْله: (لينفق ذُو سَعَة) ، أَي: ذُو مَوْجُود من سعته على قدر موجوده (وَمن قدر) أَي: وَمن ضيق عَلَيْهِ رزقه (فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله) أَي: فلينفق من ذَلِك الَّذِي أعطَاهُ الله، وَإِن كَانَ قَلِيلا (لَا يُكَلف بِاللَّه نفسا إِلَّا مَا أَتَاهَا) أَي: أَعْطَاهَا من المَال (سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا) أَي: بعد ضيق فِي الْمَعيشَة.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ: نَهَى الله أنْ تُضارَّ وَالِدَةٌ بِوَالِدِها وَذالِكَ أنْ تَقُولَ الوَالِدَةُ لَسْتُ مِرْضِعَتَهُ وَهِيَ أمْثَلُ لَهُ غِذَاءً وَأشْفَقُ عَلَيْهِ وَأرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِها، فَلَيْسَ لَهَا أنْ تَأبَى بَعْدَ أنْ يُعْطِيهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ الله عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أنْ يُضارَّ بِوَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَها أنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارا لَهَا إلَى غَيْرِها فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيْبِ نَفْسِ الوَالِدِ وَالوَالِدَةِ فَإنْ أرَادَ فِصالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ أنْ يَكُونَ ذالِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشاوُرٍ: فِصالُهُ فِطامُهُ.
أَي: قَالَ يُونُس بن يزِيد الْقرشِي الأبلي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الله بن وهب فِي (جَامعه) عَن يُونُس. قَالَ: قَالَ ابْن شهَاب فَذكره إِلَى قَوْله: (وتشاور) قَوْله: (نهى الله أَن تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا) ، وَذَلِكَ فِي قَوْله عز وَجل: {لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} قَالَ فِي التَّفْسِير لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا أَي بِأَن تَدْفَعهُ عَنْهَا لتضر أَبَاهُ بتربيته وَلَكِن لَيْسَ لَهَا دَفعه، إِذا وَلدته حَتَّى تسقيه اللباء الَّذِي لَا يعِيش بِدُونِ تنَاوله غَالِبا، ثمَّ بعد هذالها دَفعه عَنْهَا إِن شَاءَت، وَلَكِن إِن كَانَت مضارة لِأَبِيهِ فَلَا يحل لَهَا ذَلِك كَمَا لَا يحل لَهُ انْتِزَاعه مِنْهَا لمُجَرّد الضرار لَهَا. قَوْله: (وَهِي أمثل لَهُ) أَي: الوالدة أفضل للصَّغِير غذَاء أَي: من حَيْثُ الْغذَاء وأشفق عَلَيْهِ من غَيرهَا وأرفق بِهِ أَي: الصَّغِير من غَيرهَا. قَوْله: (فَلَيْسَ لَهَا أَن تأبى) أَي: لَيْسَ للوالدة أَن تمْتَنع بعد أَن يُعْطِيهَا الزَّوْج من نَفسه مَا جعل الله عَلَيْهِ من النَّفَقَة. قَوْله: (ضِرَارًا لَهَا) وَفِي بعض النّسخ ضِرَارًا بهَا. وَهُوَ(21/18)
يتَعَلَّق بقوله: (فيمنعها) أَي: منعا يَنْتَهِي إِلَى رضَاع غَيرهَا. قَوْله: (فَإِن أَرَادَ فصالاً) أَي: فَإِن أنْفق والدا الطِّفْل على فصاله قبل الْحَوْلَيْنِ ورأيا فِي ذَلِك مصلحَة لَهُ وتشاورا فِي ذَلِك واجتمعا عَلَيْهِ فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِي ذَلِك. فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن انْفِرَاد أَحدهمَا بذلك دون الآخر لَا يَكْفِي، وَلَا يجوز لوَاحِد مِنْهُمَا أَن يستبد بذلك من غير مُشَاورَة الآخر. قَوْله: (فصاله) فطامه، هَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس أخرجه الطَّبَرِيّ عَنهُ، والفصال مصدر تَقول: فاصلته أفاصله مفاصلة وفصالاً إِذا فارقته من خلْطَة كَانَت بَينهمَا، وفصال الْوَلَد مَنعه من شرب اللَّبن.
5 - (بَابُ: {نَفَقَةِ المَرْأةِ إذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُها وَنَفَقَةِ الوَلَدِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نَفَقَة الْمَرْأَة إِلَى آخِره.
5359 - حدَّثنا ابنُ مِقَاتِلٍ أخْبَرَنا عَبْدُ الله أخْبَرَنا يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهابٍ أخْبَرَنِي عُرْوَةُ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها. قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيالَنا؟ قَالَ: لَا، إلاّ بِالمَعْرُوفِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فِي نَفَقَة الْوَلَد فَقَط لِأَن أَبَا سُفْيَان كَانَ حَاضرا فِي الْمَدِينَة.
وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث.
قَوْله: (هِنْد بنت عتبَة) بِضَم الْعين وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن ربيعَة عبد شمس بن عبد منَاف أم مُعَاوِيَة أسلمت عَام الْفَتْح بعد إِسْلَام زَوجهَا أبي سُفْيَان بن حَرْب فأقرهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على نِكَاحهمَا، وَتوفيت فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَبُو قُحَافَة والذ أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسم أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف، مَاتَ فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه مُعَاوِيَة. وَقيل: عُثْمَان، وَدفن بِالبَقِيعِ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة. وَقيل: ابْن بضع وَتِسْعين سنة. قَوْله: (مسيك) بِفَتْح الْمِيم وَكسر السِّين الْمُهْملَة الْخَفِيفَة وبكسر الْمِيم وَتَشْديد السِّين يَعْنِي: بخيل لَا يُعْطي من مَاله شَيْئا. فَالْأول فعيل بِمَعْنى فَاعل، وَالثَّانِي صِيغَة مُبَالغَة، قَوْله: (حرج) أَي: إِثْم قَوْله: (من الَّذِي لَهُ) أَي: من الشَّيْء الَّذِي لَهُ مِمَّا يملكهُ. قَوْله: (عيالنا) مَنْصُوب بقوله: (أَن أطْعم) قَوْله: (قَالَ لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تطعمي إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا حرج عَلَيْك وَلَا تنفقي إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي يتعارفه النَّاس فِي النَّفَقَة على أَوْلَادهم من غير إِسْرَاف. وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تسرفي وأنفقي بِالْمَعْرُوفِ.
وَفِيه الدّلَالَة على وجوب نَفَقَة الْوَلَد.
3560 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَال: إذَا أنْفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِها عَنْ غَيْر أمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أجْرِهِ.
قيل: لَا وَجه لإيراد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، فَلَا مُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَمَا كَانَ للْمَرْأَة أَن تَتَصَدَّق من مَال زَوجهَا من غير أمره بِمَا تعلم أَنه يسمح بِمثلِهِ، وَهُوَ غير وَاجِب، كَانَ لَهَا أَن تَأْخُذ من مَاله بِمَا يجب عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الأولى. وَهَذَا هُوَ الْجَامِع بَين الْحَدِيثين، وَهَذَا الْقدر كافٍ فِي الْمُطَابقَة.
وَيحيى شيخ البُخَارِيّ قَالَ الْكرْمَانِي: أما يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خَتّ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَأما يحيى بن جَعْفَر بن أعين البيكندي البُخَارِيّ، سمع عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر بن رَاشد عَن همام بن مُنَبّه أخي وهب بن مُنَبّه. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى التَّرَدُّد فِي يحيى فَإِن الحَدِيث مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 26) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن وَصرح فِيهِ بقوله: حَدثنِي يحيى بن جَعْفَر عَن عبد الرَّزَّاق إِلَى آخِره.
قَوْله: (فَلهُ نصف أجره) وَوَجهه أَن ذَلِك من الطَّعَام الَّذِي يكون فِي الْبَيْت لأجل قوتهما جَمِيعًا. وَقيل المُرَاد بِغَيْر أمره الصَّرِيح بِأَن يَكْتَفِي فِي الْإِنْفَاق بِالْعَادَةِ أَو بالقرائن فِي الْإِذْن وَالْكَلَام المستوفي فِيهِ قد مر هُنَاكَ.(21/19)
6 - (بَابْ: {عَمَلِ المَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِها} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عمل الْمَرْأَة فِي بَيت زَوجهَا.
5361 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حدَّثني الحَكَمُ عنِ ابنِ أبِي لَيْلَى حدَّثنا عَلِيٌّ أنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلامُ، أتَتِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَشْكُو إلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِها مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَها أنهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذالِكَ لِعَائِشَةِ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أخَذْنا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنا نَقُومُ فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَها حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: أَلا أدُلُّكُما عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَألْتُما؟ إذَا أخَذْتُما مَضَاجِعَكُمَا أوْ أوَيْتُمَا إلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحا ثَلاثا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدا ثَلاثا وَثَلاثِينَ، وَكَبِّرَا أرْبَعا وَثَلاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُما مِنْ خَادِمٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تلقى فِي يَدهَا من الرَّحَى) وَهَذَا يدل على أَن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت تطحن، وَالَّتِي تطحن تعجن وتخبز، وَهَذَا من جملَة عمل الْمَرْأَة فِي بَيت زَوجهَا.
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عتيبة مصغر عتبَة الدَّار، وَابْن أبي ليلى هُوَ عبد الرَّحْمَن، وَاسم أبي ليلى يسارْ ضد الْيَمين.
والْحَدِيث مضى فِي الْخمس عَن بدل ابْن المحبر، وَفِي فضل عليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن بنْدَار وَسَيَأْتِي فِي الدَّعْوَات عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تَشْكُو إِلَيْهِ) ، حَال قَوْله: (مَا تلقى فِي يَدهَا) من الْمحل بِالْجِيم وَهُوَ ثخانة جلد الْيَد وَظُهُور مَا يشبه الْبشر فِيهَا من الْعَمَل بالأشياء الصلبة الخشنة. قَوْله: (من الرَّحَى) أَي: من إدارة رحى الْيَد. قَوْله: (وَبَلغهَا) أَي: بلغ فَاطِمَة (أَنه جَاءَهُ رَقِيق) من السَّبي. قَوْله: (فَلم تصادفه) بِالْفَاءِ أَي: لم ترهُ حَتَّى تلتمس مِنْهُ خَادِمًا. قَوْله: (فَذكرت ذَلِك) أَي: فَذكرت فَاطِمَة مَا تشكوه لعَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَوْله: (فَلَمَّا جَاءَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (أخْبرته) أَي: أخْبرت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَائِشَة بِأَمْر فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فجاءنا) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (وَقد أَخذنَا) الْوَاو فِيهِ للْحَال، والمضاجع جمع مَضْجَع وَهُوَ المرقد. قَوْله: (على مَكَانكُمَا) الْقَائِل هُوَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعَلي وَفَاطِمَة أَي: إلزماه مَكَانكُمَا وَلَا تتحركا مِنْهُ. قَوْله: (قَدَمَيْهِ) ويروى: قدمه. قَوْله: (خير) ، قيل: لَا شكّ أَن للتسبيح وَنَحْوه ثَوابًا عَظِيما، لَكِن كَيفَ يكون خيرا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مطلوبها وَهُوَ الإستخدام؟ وَأجِيب: لَعَلَّ الله تَعَالَى يُعْطي للمسبّح قُوَّة يقدر بهَا على الْخدمَة أَكثر مِمَّا يقدر الْخَادِم عَلَيْهِ، أَو يسهل الْأُمُور عَلَيْهِ بِحَيْثُ يكون فعل ذَلِك بِنَفسِهِ أسهل عَلَيْهِ من أَمر الْخَادِم بذلك، أَو أَن مَعْنَاهُ أَن نفع التَّسْبِيح فِي الْآخِرَة، ونفع الْخَادِم فِي الدُّنْيَا {وَالْآخِرَة خير وَأبقى} (الْأَعْلَى: 17) .
7 - (بَابُ: {خَادِمِ المَرْأَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان هَل يلْزم الزَّوْج بالخادم للْمَرْأَة.
5362 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ أبِي يَزِيدَ سَمِعَ مُجاهِدا سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ: أنَّ فَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلامُ، أتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَسْألُهُ خَادِما، فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ؟ تُسَبِّحِينَ الله عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلاثا وَثَلاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ الله ثَلاثا وَثَلاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ الله أرْبَعا وَثَلاثِينَ.
ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ: إحْدَاهُنَّ أرْبَعٌ وَثَلاثُونَ، فَمَا تَرَكْتُها بَعْدُ. قِيلَ: وَلا لَيْلَةَ صَفِّينَ؟ قَالَ: وَلا لَيْلَةَ صَفِّينَ.
هَذَا الحَدِيث هُوَ الْمَذْكُور قبله، وَلَكِن سِيَاقه أخصر، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: يُؤْخَذ مِنْهُ أَن كل من كَانَت بهَا طَاقَة من النِّسَاء على خدمَة بَيتهَا فِي خبز أَو طحن أَو غير ذَلِك أَن ذَلِك لَا يلْزم الزَّوْج إِذا كَانَ مَعْرُوفا أَن مثلهَا يَلِي ذَلِك بِنَفسِهِ، وَوجه الْأَخْذ أَن فَاطِمَة لما سَأَلت أَبَاهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَادِم لم يَأْمر زَوجهَا بِأَن يكفيها ذَلِك بإخدامها خَادِمًا، أَو اسْتِئْجَار من يقوم بذلك، أَو يتعاطى ذَلِك(21/20)
بِنَفسِهِ وَلَو كَانَت كِفَايَة ذَلِك لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأَمره بِهِ قلت: من هَذَا يُؤْخَذ مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة. ويوضحها، لِأَن قَوْله: بَاب خَادِم الْمَرْأَة، مُبْهَم وَفَسرهُ حَدِيث الْبَاب.
وَأخرج الحَدِيث عَن الْحميدِي وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى الْمَنْسُوب إِلَى حميد أحد أجداده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعبيد الله بن أبي يزِيد من الزِّيَادَة الْمَكِّيّ، وَحكى ابْن حبيب عَن إصبغ وَابْن الْمَاجشون عَن مَالك إِن خدمَة الْبَيْت تلْزم الْمَرْأَة وَلَو كَانَت الْمَرْأَة ذَات قدر وَشرف إِذا كَانَ الزَّوْج مُعسرا قَالَ: وَلذَلِك ألزم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِالْخدمَةِ الْبَاطِنَة، وعليا بِالْخدمَةِ الظَّاهِرَة وَحكى ابْن بطال أَن بعض الشُّيُوخ قَالَ: لَا نعلم فِي شَيْء من الْآثَار أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى على فَاطِمَة بِالْخدمَةِ الْبَاطِنَة، وَإِنَّمَا جرى الْأَمر بَينهم على مَا تعارفوه من حسن الْعشْرَة وَجَمِيل الْأَخْلَاق، وَأما أَن تجبر الْمَرْأَة على شَيْء من الْخدمَة فَلَا أصل لَهُ بل الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن على الزَّوْج مؤونة الزَّوْجَة كلهَا. وَنقل الطَّحَاوِيّ الْإِجْمَاع على أَنه لَيْسَ لَهُ إِخْرَاج خَادِم الْمَرْأَة من بَيته فَدلَّ على أَنه يلْزمه نَفَقَة الْخَادِم على حسب الْحَاجة، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ: يفْرض لَهَا ولخادمها النَّفَقَة إِذا كَانَت مِمَّن يخْدم، وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَمُحَمّد بن الْحسن: يفْرض لَهَا ولخادمين إِذا كَانَت خطيرة.
قَوْله: (ثمَّ قَالَ سُفْيَان: إِحْدَاهُنَّ أَربع وَثَلَاثُونَ) ، أَرَادَ أَن سُفْيَان قَالَ أَولا على التَّعْيِين التَّكْبِير أَربع وَثَلَاثُونَ، وَقَالَ آخرا على الْإِبْهَام: إِحْدَاهُنَّ أَربع وَثَلَاثُونَ. قَوْله: (فَمَا تركتهَا بعد) ، أَي: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا تركت التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير والتحميد على الْوَجْه الْمَذْكُور بعد أَن سمعته من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قيل: وَلَا لَيْلَة صفّين) ؟ أَي: قَالَ قَائِل لعَلي: وَلَا تركت هَذِه لَيْلَة صفّين، قَالَ: وَلَا تركتهَا لَيْلَة صفّين، وَهُوَ بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء الْمُشَدّدَة وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالنون، وَهُوَ مَوضِع بَين الْعرَاق وَالشَّام كَانَت فِيهِ وقْعَة عَظِيمَة بَين مُعَاوِيَة وَعلي، وَهِي مَشْهُورَة، وَأَرَادَ على أَنه لم يَمْنعنِي مِنْهَا عظم تِلْكَ اللَّيْلَة، وَعظم الْأَمر الَّذِي كنت فِيهِ.
8 - (بَابُ: {خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خدمَة الرجل بِنَفسِهِ فِي أَهله.
5363 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ: سألْتُ عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْهَا. مَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَصْنَعُ فِي البَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِي مِهْنَةِ أهْلِهِ، فَإذَا سَمِعَ الأذَانَ خَرَجَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ.
والْحَدِيث مر فِي الصَّلَاة فِي: بَاب من كَانَ فِي حَاجَة أَهله فأقيمت الصَّلَاة فَخرج، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن الحكم إِلَى آخِره، والمهنة بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْهَاء الْخدمَة.
وَفِيه: أَن خدمَة الدَّار وَأَهْلهَا سنة عباد الله الصَّالِحين. وَفِيه: فَضِيلَة الْجَمَاعَة لِأَن معنى قَوْله: (خرج) أَي: إِلَى الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة.
9 - (بَابٌ: {إذَا لَمْ يَنْفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أنْ تأخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَها بِالمَعْرُوفِ} )
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم ينْفق الرجل فللمرأة أَن تَأْخُذ بِغَيْر علمه مَا يكفيها وَوَلدهَا. قَوْله: (بِالْمَعْرُوفِ) ، أَي: بِاعْتِبَار عرف النَّاس فِي نَفَقَة مثلهَا وَنَفَقَة وَلَدهَا.
5364 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أخْبَرَنِي أبِي عَنْ عَائِشَةَ أنَّ هِنْدا بِنْتَ عُتَبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إنَّ أبَا سُفْيَان رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلاَّ مَا أخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير.
وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا قد مر عَن قريب قبل هَذَا بِثَلَاثَة أَبْوَاب، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَن هندا) ، كَذَا وَقع مصروفا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمَظَالِم الْمُتَقَدّمَة غير مَصْرُوف،(21/21)
وَقد علم أَن سَاكن الْوسط يجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ: الصّرْف وَتَركه، كَمَا فِي نوح ودعد وَنَحْوهمَا.
قَوْله: (شحيح) أَي: بخيل، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: رجل مسيك. قَوْله: (وَهُوَ لَا يعلم) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَقد احْتج بِهِ من قَالَ: تلْزمهُ نَفَقَة وَلَده وَإِن كَانَ كَبِير أورد بِأَنَّهَا وَاقعَة عين وَلَا عُمُوم فِي الْأَفْعَال، وَلَعَلَّ الْوَلَد فِيهِ كَانَ صَغِيرا وكبيرا زَمنا عَاجِزا عَن الْكسْب، وَبَعض الْمَالِكِيَّة. قَالَ: تلْزمهُ إِذا كَانَ زَمنا مُطلقًا.
وَفِيه: مَسْأَلَة الظفرة، وَقد تقدم ذكرهَا فِي الْمَظَالِم على تَفْصِيل وَاخْتِلَاف فِيهَا. وَفِيه: أَن وصف الْإِنْسَان بِمَا فِيهِ من النَّقْص على وَجه التظلم مِنْهُ، والصيرورة إِلَى طلب الانتصاف من حق عَلَيْهِ جَائِز وَلَيْسَ بغيبة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر عَلَيْهَا قَوْلهَا، وَاسْتدلَّ بعض الشَّافِعِيَّة على الْحَنَفِيَّة فِي مَنعهم الْقَضَاء على الْغَائِب بِقصَّة هِنْد لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى على زَوجهَا وَهُوَ غَائِب. قَالَت الْحَنَفِيَّة: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن هَذِه الْقَضِيَّة كَانَت بِمَكَّة، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضر.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مِقْدَار مَا يفْرض السُّلْطَان للزَّوْجَة على زَوجهَا. فَقَالَ مَالك: يفْرض لَهَا بِقدر كفايتها فِي الْيُسْر والعسر وَيعْتَبر حَالهَا من حَاله، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة: وَلَيْسَت مقدرَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: مقدرَة بِاجْتِهَاد الْحَاكِم فِيهَا. وَهِي تعْتَبر بِحَالهِ دونهَا. فَمن كَانَ مُوسِرًا فمدان كل يَوْم، وَإِن كَانَ متوسطا فَمد وَنصف، وَمن كَانَ مُعسرا فَمد، فَيجب لبِنْت الْخَلِيفَة مَا يجب لبِنْت الحارس.
10 - (بَابُ: {حِفْظِ المَرْأةِ زَوْجِها فِي ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب حفظ الْمَرْأَة زَوجهَا فِي ذَات يَده، يَعْنِي: فِي مَاله. قَوْله: (وَالنَّفقَة) ، أَي: وَفِي النَّفَقَة. وَهُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام، وَوَقع فِي بعض النّسخ، وَالنَّفقَة عَلَيْهِ. أَي: على الزَّوْج.
5365 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا ابنُ طَاوُوسِ عَنْ أبِيهِ وَأبُو الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صَغرِهِ وَأرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأرعاه على زوج فِي ذَات يَدَيْهِ) وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَابْن طَاوُوس عبد الله، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب إِلَى من ينْكح وَأي النِّسَاء خير.
قَوْله: (وَأَبُو الزِّنَاد) ، عطف على (ابْن طَاوُوس) وَحَاصِله أَن لِسُفْيَان فِيهِ شيخين: أَحدهمَا: ابْن طَاوُوس، وَالْآخر: أَبُو الزِّنَاد. قَوْله: (خير نسَاء ركبن الْإِبِل نسَاء قُرَيْش) ، حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة وَفِي آخر الحَدِيث يَقُول: أَبُو هُرَيْرَة. وَلم تركب مَرْيَم ابْنة عمرَان بَعِيرًا قطّ، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قد قَالَ: خير نسَاء ركبن الْإِبِل، وَذكر صَاحب (النَّجْم الثاقب) أَن أَبَا هُرَيْرَة فهم أَن الْبَعِير من الْإِبِل فَقَط وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يكون أَيْضا حمارا. قَالَ تَعَالَى: {وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم} (يُوسُف: 72) قَالَ ابْن خالويه: لم تكن إخْوَة يُوسُف ركبانا إلاَّ على أحمرة، وَلم يكن عِنْدهم إبل، وَلم يكن حملانهم فِي أسفارهم وَشبههَا إلاَّ على أحمرة، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد: الْبَعِير هُنَا الْحمار، وَهِي لُغَة حَكَاهَا الكواشي. قَوْله: (وَقَالَ الآخر) بِفَتْح الْخَاء (صَالح نسَاء قُرَيْش) أَرَادَ أَن أحد الِاثْنَيْنِ من ابْن طَاوُوس وَأَبُو الزِّنَاد الَّذِي سمع مِنْهُمَا سُفْيَان هَذَا الحَدِيث. قَالَ: (خير نسَاء ركبن الْإِبِل) وَقَالَ الآخر: (صَالح نسَاء قُرَيْش) وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان قَالَ أَحدهمَا: صَالح نسَاء قُرَيْش كَذَا بالإبهام، وَلَكِن بَين فِي رِوَايَة معمر عَن ابْن طَاوُوس عِنْد مُسلم، أَن الَّذِي زَاد لفظ: صَالح، هُوَ ابْن طَاوُوس، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: صُلَّح نسَاء قُرَيْش، بِضَم الصَّاد وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة وَهُوَ صِيغَة جمع. قَوْله: (أحناهُ على وَلَده) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة من الحنو وَهُوَ الْعَطف والشفقة وَهُوَ صِيغَة التَّفْضِيل من الحانية، وَقَالَ ابْن التِّين: هِيَ الَّتِي تقيم على وَلَدهَا فَلَا تتَزَوَّج، يُقَال: حَتَّى يحنى وحنا يحنو إِذا أشْفق، فَإِن تزوجت الْمَرْأَة لَيست بحانية. قَوْله: (وأرعاه) من الرِّعَايَة وَهِي الْحِفْظ أَو من الإرعاء وَهِي الْإِبْقَاء. فَإِن قلت: كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: إحناهن. قلت: الْعَرَب فِي مثله لَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إلاَّ مُفْرد أَو لَعَلَّه بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، أَو بِاعْتِبَار لفظ النِّسَاء.
(وَيُذْكرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابنِ عَبَّاسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)(21/22)
ذكر مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بِصِيغَة التمريض، أما الَّذِي رُوِيَ عَن مُعَاوِيَة فَأخْرجهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق زيد بن أبي عتاب عَن مُعَاوِيَة: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر مثل رِوَايَة ابْن طَاوُوس فِي جملَة أَحَادِيث، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا من طَرِيق شهر بن حَوْشَب: حَدثنِي ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب امْرَأَة من قومه يُقَال لَهَا سَوْدَة وَكَانَ لَهَا خَمْسَة صبيان أَو سِتَّة من بعل لَهَا مَاتَ، فَقَالَت لَهُ: مَا يَمْنعنِي مِنْك أَن لَا تكون أحب الْبَريَّة إِلَى إلاَّ أَنِّي أكرمك أَن تصفوا هَذِه الصبية عِنْد رَأسك، فَقَالَ لَهَا: يَرْحَمك الله إِن خير نسَاء ركبن أعجاز الْإِبِل صَالح نسَاء قُرَيْش الحَدِيث، وَقيل: يحْتَمل أَن تكون أم هانىء الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فلعلها كَانَت تلقب بسودة. قلت: الْمَشْهُور أَن اسْمهَا فَاخِتَة. وَقيل: هِنْد وَكَانَ إسْلَامهَا يَوْم الْفَتْح، وَلَيْسَت سَوْدَة هَذِه سَوْدَة بنت زَمعَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا قَدِيما بِمَكَّة بعد موت خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَدخل بهَا قبل أَن يدْخل بعائشة وَمَات وَهِي فِي عصمته.
11 - (بَابُ: {كِسْوَةِ المَرْأةِ بِالمَعْرُوفِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب كسْوَة الْمَرْأَة على زَوجهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَي: الَّذِي هُوَ الْمُتَعَارف فِي أَمْثَالهَا.
5366 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ: أخْبَرَنِي عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَيْسَرَةَ. قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بنَ وَهْبٍ عَنْ عَلِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: آتَى إلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حُلَّةَ سِيرَاءَ فَلَبِسْتُها فَرَأيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتُها بَيْنَ نِسَائِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فشققتها بَين نسَائِي) وَوجه ذَلِك من حَيْثُ أَن الَّذِي حصل لفاطمة من الْحلَّة قِطْعَة فرضيت اقتصادا بِحَسب الْحَال لَا إسرافا.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْهِبَة فِي: بَاب هَدِيَّة مَا يكره لبسه بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن.
قَوْله: (آتى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، بِالْمدِّ يَعْنِي: أعْطى ثمَّ ضمّن أعْطى معنى أهْدى أَو أرسل، فَلذَلِك عداهُ بإليّ بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي بَاب الْهِبَة. عَن عَليّ: أهْدى إِلَيّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بعث إليّ وَفِي رِوَايَة أَتَى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحرف الْجَرّ، وأتى بِمَعْنى جَاءَ فعلى هَذَا ترْتَفع حلَّة سيراء على الفاعلية وَيكون فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَأتى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلَّة سيراء فَأَعْطَانِيهَا فلبستها. وعَلى الْوَجْه الأول: حلَّة سيراء مَنْصُوب على المفعولية، والحلة إِزَار ورداء، وَقَالَ: أَبُو عبيد: لَا تسمى حلَّة حَتَّى تكون من ثَوْبَيْنِ، وسيراء بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالمد، وَهُوَ برد فِيهِ خطوط صفر، وَقيل: هِيَ مضلعة بالحرير، وَقيل: إِنَّهَا حَرِير مَحْض، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ضبطوا الْحلَّة بِالْإِضَافَة وبالتنوين. قَوْله: (فشققتها بَين نسَائِي) ، أَرَادَ بِهِ بَين فَاطِمَة وقراباته، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لم يكن لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، زَوْجَة غير فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَلَا سَرِيَّة ويروى: فشققتها خمرًا بَين الفواطم، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن للْمَرْأَة مَعَ النَّفَقَة على الزَّوْج الْكسْوَة وجوبا على قدر الْكِفَايَة لَهَا وعَلى قدر الْيُسْر والعسر.
12 - (بابُ: {عَوْنِ المَرْأَةِ زَوْجَها فِي وَلَدِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مندوبية عون الْمَرْأَة زَوجهَا فِي أَمر وَلَده، وَسقط فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لفظ وَلَده.
5367 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْروٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله، رَضِيَ الله عَنْهُما، قَالَ: هَلَكَ أبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أوْ تِسْعَ بَنَاتٍ، فَتَزَوَّجَتُ امْرَأةً ثَيْبا. فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتَزَوَّجْتَ يَا جَابِر؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: بِكْرا أمْ ثَيِّبا؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبا. قَالَ: فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاعِبُها وَتُلاعِبُكَ وَتُضَاحِكُها وَتُضَاحِكُكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ عَبْدَ الله هَلَكَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإنِّي كَرِهْتُ أنْ أجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتصْلِحُهُنَّ، فَقَالَ: بَارَكَ الله لَكَ أوْ قَالَ خَيْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه استنبط قيام الْمَرْأَة على ولد زَوجهَا من قيام امْرَأَة جَابر على أخواته وَعمر هُوَ ابْن دِينَار(21/23)
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن أبي النُّعْمَان وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي الرّبيع، وَيحيى، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (بمثلهن) أَي: صَغِيرَة لَا تجربة لَهَا فِي الْأُمُور. قَوْله: (أَو قَالَ: خيرا) شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ ابْن بطال: عون الْمَرْأَة زَوجهَا فِي وَلَده وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهَا وَإِنَّمَا هُوَ من جميل الْعشْرَة وَمن شِيمَة صالحات النِّسَاء.
13 - (بَابُ: {نَفَقَةِ المُعْسِرِ عَلَى أهْلِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نَفَقَة الْمُعسر على أَهله، أَي: على زَوجته أَو أَعم من ذَلِك.
5368 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ حدَّثنا ابنُ شِهابٍ عَنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ. قَالَ: أَتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَجُلٌ. فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: فأعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ. قَالَ: لَا أسْتَطِيعُ. قَالَ: فَأطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينا. قَالَ: لَا أجِدُ، فَأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَق فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: أيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: هَا أنَا ذَا. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهاذا. قَالَ: عَلَى أحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ الله؟ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا بَيْنَ لابَتَيْها أهْلُ بَيْتٍ أحْوَجُ مِنَّا. فَضَحِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ. قَالَ: فَأنْتُمْ إِذا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِثْبَات نَفَقَة الْمُعسر على أَهله حَيْثُ قدمهَا على الْكَفَّارَة بتجويز صرف مَا فِي الْعرق إِلَى أَهله دون كَفَّارَته.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّوْم فِي بَابَيْنِ: الأول: بَاب إِذا جَامع فِي رَمَضَان، وَالثَّانِي: بَاب المجامعة فِي رَمَضَان، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بعرق) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالراء وبالقاف وَهُوَ السلَّة المنسوجة من الخوص تسع خَمْسَة عشر صَاعا. قَوْله: (لابتيها) أَي: لَا بتي الْمَدِينَة وهما الحرتان اللَّتَان تكتنفان الْمَدِينَة. قَوْله: (فَأنْتم إِذا) أَي: فَأنْتم أَحَق حِينَئِذٍ، وَفِي رِوَايَة: فاطعم أهلك.
14
- (بَابٌ: {وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ} وَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنٍ أحَدُهُما أبْكَمْ} إلَى قَوْلِهِ: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الْبَقَرَة: 233)
)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك} وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، {وعَلى الْوَارِث} إِلَى قَوْله: أَحدهمَا: أبكم الْآيَة. وَلم يَقع قَوْله: (إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم) إلاَّ فِي رِوَايَة غَيره. قَوْله: (وعَلى الْوَارِث) ، اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيله. فَعَن ابْن عَبَّاس: مثل ذَلِك أَي: فِي عدم الضرار بقريبه، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَالشعْبِيّ، وَالضَّحَّاك، وَقَالَت طَائِفَة: مَا كَانَ على الْوَارِث من أجر الرَّضَاع إِذا كَانَ الْوَلَد لَا مَال لَهُ، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا غرم على أحد من الْوَرَثَة وَلَا يلْزمه نَفَقَة ولد الْمَوْرُوث.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بالوارث، فَقَالَ الْحسن وَالنَّخَعِيّ: كل من يَرث الْأَب من الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: هُوَ من كَانَ ذَا رحم محرم للمولود دون غَيره، وَقَالَ قبيصَة بن ذُؤَيْب: هُوَ الْمَوْلُود نَفسه، وَقَالَ: زيد بن ثَابت: إِذا خلف أما وَعَما فعلى كل وَاحِد مِنْهُمَا إِرْضَاع الْوَلَد بِقدر مَا يَرث، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ. قَوْله: (وَهل على الْمَرْأَة مِنْهُ شَيْء) ، أَي: من رضَاع الصَّبِي، وَهل هُنَا للنَّفْي، وَأَشَارَ بِهِ البُخَارِيّ إِلَى الرَّد على قَول الثَّوْريّ الْمَذْكُور، وَشبه مِيرَاث الْمَرْأَة من الْوَارِث بِمَنْزِلَة الأبكم الَّذِي لَا يقدر على النُّطْق من الْمُتَكَلّم، وَجعلهَا كلاًّ على من يعولها. وَقَالَ ابْن بطال: وَأَشَارَ إِلَى رده بقوله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا} فَنزل الْمَرْأَة من الْوَارِث بِمَنْزِلَة الأبكم من الْمُتَكَلّم. قَوْله: (إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم) ، يَعْنِي: من قَوْله: {وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قَالَ الله تَعَالَى: مثلكُمْ فِي إشراككم بِاللَّه الْأَوْثَان مثل من سوّى بَين عبد مَمْلُوك عَاجز عَن التَّصَرُّف وَبَين حرّ مَالك. قد رزقه الله مَالا يتَصَرَّف فِيهِ وينفقه كَيفَ يشار. قَوْله: (أَيّكُم) ، هُوَ الَّذِي ولد أخرس فَلَا يَفهم وَلَا يُفهمّ وَهُوَ كلٌّ أَي: ثقل وعيال على من يَلِي أمره. قَوْله: (أَيْنَمَا يوجهه) ، أَي: حَيْثُمَا يُرْسِلهُ ويصرفه فِي طلب حَاجَة أَو كِفَايَة مهمٍّ (لَا يَأْتِ بِخَير) لَا ينفع وَلَا يأتى بنجحٌ هَل يَسْتَوِي هُوَ(21/24)
وَمر هُوَ سليم الْحَواس نفاع ذُو كفايات مَعَ رشد وديانة؟ فَهُوَ يَأْمر النَّاس بِالْعَدْلِ وَالْخَيْر وَهُوَ فِي نَفسه على صِرَاط مُسْتَقِيم؟ .
5369 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا وُهَيْبٌ أخْبَرنا هِشامٌ عَنْ أبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أُُمِّ سَلَمَةِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله {هَلْ لِي مِنْ أجْرٍ فِي بَنِي أبِي سَلَمَةَ أنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هاكَذا وَهاكذا إنَّما هُمْ بَنيَّ؟ قَال: نَعَمْ لَكِ أجْرُ مَا أنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أم الصَّبِي كلٌّ على أَبِيه فَلَا يجب عَلَيْهَا نَفَقَة بنيها، وَلِهَذَا لم يَأْمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم سَلمَة بِالْإِنْفَاقِ على بنيها، وَإِنَّمَا قَالَ: لَك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم.
وهيبَ مصغر وهبَ ابْن خَالِد يروي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن زَيْنَب ابْنة أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد المخزومية ربيبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تروي عَن أمهَا أم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث هُوَ فِي: بَاب الزَّكَاة على الزَّوْج والأيتام فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن عَبدة عَن هِشَام عَن أَبِيه الخ.
قَوْله: (أَن أنْفق) ، أَي: بِأَن أنْفق فَإِن مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِم. قَوْله: (وَلست بتاركتهم هَكَذَا وَهَكَذَا) ، يَعْنِي: مُحْتَاجين. قَوْله: (إِنَّمَا هم بني) أَي: إِنَّمَا بَنو أبي سَلمَة هم بني أَيْضا، وَأَصله: بنُون فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم صَار بنوي، فاجتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأدغمت الْوَاو فِي الْيَاء فَصَارَ بني بِضَم النُّون ثمَّ أبدلت ضمة النُّون كسرة لأجل الْيَاء فَصَارَ: بني. قَوْله: (قَالَ: نعم) ، أَي: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نعم أنفقي عَلَيْهِم لَك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم. أَي: لَك أجر الْإِنْفَاق عَلَيْهِم.
5370 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ هِشامٍ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنها. قَالَتْ: هِنْدٌ: يَا رَسُولَ الله} إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُناحٌ أنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ؟ قَالَ: خُذِي بِالْمَعْرُوفِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (خذي بِالْمَعْرُوفِ) حَيْثُ لم يأمرها بِالْإِنْفَاقِ من مَالهَا. وَإِنَّمَا قَالَ: خذي من مَال أبي سُفْيَان بِمَا يتعارفه النَّاس بِالْإِنْفَاقِ فِي مثلك وَفِي مثل أولادك.
والْحَدِيث قد مر عَن قريب، وسُفْيَان الرَّاوِي هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (وَبني) ، أَي: وَمَا يَكْفِي بني، وإعلاله قد مر الْآن.
15 - (بَابُ: {قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ تَرَكَ كَلاًّ أوْ ضَياعا فَإلَيَّ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره فالكَلَّ بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام بِالتَّنْوِينِ أَي: ثقلاً من دين وَنَحْوه، وَقَالَ ابْن فَارس: الْكل الْعِيَال والثقل والضياع بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة الْهَلَاك أَي: الَّذِي لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَو خلي وطبعه لَكَانَ فِي معرض الْهَلَاك، قيل: الضّيَاع بِالْكَسْرِ جمع ضائع. قَوْله: (إِلَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء وَمَعْنَاهُ: فينتهي ذَلِك إِلَيّ وَأَنا أتداركه، وَهُوَ بِمَعْنى: عَليّ. أَي: فعليّ قَضَاؤُهُ وَالْقِيَام بمصالحه قَالَ التَّيْمِيّ: فحوالة ذَلِك إليّ.
5371 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شهابٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عنهُ، أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُؤْتي بِالرَّجُلِ المُتَوفى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيسألُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلاً؟ فَإنْ حُدِّثَ أنَّهُ تَرَكَ وَفاءً صَلَّى، وَإلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ الفُتُوحَ. قَالَ: أنَا أوْلَى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ. فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنينَ فَترك دَيْناً فعلى قَضَاؤُهُ وَمن ترك مَالا فلورثته.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث مضى فِي الْكفَالَة فِي: بَاب الدّين، فَأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله:(21/25)
(فضلا) ، أَي: مَا لَا يَفِي بِالدّينِ فضلا من الله تَعَالَى، ويروى قضاهُ، ويروى: وَفَاء. قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يتْرك وَفَاء. (قَالَ للْمُسلمين: صلوا على صَاحبكُم) وامتناعه عَن الصَّلَاة على الْمَدْيُون تحذيرا من الدّين وزجرا عَن المماطلة، وَكَرَاهَة أَن يُوقف دعاؤه عَن الْإِجَابَة بِسَبَب مَا عَلَيْهِ من مظلمه الْحق.
16 - (بابُ: {المَرَاضِعِ مِنَ المَوَالِياتِ وَغَيْرِهِنَّ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَانه حكم المراضع من المواليات. وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي رِوَايَة بِضَم الْمِيم وَبِفَتْحِهَا فِي أُخْرَى، وَالْأول أولى لِأَنَّهُ إسم فَاعل من والى يوالي. قلت: على قَوْله: (يكون) ، مواليات جمع موالية وَلَيْسَ كَمَا قَالَه، بل الأولى أَن يضْبط الْمِيم بِالْفَتْح جمع مولاة الَّتِي هِيَ الْأمة وَلَيْسَت من الْمُوَالَاة. وَقَالَ ابْن بطال: الْأَقْرَب أَن يُقَال: الموليات جمع مولاة والموليات جمع مولى جمع التكسير، ثمَّ جمع جمع السَّلامَة بِالْألف وَالتَّاء فَصَارَ: مواليات. وَقَالَ: كَانَت الْعَرَب فِي أول أمرهَا تكره رضَاع الْإِمَاء وتحب العربيات طلبا لنجابة الْوَلَد فَأَرَاهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قد رضع من غير الْعَرَب وَأَن رضَاع الْإِمَاء لَا يهجن.
5372 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ أخبرَنِي عُرْوَةُ أنَّ زَيْنَبَ ابُنَةَ أبِي سَلمَة أخْبرته أنَّ أُمَّ حَبيبةَ زَوْجَ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: قلت يَا رَسُول الله أنكح أُخْتِي ابْنة أبي سُفْيَانَ. قَالَ: وَتُحبِّينَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وأحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الخَيْرِ أُخْتِي. فَقَالَ: إنَّ ذلِكَ لَا يَحِلُّ لِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! فَوَالله إنّا نَتَحَدَّثُ أنَّكَ تُرِيدُ أنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ ابْنَةَ أبِي سَلَمَةَ. فَقَالَ: ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَالله لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّها ابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ أرْضَعَتْنِي وَأبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أخْوَاتِكُنَّ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنِ الزّهْرِيِّ: قَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ أعْتَقَها أبُو لَهَبٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {أرضعتني وَأَبا سَلمَة ثوبية} (النِّسَاء: 23) وَكَانَت ثوبية مولاة أبي لَهب فأرضعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يكره رضَاع الْأمة.
والْحَدِيث قد مضى فِي النِّكَاح فِي: بَاب {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَأم حَبِيبَة اسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان وَاسم أُخْتهَا عزة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي.
قَوْله: (بمخلية) إسم فَاعل من أخليت الْمَكَان إِذا صادفته خَالِيا، وأخليت غَيْرِي يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى. قَوْله: (درة) بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَأَرَادَ أَن درة لَا تحل لَهُ من جِهَتَيْنِ: كَونهَا ربيبتي، وَكَونهَا بنت أخي، وَاسْتِعْمَال: لَو هَاهُنَا كاستعماله فِي نعم العَبْد صُهَيْب لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ. قَوْله: (ثوبية) بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: جَارِيَة أبي لَهب عبد الْعُزَّى عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أعْتقهَا حِين بَشرته بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (وَقَالَ شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ) إِلَى آخِره، تَعْلِيق مر فِي حَدِيث مَوْصُول فِي أَوَائِل كتاب النِّكَاح، وَأَرَادَ بِذكرِهِ هُنَا إِيضَاح أَن ثوبية كَانَت مولاة ليطابق التَّرْجَمَة.
7 - (كتابُ: {الأَطْعِمَةِ} )
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَنْوَاع الْأَطْعِمَة وأحكامها، وَهُوَ جمع طَعَام. قَالَ الْجَوْهَرِي: الطَّعَام مَا يُؤْكَل وَرُبمَا خص بِالطَّعَامِ الْبر والطعم بِالْفَتْح مَا يُؤَدِّيه ذوف الشَّيْء من حلاوة ومرارة وَغَيرهمَا، والطعم بِالضَّمِّ الْأكل يُقَال: طعم يطعم طعما فَهُوَ طاعم إِذا أكل أَو ذاق مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 57، 172) وَقَوْلِهِ: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (الْبَقَرَة: 167) وَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا} (الْمُؤْمِنُونَ: 51)(21/26)
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على الْأَطْعِمَة، هَذِه من ثَلَاث آيَات الأولى: قَول تَعَالَى: {من طَيّبَات مَا رزقناكم} (الْبَقَرَة: 172) أَولهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَمر الله تَعَالَى عباده الْمُؤمنِينَ بِالْأَكْلِ من طَيّبَات مَا رزقهم الله تَعَالَى، وَأَن يشكروه على ذَلِك إِن كَانُوا عبيده، وَالْأكل من الْحَلَال سَبَب لتقبل الدُّعَاء وَالْعِبَادَة كَمَا أَن الْأكل من الْحَرَام يمْنَع قبُول الدُّعَاء وَالْعِبَادَة. وَالثَّانيَِة: من قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 67) وَوَقع هُنَا: {كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَهِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَفِي أَكثر الرويات أَنْفقُوا على وفْق التِّلَاوَة وَقَالَ ابْن بطال وَقع فِي النّسخ {كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَهُوَ وهم من الْكَاتِب وَصَوَابه: {أَنْفقُوا} كَمَا فِي الْقُرْآن. وَالثَّالِثَة: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} (الْمُؤْمِنُونَ: 5) المُرَاد بالطيبات: الْحَلَال.
5373 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَال: أطْعِمُوا الجَائِعَ وَعُودوا المَرِيضَ وَفُكَوا الْعانِي.
قَالَ سُفْيَانُ: وَالعَانِي الأسِيرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث مضى فِي النِّكَاح فِي: بَاب حق إِجَابَة الْوَلِيمَة، وَلَفظه: فكوا العاني وأجيبوا الدَّاعِي وعودوا الْمَرِيض، وَمضى أَيْضا فِي الْجِهَاد فِي: بَاب فكاك الْأَسير، وَلَفظه: فكوا العاني، يَعْنِي: الْأَسير، وأطعموا الجائع، وعودوا الْمَرِيض.
قَوْله: (فكوا) من فَككت الشَّيْء فانفك. قَوْله: (العاني) من عَنَّا يعنو فَهُوَ عان، وَالْمَرْأَة عانية، وَالْجمع: عوان، وكل من ذل واستكان فقد عَنَّا.
5374 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ عَيسى حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا شَبِعَ آل مُحَمَّدٍ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ويوسف بن عِيسَى أيو يَعْقُوب الْمروزِي، وَمُحَمّد بن فُضَيْل، مصغر فضل، بِالْمُعْجَمَةِ يروي عَن أَبِيه فُضَيْل بن غَزوَان بن جرير، وَأَبُو الفضيل الْكُوفِي يروي عَن أبي حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (مَا شبع آل مُحَمَّد) ، آل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَهله الأدنون وعشيرته الأقربون. قَوْله: (ثَلَاثَة أَيَّام) ، أَي: مُتَوَالِيَات، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ثَلَاث لَيَال، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن المُرَاد بِالْأَيَّامِ هُنَا بلياليها كَمَا أَن المُرَاد بالليالي هُنَاكَ بأيامها وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ، من طَرِيق الْأسود عَن عَائِشَة: مَا شبع من خبز شعير يَوْمَيْنِ مُتَتَابعين. قَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر أَن سَبَب عدم شبعهم غَالِبا كَانَ بِسَبَب قلَّة الشَّيْء عِنْدهم. قلت: لم يكن ذَلِك إلاَّ لإيثارهم الْغَيْر، أَو لِأَن الشِّبَع مَذْمُوم، وأجمعت الْعَرَب كَمَا قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض على أَن الشِّبَع من الطَّعَام مَذْمُوم ولوم، وَنَصّ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، على أَن الْجُوع يذكي، وروى عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا: من قلَّ طعمه صَحَّ بَطْنه وَصفا قلبه، وَمن كثر طعمه سقم بَطْنه وقسا قلبه، وَرُوِيَ: لَا تميتوا الْقُلُوب بِكَثْرَة الطَّعَام وَالشرَاب فَإِن الْقلب ثَمَرَة كالزرع إِذا كثر عَلَيْهِ المَاء انْتهى، وروى الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) من حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب مَرْفُوعا: مَا مَلأ ابْن آدم وعَاء شرا من بَطْنه، فَحسب الرجل من طَعَامه مَا أَقَامَ صلبه.
وَعَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أصَابَنِي جِهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ فَاسْتَقْرَأتُهُ آيَةً مِنْ كِتابِ الله، فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَليَّ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الجَهْدِ وَالجُوعِ، فَإذَا رَسُولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِمٌ عَلَى رأسِي، فَقَال: يَا أَبا هُرَيْرَة فَقلت: لَبَيْكَ رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ، فَأخَذَ بِيَدِي فَأقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي، فَانْطَلَقَ بِي إلَى رَحْلِهِ، فَأمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: عُدْ فَاشْرَبْ يَا أبَا هرٍّ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالقِدْحِ، قَالَ فَلَقِيتُ عُمَرَ، وَذَكَرْتُ لهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أمْرِي، وَقُلْتُ لهُ: تَوَلَّى الله تَعَالَى ذالِكَ مَنْ كَانَ أحَقَّ بِهِ مِنْكَ(21/27)
يَا عُمَرُ، وَالله لَقَدِ اسْتَقَرَأتُكَ الآيَةَ وَلأنَا أقْرَأُ لَهَا مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: وَالله لأنْ أكُونَ أدْخَلْتُكَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {فَأمر لي بعس من لبن فَشَرِبت مِنْهُ} قَوْله: (وَعَن أبي حَازِم) ، مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم، وَقد أخرجه أَبُو يعلى عَن عبد الله بن عمر بن أبان عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل: بِسَنَد البُخَارِيّ فِيهِ. قَوْله: (جهد) الْجهد بِالضَّمِّ الطَّاقَة وبالفتح الْغَايَة وَالْمَشَقَّة، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا الْجُوع الشَّديد. قَوْله: (فاستقرأته) أَي: سَأَلته أَن يقْرَأ عَليّ آيَة من الْقُرْآن مُعينَة على طَرِيق الاستفادة، وَفِي كثير من النّسخ: فاستقريته بِغَيْر همز وَهُوَ جَائِز لِأَنَّهُ سُهَيْل قَوْله: (وَفتحهَا على) أَي: أَقْرَأَنيهَا، وَفِي (الْحِلْية) لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة، أبي هُرَيْرَة من وَجه آخر عَنهُ، أَن الْآيَة الْمَذْكُورَة من آل عمرَان. وَفِيه: أَقْرَأَنِي وَأَنا لَا أُرِيد الْقِرَاءَة. إِنَّمَا أُرِيد الْإِطْعَام فَلم يفْطن عمر مُرَاده. قَوْله: (فَخَرَرْت لوجهي) ويروى: على وَجْهي، أَي: سَقَطت من خر يخر بِالضَّمِّ وَالْكَسْر إِذا سقط من علو. وَفِي (الْحِلْية) وَكَانَ يَوْمئِذٍ صَائِما. قَوْله: (فَإِذا) كلمة مفاجأة. قَوْله: (إِلَى رَحْله) أَي: إِلَى مَسْكَنه. قَوْله: (بعس) بِضَم الْعين وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وَهُوَ الْقدح الْعَظِيم. قَوْله: (حَتَّى اسْتَوَى بَطْني) أَي: حَتَّى استقام لامتلائه من اللَّبن. قَوْله: (كالقدح) بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَهُوَ السهْم الَّذِي لَا ريش لَهُ. قَوْله: (تولى الله تَعَالَى) من التَّوْلِيَة وَالْفَاعِل هُوَ الله وَمن مفعول ويروى: تولى ذَلِك أَي: بَاشرهُ من إشباعي وَدفع الْجُوع عني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ولانا) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد وَهُوَ مُبْتَدأ أَو قَوْله: (واقرأ لَهَا) خَبره أَي: لِلْآيَةِ الَّتِي فتحهَا عَلَيْهِ عمر، واقرأ أفعل التَّفْضِيل. قَالَ بَعضهم: فِيهِ إِشْعَار بِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما قَرَأَهَا عَلَيْهِ توقف فِيهَا أَو فِي شَيْء مِنْهَا حَتَّى سَاغَ لأبي هُرَيْرَة مَا قَالَ: وَلذَلِك أقره عمر عَلَيْهِ قلت لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك عتبا على عمر حَيْثُ لم يفْطن حَاله وَلم يكن قَصده الاستقراء بل كَانَ قَصده أَن يطعمهُ شَيْئا، ويوضح هَذَا مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: وَالله مَا اسْتَقر أَنه الْآيَة، وَأَنا أَقرَأ بهَا مِنْهُ إلاّ طَمَعا فِي أَن يذهب بِي ويطعمني، وَأما قَوْله: وَلذَلِك أقره عمر عَلَيْهِ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه من استحيائه مِنْهُ حَيْثُ لم يطعمهُ سكت عَنهُ وَلم يُنكر عَلَيْهِ وَفِي الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل نوع نقص فِي حق عمر، على مَا لَا يخفى. قَوْله: (لِأَن أكون) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد. قَوْله: (أدخلتك أحب إليَّ من حمر النعم) أَرَادَ بِهِ أَن ضيافتك كَانَت عِنْدِي أحب إليّ من حمر النعم أَي: النعم أَي: الْحمر الْإِبِل، وَهُوَ أشرف أَمْوَال الْعَرَب، وَلَفظ: أحب، أفعل التَّفْضِيل بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهَذَا حث من عمر وحرص على فعل الْخَيْر والمواساة.
وَفِي الحَدِيث: التَّعْرِيض بِالْمَسْأَلَة والاستحياء. وَفِيه: ذكر الرجل مَا كَانَ أَصَابَهُ من الْجهد. وَفِيه: إِبَاحَة الشِّبَع عِنْد الْجُوع. وَفِيه: مَا كَانَ السّلف عَلَيْهِ من الصَّبْر على الْقلَّة وشظف الْعَيْش وَالرِّضَا باليسير من الدُّنْيَا. وَفِيه: ستر الرجل حِيلَة أَخِيه الْمُؤمن إِذا علم مِنْهُ حَاجَة من غير أَن يسْأَله ذَلِك. وَفِيه: أَنه كَانَ من عَادَتهم إِذا استقرأ أحدهم صَاحب الْقُرْآن يحملهُ إِلَى بَيته ويطعمه مَا تيَسّر عِنْده، وَالله أعلم.
2 - (بَابُ: {التسْمِيَةِ عَلَى الطعَّامِ وَالأكْلِ بِالْيَمِينِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التسيمة على الطَّعَام، أَي: القَوْل باسم الله فِي ابْتِدَاء الْأكل وأصرح مَا ورد فِي صفة التَّسْمِيَة مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق أم كُلْثُوم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مَرْفُوعا إِذا أكل أحدكُم الطَّعَام فَلْيقل: بِسم الله فَإِن نسي فِي أَوله فَلْيقل بِسم الله أَوله وَآخره، وَالْأَمر بِالتَّسْمِيَةِ عِنْد الْأكل مَحْمُول على النّدب عِنْد الْجُمْهُور، وَحمله بَعضهم على الْوُجُوب لظَاهِر الْأَمر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: اسْتِحْبَاب التَّسْمِيَة فِي ابْتِدَاء الطَّعَام مجمع عَلَيْهِ، وَكَذَا يسْتَحبّ حمد الله فِي آخِره. قَالَ الْعلمَاء: يسْتَحبّ أَن يجْهر بالتسيمة لينبه غَيره فَإِن تَركهَا عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا أَو مكْرها أَو عَاجِزا لعَارض ثمَّ تمكن فِي أثْنَاء أكله يسْتَحبّ لَهُ أَن يُسَمِّي، وَتحصل التَّسْمِيَة بقوله: بِسم الله فَإِن اتبعها بالرحمان الرَّحِيم كَانَ حسنا، وَيُسمى كل وَاحِد من الآكلين. وَقَالَ الشَّافِعِي، فَإِن سمى وَاحِد مِنْهُم حصلت التَّسْمِيَة. قَوْله: (وَالْأكل بِالْيَمِينِ) بِالْجَرِّ عطف على التَّسْمِيَة أَي: وَفِي بَيَان الْأكل بِالْيَمِينِ، وَيَأْتِي عَن قريب فِي حَدِيث عمر بن أبي سَلمَة: يَا غُلَام اسْم الله وكُلْ بيمينك وكُل مِمَّا يليك، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: الْأَمر بِالْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ وَالْأكل بِالْيَمِينِ حمله أَكثر أَصْحَابنَا على النّدب، وَبِه صرح الْغَزالِيّ وَالنَّوَوِيّ، وَقد نَص الشَّافِعِي فِي (الْأُم) على وُجُوبه، وَزعم الْقُرْطُبِيّ أَن الْأكل بِالْيَمِينِ مَحْمُول على النّدب، وَلِأَنَّهُ من بَاب تشريف الْيَمين، وَلِأَنَّهَا أقوى فِي الْأَعْمَال(21/28)
وأسبق وَأمكن وَلِأَنَّهَا مُشْتَقَّة من الْيمن وَالْبركَة وَفِي حَدِيث أبي دَاوُد: يَجْعَل يَمِينه لطعامه وَشَرَابه وشماله لما سوى ذَلِك، فَإِن احْتِيجَ إِلَى الِاسْتِعَانَة بالشمال فبحكم التّبعِيَّة، وَذكر الْقُرْطُبِيّ أَن الْأكل مِمَّا يَلِي الْآكِل سنة مُتَّفق عَلَيْهَا وخلافها مَكْرُوه شَدِيد الاستقباح إِذا كَانَ الطَّعَام وَاحِدًا.
5376 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله أخْبَرَنا سُفْيَانُ قَالَ: الوَلِيدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنِي أنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ ابنَ كَيْسَانَ أنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بنَ أبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلاما فِي حَجْرِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ. فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا غُلامُ: سَمِّ الله وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة. وَهُوَ قَوْله: وَالْأكل بِالْيَمِينِ، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (قَالَ: الْوَلِيد بن كثير) بالثاء الْمُثَلَّثَة المَخْزُومِي الْقرشِي من أهل الْمَدِينَة (أَخْبرنِي أَنه) أَي: أَن الْوَلِيد سمع وهب بن كيسَان مولى عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، وَهَكَذَا وَقع أخبرنَا سُفْيَان قَالَ: الْوَلِيد بن كثير أَخْبرنِي أَنه سمع وهب بن كيسَان، وَآخر لَفظه: أَخْبرنِي، وَزَاد لفظ: قَالَ: وَهَذَا التَّصَرُّف من الرَّاوِي جَائِز وَقد أخرجه الْحميدِي فِي (مُسْند) وَأَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيقه عَن سُفْيَان. قَالَ: حَدثنَا الْوَلِيد بن كثير إِلَى آخِره، وَعمر بن أبي سَلمَة بن عبد الْأسد بن هِلَال ابْن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم، وَاسم أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد وَأمه برة بنت عبد الْمطلب بن هَاشم وَأم عمر الْمَذْكُور هِيَ أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ربيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَله أَحَادِيث توجب لَهُ فضل الصُّحْبَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَالَ عمره.
قَوْله: (كنت غُلَاما) أَي: دون الْبلُوغ، يُقَال للصَّبِيّ من حِين يُولد إِلَى أَن يبلغ غُلَام، وَقد ذكر ابْن عبد الْبر أَنه ولد فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة بِأَرْض الْحَبَشَة وَتَبعهُ غير وَاحِد، قيل: فِيهِ نظر بل الصَّوَاب أَنه ولد قبل ذَلِك، فقدصح فِي حَدِيث عبد الله بن الزبير أَنه قَالَ: كنت أَنا وَعمر بن أبي سَلمَة مَعَ النسْوَة يَوْم الخَنْدَق، وَكَانَ أكبر مني بِسنتَيْنِ، ومولد ابْن الزبير فِي السّنة الأولى على الصَّحِيح، فَيكون مولد عمر قبل الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ انْتهى. قلت: فِي نظر هَذَا الْقَائِل نظر، لِأَن ابْن عبد الْبر ذكر: قيل: إِن عمر كَانَ يَوْم قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن تسع سِنِين، ففهم. قَوْله: (فِي حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ضَبطه بَعضهم بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الْجِيم، أَي: فِي تَرْبِيَته وَتَحْت نظره، وَأَنه يربيه فِي حضنه تربية الْوَلَد وَاقْتصر عَلَيْهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي حجره بِفَتْح الْمُهْملَة وَكسرهَا وَهُوَ الصَّوَاب بل الأصوب بِالْكَسْرِ على مَا تَقول، وَقَالَ عِيَاض: الْحجر يُطلق على الحضن وعَلى الثَّوْب فَيجوز فِيهِ الْفَتْح وَالْكَسْر، وَإِذا أُرِيد بِهِ الْحَضَانَة فبالفتح لَا غير، وَإِن أُرِيد بِهِ الْمَنْع من التَّصَرُّف فبالفتح فِي الْمصدر وبالكسر فِي الِاسْم لَا غير، وَفِي (الْمغرب) حجر الْإِنْسَان بِالْفَتْح وَالْكَسْر: حضنه، وَهُوَ مَا دون أبطه إِلَى الكشح ثمَّ قَالُوا: فلَان فِي حجر فلَان أَي: فِي كنفه ومنعته، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وربائبكم اللائي فِي حجوركم} (النِّسَاء: 23) قَوْله: وَكَانَت يدى تطبيش بِالطَّاءِ الْمُهْملَة والشين الْمُعْجَمَة أَي: تتحرك حوالي الصحفة وَلَا تقتصر على مَوضِع وَاحِد، وَقَالَ: الطَّيِّبِيّ: وَالْأَصْل: أطيش بيَدي فأسند الطيش إِلَى يَده مُبَالغَة، والصحفة مَا يشْبع خَمْسَة، والقصعة مَا يشْبع عشرَة. قَوْله: (فَمَا زَالَت تِلْكَ طعمتي بعد) أَشَارَ بقوله: (تِلْكَ) إِلَى جَمِيع مَا ذكر من الِابْتِدَاء بِالتَّسْمِيَةِ وَالْأكل بِالْيَمِينِ وَالْأكل مِمَّا يَلِيهِ. قَوْله: (طعمتي) بِكَسْر الطَّاء وَهَذِه الصِّيغَة للنوع وَأَرَادَ أَن أكله كَانَ بعد ذَلِك على هَذَا النَّوْع الْمَذْكُور الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: تِلْكَ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِضَم الطَّاء، والطعمة بِالضَّمِّ بِمَعْنى الْأكلَة، يُقَال: طعم طعمة إِذا أكل أَكلَة. قَوْله: (بعد) ، مَبْنِيّ على الضَّم أَي: بعد ذَلِك، فَلَمَّا حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ بنى على الضَّم.
وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الْأَمر بِالتَّسْمِيَةِ مَحْمُول على النّدب عِنْد الْجُمْهُور، وَأما الْأكل بِالْيَمِينِ فقد ذهب بَعضهم إِلَى أَنه وَاجِب لظَاهِر الْأَمر ولورود الْوَعيد فِي الْأكل بالشمال فَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يَأْكُل بِشمَالِهِ. فَقَالَ: (كل بيمينك. قَالَ: لَا أَسْتَطِيع) . فَمَا مَنعه إلاَّ الْكبر. (فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْت فَمَا رَفعهَا إِلَى فِيهِ بعد) . وروى أَحْمد بِسَنَد حسن عَن عَائِشَة رفعته: (من أكل بِشمَالِهِ أكل مَعَه الشَّيْطَان) ، وروى مُسلم من حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله(21/29)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تاكلوا بالشمال فَإِن الشَّيْطَان يَأْكُل بالشمال) ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: معنى قَوْله: إِن الشَّيْطَان يَأْكُل بِشمَالِهِ، أَي: يحمل أولياءه من الْإِنْس على ذَلِك ليضاربه عباد الله الصَّالِحين، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ عدُول عَن الظَّاهِر وَالْأولَى حمل الْخَبَر على ظَاهره، وَأَن الشَّيْطَان يَأْكُل حَقِيقَة لِأَن الْعقل لَا يحِيل ذَلِك، وَقد ثَبت الْخَبَر بِهِ فَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله. قلت: للنَّاس فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن صنفا مِنْهُم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ. وَالثَّانِي: أَن صنفا مِنْهُ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون. وَالثَّالِث: أَن جَمِيعهم يَأْكُلُون وَلَا يشربون. وَهَذَا قَول سَاقِط. وروى أَبُو عمر بِإِسْنَادِهِ عَن وهب بن مُنَبّه. بقوله: وَسُئِلَ عَن الْجِنّ مَا هم؟ وَهل يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتناكحون ويموتون. فَقَالَ: هم أَجنَاس، فَأَما خَالص الْجِنّ فهم ريح لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون وَلَا يتوالدون، وَمِنْهُم أَجنَاس يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتوالدون ويتناكحون، مِنْهُم السعالي والغول والقطرب وَغير ذَلِك، وَالَّذين يَقُولُونَ: هم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لَا مضغ وبلع، وَهَذَا قَول لم يرد عَلَيْهِ الدَّلِيل، وَالْآخر: أَن أكلهم وشربهم مضغ وبلع، وَهَذَا القَوْل الَّذِي تشهد لَهُ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
3 - (بَابُ: {الأكْلِ مِمَّا يَلِيهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سنية الْأكل مِمَّا يَلِيهِ، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب.
وَقَالَ أنَسٌ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اذْكُروا اسْمَ الله وَلْيأكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ.
هَذَا تَعْلِيق أسْندهُ ابْن أبي عَاصِم فِي الْأَطْعِمَة: لَهُ حَدثنَا هدبة حَدثنَا مبارك حَدثنَا بكر وثابت عَن أنس بِهِ وَأَصله فِي (الصَّحِيحَيْنِ) .
5377 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ: حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ عَمْروٍ ابنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ عَنْ وَهْبٍ بنِ كَيْسَانَ أبِي نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ بنِ أبِي سَلَمَةَ، وَهُوَ ابنُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: أكَلْتُ يَوْما مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ. فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلْ مِمَّا يَلِيكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث عمر بن أبي سَلمَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر مُحَمَّد بن عَمْرو بن حلحلة عَن وهب بن كيسَان عَن عمر بن أبي سَلمَة. قَالَ: أكلت يَوْمًا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعلت آخذ من لحم حول الصحفة. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل مِمَّا يليك.
5378 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بنِ كَيْسَانَ أبِي نُعَيْمٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِطَعامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بنُ أبِي سَلَمَةَ. فَقَالَ: سَمِّ الله وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ.
هَذَا مُرْسل، كَذَا رَوَاهُ أَصْحَاب مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَنهُ، وَقد وَصله خَالِد بن مخلد وَيحيى بن صَالح الوحاظي، قَالَا: عَن مَالك عَن وهب بن كيسَان عَن عمر بن أبي سَلمَة. فَإِن قلت: روى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الحنيني فَقَالَ: عَن مَالك عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر؟ قلت: هَذَا مُنكر، وَإِسْحَاق ضَعِيف فَإِن قلت: فَكيف استجاز البُخَارِيّ إِخْرَاجه وَالْمَحْفُوظ عَن مَالك إرْسَاله؟ قلت: لما تبين بالطرفين الَّذِي قبله صِحَة سَماع وهب بن كيسَان عَن عمر بن أبي سَلمَة تحقق أَنه مَوْصُول فِي الأَصْل وَأَن مَالِكًا قصر بِإِسْنَادِهِ حَيْثُ لم يُصَرح بوصله، فاستجاز إِخْرَاجه.
4 - (بَابُ: {مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالِي القَصْعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز من تتبع حوالي الْقَصعَة أَي: جوانبها وَهُوَ بِفَتْح اللَّام. يُقَال: رَأَيْت النَّاس حوله وحوليه وحواليه، وَاللَّام مَفْتُوحَة فِي الْكل، وَلَا يجوز كسرهَا. قَوْله: (إِذا لم يعرف مِنْهُ) ، أَي: من الَّذِي يتتبع حوالي الْقَصعَة، أَرَادَ أَن التتبع الْمَذْكُور إِنَّمَا لَا يكره إِذا لم يعرف مِنْهُ كَرَاهِيَة. قلت: هَذَا يُخَالف الحَدِيث الَّذِي قبله فِي الْأَمر بِالْأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ؟ قلت: حمل البُخَارِيّ هُنَا الْجَوَاز على مَا إِذا علم رضَا من يَأْكُل مَعَه. وَقَالَ بَعضهم: رمز البُخَارِيّ بذلك إِلَى تَضْعِيف حَدِيث عكراش الَّذِي أخرجه(21/30)
التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا الْعَلَاء بن فضل بن عبد الْملك بن أبي سَرِيَّة أَبُو الْهُذيْل، حَدثنَا عبيد الله بن عكراش عَن أَبِيه عكراش بن ذُؤَيْب قَالَ: بَعَثَنِي بَنو مرّة بن عبيد بصدقات أَمْوَالهم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقدمت الْمَدِينَة فَوَجَدته جَالِسا بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَالَ: ثمَّ أَخذ بيَدي فَانْطَلق بِي إِلَى بَيت أم سَلمَة. فَقَالَ: هَل من طَعَام؟ فأتتنا بحفنة كَثِيرَة الثَّرِيد والودك. فأقبلنا نَأْكُل مِنْهَا، فَجعلت بيَدي فِي نَوَاحِيهَا وَأكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَين يَدَيْهِ، فَقبض بِيَدِهِ الْيُسْرَى على يَدي الْيُمْنَى، ثمَّ قَالَ: يَا عكراش؟ كل من مَوضِع وَاحِد ثمَّ أئتنا بطبق فِيهِ ألوان التَّمْر أَو الرطب، شكّ عبيد الله، فَجعلت آكل من بَين يَدي، وجالت يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الطَّبَق قَالَ: يَا عكراش كل من حَيْثُ شِئْت فَإِنَّهُ غير لون وَاحِد! الحَدِيث. ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَقد تفرد الْعَلَاء بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان لَهُ صُحْبَة غير أَنِّي لست بمعتمد على إِسْنَاد خَبره، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ) روى عَنهُ الْعَلَاء بن الْمفضل وَلَا يثبت، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول، وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث. قلت: لَيْت شعري مَا دَلِيل هَذَا الْقَائِل على أَن البُخَارِيّ رمز هُنَا إِلَى تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث؟ .
5379 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إنَّ خَيَّاطا دَعَا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِطعامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالِي القَصْعَةِ قَالَ: فَلَمْ أزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمَئِذٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مضى فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن يُوسُف، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الدُّبَّاء) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد، وَحكى الْقَزاز الْقصر وَوَقع للنووي فِي (شرح الْمُهَذّب) أَنه القرع الْيَابِس، وَمَا ذَاك إلاَّ سَهْو، وواحده دباءة ودبة تَقْتَضِي أَن تكون الْهمزَة زَائِدَة، وَيدل عَلَيْهِ أَن الْهَرَوِيّ أخرجه فِي بَاب دبب. وَأخرجه الْجَوْهَرِي على أَن همزته منقلبة. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَكَأَنَّهُ أشبه، وَقَالَ أَيْضا: وَوزن الدُّبَّاء فعال ولامه همزَة لِأَنَّهُ لم يعرف انقلاب لامه عَن وَاو أَو يَاء قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ.
5 - (بَابُ: {التَّيَمُّنِ فِي الأكْلِ وَغَيْرِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سنية التَّيَمُّن فِي كل شَيْء، فِي الْأكل وَالشرب وَغَيره.
5380 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخْبَرنا عَبْدُ الله أخبرَنا شُعْبَةُ عَنْ أشْعَثَ عَنْ أبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا. قَالَتْ: كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَصُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ، وَكَانَ قَالَ بِوَاسِطٍ قَبْلَ هاذا، فِي شَأنِهِ كُلِّهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان بن حبلة الْمروزِي، يروي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، يروي عَن أَبِيه سليم بِضَم السِّين التَّابِعِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْوضُوء فِي بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء وَالْغسْل، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: شُعْبَة. قَالَ قبله بواسط فِي الزَّمَان السَّابِق (فِي شَأْنه كُله) أَي: زادَ عَلَيْهِ هَذِه الْكَلِمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ بعض الْمَشَايِخ: الْقَائِل بواسط هُوَ أَشْعَث، وَالله أعلم.
6 - (بَابُ: {مَنْ أكَلَ حَتَّى شَبِعَ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من أكل من الطَّعَام حَتَّى شبع.
5381 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدَّثني مَالِكٌ عَنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أبُو طَلْحَةَ: لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضَعِيفا أعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَأخْرَجَتْ أقْرَاصا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أخْرَجَتْ(21/31)
خيارا لَهَا فَلفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: آرْسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِطَعامٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِمَنْ مَعَهُ قَومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أبَا طَلْحَةَ. فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ: يَا أُُمَّ سُلَيْمٍ! قَدْ جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعامِ مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتْ: الله وَرَسُولهُ أعْلَمُ قَالَ: فَانْطَلَقَ أبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأقْبَلَ أبُو طَلْحَةَ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى دَخَلا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلُمِّي يَا أُُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ؟ فَأتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزِ، فَأمَرَ بِهِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فأدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا شَاءَ الله أنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لَهُمْ فَأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا. ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشْرَةِ، فأذِنَ لَهُمْ فَأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأذِنَ لَهُمْ فَأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا. ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ أذِنَ لِعَشَرَةٍ فأكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس. والْحَدِيث مضى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بِطُولِهِ، وَفِي الصَّلَاة مُخْتَصرا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَأَبُو طَلْحَة اسْمه زيد الْأنْصَارِيّ النجاري، وَأم سليم بِضَم السِّين اسْمهَا سهلة أَو الرميصاء زَوْجَة أبي طَلْحَة أم أنس.
قَوْله: (دسست) ، من دسمت الشَّيْء فِي التُّرَاب إِذا أخفيته فِيهِ. قَوْله: (وردتني) من التردية أَي: جعلته رِدَاء لي. (والعكة) بِالضَّمِّ آنِية السّمن. قَوْله: (وأدمته) من قَوْلهم: أَدَم الْخبز يأدمه الْخبز يأدمه بِالْكَسْرِ وَهُوَ بِالْمدِّ وَالْقصر لُغَتَانِ. قَوْله: (ائْذَنْ) أَي: بِالدُّخُولِ.
5382 - حدَّثنا مُوسَى حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عَنْ أبِيهِ قَالَ: وَحَدَّثَ أبُو عُثْمَانَ أيْضا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ أبِي بَكْرٍ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا. قَالَ: كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ثَلاثِينَ ومِائَةَ. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلْ مَعَ أحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ فَإذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أوْ نَحْوُهُ فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعانٌ طَوِيلٌ بغَنَمٍ يَسُوقُها. فَقَالَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبَيْعٌ أمْ عَطِيَّةٌ؟ أوْ قَالَ: هِبَةٌ؟ قَال: لَا بَلْ بَيْعٌ. قَالَ: فَاشْتَرى مِنْهُ شَاةً فَصُنِعَتْ فَأمَرَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَوَادِ البَطْنِ يُشْوِي، وَأَيمُ الله مَا مِنَ الثَّلاثِينَ وَمائَةٍ إلاَّ قَدْ حَزَّ لَهُ مِنْ سَوَادِ بَطْنِها إنْ كَانَ شَاهِدا أعْطاها إيَّاهُ وَإنْ كَانَ غَائِبا خَبَأها لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيها قَصْعَتَيْنِ فَأكلْنا أجْمَعُونَ وَشَبِعنَا وَفَضَلَ فِي القَصْعَتَيْنِ فَجَعَلْتُهُ عَلَى البَعِيرِ أوْ كَمَا قَالَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل الْمنْقري، ومعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان يروي عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (وَحدث أَبُو عُثْمَان أَيْضا) ، أَرَادَ بِهِ أَن سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنِي غير أبي عُثْمَان وحَدثني أَبُو عُثْمَان، وَهُوَ أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ ذَلِك المُرَاد إِنَّمَا أَرَادَ أَن أَبَا عُثْمَان حَدثهُ بِحَدِيث سَابق على هَذَا ثمَّ حَدثهُ بِهَذَا فَلذَلِك قَالَ: أَيْضا أَي: حَدثهُ بِحَدِيث بعد حَدِيث. قلت: من تَأمل وَجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي علم أَنه هُوَ الْوَجْه.
والْحَدِيث مضى فِي الْبيُوع فِي: بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ الْمُشْركين، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن مُعْتَمر إِلَى آخِره، وَمضى أَيْضا فِي(21/32)
الْهِبَة عَن أبي النُّعْمَان، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (مشعان) ، بِضَم الْمِيم وَقيل: بِكَسْرِهَا وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وبالعين الْمُهْملَة وبالنون الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الطَّوِيل فِي الْغَايَة. وَقيل: طَوِيل الشّعْر منتفشه ثائره. قَوْله: (أم عَطِيَّة) ، أَي: هَدِيَّة. قَوْله: (بسواد الْبَطن) هُوَ الكبد. قَوْله: (حز لَهُ حزة) الحز بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي وَهُوَ: الْقطع.
5383 - حدَّثنا مُسْلِمٌ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثنا مَنْصُورٌ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها: تُوُفِّيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ شَبِعْنَا مِنْ الأسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ وَالمَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ القصاب، ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ، يروي عَن أمه صَفِيَّة بنت شيبَة بن عُثْمَان الحَجبي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن يحيى ابْن يحيى وَغَيره.
قَوْله: (حِين شبعنا) ظرف كالحال. مَعْنَاهُ: مَا شبعنا قبل زمَان وَفَاته، يَعْنِي: كُنَّا متقللين من الدِّينَا زاهدين فِيهَا، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي وَلَيْسَ مَعْنَاهُ هَكَذَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقت كوننا شُباعى من الأسودين، وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا مَا مضى فِي غَزْوَة خَيْبَر من طَرِيق عِكْرِمَة عَن عَائِشَة. قَالَت: لما فتحت خَيْبَر قُلْنَا: الْآن نشبع من التَّمْر، وَمن حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: مَا شبعنا حَتَّى فتحنا خَيْبَر، وَظهر من هَذَا أَن ابْتِدَاء شبعهم كَانَ من فتح خَيْبَر، وَذَلِكَ قبل مَوته بِثَلَاث سِنِين. قَوْله: (من الأسودين) تَثْنِيَة الْأسود وهما التَّمْر وَالْمَاء، وَهَذَا من بَاب التغليب وَإِن كَانَ المَاء شفافاً لَا لون لَهُ وَذَلِكَ كالأبوين: للْأَب وَالأُم، والقمرين، للشمس وَالْقَمَر، والأحمرين: للحم وَالشرَاب، وَقيل: الذَّهَب والزعفران، والأبيضين: المَاء وَاللَّبن، والأسمرين: للْمَاء وَالْملح. وَكَذَلِكَ قَالُوا: العمرين لأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فغلبوا عمر لِأَنَّهُ أخف وَأبْعد من قَالَ: هما عمر بن الْخطاب وَعمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَيُقَال: هَذِه تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يُقَارِبه لِأَن الْأسود مِنْهُمَا التَّمْر خَاصَّة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِنَّهُم كَانُوا فِي سَعَة من المَاء فَأجَاب بِأَن الرّيّ من المَاء لم يكن يحصل لَهُم من دون الشِّبَع من الطَّعَام، وقرنت بَينهمَا لفقد التَّمَتُّع بِأَحَدِهِمَا دون الآخر، وعبرت عَن الْأَمريْنِ الشِّبَع والري بِفعل وَاحِد، كَمَا عبرت عَن التَّمْر وَالْمَاء بِوَصْف وَاحِد، وَإِن كَانَ للْمَاء الرّيّ لَا الشِّبَع، وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذِه الْأَحَادِيث جَوَاز الشِّبَع وَإِن كَانَ تَركه أَحْيَانًا أفضل، وَقد ورد عَن سُلَيْمَان وَأبي جُحَيْفَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن أَكثر النَّاس شبعا فِي الدُّنْيَا أطولهم جوعا فِي الْآخِرَة. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الشِّبَع وَإِن كَانَ مُبَاحا فَإِن لَهُ حدا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَمَا زَاد على ذَلِك سرف، وَالْمُطلق مِنْهُ مَا أعَان الْأكل على طَاعَة ربه، وَلم يشْغلهُ ثقله عَن أَدَاء مَا وَجب عَلَيْهِ.
وَاخْتلف فِي حد الْجُوع على رأيين: أَحدهمَا: أَن يَشْتَهِي الْخبز وَحده، فَمَتَى طلب الأدام فَلَيْسَ بجائع. ثَانِيهمَا: أَنه إِذا وَقع رِيقه على الأَرْض لم يَقع عَلَيْهِ الذُّبَاب، ذكره فِي (الْإِحْيَاء) وَذكر أَن مَرَاتِب الشِّبَع تَنْحَصِر فِي سَبْعَة: الأول: مَا تقوم بِهِ الْحَيَاة. الثَّانِي: أَن يزِيد حَتَّى يُصَلِّي عَن قيام ويصوم وَهَذَانِ واجبان. الثَّالِث: أَن يزِيد حَتَّى يُقَوي على أَدَاء النَّوَافِل. الرَّابِع: أَن يزِيد حَتَّى يقدر على التكسب، وَهَذَانِ مستحبان. الْخَامِس: أَن يمْلَأ الثُّلُث وَهَذَا جَائِز. السَّادِس: أَن يزِيد على ذَلِك وَبِه يثقل الْبدن وَيكثر النّوم وَهَذَا مَكْرُوه. السَّابِع: أَن يزِيد حَتَّى يتَضَرَّر وَهِي البطنة الْمنْهِي عَنْهَا وَهَذَا حرَام.
7 - (بَابٌ: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ} إلَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (النُّور: 61)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج} إِلَى قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تعقلون} كَذَا وَقع لبَعض رُوَاة (الصَّحِيح) وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ قَوْله: إِلَى قَوْله: (لَعَلَّكُمْ تعقلون) أَشَارَ بِهِ إِلَى تَمام الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة النُّور، وَهِي آيَة طَوِيلَة لَا الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة الْفَتْح، لِأَن الْمُنَاسب لأبواب الْأَطْعِمَة هِيَ الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة النُّور، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج} الْآيَة. وَوَقع فِي كتاب صَاحب (التَّوْضِيح) بَاب: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج} إِلَى قَوْله: {مباركة طيبَة} الْآيَة.
وَالنِّهْدُ وَالاجْتِمَاعُ عَلَى الطَعَّامِ
لم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة، إلاَّ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَحده، والنهد بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْهَاء وبالدال الْمُهْملَة من المناهدة، وَهِي إِخْرَاج(21/33)
كل وَاحِد من الرّفْقَة نَفَقَة على قدر نَفَقَة صَاحبه، وَتقدم تَفْسِيره أَيْضا فِي أول الشّركَة فِي: بَاب الشّركَة وَالطَّعَام والنهد. قَوْله: (على الطَّعَام) وَفِي بعض النّسخ: فِي الطَّعَام، وَقد جَاءَ كلمة: فِي، بِمَعْنى: على، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 71) أَي عَلَيْهَا.
5384 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيد: سَمِعْتُ بُشَيْرَ بنَ يَسَارٍ يَقُولُ: حدَّثنا سُوَيْدُ بنُ النُّعْمَانِ. قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَيْبَرَ. فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ: دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِطَعَامٍ، فَمَا أُُتِيَ إلاَّ بِسوِيقٍ، فَلُكْناهُ فَأكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنا فَصَلَّى بِنا المَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَأ. قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدا وَبَدْءا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من وسط الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتا} وَهُوَ أصل فِي جَوَاز المخارجة، وَلِهَذَا ذكر فِي التَّرْجَمَة: النهد، وَقَالَ بَعضهم: فِي الحَدِيث لم يُؤْت إلاَّ بسويق، وَلَيْسَ هُوَ ظَاهر المُرَاد من النهد لاحْتِمَال أَن يكون مَا جِيءَ فِي السويق إلاَّ من جِهَة وَاحِدَة. قلت: هَذَا الِاحْتِمَال بعيد لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء، بل الظَّاهِر أَن من كَانَ عِنْده شَيْء من السويق أحضرهُ، لِأَن قَوْله: (دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِطَعَام) لم يكن من شخص معِين، بل كَانَ عَاما وَالْحَال يدل على أَن كل من كَانَ عِنْده شَيْء من ذَلِك أحضر. هـ
وَقَالَ الْمُهلب: مُنَاسبَة الْآيَة لحَدِيث سُوَيْد مَا ذكره أهل التَّفْسِير من أَنهم كَانُوا إِذا اجْتَمعُوا للْأَكْل عزل الْأَعْمَى على حِدة والأعرج على حِدة وَالْمَرِيض على حِدة لتقصيرهم عَن أكل الأصحاء، فَكَانُوا يتحرجون أَن يتفضلوا عَلَيْهِم، وَهَذَا قَول الْكَلْبِيّ، وَقَالَ عَطاء بن يزِيد: كَانَ الْأَعْمَى يتحرج أَن يَأْكُل طَعَام غَيره لجعل يَده فِي غير موضعهَا، والأعرج كَذَلِك لاتساعه فِي مَوضِع الْأكل، وَالْمَرِيض لرائحته، فَنزلت هَذِه الْآيَة، فأباح الله لَهُم الْأكل مَعَ غَيرهم وَفِي حَدِيث سُوَيْد معنى الْآيَة لأَنهم جعلُوا أَيْديهم فِيمَا حضر من الزَّاد سَوَاء، أَلا يرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أملقوا فِي السّفر جعل أَيْديهم جَمِيعًا فِيمَا بَقِي من الأزواد سَوَاء، وَلَا يُمكن أَن يكون أكلهم سَوَاء أصلا لاخْتِلَاف أَحْوَالهم فِي الْأكل، وَقد سوغهم ذَلِك من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فَصَارَ ذَلِك سنة فِي الْجَمَاعَات الَّتِي تدعى إِلَى طَعَام فِي النهد والولائم والإملاق فِي السّفر، وَمَا ملكت مفاتيحه بأمانة أَو قرَابَة أَو صداقة فلك أَن تَأْكُل مَعَ الْغَرِيب أَو الصّديق أَو وَحدك.
والْحَدِيث الْمَذْكُور قد ذكره فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب من مضمض من السويق وَلم يتَوَضَّأ. وَأخرجه عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن بشير بن يسَار عَن سُوَيْد بن النُّعْمَان إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي أول بَاب غَزْوَة خَيْبَر عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن بشير بن يسَار الخ، وَهنا أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ابْن يسَار، ضد الْيَمين عَن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن النُّعْمَان الْأنْصَارِيّ الْمدنِي.
قَوْله: (قَالَ يحيى) هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ الرَّاوِي قَوْله: (على رَوْحَة) هِيَ ضد الغدوة. قَوْله: (فلكناه) بِضَم اللَّام من اللوك، يُقَال: لكنه فِي فمي إِذا علكته. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي. قَوْله: (عودا وبدءا) أَي: عَائِدًا ومبتدئا أَي: (أَولا وآخرا) .
8 - (بَابُ: {الخُبْزِ المُرَقَّقِ وَالأكْلِ عَلَى الخِوانِ وَالسُّفْرَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخبز المرقق وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من رقق على وزن فعّل بِالتَّشْدِيدِ يُقَال: رقق الصَّانِع الْخبز أَي: لينه وَجعله رَقِيقا وَهُوَ الرقَاق أَيْضا بِالضَّمِّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الرقَاق، بِالضَّمِّ الْخبز الرَّقِيق، وَقَالَ عِيَاض: قَوْله: (مرفقا) أَي: ملينا محسنا كخبز الْحوَاري وَشبهه، وَقَالَ ابْن التِّين: المرقق الْخبز السميد وَمَا يصنع مِنْهُ من كعك وَغَيره، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: المرقق هُوَ الْخَفِيف كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من الرقَاق وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يرقق بهَا. قَوْله: (على الخوان) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَجَاء ضمهَا. وَفِيه لُغَة ثَالِثَة: أَخَوان، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء وَهُوَ مُعرب. قَالَ الجواليقي: تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب قَدِيما، وَقَالَ ابْن فَارس: إِنَّه اسْم أعجمي، وَعَن ثَعْلَب: سمي بذلك لِأَنَّهُ يتخون مَا عَلَيْهِ، أَي: ينتقص. وَقَالَ عِيَاض: إِنَّه الْمَائِدَة مَا لم يكن عَلَيْهِ طَعَام وَيجمع على أخونة فِي الْقلَّة وخوون بِضَم أَوله فِي الْكَثْرَة وَالْأكل على الخوان من دأب المترفين وصنع(21/34)
الْجَبَابِرَة. قلت: لَيْسَ فِيمَا ذكر كُله بَيَان هَيْئَة الخوان، وَهُوَ طبق كَبِير من نُحَاس تَحْتَهُ كرْسِي من نُحَاس ملزوق بِهِ، طوله قدر ذِراع يرص فِيهِ الزبادي وَيُوضَع بَين يَدي كَبِير من المرتفين وَلَا يحملهُ إلاَّ اثْنَان فَمَا فَوْقهمَا. قَوْله: (والسفرة) وَهِي: الطَّعَام يَتَّخِذهُ الْمُسَافِر وَأكْثر مَا يحمل فِي جلد مستدير حوله حلق من حَدِيد يضم بِهِ ويعلق فَنقل إسم الطَّعَام إِلَى الْجلد وَسمي بِهِ كَمَا سميت المزادة رِوَايَة.
5385 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا أكَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُبْزا مُرَقَّقا وَلا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف نون أُخْرَى. أبي بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وهما بتَشْديد الْمِيم الأولى هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَغَيره.
قَوْله: {وَلَا شَاة مسموطة} قَالَ ابْن الْأَثِير: الشَّاة السميط أَي المشوية فعيل بِمَعْنى مفعول، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَهُوَ أكل المترفين وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ الْجلد لينتفعوا بِهِ، وَيُقَال: المسموط الَّذِي أزيل شعره بِالْمَاءِ المسخن ويشوى بجلده أَو يطْبخ، وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك فِي الصَّغِير السن الطري، وَذَلِكَ من فعل المترفين من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: الْمُبَادرَة إِلَى ذبح مَا لَو بَقِي لازداد ثمنه. وَثَانِيهمَا: أَن المسلوخ ينْتَفع بجلده فِي اللّبْس وَغَيره، وَعبارَة ابْن بطال: المسموط المشوية بجلدها. وَقَالَ صَاحب (الْعين) : سمطت الْجمل أسمطه سمطا تنقيه من الصُّوف بعد إِدْخَاله فِي المَاء الْحَار، وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : سمط الجدي وَغَيره علقه من السموط، وَهِي معاليق من السرج. وَقَالَ الدَّاودِيّ: المسموط الَّتِي يغلى لَهَا المَاء فَتدخل فِيهِ بعد أَن تذبح ويزال بَطنهَا فيزول عَنْهَا الشّعْر أَو الصُّوف ثمَّ تشوى وَقَالَ ابْن بطال: أكل المرقق جَائِز مُبَاح وَلم يتْركهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاَّ زهدا فِي الدُّنْيَا وتركا للتنعم وإيثارا لما عِنْد الله وَغير ذَلِك، وَكَذَلِكَ الْأكل على الخوان، وَلَيْسَ نفي أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْكُل على كل خوان، وَلَا أَنه أكل شَاة سميطا يرد قَول من روى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أكل على خوان وَأَنه أكل شواء، وَإِنَّمَا أخبر كل بِمَا علم، وَمن علم حجَّة على من لم يعلم، لِأَنَّهُ زَاد عَلَيْهِ فَوَجَبَ قبُولهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أنس: مَا أعلم أَو مَا رَأَيْت أَنه أكل شَاة مسموطة، وَلم يقطع على أَنه لم يَأْكُل، وَجرى ابْن بطال فِيمَا قَالَه على أَن المسموط هُوَ المشوي عِنْده. فَإِن قلت: إِذا كَانَ المسموط هُوَ المشوي عِنْده فيعارضه حَدِيث أم سَلمَة الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ أَنَّهَا قربت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جنبا مشويا فَأكل مِنْهُ. قلت: الْجَواب مَا ذَكرْنَاهُ من أَن من علم حجَّة على من لم يعلم إِلَى آخِره.
5386 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُعاذُ بنُ هِشام، قَالَ: حدَّثني أبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ: عَلِيٌّ، هُوَ الإسْكَافُ: عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ، رَضِيَ الله عَنهُ. قَالَ: مَا عَلِمْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ وَلا خُبْزَ لهُ مُرَفَقٌ قَطُّ، وَلا أكَلَ عَلَى خِوَانٍ. فَقِيلَ لِقَتادَةَ: فَعَلَى مَا كَانُوا يأكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، ومعاذ بن هِشَام يروي عَن أبي هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي وَاسم أبي عبد الله سُفْيَان، والدستوائي نسبته إِلَى دستوا من نواحي الأهواز.
قَوْله: (عَن يُونُس) ، وَقع هَكَذَا فِي السَّنَد غير مَنْسُوب فبينه عَليّ وَهُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَقَالَ: هُوَ الإسكاف، وَهُوَ يُونُس بن أبي الْفُرَات الْقرشِي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ، وَإِنَّمَا بَينه لِأَن فِي طبقته يُونُس بن عبيد الْبَصْرِيّ أحد الثِّقَات المكثرين، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه مُصَرحًا عَن يُونُس بن أبي الْفُرَات، وَلَيْسَ ليونس هَذَا فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين، وَقَالَ ابْن عدي: لَيْسَ بالمشهور، وَقَالَ ابْن سعد كَانَ مَعْرُوفا وَله أَحَادِيث، وَقَالَ ابْن حبَان: لَا يجوز أَن يحْتَج بِهِ.
وَفِي سَنَد هَذَا الحَدِيث رِوَايَة الأقران لِأَن هشاما وَيُونُس من طبقَة وَاحِدَة.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّقَائِق عَن إِسْحَاق بن(21/35)
إِبْرَاهِيم وَفِي الْوَلِيمَة عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (على سكرجة) بِضَم السِّين وَالْكَاف وَالرَّاء الْمُشَدّدَة بعْدهَا جِيم مَفْتُوحَة. قَالَ عِيَاض كَذَا قيدناه، وَنقل عَن ابْن مكي أَنه صوب فتح الرَّاء وَكَذَا قَالَ التوريشتي، وَزَاد أَنه فَارسي مُعرب وَالرَّاء فِي الأَصْل مَفْتُوحَة، وَلَا حجَّة فِي ذَلِك لِأَن الِاسْم الأعجمي إِذا نطقت بِهِ الْعَرَب لم تبقه على أَصله غَالِبا. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: عَن شَيْخه أبي مَنْصُور الجواليقي أَنه قَالَ بِفَتْح الرَّاء، قَالَ: وَكَانَ بعض أهل اللُّغَة يَقُول: اسكرجة، بِالْألف وَفتح الرَّاء وَهِي فارسية معربة. وترجمها مُعرب الْحل، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، وَقَالَ أَبُو عَليّ: فَإِن حقرت يَعْنِي فَإِن صغرت حذفت الْجِيم وَالرَّاء قلت: أُسيكرة. وَإِن عوضت عَن الْمَحْذُوف تَقول: أسيكيرة، وَزعم سِيبَوَيْهٍ أَن تَصْغِير الخماسي مستكره، وَقَالَ ابْن مكي: وَهِي قصاع صغَار يُؤْكَل فِيهَا. وَمِنْهَا كَبِيرَة وصغيرة، فالكبيرة تحمل قدر سِتّ أَوَاقٍ، وَقيل: مَا بَين ثُلثي أُوقِيَّة إِلَى أُوقِيَّة، وَمعنى ذَلِك أَن الْعَجم كَانَت تستعملها فِي الكواميخ وَمَا أشبههَا من الْجوَار شنات حول الموائد للتشهي والهضم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ قَصْعَة صَغِيرَة مدهونة، وَقَالَ ابْن قرقول: رَأَيْت لغيره أَنَّهَا قَصْعَة ذَات قَوَائِم من عود كمائدة صَغِيرَة. قَوْله: فَقيل: لِقَتَادَة الْقَائِل هُوَ الرَّاوِي. قَوْله: (فعلى) ، مَا كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني بِالْألف وَفِي رِوَايَة غَيره: فعلى م، بِغَيْر الْألف. قَوْله: (كَانُوا يَأْكُلُون) ، إِنَّمَا عدل عَن قَوْله: (فعلى مَا كَانَ يَأْكُل) إِلَى قَوْله: (كَانُوا يَأْكُلُون) بِالْجمعِ إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك لم يكن مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده، بل كَانَ أَصْحَابه يقتفون أَثَره ويقتدون بِفِعْلِهِ ويراعون سنته. قَوْله: (على السّفر) جمع سفرة، وَقد مر تَفْسِيرهَا.
5387 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ أخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أنَّهُ سَمِعَ أنَسا يَقُولُ: قَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَبْنِي بِصَفِيَّةَ فَدَعَوْتُ المُسْلِمِينَ إلَى وَلِيمَتِهِ أمَرَ بِالأنْطاعِ فَبُسِطَتْ فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأقِطُ وَالسَّمْنُ.
وَقَالَ عَمْرٌ عَنْ أنَسٍ: بَنَى بِهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ صَنَعَ حَيْسا فِي نِطَعٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ، وَحَدِيثه قد مضى فِي غَزْوَة خَيْبَر مطولا عَنهُ أَيْضا أَي: عَن ابْن أبي مَرْيَم.
قَوْله: (وَقَالَ عَمْرو) ، وَهُوَ عَمْرو بن أبي عَمْرو مولى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمضى حَدِيثه فِي الْمَغَازِي مطولا. قَوْله: (حَيْسًا) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة، وَهُوَ الْخَلْط من التَّمْر وَالسمن وَنَحْوه. قَوْله: (فِي نطع) بِسُكُون الطَّاء وَفتحهَا وَكسر النُّون وَفتحهَا.
5388 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخْبَرَنا أبُو مُعَاوِيَةَ حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَانَ أهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ: يَا ابنِ ذَاتِ النِّطاقَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ أسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ {إنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطاقَيْنِ؟ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطاقَانِ؟ إنَّمَا كَانَ نِطاقِي شَققْتُهُ نِصْفَيْنِ، فَأوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأحَدِهِما وَجَعَلْتُ فِي سُفْرَتِهِ آخَرَ، قَالَ: فَكَانَ أهْلُ الشَّأْمِ إذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إيها وَالإلِهِكَانَ أهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ: يَا ابنِ ذَاتِ النِّطاقَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ أسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ} إنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطاقَيْنِ؟ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطاقَانِ؟ إنَّمَا كَانَ نِطاقِي شَققْتُهُ نِصْفَيْنِ، فَأوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأحَدِهِما وَجَعَلْتُ فِي سُفْرَتِهِ آخَرَ، قَالَ: فَكَانَ أهْلُ الشَّأْمِ إذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إيها وَالإلِهِ
(تِلْكَ شَكَاةٌ ظاهِرٌ عَنْكَ عارُها) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَجعلت فِي سقرته) وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام وَأَبُو مُعَاوِيَة هُوَ مُحَمَّد بن خازم بالمعجمتين الضَّرِير، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير ويروي أَيْضا عَن وهب بن كيسَان وَأخرجه أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج من طَرِيق أَحْمد بن يُونُس عَن أبي مُعَاوِيَة فَقَالَ فِيهِ عَن هِشَام عَن وهب بن كيسَان فَقَط وأصل الحَدِيث مضى فِي: بَاب الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة عَن عبد الله بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه، وَعَن فَاطِمَة عَن أَسمَاء صنعت سفرة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخ.
قَوْله: (كَانَ أهل الشَّام) المُرَاد بِهِ عَسْكَر الْحجَّاج بن يُوسُف حَيْثُ كَانُوا يُقَاتلُون عبد الله بن الزبير على مَكَّة، وهم من قبل عبد الْملك بن مَرْوَان وَالْمرَاد عَسْكَر الْحصين بن نمير الَّذين قَاتلُوهُ قبل ذَلِك من قبل يزِيد بن مُعَاوِيَة عَلَيْهِ مَا يسْتَحق. قَوْله: (يعيرون) بِالْعينِ الْمُهْملَة أَي: يعيبون عبد الله بن الزبير. قَوْله: (فَقَالَت لَهُ أَسمَاء) أَي: قَالَت أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق لابنها عبد الله بن الزبير،(21/36)
(يَا بني) بتصغير الشَّفَقَة إِنَّهُم أَي: أَن أهل الشَّام يعيرونك بالنطاقين؟ قيل: الْأَفْصَح أَن يعدى التَّعْبِير بِنَفسِهِ. يُقَال: عيرته كَذَا وَقد سمع بِكَذَا يَعْنِي: بِالْبَاء مثل مَا هُنَا. قَوْله: (هَل تَدْرِي مَا كَانَ النطاقان) قيل: وَقع عِنْد بَعضهم فِي شَرحه مَا كَانَ النطاقين؟ فَإِن صَحَّ فالمضاف فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا كَانَ شَأْن النطاقين، والنطاق بِكَسْر النُّون مَا كَانَ يشد بِهِ الْوسط وشقة تلبسها الْمَرْأَة وتشد وَسطهَا وَترسل أَعْلَاهَا على الْأَسْفَل إِلَى الرّكْبَة، وَقَالَ الْقَزاز: النطاق مَا تشد بِهِ الْمَرْأَة وَسطهَا ترفع بِهِ ثِيَابهَا وَترسل عَلَيْهِ أزارها، وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ إِزَار فِيهِ تكة تلبسه النِّسَاء. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي تَفْسِير الْمنطق فَقَالَ: الْمنطق النطاق وَجمعه مناطق وَهُوَ أَن تلبس الْمَرْأَة، وَبهَا ثمَّ تشد وَسطهَا بِشَيْء وترفع وسط ثوبها وترسله على الْأَسْفَل عِنْد معاناة الأشغال لِئَلَّا تعثر فِي ذيلها وَبِه سميت أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ذَات النطاقين لِأَنَّهَا كَانَت تطارق نطاقا فَوق نطاق. وَقيل: كَانَ لَهَا نطاقان تلبس أَحدهمَا وَتحمل فِي الآخر الزَّاد إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وهما فِي الْغَار. قَوْله: (فأوكيت) من الوكاء وَهُوَ الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة. قَوْله: (ايها) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالتنوين مَعْنَاهُ: الِاعْتِرَاف بِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ. والتقرير لَهُ تَقول الْعَرَب فِي استدعاء القَوْل من الْإِنْسَان أَيهَا وإيه، بِغَيْر تَنْوِين قَالَه الْخطابِيّ، وَاعْترض بِأَن الَّذِي ذكره ثَعْلَب وَغَيره: إِذا استزدت من الْكَلَام قلت: أيه، وَإِذا أمرت بِقطعِهِ. قلت: إيها، ورد بِأَن غير ثَعْلَب قد جزم بِأَن إيها كلمة استزادة وَبِغير التَّنْوِين لقطع الْكَلَام، وَقَالَ ابْن الْقَيْن: فِي سَائِر الرِّوَايَات يَقُول: ابْنهَا والإلاه بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَي: ابْن الزبير وَلَقَد أغرب ابْن التِّين فِيهِ حَتَّى نسبه بَعضهم إِلَى التَّصْحِيف. قَوْله: (تِلْكَ شكاة ظَاهر عَنْك عارها) .
(هَذَا عجز بَيت وصدره ... وعيرّها الواشمون أَنِّي أحبها)
وَهَذَا من قصيدة لأبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ من الطَّوِيل يرثي بهَا نسيبة بنت عنس بن محرث الْهُذلِيّ وأولها:
(هَل الدَّهْر إلاَّ لَيْلَة ونهارها ... وإلاَّ طُلُوع الشَّمْس ثمَّ غيارها)
(أَبى الْقلب إلاَّ أم عَمْرو فَأَصْبَحت ... تحرق نَارِي بالشكاة ونارها)
وَبعده: وعيرها الواشمون إِلَى آخِره، وَبعده:
(فَلَا يهنىء الواشين أَنِّي هجرتهَا ... وأظلم دوني لَيْلهَا ونهارها)
(فَإِن أعْتَذر مِنْهَا فَإِنِّي مكذب ... وَإِن تعتذر يردد عَلَيْهَا اعتذارها)
(فَمَا أم خشف بالعلاية شادن ... تنوش البرير حَيْثُ نَالَ اهتصارها)
وَهِي تنوف على ثَلَاثِينَ بَيْتا وقفت عَلَيْهَا فِي ديوانه قَوْله: (شكاة) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهَا: رفع الصَّوْت بالْقَوْل الْقَبِيح، وَقيل: بِكَسْر الشين وَالْفَتْح أصوب لِأَنَّهُ مصدر شكا يشكو شكاية، وشكوى وشكاة إِذا أخبر عَنهُ بشر. قَوْله: (ظَاهر) ، مَعْنَاهُ أَنه ارْتَفع عَنْك وَلم يعلق بك من الظُّهُور والصمود على أَعلَى الشَّيْء وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه} (الْكَهْف: 97) أَي: يَعْلُو عَلَيْهِ، وَمِنْه ومعارج يظهرون. قَوْله: (فَلَا يهنىء الواشين) من هَنأ فِي الطَّعَام يهنئني ويهنأني. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَلَا نَظِير لَهُ فِي المهموز. قَوْله: (وأظلم دوني لَيْلهَا ونهارها) ، مَعْنَاهُ: بَعدت عني فَلَا أَسْتَطِيع أَن أتيها فَصَارَ اللَّيْل وَالنَّهَار وَاحِدًا. قَوْله: (فَإِن اعتذر) إِلَى آخِره مَعْنَاهُ إِن أعْتَذر من حبها وَأَقُول: مَا بيني وَبَينهَا شَيْء فَإِنِّي مكذب، وَإِن تعتذر هِيَ أَيْضا تكذب. قَوْله: (فَمَا أم خشف) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالشين الْمُعْجَمَة وبالفاء وَهُوَ ولد الظبية قَوْله: (بالعلاية) إسم مَوضِع قَوْله: (شادن) من شدن لَحْمه إِذا قوي. قَوْله: (تنوش) أَي: تتَنَاوَل. قَوْله: (البرير) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالراء أَيْضا، ثَمَر الْأَرَاك. قَوْله: (اهتصارها) أَي: حَيْثُ نَالَ أَن يهتصره أَي: تجذبه.
5389 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ أُُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الحَارِثِ بنِ حَزنٍ خَالَةَ ابنِ عَبَّاسٍ أهْدَتْ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمْنا وَأَقِطًا وأضُبَّا، فَدَعا بِهِنَّ فَأكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَتَرَكَهُنَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالمُتَقَدِّرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَاما مَا أُُكِلْنَ عَلَى(21/37)
مَائِدَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلا أمَرَ بِأكْلِهِنَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (على مائدته) لِأَنَّهَا تطلق على السفرة، وَقد ذكر بعض الْمُفَسّرين أَن الْمَائِدَة الَّتِي نزلت على عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَت سفرة من جلد أَحْمَر، وَذكر أَكثر الْمُفَسّرين أَن الْمَائِدَة الْمَذْكُورَة فِي قصَّة عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، هِيَ الخوان، وَكَذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِي: الْمَائِدَة خوان عَلَيْهِ طَعَام، وَإِن لم يُفَسر الْمَائِدَة هُنَا بالسفرة يُعَكر عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ قَتَادَة عَن أنس، وَلَا أكل على خوان، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فَافْهَم. فَإِن هَذَا قد فتح لي من الْفَيْض الإلاهي.
وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل الملقب بعارم بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالرَّاء، وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَبعد الْألف نون إسمه الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة جَعْفَر بن إِيَاس الْيَشْكُرِي.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْهِبَة فِي: بَاب قبُول الْهَدِيَّة، لِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن جَعْفَر بن إِيَاس إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أم حفيد) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: بنت الْحَارِث بن حزن بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وبالنون وَاسْمهَا هزيلة مصغر هزلة وَلها أَخَوَات: أم خَالِد بن الْوَلِيد وَاسْمهَا لبَابَة بِضَم اللَّام الصُّغْرَى، وَأم ابْن عَبَّاس وَهِي اللبابة الْكُبْرَى، ومَيْمُونَة زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أم الْمُؤمنِينَ كُلهنَّ بَنَات الْحَارِث ابْن حزن الْهِلَالِي. قَوْله: (وأضُبا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الضَّاد وَتَشْديد الْبَاء جمع ضَب مثل فلس وأفلس، وَفِي (الْعين) : الضَّب يكنى أَبَا حلْس وَهِي دويبة تشبه الورل تَأْكُله الْأَعْرَاب. وَتقول الْعَرَب: هُوَ قَاضِي الطير والبهائم. قَوْله: (كالمتقذر) أَي: كالكاره من القذارة بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ خلاف النَّظَافَة، يُقَال: قذرت الشَّيْء بِالْكَسْرِ أقذره بِالْفَتْح، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَنه رُوِيَ: كالمتقزز من القز بزاءين معجمتين وَهُوَ الْكَرَاهَة لكل محتقر.
9 - (بَابُ: {السَّوِيقِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر السويق وَهُوَ مَعْرُوف.
5390 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا حَمّادٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ بُشَيْرٍ عَنْ بُشَيْرٍ بنِ يَسارٍ عَنْ سُوَيْدٍ بنِ النُّعْمَانِ أنَّهُ أخبرهُ أنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ عَلَى رَوْحَة مِنْ خَيْبَرَ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَدَعا بِطعامٍ فَلَمْ يَجِدْهُ إلاَّ سَوِيقا فَلاكَ مِنْهُ فَلُكْنا مَعَهُ ثمَّ دَعَا بِمَاء فَمَضْمض ثمَّ صلَّي وصَلّينا مَعَهُ وَلَمْ يَتَوَضأ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ابْن يسَار ضد الْيَمين.
والْحَدِيث قد مر قبل الْبَاب الَّذِي قبله، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فلاك مِنْهُ) ، ويروى: فلاكه، من اللوك وَهُوَ إدارة الشَّيْء فِي الْفَم. قَوْله: (وَلم يتَوَضَّأ) ، ذكره لبَيَان أَنه لم يَجْعَل أكل السويق ناقضا للْوُضُوء دفعا لمَذْهَب من يَقُول: يجب الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار.
10 - (بَابٌ: {مَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَأكُلُ شَيْئا إذَا حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ فَيَعْلَمَ مَا هُوَ} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَأْكُل شَيْئا إِذا حضر بَين يَدَيْهِ حَتَّى يُسمى لَهُ على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: يذكر لَهُ اسْم ذَلِك الشَّيْء. قَوْله: (فَيعلم) ، بِالنّصب هُوَ عطف على الْمَنْصُوب قبله بِتَقْدِير: أَن، وَقَالَ ابْن بطال كَانَ سُؤَاله لِأَن الْعَرَب كَانَت لَا تعاف شَيْئا من المآكل لقلتهَا عِنْدهم، فَلذَلِك كَانَ يسْأَل قبل الْأكل مِنْهُ.
5391 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أبُو الحَسَنِ أخبرَنا عَبْدُ الله أخْبرنَا يُونُسُ عَنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: أخْبَرَنِي أبُو أمَامَةَ بنُ سَهْلٍ بنِ حُنَيْفٍ الأنْصَارِي أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أخبرهُ أنَّ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ: لهُ سَيْفُ الله أخبرهُ أنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ(21/38)
ابنِ عبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَها ضبّا مَحْنُوذا قَدِمَتْ بِهِ أخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتْ الضَّبَّ لِرَسُولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ قَلّما يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطعامِ حَتَّى يُحِدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ: فأهْوَى رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَدَهُ إلَى الضَّبِّ فَقَالَتِ امْرَأةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الحُضُورِ: أخْبِرْنَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَدَّمتُنَّ لَهُ؟ هُوَ الضَبُّ يَا رَسُولَ الله {فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ. فَقَالَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ: أحَرَامٌ الضَبُّ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: لَا} وَلاكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأرْضِ قَوْمِي فَأجِدْنِي أعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ: فَاحْتَزَزْتُهُ فَأكَلْتُهُ وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْظُرُ إلَيَّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة. فِي قَوْله: (وَكَانَ قلّما يقدم يَده لطعام حَتَّى يحدث بِهِ وَيُسمى لَهُ) وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأَبُو أُمَامَة أسعد بن سهل بن حنيف، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مُسْند خَالِد بن الْوَلِيد فِي الْأَطْعِمَة هُنَا وَفِي الذَّبَائِح عَن القعني. وَأخرجه مُسلم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس فِي الذَّبَائِح عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه مثل البُخَارِيّ فِي مُسْند خَالِد فَأَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن القعني، وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن أبي دَاوُد والحراني وَغَيره، وَفِي الْوَلِيمَة عَن هَارُون بن عبد الله، وَابْن مَاجَه فِي الصَّيْد عَن مُحَمَّد بن مصفى.
قَوْله: (وَهِي خَالَته) ، أَي: مَيْمُونَة خَالَة خَالِد بن الْوَلِيد خَالَة ابْن عَبَّاس أَيْضا وَقد ذكرنَا عَن قريب فِي: بَاب الْخبز المرقق أَن مَيْمُونَة ولبابة الصُّغْرَى أم خَالِد ابْن الْوَلِيد، ولبابة الْكُبْرَى أم ابْن عَبَّاس وَأم حفيدة أَخَوَات، وَهن بَنَات الْحَارِث بن حزن، وَذكر هُنَا حفيدة وَهِي أم حفيدة، وَهُوَ الْمَحْفُوظ عِنْد أهل النّسَب، وَاسْمهَا: هزيلة وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (محنوذا) ، أَي: مشويا. قَالَ الله عز وَجل: {فجَاء بعجل حنيذ} (هود: 69) أَي: مشوي، يُقَال: حنذت الشَّاة أحنذها حنذا أَي: شويتها وَجعلت فَوْقهَا حِجَارَة محماة لتنضجها فَهِيَ حنيذ. قَوْله: (وَكَانَ فَلَمَّا يقدم) ، من التَّقْدِيم، وَقل، فعل مَاض، وَمَا يقدم فَاعله وَمَا مَصْدَرِيَّة، أَي: قبل تَقْدِيم يَده لطعام حَتَّى يُحدِّث على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: حَتَّى يخبر بِهِ مَا هُوَ ويُسمى مَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (لَهُ) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأَهوى) ، أَي: مد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده إِلَى الضَّب. قَوْله: (فَقَالَت امْرَأَة من النسْوَة الْحُضُور) وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْكُل قَالَت لَهُ مَيْمُونَة: إِنَّه لحم ضَب فَكف يَده، وَوصف النسْوَة بالحضور الَّذِي هُوَ جمع حَاضر مَعَ أَن الْمُطَابقَة شَرط بَين الصّفة والموصوف فِي التَّذْكِير والتأنيث وَغَيرهمَا. لِأَنَّهُ لوحظ فيهمَا صُورَة الْجمع أَو يُقَال: إِن الْحُضُور مصدر. قَوْله: (أحرام الضَّب) ؟ نَحْو: أقائم زيد؟ فَيجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ. قَوْله: (فأجدني) ، أَي: فأجد نَفسِي. قَوْله: (أعافه) أَي: أكرهه من عاف الرجل الطَّعَام وَالشرَاب يعافه عيافا. أَي: كرهه فَهُوَ عائف. قَوْله: (وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. فَقَالُوا: يجوز أكل الضَّب، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة أَيْضا، وَقَالَ ابْن حزم: وَصحت إِبَاحَته عَن عمر بن الْخطاب وَغَيره.
وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) وَيكرهُ أكل الضَّب لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، حِين سَأَلته عَن أكله، وَلَكِن الطَّحَاوِيّ فِي (شرح مَعَاني الْآثَار) رجح إِبَاحَة أكل الضَّب. وَقَالَ: لَا بَأْس بِأَكْل الضَّب، وَهُوَ القَوْل عندنَا. وَقَالَ: وَقد كره قوم أكل الضَّب مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. قلت: أَرَادَ بالقوم الْحَارِث بن مَالك وَيزِيد بن أبي زِيَاد ووكيعا فَإِنَّهُم قَالُوا: أكل الضَّب مَكْرُوه، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَجَابِر بن عبد الله، ثمَّ الْأَصَح عِنْد أَصْحَابنَا أَن الْكَرَاهَة كَرَاهَة تَنْزِيه لَا كَرَاهَة تَحْرِيم لتظاهر الْأَحَادِيث الصِّحَاح، بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحرَام، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: أَحَادِيث دلّت على الْإِبَاحَة وَأَحَادِيث دلّت على الْحُرْمَة. والتاريخ مَجْهُول فَيجْعَل الْمحرم مُؤَخرا عَن الْمُبِيح فَيكون نَاسِخا لَهُ تعليلاً للنسخ، وَمن جملَة الْأَحَادِيث الدَّالَّة على الْحُرْمَة حَدِيث عَائِشَة الَّذِي ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) . وَلَكِن فِيهِ مقَال: وَلما ذكر صَاحب (تَخْرِيج أَحَادِيث الْهِدَايَة) حَدِيث عَائِشَة قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. قلت: رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن عَن الْأسود عَن عَائِشَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهدي لَهُ ضَب فَلم يَأْكُلهُ. فَسَأَلته عَن أكله فنهاني، فجَاء سَائل فَأَرَادَتْ عَائِشَة أَن تعطيه فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تعطينه مَا لَا تأكليه؟ فالنهي يدل على(21/39)
التَّحْرِيم، وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ضَمْضَم بن زرْعَة عَن شُرَيْح بن عبيد عَن أبي رَاشد الحبراني عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن أكل لحم الضَّب، فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ ابْن عَيَّاش وَلَيْسَ بِحجَّة، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وضمضم فيهمَا مقَال، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بذلك. قلت: ضَمْضَم حمصي وَابْن عَيَّاش إِذا روى عَن الشاميين كَانَ حَدِيثه صَحِيحا، كَذَا قَالَه البُخَارِيّ وَيحيى بن معِين وَغَيرهمَا وَالْعجب من الْبَيْهَقِيّ أَنه قَالَ فِي بَاب ترك الْوضُوء من الدَّم مثل مَا قَالَ البُخَارِيّ وَيحيى، وَهنا يَقُول: لَيْسَ بِحجَّة، وَلما أخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث سكت عَنهُ وَهُوَ حسن عِنْده على مَا عرف، وَقد صحّح التِّرْمِذِيّ لِابْنِ عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم عَن أبي أُمَامَة وشرحبيل شَامي، وروى الطَّحَاوِيّ فِي (مَعَاني الْآثَار) مُسْندًا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة. قَالَ: نزلنَا أَرضًا كَثِيرَة الضباب، فأصابتنا مجاعَة فطبخنا مِنْهَا. وَإِن الْقُدُور لتغلي بهَا إِذْ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: أضباب أصبناها، فَقَالَ: إِن أمة من بني إِسْرَائِيل مسخت دَوَاب فِي الأَرْض إِنِّي أخْشَى أَن تكون هَذِه، فأكفئوها.
11 - (بَابٌ: {طَعامُ الواحِدِ يَكْفِي الإثْنَيْنِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه بِإِسْنَادِهِ عَن عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَام الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَة، وَالْأَرْبَعَة وَطَعَام الْأَرْبَعَة يَكْفِي الْخَمْسَة والستة وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كلوا جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا فَإِن طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن مَسْعُود. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَام الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَة، روى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَحَدِيث الْبَاب يُخَالف التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى لِأَن مرجع قَضِيَّة التَّرْجَمَة النّصْف ومرجع قَضِيَّة حَدِيث الْبَاب الثُّلُث وَالرّبع. وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَشَارَ بالترجمة إِلَى أَن هَذِه الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَلما لم يكن أَحَادِيث هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين على شَرطه ذكر فِي التَّرْجَمَة. وَذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْبَاب لكَونه على شَرطه.
5392 - حدَّثنا عَبْدَ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مَالِكٌ وَحَدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدَّثَني مَالِكٌ عَنْ أبِي الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنهُ، أنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طَعَامُ الإثْنَيْنِ كَافِي الثَلاثَةِ، وَطَعَامُ الثَلاثَةِ كَافِي الأرْبَعَةِ.
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث يفهم مِمَّا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك إِلَى آخِره.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن غَيره.
قَوْله: (وَطَعَام الِاثْنَيْنِ كَاف الثَّلَاثَة) يَعْنِي: مَا يشْبع بِهِ اثْنَان يشْبع ثَلَاثَة وَمَا يشْبع بِهِ ثَلَاثَة يشْبع أَرْبَعَة. قَالَ الْمُهلب: المُرَاد بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الحض على المكارمة والتقنع بالكفاية يَعْنِي: لَيْسَ المُرَاد الْحصْر فِي مِقْدَار الْكِفَايَة وَإِنَّمَا المُرَاد الْمُوَاسَاة، وَأَنه يَنْبَغِي للاثنين إِدْخَال ثَالِث لطعامهما وَإِدْخَال رَابِع أَيْضا بِحَسب من يحضر، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يُؤْخَذ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة اسْتِحْبَاب الِاجْتِمَاع على الطَّعَام، وَأَن لَا يَأْكُل الْمَرْء وَحده، فَإِن الْبركَة فِي ذَلِك. قلت: وَقد ذكرنَا أَن الطَّبَرَانِيّ، روى من حَدِيث ابْن عمر: (كلوا جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا) الحَدِيث.
12 - (بَابٌ: {المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي معىً وَاحِدٍ} )
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمُؤمن يَأْكُل فِي معى وَاحِد، فَلفظ معى مَقْصُور بِكَسْر الْمِيم والتنوين، وَيجمع على: أمعاء، وَهِي المصارين وتثنيته: معيان. قَالَ أَبُو حَاتِم: أَنه مُذَكّر مَقْصُور وَلم أسمع أحدا أنث المعًى، وَقد رَوَاهُ من لَا يوثق بِهِ، وَالْهَاء فِي سَبْعَة فِي(21/40)
الحَدِيث تدل على التَّذْكِير فِي الْوَاحِد وَلم أسمع معًى وَاحِدَة مِمَّن أَثِق بِهِ. وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن أهل الطِّبّ والتشريح أَنهم زَعَمُوا أَن أمعاء الإنساء سَبْعَة: الْمعدة ثمَّ ثَلَاثَة أمعاء بعْدهَا مُتَّصِلَة بهَا البواب والصائم وَالرَّقِيق، وَهِي كلهَا رقاق ثمَّ ثَلَاثَة غِلَاظ: الْأَعْوَر والقولون والمستقيم، وطرفه الدبر: وَلَقَد نظم شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله الأمعاء السَّبْعَة ببيتين وهما:
(سَبْعَة أمعاء لكل آدَمِيّ ... معدة بوابها مَعَ صَائِم)
(ثمَّ الرَّقِيق أَعور قولون مَعَ ... الْمُسْتَقيم مَسْلَك للطاعم)
وَقيل: أَسمَاء الأمعاء السَّبْعَة: الاثنا عشر والصائم والقولون واللفائفي بالفاءين وَقيل: بالقافين وبالنون، والمستقيم والأعور، فللمؤمن يَكْفِيهِ ملْء أَحدهَا، وَالْكَافِر لَا يَكْفِيهِ إلاَّ ملْء كلهَا.
5393 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَارٍ حدَّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ وَاقِدٍ بنِ مُحَمَّدٍ عَنِ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ لَا يأكُلُ حَتَّى يُؤْتِي بِمِسْكِينٍ يَأكُلُ مَعَهُ، فَأدْخَلْتُ رَجُلاً يَأكُلُ مَعَهُ فَأكَلَ كَثِيرا فَقَالَ: يَا نَافِع لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: المُؤْمِنُ يأكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَأكُلُ فِي سَبْعَةِ أمْعَاءٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. لِأَن التَّرْجَمَة هِيَ نصف الحَدِيث، وَعبد الصَّمد هُوَ عبد الْوَارِث، وواقد بِالْقَافِ وَالدَّال الْمُهْملَة هُوَ ابْن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن خَلاد.
قَوْله: (لَا تدخل) ، بِضَم التَّاء من الإدخال. قَوْله: (عَليّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (الْمُؤمن يَأْكُل فِي معىً وَاحِد) وَإِنَّمَا عدى الْأكل بِكَلِمَة: فِي على معنى: أوقع الْأكل فِيهَا وَجعلهَا مَكَانا للمأكول. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَار} (النِّسَاء: 10) أَي: ملْء بطونهم، وَاخْتلف فِي المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث، فَقيل: هُوَ مثل ضرب الْمُؤمن وزهده فِي الدُّنْيَا وللكافر وحرصه عَلَيْهَا. وَقيل: هُوَ تَخْصِيص لِلْمُؤمنِ على أَن يتحامى مَا يجره كَثْرَة الْأكل من الْقَسْوَة وَالنَّوْم، وَوصف الْكَافِر بِكَثْرَة الْأكل ليتجنب الْمُؤمن مَا هُوَ صفة للْكَافِرِ، كَمَا قَالَ عز وَجل: {وَالَّذين كفرُوا يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام} (مُحَمَّد: 12) وَهَذَا فِي الْغَالِب وَالْأَكْثَر، وإلاَّ فقد يكون فِي الْمُؤمنِينَ من يَأْكُل كثيرا بِحَسب الْعَادة أَو لعَارض، وَيكون فِي الْكفَّار من يعْتَاد قلَّة الْأكل إِمَّا المراعاة الصِّحَّة. كالأطباء أَو للتقلل كالرهبان، أَو لضعف الْمعدة، وَقيل: يُمكن أَن يُرَاد بِهِ أَن الْمُؤمن يُسَمِّي الله عز وَجل عِنْد طَعَامه فَلَا يشركهُ الشَّيْطَان، وَالْكَافِر لَا يُسَمِّي الله عِنْد طَعَامه وَقيل: المُرَاد بِالْمُؤمنِ التَّام الْإِيمَان لِأَن من حسن إِسْلَامه وكمل إيمَانه اشْتغل فكره فِيمَا يصل إِلَيْهِ من الْمَوْت وَمَا بعده، فيمنعه ذَلِك من اسْتِيفَاء شَهْوَته، وَأما الْكَافِر فَمن شَأْنه الشره، فيأكل بالنهم كَمَا تَأْكُل الْبَهِيمَة وَلَا يَأْكُل بِالْمَصْلَحَةِ لقِيَام البنية. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: سَمِعت ابْن أبي عمرَان يَقُول: قد كَانَ قوم حملُوا هَذَا الحَدِيث على الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا كَمَا يَقُول: (فلَان يَأْكُل الدُّنْيَا أكلا) أَي يرغب فِيهَا ويحرص عَلَيْهَا، فالمؤمن يَأْكُل فِي معًى وَاحِد لزهادته فِي الدُّنْيَا، وَالْكَافِر فِي سَبْعَة أمعاء أَي: لرغبته فِيهَا وَلم يحملوا ذَلِك على الطَّعَام. قَالُوا: وَقد رَأينَا مُؤمنا أَكثر طَعَاما من كَافِر، وَلَو تَأَول ذَلِك على الطَّعَام اسْتَحَالَ معنى الحَدِيث، وَقيل: هُوَ رجل خَاص بِعَيْنِه، وَكَانَ كَافِرًا ثمَّ أسلم، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الرجل. فَقيل: ثُمَامَة بن أَثَال، وَبِه جزم الْمَازرِيّ وَالنَّوَوِيّ، وَقيل: جَهْجَاه الْغِفَارِيّ، وَقيل: نَضْلَة بن عَمْرو الْغِفَارِيّ، وَقيل: أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ، وَقيل: ابْنه بصرة بن أبي بصرة الْغِفَارِيّ، وَقيل: أَبُو غَزوَان غير مُسَمّى، وروى الطَّبَرَانِيّ، بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع رجال فَأخذ كل رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فَأخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا اسْمك قَالَ أَبُو غَزوَان، قَالَ: فَحلبَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع شِيَاه، فَشرب لَبنهَا كُله، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لَك يَا أَبَا غَزوَان أَن تسلم؟ قَالَ: نعم، فَأسلم فَمسح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدره فَلَمَّا أصبح حلب لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة وَاحِدَة فَلم يتم لَبنهَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَالك يَا أَبَا غَزوَان؟ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد رويت. قَالَ: إِنَّك أمس كَانَ لَك سَبْعَة أمعاء وَلَيْسَ لَك الْيَوْم إلاَّ وَاحِد. قلت: أَبُو بصرة بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، واسْمه حميل بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح(21/41)
الْمِيم. قَوْله: (فِي سَبْعَة أمعاء) اخْتلف فِي المُرَاد بهَا. فَقيل: هُوَ على ظاهرهِ، وَقيل: للْمُبَالَغَة وَلَيْسَت حَقِيقَة الْعدَد مُرَادة، وَإِنَّمَا خرج مخرج الْغَالِب، وَقيل: تَخْصِيص السَّبْعَة للْمُبَالَغَة فِي التكثير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر} (لُقْمَان: 27) قَالَ النَّوَوِيّ: الصِّفَات السَّبْعَة فِي الْكَافِر وَهِي: الْحِرْص والشره وَطول الأمل والطمع وَسُوء الطَّبْع والحسد وَحب السّمن، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: شهوات الطَّعَام سبع: شَهْوَة الطَّبْع، وشهوة النَّفس، وشهوة الْعين، وشهوة الْفَم، وشهوة الْأذن، وشهوة الْأنف، وشهوة الْجُوع، وَهِي الضرورية الَّتِي يَأْكُل بهَا الْمُؤمن وَأما الْكَافِر فيأكل بِالْجَمِيعِ.
(بَابٌ: {المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، فِيهِ أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} )
إِعَادَة هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا مَعَ ذكر أبي هُرَيْرَة على وَجه التَّعْلِيق لم تثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ وَحده، وَلم تقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت عَن الدَّاودِيّ عَن السَّرخسِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ ضم الحَدِيث الَّذِي قبله إِلَى تَرْجَمَة: طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وإيراد هَذِه التَّرْجَمَة لحَدِيث ابْن عمر بِطرقِهِ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة بطريقيه، وَلم يذكر فِيهَا التَّعْلِيق، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه وَلَيْسَ لإعادة التَّرْجَمَة بلفظها معنى، وَكَذَا ذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي التَّرْجَمَة. ثمَّ إِيرَاده فِيهَا موصولين من وَجْهَيْن.
5393 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَارٍ حدَّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ وَاقِدٍ بنِ مُحَمَّدٍ عَنِ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ لَا يأكُلُ حَتَّى يُؤْتِي بِمِسْكِينٍ يَأكُلُ مَعَهُ، فَأدْخَلْتُ رَجُلاً يَأكُلُ مَعَهُ فَأكَلَ كَثِيرا فَقَالَ: يَا نَافِع لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: المُؤْمِنُ يأكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَأكُلُ فِي سَبْعَةِ أمْعَاءٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. لِأَن التَّرْجَمَة هِيَ نصف الحَدِيث، وَعبد الصَّمد هُوَ عبد الْوَارِث، وواقد بِالْقَافِ وَالدَّال الْمُهْملَة هُوَ ابْن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن خَلاد.
قَوْله: (لَا تدخل) ، بِضَم التَّاء من الإدخال. قَوْله: (عَليّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (الْمُؤمن يَأْكُل فِي معىً وَاحِد) وَإِنَّمَا عدى الْأكل بِكَلِمَة: فِي على معنى: أوقع الْأكل فِيهَا وَجعلهَا مَكَانا للمأكول. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَار} (النِّسَاء: 10) أَي: ملْء بطونهم، وَاخْتلف فِي المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث، فَقيل: هُوَ مثل ضرب الْمُؤمن وزهده فِي الدُّنْيَا وللكافر وحرصه عَلَيْهَا. وَقيل: هُوَ تَخْصِيص لِلْمُؤمنِ على أَن يتحامى مَا يجره كَثْرَة الْأكل من الْقَسْوَة وَالنَّوْم، وَوصف الْكَافِر بِكَثْرَة الْأكل ليتجنب الْمُؤمن مَا هُوَ صفة للْكَافِرِ، كَمَا قَالَ عز وَجل: {وَالَّذين كفرُوا يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام} (مُحَمَّد: 12) وَهَذَا فِي الْغَالِب وَالْأَكْثَر، وإلاَّ فقد يكون فِي الْمُؤمنِينَ من يَأْكُل كثيرا بِحَسب الْعَادة أَو لعَارض، وَيكون فِي الْكفَّار من يعْتَاد قلَّة الْأكل إِمَّا المراعاة الصِّحَّة. كالأطباء أَو للتقلل كالرهبان، أَو لضعف الْمعدة، وَقيل: يُمكن أَن يُرَاد بِهِ أَن الْمُؤمن يُسَمِّي الله عز وَجل عِنْد طَعَامه فَلَا يشركهُ الشَّيْطَان، وَالْكَافِر لَا يُسَمِّي الله عِنْد طَعَامه وَقيل: المُرَاد بِالْمُؤمنِ التَّام الْإِيمَان لِأَن من حسن إِسْلَامه وكمل إيمَانه اشْتغل فكره فِيمَا يصل إِلَيْهِ من الْمَوْت وَمَا بعده، فيمنعه ذَلِك من اسْتِيفَاء شَهْوَته، وَأما الْكَافِر فَمن شَأْنه الشره، فيأكل بالنهم كَمَا تَأْكُل الْبَهِيمَة وَلَا يَأْكُل بِالْمَصْلَحَةِ لقِيَام البنية. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: سَمِعت ابْن أبي عمرَان يَقُول: قد كَانَ قوم حملُوا هَذَا الحَدِيث على الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا كَمَا يَقُول: (فلَان يَأْكُل الدُّنْيَا أكلا) أَي يرغب فِيهَا ويحرص عَلَيْهَا، فالمؤمن يَأْكُل فِي معًى وَاحِد لزهادته فِي الدُّنْيَا، وَالْكَافِر فِي سَبْعَة أمعاء أَي: لرغبته فِيهَا وَلم يحملوا ذَلِك على الطَّعَام. قَالُوا: وَقد رَأينَا مُؤمنا أَكثر طَعَاما من كَافِر، وَلَو تَأَول ذَلِك على الطَّعَام اسْتَحَالَ معنى الحَدِيث، وَقيل: هُوَ رجل خَاص بِعَيْنِه، وَكَانَ كَافِرًا ثمَّ أسلم، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الرجل. فَقيل: ثُمَامَة بن أَثَال، وَبِه جزم الْمَازرِيّ وَالنَّوَوِيّ، وَقيل: جَهْجَاه الْغِفَارِيّ، وَقيل: نَضْلَة بن عَمْرو الْغِفَارِيّ، وَقيل: أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ، وَقيل: ابْنه بصرة بن أبي بصرة الْغِفَارِيّ، وَقيل: أَبُو غَزوَان غير مُسَمّى، وروى الطَّبَرَانِيّ، بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع رجال فَأخذ كل رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فَأخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا اسْمك قَالَ أَبُو غَزوَان، قَالَ: فَحلبَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع شِيَاه، فَشرب لَبنهَا كُله، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لَك يَا أَبَا غَزوَان أَن تسلم؟ قَالَ: نعم، فَأسلم فَمسح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدره فَلَمَّا أصبح حلب لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة وَاحِدَة فَلم يتم لَبنهَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَالك يَا أَبَا غَزوَان؟ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد رويت. قَالَ: إِنَّك أمس كَانَ لَك سَبْعَة أمعاء وَلَيْسَ لَك الْيَوْم إلاَّ وَاحِد. قلت: أَبُو بصرة بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، واسْمه حميل بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم. قَوْله: (فِي سَبْعَة أمعاء) اخْتلف فِي المُرَاد بهَا. فَقيل: هُوَ على ظاهرهِ، وَقيل: للْمُبَالَغَة وَلَيْسَت حَقِيقَة الْعدَد مُرَادة، وَإِنَّمَا خرج مخرج الْغَالِب، وَقيل: تَخْصِيص السَّبْعَة للْمُبَالَغَة فِي التكثير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر} (لُقْمَان: 27) قَالَ النَّوَوِيّ: الصِّفَات السَّبْعَة فِي الْكَافِر وَهِي: الْحِرْص والشره وَطول الأمل والطمع وَسُوء الطَّبْع والحسد وَحب السّمن، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: شهوات الطَّعَام سبع: شَهْوَة الطَّبْع، وشهوة النَّفس، وشهوة الْعين، وشهوة الْفَم، وشهوة الْأذن، وشهوة الْأنف، وشهوة الْجُوع، وَهِي الضرورية الَّتِي يَأْكُل بهَا الْمُؤمن وَأما الْكَافِر فيأكل بِالْجَمِيعِ.
(بَابٌ: {المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، فِيهِ أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} )
إِعَادَة هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا مَعَ ذكر أبي هُرَيْرَة على وَجه التَّعْلِيق لم تثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ وَحده، وَلم تقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت عَن الدَّاودِيّ عَن السَّرخسِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ ضم الحَدِيث الَّذِي قبله إِلَى تَرْجَمَة: طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وإيراد هَذِه التَّرْجَمَة لحَدِيث ابْن عمر بِطرقِهِ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة بطريقيه، وَلم يذكر فِيهَا التَّعْلِيق، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه وَلَيْسَ لإعادة التَّرْجَمَة بلفظها معنى، وَكَذَا ذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي التَّرْجَمَة. ثمَّ إِيرَاده فِيهَا موصولين من وَجْهَيْن.
5394 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ أخْبرنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ المُؤْمِنَ يَأكلُ فِي مَعًى وَاحِدٍ وَإنَّ الكافِرَ أوْ المُنَافِقَ فَلا أدْرِي أيَّهُما قَالَ عُبَيْدُ الله: يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أمْعَاءٍ.
وَقَالَ ابنُ بُكَيْرٍ: حدَّثنا مَالِكٌ عَنْ نَافِعِ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِثْلِهِ.
وَجه الْمُطَابقَة مَوْجُود، وَعَبدَة بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن سُلَيْمَان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ، والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أَو الْمُنَافِق) شكّ من عَبدة، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (فَلَا أَدْرِي أَيهمَا قَالَ عبيد الله) يَعْنِي: ابْن عمر الْعمريّ، وَرَوَاهُ مُسلم من طَرِيق يحيى الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر بِلَفْظ: الْكَافِر، بِغَيْر شكّ، وَكَذَا رَوَاهُ عَمْرو بن دِينَار كَمَا يَأْتِي فِي الْبَاب، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث سَمُرَة بِلَفْظ: الْمُنَافِق، بدل الْكَافِر.
قَوْله: (وَقَالَ ابْن بكير) ، هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي بَدْء الْوَحْي وَغير مَوضِع. قَالَ الدمياطي: قَالَ ابْن يُونُس: ولد يحيى بن بكير سِتَّة أَربع وَخمسين وَمِائَة، وَمَات فِي صفر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو نعيم: حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد حَدثنَا الْفضل بن عَيَّاش حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا مَالك فَذكره. قَوْله: (بِمثلِهِ) أَي: بِمثل أصل الحَدِيث لَا خُصُوص الشَّك الْوَاقِع فِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع.
5395 - حدَّثنا عَلِيٌّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْروٍ، قَالَ: كَانَ أبُو نَهِيكٍ رَجُلاً أكُولاً، فَقَالَ لَهُ ابنُ عُمَرَ: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّ الكَافِرَ يَأكُلُ فِي سَبْعَةِ أمْعَاء، فَقَالَ: فَأنا أومِنُ بِالله وَرَسُولِهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عمر أخرجه عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره، والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (كَانَ أَبُو نهيك) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْهَاء وبالكاف، قَالَ الْكرْمَانِي: كَانَ رجلا من أهل مَكَّة. قلت: أَخذه من كَلَام الْحميدِي فَإِن فِي رِوَايَته قيل لِابْنِ عمر: أَن أَبَا نهيك رجل من أهل مَكَّة يَأْكُل أكلا كثيرا. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: أَبُو نهيك (أَنا أومن بِاللَّه وَرَسُوله) وَمن هَذَا حمل الحَدِيث على ظَاهره كَمَا ذكرنَا.
5396 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ، قَالَ: حدَّثني مَالِكٌ عَنْ أبِي الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عنهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يأكُلُ المُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالكافِرُ يَأكُلُ فِي سَبْعَةِ أمْعَاءٍ.(21/42)
إِيرَاد هَذَا هُنَا ظَاهر. أخرجه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
5397 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بنِ ثَابِتٍ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَجُلاً كَانَ يَأْكُلُ أكْلاً كَثِيرا، فأسْلَمَ فَكَانَ يَأكُلُ أكْلاً قَلِيلاً فَذُكِرَ ذالِكَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إنَّ المُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالكافِرَ يأكُلُ فِي سَبْعَةِ أمْعَاءٍ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن عدي بن ثَابت هُوَ عدي بن أبان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ الْكُوفِي ابْن ابْنه عبد الله بن يزِيد الخطمي، مَاتَ سنة خمس عشرَة وَمِائَة، وَكَانَ إِمَام مَسْجِد الشِّيعَة وقاضيهم بِالْكُوفَةِ، وَقد اتفقَا على الِاحْتِجَاج بِهِ، وَهُوَ يروي عَن أبي حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ، وَلَيْسَ هُوَ سَلمَة ابْن دِينَار الزَّاهِد، فَإِنَّهُ أَصْغَر من الْأَشْجَعِيّ وَلم يدْرك أَبَا هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن عَمْرو بن يزِيد عَن بهز عَن شُعْبَة نَحوه: جَاءَ كَافِر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم، فَجعل يَأْكُل قَلِيلا وَكَانَ قبل ذَلِك يَأْكُل كثيرا. الحَدِيث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق بن عِيسَى عَن مَالك عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَضَافَهُ ضيف وَهُوَ كَافِر فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة فحلبت فَشرب حلابها ثمَّ أُخْرَى فَشرب، ثمَّ أُخْرَى فَشرب، حَتَّى شرب حلاب سبع شِيَاه، ثمَّ إِنَّه أصبح فَأسلم فَأمر لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَاة فَشرب حلابها، ثمَّ أَمر بِأُخْرَى فَلم يستتمها، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤمن يشرب فِي معًى وَاحِد وَالْكَافِر يشرب فِي سَبْعَة أمعاء.
13 - (بَابٌ: {الأكْلِ مُتَّكِئا} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيفَ حكم الْأكل حَال كَونه مُتكئا، وَإِنَّمَا لم يجْزم بِحكمِهِ لِأَنَّهُ لم يَأْتِ فِيهِ نهي صَرِيح، وَقد ترْجم التِّرْمِذِيّ هَذَا الْبَاب بقوله: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَة الْأكل مُتكئا، ثمَّ روى حَدِيث أبي جُحَيْفَة، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: حمل التِّرْمِذِيّ أَحَادِيث الْأكل مُتكئا على الْكَرَاهَة كَمَا بوب عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَقد أكل غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مُتكئا، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) ثمَّ قَالَ: اخْتلف فِي المُرَاد بالاتكاء فِي حَالَة الْأكل؟ فَقيل: المُرَاد المتربع المتقعد كالمتهيىء للطعام انْتهى كَلَامه. وَفِي (التَّلْوِيح) المتكىء هُنَا هُوَ الْمُعْتَمد على الوطاء الَّذِي تَحْتَهُ، وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على وطاه فَهُوَ المتكىء كَأَنَّهُ أوكى مقعدته وسدها بالقعود على الوطاء الَّذِي تَحْتَهُ. وَقيل: الاتكاء هُوَ أَن يتكىء، على أحد جانبيه، وَهُوَ فعل المتجبرين، والمتكىء أَصله الموتكىء قلبت الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي التَّاء، وَهُوَ من معتل الْفَاء مَهْمُوز اللَّام تَقول: أتكأ على شَيْء فَهُوَ متكىء وأصل التَّاء فِي جمع مواده وَاو.
5398 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا مِسْعَرٌ عَنْ عَلِيِّ بنِ الأقْمَرِ: سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا آكُلُ مُتَّكِئا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، ومسعر بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة ابْن كدام العامري الْكُوفِي، وَعلي بن الْأَقْمَر بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مُعَاوِيَة الْهَمدَانِي بِسُكُون الْمِيم الوادعي الْكُوفِي، ثِقَة عِنْد الْجَمِيع وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَأَبُو جُحَيْفَة بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله السوَائِي.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَفِي الشَّمَائِل عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن عِيسَى.
قَوْله: (لَا آكل مُتكئا) أَي: حَال كوني مُتكئا. وَقَالَ الْخطابِيّ حسب الْعَامَّة أَن المتكىء هُوَ المائل على أحد شقيه، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل المتكىء هُنَا هُوَ الْمُعْتَمد على الْوَطْأَة(21/43)
الَّذِي تَحْتَهُ، وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على طائه فَهُوَ متكىء أَي: إِذا أكلت لم أقعد مُتَمَكنًا على الأوطئة فعل من يستكثر من الْأَطْعِمَة، ولكنني آكل الْعلقَة من الطَّعَام فَيكون قعودي مستوفرا. لَهُ وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: أما أَنا فَلَا آكل مُتكئا، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن ترك الْأكل مُتكئا من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد عده أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاص من خَصَائِصه. وَالظَّاهِر عدم التَّخْصِيص، وَقد روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَأْكُل مُتكئا، وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: يكره أَيْضا لِأَنَّهُ من فعل المتعظمين وَأَصله مَأْخُوذ من مُلُوك الْعَجم، وَقد أخرج ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عَبَّاس وخَالِد بن الْوَلِيد وَعبيدَة السَّلمَانِي وَمُحَمّد بن سِيرِين وَعَطَاء بن يسَار وَالزهْرِيّ جَوَاز ذَلِك مُطلقًا، وَإِذا ثَبت كَونه مَكْرُوها أَو خلاف الأولى فاستحب فِي صفة الْجُلُوس للْأَكْل أَن يكون جانبا على رُكْبَتَيْهِ وَظُهُور قَدَمَيْهِ أَو ينصب الرجل الْيُمْنَى وَيجْلس على الْيُسْرَى.
5399 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ أخْبرَنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُور عَنْ عَلِيِّ بنِ الأقْمَرِ عَنْ أبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: لَا آكُلُ وَأنا مُتَكىءٌ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي جُحَيْفَة أخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر الْكُوفِي عَن عَليّ بن الْأَقْمَر. الخ وَالْفرق بَين قَوْله: (لَا آكل وَأَنا متكىء) وَبَين قَوْله فِي الحَدِيث الْمَاضِي: لَا آكل مُتكئا أَن اسْم الْفَاعِل يدل على الْحَدث، وَالْجُمْلَة الإسمية تدل على الثُّبُوت. فَالثَّانِي أبلغ من الأول فِي الْإِثْبَات وَأما فِي النَّفْي فبالعكس فَالْأول أبلغ، فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ثَابت الْبنانِيّ عَن شُعَيْب بن عبد الله بن عَمْرو عَن أَبِيه. قَالَ: مَا رئي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل مُتكئا قطّ، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يحدث أَن الله عز وَجل أرسل إِلَى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملكا من الْمَلَائِكَة مَعَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: إِن الله مخيرك بَين أَن تكون عبدا نَبيا وَبَين أَن تكون ملكا، فَقَالَ: لَا بل أكون نَبيا عبدا، فَمَا أكل بعد تِلْكَ الْكَلِمَة طَعَاما مُتكئا. وَفِي (علل عبد الرَّحْمَن) من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب بن خباب عَن أَبِيه عَن جده. رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل قديدا مُتكئا.
قلت: أما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ مَحْمُول أَنه مَا رئي يَأْكُل مُتكئا بعد قَضِيَّة الْملك. وَأما حَدِيث السَّائِب عَن أَبِيه عَن جده فقد قَالَ عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه: إِن هَذَا حَدِيث بَاطِل. فَإِن قلت: كَيفَ روى ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أكل بعد تِلْكَ الْكَلِمَة طَعَاما مُتكئا، وَقد روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث يزِيد بن زِيَاد قَالَ أَخْبرنِي من رأى ابْن عَبَّاس يَأْكُل مُتكئا؟ قلت: الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة ضَعِيف، وَلَو صَحَّ لكَانَتْ الْعبْرَة لما روى لَا لما رأى عِنْد الْبَعْض، وَمذهب جمَاعَة أَن الرَّاوِي إِذا خَالف رِوَايَته دلّ عِنْده على نسخ مَا رَوَاهُ.
14 - (بَابُ: {الشِّواءِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز أكل الشواء بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة من شويت اللَّحْم شيا وَالِاسْم الشواء، والقطعة مِنْهُ شواة.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (هود: 69) أيْ مَشْوِيٍّ
هَذَا فِي إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الجائي بعجل حنيذ. وقصته أَن قوم لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أفسدوا وطغوا وبغوا دَعَا لوط ربه بِأَن ينصره عَلَيْهِم، فَأرْسل أَرْبَعَة من الْمَلَائِكَة جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل ودردائيل لإهلاكهم وَبشَارَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْوَلَدِ فَأَقْبَلُوا مشَاة فِي صُورَة رجال مرد حسان حَتَّى نزلُوا على إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ الضَّيْف قد حبس عَنهُ خمس عشرَة لَيْلَة حَتَّى شقّ ذَلِك عَلَيْهِ، وَكَانَ لَا يَأْكُل إلاَّ مَعَ الضَّيْف مهما أمكنه، فَلَمَّا رَآهُمْ سربهم، وَقَالَ: لَا يخْدم هَؤُلَاءِ إلاَّ أَنا فَخرج إِلَى أَهله فجَاء بعجل حنيذ، وَهُوَ المشوي بِالْحِجَارَةِ فعيل بِمَعْنى مفعول من حنذت اللَّحْم أحنذه حنذا إِذا شويته بِالْحِجَارَةِ المسخنة. وَاللَّحم حنيذ ومحنوذ. قَوْله: (أَي مشوي) ، كلمة أَي: لم تثبت إلاَّ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: حنيذ مشوي، وَلَيْسَ فِيهِ كلمة أَي.
5400 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أبِي(21/44)
أُمَامَةَ بنِ سَهْلٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ عَنْ خالِدِ بنِ الوَلِيدِ قَالَ: أُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ، فَأهْوَى إلَيْهِ لِيَأْكُلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ ضَبٌّ فَأمْسَكَ يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: أحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلاكِنَّهُ لَا يَكُونُ بِأرْض قَوْمِي فأجِدُنِي أعَافُهُ، فَأكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْظُرُ.
قَالَ مَالِكٌ عنِ ابنِ شهابٍ: بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بضب مشوي) والْحَدِيث مضى قبله بِثَلَاثَة أَبْوَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَالك عَن ابْن شهَاب بضب محنوذ) ، هَذَا رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أبي أُمَامَة بن سُهَيْل بن حنيف عَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: دخلت أَنا وخَالِد بن الْوَلِيد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيت مَيْمُونَة، فَأتي بضب محنوذ، الحَدِيث، وَقَالَ ابْن بطال، والْحَدِيث ظَاهر لما ترْجم لَهُ وَهُوَ جَوَاز أكل الشواء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَهْوى ليَأْكُل مِنْهُ لَو كَانَ مِمَّا لَا يتقزز أكله غير الضَّب.
15 - (بَابُ: {الخَزِيرَةِ} )
قَالَ النَّضْرُ الخَزِيرَةُ مِنَ النُّخَالَةِ، وَالحَرِيرَة مِنَ اللَّبَنِ.
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر الخزيرة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالزَّاي الْمَكْسُورَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة ثمَّ الرَّاء الْمَفْتُوحَة وَهُوَ مَا يتَّخذ من الدَّقِيق على هَيْئَة العصيدة لكنه أرق مِنْهَا قَالَه الطَّبَرِيّ، وَقَالَ ابْن فَارس: دَقِيق يخلط بشحم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخزيرة أَن يُؤْخَذ اللَّحْم فَيقطع صغَار أَو يصب عَلَيْهِ مَاء كثير، فَإِذا نضج ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق، وَإِن لم يكن فِيهَا لحم فَهِيَ عصيدة. وَقيل: الخزيرة مرقة تصفى من بلالة النخالة ثمَّ تطبخ، وَقيل: هِيَ حساء من دَقِيق ودسم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الحساء، بِالْفَتْح وَالْمدّ طبيخ يتَّخذ من دَقِيق وَمَاء ودهن، وَقد يحلَّى وَيكون رَقِيقا يحسى.
قَوْله: (قَالَ النَّضر) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء: هُوَ ابْن شُمَيْل، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم: النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ الْمُحدث الْمَشْهُور، يكنى أَبَا الْحسن، أَصله من الْبَصْرَة ومولده بمر والروذ، خرج مَعَ أَبِيه هَارِبا إِلَى الْبَصْرَة من الْفِتْنَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، وَهُوَ ابْن سِتّ سِنِين ثمَّ رَجَعَ إِلَى مرو والروذ وَسمع إِسْرَائِيل وَشعْبَة وَهِشَام بن عُرْوَة وَغَيرهم، روى عَنهُ إِسْحَاق الْحَنْظَلِي ومحمود بن غيلَان وَمُحَمّد بن مقَاتل وَآخَرُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَر الدَّارمِيّ: مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ. قَوْله: (الخزيرة من النخالة) ، يَعْنِي: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، (والحريرة) بِالْحَاء الْمُهْملَة (من اللَّبن) وَوَافَقَهُ على هَذَا أَبُو الهشيم لَكِن قَالَ: من الدَّقِيق، بدل: اللَّبن.
5401 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شهابٍ قَال: أخْبَرَنِي مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ الأنْصَارِيَّ أنَّ عِتْبَانَ بنَ مَالِك، وَكَانَ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرا مِنَ الأَنْصَارِ، أنَّهُ أتَى رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! إنَّنِي أنْكَرْتُ بَصْرِي وَأنا أُصَلِّي لِقَوْمِي، فَإذَا كَانَتِ الأمْطَارُ سالَ الوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أسْتَطِيعْ أنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُُصَلِّيَ لَهُمْ، فَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ الله أنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي فَأتَّخِذُهُ مُصَلًّى. فَقَالَ: سأفْعَلُ إنْ شَاءَ الله، قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدا عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارِ، فَاسْتأْذَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأذِنْتُ لهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ البَيْتَ ثُمَّ قَالَ لِي: أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأشَرْتُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ فَقَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَبَّرَ فَصَفَفْنا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَحَبَسْناهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْناهُ. فَثابَ فِي البَيْتِ رِجالٌ مِنْ أهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أيْنَ مَالِكُ ابنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ. قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَقُلْ أَلا تَرَاهُ قَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ الله؟ قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: قُلْنا: فَإنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إلَى(21/45)
المُنافِقِينَ، فَقَالَ: فَإنَّ الله حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إلاهَ إلاَّ الله يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله.
قَالَ ابنُ شِهابٍ: ثُمَّ سَألْتُ الحُصَيْنَ بنَ مُحَمَّدٍ الأنْصَارِيَّ: أحَدَ بَنِي سَالِمٍ وَكَانَ مِنْ سَرَاتهِمْ عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودٍ فَصَدَّقَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وحبسناه على خزير) .
والْحَدِيث قد مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب مَسَاجِد الْبيُوت، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب إِلَى آخِره نَحوه، وَمضى أَيْضا مُخْتَصرا فِي: بَاب الرُّخْصَة فِي الْمَطَر وَالْعلَّة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (أَن عتْبَان) ، ويروى عَن عتْبَان، قيل: الصَّحِيح عَن قَالَ الْكرْمَانِي: أَن أَيْضا صَحِيح وَيكون أَن ثَانِيًا تَأْكِيدًا لِأَن الأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخرجون} (الْمُؤْمِنُونَ: 25) قَوْله: (أنْكرت بَصرِي) ، أَي: ضعف بَصرِي أَو هُوَ عمي. قَوْله: (وحبسناه) ، أَي: منعناه عَن الرُّجُوع عَن منزلنا لأجل خزير صنعناه لَهُ ليَأْكُل وَكلمَة: على هُنَا للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هديكم} (الْبَقَرَة: 185) قَوْله: (فَثَابَ) أَي: اجْتمع قَوْله: (من أهل الدَّار) ، أَي: من أهل الْمحلة. قَوْله: (ابْن الدخشن) بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالنون، ويروى: الدخيشن، بِالتَّصْغِيرِ، وَقَالَ أَبُو عمر: الدخشن بالنُّون ابْن مَالك بن الدخشن بن غنم بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف، شهد الْعقبَة فِي قَول ابْن إِسْحَاق ومُوسَى والواقدي: وَقَالَ أَبُو مُعْتَمر: لم يشْهد، وَقَالَ أَبُو عمر: لم يخْتَلف أَنه شهد بَدْرًا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد. وَكَانَ يتهم بالنفاق وَلَا يَصح عَنهُ النِّفَاق، وَقد ظهر من حسن إِسْلَامه مَا يمْنَع من اتهامه. قَوْله: (فَقَالَ بَعضهم) قيل: إِنَّه عتْبَان بن مَالك، قَوْله: (ونصيحته) أَي: إخلاصه ونقاوته.
قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (الْحصين) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة. مصغر حصن وَهُوَ ابْن مُحَمَّد السالمي الْأنْصَارِيّ التَّابِعِيّ، وَضَبطه الْقَابِسِيّ بضاد مُعْجمَة وَلم يُوَافقهُ أحد عَلَيْهِ، وَنقل ابْن التِّين من الشَّيْخ أبي عمر أَن قَالَ: لم يدْخل البُخَارِيّ فِي (جَامعه) الْحضير، يَعْنِي: بِالْمُهْمَلَةِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وبالراء فِي آخِره، وَأدْخل الْحصين بالمهملتين وبالنون، قيل: هَذَا قُصُور مِنْهُ فَإِن أسيد بن حضير، وَإِن لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ من رِوَايَته مَوْصُولا. وَلكنه علق عَنهُ، وَوَقع ذكره عِنْده فِي غير مَوضِع، فَلَا يَلِيق نفي إِدْخَاله فِي كِتَابه انْتهى. قلت: الْكَلَام هُنَا فِي الْحصين بالمهملتين وبالنون. لَا فِي حضير بِمُهْملَة ومعجمة وَرَاء، فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره هَاهُنَا. قَوْله: (من سراتهم) ، سراة الْقَوْم ساداتهم وأشرافهم وَهُوَ جمع سري: وَهُوَ جمع عَزِيز أَن يجمع فعيل على فعلة، وَلَا يعرف غَيره، وَجمع السراة سراوات وأصل هَذِه الْمَادَّة من السِّرّ، وَهُوَ السخاء والمروءة. يُقَال: سرا يسرو وسرى بِالْكَسْرِ يسري سروا فيهمَا، وسرو، يسرو سراوة أَي: صَار سريا.
16 - (بَابُ: {الأقِطِ} )
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الأقط، وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْقَاف، وَقد تسكن وَفِي آخِره طاء مُهْملَة. وَفِي (التَّوْضِيح) لأقط شَيْء يصنع من اللَّبن وَذَلِكَ أَن يُؤْخَذ اللَّبن فيطبخ، فَكلما طفا عَلَيْهِ من بَيَاض اللَّبن شَيْء جمع فِي إِنَاء، وَهُوَ من أَطْعِمَة الْعَرَب. قلت: لَيْسَ هُوَ مَخْصُوصًا بالعرب، بل فِي سَائِر الْبلدَانِ الشمالية وَالتّرْك الرحالة يعلمُونَ هَذَا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الأقط لبن مجفف يَابِس مستحجر يطْبخ بِهِ. قلت: لَا يطْبخ بِهِ إلاَّ بعد أَن يعركوه بِالْمَاءِ السخن فِي الْأَوَانِي الخزف حَتَّى ينْحل وَيصير كاللبن ثمَّ يطبخون بِهِ مَا شاؤا من الْأَطْعِمَة الَّتِي يطبخونها بِاللَّبنِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ: سَمِعْتُ أنَسا: بَنَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَفِيَّةَ فألْقَي التَّمْرَ وَالأقِطَ وَالسَّمْنَ
حميد هُوَ ابْن أبي حميد الطَّوِيل، وَهَذَا التَّعْلِيق تقدم مَوْصُولا فِي: بَاب الْخبز المرقق.
(وَقَالَ عَمْرُو بنُ أبِي عَمْروٍ عَنْ أنَسٍ: صَنَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْسا)
عَمْرو بن أبي عَمْرو، بِالْفَتْح فيهمَا مولى الْمطلب بن عبد الله المَخْزُومِي، وَهَذَا التَّعْلِيق أَيْضا قد مر فِي الْبَاب الْمَذْكُور مُعَلّقا. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَالْحَبْس، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: وَهُوَ الْخَلْط من التَّمْر وَالسمن.(21/46)
5402 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ الله عَنْهُما، قَالَ: أهْدَتْ خَالَتِي إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضِبابا وأقِطا وَلَبَنا فَوُضِعَ الضَبُّ عَلَى مَائِدَتِهِ فَلَوْ كَانَ حَرَاما لَمْ يُوضَعُ وَشَرِبَ اللَّبَنَ وَأكَلَ الأقِطَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أقطا) وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء، واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، وَيُقَال الوَاسِطِيّ: وَسَعِيد هُوَ ابْن جُبَير.
والْحَدِيث قد مضى فِي الْهِبَة فِي: بَاب قبُول الْهِبَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
17 - (بَابُ: {السِّلقِ والشَّعِيرِ} )
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ السلق وَالشعِير.
5403 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ. قَالَ: إنْ كُنّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمْعَةِ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تأخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، إذَا صَلَيْنَا زُرْناها فَقَرَّبَتْهُ إلَيْنا، وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمْعَةِ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلا نقَيلُ إلاَّ بَعْدَ الجُمْعَةِ، وَالله مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلا وَدَكٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي اسْمه سَلمَة بن دِينَار.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب قَوْله عز وَجل: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} (الْجُمُعَة: 10) وَلكنه فرقه هُنَاكَ على مَا تقف عَلَيْهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (نتغدى) ، بِالدَّال الْمُهْملَة. قَوْله: (وَلَا نقِيل) ، بِفَتْح النُّون من القيلولة وَمِنْه أَخذ بَعضهم بِجَوَاز الْجُمُعَة قبل الزَّوَال. وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
18 - (بَابُ: {النَّهْسِ وَانْتِشَالِ اللَّحْمِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نهس اللَّحْم، وَهُوَ بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة أَو مُعْجمَة، وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَبِه جزم الْأَصْمَعِي والجوهري أَيْضا، وَهُوَ الْقَبْض على اللَّحْم بالفم وإزالته من الْعظم وَغَيره، وَقيل: هَذَا تَفْسِيره بِالْمُعْجَمَةِ، وَأما بِالْمُهْمَلَةِ فَهُوَ تنَاوله بِمقدم الْفَم، وَقيل: النهس بِالْمُهْمَلَةِ الْقَبْض على اللَّحْم ونثره عِنْد أكله، وَنقل ابْن بطال عَن أهل اللُّغَة: نهس الرجل والسبع اللَّحْم نهسا قبض عَلَيْهِ ثمَّ نثر. قَوْله: (وانتشال اللَّحْم) ، بالشين المعحمة. وَهُوَ التَّنَاوُل وَالْقطع والاقتلاع يُقَال: نشلت اللَّحْم من المرق أَي: أخرجته مِنْهُ ونشلت اللَّحْم عَن الْقدر وانتشلته إِذا انتزعته مِنْهَا، وَقيل: هُوَ أَخذ اللَّحْم قبل النضج، والنشيل ذَلِك اللَّحْم.
5404 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ حدَّثنا حَمَّادٌ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عنِ ابنِ عَبَّاس، رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: تَعَرَّقَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَنِيفا ثُمَّ قَامَ فَصَلى وَلَمْ يَتَوَضَّأ، وَعَنْ أيُّوبَ وَعاصِمِ عَنْ عِكْرَمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: انْتَشَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَرْقا مِنْ قِدر، فأكَلَ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَأ.
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيُمكن أَن تُؤْخَذ الْمُطَابقَة للجزء الأول من قَوْله: (تعرق) من حَيْثُ حَاصِل الْمَعْنى لَا من حَيْثُ اللَّفْظ، وَذَلِكَ لِأَن معنى: تعرق كَتفًا، تنَاول اللَّحْم الَّذِي عَلَيْهِ، والنهس أَيْضا تنَاول اللَّحْم بالفم وإزالته من الْعظم كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَقَالَ يحيى بن معِين: لم يسمع مُحَمَّد من ابْن عَبَّاس إِنَّمَا روى عَن عِكْرِمَة عَنهُ، وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه، لم يسمع مُحَمَّد من ابْن عَبَّاس، يَقُول فِي كلهَا: بلغت عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: قَالَ شُعْبَة: أَحَادِيث مُحَمَّد عَن ابْن عَبَّاس إِنَّمَا سَمعهَا من عِكْرِمَة، لقِيه أَيَّام الْمُخْتَار بن أبي عبيد وَلم يسمع مُحَمَّد من ابْن عَبَّاس شَيْئا. قيل: مَاله فِي البُخَارِيّ غَيره عَن ابْن عَبَّاس.
وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن عِيسَى بن الطباع عَن(21/47)
حَمَّاد بن زيد فَأدْخل بَين مُحَمَّد بن سِيرِين وَابْن عَبَّاس عِكْرِمَة، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْده لمجيئه بِالطَّرِيقِ الْأُخْرَى الثَّابِتَة فَأوردهُ على الْوَجْه الَّذِي سَمعه. قلت: غَرَض هَذَا الْقَائِل دفع من يدعى انْقِطَاع مَا أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا، وَلَكِن مَا يجد بِهِ ذَلِك كَمَا يَنْبَغِي على مَا لَا يخفى.
قَوْله: (تعرق) على وزن تفعل بِالتَّشْدِيدِ أَي: أكل مَا كَانَ اللَّحْم على الْكَتف، ويوضحه مَا رَوَاهُ فِي كتاب الطَّهَارَة من حَدِيث عَطاء بن يسَار عَن عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل كتف شَاة ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ. فَإِن قلت: روى مُسلم من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهدية خبز وَلحم، فَأكل ثَلَاث لقم الحَدِيث. قلت: الظَّاهِر تعدد الْقَضِيَّة وَالله أعلم.
قَوْله: (وَعَن أَيُّوب وَعَاصِم) إِلَى آخِره. أَيُّوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ الْمَذْكُور، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول الْبَصْرِيّ، ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) وَالتَّعْلِيق عَن أَيُّوب ذكره صَاحب (الْأَطْرَاف) أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ فِي الْأَطْعِمَة عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب عَن حَمَّاد عَنهُ وَعَن عَاصِم كِلَاهُمَا عَن عِكْرِمَة وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) وَقَالَ بَعضهم. قَوْله: (وَعَن أَيُّوب) مَعْطُوف على السَّنَد الَّذِي قبله، وَأَخْطَأ من زعم أَنه مُعَلّق، وَقد أورد أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق الْفضل بن الْحَارِث عَن الحَجبي، وَهُوَ عبد الله بن عبد الْوَهَّاب شيخ البُخَارِيّ فِيهِ بالسند الْمَذْكُور، وَحَاصِله أَن الحَدِيث عِنْد حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب بِسَنَدَيْنِ على لفظين: أَحدهمَا: عَن ابْن سِيرِين بِاللَّفْظِ الأول. وَالثَّانِي: عَنهُ عَن عِكْرِمَة وَعَاصِم الْأَحول بِاللَّفْظِ الثَّانِي انْتهى. قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أَخطَأ فِي دَعْوَاهُ الِاتِّصَال لِأَن فِي مقاله رِوَايَة الحَدِيث بِسَنَدَيْنِ مُخْتَلفين بِسَنَد وَاحِد، فَلَا يتَّجه ذَلِك على مَا لَا يخفى.
قَوْله: (انتشل) قد مر تَفْسِيره الْآن.
19 - (بَابُ: {تَعَرُّقِ العَضُدِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تعرق الْعَضُد فتفسير التعرق قد مضى، والعضد هُوَ الْعظم الَّذِي بَين الْكَتف والمرفق وَمرَاده أَخذ اللَّحْم الَّذِي على الْعَضُد ونهسه إِيَّاه.
5406 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ: حدَّثني عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا فُلَيْحٌ حدَّثنا أبُو حَازِمٍ المَدَنِيُّ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي قَتَادَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ: خَرَجْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَ مَكَةً.
أخرج البُخَارِيّ حَدِيث أبي قَتَادَة فِي كتاب الْحَج فِي أَرْبَعَة أَبْوَاب، وَأخرجه هُنَا فِي موضِعين: أَحدهمَا: مُخْتَصر عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عُثْمَان بن عمر بن فَارس الْبَصْرِيّ عَن فليح بِضَم الْفَاء مصغر فلح ابْن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه أبي قَتَادَة الْحَارِث بن ربعي، وَقيل: عَمْرو بن ربعي، وَقيل: غير ذَلِك السّلمِيّ الْأنْصَارِيّ. وَالْآخر: أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَالْكل حَدِيث وَاحِد عَن أبي قَتَادَة. وَفِيه: تعرق الْعَضُد، وَهُوَ وَجه الْمُطَابقَة هُنَا بَين الحَدِيث والترجمة.
5407 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتادَةَ السَّلَمِي عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْما جَالِسا مَعَ رِجال مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَةَ ورَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَازِلٌ أمَامَنا وَالقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ فَأبْصَرُوا حِمارا وَحْشِيا وَأنا مَشْغُولٌ أخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ وَأحَبُّوا لَوْ أنِّي أبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إلَى الفَرَسِ فَأسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقَالوا: لَا وَالله لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأخَذْتُها ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتَ عَلَى الحِمارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأكُلُونَهُ ثُمَّ إنَّهُمْ شَكوا فِي أكْلِهِمْ إيّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ فَرُحْنا وَخَبَأْتُ العَضُدَ مَعِي فأدْرَكْنا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألْناهُ عَنْ ذالِكَ. فَقَالَ: مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ فَأكلها حَتَّى تَعَرَّقَها وَهُوَ مُحْرِمٌ.(21/48)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فناولته الْعَضُد) إِلَى آخِره، وَفِي بعض النّسخ حَدثنِي بِالْإِفْرَادِ وَفِي بَعْضهَا: وحَدثني، بواو الْعَطف عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي الْمَدِينِيّ عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير عَن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار إِلَى آخِره.
وَأخرجه مُسلم عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ عَن فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عَن أَبِيه الحَدِيث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْحَج فِي الْأَبْوَاب الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة فِيهِ.
قَوْله: (أخصف نَعْلي) ، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة أَي: أخرزه وألزق بعضه بِبَعْض. قَوْله: (فَلم يؤذنوني) أَي: فَلم يعلموني بِهِ أَي: بالصيد. قَوْله: (فوقعوا فِيهِ) أَي: فِي الصَّيْد الْمَذْكُور بعد أَن طبخوه وأصلحوه. قَوْله: (شكوا) يَعْنِي فِي كَونه حَلَالا أَو حَرَامًا. قَوْله: (حَتَّى تعرقها) أَي: حَتَّى أكل مَا عَلَيْهَا من اللَّحْم، وَقَالَ صَاحب (الْعين) تعرقت الْعظم وأعرقته وعرقته أعرقه عرقا أكلت مَا عَلَيْهِ من اللَّحْم. وَالْعراق الْعظم بِلَا لحم، فَإِن كَانَ عَلَيْهِ لحم فَهُوَ عرق. قَوْله: (وَهُوَ محرم) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ وحدَّثني زَيْدُ بنُ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبِي قَتادَةَ مِثْلَهُ.
هَذَا مَعْطُوف على السَّنَد الَّذِي قبله، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: قَالَ ابْن جَعْفَر، غير مُسَمّى وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني، قَالَ: أَبُو جَعْفَر، وَالظَّاهِر أَن الثَّلَاثَة وَاحِد، فَمنهمْ من ذكره باسم أَبِيه صَرِيحًا وَمِنْهُم من لم يُصَرح باسمه وَنسبه إِلَى أَبِيه جَعْفَر، وَمِنْهُم من ذكره بالكنية. لِأَن كثيرا من النَّاس من يتكنى باسم جده، وَلَا يبعد ذَلِك، وَالله أعلم. وروى مُسلم عَن قُتَيْبَة عَن مَالك عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي قَتَادَة فِي حمَار الْوَحْش مثل حَدِيث أبي النَّضر، وَكَانَ قدر روى من حَدِيث أبي النَّضر عَن نَافِع مولى أبي قَتَادَة عَن أبي قَتَادَة وسَاق الحَدِيث إِلَى آخِره. ثمَّ قَالَ بعد قَوْله: مثل حَدِيث أبي النَّضر، غير أَن فِي حَدِيث زيد بن أسلم، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء؟ .
20 - (بَابُ: {قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز قطع اللَّحْم بالسكين. وَفِيه لُغَة وَهِي السكينَة، وَالْأول أشهر. قَالَ الْجَوْهَرِي: السكين يذكر وَيُؤَنث، وَالْغَالِب عَلَيْهِ التَّذْكِير.
5408 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أخْبَرَنِي جَعْفَرُ بنُ عَمْروٍ بنِ أمَيَةَ أنَّ أباهُ عَمَّرَو بنَ أمَيَّةَ أخبرهُ أنَّهُ رَأى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفٍ شاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إلَى الصَّلاةِ فَألْقاها وَالسِّكِينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِها ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَأْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب من لم يتَوَضَّأ من لحم الشَّاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب إِلَى آخِره، وَابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (يحتز) ، أَي: يقطع، وَفِيه جَوَاز قطع اللَّحْم بالسكين، وَقَالَ ابْن حزم: وَقطع اللَّحْم بالسكين للْأَكْل حسن وَلَا يكره أَيْضا قطع الْخبز بالسكين إِذْ لم يَأْتِ نهي صَرِيح عَن قطع الْخبز وَغَيره بالسكين. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: لَا تقطعوا الْخبز بالسكين كَمَا تقطعه الْأَعَاجِم، وَإِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يَأْكُل اللَّحْم فَلَا يقطعهُ بالسكين وَلَكِن ليأخذه بِيَدِهِ فلينهسه بِفِيهِ، فَإِنَّهُ أهنأ وأمرأ، وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أبي معشر عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقطعوا اللَّحْم بالسكين فَإِنَّهُ من صَنِيع الْأَعَاجِم) ، فانهسوه فَإِنَّهُ أهنأ وأمرأ. قلت: فِي سَنَد حَدِيث الطَّبَرَانِيّ عباد بن كثير الثَّقَفِيّ وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيث أبي دَاوُد قَالَ النَّسَائِيّ: أَبُو معشر لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير مِنْهَا هَذَا، وَقَالَ ابْن عدي: لَا يُتَابع عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيف، وَاسم أبي معشر نجيح.
21 - (بَابٌ: {مَا عَابَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعاما} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا عَابَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما من الْأَطْعِمَة الْمُبَاحَة وَأما الْحَرَام فَكَانَ يذمه وَيمْنَع تنَاوله وَينْهى عَنهُ، وَقيل: إِن(21/49)
كَانَ التعييب من جِهَة الْخلقَة فَهُوَ لَا يجوز لِأَن خلقَة الله لَا تعاب، وَإِن كَانَ من جِهَة صَنْعَة الْآدَمِيّين لم يكره. قَالَ النَّوَوِيّ: من آدَاب الطَّعَام أَن لَا يعاب كَقَوْلِه: مالح قَلِيل الْملح حامض غليظ رَقِيق غير ناضج وَنَحْو ذَلِك.
5409 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعاما قَطّ إِن اشْتَهَاهُ أكَلَهُ وَإنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن كثير ضد الْقَلِيل وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره.
22 - (بَابُ: {النَّفْخِ فِي الشَّعِيرِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مُبَاشرَة النفخ فِي الشّعير بعد طحنه ليطير مِنْهُ قشوره وَلَا ينخل بالمنخل، وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَنَّهُ نبه بِهَذِهِ التَّرْجَمَة على أَن النَّهْي عَن النفخ فِي الطَّعَام خَاص بالمطبوخ. قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل المُرَاد أَن الشّعير إِذا طحن ينْفخ فِيهِ حَتَّى يذهب عَنهُ القشور ثمَّ يسْتَعْمل خبْزًا أَو طَعَاما أَو سويقا أَو غير ذَلِك. وَلَا ينخل بالمنخل، وَنَفس معنى الحَدِيث يدل على ذَلِك وَالَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل بمعزل من ذَلِك صادر عَن عدم التَّأَمُّل.
5410 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ قَالَ: حدَّثَنِي أبُو حَازِمٍ أنَّهُ سَألَ سَهْلاً هَلْ رَأيْتُمْ فِي زَمَانِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النّقِيَّ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: هَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلونَ الشَعِيرَ؟ قَالَ: لَا وَلاكِنْ كُنّا نَنْفُخُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كُنَّا ننفخه) وَأَبُو غَسَّان هُوَ مُحَمَّد بن مطرف اللَّيْثِيّ، وَأَبُو حَازِم هَذَا هُوَ سَلمَة بن دِينَار لَا سلمَان الْأَشْجَعِيّ، وَكِلَاهُمَا تابعيان، وَسَهل هُوَ ابْن سعد الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (النقي) بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَهُوَ: الْخبز الْحوَاري الْأَبْيَض، وَهُوَ الَّذِي ينخل دقيقه بعد الطَّحْن. قَوْله: (هَل كُنْتُم تنخلون الشّعير) أَي: بعد طحنه. وَقَالَ بَعضهم: فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَظن أَنه احْتَرز عَمَّا قبل الْبعْثَة لكَونه، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ مُسَافِرًا فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى الشَّام تَاجِرًا وَكَانَت الشَّام إِذْ ذَاك مَعَ الرّوم وَالْخبْز النقي عِنْدهم كثير، وَكَذَا المناخل وَغَيرهَا من آلَات الترفه. فَلَا ريب أَنه رأى ذَلِك عِنْدهم فَأَما بعد الْبعْثَة فَلم يكن إلاَّ بِمَكَّة والطائف وَالْمَدينَة، وَوصل إِلَى تَبُوك وَهِي من أَطْرَاف الشَّام، وَلكنه لم يفتحها وَلَا طَالَتْ إِقَامَته بهَا انْتهى.
قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: فِي قَوْله: كَانَ مُسَافِرًا فِي تِلْكَ الْمدَّة تَاجِرًا، وَلم يكن تَاجِرًا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج أَولا إِلَى نَاحيَة الشَّام مَعَ عَمه أبي طَالب وَكَانَ لَهُ من الْعُمر اثْنَتَيْ عشرَة سنة شَهْرَان وَعشرَة أَيَّام. قَالَه الْوَاقِدِيّ: وَقَالَ الطَّبَرِيّ: كَانَ لَهُ تسع سِنِين، وَالْأول أصح، وَفِيه وَقعت قصَّة بحيرى الراهب، وَخرج فِي الْمرة الثَّانِيَة فِي سنة خمس وَعشْرين من مولده مَعَ غُلَام خَدِيجَة بنت خويلد، استأجرته خَدِيجَة على أَربع بكرات وَخرج فِي مَالهَا وَلم يكن لَهُ شَيْء، وَفِي الْمَرَّتَيْنِ لم يَتَعَدَّ بَصرِي وَلم يمْكث إلاَّ قَلِيلا. الثَّانِي: أَن قَوْله: فَلَا ريب أَنه رأى ذَلِك عِنْدهم، غير مُسلم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخالط الرّوم هُنَاكَ وَلَا جالسهم وَلَا واكلهم فَمن أَيْن أَنه وقف على الأخباز النقية الْبَيْضَاء؟ وَمن أَيْن رأى المناخل وَنَحْوهَا حَتَّى يجْزم بذلك بقوله: وَلَا ريب أَنه رأى ذَلِك؟ الثَّالِث: أَن قَوْله فَأَما بعد الْبعْثَة إِلَى آخِره يسْتَلْزم عدم رُؤْيَته المنخل نفي سَمَاعه بالمنخل، إِذْ المنخل كَانَ مَوْجُودا عِنْدهم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول أبي حَازِم لسهل بن سعد هَل كُنْتُم تنخلون الشّعير؟ غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن رأى المنخل لعدم طلبه إِيَّاه لأجل اكتفائه بِمُجَرَّد النفخ بعد الطَّحْن سَوَاء كَانَ شَعِيرًا أَو قمحا، وَلَكِن لما كَانَ غَالب قوتهم شَعِيرًا سَأَلَ أَبُو حَازِم عَن نخل الشّعير.
23 - (بَابٌ: {مَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زَمَانه وَأَصْحَابه يَأْكُلُون.
5411 - حدَّثنا أبُو النِّعمانِ حدَّثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاسٍ الجُرَيْرِيِّ عَنْ أبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ(21/50)
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَسَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْما بَيْنَ أصْحَابِهِ تَمْرا فَأَعْطَى كلَّ إنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أعْجَبُ إلَيَّ مِنْهَا شَدَّتْ فِي مَضَاغِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إشعارا لبَيَان مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه، يَأْكُلُون وَأَنه فِي غَالب الْأَوْقَات التَّمْر، ويقنعون باليسير من ذَلِك.
وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل الَّذِي يُقَال لَهُ عَارِم السدُوسِي الْبَصْرِيّ، وعباس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة ابْن فروج بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء المضمومة وبالجيم الْجريرِي بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى الْبَصْرِيّ، وَهُوَ نِسْبَة إِلَى جرير بن عباد أخي الْحَارِث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وَائِل وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بِفَتْح النُّون نِسْبَة إِلَى نهد بن زيد بن لَيْث بن سودين ألحاف بن قضاعة.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن عَمْرو بن عَليّ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (حَشَفَة) ، وَهُوَ أردأ التَّمْر، وَهُوَ الَّذِي لم يطب فِي النَّخْلَة وَلم يتناهى طيبه فييبس. قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي: من الْحَشَفَة. قَوْله: (شدت) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْحَشَفَة. قَوْله: (فِي مضاغى) ، بِفَتْح الْمِيم عِنْد الْأصيلِيّ وَكسرهَا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المضاغ بِالْفَتْح الطَّعَام يمضغ وَهُوَ المضغ نَفسه، يُقَال: لقْمَة لينَة المضاغ وشديدة المضاغ أَرَادَ أَنَّهَا كَانَت قَوِيَّة عِنْد مضغها. وَطَالَ مضغه لَهَا كالعلك فَلذَلِك قَالَ: (فَلم يكن فِيهِنَّ تَمْرَة أعجب إليّ مِنْهَا) .
5412 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَالَنا طعامٌ إلاَّ وَرَقُ الْحَبْلَةِ، أوْ الْحَبُلَةِ، حَتَّى يَضَعَ أحَدُنا مَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أصْبَحَتْ بَنُو أسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإسْلامِ، خَسِرْتُ إِذا وَضَلَّ سَعْيِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إشعارا لبَيَان مَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي قلَّة من الْعَيْش مَعَ القناعة وَالرِّضَا بِمَا قسم الله عز وَجل.
وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم، وَسعد هُوَ ابْن أبي وَقاص، أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَوَقع فِي (التَّوْضِيح) عَن قيس بن سعد عَن أَبِيه. كَأَنَّهُ توهمه أَنه قيس بن سعد ابْن عبَادَة، وَهُوَ غلط فَاحش، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم عَن قيس سَمِعت سعد بن أبي وَقاص.
والْحَدِيث قد مضى فِي مَنَاقِب سعد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد عَن عبد الله عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس. قَالَ: سَمِعت سَعْدا إِلَى آخِره، وَفِي آخِره، وَكَانُوا وشوابه إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالُوا: لَا يحسن يُصَلِّي، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رَأَيْتنِي) ، أَي: رَأَيْت نَفسِي. قَوْله: (سَابِع سَبْعَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَرَادَ بِهِ أَنه كَانَ قديم الْإِسْلَام، وَأَنه سَابِع من أسلم أَولا، وَوَقع عِنْد أبي خَيْثَمَة، هَؤُلَاءِ السَّبْعَة. وهم أَبُو بكر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد بن حَارِثَة وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَوْله: (مَا لنا طَعَام إلاَّ ورق الحبلة) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنهم كَانُوا فِي ذَلِك الْوَقْت فِي قلَّة وضيق معيشة وَلم يكن طعامهم إلاَّ من ورق الحبلة، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ ثَمَر السمر يشبه اللوبيا، وَقيل: ثَمَر العضاء وَهُوَ شجر لَهُ شوك كالطلح والعوسج. قَوْله: (أَو الحبلة) ، شكّ من الرَّاوِي وَهُوَ بِضَم الْحَاء وَالْبَاء مَعًا، وَلم يَقع عِنْد الْأصيلِيّ إلاَّ الأول، والحبلة بِفتْحَتَيْنِ ورق الْكَرم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَرُبمَا سكن الْبَاء. قَوْله: (ثمَّ أَصبَحت بَنو أَسد) ، قيل: أَرَادَ بِهِ قَبيلَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذْ هُوَ من بني أَسد، كَذَا نَقله الْكرْمَانِي وَهُوَ غير صَحِيح، وَلكنه مَعْذُور لِأَنَّهُ نَقله من كَلَام ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: وَعمر بن الْخطاب من بني أَسد، وَهَذَا خلاف الْإِجْمَاع على أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من رَهْط عدي بن كَعْب وَلَيْسوا من بني أَسد. قَوْله: (تعزرني) ، ويروى: يعزروني من التَّعْزِير بِمَعْنى التَّأْدِيب أَي: يؤدبونني على (الْإِسْلَام) ويعلمونني أَحْكَامه، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا وشوا بِهِ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى قَالُوا: لَا يحسن يُصَلِّي، وأصل التَّعْزِير التَّأْدِيب، وَلِهَذَا يُسمى الضَّرْب دون الْحَد التَّعْزِير. قَوْله: (خسرت إِذا) ، جَوَاب وَجَزَاء أَي: إِن كنت كَمَا قَالُوا: مُحْتَاجا إِلَى تأديبهم وتعليمهم خسرت حِينَئِذٍ(21/51)
وضل سعيي فِيمَا تقدم.
فَإِن قلت: مَا وَجه قَول سعد: مَا لنا طَعَام إلاَّ ورق الحبلة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ من النَّضِير وفدك قوته وقوته عِيَاله لسنة؟ وَأَنه كَانَ يُعْطي الأعطية الَّتِي لَا يذكر مثلهَا عَمَّن تقدم من الْمُلُوك مَعَ كَونه بَين أَرْبَاب الْأَمْوَال الْعِظَام كَأبي بكر وَعُثْمَان وشبههما؟ وَكَذَلِكَ قَول عَائِشَة: مَا شبع آل مُحَمَّد مُنْذُ قدم الْمَدِينَة. من طَعَام الْبر ثَلَاث لَيَال حَتَّى قبض وَشبهه مِمَّا جَاءَ مثل ذَلِك؟ قلت: وَقَالَ الطَّبَرِيّ، رَحمَه الله كَانَ ذَلِك حينا بعد حِين لِأَن من كَانَ مِنْهُم ذَا مَال كَانَ مُسْتَغْرقا فِي نَوَائِب الْحُقُوق ومواساة الضيفان حَتَّى يقل كَثِيره أَو يذهب جَمِيعه، فَغير مستنكر لَهُم ضيق الْحَال الَّتِي يَحْتَاجُونَ مَعهَا إِلَى الاستسلاف وأكلهم الحبلة كَمَا قَالَ سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما قَول عَائِشَة فوجهه أَن الْبر كَانَ قَلِيلا عِنْدهم فَغير نَكِير أَن يُؤثر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل بَلَده من الشّعير وَالتَّمْر، وَيكرهُ أَن يخص نَفسه بِمَا لَا سَبِيل للْمُسلمين إِلَيْهِ من الْغذَاء، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه بأخلاقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما مَا رُوِيَ من أَنه لم يشْبع من خبز الشّعير، فَإِن ذَلِك لم يكن لعوز وَلَا لضيق فِي غَالب أَحْوَاله. لِأَن الله تَعَالَى أَفَاء عَلَيْهِ قبل وَفَاته بِلَاد الْعَرَب كلهَا وَنقل إِلَيْهِ الْخراج من أَكثر بِلَاد الْعَجم، وَلَكِن بعضه لَا يثار نَوَائِب الْحق، وَبَعضه كَرَاهِيَة مِنْهُ للشبع وَكَثْرَة الْأكل. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لسعد أَن يمدح نَفسه، وَمن شَأْن الْمُؤمن التَّوَاضُع؟ قلت: إِذا اضْطر الْمَرْء إِلَى التَّعْرِيف بِنَفسِهِ حسن، قَالَ الله عز وَجل حاكيا عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {إِنِّي حفيظ عليم} (يُوسُف: 55) .
5413 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا يَعْقُوبُ عَنْ أبِي حَازِمٍ قَالَ: سَألْتُ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ: هَلْ أكَلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّقِيَّ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأى رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ الله حَتَّى قَبَضَهُ الله. قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأى رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنْخُلاً مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ الله حَتَّى قَبَضَهُ الله. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِير غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْناهُ فَأكَلْناهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. لِأَن فِيهِ بَيَان مَا كَانَ يَأْكُلُونَهُ. وَيَعْقُوب هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْقَارِي، من القارة، حَلِيف بني زهرَة وَأَبُو حَازِم، وَهُوَ سَلمَة بن دِينَار رَاوِي رِوَايَة سهل، كَمَا أَن سُلَيْمَان رَاوِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث مضى عَن قريب.
قَوْله: (مناخل) ، جمع منخل. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ الغربال. قلت: المنخل غير الغربال. لِأَن الغربال يغربل بِهِ الْقَمْح وَالشعِير وَنَحْوهمَا، والمنخل مَا ينخل بِهِ الدَّقِيق، وَهُوَ أحد مَا جَاءَ من الأدوات على مفعل بِضَم الْمِيم. قَوْله: (ثريناه) ، بتَشْديد الرَّاء من ثريت السويق إِذا بللته بِالْمَاءِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى عجنه وخبزه، كَذَا قَالَه بَعضهم، وَهُوَ خلاف مَا قَالَه أهل اللُّغَة، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا العجن وَلَا الْخبز، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنهم كَانُوا إِذا طحنوا الشّعير يَأْخُذُونَ دقيقه وينفخونه فيطير مِنْهُ القشور وَمَا بَقِي يرشون عَلَيْهِ المَاء ثمَّ يَأْكُلُونَهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْأَثِير فِي قَوْله: (فَأتى بالسويق فَأمر بِهِ فثرى) أَي: بل بِالْمَاءِ من ثرى التُّرَاب يثريه تثرية إِذا رش عَلَيْهِ المَاء. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ثريت السويق بللته، وثريت الْموضع تثرية إِذا رششته، وَقَالَ أَيْضا: الثرى التُّرَاب الندي.
5414 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ أخبرَنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَغِيرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنْهُ، أنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَةٌ. فَدَعَوْهُ فَأبَى أنْ يَأْكُلَ. قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ الخُبْزِ الشَّعِيرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن أَبَا هُرَيْرَة استحضر حِينَئِذٍ مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي ضيق من الْعَيْش، فَلذَلِك ترك من الْأكل من تِلْكَ الشَّاة الَّتِي كَانَت بَين يَدي الْقَوْم، وَالْحَال أَنهم دَعوه، وَلَيْسَ هَذَا بترك الْإِجَابَة لِأَنَّهُ فِي طَعَام الْوَلِيمَة لَا فِي كل طَعَام.
وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَابْن أبي ذِئْب وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور، وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي سعيد وَاسم أَبِيه أبي سعيد كيسَان الْمدنِي مولى بني لَيْث، وَإِنَّمَا سمى بالمقبري لِأَنَّهُ كَانَ يسكن بِالْقربِ من(21/52)
الْمقْبرَة. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (مصلية) ، أَي: مشوية. قَالَ بَعضهم: من الصَّلَاة بِالْكَسْرِ وَالْمدّ وَهُوَ الشي، قلت: الصَّلَاة الشواء وَلَيْسَ بالشي، يُقَال: صليت اللَّحْم أصليه صليا: شويته، وصليته بِالتَّشْدِيدِ وأصليته: أَلقيته فِي النَّار.
5415 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْوَدِ حدَّثنا مُعاذٌ حدَّثني أبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ. قَالَ: مَا أكَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَى خِوانٍ وَلا فِي سكُرُّجَةٍ وَلا خُبِزَ لَهُ مُرَقّقٌ.
قُلْتُ لِقَتَادَةَ: عَلَى مَا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلى السُّفَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن أبي الْأسود هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأسود، وَاسم أبي الْأسود حميد بن الْأسود أَبُو بكر بن أُخْت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الْبَصْرِيّ الْحَافِظ. مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ ومعاذ بِضَم الْمِيم ابْن هِشَام الدستوَائي يروي عَن أَبِيه هِشَام، وَيُونُس هُوَ ابْن أبي الْفُرَات الْقرشِي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ الإسكاف. كَانَ سمع قَتَادَة، روى عَنهُ هِشَام الدستوَائي فِي الْأَطْعِمَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن بشار، وَقَالَ: غَرِيب، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّقَائِق عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْوَلِيمَة عَن عَمْرو بن عَليّ وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى والْحَدِيث مضى فِي: بَاب الْخبز المرقق فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن معَاذ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
5416 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْها، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعامِ البُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِباعا حَتَّى قُبِضَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَالْأسود هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ، خَال إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي الرقَاق عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه مُسلم فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي.
قَوْله: (من طَعَام الْبر) ، من إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص أَو من بَاب الْإِضَافَة البيانية نَحْو: شجر الْأَرَاك إِن أُرِيد بِالطَّعَامِ الْبر خَاصَّة. قَوْله: (تباعا) ، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة من تابعته على كَذَا مُتَابعَة وتباعا، والتباع الْوَلَاء الْمَعْنى ثَلَاث لَيَال متتابعة مُتَوَالِيَة. قَوْله: (حَتَّى قبض) ، أَي: إِلَى أَن قبض، وعَلى إِيثَار الْجُوع وَقلة الشِّبَع مَعَ وجود السَّبِيل إِلَيْهِ مرّة وَعَدَمه أُخْرَى مضى الأخيار من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وروى أَسد بن مُوسَى من حَدِيث عون بن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه قَالَ: أكلت ثريدة من لحم سمين فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا أتجشؤ. فَقَالَ: أكفف عَلَيْك من جشائك أَبَا جُحَيْفَة. فَإِن أَكثر النَّاس شبعا فِي الدُّنْيَا أطولهم جوعا يَوْم الْقِيَامَة فَمَا أكل أَبُو جُحَيْفَة بملء بَطْنه حَتَّى فَارق الدُّنْيَا. كَانَ إِذا تغدى لَا يتعشى، وَإِذا تعشى لَا يتغدى، وَرُوِيَ عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر قَالَ: لَقِيَنِي عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَعِي لحم اشْتَرَيْته بدرهم، فَقَالَ عمر: مَا هَذَا؟ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اشْتَرَيْته للصبيان وَالنِّسَاء. فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا يَشْتَهِي أحدكُم شَيْئا إلاَّ وَقع فِيهِ أَو لَا يطوي أحدكُم بَطْنه لجاره وَابْن عَمه أَيْن تذْهب عَنْكُم هَذِه الْآيَة. {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا} (الْأَحْقَاف: 2) وَقَالَ هشيم: عَن مَنْصُور عَن ابْن سِيرِين أَن رجلا قَالَ لِابْنِ عمر: اجْعَل جوارشنا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: شَيْء إِذا لضك الطَّعَام فَأَصَبْت مِنْهُ سهل عَلَيْك، قَالَ ابْن عمر: مَا شبعت مُنْذُ أَرْبَعَة أشهر، وَمَا ذَاك أَن لَا أكون لَهُ واجدا. وَلَكِن عهِدت قوما يشبعون مرّة ويجوعون مرّة. قَوْله: (إِذا لضك الطَّعَام) ، أَي: إِذا امْتَلَأت وأثقلك.
24 - (بَابُ: {التَّلْبِينَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التلبينة بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالنون، وَهِي طَعَام يتَّخذ من دَقِيق أَو نخالة وَرُبمَا يَجْعَل فِيهِ عسل، سميت بذلك لشبهها بِاللَّبنِ فِي بياضها والرقة، والنافع مِنْهَا مَا كَانَ رَقِيقا نضيجا لَا غليظا نيا وَيُقَال: التلبينة حساء من دَقِيق أَو نخالة، وَيُقَال التلبين أَيْضا لِأَنَّهُ يشبه اللَّبن فِي بياضه(21/53)
فَإِن كَانَت ثخينة فَهِيَ الخزيرة. وَقد يَجْعَل فِيهَا الْعَسَل وَاللَّبن. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: التلبين والتلبينة حساء يعْمل من دَقِيق، وَهِي تَسْمِيَة بالمرة من التلبين مصدر لبن الْقَوْم إِذا اسقاهم اللَّبن، وَقَالَ: الحساء بِالْفَتْح وَالْمدّ طبيخ يتَّخذ من دَقِيق وَمَاء ودهن، وَقد يحلى وَيكون رَقِيقا يحسى من الحسوة. وَهِي الجرعة. وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بالمشنئة النافعة التلبين، وَفِي أُخْرَى بالبغيض النافع التلبينة. قلت: المشنئة بِمَعْنى البغيضة إِنَّمَا قَالَت: البغيضة لِأَن الْمَرِيض يبغضها كَمَا يبغض الْأَدْوِيَة. وَذكره ابْن قرقول فِي بَاب الْبَاء الْمُوَحدَة مَعَ الْغَيْن، قَالَ: وَعند الْمروزِي التغبض بالنُّون، قَالَ: وَلَا معنى لَهُ.
5417 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهاب عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنَّها كَانَتْ إذَا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أهْلِها فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءِ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إلاَّ أهْلَها وَخَاصَّتَها أمَرَتْ بِبُرْمَة مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْها فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الحُزْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَال إِسْنَاده على هَذَا الْوَجْه مرت غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن حبَان بن مُوسَى، وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ أَيْضا عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن حُسَيْن بن مُحَمَّد الْجريرِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَفِي الطِّبّ عَن نصير بن الْفرج.
قَوْله: (مجمة) ، بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَفتح الْمِيم الْأُخْرَى الشَّدِيدَة أَي: مَكَان الاسْتِرَاحَة أَي: استراحة قلب الْمَرِيض، ويروى: مجمة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْجِيم أَي: مريحة يُقَال: جم الْفرس إِذا ذهب إعياؤه، والجمام الرَّاحَة، وَقَالَ ابْن فَارس: الجمام الرَّاحَة وَضَبطه بِضَم الْمِيم على أَنه اسْم فَاعل من أجم، وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الَّذِي أعرف بِفَتْح الْمِيم فَهِيَ على هَذَا مفعلة من جم يجم، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يرْوى بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وبضم الْمِيم وَكسر الْجِيم، فعلى الأول يكون مصدرا. وعَلى الثَّانِي يكون اسْم فَاعل، وَقَالَ عبد اللَّطِيف: الْفُؤَاد هُنَا رَأس الْمعدة، وفؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أَعْضَائِهِ وعَلى معدته خَاصَّة لتقليل الْغذَاء، وَهَذَا الْغذَاء يرطبها ويقويها وَيفْعل مثل ذَلِك بفؤاد الْمَرِيض.
25 - (بَابُ: {الثَّرِيدِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر الثَّرِيد وفضله على سَائِر الْأَطْعِمَة، وَهُوَ بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء وَهُوَ أَن يثرد الْخبز بمرق اللَّحْم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الثَّرِيد غَالِبا لَا يكون إلاَّ من لحم، وَالْعرب قل مَا تَجِد طبيخا وَلَا سِيمَا بِلَحْم.
5418 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ عَمْروٍ بنُ مُرَّةَ الجَمَلِيِّ عَنْ مُرَّةَ الهَمْدَانِيِّ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ عَنِ النبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَرْيَمَ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وغندر لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء الجملى بِفَتْح الْجِيم نِسْبَة إِلَى جمل بطن من مُرَاد وَمرَّة الْهَمدَانِي بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء ابْن شرَاحِيل الْهَمدَانِي الْكُوفِي، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام فِي: بَاب قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم} (آل عمرَان: 42، 45) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كفضل الثَّرِيد) ، قيل وَلم يرد عين الثَّرِيد، وَإِنَّمَا أَرَادَ الطَّعَام الْمُتَّخذ من اللَّحْم والثريد مَعًا وَفِي (التَّوْضِيح) وَمُقْتَضَاهُ فضل عَائِشَة على فَاطِمَة، وَالَّذِي أرَاهُ أَن فَاطِمَة أفضل لِأَنَّهَا بضعَة مِنْهُ، وَلَا يعدل ببضعته.(21/54)
5419 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَوْنٍ حدَّثنا خَالِدُ بنُ عَبْدِ الله عَنْ أبِي طُوَالَةَ عَنْ أنَسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلى سَائِرِ الطَّعَامِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو بن عون الوَاسِطِيّ، وخَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان الوَاسِطِيّ وَأَبُو طوالة بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن حزم الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مر فِي فضل عَائِشَة، عَن عبد الْعَزِيز ابْن عبد الله الأويسي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
5420 - حدَّثنا عَبْدِ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أبَا حَاتِمٍ الأشْهِلَ بنَ حَاتِمٍ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بنِ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطِ، فَقَدَّمَ إلَيْهِ قَصْعَةَ فِيهَا ثَرِيدٌ، قَالَ: وَأقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أتَتبَّعُهُ فَأضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَمَا زِلْتُ بَعْدُ أُحِبُّ الدّبَّاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِيهَا ثريد) وَعبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون على وزن اسْم الْفَاعِل من الإنارة الْمروزِي، وَأَبُو حَاتِم اسْمه الْأَشْهَل بن حَاتِم الْبَصْرِيّ، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون الْبَصْرِيّ، وثمامة بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم ابْن عبد الله بن أنس بن مَالك، يروي عَن جده.
وَفرق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فَرَوَاهُ عَن أشهل بن حَاتِم عَن ابْن عون، وَعَن النَّضر بن شُمَيْل عَن ابْن عَوْف، وَعَن عَمْرو بن سعد عَن ابْن عون وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن الْحُسَيْن بن عِيسَى البسطامي.
قَوْله: (على غُلَام لَهُ) لم يدر اسْمه والدبا بِالْمدِّ وَالْقصر. قَوْله: (بعد) ، مَبْنِيّ على الضَّم أَي: بعد أَن رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتتبع الدُّبَّاء مَا زلت أحب الدُّبَّاء.
26 - (بَابُ: {شَاةٍ مَسْمُوطَةٍ وَالكَتِفِ وَالجَنْبِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر شَاة مسموطة، وَفِي الْكَتف وَكِلَاهُمَا مذكوران فِي حَدِيثي الْبَاب، وَأما الْجنب فَلَا ذكر لَهُ، وَقَالَ بَعضهم: وَأما الْجنب فَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيث أم سَلمَة أَنَّهَا قربت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جنبا مشوبا فَأكل مِنْهُ ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة أخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ. قلت: من أَيْن يعلم أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيث أم سَلمَة؟ مَعَ أَن الْإِشَارَة لَا تكون إلاَّ للحاضر، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: ذكر الْجنب اسْتِطْرَادًا وألحاقا للْجنب بالكتف، وَالشَّاة المسموطة هِيَ الَّتِي أزيل شعرهَا وشويت.
5421 - حدَّثنا هُدْيَةُ بنُ خَالِدٍ حدَّثنا هَمَّامُ بنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أنَسَ بنَ مَالِكٍ، رَضِيَ الله عَنهُ وَخَبَّازَهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا فَما أعْلَمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَأى رَغِيفا مُرَفَّقا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّه، وَلا رَأى شَاةً سَمِيطا بِعَيْنِهِ قَطُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا رأى شَاة سميطا) . والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب الْخبز المرقق.
قَوْله: (فَمَا أعلم) ، نفي الْعلم وَأَرَادَ نفي الْمَعْلُوم، أَعنِي: الرُّؤْيَة ثمَّ أَرَادَ مِنْهُ نفي أكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ (شَارِح التراجم) مَقْصُوده جَوَاز أكل المسموط، وَلَا يلْزم من كَونه لم ير شَاة مسموطة أَنه لم ير عضوا مسموطا فَإِن الأكارع لَا تُؤْكَل إلاَّ كَذَلِك وَقد أكلهَا. قَوْله: (وَلَا رأى شَاة سميطا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مسموطة.
5422 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أخْبَرَنا عَبْدُ الله أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ ابنِ عَمْروٍ بنِ أُمَيَّةَ الضِّمْرِيِّ عَنْ أبِيهِ، قَالَ: رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَحْتَزَّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فأكَلَ مِنْها فَدُعِيَ إلَى الصَّلاةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَأُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من كتف شَاة) وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد.
والْحَدِيث قد مر عَن قريب(21/55)
فِي: بَاب قطع اللَّحْم بالسكين.
27 - (بَابُ: {مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأسْفَارِهِمْ مِنَ الطعامِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يدخرون فِي بُيُوتهم ليتقوتون فِي الْمُسْتَقْبل فِي الْحَضَر، ويدخرون أَيْضا بالتزود فِي أسفارهم لكفاية مُدَّة من الْأَيَّام. قَوْله: (من الطَّعَام) ، يتَعَلَّق بقوله: (يدخرون) وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة أَي: من أَنْوَاع الطَّعَام من أَي طَعَام كَانَ وَمن اللَّحْم بأنواعه وَغير ذَلِك مِمَّا يدخرون ويحفظ من الأقوات، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على الصُّوفِيَّة وَمن يذهب إِلَى مَذْهَبهم فِي قَوْلهم: إِنَّه لَا يجوز إدخار طَعَام لغد، وَأَن الْمُؤمن الْكَامِل الْإِيمَان لَا يسْتَحق اسْم الْولَايَة حَتَّى يتَصَدَّق بِمَا يفضل عَن شبعه وَلَا يتْرك طَعَاما لغد وَلَا يصبح عِنْده شَيْء من عين وَلَا عرض ويمسي كَذَلِك، وَمن خَالف ذَلِك فقد أَسَاءَ الظَّن بربه وَلم يتوكل عَلَيْهِ حق توكله، وَقد جَاءَ فِي الْأَخْبَار الثَّابِتَة بإدخار الصَّحَابَة وتزود الشَّارِع وَأَصْحَابه فِي أسفارهم، وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْفق على أَهله نَفَقَة سنتهمْ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ من بني النَّضِير، على مَا سلف، فِي كتاب الْخمس، وَفِيه مقنع وَحجَّة كَافِيَة فِي الرَّد عَلَيْهِم.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأسْماءُ صَنَعْنَا لِلنبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبِي بَكْرٍ سُفْرَةً.
مطابقته هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن صنع عَائِشَة وَأَسْمَاء السفرة كَانَت حِين سَافر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر مَعَه إِلَى الْمَدِينَة مُهَاجِرين، وَقد مر فِي: بَاب هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة، فِي حَدِيث طَوِيل، قَالَت عَائِشَة: فجهزناهما أحب الجهاز ووضعنا لَهما سفرة فِي جراب الحَدِيث، وَهَذَا من أقوى الْحجَج لجَوَاز التزود للمسافرين، وَأَسْمَاء بنت أبي بكر وَأُخْت عَائِشَة من الْأَب لِأَن أم عَائِشَة أم رُومَان بنت عَامر، وَأم أَسمَاء أم الْعُزَّى قيلة، وَهِي شَقِيقَة عبد الله بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
5423 - حدَّثنا خَلادُ بنُ يَحْيَى حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَابِسٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنْ يُؤْكَلَ مِنْ لُحُومِ الأضَاحِي فَوْقَ ثَلاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إلاَّ فِي عامِ جاعَ النَّاسُ فِيهِ، فأرَادَ أنْ يُطْعِمَ الغَنِيُّ الفَقِيرَ وَإنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ. قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِالله.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَإِن كُنَّا لنرفع الكراع فنأكله بعد خمس عشرَة) وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ فِي شَيْء من أَحَادِيث الْبَاب للطعام ذكر، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ مِنْهَا بطرِيق الْإِلْحَاق. قلت: هَذَا تصرف عَجِيب أَلَيْسَ قَوْله: (لنرفع الكراع) يُطلق عَلَيْهِ الطَّعَام، وَلَيْسَ المُرَاد من قَوْله فِي التَّرْجَمَة: من الطَّعَام وجود لفظ الطَّعَام صَرِيحًا، وَإِنَّمَا المُرَاد كل شَيْء يطعم يُؤْكَل يُطلق عَلَيْهِ الطَّعَام.
وخلاد بن يحيى بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي، سكن مَكَّة وَمَات بهَا سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس يروي عَن أَبِيه عَابس بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة وَالسِّين الْمُهْملَة ابْن ربيعَة النَّخعِيّ الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَأخرجه مُسلم فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَفِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي.
قَوْله: (أنهى) ، اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فَوق ثَلَاث) ، أَي: ثَلَاثَة أَيَّام. قَوْله: (قَالَت: مَا فعله إِلَّا فِي عَام جَاع النَّاس فِيهِ) ، أَرَادَت عَائِشَة بذلك أَن النَّهْي عَن إدخار لُحُوم الْأَضَاحِي بعد الثَّلَاث نسخ، وَأَن سَبَب النَّهْي كَانَ خَاصّا بذلك الْعَام لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذكرتها. قَوْله: (الْغَنِيّ) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل (يطعم) من الْإِطْعَام (وَالْفَقِير) مَنْصُوب على أَنه مَفْعُوله. قَوْله: (وَإِن كُنَّا) ، كلمة إِن(21/56)
مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، والكراع فِي الْغنم مستدق السَّاق. قَوْله: (بعد خمس عشرَة) ، أَي: لَيْلَة. قَوْله: (مَا اضطركم إِلَيْهِ) ، أَي: مَا ألجأكم إِلَى تَأْخِير هَذِه الْمدَّة. قَوْله: (فَضَحكت) ، أَي: عَائِشَة، وضحكها كَانَ للتعجب من سُؤال عَابس عَن ذَلِك مَعَ علمه أَنهم كَانُوا فِي التقليل وضيق الْعَيْش، وبينت عَائِشَة ذَلِك بقولِهَا: (مَا شبع آل مُحَمَّد) قَوْله: (مأدوم) ، أَي: مَأْكُول بالأدام. قَوْله: (ثَلَاثَة أَيَّام) ، أَي: مُتَوَالِيَات.
(وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ: أخْبَرَنَا سُفْيَانُ حدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ بِهاذا) .
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن كثير، وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ، أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ حدثناعبد الرَّحْمَن بن عَابس بِهَذَا أَي: بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) عَن معَاذ بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن كثير فَذكره، وغرض البُخَارِيّ من هَذَا التَّعْلِيق بَيَان تَصْرِيح سُفْيَان بِإِخْبَار عبد الرَّحْمَن بن عَابس لَهُ بِهِ فَافْهَم.
5424 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْروٍ عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الهَدْي عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَى المَدِينَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأسفارهم) وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ المسندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَجَابِر هُوَ ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن عَليّ بن عبد الله.
وَالْهَدْي مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم، وَهَذَا يدل على جَوَاز التزّود للمسافرين فِي أسفارهم وَفِي التزّود معنى الإدخار.
(تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ وَعَنِ ابنِ عيننةَ)
أَي: تَابَع عَبد الله بن مُحَمَّد المسندي مُحَمَّد بن سَلام عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. قَالَ: بَعضهم: قيل: إِن مُحَمَّدًا هَذَا هُوَ ابْن سَلام. قلت: الْقَائِل بِهَذَا هُوَ الْكرْمَانِي وَلم يقل هُوَ وَحده، وَكَذَا قَالَه أَبُو نعيم، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق الْحميدِي: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
(وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاء: أقَالَ: حَتَّى جِئْنَا المَدِينَةِ؟ قَالَ: لَا)
أَي: قَالَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. قلت لعطاء بن أبي رَبَاح: أقَال؟ أَي: هَل قَالَ جَابر فِي قَوْله: كُنَّا نتزود لحرم الْهَدْي حَتَّى جِئْنَا إِلَى الْمَدِينَة؟ قَالَ عَطاء: لَا أَي: لم يقل ذَلِك جَابر، وَقد وَقع فِي رِوَايَة مُسلم قلت لعطاء: أقَال جَابر حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَة؟ قَالَ: نعم، وَقد نبه الْحميدِي فِي جمعه على اخْتِلَاف البُخَارِيّ وَمُسلم فِي هَذِه اللَّفْظَة وَلم يذكر أَيهمَا أرجح، وَالظَّاهِر أَن يرجح مَا قَالَه البُخَارِيّ لِأَن أَحْمد أخرجه فِي (مُسْنده) عَن يحيى بن سعيد كَذَلِك وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن سعيد كَذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ المُرَاد بقوله: لَا، نفي الحكم بل مُرَاده أَن جَابِرا لم يُصَرح باستمرار ذَلِك حَتَّى قدمُوا فَيكون على هَذَا معنى قَوْله فِي رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء: كُنَّا نتزود لُحُوم الْهَدْي إِلَى الْمَدِينَة أَي: لتوجهنا إِلَى الْمَدِينَة، وَلَا يلْزم من ذَلِك بَقَاؤُهَا مَعَهم حَتَّى يصلوا الْمَدِينَة. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ لِأَنَّهُ قَالَ: إِلَى الْمَدِينَة، بِكَلِمَة إِلَى الَّتِي أصل وَضعهَا للغاية، وَهنا للغاية المكانية كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} (الْإِسْرَاء: 1) وَفِيمَا قَالَه جعل: إِلَى، للتَّعْلِيل وَلم يقل بِهِ أحد، وَيُقَوِّي وهاء كَلَام هَذَا الْقَائِل مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ثَوْبَان قَالَ: ذبح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أضْحِية. ثمَّ قَالَ لي: يَا ثَوْبَان أصلح لحم هَذِه، فَلم أزل أطْعمهُ مِنْهُ حَتَّى قدم الْمَدِينَة.
28 - (بَابُ: {الحَيْسِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر الحيس، وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة، وَهُوَ مَا يتَّخذ من التَّمْر والأقط وَالسمن وَيجْعَل عوض الأقط الفتيت والدقيق.
5425 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثَنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرو بنِ أبِي عَمْروٍ مَوْلَى المُطّلِبِ بنِ عَبْدِ الله بنِ حَنْطَبٍ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبِي طَلْحَةَ: التَمِسْ غُلاما مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي، فَخَرَجَ بِي أبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أخُدمُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلَّما(21/57)
نَزَلَ فَكُنْتُ أسْمَعُهُ يُكثِرُ أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحزَنِ وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ وَضَلَعِ الدِّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، فَلَمْ أزَلْ أخْدُمُهُ حَتَّى أقْبَلْنا مِنْ خَيْبَرَ وَأقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَي قَدْ حَازَها فَكُنْتُ أرَاهُ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أوْ بِكَسَاءٍ ثُمَّ يُرْدِفُها وَرَاءَهُ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسا فِي نِطَعٍ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجالاً فَأَكَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا ثُمَّ أقْبَلَ حَتَّى إذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: هاذا جَبَلٌ يُحبُّنا وَنُحِبُّهُ، فَلَمَّا أشْرَفَ عَلَى المَدِينَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْها مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صنع حَيْسًا) والْحَدِيث مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب هَل يُسَافر بالجارية قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْغفار بن دَاوُد عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد، وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة أَيْضا. .
قَوْله: (لأبي طَلْحَة) ، اسْمه زيد بن سهل زوج أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (من الْهم والحزن) ، قيل: هما بِمَعْنى وَاحِد، وَقيل: الْهم لما تصَوره الْعقل من الْمَكْرُوه الحالي، والحزن الْمَكْرُوه وَقع فِي الْمَاضِي. قَوْله: (والكسل) وَهُوَ التثاقل عَن الْأَمر ضد الخفة والجلادة. قَوْله: (وَالْبخل) ضد الْكَرم (والجبن) ضد الشجَاعَة. قَوْله: (وضلع الدّين) بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَاللَّام فَهُوَ ثقل الدّين وشدته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَنْوَاع الْفَضَائِل ثَلَاثَة: نفسية وبدنية وخارجة. فالنفسانية ثَلَاثَة بِحَسب القوى الثَّلَاث الَّتِي للْإنْسَان الْعَقْلِيَّة والغضبية والشهوية فالهم والحزن مِمَّا يتَعَلَّق بالعقلية، والجبن بالغضبية، وَالْبخل بالشهوية وَالْعجز والكسل بالبدنية. وَالثَّانِي: عِنْد سَلامَة الْأَعْضَاء وَتَمام الْآلَات. وَالْأول: عِنْد نُقْصَان الْعُضْو كَمَا فِي الْأَعْمَى والأشل والضلع وَالْغَلَبَة بالخارجية. وَالْأول مَالِي، وَالثَّانِي جاهي، فَهَذَا الدُّعَاء من جَوَامِع الْكَلم لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (بصفية) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف بنت حييّ بن أَخطب النَّضْرِية أم الْمُؤمنِينَ من بَنَات هَارُون بن عمرَان أخي مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأمّهَا برة بنت سموأل، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام خَيْبَر فِي شهر رَمَضَان سنة سبع من الْهِجْرَة ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين، وَقَالَ غَيره: مَاتَت فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (قد حازها) بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي أَي: اخْتَارَهَا من الْغَنِيمَة، وكل من ضم إِلَى نَفسه شَيْئا فقد حازه. قَوْله: (فَكنت أرَاهُ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يحوّي لَهَا) ، بِضَم الْيَاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْوَاو والمشددة أَي: يَجْعَل لَهَا حوية وَهُوَ كسَاء محشو يدار حول سَنَام الرَّاحِلَة يحفظ راكبها من السُّقُوط ويستريح بالاستناد إِلَيْهِ. قَوْله: (بالصهباء) بِفَتْح الْمُهْملَة وَالْبَاء اسْم منزل بَين خَيْبَر وَالْمَدينَة. قَوْله: (فِي نطع) فِيهِ أَربع لُغَات: نطع بِفَتْح النُّون وَسُكُون الطَّاء ونطع بِفتْحَتَيْنِ، ونطع بِكَسْر النُّون وَسُكُون الطَّاء، ونطع بِكَسْر النُّون وَفتح الطَّاء، وَيجمع على نطوع وانطاع. قَوْله: (وَكَانَ ذَلِك بِنَاؤُه بهَا) أَي: دُخُوله بصفية. قَوْله: (بدا لَهُ) ، أَي: ظهر لَهُ من بعيد. قَوْله: (يحبنا) الظَّاهِر أَنه مجَازًا أَو إِضْمَار أَي: يحبنا أَهله وهم أهل الْمَدِينَة، وَيحْتَمل الْحَقِيقَة لشمُول قدرَة الله تَعَالَى. قَوْله: (مثل مَا حرم) المثلية بَين حرم الْمَدِينَة وَمَكَّة فِي الْحُرْمَة فَقَط لَا فِي الْجَزَاء وَغَيره، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لفظ: (بِهِ) زَائِد قلت: لَا بل مثل مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: أحرم مثل مَا حرم بِهِ. فَإِن قلت: مَا ذَاك؟ قلت: دعاؤه بِالتَّحْرِيمِ يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: وَأحرم مَا بَين جبليها بِهَذَا اللَّفْظ، وَهُوَ أحرم مثل مَا حرم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (فِي مدهم) الْمَدّ رَطْل وَثلث رَطْل أَو رطلان، والصاع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمَقْصُود بَارك لَهُم فِيمَا يقدر بِالْمدِّ والصاع وَهُوَ الطَّعَام وَالْبركَة فِي الْمَوْزُون بِهِ يسْتَلْزم الْبركَة فِي الْمَوْزُون.
29 - (بَابُ: {الأَكْلِ فِي إنَاءٍ مُفَضَّضٍ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حُرْمَة الْأكل فِي إِنَّا مفضض، وَهُوَ المرصع بِالْفِضَّةِ يُقَال: لجام مفضض أَي: مرصع بِالْفِضَّةِ وَمَعْنَاهُ: إِنَاء مفضض وإناء متخذ من فضَّة وإناء مضبب بِفِضَّة وإناء مَطْلِي بِالْفِضَّةِ، أما الْإِنَاء المفضض فَيجوز الشّرْب فِيهِ عِنْد أبي(21/58)
حنيفَة إِذا كَانَ يَتَّقِي مَوضِع الْفضة، وَهُوَ أَن يَتَّقِي مَوضِع الْفَم وَمَوْضِع الْيَد، وَكَذَلِكَ الْجُلُوس على السرير المفضض والكرسي المفضض بِهَذَا الشَّرْط وَقَالَ أَبُو يُوسُف يكره ذَلِك وَبِه قَالَ مُحَمَّد فِي رِوَايَة وَفِي رِوَايَة أُخْرَى مَعَ أبي حنيفَة وَأما الْإِنَاء الْمُتَّخذ من الْفضة فَلَا يجوز اسْتِعْمَاله أصلا لَا بِالْأَكْلِ وَلَا بالشرب وَلَا بالإدهان وَنَحْو ذَلِك للرِّجَال وَالنِّسَاء وَأما الْإِنَاء المضبب بِالْفِضَّةِ أَو الذَّهَب فعلى الْخلاف الْمَذْكُور، والمضبب هُوَ المشدد بِالْفِضَّةِ أَو الذَّهَب وَمِنْه: ضبب أَسْنَانه بِالْفِضَّةِ إِذا شدها، وَأما الْإِنَاء المطلي بِالْفِضَّةِ أَو الذَّهَب فَإِن كَانَ يخلص شَيْء مِنْهَا بالإذابة فَلَا يجوز اسْتِعْمَاله، وَإِن كَانَ لَا يخلص شَيْء فَلَا بَأْس بِهِ عِنْد أَصْحَابنَا.
5426 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سَيْفُ بنُ أبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجاهِدا يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي لَيْلَى أنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجوسيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ القَدَحَ فِي يَدِهِ رَماهُ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلا أنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا مَرَّتَيْنِ؟ كَأنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أفْعَلْ هاذا، وَلاكِنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلا الدِّيباجَ، وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَّةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صَحَافِها، فَإنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ.
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) مَا حَاصله: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. لِأَن التَّرْجَمَة فِي إِنَاء مفضض، والْحَدِيث فِي إِنَاء الْمُتَّخذ من الْفضة إلاَّ إِن كَانَ الْإِنَاء الَّذِي سقِِي فِيهِ حُذَيْفَة كَانَ مضببا وَأَن الضبة مَوضِع الشّفة عِنْد الشّرْب فَلهُ وَجه على بعد، وَقَالَ بَعضهم: أجَاب الْكرْمَانِي بِأَن لفظ: مفضض، وَإِن كَانَ ظَاهرا فِيمَا فِيهِ فضَّة لكنه يَشْمَل مَا كَانَ متخذا كُله من فضَّة. قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بالشمول بِمَعْنى أَنه يُطلق على الْمَعْنيين بِحَسب اللُّغَة فَيحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَإِن كَانَ بِحَسب الِاصْطِلَاح بالفقهاء قد فرقوا بَين المفضض والمتخذ من الْفضة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: المفضض لَيْسَ بِإِنَاء ذهب وَلَا فضَّة وَلَيْسَ بِحرَام مَا لم يَقع النَّهْي عَنهُ، وَكَذَلِكَ المضبب، وَهُوَ وَجه لبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَسيف بن أبي سُلَيْمَان، وَيُقَال ابْن سُلَيْمَان المَخْزُومِي، وَقَالَ يحيى الْقطَّان: كَانَ حَيا سنة خمسين وَمِائَة، وَكَانَ عندنَا ثِقَة مِمَّن يصدق ويحفظ، وروى لَهُ مُسلم أَيْضا، وَحُذَيْفَة هُوَ ابْن الْيَمَان الْعَبْسِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي مُوسَى وَفِي اللبَاس عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَفِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن حَفْص بن عمر الحوضي، وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي مُوسَى بِهِ وَعَن غَيرهم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن حَفْص بن عمر بِهِ وَعَن غَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد وَفِي الْوَلِيمَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَعَن غَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك وَفِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (فَسَقَاهُ مَجُوسِيّ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عبد الله بن حَكِيم، قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ فاستسقي حُذَيْفَة فَجَاءَهُ دهقان بشراب فِي إِنَاء من فضَّة فَرَمَاهُ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي ليلى يحدث أَن حُذيفة استقى فَأَتَاهُ إِنْسَان بِإِنَاء من فضَّة فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ إِنِّي كنت نهيته فَأبى أَن يَنْتَهِي الحَدِيث. قَوْله: (رَمَاه بِهِ) أَي: رمى الْقدح بِالشرابِ أَو رمى الشَّرَاب بالقدح، وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن قَوْله: (فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ) يدل عَلَيْهِ ويروى رمى بِهِ. قَوْله: (غير مرّة) أَي: لَوْلَا أَنِّي نهيته مرَارًا كَثِيرَة عَن اسْتِعْمَال آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة لما رميت بِهِ وَلَا اكتفيت بالزجر اللساني، لَكِن لما تكَرر النَّهْي بِاللِّسَانِ فَلم ينزجر رميت بِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ. قَوْله: (كَأَنَّهُ يَقُول) أَي: كَانَ حُذَيْفَة يَقُول: لم أفعل هَذَا أَي: الشّرْب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، ثمَّ استدرك فِي بَيَان ذَلِك بقوله وَلَكِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (وَلَا الديباج) وَقَالَ ابْن الْأَثِير الديباج الثِّيَاب المتخذة من الإبريسم، فَارسي مُعرب، وَقد يفتح داله وَيجمع على: دبابج ودبايج، بِالْبَاء وَالْيَاء لِأَن أَصله دباج بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (فِي صحافها) جمع صَحْفَة وَهِي إِنَاء كالقصعة المبسوطة وَنَحْوهَا. وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْفضة وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: صحافهما، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا} (التَّوْبَة: 34)(21/59)
فَإِذا علم حكم الْفضة يلْزم حكم الذَّهَب مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (لَهُم) أَي: للْكفَّار والسياق يدل عَلَيْهِ.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على تَحْرِيم اسْتِعْمَال الْحَرِير والديباج وعَلى حُرْمَة الشّرْب وَالْأكل من إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَذَلِكَ للنَّهْي الْمَذْكُور وَهُوَ نهي تَحْرِيم عِنْد كثير من الْمُتَقَدِّمين وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن النَّهْي فِيهِ كَرَاهَة تَنْزِيه فِي قَوْله الْقَدِيم حَكَاهُ أَبُو عَليّ السنجي من رِوَايَة حَرْمَلَة.
30 - (بَابٌ: {ذِكْرِ الطَعَّامِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر الطَّعَام قيل: لَا فَائِدَة فِي مَوضِع هَذِه التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلاَّ مُجَرّد ذكر الطَّعَام، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) مَا ملخص كَلَامه إِن مَعْنَاهَا إِبَاحَة أكل الطَّعَام الطّيب وَكَرَاهَة أكل المر، وَأَن الزّهْد لَيْسَ فِي خلاف ذَلِك لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب تَشْبِيه الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن بالأترجة الَّتِي طعمها طيب وريحها طيب وَالَّذِي لَا يَقْرَؤُهُ بالتمرة طعمها حُلْو وَلَا ريح لَهَا، وَشبه الْمُنَافِق بالحنظلة والريحانة اللَّتَيْنِ طعمهما مر وَذَلِكَ غَايَة الذَّم للطعام المر.
5427 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ رِيحُها طَيِّبٌ وَطَعْمُها طَيِّبٌ وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ النَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَها وَطَعْمُها حُلْوٌ وَمَثَلُ المُنافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُها طَيِّبٌ وَطَعْمُها مُر، وَمَثَلُ المُنافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعمُها مُرٌّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ ذكر لفظ الطّعْم بالتكرار، وَأَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي فَضَائِل الْقُرْآن فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن هدبة بن خَالِد عَن همام عَن قَتَادَة عَن أنس عَن أبي مُوسَى.
قَوْله: (كالأترجة) بِالْإِدْغَامِ ويروى: كالأترنجة. فَإِن قلت: ذكر هُنَاكَ: مثل الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن وَيعْمل بِهِ، وَلم يذكر هُنَا. قلت: الْمَقْصُود الْفرق بَين من يقْرَأ وَبَين من لَا يقْرَأ لَا. بَيَان حكم الْعَمَل، مَعَ أَن الْعَمَل لَازم لِلْمُؤمنِ الْكَامِل سَوَاء ذكر أم لَا. وَقَالَ هُنَاكَ: كالحنظلة رِيحهَا مر. وَهنا قَالَ: لَا ريح لَهَا، فَاثْبتْ الرّيح هُنَاكَ وَنفى هُنَا لِأَن الْمَنْفِيّ الرّيح الطّيبَة بِقَرِينَة الْمقَام والمثبت المر.
5428 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا خَالِدٌ عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ أنَسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الطَّعَام، وخَالِد هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان الوَاسِطِيّ من الصَّالِحين، وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن المكني بِأبي طوالة، والْحَدِيث مر عَن قريب فِي: بَاب الثَّرِيد.
5429 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا مَالِكٌ عَنْ سُمّي عَنْ أبِي صَالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ يَمْنَعُ أحَدَكُمْ: نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ، فَإذَا قَضَى نَهْمَتُهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلَيُعَجِّلْ إلَى أهْلِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَطَعَامه} وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسمى، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم الْمَفْتُوحَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان.
والْحَدِيث قد مر فِي الْحَج عَن القعني، وَفِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن يُوسُف، وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ مَالك عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: مَا لأهل الْعرَاق يسْأَلُون عَن هَذَا الحَدِيث، قيل: لِأَنَّك انْفَرَدت بِهِ. قَالَ: لَو علمت أَنِّي انْفَرَدت بِهِ مَا حدثت بِهِ. قَوْله: (نهمته) ، بِفَتْح النُّون وَضمّهَا وَكسرهَا: بُلُوغ الهمة فِي الشَّيْء. قَوْله: (من وَجهه) ، أَي: من جِهَة سَفَره.(21/60)
31 - (بَابُ: {الأُُدُمِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر الْأدم، بِضَم الْهمزَة وَالدَّال الْمُهْملَة وَيجوز إسكانها، وَهُوَ جمع أدام، وَقيل: هُوَ بالإسكان الْمُفْرد وبالضم الْجمع.
5430 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ أنَّهُ سَمِعَ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّد يَقُولُ: كَانَ فِي بُرَيْرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ، أرَادَتْ عَائِشَةُ أنْ تَشْتَرِيها فَتُعْتِقَها فَقَال أهْلُها: وَلَنا الوَلاءُ فَذَكَرَتْ ذالِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِيهِ لَهُمْ فَإنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ. قَالَ: وَأُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي أنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِها أوْ تُفَارِقَهُ، وَدَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْما بَيْتَ عَائِشَةَ وَعَلَى النَّارِ بُرْمَة تَفُورُ فَدَعَا بِالْغَدَاءِ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ، فَقَالَ: ألَمْ أرَ لَحْما؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، وَلاكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَريرَةَ فَأهْدَتْهُ لَنَا فَقَالَ: هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا وَهَدِيَّةٌ لَنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأدم من أَدَم الْبَيْت) وَرَبِيعَة، بِفَتْح الرَّاء هُوَ الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
وَمر هَذَا الحَدِيث أَكثر من عشْرين مرّة وَهُوَ هَاهُنَا مُرْسل لِأَنَّهُ لم يسند فِيهِ إِلَى عَائِشَة وَلَكِن البُخَارِيّ اعْتمد على إِيرَاده وصُولا من طَرِيق مَالك عَن ربيعَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة كَمَا مر فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق.
قَوْله: (وَلنَا الْوَلَاء) ، الْوَاو لَا تدخل بَين القَوْل وَالْمقول لَكِن هَذَا عطف على مُقَدّر أَي: قَالَ أَهلهَا: نبيعها وَلنَا الْوَلَاء. قَوْله: (شرطتيه) ، الْيَاء فِيهِ حَاصِلَة من إشباع الكسرة وَهُوَ جَوَاب: لَو، قيل: فِي اشْتِرَاط الْوَلَاء لَهُم صُورَة مخادعة مَعَ أَنه شَرط مُفسد، وَأجِيب بِأَن هَذَا من خَصَائِص عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَو المُرَاد التوبيخ لِأَنَّهُ كَانَ بيَّن لَهُم حكم الْوَلَاء وَأَن هَذَا الشَّرْط لَا يحل فَلَمَّا ألحُّوا فِي اشْتِرَاطه فَقَالَ لَهَا: لَا تبالي سَوَاء شرطتيه أم لَا فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل، وَقيل: فِي الرِّوَايَة الَّتِي جَاءَت فِيهِ اشترطي لَهُم الْوَلَاء أَن اللَّام بِمَعْنى: على، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) قَوْله: (فِي أَن تقر) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتحهَا.
32 - (بَابُ: {الحَلْوَاءِ وَالعَسَلِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر الْحَلْوَاء وَالْعَسَل، والحلواء عِنْد الْأَصْمَعِي مَقْصُور يكْتب بِالْيَاءِ وَعند الْفراء مَمْدُود، وكل مَمْدُود يكْتب بِالْألف، وَقيل: يمد وَيقصر، وَقَالَ اللَّيْث: هُوَ مَمْدُود عِنْد أَكْثَرهم، وَهُوَ كل حُلْو يُؤْكَل وَقَالَ الْخطابِيّ: اسْم الْحَلْوَاء لَا يَقع إلاَّ على مَا دَخلته الصَّنْعَة. وَفِي (الْمُخَصّص) لِابْنِ سَيّده. هُوَ كل مَا عولج من الطَّعَام بحلاوة، وَهُوَ أَيْضا الْفَاكِهَة.
5431 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ عَنْ أبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشامٍ قَالَ: أخْبَرَنِي أبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبُّ الحَلْوَاءَ وَالعَسَلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، والحنظلي نِسْبَة إِلَى حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد بن منات بن تَمِيم بطن عامتهم بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا مَاتَ بنيسابور سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن عبد الله بن أبي شيبَة وَفِيه وَفِي الطِّبّ عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي ترك الْحِيَل عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل الْكل عَن أبي أُسَامَة وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن أبي كريب وَهَارُون بن عبد الله. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال عَن أبي أُسَامَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن سَلمَة بن شبيب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الطِّبّ عَن عبيد الله بن سعيد وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره.
قَوْله: (يحب الْحَلْوَاء) ، قَالَ ابْن بطال: الْحَلْوَى وَالْعَسَل من جملَة الطَّيِّبَات الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {كلوا من الطَّيِّبَات} وَفِيه تَقْوِيَة لقَوْل من قَالَ: المُرَاد بِهِ المستلذ من الْمُبَاحَات، وَدخل فِي معنى هَذَا الحَدِيث كل مَا شابه الْحَلْوَى وَالْعَسَل من أَنْوَاع المآكل اللذيذة،(21/61)
وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يكن حبه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا على معنى كَثْرَة التشهي لَهَا وَشدَّة نزاع النَّفس إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يتَنَاوَل مِنْهَا إِذا حضرت إِلَيْهِ نيلاً صَالحا فَيعلم بذلك أَنَّهَا تعجبه.
5432 - حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ شَيْبَةَ قَالَ: أخْبَرَنِي ابنُ أبِي الفُدَيْكِ عَنِ ابنِ أبِي ذُؤَيْبٍ عَنِ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: كُنْتُ ألْزَمُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِشبَع بَطْنِي حِينَ لَا آكُلُ الخَمِيرَ وَلا ألْبَسُ الحَرِيرَ وَلا يَخدُّمُنِي فُلان وَلا فُلانَةُ. وَأُلْصِقُ بَطْنِي بُالحَصْبَاءِ وَأسْتَقْرِىءُ الرَّجُلَ الآيَةَ وَهِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي، وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بنُ أبِي طَالِبٍ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى إنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إلَيْنَا العُكَةَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشْتَقُّها فَنَلْعَقُ مَا فِيها.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (العكة) لِأَن الْغَالِب يكون الْعَسَل فِيهَا، على أَنه جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي بعض طرقه.
وَعبد الرَّحْمَن بن شيبَة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن شيبَة أَبُو بكر الْقرشِي الخزامي بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمدنِي وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى جد أَبِيه، وَقد غلط بَعضهم فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن بن أبي شيبَة وَزَاد لَفظه أبي وَمَا لعبد الرَّحْمَن هَذَا فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي موضِعين أَحدهمَا: هَذَا، وَابْن أبي فديك هُوَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك بِضَم الْفَاء مصغر فدك بِالْفَاءِ وَالدَّال الْمُهْملَة وَالْكَاف ويروى ابْن أبي الفديك بِالْألف وَاللَّام، وَابْن أبي ذِئْب مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب بِكَسْر الذَّال بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور والمقبري، هُوَ سعيد بن أبي سعيد وَقد مر عَن قريب.
والْحَدِيث قد مضى فِي مَنَاقِب جَعْفَر بن أبي طَالب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (لشبع بَطْني) أَي: لأجل شبع بَطْني، والشبع بِكَسْر الشين وَفتح الْبَاء وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بشبع بَطْني، أَي: بِسَبَب شبع بَطْني، ويروى ليشبع بَطْني بِصِيغَة الْمَجْهُول وَاللَّام فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (الخمير) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم الخمير والخميرة الَّتِي تجْعَل فِي الْخبز، يُقَال: عِنْدِي خبز خمير أَي: خبز بائت. قَوْله: (وَلَا ألبس الْحَرِير) ، براءين كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وبالياء الْمُوَحدَة بدل الرَّاء الأولى فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ والقابسي وعبدوس، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَرجح عِيَاض الرِّوَايَة بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ: هُوَ الثَّوْب المحبر وَهُوَ المزين الملون مَأْخُوذ من التحبير، وَهُوَ التحسين. وَقيل: الحبير ثوب وشي مخطط، وَقيل: الْجَدِيد. قَوْله: (وَلَا يخدمني فلَان وَلَا فُلَانَة) ، هما كنايتان عَن الْخَادِم والخادمة. قَوْله: (وَهِي معي) ، أَي: تِلْكَ الْآيَة محفوظي وَفِي خاطري. لَكِن استقرىء أَي: أطلب الْقِرَاءَة من الرجل حَتَّى يوديني إِلَى بَيته فيطعمني قَوْله: (فنشتفها) ضَبطه عِيَاض بالشين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء، وَقَالَ ابْن التِّين بِالْقَافِ وَهُوَ الْأَظْهر لِأَن معنى الَّذِي بِالْفَاءِ أَن نشرب مَا فِي الْإِنَاء وَالَّذِي بِالْقَافِ أَن نشق العكة حَتَّى يلعقوها.
33 - (بَابُ: {الدُّبَّاءِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر الدُّبَّاء، وَقد مر تَفْسِيره، وَيحْتَمل أَن يكون وضع هَذِه التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَن الدُّبَّاء لَهَا خاصية تخْتَص بهَا فَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبهَا، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث وَاثِلَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَلَيْكُم بالقرع فَإِنَّهُ يزِيد فِي الدِّمَاغ، وَفِي (فَوَائِد الشَّافِعِي) رَحمَه الله من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا طبخت فأكثري فِيهِ الدُّبَّاء فَإِنَّهُ يشد قلب الحزين، وَقَالَ شَيخنَا: وَفِي بعض طرق حَدِيث أنس أَنه يُرِيد فِي الْعقل وَفِي بعض طرق حَدِيث أنس فِي (مُسْند الإِمَام أَحْمد) أَن القرع كَانَ أحب الطَّعَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
5433 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا أزْهَرُ بنُ سَعْدٍ عَنِ ابنِ عَوْنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بنِ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتَى مَوْلَى لهُ خَيَّاطا فَأُتِيَ بِدُبَّاءٍ فَجَعَلَ يَأكُلُهُ فَلَمْ أزَلْ أُحِبُّهُ مِنْذُ رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْكُلُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصير فِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وأزهر بن سعد الْبَاهِلِيّ(21/62)
السمان الْبَصْرِيّ، وَأَبُو عون هُوَ عبد الله بن عون، وثمامة بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الميمين ابْن عبد الله بن أنس يروي عَن جده أنس.
وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي بَاب من تتبع حوالي الْقِصَّة وَمر أَيْضا فِي الْبيُوع فِي: بَاب ذكر الْخياط، وَفِيه رِوَايَات فِي رِوَايَة بَاب ذكر الْخياط أَن خياطا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: قرّب خبز أَو مرقا فِيهِ دياء، وقديد، وَفِي: بَاب من تتبع حوالي الْقِصَّة: أَن خياطا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه ذكر الدياء فَقَط. وَفِي حَدِيث الْبَاب أَن مولى لَهُ خياط، وَلَا مُنَافَاة بَين هَذِه الرِّوَايَات لِأَن الثِّقَة إِذا زَاد يقبل، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَجه ذَلِك أَنهم كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ فَرُبمَا أغفل الرَّاوِي عِنْد التحديث كلمة.
34 - (بَابُ: {الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ الطَّعامَ لإِخْوَانِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: حَال الرجل الَّذِي يتَكَلَّف الطَّعَام لإخوانه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه التَّكَلُّف فِي حَدِيث الْبَاب أَنه حصر الْعدَد والحاصر متكلف قلت: لِأَنَّهُ ألزم نَفسه بِعَدَد معِين، وَهَذَا تكلّف لاحْتِمَال الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان.
5434 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ. قَالَ: كَانَ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعاما أدْعُو رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَدَعا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهاذا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنا فَإنْ شِئْتَ أذَنْتَ لَهُ وَإنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ، قَالَ: بَلْ أذِنْتُ لَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة، تُؤْخَذ من قَوْله: (أَدْعُو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَامِس خَمْسَة) وَقد ذكرنَا أَنه تكلّف حَيْثُ حصر الْعدَد.
وَمُحَمّد ابْن يُوسُف هُوَ أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عمر والأنصاري البدري.
والْحَدِيث قد مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب مَا قيل فِي اللحام والجزار، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن أبي مَسْعُود إِلَى آخِره، وَفِي الْمَظَالِم أَيْضا عَن أبي النُّعْمَان، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (اللحام) ، أَي: بياع اللَّحْم، وَتقدم فِي الْبيُوع بِلَفْظ: قصاب. قَوْله: (خَامِس خَمْسَة) ، مَعْنَاهُ: ادعو أَرْبَعَة أنفس وَيكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خامسهم، يُقَال: خَامِس أَرْبَعَة وخامس خَمْسَة بِمَعْنى وَاحِد، وَفِي الْحَقِيقَة يكون الْمَعْنى الْخَامِس مصير الْأَرْبَعَة خَمْسَة، وانتصاب خَامِس على الْحَال وَيجوز الرّفْع تَقْدِير: ادعو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ خَامِس خَمْسَة، وَالْجُمْلَة أَيْضا تكون حَالا، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأَعْمَش: اصْنَع لنا طَعَاما لخمسة نفر. قَوْله: (فَتَبِعهُمْ رجل) ، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش، فاتبعهم، بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بِمَعْنى: تَبِعَهُمْ، وَفِي رِوَايَة حَفْص بن غياث فجَاء مَعَهم رجل.
وَمثل هَذَا الرجل الَّذِي يتبع بِلَا دَعْوَة يُسمى طفيليا مَنْسُوبا إِلَى رجل من أهل الْكُوفَة يُقَال لَهُ: طفيل من بني عبد الله بن غطفان كَانَ يَأْتِي الولائم من غير أَن يدعى إِلَيْهَا، وَكَانَ يُقَال لَهُ: طفيل الأعراس، وَهَذِه الشُّهْرَة إِنَّمَا اشْتهر بهَا من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة بعد الطُّفَيْل الْمَذْكُور. وَأما شهرته عِنْد الْعَرَب قَدِيما فَكَانُوا يسمونه: الوارش، بالشين الْمُعْجَمَة هَذَا إِذا دخل لطعام لم يدع إِلَيْهِ، فَإِن دخل لشراب لم يدع إِلَيْهِ يسمونه الواغل بالغين الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (وَهَذَا رجل قد تبعنا) وَفِي رِوَايَة جرير وَأبي عوَانَة اتَّبعنَا، بِالتَّشْدِيدِ وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة لم يكن مَعنا حِين دَعوتنَا.
قَوْله: (فَإِن شِئْت أَذِنت لَهُ) الخ وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة. فَإِن شِئْت أَن يرجع رَجَعَ، وَفِي رِوَايَة جرير، وَإِن شِئْت رَجَعَ، وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: أَنه اتَّبعنَا وَلم يكن مَعنا حِين دَعوتنَا فَإِن أَذِنت لَهُ دخل. قَوْله: (بل أَذِنت لَهُ) وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة لَا بَلْ أَذِنت لَهُ وَفِي رِوَايَة جرير لَا بل ائْذَنْ لَهُ يَا رَسُول الله وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة فقد أذنا لَهُ فَلْيدْخلْ.
وَفِيه فَوَائِد كَثِيرَة: قد ذَكرنَاهَا فِي بَاب مَا قيل فِي اللحام فِي كتاب الْبيُوع. فَإِن قلت: كَيفَ اسْتَأْذن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذَا الحَدِيث على الرجل الَّذِي مَعَه، وَقَالَ فِي حَدِيث أبي طَلْحَة فِي (الصَّحِيح) لمن مَعَه. قومُوا؟ قلت: أُجِيب بأجوبة: الأول: أَنه علم من أبي طَلْحَة رِضَاهُ بذلك فَلم يسْتَأْذن وَلم يعلم رضَا أبي شُعَيْب فاستأذنه. الثَّانِي: أَن أكل الْقَوْم عِنْد(21/63)
أبي طَلْحَة مِمَّا خرق الله تَعَالَى بِهِ الْعَادة وبركة أحدثها الله عز وَجل، لَا ملك لأبي طَلْحَة عَلَيْهَا فَإِنَّمَا أطْعمهُم مِمَّا لَا يملكهُ فَلم يفْتَقر إِلَى اسْتِئْذَان. الثَّالِث: بِأَن يُقَال: إِن الأقراص جَاءَ بهَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَسْجده ليأخذها مِنْهُ فَكَأَنَّهُ قبلهَا وَصَارَت ملكا لَهُ فَإِنَّمَا استدعى لطعام يملكهُ فَلَا يلْزمه أَن يسْتَأْذن فِي ملكه.
قَ الَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: إذَا كَانَ القَوْمُ عَلَى المَائِدَةِ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يُنَاوِلوا مِنْ مَائِدَةٍ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى، وَلاكِنْ يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضا فِي تِلْكَ المَائِدَةِ أوْ يَدَعُوا.
هَذَا لم يثبت فِي البُخَارِيّ إلاَّ عِنْد أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل هُوَ البُخَارِيّ، وروى مُحَمَّد هَذَا عَن البُخَارِيّ نَفسه هَذَا الْكَلَام قَالَه البُخَارِيّ استنباطا من اسْتِئْذَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّاعِي فِي الرجل الطارىء، وَذَلِكَ أَن الَّذين دعوا لَهُم التَّصَرُّف فِي الطَّعَام الْمَدْعُو إِلَيْهِ بِخِلَاف من لم يدع فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق.
5434 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ. قَالَ: كَانَ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعاما أدْعُو رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَدَعا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهاذا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنا فَإنْ شِئْتَ أذَنْتَ لَهُ وَإنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ، قَالَ: بَلْ أذِنْتُ لَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة، تُؤْخَذ من قَوْله: (أَدْعُو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَامِس خَمْسَة) وَقد ذكرنَا أَنه تكلّف حَيْثُ حصر الْعدَد.
وَمُحَمّد ابْن يُوسُف هُوَ أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عمر والأنصاري البدري.
والْحَدِيث قد مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب مَا قيل فِي اللحام والجزار، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن أبي مَسْعُود إِلَى آخِره، وَفِي الْمَظَالِم أَيْضا عَن أبي النُّعْمَان، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (اللحام) ، أَي: بياع اللَّحْم، وَتقدم فِي الْبيُوع بِلَفْظ: قصاب. قَوْله: (خَامِس خَمْسَة) ، مَعْنَاهُ: ادعو أَرْبَعَة أنفس وَيكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خامسهم، يُقَال: خَامِس أَرْبَعَة وخامس خَمْسَة بِمَعْنى وَاحِد، وَفِي الْحَقِيقَة يكون الْمَعْنى الْخَامِس مصير الْأَرْبَعَة خَمْسَة، وانتصاب خَامِس على الْحَال وَيجوز الرّفْع تَقْدِير: ادعو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ خَامِس خَمْسَة، وَالْجُمْلَة أَيْضا تكون حَالا، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأَعْمَش: اصْنَع لنا طَعَاما لخمسة نفر. قَوْله: (فَتَبِعهُمْ رجل) ، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش، فاتبعهم، بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بِمَعْنى: تَبِعَهُمْ، وَفِي رِوَايَة حَفْص بن غياث فجَاء مَعَهم رجل.
وَمثل هَذَا الرجل الَّذِي يتبع بِلَا دَعْوَة يُسمى طفيليا مَنْسُوبا إِلَى رجل من أهل الْكُوفَة يُقَال لَهُ: طفيل من بني عبد الله بن غطفان كَانَ يَأْتِي الولائم من غير أَن يدعى إِلَيْهَا، وَكَانَ يُقَال لَهُ: طفيل الأعراس، وَهَذِه الشُّهْرَة إِنَّمَا اشْتهر بهَا من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة بعد الطُّفَيْل الْمَذْكُور. وَأما شهرته عِنْد الْعَرَب قَدِيما فَكَانُوا يسمونه: الوارش، بالشين الْمُعْجَمَة هَذَا إِذا دخل لطعام لم يدع إِلَيْهِ، فَإِن دخل لشراب لم يدع إِلَيْهِ يسمونه الواغل بالغين الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (وَهَذَا رجل قد تبعنا) وَفِي رِوَايَة جرير وَأبي عوَانَة اتَّبعنَا، بِالتَّشْدِيدِ وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة لم يكن مَعنا حِين دَعوتنَا.
قَوْله: (فَإِن شِئْت أَذِنت لَهُ) الخ وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة. فَإِن شِئْت أَن يرجع رَجَعَ، وَفِي رِوَايَة جرير، وَإِن شِئْت رَجَعَ، وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: أَنه اتَّبعنَا وَلم يكن مَعنا حِين دَعوتنَا فَإِن أَذِنت لَهُ دخل. قَوْله: (بل أَذِنت لَهُ) وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة لَا بَلْ أَذِنت لَهُ وَفِي رِوَايَة جرير لَا بل ائْذَنْ لَهُ يَا رَسُول الله وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة فقد أذنا لَهُ فَلْيدْخلْ.
وَفِيه فَوَائِد كَثِيرَة: قد ذَكرنَاهَا فِي بَاب مَا قيل فِي اللحام فِي كتاب الْبيُوع. فَإِن قلت: كَيفَ اسْتَأْذن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذَا الحَدِيث على الرجل الَّذِي مَعَه، وَقَالَ فِي حَدِيث أبي طَلْحَة فِي (الصَّحِيح) لمن مَعَه. قومُوا؟ قلت: أُجِيب بأجوبة: الأول: أَنه علم من أبي طَلْحَة رِضَاهُ بذلك فَلم يسْتَأْذن وَلم يعلم رضَا أبي شُعَيْب فاستأذنه. الثَّانِي: أَن أكل الْقَوْم عِنْد أبي طَلْحَة مِمَّا خرق الله تَعَالَى بِهِ الْعَادة وبركة أحدثها الله عز وَجل، لَا ملك لأبي طَلْحَة عَلَيْهَا فَإِنَّمَا أطْعمهُم مِمَّا لَا يملكهُ فَلم يفْتَقر إِلَى اسْتِئْذَان. الثَّالِث: بِأَن يُقَال: إِن الأقراص جَاءَ بهَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَسْجده ليأخذها مِنْهُ فَكَأَنَّهُ قبلهَا وَصَارَت ملكا لَهُ فَإِنَّمَا استدعى لطعام يملكهُ فَلَا يلْزمه أَن يسْتَأْذن فِي ملكه.
قَ الَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: إذَا كَانَ القَوْمُ عَلَى المَائِدَةِ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يُنَاوِلوا مِنْ مَائِدَةٍ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى، وَلاكِنْ يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضا فِي تِلْكَ المَائِدَةِ أوْ يَدَعُوا.
هَذَا لم يثبت فِي البُخَارِيّ إلاَّ عِنْد أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل هُوَ البُخَارِيّ، وروى مُحَمَّد هَذَا عَن البُخَارِيّ نَفسه هَذَا الْكَلَام قَالَه البُخَارِيّ استنباطا من اسْتِئْذَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّاعِي فِي الرجل الطارىء، وَذَلِكَ أَن الَّذين دعوا لَهُم التَّصَرُّف فِي الطَّعَام الْمَدْعُو إِلَيْهِ بِخِلَاف من لم يدع فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق.
35 - (بَابُ: {مَنْ أضَافَ رَجُلاً إلَى طَعَامٍ وَأَُقْبَلَ هُوَ عَلَى عَمَلِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من أضَاف رجلا إِلَى طَعَام لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ أَن يَأْكُل مَعَ الْمَدْعُو بل لَهُ أَن يقبل على عمله وَيتْرك الْمَدْعُو يشْتَغل بِمَا قدمه إِلَيْهِ.
5435 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ النَّضْرَ أخْبَرنا ابنُ عَوْنٍ قَالَ: أخْبَرَنِي ثَمَامَةُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ، رَضِيَ الله عَنهُ، قَالَ: كُنْتُ غُلاما أمْشِي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَأتاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَام وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ فَجَعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَتَتَبَّعُ الدُّبَاءَ قَالَ: فَلَمَّا رَأيْتُ ذالِكَ جَعَلْتُ أجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: فَأقْبَلَ الغُلامُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ أنَسٌ: لَا أزَالُ أُحِبُّ الدُّبَاءَ بَعْدَ مَا رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَنَعَ مَا صَنَعَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْغُلَام لما وضع الْقَصعَة بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واشتغل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتتبعُ الدُّبَّاء مِنْهَا أقبل الْغُلَام على عمله، وَقَالَ ابْن بطال: لَا أعلم فِي اشْتِرَاط أكل الدَّاعِي مَعَ الضَّيْف إلاَّ أَنه أبسط لوجهه وأذهب لاحتشامه، فَمن فعل فَهُوَ أبلغ فِي قرى الضَّيْف، وَمن ترك فَهُوَ جَائِز.
وَعبد الله بن مُنِير بِضَم الْمِيم على وزن اسْم فَاعل من أنار، وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل، يروي عَن عبد الله بن عون، وثمامة بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم وَكلهمْ قد ذكرُوا عَن قريب.
والْحَدِيث أَيْضا قد مر فِي: بَاب الثَّرِيد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
36 - (بَابُ: {المَرَقِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر المرق، وَترْجم بِهِ إِشَارَة إِلَى أَن لَهُ فضلا على الطَّعَام الثخين، وَلِهَذَا كَانَ السّلف يَأْكُلُون الطَّعَام الممرق، وَفِي مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، رَفعه: إِذا طبخت قدرا فَأكْثر مرقها. وَفِيه: فليطعم جِيرَانه، وَقد أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإكثار المرق بِقصد التَّوسعَة على الْجِيرَان وَأهل الْبَيْت والفقراء وَالْأَمر فِيهِ مَحْمُول على النّدب، وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَلْقَمَة بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أَبِيه. قَالَ: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا اشْترى أحدكُم لَحْمًا فليكثر مرقته فَإِن لم يجد لَحْمًا أصَاب مرقة) وَهُوَ أحد اللحمين. وروى أَيْضا من حَدِيث أبي ذَر مَرْفُوعا. وَفِيه: إِذا اشْتريت لَحْمًا أَو طبخت قدرا فَأكْثر مرقته وأغرف لجارك مِنْهُ.
5436 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ أنَّ خيَّاطا دعَا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِطَعامٍ صَنَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ(21/64)
وَسلم، فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ رَأيْتُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالِي القَصْعَةِ فَلَمْ أزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمَئِذٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ومرقا فِيهِ دباء) والْحَدِيث مر فِي الْأَطْعِمَة فِي: بَاب من تتبع حوالي الْقَصعَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
37 - (بَابُ: {القَدِيدِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر اللَّحْم القديد وَترْجم بِهِ إِشَارَة إِلَى أَن القديد من طَعَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَعَام السّلف.
5438 - حدَّثنا قَبِيصَةُ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَابِسٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها، قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إلاَّ فِي عَام جاعَ النَّاسُ أرَادَ أنْ يُطْعِمَ الغَنِيُّ الفَقِيرَ، وَإنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشَرَةَ وَمَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ خُبْز بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثا.
هَذَا حَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث عَائِشَة الْمَاضِي فِي: بَاب مَا كَانَ السّلف يدخرون، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن خَلاد بن يحيى عَن سُفْيَان وَهنا أخرجه عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخِره وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا هُنَاكَ وَلَا وَجه لذكره هَاهُنَا.
قَوْله: (مَا فعله) ، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى النَّهْي الدَّال عَلَيْهِ. قَوْله: فِي أول الحَدِيث الْمَذْكُور فِي: بَاب مَا كَانَ السّلف يدخرون، قلت لعَائِشَة: أنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤْكَل لُحُوم الْأَضَاحِي فرق ثَلَاث؟ قَالَت عَائِشَة: مَا فعله إلاَّ فِي عَام جَاع النَّاس فِيهِ.
38 - (بَابُ: {مَنْ نَاوَلَ أوْ قَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى المَائِدَةِ شَيْئا} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من ناول إِلَى صَاحبه أَو قدم إِلَيْهِ شَيْئا، وَالْحَال أَنَّهُمَا على الْمَائِدَة، ويوضح هَذَا الَّذِي ذكره عَن ابْن الْمُبَارك حَيْثُ قَالَ.
وَقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: لَا بَأْسَ أنْ يُناوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضا، وَلا يُنَاوِلُ مِنْ هاذِهِ المَائِدَةِ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى.
أَي: قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي إِلَى آخِره، أما جَوَاز مناولة بَعضهم بَعْضًا فِي مائدة وَاحِدَة فَلِأَن الطَّعَام قدم لَهُم بأعيانهم وهم شُرَكَاء فِيهِ، فَإِذا ناول وَاحِد مِنْهُم صَاحبه مِمَّا بَين يَدَيْهِ فَكَأَنَّهُ آثره بِنَصِيبِهِ مَعَ مَاله فِيهِ مَعَه من الْمُشَاركَة، وَأما منع ذَلِك من مائدة إِلَى مائدة أُخْرَى فلعدم مُشَاركَة من كَانَ فِي الْمَائِدَة الْأُخْرَى لمن كَانَ فِي الْمَائِدَة الأولى، والمناول فِيهِ، وَإِن كَانَ لَهُ حق فِيهَا بَين يَدَيْهِ وَلَكِن لَا حق للْآخر فِيهِ فِي تنَاوله مِنْهُ إِذْ لَا شركَة لَهُ فِيهِ.
5439 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدَّثني مَالِكٌ عَنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكَ يَقُولُ: إنَّ خَيَّاطا دَعَا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِطعَامٍ صَنَعَهُ. قَالَ أنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَى ذالِكَ الطَّعَامِ فَقَرَّبَ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خُبْزا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، قَالَ أنَسٌ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِن حَوْلِ القَصعَةِ فَلَمْ أزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمَئِذٍ.
(وَقَالَ ثُمَامَةُ عَنْ أنَسٍ: فَجَعَلْتُ أجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ) .
هَذَا حَدِيث قد تقدم قبل هَذَا الْبَاب بِبَاب، وَهُوَ: بَاب المرق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة القعني عَن مَالك وَهنا أخرجه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا هُنَاكَ، وَلَا وَجه لإيراده هَاهُنَا وَلَقَد تكلّف(21/65)
بَعضهم فِي بَيَان الْمُطَابقَة بقوله: لَا فرق بَين أَن يناوله من إِنَاء إِلَى إِنَاء أَو يضم ذَلِك إِلَيْهِ فِي نفس الْإِنَاء الَّذِي يَأْكُل مِنْهُ أَخذ ذَلِك من قَول ثُمَامَة: (فَجعلت أجمع الدُّبَّاء بَين يَدَيْهِ) قلت: هَذَا فِيهِ بعد عَظِيم لِأَن الْإِنَاء الَّذِي يَأْكُل مِنْهُ لَهُ حق شَائِع فِيمَا فِي هَذَا الْإِنَاء بِخِلَاف الْإِنَاء الآخر الَّذِي لَا يَأْكُل مِنْهُ.
39 - (بابُ: {الرُّطَبِ بِالْقِثَاءِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أكل الرطب بالقثاء، وَأَرَادَ بهالجمع بَينهمَا فِي حَالَة الْأكل، القثاء مَمْدُود وَفِي ضم الْقَاف وَكسرهَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب وَطَلْحَة بن مصرف، وقثائها بِضَم الْقَاف وَقَالَ أَبُو نصر: القثاء الْخِيَار وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: القثاء الشعرور عِنْد من جعله فعلا من قث، وَعند ابْن ولاد: هُوَ بِالْكَسْرِ وَالضَّم مَمْدُود، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: ذكر بعض الروَاة أَنه يُقَال للقثاء القشعر بلغَة أهل الجون من الْيمن، الْوَاحِدَة قشعرة، قَالَ: أَحْسبهُ الجون من مُرَاد.
5440 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ: حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ جَعْفَر بنِ أبِي طَالِبٍ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: رَأيْتُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالقِثَّاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأما على النُّسْخَة الَّتِي وَقع فِيهَا: بَاب القثاء بالرطب فوجهها أَن الْبَاء للمصاحبة وكل مِنْهُمَا مصاحب للْآخر أَو للملاصقة وَقد وَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ على وفْق لفظ الحَدِيث كَمَا وَقع فِي نسختنا هَذِه.
وَإِبْرَاهِيم بن سعد يروي عَن أَبِيه سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف من صغَار التَّابِعين، وَعبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب من صغَار الصَّحَابَة وَلدته أَسمَاء بنت عُمَيْس بِأَرْض الْحَبَشَة، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بِأَرْض الْحَبَشَة، وَقدم مَعَ أَبِيه الْمَدِينَة وَحفظ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَنهُ، وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ سنة ثَمَانِينَ وَهُوَ ابْن تسعين سنة، وَصلى عَلَيْهِ أبان بن عُثْمَان وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة وَكَانَ يُسمى: بَحر الْجُود، يُقَال: إِنَّه لم يكن فِي الْإِسْلَام أسخى مِنْهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى بن يحيى وَغَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن يَعْقُوب ابْن حميد.
قَوْله: (يَأْكُل الرطب بالقثاء) ، وَصفته مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر، وَفِيه وَرَأَيْت فِي يَمِين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قثاء وَفِي شِمَاله رطبا وَهُوَ يَأْكُل من ذَا مرّة وَمن ذَا مرّة، وَفِي إِسْنَاده أَصْرَم بن حَوْشَب وَهُوَ ضَعِيف جدا، وَلَا يلْزم من هَذَا الحَدِيث. لَو ثَبت أكله بِشمَالِهِ فَلَعَلَّهُ كَانَ يَأْخُذ بِيَدِهِ الْيُمْنَى من الشمَال رطبَة فيأكلها مَعَ القثاء الَّتِي فِي يَمِينه فَلَا مَانع من ذَلِك، وَالْحكمَة فِي جمعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا كَمَا ورد فِي بعض طرقه يطفىء حر هَذَا برد هَذَا وروى أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب أَخْلَاق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من رِوَايَة يحيى بن هَاشم عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل الْبِطِّيخ بالرطب والقثاء بالملح، وَيحيى بن هَاشم السمسار كذبه يحيى وَغَيره.
40 - ( {بابٌ} )
أَي: هَذَا بَاب كَذَا وَقع عِنْد جَمِيع الروَاة مُجَردا. وَكَانَت عَادَته أَن يذكر مثل هَذَا كالفصل لما قبله وَيكون الْمَذْكُور بعده مُلْحقًا بِهِ لمناسبة بَينهمَا وَلَا مُنَاسبَة أصلا بَين الحَدِيث الْمَذْكُور بعده وَبَين الحَدِيث قبله، وَلِهَذَا اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ للرطب والقثاء ذكر، وَلم يذكر لفظ: بَاب.
5441 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاس الجُرَيْرِيِّ عَنْ أبِي عُثْمَانَ. قَالَ: تَضَيَّفْتُ أبَا هُرَيْرَةَ سَبْعا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أثْلاثا يُصَلِّي هاذا ثُمَّ يُوقِظُ هاذا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَ أصْحَابِهِ تَمْرا فأصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ.
الظَّاهِر أَنه أَرَادَ أَن يضع تَرْجَمَة للتمر ثمَّ أهمله إِمَّا نِسْيَانا وَإِمَّا لم يُدْرِكهُ، وَيُمكن أَن يكون سقط من النَّاسِخ بعد الْعَمَل.
وعباس بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة، والحريري: بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف نِسْبَة إِلَى جرير بن عباد أخي الْحَارِث بن عبَادَة بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وَائِل، وَعباد بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة،(21/66)
وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ.
والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يَأْكُلُون، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد وَلم يذكر هُنَاكَ.
قَوْله: (تضيفت) ، إِلَى قَوْله: (وسمعته يَقُول) وَمر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (تضيفت) بضاد مُعْجمَة وَفَاء أَي: نزلت بِهِ ضيفا. قَوْله: (سبعا) ، أَي: سبع لَيَال، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي أسبوعا، وَفِيه تَأمل. قَوْله: (وَامْرَأَته) ، اسْمهَا بسرة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بنت غَزوَان الصحابية. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: بسرة بنت غَزوَان الَّتِي كَانَ أَبُو هُرَيْرَة أجيرها ثمَّ تزَوجهَا وَلم أر أحدا ذكرهَا. قَوْله: (يعتقبون) أَي: يتناوبون قيام اللَّيْل. قَوْله: (أَثلَاثًا) أَي: كل وَاحِد مِنْهُم يقوم بِثلث اللَّيْل وَمن كَانَ يفرغ من ثلثه يوقظ الآخر. قَوْله: (وسمعته يَقُول) ، الْقَائِل أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ، والمسموع أَبُو هُرَيْرَة قَوْله: (إِحْدَاهُنَّ حَشَفَة) هِيَ الْفَاسِد الْيَابِس من التَّمْر، وَقيل: الضَّعِيف الَّذِي لَا نوى لَهُ.
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أبِي عُثْمَانَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنهُ، قَسَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَنَا تَمْرا فأصابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ أرْبَعُ ثَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ، ثُمَّ رَأيْتُ الحَشَفَةَ هِيَ أشَدَّهُنَّ لِضِرْسِي.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْبَغْدَادِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا الخلقاني الْكُوفِي عَن عَاصِم الْأَحول عَن أبي عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (خمس) ، أَي: خمس تمرات. قَوْله: (أَربع تمرات وحشفة) ، عطف بَيَان وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هِيَ أَربع تمرات وحشفة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى أَربع تَمْرَة بِالْإِفْرَادِ، وَالْقِيَاس: تمرات، ثمَّ قَالَ: إِن كَانَت الرِّوَايَة بِرَفْع تَمْرَة فَمَعْنَاه كل وَاحِدَة من الْأَرْبَع تَمْرَة، وَأما بِالْجَرِّ فَهُوَ شَاذ على خلاف الْقيَاس نَحْو: ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعمِائَة. فَإِن قلت: فِي الرِّوَايَة الأولى سبع تمرات وَهنا خمس؟ قلت: قَالَ ابْن التِّين: إِمَّا أَن تكون إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وهما أَو يكون ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: الثَّانِي بعيد لِاتِّحَاد الْمخْرج ثمَّ قَالَ: وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَن لَا مُنَافَاة إِذْ التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يُنَافِي الزَّائِد، وَفِيه نظر، وإلاَّ لما كَانَ لذكره فَائِدَة وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْقِسْمَة أَولا اتّفقت خمْسا خمْسا ثمَّ فضلت فقسمت ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ. فَذكر أحد الراويين مبدأ الْأَمر وَالْآخر منتهاه انْتهى. قلت: دَعْوَى هَذَا الْقَائِل: إِن الْقِسْمَة وَقعت مرَّتَيْنِ مرّة خَمْسَة خَمْسَة وَمرَّة ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ يحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَهَذَا إِن صَحَّ يُقَوي كَلَام ابْن التِّين، أَو يكون ذَلِك مرَّتَيْنِ فَيكون قَوْله الثَّانِي بَعيدا وَبَعْدَمَا يكون يُقَال أَيْضا من هُوَ المُرَاد من أحد الراويين فَإِن كَانَ هُوَ أَبَا هُرَيْرَة فَهُوَ عين الْغَلَط على مَا لَا يخفى، وَإِن كَانَ أَبَا عُثْمَان الرَّاوِي عَنهُ أَو غَيره مِمَّن دونه فَهُوَ عين التَّعَدُّد، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن عَبَّاس الْجريرِي بِلَفْظ: أَصَابَهُم جوع فَأَعْطَاهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَمْرَة تَمْرَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: قسم سبع تمرات بَين سَبْعَة أَنا فيهم، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَأحمد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: أَصَابَهُم جوع وهم سَبْعَة فَأَعْطَانِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع تمرات لكل إِنْسَان تَمْرَة، وَهَذِه الرِّوَايَات متفقة فِي الْمَعْنى لِأَنَّهُ لم تكن الْقِسْمَة إلاَّ تَمْرَة تَمْرَة، وَهَذِه تخَالف رِوَايَة البُخَارِيّ ظَاهرا، وَلَكِن لَا تخالفها فِي الْحَقِيقَة لتَعَدد الْقِصَّة، وَلَا يُنكر هَذَا إِلَّا معاند، ورد هَذَا الْقَائِل: كَلَام الْكرْمَانِي أَيْضا سَاقِط لِأَن مَا قَالَه أصل عِنْد أهل الْأُصُول.
5441 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ عَبَّاس الجُرَيْرِيِّ عَنْ أبِي عُثْمَانَ. قَالَ: تَضَيَّفْتُ أبَا هُرَيْرَةَ سَبْعا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أثْلاثا يُصَلِّي هاذا ثُمَّ يُوقِظُ هاذا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَ أصْحَابِهِ تَمْرا فأصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ.
الظَّاهِر أَنه أَرَادَ أَن يضع تَرْجَمَة للتمر ثمَّ أهمله إِمَّا نِسْيَانا وَإِمَّا لم يُدْرِكهُ، وَيُمكن أَن يكون سقط من النَّاسِخ بعد الْعَمَل.
وعباس بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة، والحريري: بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف نِسْبَة إِلَى جرير بن عباد أخي الْحَارِث بن عبَادَة بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وَائِل، وَعباد بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ.
والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يَأْكُلُون، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد وَلم يذكر هُنَاكَ.
قَوْله: (تضيفت) ، إِلَى قَوْله: (وسمعته يَقُول) وَمر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (تضيفت) بضاد مُعْجمَة وَفَاء أَي: نزلت بِهِ ضيفا. قَوْله: (سبعا) ، أَي: سبع لَيَال، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي أسبوعا، وَفِيه تَأمل. قَوْله: (وَامْرَأَته) ، اسْمهَا بسرة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بنت غَزوَان الصحابية. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: بسرة بنت غَزوَان الَّتِي كَانَ أَبُو هُرَيْرَة أجيرها ثمَّ تزَوجهَا وَلم أر أحدا ذكرهَا. قَوْله: (يعتقبون) أَي: يتناوبون قيام اللَّيْل. قَوْله: (أَثلَاثًا) أَي: كل وَاحِد مِنْهُم يقوم بِثلث اللَّيْل وَمن كَانَ يفرغ من ثلثه يوقظ الآخر. قَوْله: (وسمعته يَقُول) ، الْقَائِل أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ، والمسموع أَبُو هُرَيْرَة قَوْله: (إِحْدَاهُنَّ حَشَفَة) هِيَ الْفَاسِد الْيَابِس من التَّمْر، وَقيل: الضَّعِيف الَّذِي لَا نوى لَهُ.
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أبِي عُثْمَانَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنهُ، قَسَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَنَا تَمْرا فأصابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ أرْبَعُ ثَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ، ثُمَّ رَأيْتُ الحَشَفَةَ هِيَ أشَدَّهُنَّ لِضِرْسِي.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْبَغْدَادِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا الخلقاني الْكُوفِي عَن عَاصِم الْأَحول عَن أبي عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (خمس) ، أَي: خمس تمرات. قَوْله: (أَربع تمرات وحشفة) ، عطف بَيَان وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هِيَ أَربع تمرات وحشفة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى أَربع تَمْرَة بِالْإِفْرَادِ، وَالْقِيَاس: تمرات، ثمَّ قَالَ: إِن كَانَت الرِّوَايَة بِرَفْع تَمْرَة فَمَعْنَاه كل وَاحِدَة من الْأَرْبَع تَمْرَة، وَأما بِالْجَرِّ فَهُوَ شَاذ على خلاف الْقيَاس نَحْو: ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعمِائَة. فَإِن قلت: فِي الرِّوَايَة الأولى سبع تمرات وَهنا خمس؟ قلت: قَالَ ابْن التِّين: إِمَّا أَن تكون إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وهما أَو يكون ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: الثَّانِي بعيد لِاتِّحَاد الْمخْرج ثمَّ قَالَ: وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَن لَا مُنَافَاة إِذْ التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يُنَافِي الزَّائِد، وَفِيه نظر، وإلاَّ لما كَانَ لذكره فَائِدَة وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْقِسْمَة أَولا اتّفقت خمْسا خمْسا ثمَّ فضلت فقسمت ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ. فَذكر أحد الراويين مبدأ الْأَمر وَالْآخر منتهاه انْتهى. قلت: دَعْوَى هَذَا الْقَائِل: إِن الْقِسْمَة وَقعت مرَّتَيْنِ مرّة خَمْسَة خَمْسَة وَمرَّة ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ يحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَهَذَا إِن صَحَّ يُقَوي كَلَام ابْن التِّين، أَو يكون ذَلِك مرَّتَيْنِ فَيكون قَوْله الثَّانِي بَعيدا وَبَعْدَمَا يكون يُقَال أَيْضا من هُوَ المُرَاد من أحد الراويين فَإِن كَانَ هُوَ أَبَا هُرَيْرَة فَهُوَ عين الْغَلَط على مَا لَا يخفى، وَإِن كَانَ أَبَا عُثْمَان الرَّاوِي عَنهُ أَو غَيره مِمَّن دونه فَهُوَ عين التَّعَدُّد، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن عَبَّاس الْجريرِي بِلَفْظ: أَصَابَهُم جوع فَأَعْطَاهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَمْرَة تَمْرَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: قسم سبع تمرات بَين سَبْعَة أَنا فيهم، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَأحمد من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: أَصَابَهُم جوع وهم سَبْعَة فَأَعْطَانِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع تمرات لكل إِنْسَان تَمْرَة، وَهَذِه الرِّوَايَات متفقة فِي الْمَعْنى لِأَنَّهُ لم تكن الْقِسْمَة إلاَّ تَمْرَة تَمْرَة، وَهَذِه تخَالف رِوَايَة البُخَارِيّ ظَاهرا، وَلَكِن لَا تخالفها فِي الْحَقِيقَة لتَعَدد الْقِصَّة، وَلَا يُنكر هَذَا إِلَّا معاند، ورد هَذَا الْقَائِل: كَلَام الْكرْمَانِي أَيْضا سَاقِط لِأَن مَا قَالَه أصل عِنْد أهل الْأُصُول.
41 - (بَابُ: {الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي الرطب وَالتَّمْر، وَرُبمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن التَّمْر لَهُ فضل على غَيره من الأقوات فَلذَلِك ذكر. قَوْله: {وهزي إِلَيْك} (مَرْيَم: 25) الْآيَة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: بَيت لَا تمر فِيهِ جِيَاع أَهله، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَالرّطب وَالتَّمْر من طيب مَا خلق الله عز وَجل وأباحه للعباد، وَهُوَ طَعَام أهل الْحجاز وعمدة أقواتهم، وَقد دَعَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، لتمر مَكَّة بِالْبركَةِ ودعا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتمر الْمَدِينَة بِمثل مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا تزَال الْبركَة فِي تمرهم وثمارهم إِلَى السَّاعَة. وَقد وَقع فِي كتاب ابْن بطال: بَاب الرطب بِالتَّمْرِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب مثل لذَلِك.(21/67)
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَهُزِّي إلَيْكَ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكَ رُطبا جَنِيا (مَرْيَم: 25) [/ ح.
قَوْله: {هزي} خطاب لِمَرْيَم أم عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام أَي: حركي جذع النَّخْلَة، وَكَانَت لَيْسَ لَهَا سعف وَلَا كرانيف وَلَا عذوق وَكَانَت فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: بَيت لحم. وَهِي قَرْيَة قريبَة من بَيت الْمُقَدّس على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَكَانَت لما حملت بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، خَافت على نَفسهَا من قَومهَا فَخرجت مَعَ ابْن عَمها يُوسُف طالبة أَرض مصر، فَلَمَّا وصلت إِلَى النَّخْلَة وأدركها النّفاس احتضنتها النَّخْلَة وَأَحْدَقَتْ بهَا الْمَلَائِكَة فنوديت {أَن لَا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا} أَي: نَهرا وَلم يكن هُنَاكَ نهر وَلَا عين، وَقيل: المُرَاد بالسري عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وعَلى الأول الْجُمْهُور، وَقَالَ مقَاتل: لما سقط عِيسَى على الأَرْض ضرب بِرجلِهِ فنبع المَاء واطلعت النَّخْلَة وأورقت وأثمرت، وَقيل لَهَا: (وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة) أَي: حركيه {تساقط عَلَيْك رطبا جنيا} أَي: غضا طريا، وَقَالَ الرّبيع بن خَيْثَم: مَا للنفساء عِنْدِي خير من الرطب، وَلَا للْمَرِيض من الْعَسَل، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة رَوَاهُ عبد بن حميد وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو يعلى الْموصِلِي من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَفعه قَالَ: أطعموا نفساءكم الْوَلَد الرطب، فَإِن لم يكن رطب فتمر وَلَيْسَ من الشّجر شَجَرَة أكْرم على الله تَعَالَى من شَجَرَة نزلت تحتهَا مَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام، وَقِرَاءَة الْجُمْهُور: تساقط، بتَشْديد السِّين وَأَصله: تتساقط، فأبدلت من إِحْدَى التَّاءَيْنِ سين وأدغمت السِّين فِي السِّين، وَقِرَاءَة حَمْزَة بِالتَّخْفِيفِ، وَهِي رِوَايَة عَن أبي عمر، وعَلى حذف إِحْدَى التَّاءَيْنِ وفيهَا قراآت شَاذَّة.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بنِ صَفِيَّةَ: حَدَّثَتْنِي أُُمِّي عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْها. قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَدْ شَبِعْنا مِنَ الأسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ وَالمَاءِ.
مطابقته هَذَا التَّعْلِيق عَن مُحَمَّد بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. .
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور بن صَفِيَّة، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: بنت شيبَة بن عُثْمَان من بني عبد الداربن قصي، ذكرت فِي الصحابيات، روى عَنْهَا ابْنهَا مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن بن طَلْحَة بن الْحَارِث بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة الحَجبي.
والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب من أكل حَتَّى شبع، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَإِطْلَاق الْأسود على المَاء من بَاب التغليب، وَكَذَلِكَ الشِّبَع مَكَان الرّيّ.
41 - (بَابُ: {الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي الرطب وَالتَّمْر، وَرُبمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن التَّمْر لَهُ فضل على غَيره من الأقوات فَلذَلِك ذكر. قَوْله: {وهزي إِلَيْك} (مَرْيَم: 25) الْآيَة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: بَيت لَا تمر فِيهِ جِيَاع أَهله، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَالرّطب وَالتَّمْر من طيب مَا خلق الله عز وَجل وأباحه للعباد، وَهُوَ طَعَام أهل الْحجاز وعمدة أقواتهم، وَقد دَعَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، لتمر مَكَّة بِالْبركَةِ ودعا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتمر الْمَدِينَة بِمثل مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا تزَال الْبركَة فِي تمرهم وثمارهم إِلَى السَّاعَة. وَقد وَقع فِي كتاب ابْن بطال: بَاب الرطب بِالتَّمْرِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب مثل لذَلِك.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَهُزِّي إلَيْكَ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكَ رُطبا جَنِيا (مَرْيَم: 25) [/ ح.
قَوْله: {هزي} خطاب لِمَرْيَم أم عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام أَي: حركي جذع النَّخْلَة، وَكَانَت لَيْسَ لَهَا سعف وَلَا كرانيف وَلَا عذوق وَكَانَت فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: بَيت لحم. وَهِي قَرْيَة قريبَة من بَيت الْمُقَدّس على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَكَانَت لما حملت بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، خَافت على نَفسهَا من قَومهَا فَخرجت مَعَ ابْن عَمها يُوسُف طالبة أَرض مصر، فَلَمَّا وصلت إِلَى النَّخْلَة وأدركها النّفاس احتضنتها النَّخْلَة وَأَحْدَقَتْ بهَا الْمَلَائِكَة فنوديت {أَن لَا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا} أَي: نَهرا وَلم يكن هُنَاكَ نهر وَلَا عين، وَقيل: المُرَاد بالسري عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وعَلى الأول الْجُمْهُور، وَقَالَ مقَاتل: لما سقط عِيسَى على الأَرْض ضرب بِرجلِهِ فنبع المَاء واطلعت النَّخْلَة وأورقت وأثمرت، وَقيل لَهَا: (وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة) أَي: حركيه {تساقط عَلَيْك رطبا جنيا} أَي: غضا طريا، وَقَالَ الرّبيع بن خَيْثَم: مَا للنفساء عِنْدِي خير من الرطب، وَلَا للْمَرِيض من الْعَسَل، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة رَوَاهُ عبد بن حميد وَأخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو يعلى الْموصِلِي من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَفعه قَالَ: أطعموا نفساءكم الْوَلَد الرطب، فَإِن لم يكن رطب فتمر وَلَيْسَ من الشّجر شَجَرَة أكْرم على الله تَعَالَى من شَجَرَة نزلت تحتهَا مَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام، وَقِرَاءَة الْجُمْهُور: تساقط، بتَشْديد السِّين وَأَصله: تتساقط، فأبدلت من إِحْدَى التَّاءَيْنِ سين وأدغمت السِّين فِي السِّين، وَقِرَاءَة حَمْزَة بِالتَّخْفِيفِ، وَهِي رِوَايَة عَن أبي عمر، وعَلى حذف إِحْدَى التَّاءَيْنِ وفيهَا قراآت شَاذَّة.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بنِ صَفِيَّةَ: حَدَّثَتْنِي أُُمِّي عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْها. قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَدْ شَبِعْنا مِنَ الأسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ وَالمَاءِ.
مطابقته هَذَا التَّعْلِيق عَن مُحَمَّد بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. .
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور بن صَفِيَّة، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: بنت شيبَة بن عُثْمَان من بني عبد الداربن قصي، ذكرت فِي الصحابيات، روى عَنْهَا ابْنهَا مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن بن طَلْحَة بن الْحَارِث بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة الحَجبي.
والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب من أكل حَتَّى شبع، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَإِطْلَاق الْأسود على المَاء من بَاب التغليب، وَكَذَلِكَ الشِّبَع مَكَان الرّيّ.
5443 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ. قَالَ: حدَّثني أبُو حَازِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي رَبِيعَةَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ بِالمَدِينَةِ يَهُودِي وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إلَى الجِذَاذِ، وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ، فَجَلَسَتْ نَخْلاً عَاما فَجَاءَنِي اليَهُودِيُّ عِنْدَ الجِذَاذِ وَلَمْ أجُذَّ مِنْهَا شَيْئا، فَجَعَلْتُ أسْتَنْظِرُهُ إلَى قَابِلٍ فَيَأْتِي، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لأصْحَابِهِ: امْشوا نَسْتَنْظِر لِجابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ فَجَاؤُنِي فِي نَخْلِي، فَجَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يِكَلِّمُ اليَهُودِيَّ فَيَقُولُ: أبَا القَاسِمِ لَا أُنْظِرُهُ! فَلَمَّا رَآهُ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأبَى. فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلٍ رُطِبٍ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَي النبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأكَلَ ثُمَّ قَالَ: أيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟ فَأخْبَرْتُهُ فَقَالَ: افْرُشْ لِي فِيهِ فَفَرَشْتُهُ فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأكَلَ مِنْها ثُمَّ قَامَ فَكَلَمَ اليَهُودِيُّ فَأبَى عَلَيْهِ فَقَامَ فِي الرِّطابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ خُذُّ وَاقْضِ فَوَقَفَ فِي الجَذَاذِ(21/68)
فَجَذَذْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ مِثْلُهُ فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَشَّرْتُهُ. فَقَالَ: أشْهَدُ أنِّي رَسُولُ الله.
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة فِي ذكر الرطب فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَأَبُو غَسَّان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون اسْمه مُحَمَّد بن مطرف، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار، وَإِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي، وَاسم أبي ربيعَة عَمْرو، وَيُقَال: حُذَيْفَة، وَكَانَ يلقب ذَا الرمحين، وَهُوَ من مسلمة الْفَتْح وَولى الْجند من بِلَاد الْيمن لعمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَلم يزل بهَا حَتَّى جَاءَ لسنة حصر عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِيَنْصُرهُ فَسقط عَن رَاحِلَته فَمَاتَ ولإبراهيم عَنهُ رِوَايَة فِي النَّسَائِيّ قَالَ أَبُو حَاتِم: إِنَّهَا مُرْسلَة وَلَيْسَ لإِبْرَاهِيم فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَأمه أم كُلْثُوم بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَله رِوَايَة عَن أمه وخالته عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهَذَا من أَفْرَاده، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْقَاسِم: حَدثنَا يحيى بن صاعد حَدثنَا أَحْمد بن مَنْصُور وَسَعِيد بن أبي مَرْيَم بِهِ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: هَذِه الْقِصَّة رَوَاهَا المعروفون فِيمَا كَانَ على أبي جَابر، وَالسَّلَف إِلَى الْجذاذ مِمَّا لَا يُجِيزهُ البُخَارِيّ وَغَيره فَفِي هَذَا الْإِسْنَاد نظر، وَكَذَا قَالَ ابْن التِّين: الَّذِي فِي أَكثر الْأَحَادِيث أَن الدّين كَانَ على وَالِد جَابر، وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِسْنَاد من ينظر فِي حَاله سوى إِبْرَاهِيم، وَقد ذكره ابْن حبَان فِي (ثِقَات التَّابِعين) وروى عَنهُ أَيْضا وَلَده إِسْمَاعِيل وَالزهْرِيّ. قلت: قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله وَأجِيب: عَن قَوْله: وَالسَّلَف إِلَى الْجذاذ مِمَّا لَا يُجِيزهُ البُخَارِيّ بِأَنَّهُ يُعَارضهُ الْأَمر بالسلم إِلَى أجل مَعْلُوم فَيحمل على أَنه وَقع فِي الِاقْتِصَار على الْجذاذ اختصارا وَأَن الْوَقْت كَانَ فِي الأَصْل معينا. وَمن قَوْله: هَذِه الْقِصَّة رَوَاهَا المعروفون فِيهَا كَانَ على أبي جَابر، بِأَن الْقِصَّة مُتعَدِّدَة فَفعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّخل الْمُخْتَص بجابر فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ من الدّين كَمَا فعل فِيمَا كَانَ على وَالِده من الدّين، وَالله أعلم.
قَوْله: (يسلفني) ، بِضَم الْيَاء، من الإسلاف. قَوْله: (إِلَى الْجذاذ) ، بِكَسْر الْجِيم وَيجوز فتحهَا وبالذال الْمُعْجَمَة وَيجوز أهمالها أَي: زمن قطع ثَمَر النّخل وَهُوَ الصرام. قَوْله: (وَكَانَت لجَابِر الأَرْض الَّتِي بطرِيق رومة) ، فِيهِ الْتِفَات من الحضرة إِلَى الْغَيْبَة، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: وَكَانَت لي الأَرْض الَّتِي بطرِيق رومة. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يكون مدرجا من كَلَام الرَّاوِي؟ قلت: يمنعهُ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق الرَّمَادِي عَن سعيد بن أبي مَرْيَم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: وَكَانَت الأَرْض لي بطرِيق رومة، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو، وَهِي الْبِئْر الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وسبلها، وَهِي فِي نفس الْمَدِينَة. وَقيل: إِن رومة رجل من بني غفار كَانَت لَهُ الْبِئْر قبل أَن يَشْتَرِيهَا عُثْمَان فنسبت إِلَيْهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: رومة بِضَم الرَّاء مَوضِع، وَفِي بَعْضهَا بِضَم الدَّال الْمُهْملَة بدل الرَّاء ولعلها دومة الجندل، وَقَالَ بَعضهم وَنقل الْكرْمَانِي: أَن فِي بعض الرِّوَايَات دومة بدال بدل الرَّاء ولعلها دومة الجندل قَالَ: وَهَذَا بَاطِل، لِأَن دومة الجندل إِذْ ذَاك لم تكن فتحت حَتَّى يُمكن أَن يكون لجَابِر فِيهَا أَرض انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه بَاطِل لِأَن الَّذِي فِي الحَدِيث بطرِيق رومة، وَهَذَا ظَاهر، وَأما رِوَايَة الدَّال فمعناها: كَانَت لجَابِر أَرض كائنة بِالطَّرِيقِ الَّتِي يُسَافر مِنْهَا إِلَى دومة: الجندل، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا الَّتِي بدومة الجندل حَتَّى يُقَال: لِأَن دومة الجندل إِذْ ذَاك لم تكن فتحت، ودومة الجندل على عشر مراحل من الْمَدِينَة. قَوْله: (فَجَلَست) ، كَذَا هُوَ بِالْجِيم وَاللَّام فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ وَأبي ذَر، وَعَلِيهِ أَكثر الروَاة، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الأَرْض أَي: فَجَلَست الأَرْض من الأثمار نخلا بالنُّون وَالْخَاء الْمُعْجَمَة أَي: من جِهَة النّخل قَالَ عِيَاض: وَكَانَ أَبُو مَرْوَان من سراج يصوب هَذِه الرِّوَايَة إلاَّ أَنه يضبطها على صِيغَة الْمُتَكَلّم بِضَم التَّاء ويفسره أَي: تَأَخَّرت عَن الْقَضَاء، وَيَقُول: فَخَلا، بِالْفَاءِ وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام الْمُشَدّدَة من التَّخْلِيَة. أَي: تَأَخّر السّلف عَاما. وَقَالَ: وَوَقع للأصيلي: فحبست، بحاء مُهْملَة ثمَّ بَاء مُوَحدَة على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة أبي الْهَيْثَم فخاست، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف سين مُهْملَة يَعْنِي: خَالَفت(21/69)
معهودها وَحملهَا يُقَال: خاس فلَان عَهده إِذا خانه أَو تغير عَن عَادَته وخاس الشَّيْء إِذا تغير، وروى خنست، بخاء مُعْجمَة ثمَّ نون أَي: تَأَخَّرت. قَوْله: (وَلم أجد) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْجِيم وَتَشْديد الدَّال وَيجوز فِي مثل هَذِه الْمَادَّة ثَلَاثَة أوجه: الْفَتْح فِي آخِره وَالْكَسْر وَفك الْإِدْغَام. قَوْله: (استنظره) ، أَي: اطلب مِنْهُ أَن ينظرني إِلَى قَابل أَي: عَام آتٍ. قَوْله: (فيأبى) ، أَي: فَيمْتَنع الْيَهُودِيّ عَن النظرة. قَوْله: (فَأخْبر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، قيل: يحْتَمل أَن يكون بِضَم الرَّاء على صِيغَة نفس الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع وَالضَّمِير فِيهِ لجَابِر، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي نعيم (الْمُسْتَخْرج) فَأخْبرت. قَوْله: (أَبَا الْقَاسِم) ، أَي: يَا أَبَا الْقَاسِم فَحذف مِنْهُ حرف النداء. قَوْله: (عريشك) ، الْعَريش مَا يستظل بِهِ عِنْد الْجُلُوس تَحْتَهُ، وَقيل: الْبناء، على مَا يَجِيء الْآن أَرَادَ أَيْن الْمَكَان الَّذِي اتخذته فِي بستانك لتستظل بِهِ وَتقبل فِيهِ؟ قَوْله: (فَجِئْته) ، أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَبْضَة أُخْرَى) ، أَي: من الرطب. قَوْله: (فَقَامَ فِي الرطاب فِي النّخل الثَّانِيَة) ، بِالنّصب أَي: الْمرة الثَّانِيَة، وَلَا يظنّ أَنه صفة النّخل لِأَنَّهُ مَا ثمَّ إلاَّ نحل وَاحِد. قَوْله: (جد) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الدَّال الْمَفْتُوحَة. وَهُوَ أَمر من جد يجد، وَيجوز فِيهِ أَيْضا الْأَوْجه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، وَلَا يدْرك طعم هَذَا إلاَّ من لَهُ يَد فِي علم الصّرْف. قَوْله: (وأقض) ، أَمر من الْقَضَاء. أَي: افض الدّين الَّذِي عَلَيْك، يَعْنِي: أوفه لِلْيَهُودِيِّ. قَوْله: (وَفضل مثله) ، أَي: مثل الدّين، ويروى: وَفضل مِنْهُ. قَوْله: (أشهد أَنِّي رَسُول الله) ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن فِيهِ خرق الْعَادة الظَّاهِرَة، وَهُوَ دَلِيل من أَدِلَّة النُّبُوَّة وَعلم من أعلامها حَيْثُ قضى بِالْقَلِيلِ الَّذِي لم يكن يَفِي بِدِينِهِ تَمام الدّين وَفضل مِنْهُ مثله.
(عَرْشٌ وَعَرِيشٌ بِناءٌ. وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَعْرُوشاتٍ مَا يُعَرِشُ مِنَ الكُرُومِ وَغَيْرِ ذالِكَ، يُقالُ: عُرُوشُها أبْنِيَتُها قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ: قَالَ أبُو جَعْفَرِ: قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إسْمَاعِيلَ فَخَلَّى لَيْسَ عِنْدِي مُقيَّدا ثُمَّ قَالَ: نَخْلاً لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ) .
هَذَا كُله لم يثبت إلاَّ للمستملي. قَوْله: (عرش وعريش بِنَاء) يَعْنِي: أَن الْعَرْش بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء، وعريش بِكَسْر الرَّاء بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة مَعْنَاهُمَا بِنَاء هَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (وَقَالَ ابْن عَبَّاس: معروشات) قد مر هَذَا فِي آخر تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام. قَوْله: (يُقَال: عروشها أبنيتها) أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {خاوية على عرشها} (الْبَقَرَة: 259) أَي: على أبنيتها، وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة أَيْضا. وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفربرِي، وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أبي حَاتِم، وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل هُوَ البُخَارِيّ قَوْله: (فَخَلا لَيْسَ عِنْدِي مُقَيّدا) أَي: مضبوطا، ثمَّ قَالَ: (نخلا) يَعْنِي: بالنُّون وَالْخَاء الْمُعْجَمَة (لَيْسَ فِيهِ شكّ) هَذَا هُوَ الَّذِي يظْهر، وَالله أعلم.
42 - (بَابُ: {أكْلِ الجُمَّارِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أكل الْجمار، وَهُوَ بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم جمع جمارة، وَهِي قلب النَّخْلَة وشحمتها.
5444 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ بنِ غَيَّاثٍ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ: حدَّثني مُجاهِدٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُما. قَالَ: بَيْنا نَحْنُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جُلُوسٌ إذْ أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنّ مِنَ الشَّجَرِ لما بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ فَظَنَنْتُ أنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةِ، فَأرَدْتُ أنْ أقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ الله؟ ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإذا أنَا عَاشِرُ عَشْرَةٍ أنَا أحْدَثُّهُمْ فَسَكَتُّ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هِيَ النَّخْلَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. من حَدِيث ذكر الْجمار، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر أكلهَا، وَلَكِن من الْمَعْلُوم أَنه إِنَّمَا أَتَى بهَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل أكلهَا.
وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْعلم فَإِنَّهُ أخرجه فِيهِ فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع: الأول: فِي: بَاب قَول الْمُحدث حَدثنَا قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر. وَالثَّانِي: فِي: بَاب طرح الإِمَام الْمَسْأَلَة عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان عَن عبد الله بن دِينَار. الثَّالِث: بَاب الْفَهم فِي الْعلم، عَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. الرَّابِع: فِي: بَاب الْحيَاء فِي الْعلم، عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن عبد الله بن دِينَار، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (لما بركته) كلمة مَا زَائِدَة وَاللَّام للتَّأْكِيد ويروى: لَهَا بركَة أَي: للشجر فأنث بِاعْتِبَار النَّخْلَة أَو نظرا إِلَى اعْتِبَار الْجِنْس. قَوْله: (فَظَنَنْت أَنه) أَي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي أَي: يقْصد النَّخْلَة. قَوْله: (أحدثهم) أَي: أَصْغَرهم سنا، فَسكت رِعَايَة لحق الأكابر.(21/70)
43 - (بَابُ: {العَجْوَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فضل الْعَجْوَة على غَيرهَا من التَّمْر وَفِي (التَّرْغِيب) على أكلهَا وَهِي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وَهِي أَجود تمر الْمَدِينَة ويسمونه: لينَة، وَقيل: هِيَ أكبر من الصيحاني يضْرب إِلَى السوَاد، وَذكر ابْن التِّين أَن الْعَجْوَة غرس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
5445 - حدَّثنا جُمْعَةُ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مَرْوَانُ أخبرنَا هَاشِمُ بنُ هَاشِمٍ أخْبَرنا عَامِرُ بنُ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ تَصَبَّحَ كلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذالِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وجمعة، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: ابْن عبد الله بن زِيَاد بن شَدَّاد السّلمِيّ أَبُو بكر الْبَلْخِي، وَيُقَال: اسْمه يحيى وجمعة لقب، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: أَبُو خاقَان وَكَانَ من أَئِمَّة الرَّأْي أَولا ثمَّ صَار من أَئِمَّة الحَدِيث. قَالَ ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) : مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ بل وَلَا فِي الْكتب السِّتَّة سوى هَذَا الحَدِيث، ومروان هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء، وهَاشِم بن هَاشم بن عتبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن أبي وَقاص الزُّهْرِيّ، وعامر بن سعد يروي عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص، وَأَبُو وَقاص اسْمه مَالك بن أهيب الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن عَليّ بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطِّبّ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره.
قَوْله: (من تصبح) ، أَي: أكل صباحا قبل أَن يَأْكُل شَيْئا. قَوْله: (عَجْوَة) ، مجرور بِالْإِضَافَة من إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص، ويروى: عَجْوَة بِالنّصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (لم يضرّهُ) ، بِضَم الضَّاد وَتَشْديد الرَّاء من الضَّرَر، ويروى: لم يضرّهُ، بِكَسْر الضَّاد وَسُكُون الرَّاء من ضاره يضيره ضيرا إِذا أضره. قَوْله: (سم) ، يجوز الحركات الثَّلَاث فِي السِّين، وَقَالَ الْخطابِيّ: كَونهَا عوذة من السحر والسم إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق التَّبَرُّك لدَعْوَة سلفت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا، لَا لِأَن من طبع التَّمْر ذَلِك.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: تَخْصِيص من عَجْوَة الْمَدِينَة وَعدد السَّبع من الْأُمُور الَّتِي علمهَا الشَّارِع وَلَا نعلم نَحن حكمتها فَيجب الْإِيمَان بهَا وَهُوَ كأعداد الصَّلَوَات وَنصب الزَّكَاة، وَقَالَ الْمظهر: يجوز أَن يكون فِي ذَلِك النَّوْع مِنْهُ هَذِه الخاصية، وَفِي (الْعِلَل الْكَبِير: الدَّارَقُطْنِيّ: من أكل مِمَّا بَين لابثي الْمَدِينَة سبع تمرات على الرِّيق، وَفِي لفظ: من عَجْوَة الْعَالِيَة الحَدِيث، وروى الدَّارمِيّ بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فِي عَجْوَة الْعَالِيَة شِفَاء أَو ترياق أول البكرة على الرِّيق، وَعَن شهر بن حَوْشَب عَن أبي سعيد وَأبي هررة رَفَعَاهُ الْعَجْوَة من الْجنَّة وفيهَا شِفَاء من السم، وَعَن مشمعل بن إِيَاس: حَدثنِي عَمْرو بن سليم حَدثنِي، رَافع بن عَمْرو الْمُزنِيّ مَرْفُوعا: الْعَجْوَة والصخرة من الْجنَّة، روى ابْن عدي من حَدِيث الطفَاوِي عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مَرْفُوعا، يمْنَع من الجذام أَن يَأْخُذ سبع تمرات من عَجْوَة الْمَدِينَة كل يَوْم يفعل ذَلِك سَبْعَة أَيَّام ثمَّ قَالَ: لَا أعلم رَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد غير الطفَاوِي، وَله غرائب وإفرادات وَكلهَا يحْتَمل وَلم أر للْمُتَقَدِّمين فِيهِ كلَاما. قلت: قَالَ ابْن معِين: فِيهِ صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق، والطفاوي بِضَم الطَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء نِسْبَة إِلَى بني طفاوة وَقيل: الطفاوة منزل بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من عَجْوَة الْمَدِينَة تَخْصِيص الْمَدِينَة، أما لما فِيهَا من الْبركَة الَّتِي حصلت فِيهَا بدعائه أَو لِأَن تمرها أوفق لمزاجه من أجل قعوده بهَا.
44 - (بَابُ: {القِرَانِ فِي التَّمْرِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْقرَان فِي التَّمْر وَلم يذكر حكمه اكْتِفَاء بِالَّذِي ذكره فِي حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ وَالْقرَان: بِكَسْر الْقَاف من قرن بَين الشَّيْئَيْنِ يقرن ويقرن بِضَم الرَّاء وَكسرهَا قرانا وَالْمرَاد ضم تَمْرَة إِلَى تَمْرَة لمن أكل مَعَ جمَاعَة، وَقد ورد فِي لفظ الحَدِيث الْقرَان والإقران من أقرن، وَالْمَشْهُور اسْتِعْمَاله ثلاثيا وَعَلِيهِ اقْتصر الْجَوْهَرِي. وَحكى ابْن الْأَثِير: الإقران.(21/71)
5446 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا جَبَلَةُ بنُ سُحَيْمٍ قَالَ: أصابَنا عَامُ سَنةٍ مَعَ ابنِ الزُّبَيْرِ رُزِقَنا تَمْرا فَكَانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنا وَنَحْنُ نَأْكُلُ وَيَقُولُ: لَا تُقارِنُوا فَإنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عَنِ القِرَانِ، ثُمَّ يَقُولُ: إلاَّ أنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أخاهُ.
قَالَ شُعْبَةُ: الإذْنُ مِنْ قَوْلِ ابنِ عُمَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وجبلة بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْخَفِيفَة، من سحيم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف التَّابِعِيّ الْكُوفِي الثِّقَة مَاله فِي البُخَارِيّ عَن غير ابْن عمر شَيْء.
والْحَدِيث قد مضى فِي الْمَظَالِم عَن حَفْص ابْن عمر، وَفِي الشّركَة عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (عَام سنة) بِالْإِضَافَة أَي: عَام قحط وَغَلَاء. قَوْله: (مَعَ ابْن الزبير) ، وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن الْعَوام أَرَادَ أَيَّامه فِي الْحجاز. قَوْله: (رزقنا) ، ويروى: فرزقنا بِالْفَاءِ أَي أَعْطَانَا فِي أرزاقنا. وَهُوَ الْقدر الَّذِي كَانَ يصرف لَهُم فِي كل سنة من الْخراج وَغَيره بدل النَّقْد تَمرا لقلَّة النَّقْد إِذْ ذَاك بِسَبَب المجاعة الَّتِي حصلت. قَوْله: (وَنحن نَأْكُل) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (لَا تقارنوا) وَفِي رِوَايَة أبي الْوَلِيد فِي الشّركَة. فَيَقُول: لَا تقرنوا، وَكَذَا لأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) قَوْله: (نهى عَن الْقرَان) وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: عَن الإقران من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ قَوْله: (أَخَاهُ) أَي: صَاحبه الَّذِي اشْترك مَعَه فِي أكل التَّمْر، فَإِذا أذن لَهُ فِي ذَلِك جَازَ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا فِي هَذَا النَّهْي: هَل هُوَ على التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة؟ الصَّوَاب: التَّفْصِيل فَإِن كَانَ الطَّعَام مُشْتَركا بَينهم فالقران حرَام إلاَّ برضاهم، وَيحصل بتصريحهم أَو بِمَا يقوم مقَامه من قرينَة حَال بِحَيْثُ يغلب على الظَّن ذَلِك، وَإِن كَانَ الطَّعَام لغَيرهم حرم، وَإِن كَانَ لأَحَدهم وَأذن لَهُم فِي الْأكل اشْترط وَيحرم بِغَيْرِهِ، وَذكر الْخطابِيّ: أَن شَرط هَذَا الاسْتِئْذَان إِنَّمَا كَانَ فِي زمنهم حَيْثُ كَانُوا فِي قلَّة من الشَّيْء فأمَّا الْيَوْم مَعَ اتساع الْحَال لَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان، وَاعْترض عَلَيْهِ النَّوَوِيّ بِأَن الصَّوَاب التَّفْصِيل لِأَن الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب لَو ثَبت السَّبَب كَيفَ وَهُوَ غير ثَابت؟ وَيُقَوِّي هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الْبَزَّار من طَرِيق الشّعبِيّ عَنهُ قَالَ: قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَمرا بَين أَصْحَابه فَكَانَ بَعضهم يقرن فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقرن إلاّ بِإِذن أَصْحَابه، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) بِلَفْظ: كنت فِي الصّفة فَبعث إِلَيْنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَمْر عَجْوَة. فَسَكَبت بَيْننَا وَكُنَّا نقرن الثِّنْتَيْنِ من الْجُوع، فَكُنَّا إِذا قرن أَحَدنَا قَالَ لأَصْحَابه: أَنِّي قد قرنت فأقرنوا، قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَقَالَ الْبَزَّار: لم يروه عَن عَطاء بن السَّائِب عَن الشّعبِيّ إلاَّ جرير بن عبد الحميد، وَرَوَاهُ عمرَان بن عُيَيْنَة عَن عَطاء عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن أبي هُرَيْرَة انْتهى. قَالَ: شَيخنَا وَعَطَاء بن السَّائِب تغير حفظه بِآخِرهِ، وَجَرِير مِمَّن روى عَنهُ بعد اخْتِلَاطه، قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل: فَلَا يَصح الحَدِيث إِذا وَالله أعلم. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة يزِيد بن يزِيغ عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الإقران فِي التَّمْر، فَإِن الله قد وسع عَلَيْكُم فأقرنوا. قلت: يزِيد بن يزِيغ ضعفه يحيى بن معِين وَالدَّارَقُطْنِيّ.
قَوْله: (قَالَ شُعْبَة: الْإِذْن من قَول ابْن عمر) ، هُوَ مَوْصُول بالسند الَّذِي قبله، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه مدرج، وَالْحَاصِل أَن أَصْحَاب شُعْبَة اخْتلفُوا فأكثرهم رَوَاهُ عَنهُ. مدرجا وَطَائِفَة مِنْهُم رووا عَنهُ التَّرَدُّد فِي كَون هَذِه الزِّيَادَة مَرْفُوعَة أَو مَوْقُوفَة. وآدَم فِي رِوَايَة البُخَارِيّ جزم عَن شُعْبَة بِأَن هَذِه الزِّيَادَة من قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
45 - (بَابُ: {القثَّاء 27} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر القثاء، وَهَذِه التَّرْجَمَة زَائِدَة لَا فَائِدَة تحتهَا لِأَنَّهُ ذكر عَن قريب: بَاب الرطب بالقثاء، وَذكر الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي هَذَا الْبَاب وَالِاخْتِلَاف بَينهمَا فِي شَيْخه فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَهنا عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله، وَكِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن سعد.
5447 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ: حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ. قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ.(21/72)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: بالقثاء وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أويس، وَهنا صرح سعد وَالِد إِبْرَاهِيم بِالسَّمَاعِ عَن عبد الله بن جَعْفَر وَهُنَاكَ روى بالعنعنة. فَافْهَم.
46 - (بَابُ: {بَرَكَةِ النَّخْلِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان بركَة النّخل.
5448 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ مجاهِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مِنَ الشَّجَرِ تَكُونُ مِثْلَ المُسْلِمِ وَهِيَ النَّخْلَةُ.
هَذَا الحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب أكل الْجمار، وَقد أنهينا الْكَلَام هُنَاكَ. وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وزبيد بِضَم الزَّاي وَفتح الْيَاء الْمُوَحدَة وَالْبَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وبالدال الْمُهْملَة مصغر الزّبد.
47 - (بَابُ: {جَمْعِ اللَّوْنَيْنِ أوْ الطَّعامَيْنِ بِمَرَّةٍ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم جمع اللونين أَو الطعامين بِمرَّة. أَي: فِي حَالَة وَاحِدَة. وَهَذِه التَّرْجَمَة سَقَطت. وحديثها من رِوَايَة النَّسَفِيّ وَلم يذكرهما الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا. قَالَ الْمُهلب: لَا أعلم من نهى عَن خلط الْأدم إلاَّ شَيْئا يرْوى عَن عمر وَيُمكن أَن يكون ذَلِك من السَّرف، وَالله أعلم، لِأَنَّهُ كَانَ يُمكن أَن يأتدم بِأَحَدِهِمَا وَيرْفَع لآخر إِلَى مرّة أُخْرَى، وَلم يحرم ذَلِك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأجل الِاتِّبَاع فِي أكل الرطب بالقثاء والقديد مَعَ الدُّبَّاء، وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يبين هَذَا روى عبد الله بن عمر القواريري: حَدثنَا حَمْزَة بن نجيح الرقاشِي حَدثنَا سَلمَة بن حبيب عَن أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نزل بقباء ذَات يَوْم وَهُوَ صَائِم فانتظره رجل يُقَال لَهُ: أَوْس بن خولي، حَتَّى إِذا دنا إفطاره أَتَاهُ بقدح فِيهِ لبن وَعسل، فَنَاوَلَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدامه فَوَضعه على الأَرْض. ثمَّ قَالَ: يَا أَوْس بن خولي مَا شرابك هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لبن وَعسل يَا رَسُول الله. قَالَ: إِنِّي لَا أحرمهُ، وَلَكِنِّي أَدَعهُ تواضعا لله، فَإِن من تواضع لله رَفعه الله، وَمن تكبر قصمه الله وَمن بذر أفقره الله، وَمن اقتصد أغناه الله، وَمن ذكر الله أحبه الله.
5449 - حدَّثنا ابنُ مُقاتِلٍ أخْبَرَنا عَبْدُ الله أخْبَرَنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ عَبْدِ الله ابنِ جَعْفَرٍ، رَضِيَ الله عَنْهُما، قَالَ: رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالقِثَّاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب القثاء، وَفِي بَاب: الرطب بالقثاء، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
48 - (بَابُ: {مَنْ أدْخَلَ الضّيفانَ بَيْنَهُ عَشْرَةً عَشْرَةً، وَالجُلُوس عَلَى الطَّعَامِ عَشَرَةً عَشَرَةً} )
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر من أَدخل الضيفان بَيته عشرَة عشرَة، وَفِي ذكر الْجُلُوس أَيْضا على الْمَائِدَة عشرَة عشرَة، وَذَلِكَ لضيق الطَّعَام أَو لضيق الْمجْلس.
5450 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا حَمَّاد بنُ زَيْدٍ عَنْ الجَعْدِ أبِي عُثْمَانَ عَنْ أنَسٍ.
ح وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أنَس.
ح وَعَنْ سِنانٍ أبِي رَبيعَةَ عَن أنَسٍ: أنَّ أُُمَّ سُلَيْمٍ أُمَّهُ عَمَدَتْ إلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ وَجَعَلْتْ مِنْهُ خَطِيفَةُ وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَها ثُمَّ بَعَثَتنِي إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أصْحَابِهِ فَدَعَوْتُهُ، قَالَ: وَمَنْ مَعِي؟ فَجِئْتُ فَقُلْتُ: إنَّهُ يَقُولُ: وَمَنْ مَعِي؟ فَخَرَجَ إلَيْهِ أبُو طَلْحَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إنَّما هُوَ شَيْءٌ صَنَعْتْهُ أُُمُّ سُلَيْمٍ فَدَخَلَ فَجِيءَ بِهِ، وَقَالَ: أدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً، فَدَخَلُوا فَأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: أدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً، فَدَخَلُوا فَأكَلُوا حَتَّى(21/73)
شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: أدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً، حَتَّى عَدَّ أرْبَعِينَ ثُمَّ أكَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قَامَ فَجَعَلْتُ أنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْها شَيْءٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مرت هَذِه الْقِصَّة فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بأتم مِنْهَا، وَمضى الْكَلَام فِيهَا.
وَأخرجه من ثَلَاث طرق: الأول: عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد الخاركي عَن حَمَّاد بن زيد عَن الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن دِينَار الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي المكني بِأبي عُثْمَان عَن أنس. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن حَمَّاد بن يزِيد عَن هِشَام بن حسان الأزري عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أنس. الطَّرِيق الثَّالِث: عَن حَمَّاد بن زيد عَن سِنَان، بِكَسْر السِّين المهلمة وخفة النُّون المكنى بِأبي ربيعَة عَن أنس، وَقَالَ عِيَاض: وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن: سِنَان بن أبي ربيعَة، وَهُوَ خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ سِنَان أَبُو ربيعَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ مقرون بِغَيْرِهِ لِأَن يحيى بن معِين وَأَبا حَاتِم تكلما فِيهِ، وَقَالَ ابْن عدي لَهُ أَحَادِيث قَليلَة. وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
قَوْله: (أَن أُم سليم أُمه) ، أَي: أُم أنس، وَفِي اسْمهَا أَقْوَال، وَقد مر ذكرهَا مرَارًا عديدة. قَوْله: (عَمَدت) ، أَي: قصدت. قَوْله: (جشته) بجيم وشين مُعْجمَة من التجشية أَي: جعلته جشيشا، والجشيش دَقِيق غير ناعم. قَوْله: (خطيفة) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء وبالفاء وَهِي لبن يدر عَلَيْهِ الدَّقِيق ثمَّ يطْبخ فيلعقه النَّاس ويختطفونه بِسُرْعَة، وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ الكبولاء، بِفَتْح الْكَاف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة، تسمى بهَا لِأَنَّهَا قد تختطف بالملاعق. قَوْله: (عكة) بِالضَّمِّ آنِية السّمن. قَوْله: (أَبُو طَلْحَة) هُوَ زيد بن سهل زوج أم سليم. قَوْله: (إِنَّمَا هُوَ شَيْء صَنعته أم سليم) يَعْنِي شَيْء قَلِيل، وَفِيه اعتذار لنَفسِهِ. قَوْله: (أَدخل) بِفَتْح الْهمزَة أَمر من الإدخال. قَوْله: (عشرَة) لَيْسَ للتنصيص عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذكرهَا لِأَنَّهَا كَانَت قَصْعَة وَاحِدَة وَلَا يتمكنون من التَّنَاوُل مِنْهَا إِذا كَانُوا أَكثر من عشرَة مَعَ قلَّة الطَّعَام قَالَ ابْن بطال: الِاجْتِمَاع على الطَّعَام من أَسبَاب الْبركَة، وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث وَحشِي بن حَرْب رَفعه: اجْتَمعُوا على طَعَامكُمْ واذْكُرُوا اسْم الله يُبَارك لكم قَوْله: (فَجعلت أنظر) إِلَى آخِره. قَائِله: أنس.
وَفِيه: معْجزَة من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ شبع أَرْبَعُونَ وَأكْثر من مد وَاحِد وَلم يظْهر فِيهِ نُقْصَان.
49 - (بَابُ: {مَا يُكْرَهُ مِنَ الثَّومِ وَالبُقُولِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من أكل الثوم من نيئه ومطبوخه، وَمَا يكره أَيْضا من أَنْوَاع الْبُقُول، مثل الكراث وَنَحْوه مِمَّا لَهُ رَائِحَة كريهة، والثوم بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة ولغة البلدين: توم بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق.
(فِيهِ عَنْ ابنِ عُمَرَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: فِي بَيَان هَذَا الْبَاب رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمر هَذَا مُسْندًا فِي آخر كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي الثوم النيء والبصل والكراث، قَالَ: حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا يحيى عَن عبيد الله. قَالَ: حَدثنَا نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فِي غَزْوَة خَيْبَر: من أكل من هَذِه الشَّجَرَة. يَعْنِي: الثوم، فَلَا يقربن مَسْجِدنَا وَمر الْكَلَام فِيهِ.
5451 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ: قِيلَ لأنسٍ: مَا سَمِعْتَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: مَنْ أكَلَ فَلاَ يَقْرَبَنَ مَسْجِدَنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد، وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن صُهَيْب، والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث إِلَى آخرهِ.
قَوْله: (من أكل الثوم) يتَنَاوَل النيء والنضيج، وَهَذَا عذر فِي ترك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَذَلِكَ لِأَن رَائِحَته تؤذي جَاره فِي الْمَسْجِد وتنقر الْمَلَائِكَة عَنْهَا وَمَرَّتْ مباحثه هُنَاكَ.
5452 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا أبُو صَفْوَانَ عَبْدُ الله بنُ سَعِيدٍ أخْبرنا يُونُسُ عَنِ ابنِ(21/74)
شِهابٍ قَالَ حدَّثني عَطاءٌ أنَّ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُما زَعَمَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَنْ أكَلَ ثُوما أوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِ لَنَا أوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من أكل ثوما) وَلم يُورد حَدِيثا فِي كَرَاهَة شَيْء من الْبُقُول نَحْو الكراث، وَهَذَا الحَدِيث أَيْضا مضى فِي الْبَاب الْمَذْكُور بأتم مِنْهُ. وَمر الْكَلَام فِيهِ.
50 - (بَابُ: {الكباث وَهُوَ تَمَرُ الأرَاكِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حل أكل الكباث، وَهُوَ بِفَتْح الْكَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْخَفِيفَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ ثَمَر الْأَرَاك، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالكاف، وَهُوَ شجر مَعْرُوف لَهُ حمل كعناقيد الْعِنَب، واسْمه الكباث، وَإِذا نضج سمي المرد وَالْأسود مِنْهُ أَشد نضجا وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن مشايخه: وَهُوَ ورق الْأَرَاك وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن التِّين فَقَالَ ورق الْأَرَاك لَيْسَ بِصَحِيح وَالَّذِي فِي اللُّغَة أَنه تمر الْأَرَاك وَقَالَ أَبُو عبيد هُوَ تمر الْأَرَاك إِذا يبس وَلَيْسَ لَهُ عجم، وَقَالَ أَبُو زِيَاد: يشبه التِّين يَأْكُلهُ النَّاس وَالْإِبِل وَالْغنم، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ حَار مالح كَانَ فِيهِ ملحا.
5453 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ حدَّثنا ابنُ وَهَبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ: أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ قَالَ: أخبرَنِي جَابِرُ بنُ عَبْدِ الله. قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَرِّ الظِّهْرَانِ نَجْنِي الكَبَاثَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالأسْوَدِ مِنْهُ فَإنَّهُ أيْطَبُ، فَقَالَ: أكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ رَعَاهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث قد مضى فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
قَوْله: (بمر الظهْرَان) بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، والظهران بِلَفْظ تَثْنِيَة الظّهْر وَهُوَ مَوضِع على مرحلة من مَكَّة. قَوْله: (نجني) أَي: نقتطف الكبات، وَكَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام عِنْد عدم الأقوات فَإذْ قد أغْنى الله عباده بِالْحِنْطَةِ والحبوب الْكَثِيرَة وسعة الرزق فَلَا حَاجَة بهم إِلَى ثَمَر الْأَرَاك. قَوْله: (أيطب) ، مقلوب: أطيب، مثل أجذب وأجبذ، ومعناهما وَاحِد. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: جَابر: (أَكنت ترعى الْغنم) ؟ ويروى: فَقيل الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَنقل ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ الْحِكْمَة فِي اخْتِصَاص الْغنم بذلك لكَونهَا لَا تركب فَلَا تزهو نفس راكبها. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) كَانَ بَعضهم يركب تيوس الْمعز فِي الْبِلَاد الْكَثِيرَة الْجبَال والحرارة كَمَا ذكره المَسْعُودِيّ وَغَيره. قلت: قَول من قَالَ: إِنَّه يركب تيوس الْمعز، عبارَة عَن كَون تيوسهم كَبِيرَة جدا حَتَّى إِن أحدا يركب على تَيْس وَلَا يفكر، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أَنهم يركبونها كركوب غَيرهَا من الدَّوَابّ الَّتِي تركب. قَوْله: (وَهل من نَبِي) أَي: وَمَا من نَبِي (إلاَّ رعى الْغنم) ؟ وَالْحكمَة فِيهِ أَن يَأْخُذ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، لأَنْفُسِهِمْ بالتواضع وتصفي قُلُوبهم بالخلوة ويترفوا من سياستها بِالنَّصِيحَةِ إِلَى سياسة أممهم بالشفقة عَلَيْهِم، وهدايتهم إِلَى الصّلاح.
51 - (بَابُ: {المَضْمَضَةَ بَعْدَ الطَّعامِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فعل الْمَضْمَضَة بعد أكل الطَّعَام.
5454 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرٍ بنِ يَسارٍ عَنْ سُوَيْدٍ بنِ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَيْبَر، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعا بِطعام فَما أُتِيَ إلاَّ بِسَوِيقٍ.
فَأَكَلْنا فَقَامَ إلَى الصَّلاةِ فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنا.
قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ بُشَيْرا يَقُولُ: حَدَّثنا سُوَيْدٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ، دَعَا بِطَعامٍ فَما أُتِيَ إلاَّ بِسَوِيقٍ، فَلُكْناهُ فَأكلْنا مَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنا مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِنا المَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَأُ، وَقَالَ سُفْيَانُ: كَأنَّكَ تَسْمَعْهُ مِنْ يَحْيَى.(21/75)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف ابْن يسَار ضد الْيَمين.
وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن مَعَ بعض اخْتِلَاف فِيهِ بِزِيَادَة ونقصان قد مر فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي بَاب {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج} (النُّور: 61) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (كَأَنَّك تسمعه من يحيي) ، أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: نقلت الحَدِيث من يحيى بن سعيد بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه صَحِيحا فكأنك مَا تسمعه إلاَّ مِنْهُ.
5454 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرٍ بنِ يَسارٍ عَنْ سُوَيْدٍ بنِ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَيْبَر، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعا بِطعام فَما أُتِيَ إلاَّ بِسَوِيقٍ.
فَأَكَلْنا فَقَامَ إلَى الصَّلاةِ فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنا.
قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ بُشَيْرا يَقُولُ: حَدَّثنا سُوَيْدٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَيْبَرَ فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ قَالَ يَحْيَى وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ، دَعَا بِطَعامٍ فَما أُتِيَ إلاَّ بِسَوِيقٍ، فَلُكْناهُ فَأكلْنا مَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنا مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِنا المَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَأُ، وَقَالَ سُفْيَانُ: كَأنَّكَ تَسْمَعْهُ مِنْ يَحْيَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف ابْن يسَار ضد الْيَمين.
وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن مَعَ بعض اخْتِلَاف فِيهِ بِزِيَادَة ونقصان قد مر فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي بَاب {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج} (النُّور: 61) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (كَأَنَّك تسمعه من يحيي) ، أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: نقلت الحَدِيث من يحيى بن سعيد بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه صَحِيحا فكأنك مَا تسمعه إلاَّ مِنْهُ.
52 - (بابُ: {لَعْقِ الأصَابِعِ وَمَصِّها قَبْلَ أنْ تُمْسَحَ بِالمِنْدِيلِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب لعلق الْأَصَابِع ومصها بعد الْفَرَاغ من أكل الطَّعَام قبل أَن يمسح يَده بالمنديل، وَإِنَّمَا قَيده بالمنديل إِشَارَة إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق الحَدِيث كَمَا أخرجه مُسلم من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي الزبير عَن جَابر بِلَفْظ: فَلَا يمسح يَده بالمنديل، وَأَشَارَ بقوله: (ومصها) إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرقه عَن جَابر أَيْضا، فِيمَا أخرجه ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة أبي سُفْيَان عَنهُ بِلَفْظ: إِذا طعم أحدكُم فَلَا يمسح يَده حَتَّى يمصها.
5456 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْروٍ بنِ دِينارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إذَا أكَلَ أحَدُكُمْ فَلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أوْ يُلْعِقَها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن مُحَمَّد بن يزِيد وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن ابْن أبي عَمْرو بِهِ.
قَوْله: (إِذا أكل أحدكُم) أَي: طَعَاما وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (حَتَّى يلعقها) بِفَتْح الْيَاء من لعق يلعق من بَاب علم يعلم لعقا. قَوْله: (أَو يلعقها) بِضَم الْيَاء. وَكلمَة: أَو لَيست للشَّكّ. وَإِنَّمَا هِيَ للتنويع أَي: أَو يلعقها غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ وَالله أعلم لَا يمسح يَده حَتَّى يلعقها هُوَ، فَإِن لم يفعل فحتى يلعقها غَيره مِمَّن لَا يتقذر ذَلِك كَزَوْجَة أَو ولدا وخادم يحبونه وَلَا يتقذرونه، وَكَذَا من كَانَ فِي معناهم كتلميذ يعْتَقد الْبركَة بلعقها، وَكَذَا لَو ألعقها شَاة وَنَحْوهَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ كلمة: أَو للشَّكّ من الرَّاوِي، فَإِن كَانَا جَمِيعًا محفوظين فَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يلعقها صَغِيرا أَو من يعلم أَنه لَا يتقذر بهَا وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَن يلعق إصبعه فَمه، فَيكون بِمَعْنى: يلعقها، فَتكون: أَو للشَّكّ.
وَالْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب على أَنْوَاع.
الأول: أَن نفس اللعق مُسْتَحبّ مُحَافظَة على تنظيفها ودفعا للكبر، وَالْأَمر فِيهِ مَحْمُول على النّدب والإرشاد عِنْد الْجُمْهُور، وَحمله أهل الظَّاهِر على الْوُجُوب، وَقَالَ الْخطابِيّ: قد عَابَ قوم لعق الْأَصَابِع، لِأَن الترفة أفسد عُقُولهمْ وَغير طباعهم الشِّبَع والتخمة، وَزَعَمُوا أَن لعق الْأَصَابِع مستقبح أَو مستقذر أَو لم يعلمُوا أَن الَّذِي على أَصَابِعه جُزْء من الَّذِي أكله فَلَا يتحاشى مِنْهُ إلاَّ متكبر ومترفه تَارِك للسّنة.
الثَّانِي: أَن من الْحِكْمَة فِي لعق الْأَصَابِع مَا ذكره فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أكل أحدكُم فليلعق أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يدْرِي فِي أَي طَعَامه الْبركَة) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي الزبير عَن جَابر. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا وَقعت لقْمَة أحدكُم فليأخذها فليُمِطْ مَا كَانَ بهَا من أَذَى وليأكلها وَلَا يَدعهَا للشَّيْطَان. وَلَا يمسح يَده بالمنديل حَتَّى يلعق أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يدْرِي فِي أَي طَعَامه الْبركَة، يَعْنِي: فِيمَا أكل أَو فِيمَا بَقِي فِي الْإِنَاء، فيلعق يَده وَيمْسَح الْإِنَاء رَجَاء حُصُول الْبركَة. وَالْمرَاد بِالْبركَةِ. وَالله أعلم مَا يحصل بِهِ التغذية وتسلم عاقبته من أَذَى ويقوى على طَاعَة الله تَعَالَى، وَغير ذَلِك، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وأصل الْبركَة الزِّيَادَة وَثُبُوت الْخَيْر والامتناع بِهِ.
وَالثَّالِث: أَنه يَنْبَغِي فِي لعق الْأَصَابِع الِابْتِدَاء بالوسطى ثمَّ السبابَة ثمَّ الْإِبْهَام. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْكُل بأصابعه الثَّلَاث قبل أَن يمسحها بالإبهام وَالَّتِي تَلِيهَا وَالْوُسْطَى، ثمَّ رَأَيْته يلعق أَصَابِعه الثَّلَاث فيلعق الْوُسْطَى ثمَّ الَّتِي تَلِيهَا ثمَّ الْإِبْهَام، وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْوُسْطَى أَكثر الثَّلَاثَة تلويثا بِالطَّعَامِ لِأَنَّهَا أعظم الْأَصَابِع وأطولها. فَينزل فِي الطَّعَام مِنْهُ أَكثر مِمَّا ينزل من السبابَة، وَينزل من السبابَة فِي الطَّعَام أَكثر من الْإِبْهَام لطول السبابَة على الْإِبْهَام وَيحْتَمل أَن يكون البدء بالوسطى لكَونهَا أول مَا ينزل فِي الطَّعَام لطولها.
وَالرَّابِع: أَن فِي الحَدِيث: فَلَا يمسح يَده حَتَّى يلعقها، وَهَذَا(21/76)
مُطلق، وَالْمرَاد بِهِ الْأَصَابِع الثَّلَاث الَّتِي أَمر بِالْأَكْلِ بهَا كَمَا فِي حَدِيث أنس أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا أكل طَعَاما لعق أَصَابِعه الثَّلَاث وَبَين الثَّلَاث فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الْمَذْكُور أنفًا: وَهَذَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَأْكُل بِهَذِهِ الثَّلَاث الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث كَعْب. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: فَإِن شَاءَ أحد أَن يَأْكُل بالخمس فَليَأْكُل فقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتعرق الْعظم وينهش اللَّحْم وَلَا يُمكن أَن يكون ذَلِك فِي الْعَادة إلاَّ بالخمس كلهَا. وَقَالَ شَيخنَا: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ يُمكن بِالثلَاثِ، وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه: فَلَيْسَ هَذَا أكلا بالأصابع الْخمس، وَإِنَّمَا هُوَ مُمْسك بالأصابع فَقَط لَا آكل بهَا، وَلَئِن سلمنَا أَنه آكل بهَا لعدم الْإِمْكَان فَهُوَ مَحل الضَّرُورَة كمن لَيْسَ لَهُ يَمِين، فَلهُ الْأكل بالشمال. قلت: حَاصِل هَذَا أَن شَيخنَا منع اسْتِدْلَال ابْن الْعَرَبِيّ بِمَا ذكره، وَالْأَمر فِيهِ أَن السّنة أَن يَأْكُل بالأصابع الثَّلَاث وَإِن أكل بالخمس فَلَا يمْنَع، وَلكنه يكون تَارِكًا للسّنة إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة فَافْهَم.
الْخَامِس: أَنه ورد أَيْضا اسْتِحْبَاب لعق الصحفة أَيْضا على مَا روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من لعق الصحفة ولعق أَصَابِعه أشبعه الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الْيَمَان. قَالَ: حَدَّثتنِي أم عَاصِم، وَكَانَت أم ولد لسنان بن سَلمَة قَالَت: دخل علينا نُبَيْشَة الْخَيْر وَنحن نَأْكُل فِي قَصْعَة، فحدثنا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أكل فِي قِطْعَة ثمَّ لحسها استغفرت لَهُ الْقَصعَة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، ونبيشة، بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبشين مُعْجمَة: ابْن عبد الله بن عَمْرو بن عتاب بن الْحَارِث بن نصير بن حُصَيْن بن رابغة، وَقيل: لرابغة بن لحيان بن هُذَيْل بن مدركة بن الياس بن مُضر بن نزار الْهُذلِيّ، وَيُقَال لَهُ نُبَيْشَة الْخَيْر، وَيُقَال: الْخَيل بِاللَّامِ، وَهُوَ ابْن عَم سَلمَة بن المحبق.
السَّادِس: مَا المُرَاد باستغفار الْقَصعَة؟ يحْتَمل أَن الله تَعَالَى يخلق فِيهَا تمييزا أَو نطقا تطلب بِهِ الْمَغْفِرَة، وَقد ورد فِي بعض الْآثَار أَنَّهَا تَقول: آجرك الله كَمَا آجرتني من الشَّيْطَان، وَلَا مَانع من الْحَقِيقَة. وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك مجَازًا كنى بِهِ.
53 - (بَابُ: {المِنْدِيلِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر المنديل. قَالَ الْجَوْهَرِي: المنديل مَعْرُوف. تَقول مِنْهُ: تندلت بالمنديل وتمندلت، وَأنكر الْكسَائي تمندلت. قلت: هَذَا يدل على أَن الْمِيم فِيهِ زَائِدَة وَذكره أَيْضا. فِي بَاب ندل، وَذكر فِي بَاب منديل: تمدل بالمنديل لُغَة فِي تندل، وَهَذَا يدل على أَن النُّون فِيهِ زَائِدَة.
5457 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِر قَال حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أبِي عَنْ سَعِيدٍ بنِ الحَارِثِ عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّهُ سَألَهُ عَن الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَقَالَ: لَا قَدْ كُنَّا زمَانَ النَبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الطَّعامِ إلاَّ قَلِيلاً فَإذا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إلاَّ أكُفَّنا وَسَوَاعِدَنا وَأقْدَامَنَا ثُمَّ نُصَلِّي وَلا نَتَوَضَأُُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لم يكن لنا مناديل) . وَمُحَمّد بن فليح: بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام يروي عَن أَبِيه فليح بن سُلَيْمَان الْمدنِي، وَسَعِيد بن الْحَارِث بن أبي الْعلَا الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي الْحَارِث مُحَمَّد بن سَلمَة الْمصْرِيّ.
قَوْله: (أَنه) ، أَي: أَن سعيد بن الْحَارِث سَأَلَ جَابر بن عبد الله عَن الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار، يجب أم لَا؟ فَقَالَ جَابر: لَا يجب. قَوْله: (مثل ذَلِك) ، أَي: مِمَّا مست النَّار. قَوْله: (إلاَّ أكفنا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الْكَاف جمع كف، أَرَادَ أَنهم إِذا أكلُوا من الْأَطْعِمَة مِمَّا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إِلَى مسح أياديهم وَلم يكن لَهُم مناديل يمسحون بأكفهم وسواعدهم وأقدامهم، وَكَانَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، يمسحها برجليه. قَالَه مَالك عَنهُ، وَحكم الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار قد تقدم فِي كتاب الطَّهَارَة.
54 - (بَاب: {مَا يَقُولُ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَقُول الْآكِل إِذا فرغ من أكل طَعَامه، وَحَدِيث الْبَاب يبين مَا يَقُوله.
5458 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ عَنْ أبِي أُُمَامَةَ أنَّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(21/77)
كَانَ إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الحَمْدُ لله كَثِيرا طَيِّبا مُبَارَكا فِيهِ غَيْرَ مَكْفىً وَلا مُوَدَّع وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح معنى التَّرْجَمَة ويبينها.
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وثور بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور وَهُوَ ابْن يزيدالشامي، وخَالِد بن معدان بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة الكلَاعِي بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام، وَأَبُو أُمَامَة بِضَم الْهمزَة صدي بن عجلَان الْبَاهِلِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي عَاصِم، يَأْتِي عَن قريب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن أبي نعيم بِهِ، وَعَن غَيره، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن دُحَيْم.
قَوْله: (مائدته) ، قد تقدم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يَأْكُل على الخوان، وَهنا يَقُول: إِذا رفع مائدته، وَالْجَوَاب عَن هَذَا إِمَّا أَن يُرِيد بالمائدة الطَّعَام أَو ذَلِك الرَّاوِي، وَهُوَ أنس لم ير أَنه أكل عَلَيْهَا. أَو كَانَ لَهُ مائدة لَكِن لم يَأْكُل هُوَ بِنَفسِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهَا وَسُئِلَ البُخَارِيّ أَنه هَاهُنَا يَقُول: على الْمَائِدَة وثمة قَالَ: على السفرة لَا على الْمَائِدَة. فَقَالَ: إِذا أكل الطَّعَام على شَيْء ثمَّ رفع ذَلِك الشَّيْء وَالطَّعَام يُقَال: رفعت الْمَائِدَة. قَوْله: (كثيرا) ، أَي: حمدا كثيرا وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه. قَوْله: (طيبا) . أَي: خَالِصا. قَوْله: (مُبَارَكًا فِيهِ) . أَي: فِي الْحَمد. ومباركا من الْبركَة، وَهِي الزِّيَادَة. قَوْله: (غير مكفي) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْكَاف وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء، قَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون من كفأت الْإِنَاء إِذا كببته. فَالْمَعْنى غير مَرْدُود عَلَيْهِ إنعامه وإفضاله إِذا فضل الطَّعَام على الشِّبَع فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيست تِلْكَ الفضلة مَرْدُودَة وَلَا مهجورة، وَيحْتَمل أَن يكون من الْكِفَايَة، وَمَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى غير مكفي رزق عباده أَي: لَيْسَ أحد يرزقهم غَيره. وَقَالَ الْخطابِيّ: غير مُحْتَاج إِلَى أحد فَيَكْفِي لكنه، يطعم وَيَكْفِي، وَقَالَ الْقَزاز: غير مستكفي أَي: غير مكتف بنفسي عَن كِفَايَته، وَقَالَ الدَّاودِيّ: غير مكفي أَي: لم يكتف من فضل الله ونعمه، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: غير مكفي إِشَارَة إِلَى الطَّعَام وَالْمعْنَى: رفع هَذَا الطَّعَام غير مكفي أَي: غير مقلوب عَنَّا من قَوْلك: كفأت الْإِنَاء إِذا قلبته، وَالْمعْنَى غير مُنْقَطع هَذَا كُله على أَن الضَّمِير لله. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: الضَّمِير للطعام ومكفي بِمَعْنى مقلوب من الإكفاء وَهُوَ الْقلب غير أَنه لَا يَكْفِي الْإِنَاء للاستغناء عَنهُ، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ عَن أبي مَنْصُور الجواليقي، أَن الصَّوَاب غير مكافأ بِالْهَمْزَةِ. أَي: أَن نعْمَة الله لَا تكافأ.
قلت: هَذَا التَّطْوِيل بِلَا طائل، بل لفظ مكفي، من الْكِفَايَة وَهُوَ اسْم مفعول أَصله مكفوي على وزن مفعول، وَلما اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء قلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء ثمَّ أبدلت ضمة الْيَاء كسرة لأجل الْيَاء وَالْمعْنَى: هَذَا الَّذِي أكلنَا لَيْسَ فِيهِ كِفَايَة لما بعده بِحَيْثُ إِنَّه يَنْقَطِع وَيكون هَذَا آخر الْأكل، بل هُوَ غير مُنْقَطع عَنَّا بعد هَذَا، بل تستمر هَذِه النِّعْمَة لنا طول أعمارنا، وَلَا تَنْقَطِع وَالله أعلم. قَوْله: (وَلَا مُودع) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو، وَتَشْديد الدَّال الْمَفْتُوحَة قَالَت الشُّرَّاح: مَعْنَاهُ: غير مَتْرُوك الطّلب إِلَيْهِ وَالرَّغْبَة فِيمَا عِنْده. قلت: مَعْنَاهُ غير مُودع منا من الْوَدَاع يَعْنِي: لَا يكون آخر طعامنا وَيجوز كسر الدَّال يَعْنِي: غير تَارِك الطَّعَام لما بعده. قَوْله: (وَلَا مستغني عَنهُ) يُؤَكد الْمَعْنى الَّذِي قُلْنَا: وَحَاصِله لَا يكون لنا اسْتغْنَاء مِنْهُ. قَوْله: (رَبنَا) ، أَي: يَا رَبنَا فَحذف مِنْهُ حرف النداء، وَيجوز رَفعه بِأَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ رَبنَا. قَالُوا: وَيصِح أَن ينصب بإضمار أَعنِي، وَكَذَلِكَ ضبط فِي بعض الْكتب، وَيصِح خفضه بَدَلا من الضَّمِير فِي عَنهُ، قيل: وَيصِح أَن يرْتَفع بِالِابْتِدَاءِ وَيكون خَبره مقدما عَلَيْهِ وَهُوَ غير مكفي.
5459 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عَنْ ثَوْرٍ بنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ عَنْ أبِي أُُمَامَةَ أنَّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ وَقَالَ مَرَّةً: إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الحمدُ لله الَّذِي كَفَانَا وَأرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيِّ وَلا مَكْفُورٍ، وَقَالَ مَرَّةً: الحَمْدُ لله رَبِّنا غَيْرَ مَكْفِيِّ وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنًى رَبَّنا.
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن أبي عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَقَالَ مرّة: إِذا رفع مائدته) أَي: طَعَامه، كَمَا ذكرنَا أَن الْمَائِدَة تَأتي بِمَعْنى الطَّعَام. وَقَوله: (كفانا) هَذَا يدل على أَن الضَّمِير فِيمَا تقدم يرجع إِلَى الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى. هُوَ الْكَافِي لَا مكفي قَوْله: (وأروانا) من عطف الْخَاص على الْعَام لِأَن: كفانا من الْكِفَايَة وَهِي: أَعم من الشِّبَع(21/78)
والري، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن: وآوانا بِالْمدِّ من الإيواء قَوْله: (وَلَا مكفور) أَي: وَلَا غير مشكور.
وَوَقع فِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه أَبُو دَاوُد: (الْحَمد لله الَّذِي أطعمنَا وَسَقَانَا وَجَعَلنَا مُسلمين) . وَوَقع فِي حَدِيث أبي أَيُّوب أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ (الْحَمد لله الَّذِي أطْعم وَسَقَى وسوغه وَجعل لَهُ مخرجا) ، وَوَقع فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه النَّسَائِيّ وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم مَا فِي حَدِيث أبي سعيد، وَزِيَادَة فِي حَدِيث مطول.
55 - (بابُ: {الأكْلِ مَعَ الخَادِمِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْأكل مَعَ الْخَادِم على قصد التَّوَاضُع والتذلل وَترك الْكبر، وَذَلِكَ من آدَاب الْمُؤمنِينَ وأخلاق الْمُرْسلين وَالْخَادِم يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى، وأعم من أَن يكون رَقِيقا أَو حرا.
5460 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إذَا أتَى أحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعامِهِ فَإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُناولْهُ أُُكْلَةً أوْ أُُكْلَتَيْنِ أوْ لُقْمَةً أوْ لُقْمَتَيْنِ فَإنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاجَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث والْحَدِيث مضى فِي الْعتْق عَن حجاج بن منهال.
قَوْله: (أحدكُم) ، بِالنّصب على المفعولية، (وخادمه) بِالرَّفْع على الفاعلية. قَوْله: (فَإِن لم يجلسه) ، بِضَم الْيَاء من الإجلاس، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فليقعده مَعَه فَليَأْكُل، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن خَالِد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ: فليجلسه مَعَه فَإِن لم يجلسه مَعَه فليتناوله، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد عَن عجلَان عَن أبي هُرَيْرَة: فَادعه فَإِن أَُبى فأطعمه مِنْهُ، وفاعل: أَبى، يحْتَمل أَن يكون السَّيِّد، وَالْمعْنَى: إِذا ترفع عَن مواكلة غُلَامه، وَيحْتَمل أَن يكون الْخَادِم يَعْنِي: إِذا تواضع عَن مواكلة سَيّده، وَيُؤَيّد الِاحْتِمَال الأول أَن فِي رِوَايَة جَابر عِنْد أَحْمد: أمرنَا أَن نَدْعُوهُ، فَإِن كره أَحَدنَا أَن يطعم مَعَه فليطعمه فِي يَده. قَوْله: (فليناوله أكله) ، بِضَم الْهمزَة اللُّقْمَة قَوْله: (وأكلتين) ، كلمة أَو، فِيهِ للتقسيم. وَفِي قَوْله: أَو لقْمَة للشَّكّ من الرَّاوِي وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن خَالِد عَن أَبِيه عَن أبير هُرَيْرَة يُخْبِرهُمْ ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا كفى أحدكُم خادمه طَعَامه حره ودخانه فليأخذ بِيَدِهِ فليقعده مَعَه، فَإِن أَبى فليأخذ لقْمَة فليطعمها إِيَّاه. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأَبُو خَالِد وَالِد إِسْمَاعِيل اسْمه سعد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَإِن كَانَ الطَّعَام مشفوها قَلِيلا فليصنع فِي يَده مِنْهُ أَكلَة أَو أكلتين، يَعْنِي: لقْمَة أَو لقمتين. قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الْخَادِم (ولي حره) أَي: حر الطَّعَام حَيْثُ طبخه. قَوْله: (وعلاجه) ، أَي: وَولي علاجه. أَي: تركيبه وتهيئته وإصلاحه وَنَحْو ذَلِك. وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد فَإِنَّهُ ولي حره ودخانه، وروى أَبُو يعلى من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يَنْبَغِي للرجل أَن يَلِي مَمْلُوكه حر طَعَامه وبرده فَإِذا حضر عَزله عَنهُ، وَفِي إِسْنَاده حُسَيْن بن قيس وَهُوَ مَتْرُوك، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا صلى مَمْلُوك أحدكُم طَعَاما فولي حره وَعَمله فقربه إِلَيْهِ فليدعه فَليَأْكُل مَعَه، فَإِن أَبى فليضع فِي يَده مِمَّا يضع، وَإِسْنَاده مُنْقَطع الْأَمر فِي هَذِه الْأَحَادِيث مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب.
وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا الحَدِيث يُفَسر حَدِيث أبي ذَر فِي الْأَمر بالتسوية مَعَ الْخَادِم فِي الْمطعم والملبس فَإِنَّهُ جعل الْخِيَار إِلَى السَّيِّد فِي إجلاس الْخَادِم مَعَه وَتَركه قيل: لَيْسَ فِي الْأَمر فِي قَوْله فِي حَدِيث أبي ذَر: أطعموهم مِمَّا تطْعمُونَ إِلْزَام بمواكلة الْخَادِم، بل فِيهِ أَن لَا يستأثر عَلَيْهِ بِشَيْء بل يشركهُ فِي كل شَيْء لَكِن بِحَسب مَا يدْفع بِهِ شَرّ عَيْنَيْهِ، وَنقل ابْن الْمُنْذر عَن جَمِيع أهل الْعلم أَن الْوَاجِب إطْعَام الْخَادِم من غَالب الْقُوت الَّذِي أكل مِنْهُ مثله فِي تِلْكَ الْبَلدة، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْأدم وَالْكِسْوَة، وَأَن للسَّيِّد أَن يستأثر بالنفيس من ذَلِك، وَإِن كَانَ الْأَفْضَل أَن يُشْرك مَعَه الْخَادِم فِي ذَلِك وَفِي (التَّوْضِيح) قَوْله: فَإِن لم يجلسه، دَال على أَنه لَا يجب على الْمَرْء أَن يطعمهُ مِمَّا يَأْكُل، قيل لمَالِك: أيأكل الرجل من طَعَام لَا يَأْكُلهُ أَهله وَعِيَاله ورقيقه ويلبس غير مَا يكسوهم؟ قَالَ: أَي: وَالله، وَأرَاهُ فِي سَعَة من ذَلِك وَلَكِن يحسن إِلَيْهِم. قيل: فَحَدِيث أبي ذَر؟ قَالَ: كَانَ النَّاس لَيْسَ لَهُم هَذَا الْقُوت.
56 - (بابُ: {الطَّاعِمُ الشاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ} )
أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: الطاعم الشاكر، وَهُوَ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ. قَوْله: مثل الصَّائِم الصابر، خَبره أَي: الشاكر الَّذِي يَأْكُل ويشكر(21/79)
الله ثَوَابه مثل ثَوَاب الَّذِي يَصُوم ويصبر على الْجُوع. قيل: الشُّكْر نتيجة النعماء وَالصَّبْر نتيجة الْبلَاء، فَكيف يشبه الشاكر بالصابر؟ وَأجِيب بِأَن التَّشْبِيه فِي أصل الِاسْتِحْقَاق لَا فِي الكمية وَلَا فِي الْكَيْفِيَّة وَلَا تلْزم الْمُمَاثلَة فِي جَمِيع الْوُجُوه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: ورد الْإِيمَان نِصْفَانِ: نصف صَبر وَنصف شكر، وَرُبمَا يتَوَهَّم متوهم أَن ثَوَاب الشُّكْر يقصر عَن ثَوَاب الصَّبْر فأزيل توهمه بِهِ، يَعْنِي: هما متساويان فِي الثَّوَاب: وَوجه الشّبَه حبس النَّفس إِذْ الشاكر يحبس نَفسه على محبَّة الْمُنعم بِالْقَلْبِ والإظهار بِاللِّسَانِ وَقَالَ أهل اللُّغَة: رجل طاعم حسن الْحَال فِي الْمطعم، ومطعامٌ كثير القِرى، ومطعم كثير الْأكل، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: سوى بَين درجتي الطَّاعَة من الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي الْأجر.
{فِيهِ: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم}
أَي: رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر ابْن بطال هَذِه الزِّيَادَة فِي شَرحه، بل وصل الْبَاب بِالْبَابِ الْآتِي بعده، وَابْن حبَان قد خرج هَذَا فِي (صَحِيحه) فَقَالَ: حَدثنَا بكر بن أَحْمد العابد حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن معمر عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر. وَأخرجه الْحَاكِم بِلَفْظ: مثل الصَّائِم الصابر نَحْو التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَأخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث الدَّرَاورْدِي عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي حرَّة عَن حَكِيم بن أبي حرَّة عَن سِنَان بن سنة الْأَسْلَمِيّ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الطاعم الشاكر لَهُ مثل أجر الصَّائِم. قلت: سِنَان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون ابْن سنة بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة لَهُ صُحْبَة وَرِوَايَة، وَقَالَ ابْن حبَان: معنى الحَدِيث أَن يطعم ثمَّ لَا يَعْصِي بإرثه بقوته، وَيتم شكره بإتيان طَاعَته بجوارحه لِأَن الصَّائِم قرن بِهِ الصَّبْر وَهُوَ صبره عَن الْمَحْظُورَات، وَقرن بالطاعم الشُّكْر فَيجب أَن يكون هَذَا الشُّكْر الَّذِي يقوم بِإِزَاءِ ذَلِك الصَّبْر أَن يُقَارِبه ويشاركه وَهُوَ ترك الْمَحْظُورَات. فَإِن قيل: هَل يُسمى الحامد شاكرا قيل: نعم، لما روى معمر عَن قَتَادَة عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْحَمد رَأس الشُّكْر مَا شكر الله عبد لَا يحمده، وَقَالَ الْحسن: مَا أنعم الله على عبد نعْمَة فَحَمدَ الله عَلَيْهَا إلاَّ كَانَ حَمده أعظم مِنْهَا كائنة مَا كَانَت، وَقَالَ النَّخعِيّ: شكر الطَّعَام أَن تسمي إِذا أكلت وتحمد إِذا فرغت، وَفِي علل ابْن أبي حَاتِم، قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: شكر الطَّعَام أَن تَقول: الْحَمد لله.
57 - (بابُ: {الرَّجُلِ يُدْعَى إلَى طَعَامٍ فَيَقُولُ: وَهَذا مَعِي} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر الرجل الَّذِي يُدعى على صِيغَة الْمَجْهُول إِلَى طَعَام، وَتَبعهُ رجل لم يدع فَيَقُول الْمَدْعُو: وَهَذَا رجل معي، يَعْنِي: تَبِعنِي.
{وَقَالَ أنَسٌ: إذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لَا يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ}
مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق عَن أنس بن مَالك للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل إِذا دخل على رجل مُسلم سَوَاء بدعوة أَو بغَيْرهَا فَوجدَ عِنْده أكلا أَو شربا هَل يتَنَاوَل من ذَلِك شَيْئا فَقَالَ أنس: يَأْكُل وَيشْرب إِذا لم يكن الرجل الْمَدْخُول عَلَيْهِ لَا يتهم فِي دينه وَلَا فِي مَاله، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عُمَيْر الْأنْصَارِيّ، سَمِعت أنسا يَقُول مثله لَكِن قَالَ على رجل لَا يتهمه، وَقد روى أَحْمد وَالْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحوه مَرْفُوعا بِلَفْظ: إِذا دخل أحدكُم على أَخِيه الْمُسلم فأطعمه طَعَاما فَليَأْكُل من طَعَامه وَلَا يسْأَله عَنهُ.
5461 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْوَدِ حَدَّثنا أبُو أُسَامَةَ حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا شَقِيقٌ حدَّثنا أبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يُكْنَى أبَا شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلامٌ لَحَامٌ فَأتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ فِي أصْحَابِهِ فَعَرَفَ الْجُوعَ فِي وَجْهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذَهَبَ إلَى غُلامِهِ اللحَّامِ فَقَالَ: إصْنَعْ لِي طَعَاما يَكْفِي خَمْسَةً لَعَلِّي أدْعُو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَامِس خَمْسَةٍ، فَصَنَعَ لَهُ طُعَيِّما ثُمَّ أتاهُ(21/80)
فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أبَا شُعَيْبٍ إنَّ رَجُلاً تَبِعَنَا فَإنْ شِئْتَ أذِنْتَ لَهُ وَإنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ) ، قَالَ: لَا. بَلْ أذِنْتُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: فَتَبِعهُمْ رجل إِلَى آخِره. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي: بَاب الرجل يتَكَلَّف الطَّعَام لإخوانه فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن أبي مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، وَهنا أخرجه عَن عبد الله بن أبي الْأسود، وَاسم أبي الْأسود حميد بن الْأسود الْبَصْرِيّ الْحَافِظ عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
58 - (بَابٌ: {إذَا حَضَرَ العَشَاءُ فَلا يَعْجَلْ عَنْ عَشائِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا حضر الْعشَاء، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: إِذا حضر الْعشَاء رُوِيَ بِفَتْح الْعين وَكسرهَا وَهُوَ بِالْكَسْرِ من صَلَاة الْمغرب إِلَى الْعَتَمَة، وبالفتح الطَّعَام خلاف الْغَدَاء، وَلَفظ: عَن عشائه، هُوَ بِالْفَتْح لَا غير.
5462 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عَنِ ابنِ شهابٍ قَالَ: أخْبَرَنِي جَعْفَرُ بنُ عَمْرو بنِ أُُمَيَّةَ: أَن أباهُ عَمْرَو بنَ أُُمَيَّةَ أخْبَرَهُ أنَّهُ رَأى رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ فَدُعِيَ إلَى الصَّلاةِ فَألْقاها وَالسَّكينَ الَّتِي كَانَ يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَأُُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من استنباطه من اشْتِغَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْأَكْلِ وَقت الصَّلَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: من أَيْن خصص بالعشاء وَالصَّلَاة أَعم مِنْهُ. قلت: هُوَ من بَاب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِقَرِينَة الحَدِيث بعده، وَمر فِي صَلَاة الْجَمَاعَة. فَإِن قلت: ذكر ثمَّة أَنه كَانَ يَأْكُل ذِرَاعا هَاهُنَا قَالَ: كتف شَاة؟ قلت: لَعَلَّه كَانَا حاضرين عِنْده يَأْكُل مِنْهُمَا أَو أَنَّهُمَا متعلقان بِالْيَدِ فكأنهما عُضْو وَاحِد انْتهى. كَلَامه.
ثمَّ إِنَّه أخرج الحَدِيث الْمَذْكُور من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة إِلَى آخِره. وَالْآخر: مُعَلّق حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ اللَّيْث إِلَى آخِره، وَوَصله الذهلي فِي الزهريات، عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث.
قَوْله: (يحتز) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي. أَي: يقطع قَوْله: (فدعى) ، بِضَم الدَّال على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فألقاها) أَي: قِطْعَة اللَّحْم الَّتِي كَانَ احتزها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الضَّمِير يرجع إِلَى الْكَتف وَإِنَّمَا أنث بِاعْتِبَار أَنه اكْتسب التَّأْنِيث من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو هُوَ مؤنث سَمَاعي قَوْله: (والسكين) أَي: وَألقى السكين أَيْضا، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن السكين تذكر وتؤنث.
5463 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حدَّثنا وُهَيْبٌ عَنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ، رَضِيَ الله عَنهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إذَا وُضِعَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَابْدَؤا بِالعَشَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة بِلَفْظ الْمَفْعُول من التعلية، ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد الْجرْمِي، والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (الْعشَاء) بِالْفَتْح فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنَّمَا تُؤخر الصَّلَاة عَن الطَّعَام تفريغا للقلب عَن الْغَيْر تَعْظِيمًا لَهَا كَمَا أَنَّهَا تقدم على الْغَيْر لذَلِك فلهَا الْفضل تَقْدِيمًا وتأخيرا.
{وَعَنْ أيُّوبَ عَنْ نَافِعِ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ}
هُوَ مَعْطُوف على السَّنَد الَّذِي قبله، وَهُوَ من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن سهل عَن مُعلى بن أَسد شيخ البُخَارِيّ فِيهِ.
وَعَنْ أيُّوبَ عَنْ نَافِعِ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَامِ.(21/81)
هُوَ أَيْضا عطف على مَا قبله وَأخرجه ابْن أبي عمر من طَرِيق عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب وَلَفظه قَالَ: فتعشى ابْن عمر لَيْلَة وَهُوَ يمسع قِرَاءَة الإِمَام.
5465 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وَحَضَرَ العَشَاءُ فَابْدَأوا بالعَشَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، والْحَدِيث من أَفْرَاده. قَوْله: (وَحضر الْعشَاء) بِكَسْر الْعين. قَوْله: (فابدأوا بالعشاء) بِفَتْح الْعين.
{قَالَ وُهَيْبٌ وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشامٍ: إذَا وُضِعَ العَشَاءُ} .
أَي: قَالَ وهيب بن خَالِد الْمَذْكُور وَيحيى بن سعيد الْقطَّان إِلَى آخِره فرواية وهيب أخرجهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة يحيى ابْن حسان وَمعلى بن أَسد قَالَا: حَدثنَا وهيب بِهِ. وَلَفظه: إِذا وضع الْعشَاء وأقيمت الصَّلَاة فابدأوا بالعشاء، وَرِوَايَة يحيى بن سعيد وَصلهَا أَحْمد عَنهُ أَيْضا بِهَذَا اللَّفْظ.
59 - (بَابُ: {قَوْلِ الله تَعَالَى: {فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (الْأَحْزَاب: 53)
وَهَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا طَعِمْتُمْ} إِلَى آخِره، المُرَاد بالانتشار هُنَا بعد الْأكل التَّوَجُّه عَن مَكَان الطَّعَام وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب.
5466 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثني أبِي عَنْ صَالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ أنَّ أنَسا قَالَ: أنَا أعْلَمُ النَّاسِ بِالحِجَابِ كَانَ أُُبِيُّ بنُ كَعْبٍ يَسْأَلَنِي عَنْهُ أصْبَحَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَرُوسا بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالمَدِينَةِ فَدَعَا النَّاسَ لِلطَّعامِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ القَوْمُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَشَى وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ ظَنَّ أنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعْتُ مَعَهُ فَإذا هُمْ جُلُوس مَكَانَهُمْ فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَرَجَعَ وَرَجَعَتُ مَعَهُ فَإذَا هُمْ قَدْ قَامُوا فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنهُ سِتْرا وَأُُنْزِلَ الحِجابُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَأنزل الْحجاب) . أَي: آيَة الْحجاب، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم إِلَى طَعَام غير ناظرين إناه وَلَكِن إِذا دعيتم فادخلوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا} (الْأَحْزَاب: 53) الْآيَة. وَعبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان الْمدنِي يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بطرق كَثِيرَة عَن أنس، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عَمْرو الناقذ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن عبيد الله بن سعد.
قَوْله: (بالحجاب) أَي: بشأن نزُول آيَة الْحجاب. قَوْله: (عروسا) هُوَ يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى.
71 - ( {كِتابُ العَقِيقَةِ} )
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْعَقِيقَة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعَقِيقَة أَصْلهَا الشّعْر الَّذِي يكون على رَأس الصَّبِي حِين يُولد، وَسميت الشَّاة الَّتِي تذبح عَنهُ فِي تِلْكَ الْحَال عقيقة لِأَنَّهُ يحلق عَنهُ ذَلِك الشّعْر عِنْد الذّبْح. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ اسْم الشَّاة المذبوحة عَن الْوَلَد، وَسميت بهَا لِأَنَّهَا تعق عَن ذابحها. أَي: تشق وتقطع، وَيُقَال: وَرُبمَا يُسمى الشّعْر عقيقة بعد الْحلق على الِاسْتِعَارَة، وَإِنَّمَا سمي الذّبْح عَن الصَّبِي يَوْم سابعه عقيقة باسم الشّعْر لِأَنَّهُ يحلق فِي ذَلِك الْيَوْم وعق عَن ابْنه يعق عقا: حلق عقيقته وَذبح عَنهُ شَاة وَتسَمى الشَّاة الَّتِي ذبحت لذَلِك عقيقة وَقَالَ: أصل العق الشق فَكَأَنَّهَا قيل لَهَا: عقيقة. أَي: مشقوقة وكل(21/82)
مَوْلُود من الْبَهَائِم فشعره عقيقة.
1 - (بَابُ: {تَسْمِيَةِ المَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُلِمَنْ يَعُقَّ عَنهُ وَتحْنِيكِهِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَسْمِيَة الْمَوْلُود غَدَاة يُولد لمن لم يعق عَنهُ وتحنيكه كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني، وَسَقَطت لَفْظَة عَن عِنْد الْجُمْهُور وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: وَإِن لم يعق عَنهُ بدل: لمن لم يعق عَنهُ وَأَرَادَ بِالْغَدَاةِ الْوَقْت لِأَنَّهَا تطلق وَيُرَاد بهَا مُطلق الْوَقْت ويقهم من قَوْله: (لمن لم يعق) ، أَنه يُسمى الْمَوْلُود وَقت الْولادَة إِن لم تحصل الْعَقِيقَة وَإِن حصلت يُسمى فِي الْيَوْم السَّابِع وَيفهم من رِوَايَة النَّسَفِيّ أَنه يُسمى وَقت الْولادَة سَوَاء حصلت الْعَقِيقَة أَو لم تحصل وَالْأول أولى لِأَن الْأَخْبَار وَردت فِي التَّسْمِيَة يَوْم السَّابِع لما سَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَيفهم من رِوَايَة النَّسَفِيّ أَيْضا أَن الْعَقِيقَة غير وَاجِبَة.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْفضل أَي: الْعَقِيقَة، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق: سنة لَا يَنْبَغِي تَركهَا لمن قدر عَلَيْهَا، وَقَالَ أَحْمد: هِيَ أحب إليّ من التَّصَدُّق بِثمنِهَا على الْمَسَاكِين وَقَالَ مرّة: إِنَّهَا من الْأَمر الَّذِي لم يزل عَلَيْهِ أَمر النَّاس عندنَا. وَقَالَ مَالك: هِيَ من الْأَمر الَّذِي لَا اخْتِلَاف فِيهِ عِنْدهم، وَقَالَ يحيى بن سعيد: أدْركْت النَّاس وَمَا يدعونها عَن الْغُلَام وَالْجَارِيَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ كَانَ يَرَاهَا ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وروى عَن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وروى عَن الْحسن وَأهل الظَّاهِر أَنَّهَا وَاجِبَة، وتأولوا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَعَ الْغُلَام عقيقة) على الْوُجُوب وَقَالَ ابْن حزم: هِيَ فرض وَاجِب يجْبر الْإِنْسَان عَلَيْهَا إِذا فضل لَهُ من قوته مقدارها وَفِي (شرح السّنة) وأوجبها الْحسن قَالَ: يجب عَن الْغُلَام يَوْم سابعه فَإِن لم يعق عَنهُ عق عَن نَفسه، وَقَالَ ابْن التِّين قَالَ أَبُو وَائِل: هِيَ سنة فِي الذُّكُور دون الْإِنَاث، وَكَذَا ذكره فِي (المُصَنّف) عَن مُحَمَّد وَالْحسن، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيست بِسنة. وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: هِيَ تطوع كَانَ النَّاس يفعلونها ثمَّ نسخت بالأضحى، وَنقل صَاحب (التَّوْضِيح) عَن أبي حنيفَة والكوفيين: أَنَّهَا بِدعَة وَكَذَلِكَ قَالَ بَعضهم فِي شَرحه وَالَّذِي نقل عَنهُ أَنَّهَا بِدعَة أَبُو حنيفَة. قلت: هَذَا افتراء فَلَا يجوز نسبته إِلَى أبي حنيفَة وحاشاه أَن يَقُول مثل هَذَا: وَإِنَّمَا قَالَ: لَيست بِسنة فمراده إِمَّا لَيست بِسنة ثَابِتَة، وَإِمَّا لَيست بِسنة مُؤَكدَة وروى عبد الرَّزَّاق عَن دَاوُد بن قيس. قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْعَقِيقَة فَقَالَ: لَا أحب العقوق. قَالُوا: يَا رَسُول الله! ينْسك أَحَدنَا عَمَّن يُولد لَهُ فَقَالَ: من أحب مِنْكُم أَن ينْسك عَن وَلَده فَلْيفْعَل عَن الْغُلَام شَاتَان مكافأتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة، فَهَذَا يدل على الِاسْتِحْبَاب.
قَوْله: (وتحنيكه) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: تَسْمِيَة الْمَوْلُود. أَي: فِي بَيَان تحنيك الْمَوْلُود، وَهُوَ مضغ الشَّيْء وَوَضعه فِي فَم الصَّبِي، وَذَلِكَ تحنيكه بِهِ، يُقَال: حنكت الصَّبِي إِذا مضغت التَّمْر أَو غَيره ثمَّ دلكته بحنكه وَالْأولَى فِيهِ التَّمْر فَإِن لم يَتَيَسَّر فالرطب وإلاَّ فشيء حُلْو، وَعسل النَّحْل أولى من غَيره. ثمَّ مَا لم تمسه النَّار.
5467 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ قَالَ؛ حدَّثني بُرَيْدٌ عَنْ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبِي مُوسَى، رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: وُلِدَ لي غُلامٌ فَأتَيْتُ بِهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسمَّاهُ إبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إلَيَّ وَكَانَ أكْبَرَ وَلَدِ أبِي مُوسَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. لِأَنَّهَا فِي تَسْمِيَة الْمَوْلُود وتحنيكه والْحَدِيث يشملها.
وَإِسْحَاق هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن نصر البُخَارِيّ، نزل الْمَدِينَة. فَالْبُخَارِي: تَارَة يَقُول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَتارَة ينْسبهُ إِلَى جده، وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وبريد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة ابْن عبد الله بن أبي بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء واسْمه عَامر بن أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وَيُرِيد الْمَذْكُور يروي عَن جده أبي مُوسَى.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي كريب، وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَغَيره.
وَفِيه (حكمان) .
الأول: تَسْمِيَة الْمَوْلُود أَنه يعجل تَسْمِيَة الْمَوْلُود وَلَا ينْتَظر بهَا إِلَى السَّابِع أَلا يرى كَيفَ أسْرع أَبُو مُوسَى بإحضار مولوده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَماهُ إِبْرَاهِيم، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تَسْمِيَة الْمَوْلُود حِين يُولد أصح من الْأَحَادِيث فِي تَسْمِيَته يَوْم السَّابِع(21/83)
وَأورد عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّار وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) عَن عَائِشَة. قَالَت: عق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله عَنْهُمَا، يَوْم السَّابِع وسماهما وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِتَسْمِيَة الْمَوْلُود لسابعه، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سَبْعَة من السّنة فالصبي يَوْم السَّابِع: يُسمى، ويختن، يماط عَنهُ الْأَذَى، ويثقب أُذُنه ويعق عَنهُ، ويحلق رَأسه، ويلطخ من عقيقته، وَيتَصَدَّق بِوَزْن شعره ذهب أَو فضَّة أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَفِي سَنَده ضعف، وَفِيه أَيْضا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَفعه إِذا كَانَ يَوْم السَّابِع للمولود فأهريقوا عَنهُ دَمًا واميطوا عَنهُ الْأَذَى وسموه، وَإِسْنَاده حسن. وَقَالَ الْخطابِيّ: ذهب كثير من النَّاس إِلَى أَن التَّسْمِيَة تجوز قبل ذَلِك. وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ: إِذا ولد وَقد تمّ خلقه يُسمى فِي الْوَقْت إِن شَاءَ. وَقَالَ الْمُهلب: وَتَسْمِيَة الْمَوْلُود حِين يُولد وَبعد ذَلِك بليلة أَو لَيْلَتَيْنِ وَمَا شَاءَ إِذا لم ينْو الْأَب الْعَقِيقَة عِنْد يَوْم سابعه جَائِز، وَإِن أَرَادَ أَن ينْسك عَنهُ فَالسنة أَن تُؤخر تَسْمِيَته إِلَى يَوْم النّسك وَهُوَ السَّابِع.
وَالْحكم الثَّانِي: تحنيك الْمَوْلُود، وَقد ذَكرْنَاهُ. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تحنيكه؟ قلت: قَالَ بَعضهم: يصنع ذَلِك بِالصَّبِيِّ ليتمرن على الْأكل فيقوى عَلَيْهِ، فيا سُبْحَانَ الله مَا أبرد هَذَا الْكَلَام، وَأَيْنَ وَقت الْأكل من وَقت التحنيك؟ وَهُوَ حِين يُولد وَالْأكل غَالِبا بعد سنتَيْن أَو أقل أَو أَكثر؟ وَالْحكمَة فِيهِ أَنه يتفاءل لَهُ بِالْإِيمَان لِأَن التَّمْر ثَمَرَة الشَّجَرَة الَّتِي شبهها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْمُؤمنِ، وبحلاوته أَيْضا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المحنك من أهل الْفضل وَالْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ لِأَنَّهُ يصل إِلَى جَوف الْمَوْلُود من ريقهم أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما حنك عبد الله بن الزبير حَاز من الْفَضَائِل والكمالات مَا لَا يُوصف؟ وَكَانَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ عفيفا فِي الْإِسْلَام، وَكَذَلِكَ عبد الله بن أبي طَلْحَة كَانَ من أهل الْعلم وَالْفضل والتقدم فِي الْخَيْر ببركة رِيقه الْمُبَارك.
5468 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ هِشامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا. قَالَتْ: أُُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِصَبِيِّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأتْبَعَهُ المَاء.
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب بَوْل الصّبيان عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة الحَدِيث.
5469 - حدَّثنا إسْحَاقَ بنُ نَصْرٍ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ حدَّثنا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُما أنَّها حَمَلَتْ بِعَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأنَا مُتِم، فَأتَيْتُ المَدِينَةَ فَنَزَلْتُ قُبَاءً فَوَلَدَتُهُ بِقُباء، ثُمَّ أتَيْتُ بِهِ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَها ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإسْلامِ فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحا شَدِيدا لأنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إنَّ اليَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلا يُولَدُ لَكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْحَاق بن نصر وَشَيْخه قد ذكرا عَن قريب.
والْحَدِيث قد مضى فِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن زَكَرِيَّاء بن يحيى، وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره.
قَوْله: (وَأَنا متم) ، بِضَم الْمِيم وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، يُقَال: اتمت الحبلى فَهِيَ متم إِذا أتمت أَيَّام حملهَا. قَوْله: (قبَاء) ، والفصيح فِيهِ الْمَدّ وَالصرْف وَحكى الْقصر وَكَذَا ترك الصّرْف. قولهّ (فِي حجره) بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا. قَوْله: (ثمَّ تقل) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْفَاء أَي: بزق. قَوْله: (فِي فِيهِ) أَي: فِي فَمه. قَوْله: (فبرك عَلَيْهِ) بتَشْديد الرَّاء أَي: دَعَا لَهُ بِالْبركَةِ. قَوْله: (أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام) أَي: أول مَوْلُود بِالْمَدِينَةِ بعد الْهِجْرَة من أَوْلَاد الْمُهَاجِرين وَإِلَّا فالنعمان بن بشير الْأنْصَارِيّ ولد قبله بعد الْهِجْرَة.(21/84)
5470 - حدَّثنا مَطَرُ بنُ الفَضْلِ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخْبَرَنا عَبْدُ الله بنُ عَوْنٍ عَنْ أنَسٍ بنِ سِيرِينَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ، رَضِيَ الله عَنهُ. قَالَ: كَانَ ابنٌ لأبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَجَعَ أبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ إلَيْهِ العَشَاءَ فَتَعَشَى ثُمَّ أصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارِ الصَّبِيَّ فَلَمَّا أصْبَحَ أبُو طَلْحَةَ أتَى رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأخُبَرَهُ. فَقَالَ: أعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا فِي لَيْلَتِهِمَا فَوَلَدَتْ غُلاما قَالَ لِي أبُو طَلْحَةَ: احْفَظِيهِ حَتَّى نَأتِيَ بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأتَى بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ. فَأخَذَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أمَعَهُ شَيْءٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ! تَمْرَاتٌ. فَأخَذَها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَضَغَهَا ثُمَّ أخَذَ مِنْ فِيه فَجَعَلَها فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث ومطر بن الْفضل الْمروزِي وَيزِيد من الزِّيَادَة وَأنس بن سِيرِين أَخُو مُحَمَّد بن سِيرِين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (لأبي طَلْحَة) ، وَهُوَ يزِيد بن سهل زوج أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (يشتكي) ، من الاشتكاء من الشكو وَهُوَ الْمَرَض. قَوْله: (أم سليم) ، هِيَ: أم أنس بن مَالك. قَوْله: (أسكن مَا كَانَ) أَرَادَت بِهِ سُكُون الْمَوْت، وَهُوَ أفعل التَّفْضِيل، وَظن أَبُو طَلْحَة أَنَّهَا تُرِيدُ سُكُون الشِّفَاء. قَوْله: (ثمَّ أصَاب مِنْهَا) أَي: جَامعهَا. قَوْله: (وارِ الصَّبِي) أَي: ادفنه من المواراة، ويروى: وأروا الصَّبِي. قَوْله: (أعرستم) من الإعراس وَهُوَ الْوَطْء. يُقَال: أعرس بأَهْله إِذا غشيها، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، أعرستم؟ بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الرَّاء وَقَالَ عِيَاض: هُوَ غلط لِأَن التَّعْرِيس النُّزُول فِي آخر اللَّيْل، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لُغَة يُقَال: أعرس وعرس إِذا دخل بأَهْله، والأفصح: أعرس، وَهَذَا السُّؤَال للتعجب من صنعهما وصبرهما وسروره بِحسن رضائها بِقَضَاء الله تَعَالَى. قَوْله: (احفظيه) هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: احفظه.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب تحنيك الْمَوْلُود عِنْد وِلَادَته وَحمله إِلَى صَالح يحنكه، والتمسية يَوْم وِلَادَته، وتفويض التَّسْمِيَة إِلَى الصَّالِحين، ومنقبة أم سليم من عَظِيم صبرها وَحسن رضائها بِالْقضَاءِ، وجزالة عقلهَا فِي إخفائها مَوته عَن أَبِيه فِي أول اللَّيْل ليبيت مستريحا وَاسْتِعْمَال المعاريض، وأجابة دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَقّهمَا حَيْثُ حملت بِعَبْد الله بن أبي طَلْحَة، وَجَاء من عبد الله عشرَة صَالِحُونَ عُلَمَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
{حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا ابنُ أبِي عَدِيٍّ عَنِ ابنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أنَسٍ، وَسَاقَ الحَدِيثَ} .
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الحَدِيث الْمَذْكُور دائر بَين الْأَخَوَيْنِ فَالَّذِي مضى عَن أنس بن سِيرِين، وَهَذَا عَن أَخِيه مُحَمَّد بن سِيرِين كِلَاهُمَا رويا عَن أنس بن مَالك فروى البُخَارِيّ هَذَا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى ضد الْمُفْرد عَن مُحَمَّد بن أبي عدي عَن عبد الله بن عون عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك. قَوْله: (وسَاق الحَدِيث) ، أَي: الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْمثنى وَسَاقه البُخَارِيّ فِي كتاب اللبَاس فِي بَاب الخميصة السَّوْدَاء. قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْمثنى. قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي عدي عَن ابْن عون عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أنس. قَالَ: لما ولدت أم سليم الحَدِيث.
2 - (بَابُ: {إمَاطَةِ الأذَى عَنِ الصَّبِيِّ فِي العَقِيقَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إمَاطَة الْأَذَى أَي: إِزَالَة الْأَذَى. قَالَ: الْكسَائي: مطت عَنهُ الْأَذَى، وأمطت نحيت، وَكَذَلِكَ، مطت غَيْرِي وأمطته وَأنكر ذَلِك الْأَصْمَعِي. وَقَالَ: مطت أَنا وأمطت غَيْرِي، وَفِي (التَّوْضِيح) . وإماطة الْأَذَى عَن الصَّبِي: حلق الشّعْر الَّذِي على رَأسه.
5471 - حدَّثنا أبُو النُّعمَانِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ قَالَ: مَعَ الغُلامِ عَقِيقَةٌ.(21/85)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فِي الْعَقِيقَة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَسليمَان بن عَامر الضَّبِّيّ بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة صَحَابِيّ سكن الْبَصْرَة مَاله فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث.
وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيثه من عدَّة طرق فَهَذَا الحَدِيث مَوْقُوف مُخْتَصر، وَقَالَ الكلاباذي: روى عَن سلمَان الضَّبِّيّ مُحَمَّد ابْن سِيرِين حَدِيثا مَوْقُوفا فِي الْأَطْعِمَة، وَهُوَ فِي الأَصْل مَرْفُوع، وَمَعْنَاهُ: عقيقة مصاحبة للغلام بعد وِلَادَته، يَعْنِي: يعق عَنهُ، وَاعْترض عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ هُنَا بِأَنَّهُ، وَإِن كَانَ مَوْصُولا لكنه مَوْقُوف وَلَيْسَ فِيهِ ذكر إمَاطَة الْأَذَى الَّذِي ترْجم بِهِ وَأجِيب عَنهُ بِأَن الْمُعْتَمد عَلَيْهِ فِي طرق هَذَا الحَدِيث الَّتِي أخرجهَا هُوَ طَرِيق حَمَّاد بن زيد لَكِن أوردهُ مُخْتَصرا اكْتِفَاء بِمَا ورد تَمَامه فِي بعض طرقه على مَا يَجِيء وَذَلِكَ على عَادَته هَكَذَا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة فَافْهَم.
وَفِيه: حجَّة على أَنه لَا يعق عَن الْكَبِير، وَعَلِيهِ أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار.
{وَقَالَ حَجَّاجٌ: حدَّثنا حَمَّادٌ أخْبَرنا أيُّوبُ وَقَتَادَةُ وَهِشَامٌ وَحَبِيبٌ عَنِ ابنِ سِيرينَ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،} .
هَذَا الطَّرِيق مَرْفُوع، وَلكنه مُعَلّق أخرجه عَن حجاج بن منهال عَن حَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَقَتَادَة ابْن دعامة السدُوسِي، وَهِشَام بن حسان الْأَزْدِيّ وحبِيب بن شَهِيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن سلمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَصله الطَّحَاوِيّ وَابْن عبد الْبر وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي عَن حجاج بن منهال حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة بِهِ. وَاعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: حَمَّاد بن سَلمَة لَيْسَ من شَرطه فِي الِاحْتِجَاج، وَأجِيب عَنهُ بِأَنا سلمنَا أَن حَمَّاد بن سَلمَة لَيْسَ من شَرطه، وَلَكِن لَا يضرّهُ إِيرَاده للاستشهاد بِهِ.
{وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَاصِمٍ وَهِشامٍ عَنْ حَفْصَةَ بِنْت سِيرِينَ عَنِ الرَّبابِ عَنْ سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ الضَّبِيِّ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} .
هَذَا طَرِيق آخر، وَهُوَ مُعَلّق مَرْفُوع، وَفِيه مُبْهَم وَهُوَ قَوْله: (غير وَاحِد) . فَمن الَّذين أبهمهم عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول سُفْيَان بن عُيَيْنَة أخرجه أَحْمد عَنهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد وَصرح بِرَفْعِهِ. قَوْله: (وَهشام) ، عطف على عَاصِم، وَهُوَ هِشَام بن حسان وَمِمَّنْ أخرج عَنهُ عبد الرَّزَّاق أخرجه أَحْمد عَنهُ عَن هِشَام بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، وَمِمَّنْ أخرج عَن هِشَام أَيْضا عبد الله بن نمير أخرجه ابْن مَاجَه من طَرِيقه. وَحَفْصَة بنت سِيرِين أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين رَوَت عَن الربَاب بِفَتْح الرَّاء وبباءين موحدتين بَينهمَا ألف، وَالْأولَى مِنْهُمَا مُخَفّفَة إبنت صليعٍ مصغر الصلع بالمهملتين ابْن عَامر الضَّبِّيّ يروي عَن عَمها سلمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
{وَرَوَاهُ يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ عَنِ ابنِ سِيرينَ عَنْ سَلْمَانَ قَوْلَهُ} .
هَذَا طَرِيق آخر مُعَلّق مُصَرح فِيهِ بِالْوَقْفِ أخرجه عَن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن إِبْرَاهِيم التسترِي عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن سلمَان الضَّبِّيّ. قَوْله: (قَوْله) ، أَي: قَول سلمَان، وَصرح بِهِ أَنه مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَوَصله الطَّحَاوِيّ فِي كِتَابه (مُشكل الْآثَار) وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة حَدثنَا حجاج بن منهال حَدثنَا يزِيد بن إِبْرَاهِيم بِهِ مَوْقُوفا.
وَقَالَ أصْبَغُ: أخْبَرَنِي ابنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بنِ حَازِمِ عَنْ أيُّوبَ السَّخْتَيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ سِيرِينَ حدَّثنا سَلْمَانُ بنُ عَامِرِ الضَّبِّيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: مَعَ الغُلامِ عَقِيقَةٌ فَأهْريقوا عَنْهُ دَما وَأمِيطُوا عَنْهُ الأذَى.
هَذَا طَرِيق آخر مَرْفُوع، وَلكنه مُعَلّق أخرجه عَن أصبغ بن الْفرج الْمصْرِيّ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن(21/86)
وهب الْمصْرِيّ، وَأحد مَشَايِخ الطَّحَاوِيّ عَن جرير بن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ مَنْسُوب إِلَى عمل السختيان أَو بَيْعه، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَهِي جُلُود عَن مُحَمَّد بن سِيرِين إِلَى آخِره، وَوَصله الطَّحَاوِيّ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن بن وهب بِهِ وَاعْترض عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا. فَقَالَ: ذكر هَذَا الحَدِيث بِلَا خبر، وَقد قَالَ أَحْمد: حَدِيث جرير بِمصْر كَانَ على التَّوَهُّم. أَو كَمَا قَالَ: وَقَالَ السَّاجِي حدث بالوهم بِمصْر وَلم يكن يحفظ وَأجِيب بِأَنَّهُ قد وَافقه غَيره عَن أَيُّوب وَفِي الْجُمْلَة هَذِه الطّرق الْخَمْسَة يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا والْحَدِيث فِي الأَصْل مَرْفُوع فَلَا يضرّهُ الْوَقْف.
قَوْله: (مَعَ الْغُلَام عقيقة) ، تمسك بِظَاهِر لَفْظَة الْحسن وَقَتَادَة، وَقَالَ: يعق عَن الْغُلَام وَلَا يعق عَن الْجَارِيَة وَعند الْجُمْهُور: يعق عَنْهُمَا لوُرُود الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة بِذكر الْجَارِيَة أَيْضا على مَا يَجِيء الْآن. قَوْله: (فأهريقوا) ، يُقَال: هراق المَاء يهريقه هراقة أَي: صبه، وَأَصله: أراق يريق إِرَاقَة.
وَفِيه لُغَة أُخْرَى: أهرق المَاء يهرقه إهراقا على أفعل يفعل إفعالاً لُغَة ثَالِثَة أهرق يهريق إهرياقا وَاعْلَم أَنه أبهم فِيهِ مَا يهراق، وَكَذَا فِي حَدِيث سَمُرَة الْآتِي، وَبَين ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه التِّرْمِذِيّ مصححا من رِوَايَة يُوسُف بن مَاهك بِأَنَّهُم دخلُوا على حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمرهم عَن الْغُلَام شَاتَان مكافيتان وَعَن الْجَارِيَة شَاة وأخرجت الْأَرْبَعَة من حَدِيث أم كرز أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْعَقِيقَة فَقَالَ: عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة وَاحِدَة وَلَا يضركم ذكرانا كن أم أناثا. قَالَ التِّرْمِذِيّ: صَحِيح وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رَفعه فِي أثْنَاء حَدِيث قَالَ: من أحب أَن ينْسك عَن وَلَده فَلْيفْعَل عَن الْغُلَام شَاتَان مكافيتان وَعَن الْجَارِيَة شَاة. وَقَالَ دَاوُد بن قيس، رِوَايَة عَن عَمْرو: سَأَلت زيد بن أسلم عَن قَوْله: (مكافأتان) ، فَقَالَ: متشابهتان تذبحان جَمِيعًا. أَي: لَا يُؤَخر ذبح إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى، وَحكى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد المتكافيان المتقاربان. قَالَ الْخطابِيّ: أَي: فِي السن، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: معادلتان لما تجزي فِي الزَّكَاة وَفِي الْأُضْحِية، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي حَدِيث آخر، قيل: مَا المتكافيتان؟ قَالَ: المثلان.
قَوْله: (وأميطوا) ، أَي: أزيلوا وَقد مر فِي أول الْبَاب. قَوْله: (والأذى) ، قيل: هُوَ إِمَّا الشّعْر أَو الدَّم أَو الْخِتَان، وَقَالَ الْخطابِيّ: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لما سمعنَا هَذَا الحَدِيث طلبنا من يعرف معنى إمَاطَة الْأَذَى فَلم نجد، وَقيل: المُرَاد بالأذى هُوَ شعره الَّذِي علق بِهِ دم الرَّحِم فيماط عَنهُ بِالْحلقِ، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يلطمون بِرَأْس الصَّبِي بِدَم الْعَقِيقَة، وَهُوَ أَذَى فَنهى عَن ذَلِك، وَقد جزم الْأَصْمَعِي بِأَنَّهُ حلق الرَّأْس، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن الْحسن كَذَلِك، وَالْأَوْجه أَن يحمل الْأَذَى على الْمَعْنى الْأَعَمّ، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي بعض طرق حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب ويماط عَنهُ أقذاره، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ.
{حدَّثني عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْوَدِ حدَّثنا قُرَيْشُ بنُ أنَسٍ عَنْ حَبِيبٍ بنِ الشَّهِيدِ قَالَ: أمَرَنِي ابنُ سِيرِينَ أنْ أسْألَ الحَسَنَ: مِمَّنْ سَمَعَ حَدِيثَ العَقِيقَةَ؟ فَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن أبي الْأسود هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأسود، وَاسم أبي الْأسود حميد، وقريش مصغر القرش، بِالْقَافِ وَالرَّاء والشين الْمُعْجَمَة ابْن أنس بِفَتْح الْهمزَة وَالنُّون الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وحبِيب بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَسمرَة بن جُنْدُب بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا الْفَزارِيّ بِالْفَاءِ وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء الْكُوفِي الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن قُرَيْش بن أنس بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعَقِيقَة عَن هَارُون بن عبد الله عَن قُرَيْش بِهِ، وَقد توقف الْبرد نجي فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث من أجل اخْتِلَاط قُرَيْش، هَذَا وَزعم أَنه تفرد بِهِ وَأَنه وهم، وَكَأَنَّهُ تبع فِي ذَلِك مَا حَكَاهُ الْأَثْرَم عَن أَحْمد أَنه ضعف حَدِيث قُرَيْش هَذَا، وَقَالَ: مَا أرَاهُ بِشَيْء قلت: قُرَيْش تغير سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَاسْتمرّ على ذَلِك سِتّ سِنِين، وَمَات سنة تسع وَمِائَتَيْنِ، ولقريش متابع، روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من أَن أَبَا حَمْزَة رَوَاهُ عَن الْحسن كَرِوَايَة قُرَيْش سَوَاء، وَلَعَلَّ سَماع شيخ البُخَارِيّ عَن قُرَيْش كَانَ قبل الِاخْتِلَاط، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يَصح لِلْحسنِ سَماع عَن سَمُرَة إلاَّ حَدِيث الْعَقِيقَة وَحده، ورد عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ(21/87)
البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه الْكَبِير) . قَالَ لي عَليّ بن الْمَدِينِيّ: سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح. قَوْله: (أَمرنِي ابْن سِيرِين) أَي: مُحَمَّد بن سِيرِين (أَن أسأَل) أَي: بِأَن أسأَل الْحسن الْبَصْرِيّ. قَوْله: (فَسَأَلته) أَي: قَالَ ابْن الشَّهِيد فَسَأَلت الْحسن فَقَالَ: سَمِعت من سَمُرَة بن جُنْدُب. فَإِن قلت: لم يبين البُخَارِيّ حَدِيث الْعَقِيقَة. قلت: كَأَنَّهُ اكْتفى عَن إِيرَاده بشهرته، وَقد أخرجه أَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته، يذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع ويحلق رَأسه وَيُسمى. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم يستحبون أَن يذبح عَن الْغُلَام الْعَقِيقَة يَوْم السَّابِع. فَإِن لم يتهيأ يَوْم السَّابِع فَيوم الرَّابِع عشر، فَإِن لم يتهيأ عق عَنهُ يَوْم إِحْدَى وَعشْرين قَوْله: مُرْتَهن، بِفَتْح التَّاء مَعْنَاهُ: رهن بعقيقته يَعْنِي: العقيق لَازِمَة لَهُ لَا بُد مِنْهَا، فشبهه بلزومها لَهُ وَعدم انفكاكه مِنْهَا بِالرَّهْنِ فِي يَد الْمُرْتَهن.
وَقَالَ الْخطابِيّ: تكلم النَّاس فِي هَذَا وأجود مَا قيل فِيهِ مَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله. قَالَ: هَذَا فِي الشَّفَاعَة، يُرِيد أَنه إِذا لم يعق عَنهُ فَمَاتَ طفْلا لم يشفع فِي وَالِديهِ، وَقيل: مَرْهُون بأذى شعره، ويروى: كل غُلَام رهينة بعقيقته الرهينة الرَّهْن وَالْهَاء للْمُبَالَغَة كالشتيمة والشتم ثمَّ استعملا بِمَعْنى الْمَرْهُون، يُقَال: هُوَ رهن بِكَذَا ورهينة بِكَذَا. قَوْله: (يذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَقد احْتج بِهِ من قَالَ: إِن الْعَقِيقَة مُؤَقَّتَة بِالْيَوْمِ السَّابِع، فَإِن ذبح قبله لم يَقع الموقوع، وَإِنَّهَا تفوت بعده، وَهَذَا قَول مَالك، وَعند الْحَنَابِلَة فِي اعْتِبَار الأسابيع بعد ذَلِك رِوَايَتَانِ، وَعند الشَّافِعِيَّة أَن ذكر السَّابِع للاختيار لَا للتعيين، وَنقل الرَّافِعِيّ أَنه يدْخل وَقتهَا بِالْولادَةِ، قَالَ: وَذكر السَّابِع فِي الْخَبَر بِمَعْنى أَن لَا يُؤَخر عَنهُ إختيارا، ثمَّ قَالَ: وَالِاخْتِيَار أَن لَا يُؤَخر عَن الْبلُوغ فَإِن أخرت إِلَى الْبلُوغ سَقَطت عَمَّن كَانَ يُرِيد أَن يعق عَنهُ. لَكِن إِن أَرَادَ هُوَ أَن يعق عَن نَفسه فعل. وَقَوله: يَوْم السَّابِع، أَي: من يَوْم الْولادَة، وَهل يحْسب يَوْم الْولادَة؟ وَقَالَ ابْن عبد الْبر: نَص مَالك على أَن أول السَّبْعَة الْيَوْم الَّذِي يَلِي يَوْم الْولادَة إِلَّا أَن ولد قبل طُلُوع الْفجْر، وَكَذَا نَقله الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي. قَوْله: (ويحلق رَأسه) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: يحلق جَمِيع رَأسه لثُبُوت النَّهْي عَن القزع، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ كَرَاهَة حلق رَأس الْجَارِيَة. وَعَن بعض الْحَنَابِلَة يحلق. قلت: هَذَا أولى لِأَن فِي حَدِيث سلمَان: أميطوا عَنهُ الْأَذَى وَمن جملَة الْأَذَى شعر رَأسه الملوث من الْبَطن، وبعمومه يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب. رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: عق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْحسن بِشَاة. وَقَالَ: يَا فَاطِمَة أحلقي رَأسه وتصدقي بزنة شعره فضَّة، فوزناه فَكَانَ وَزنه درهما أَو بعض دِرْهَم. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. قَوْله: (ويسمي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا وَإِن لم يستهل لم يسم. وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ: إِذا ولد وَقد تمّ خلقه يُسمى فِي الْوَقْت إِن شاؤا قَالَ الْمُهلب: وَتَسْمِيَة الْمَوْلُود حِين يُولد وَبعد ذَلِك بليلة وليلتين وَمَا شَاءَ إِذا لم ينْو الْأَب الْعَقِيقَة عِنْد يَوْم سابعه جَائِز وَإِن أَرَادَ أَن ينْسك عَنهُ فَالسنة أَن يُؤَخر تَسْمِيَته إِلَى يَوْم النّسك، وَهُوَ السَّابِع.
5471 - حدَّثنا أبُو النُّعمَانِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ قَالَ: مَعَ الغُلامِ عَقِيقَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فِي الْعَقِيقَة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَسليمَان بن عَامر الضَّبِّيّ بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة صَحَابِيّ سكن الْبَصْرَة مَاله فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث.
وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيثه من عدَّة طرق فَهَذَا الحَدِيث مَوْقُوف مُخْتَصر، وَقَالَ الكلاباذي: روى عَن سلمَان الضَّبِّيّ مُحَمَّد ابْن سِيرِين حَدِيثا مَوْقُوفا فِي الْأَطْعِمَة، وَهُوَ فِي الأَصْل مَرْفُوع، وَمَعْنَاهُ: عقيقة مصاحبة للغلام بعد وِلَادَته، يَعْنِي: يعق عَنهُ، وَاعْترض عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ هُنَا بِأَنَّهُ، وَإِن كَانَ مَوْصُولا لكنه مَوْقُوف وَلَيْسَ فِيهِ ذكر إمَاطَة الْأَذَى الَّذِي ترْجم بِهِ وَأجِيب عَنهُ بِأَن الْمُعْتَمد عَلَيْهِ فِي طرق هَذَا الحَدِيث الَّتِي أخرجهَا هُوَ طَرِيق حَمَّاد بن زيد لَكِن أوردهُ مُخْتَصرا اكْتِفَاء بِمَا ورد تَمَامه فِي بعض طرقه على مَا يَجِيء وَذَلِكَ على عَادَته هَكَذَا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة فَافْهَم.
وَفِيه: حجَّة على أَنه لَا يعق عَن الْكَبِير، وَعَلِيهِ أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار.
{وَقَالَ حَجَّاجٌ: حدَّثنا حَمَّادٌ أخْبَرنا أيُّوبُ وَقَتَادَةُ وَهِشَامٌ وَحَبِيبٌ عَنِ ابنِ سِيرينَ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،} .
هَذَا الطَّرِيق مَرْفُوع، وَلكنه مُعَلّق أخرجه عَن حجاج بن منهال عَن حَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَقَتَادَة ابْن دعامة السدُوسِي، وَهِشَام بن حسان الْأَزْدِيّ وحبِيب بن شَهِيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن سلمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَصله الطَّحَاوِيّ وَابْن عبد الْبر وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي عَن حجاج بن منهال حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة بِهِ. وَاعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: حَمَّاد بن سَلمَة لَيْسَ من شَرطه فِي الِاحْتِجَاج، وَأجِيب عَنهُ بِأَنا سلمنَا أَن حَمَّاد بن سَلمَة لَيْسَ من شَرطه، وَلَكِن لَا يضرّهُ إِيرَاده للاستشهاد بِهِ.
{وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَاصِمٍ وَهِشامٍ عَنْ حَفْصَةَ بِنْت سِيرِينَ عَنِ الرَّبابِ عَنْ سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ الضَّبِيِّ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} .
هَذَا طَرِيق آخر، وَهُوَ مُعَلّق مَرْفُوع، وَفِيه مُبْهَم وَهُوَ قَوْله: (غير وَاحِد) . فَمن الَّذين أبهمهم عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول سُفْيَان بن عُيَيْنَة أخرجه أَحْمد عَنهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد وَصرح بِرَفْعِهِ. قَوْله: (وَهشام) ، عطف على عَاصِم، وَهُوَ هِشَام بن حسان وَمِمَّنْ أخرج عَنهُ عبد الرَّزَّاق أخرجه أَحْمد عَنهُ عَن هِشَام بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق عبد الرَّزَّاق، وَمِمَّنْ أخرج عَن هِشَام أَيْضا عبد الله بن نمير أخرجه ابْن مَاجَه من طَرِيقه. وَحَفْصَة بنت سِيرِين أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين رَوَت عَن الربَاب بِفَتْح الرَّاء وبباءين موحدتين بَينهمَا ألف، وَالْأولَى مِنْهُمَا مُخَفّفَة إبنت صليعٍ مصغر الصلع بالمهملتين ابْن عَامر الضَّبِّيّ يروي عَن عَمها سلمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
{وَرَوَاهُ يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ عَنِ ابنِ سِيرينَ عَنْ سَلْمَانَ قَوْلَهُ} .
هَذَا طَرِيق آخر مُعَلّق مُصَرح فِيهِ بِالْوَقْفِ أخرجه عَن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن إِبْرَاهِيم التسترِي عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن سلمَان الضَّبِّيّ. قَوْله: (قَوْله) ، أَي: قَول سلمَان، وَصرح بِهِ أَنه مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَوَصله الطَّحَاوِيّ فِي كِتَابه (مُشكل الْآثَار) وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة حَدثنَا حجاج بن منهال حَدثنَا يزِيد بن إِبْرَاهِيم بِهِ مَوْقُوفا.
وَقَالَ أصْبَغُ: أخْبَرَنِي ابنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بنِ حَازِمِ عَنْ أيُّوبَ السَّخْتَيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ سِيرِينَ حدَّثنا سَلْمَانُ بنُ عَامِرِ الضَّبِّيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: مَعَ الغُلامِ عَقِيقَةٌ فَأهْريقوا عَنْهُ دَما وَأمِيطُوا عَنْهُ الأذَى.
هَذَا طَرِيق آخر مَرْفُوع، وَلكنه مُعَلّق أخرجه عَن أصبغ بن الْفرج الْمصْرِيّ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَأحد مَشَايِخ الطَّحَاوِيّ عَن جرير بن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ مَنْسُوب إِلَى عمل السختيان أَو بَيْعه، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَهِي جُلُود عَن مُحَمَّد بن سِيرِين إِلَى آخِره، وَوَصله الطَّحَاوِيّ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن بن وهب بِهِ وَاعْترض عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا. فَقَالَ: ذكر هَذَا الحَدِيث بِلَا خبر، وَقد قَالَ أَحْمد: حَدِيث جرير بِمصْر كَانَ على التَّوَهُّم. أَو كَمَا قَالَ: وَقَالَ السَّاجِي حدث بالوهم بِمصْر وَلم يكن يحفظ وَأجِيب بِأَنَّهُ قد وَافقه غَيره عَن أَيُّوب وَفِي الْجُمْلَة هَذِه الطّرق الْخَمْسَة يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا والْحَدِيث فِي الأَصْل مَرْفُوع فَلَا يضرّهُ الْوَقْف.
قَوْله: (مَعَ الْغُلَام عقيقة) ، تمسك بِظَاهِر لَفْظَة الْحسن وَقَتَادَة، وَقَالَ: يعق عَن الْغُلَام وَلَا يعق عَن الْجَارِيَة وَعند الْجُمْهُور: يعق عَنْهُمَا لوُرُود الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة بِذكر الْجَارِيَة أَيْضا على مَا يَجِيء الْآن. قَوْله: (فأهريقوا) ، يُقَال: هراق المَاء يهريقه هراقة أَي: صبه، وَأَصله: أراق يريق إِرَاقَة.
وَفِيه لُغَة أُخْرَى: أهرق المَاء يهرقه إهراقا على أفعل يفعل إفعالاً لُغَة ثَالِثَة أهرق يهريق إهرياقا وَاعْلَم أَنه أبهم فِيهِ مَا يهراق، وَكَذَا فِي حَدِيث سَمُرَة الْآتِي، وَبَين ذَلِك فِي عدَّة أَحَادِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه التِّرْمِذِيّ مصححا من رِوَايَة يُوسُف بن مَاهك بِأَنَّهُم دخلُوا على حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمرهم عَن الْغُلَام شَاتَان مكافيتان وَعَن الْجَارِيَة شَاة وأخرجت الْأَرْبَعَة من حَدِيث أم كرز أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْعَقِيقَة فَقَالَ: عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة وَاحِدَة وَلَا يضركم ذكرانا كن أم أناثا. قَالَ التِّرْمِذِيّ: صَحِيح وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رَفعه فِي أثْنَاء حَدِيث قَالَ: من أحب أَن ينْسك عَن وَلَده فَلْيفْعَل عَن الْغُلَام شَاتَان مكافيتان وَعَن الْجَارِيَة شَاة. وَقَالَ دَاوُد بن قيس، رِوَايَة عَن عَمْرو: سَأَلت زيد بن أسلم عَن قَوْله: (مكافأتان) ، فَقَالَ: متشابهتان تذبحان جَمِيعًا. أَي: لَا يُؤَخر ذبح إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى، وَحكى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد المتكافيان المتقاربان. قَالَ الْخطابِيّ: أَي: فِي السن، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: معادلتان لما تجزي فِي الزَّكَاة وَفِي الْأُضْحِية، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي حَدِيث آخر، قيل: مَا المتكافيتان؟ قَالَ: المثلان.
قَوْله: (وأميطوا) ، أَي: أزيلوا وَقد مر فِي أول الْبَاب. قَوْله: (والأذى) ، قيل: هُوَ إِمَّا الشّعْر أَو الدَّم أَو الْخِتَان، وَقَالَ الْخطابِيّ: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لما سمعنَا هَذَا الحَدِيث طلبنا من يعرف معنى إمَاطَة الْأَذَى فَلم نجد، وَقيل: المُرَاد بالأذى هُوَ شعره الَّذِي علق بِهِ دم الرَّحِم فيماط عَنهُ بِالْحلقِ، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يلطمون بِرَأْس الصَّبِي بِدَم الْعَقِيقَة، وَهُوَ أَذَى فَنهى عَن ذَلِك، وَقد جزم الْأَصْمَعِي بِأَنَّهُ حلق الرَّأْس، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن الْحسن كَذَلِك، وَالْأَوْجه أَن يحمل الْأَذَى على الْمَعْنى الْأَعَمّ، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي بعض طرق حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب ويماط عَنهُ أقذاره، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ.
{حدَّثني عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْوَدِ حدَّثنا قُرَيْشُ بنُ أنَسٍ عَنْ حَبِيبٍ بنِ الشَّهِيدِ قَالَ: أمَرَنِي ابنُ سِيرِينَ أنْ أسْألَ الحَسَنَ: مِمَّنْ سَمَعَ حَدِيثَ العَقِيقَةَ؟ فَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن أبي الْأسود هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأسود، وَاسم أبي الْأسود حميد، وقريش مصغر القرش، بِالْقَافِ وَالرَّاء والشين الْمُعْجَمَة ابْن أنس بِفَتْح الْهمزَة وَالنُّون الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وحبِيب بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَسمرَة بن جُنْدُب بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا الْفَزارِيّ بِالْفَاءِ وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء الْكُوفِي الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن قُرَيْش بن أنس بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعَقِيقَة عَن هَارُون بن عبد الله عَن قُرَيْش بِهِ، وَقد توقف الْبرد نجي فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث من أجل اخْتِلَاط قُرَيْش، هَذَا وَزعم أَنه تفرد بِهِ وَأَنه وهم، وَكَأَنَّهُ تبع فِي ذَلِك مَا حَكَاهُ الْأَثْرَم عَن أَحْمد أَنه ضعف حَدِيث قُرَيْش هَذَا، وَقَالَ: مَا أرَاهُ بِشَيْء قلت: قُرَيْش تغير سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ وَاسْتمرّ على ذَلِك سِتّ سِنِين، وَمَات سنة تسع وَمِائَتَيْنِ، ولقريش متابع، روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من أَن أَبَا حَمْزَة رَوَاهُ عَن الْحسن كَرِوَايَة قُرَيْش سَوَاء، وَلَعَلَّ سَماع شيخ البُخَارِيّ عَن قُرَيْش كَانَ قبل الِاخْتِلَاط، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يَصح لِلْحسنِ سَماع عَن سَمُرَة إلاَّ حَدِيث الْعَقِيقَة وَحده، ورد عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه الْكَبِير) . قَالَ لي عَليّ بن الْمَدِينِيّ: سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح. قَوْله: (أَمرنِي ابْن سِيرِين) أَي: مُحَمَّد بن سِيرِين (أَن أسأَل) أَي: بِأَن أسأَل الْحسن الْبَصْرِيّ. قَوْله: (فَسَأَلته) أَي: قَالَ ابْن الشَّهِيد فَسَأَلت الْحسن فَقَالَ: سَمِعت من سَمُرَة بن جُنْدُب. فَإِن قلت: لم يبين البُخَارِيّ حَدِيث الْعَقِيقَة. قلت: كَأَنَّهُ اكْتفى عَن إِيرَاده بشهرته، وَقد أخرجه أَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته، يذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع ويحلق رَأسه وَيُسمى. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم يستحبون أَن يذبح عَن الْغُلَام الْعَقِيقَة يَوْم السَّابِع. فَإِن لم يتهيأ يَوْم السَّابِع فَيوم الرَّابِع عشر، فَإِن لم يتهيأ عق عَنهُ يَوْم إِحْدَى وَعشْرين قَوْله: مُرْتَهن، بِفَتْح التَّاء مَعْنَاهُ: رهن بعقيقته يَعْنِي: العقيق لَازِمَة لَهُ لَا بُد مِنْهَا، فشبهه بلزومها لَهُ وَعدم انفكاكه مِنْهَا بِالرَّهْنِ فِي يَد الْمُرْتَهن.
وَقَالَ الْخطابِيّ: تكلم النَّاس فِي هَذَا وأجود مَا قيل فِيهِ مَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل، رَحمَه الله. قَالَ: هَذَا فِي الشَّفَاعَة، يُرِيد أَنه إِذا لم يعق عَنهُ فَمَاتَ طفْلا لم يشفع فِي وَالِديهِ، وَقيل: مَرْهُون بأذى شعره، ويروى: كل غُلَام رهينة بعقيقته الرهينة الرَّهْن وَالْهَاء للْمُبَالَغَة كالشتيمة والشتم ثمَّ استعملا بِمَعْنى الْمَرْهُون، يُقَال: هُوَ رهن بِكَذَا ورهينة بِكَذَا. قَوْله: (يذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَقد احْتج بِهِ من قَالَ: إِن الْعَقِيقَة مُؤَقَّتَة بِالْيَوْمِ السَّابِع، فَإِن ذبح قبله لم يَقع الموقوع، وَإِنَّهَا تفوت بعده، وَهَذَا قَول مَالك، وَعند الْحَنَابِلَة فِي اعْتِبَار الأسابيع بعد ذَلِك رِوَايَتَانِ، وَعند الشَّافِعِيَّة أَن ذكر السَّابِع للاختيار لَا للتعيين، وَنقل الرَّافِعِيّ أَنه يدْخل وَقتهَا بِالْولادَةِ، قَالَ: وَذكر السَّابِع فِي الْخَبَر بِمَعْنى أَن لَا يُؤَخر عَنهُ إختيارا، ثمَّ قَالَ: وَالِاخْتِيَار أَن لَا يُؤَخر عَن الْبلُوغ فَإِن أخرت إِلَى الْبلُوغ سَقَطت عَمَّن كَانَ يُرِيد أَن يعق عَنهُ. لَكِن إِن أَرَادَ هُوَ أَن يعق عَن نَفسه فعل. وَقَوله: يَوْم السَّابِع، أَي: من يَوْم الْولادَة، وَهل يحْسب يَوْم الْولادَة؟ وَقَالَ ابْن عبد الْبر: نَص مَالك على أَن أول السَّبْعَة الْيَوْم الَّذِي يَلِي يَوْم الْولادَة إِلَّا أَن ولد قبل طُلُوع الْفجْر، وَكَذَا نَقله الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي. قَوْله: (ويحلق رَأسه) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: يحلق جَمِيع رَأسه لثُبُوت النَّهْي عَن القزع، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ كَرَاهَة حلق رَأس الْجَارِيَة. وَعَن بعض الْحَنَابِلَة يحلق. قلت: هَذَا أولى لِأَن فِي حَدِيث سلمَان: أميطوا عَنهُ الْأَذَى وَمن جملَة الْأَذَى شعر رَأسه الملوث من الْبَطن، وبعمومه يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب. رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: عق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْحسن بِشَاة. وَقَالَ: يَا فَاطِمَة أحلقي رَأسه وتصدقي بزنة شعره فضَّة، فوزناه فَكَانَ وَزنه درهما أَو بعض دِرْهَم. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. قَوْله: (ويسمي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا وَإِن لم يستهل لم يسم. وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ: إِذا ولد وَقد تمّ خلقه يُسمى فِي الْوَقْت إِن شاؤا قَالَ الْمُهلب: وَتَسْمِيَة الْمَوْلُود حِين يُولد وَبعد ذَلِك بليلة وليلتين وَمَا شَاءَ إِذا لم ينْو الْأَب الْعَقِيقَة عِنْد يَوْم سابعه جَائِز وَإِن أَرَادَ أَن ينْسك عَنهُ فَالسنة أَن يُؤَخر تَسْمِيَته إِلَى يَوْم النّسك، وَهُوَ السَّابِع.
3 - (بَابُ: {الفَرَعِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْفَرْع بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وبالعين الْمُهْملَة، وَذكر أَبُو عبيد أَنه بِفَتْح الرَّاء، وَكَذَلِكَ الفرعة، وَهُوَ أول مَا تلده النَّاقة، وَكَانُوا يذبحون ذَلِك لآلهتهم وَقد أفرع الْقَوْم إِذا فعلت إبلهم ذَلِك، وَذكر شمر أَن أَبَا مَالك قَالَ: كَانَ الرجل إِذا تمت إبِله مائَة قدم بكرا فذبحه لصنمه، فَذَلِك الْفَرْع.
5473 - حدَّثنا عَبْدَانُ حدَّثنا عَبْدُ الله أخْبرنا مَعْمَرٌ أخْبَرَنا الزُّهْرِيُّ عَنِ ابنِ المُسَيِّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا فَرَعَ وَلا عَتِيرَةَ.
وَالفَرَعُ أوَّلُ النِّتاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطواغِيتِهِمْ. وَالعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي يروي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن رَافع وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان.
قَوْله: (لَا فرع وَلَا عتيرة) ، قد مر الْآن تَفْسِير الْفَرْع، وَالْعَتِيرَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة(21/88)
وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالراء، وَهِي النسيكة الَّتِي تعتر أَي: تذبح، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يذبحونها فِي الْعشْر الأول من رَجَب ويسمونها الرجبية، وأوله الشَّافِعِي على أَن المُرَاد لَا فرع وَاجِب وَلَا عتيرة وَاجِبَة. قلت: يرد هَذَا التَّأْوِيل إِحْدَى روايتي النَّسَائِيّ فِي هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْفَرْع وَالْعَتِيرَة، وَقد جَاءَ هَكَذَا فِي رِوَايَة لِأَحْمَد أَيْضا. لَا فرع وَلَا عتيرة فصورته نفي وَمَعْنَاهُ نهي.
وَقد اخْتلفت الْأَحَادِيث فِي حكم الْفَرْع وَالْعَتِيرَة فروى النَّسَائِيّ من حَدِيث الْحَارِث بن عَمْرو أَنه لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حجَّة الْوَدَاع الحَدِيث، وَفِيه قَالَ رجل من النَّاس: يَا رَسُول الله {العتائر والفرائع؟ قَالَ: من شَاءَ عتر وَمن شَاءَ لم يعتر، وَمن شَاءَ فرع وَمن شَاءَ لم يفرع، وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي ذَر بن لَقِيط بن عَامر الْعقيلِيّ قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله} إِنَّا كُنَّا نذبح فِي الْجَاهِلِيَّة فِي رَجَب فنأكل ونطعم من جَاءَنَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا بَأْس بِهِ، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سُئِلَ عَنْهَا يَوْم عَرَفَة فَقَالَ: هِيَ حق، يَعْنِي: العتيرة وروى أَيْضا فِيهِ من حَدِيث أنس قَالَ: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله {إِنَّا كُنَّا نعتر فِي الْجَاهِلِيَّة. قَالَ: اذبحوا فِي أَي شهر كَانَ وأطعموا. وروى أَيْضا فِيهِ من حَدِيث يزِيد بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فِي الْإِبِل فرع، وَفِي الْغنم فرع. وروى عبد الرَّزَّاق من حَدِيث حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق عَن عَائِشَة. قَالَت: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالفرع من كل خمسين وَاحِدَة، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مخنف سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة يَقُول: يَا أَيهَا النَّاس إِن على كل أهل بَيت فِي كل عَام أضْحِية وعتيرة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وروى أَبُو دَاوُد عَن نُبَيْشَة، قَالَ: نَادَى رجل: يَا رَسُول الله} إِنَّا كُنَّا نعتر عتيرة فِي الْجَاهِلِيَّة فِي رَجَب، فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: اذبحوا لله فِي أَي شهر كَانَ. قَالَ: إِنَّا كُنَّا نفرع فرعا فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا تَأْمُرنَا؟ فَقَالَ: فِي كل سَائِمَة فرع قَالَ أَبُو قلَابَة: السَّائِمَة مائَة. فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا تدل على الْإِبَاحَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَكَانَ ابْن سِيرِين من بَين الْعلمَاء يذبح العتيرة فِي رَجَب، وَفِي (الْآثَار) للطحاوي، وَكَانَ ابْن عمر يعتر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا وَهُوَ نَص الشَّافِعِي، اسْتِحْبَاب الْفَرْع وَالْعَتِيرَة، وَزعم القَاضِي عِيَاض والحازمي أَن حَدِيث النَّهْي نَاسخ لأحاديث الْإِبَاحَة، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمَعْلُوم أَن النَّهْي لَا يكون إلاَّ عَن شَيْء قد كَانَ يفعل، وَلَا نعلم أَن أحدا من أهل الْعلم يَقُول: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ نَهَاهُم عَنْهُمَا أَي: عَن الْفَرْع وَالْعَتِيرَة، ثمَّ أذن فيهمَا.
قَوْله: (وَالْفرع أول النتيجة) ، إِلَى آخِره ذكر أَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق فِي (كتاب السّنَن) تأليفه: أَن تَفْسِير العتيرة وَالْفرع من كَلَام الزُّهْرِيّ.
4 - (بَابٌ: {فِي العَتِيرَةِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان العتيرة، وَقد مر تَفْسِيرهَا.
5474 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حدَّثَنا عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا فَرَعَ وَلا عَتِيرَةِ.
قَالَ: وَالفَرَعُ أوَّلُ نِتاجٍ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ. وَالعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ.
أعَاد الحَدِيث الْمَذْكُور فِيمَا قبله بِعَيْنِه من رِوَايَة عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. وَاخْتلف فِي سُفْيَان هَذَا فَفِي مُسلم: هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَقَالَ النَّسَائِيّ: حَدثنَا ابْن مثنى عَن أبي دَاوُد عَن شُعْبَة، قَالَ: أخبرنَا حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن معمر وسُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَحدهمَا: لَا فرع وَلَا عتيرة، وَقَالَ الآخر: نهى عَن الْفَرْع وَالْعَتِيرَة. وَالصَّوَاب الأول.
قَوْله: (قَالَ الزُّهْرِيّ: حَدثنَا عَن سعيد) أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ حَال كَونه حَدثنَا عَن سعيد بن الْمسيب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (لطواغيتهم) جمع طاغية وَهِي مَا كَانُوا يعبدونه من الْأَصْنَام وَغَيرهَا.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
وَقعت الْبَسْمَلَة هَكَذَا قبل ذكر الْكتاب فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت، وَوَقعت فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بعد ذكر الْكتاب، وَالْأول أوجه.
72 - (كِتابُ: {الذَّبائِح والصَّيْدِ} )(21/89)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الذَّبَائِح وَأَحْكَام الصَّيْد وَبَيَان التَّسْمِيَة عِنْد إرْسَال الْكَلْب على الصَّيْد، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَأبي ذَر فِي رِوَايَة وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ، وَلأبي الْوَقْت: بَاب بدل كتاب وَسقط للنسفي أصلا، والذبائح جمع ذَبِيحَة بِمَعْنى المذبوحة. قَوْله: (وَالتَّسْمِيَة على الصَّيْد) أَي: وَفِي بَيَان وجوب التَّسْمِيَة على الصَّيْد.
1 - (بَابُ: {التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب التَّسْمِيَة على الصَّيْد، وَلَفظ: بَاب لم يثبت فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَلَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر، وَثَبت للباقين. وَالصَّيْد مصدر من صَاد يصيد صيدا فَهُوَ صائد وَذَاكَ مصيد وَقد يَقع الصَّيْد على المصيد نَفسه تَسْمِيَة بِالْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْله عز وَجل: {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 95) قيل: لَا يُقَال للشَّيْء صيد حَتَّى يكون مُمْتَنعا حَلَالا لَا مَالك لَهُ.
وقَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ الله بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إلَى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ ألِيمٌ} (الْمَائِدَة: 94) وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (الْمَائِدَة: 1) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيِّتَةُ وَالدَّمُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (الْمَائِدَة: 3) .
فِي كثير من النّسخ ذكر هَذِه الْآيَات الثَّلَاث وَهِي فِي الْمَائِدَة الأولى: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد تناله أَيْدِيكُم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} الثَّانِيَة: قَوْله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم غير محلى الصَّيْد وَأَنْتُم حرم إِن الله يحكم مَا يُرِيد} الثَّالِثَة: قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ والمنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع إِلَّا مَا ذكيتم وَمَا ذبح على النصب وَأَن تستقيموا بالأزلام ذَلِكُم فسق الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون} (الْمَائِدَة: 3) وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} إِلَى قَوْله: {فَلَا تخشوهم واخشون} وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد} قَالَ بعض الشُّرَّاح. كَذَا لأبي ذَر، وَقدم وَأخر فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَزَاد بعدقوله: {تناله أَيْدِيكُم ورماحكم} الْآيَة. إِلَى قَوْله: {عَذَاب أَلِيم} وَعند النَّسَفِيّ فِي قَوْله: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} . الْآيَتَيْنِ وَكَذَا لأبي الْوَقْت لَكِن قَالَ إِلَى قَوْله: {فَلَا تخشوهم واخشون} وفرقهما فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم} الْآيَة. نزلت فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة فَكَانَت الْوَحْش وَالطير تغشاهم فِي رحالهم فيتمكنون من صيدها أخذا بِالْأَيْدِي وطعنا بِالرِّمَاحِ جَهرا أَو سرا لتظهر طَاعَة من يُطِيع مِنْهُم فِي سره وجهره، وَقَالَ الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس: ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد تناله أَيْدِيكُم ورماحكم. قَالَ: هُوَ الضَّعِيف من الصَّيْد وصغيره يَبْتَلِي الله بِهِ عباده فِي إحرامهم حَتَّى لَو شاؤوا لتناولوه بِأَيْدِيهِم فنهاهم الله أَن يقربوه، قَالَ مُجَاهِد: تناله أَيْدِيكُم، يَعْنِي: صغَار الصَّيْد وفراخه، ورماحكم كباره. قَوْله: (فَمن اعْتدى بعد ذَلِك) ، أَي: بعد هَذَا الْإِعْلَام والإنذار {فَلهُ عَذَاب أَلِيم} أَي: لمُخَالفَة أَمر الله وشرعه. قَوْله: (أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام) ، هِيَ: الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. قَالَه الْحسن وَقَتَادَة. قَوْله: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم) ، اسْتثِْنَاء من قَوْله: (أحلّت لكم) قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: يَعْنِي بذلك الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ، والمنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع، فَإِن هَذِه وَإِن كَانَت من الْأَنْعَام إِلَّا أَنَّهَا تحرم بِهَذِهِ الْعَوَارِض، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَّا مَا ذكيتم وَمَا ذبح على النصب} مِنْهَا فَإِنَّهُ حرَام لَا يُمكن استدراكه. قَوْله: (غير محلى الصَّيْد) نصب على الْحَال، وَالْمرَاد بالأنعام مَا يعم الْإِنْسِي من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَمَا يعم الوحشي كالظباء وَنَحْوه، فاستثنى من الْإِنْس مَا تقدم، واستثني من الوحشي الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام، وَالْحرم جمع حرَام. قَوْله: (إِن الله يحكم مَا يُرِيد) يَعْنِي: أَن الله حَكِيم فِي جَمِيع مَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ. قَوْله: (حرمت عَلَيْكُم الْميتَة) اسْتثْنى مِنْهَا السّمك وَالْجَرَاد. قَوْله: (وَالدَّم) يَعْنِي: المسفوح. قَوْله: (وَلحم الْخِنْزِير) ، سَوَاء كَانَ إنسيا أَو وحشيا. وَقَوله: (وَاللَّحم يعم جَمِيع أَجْزَائِهِ. قَوْله: (وَمَا أهل لغير الله بِهِ) أَي: مَا ذبح(21/90)
على اسْم غير الله من صنم أَو وثن أَو طاغوت، أَو غير ذَلِك، من سَائِر الْمَخْلُوقَات فَإِنَّهُ حرَام بِالْإِجْمَاع. قَوْله: (والمنخنقة) ، هِيَ الَّتِي تَمُوت بالخنق إِمَّا قصدا أَو اتِّفَاقًا بِأَن تتخبل فِي وثاقها فتموت فَهِيَ حرَام. قَوْله: (والموقوذة) هِيَ الَّتِي تضرب بِشَيْء ثقيل غير مَحْدُود حَتَّى تَمُوت، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يضربونها بالعصا حَتَّى إِذا مَاتَت أكلوها. قَوْله: (والمتردية) ، هِيَ الَّتِي تقع من شَاهِق فتموت بذلك فَتحرم، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِنَّهَا الَّتِي تسْقط من جبل، وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ الَّتِي تتردى فِي بِئْر. قَوْله: (النطيحة) ، هِيَ الَّتِي تَمُوت بِسَبَب نطح غَيرهَا لَهَا وَإِن جرحها الْقرن وسال مِنْهَا الدَّم وَلَو من مذبحها. قَوْله: (وَمَا أكل السَّبع) ، أَي: مَا عدا عَلَيْهَا أَسد أَو فَهد، أَو نمر، أَو ذِئْب أَو كلب فَأكل بَعضهم فَمَاتَتْ بذلك فَهِيَ حرَام وَإِن كَانَ قد سَالَ مِنْهَا الدَّم وَلَو من مذبحها فَهِيَ حرَام بِالْإِجْمَاع. قَوْله: (إِلَّا مَا ذكيتم) ، عَائِد على مَا يُمكن عوده عَلَيْهِ مِمَّا اتّفق سَبَب مَوته وَأمكن تَدَارُكه وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة. وَعَن ابْن عَبَّاس إِلَّا مَا ذبحتم من هَذِه الْأَشْيَاء وَفِيه روح فكلوه فَهُوَ ذكي، وَكَذَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالسُّديّ، وَرُوِيَ عَن طَاوُوس وَالْحسن وَقَتَادَة وَعبيد بن عُمَيْر وَالضَّحَّاك وَغير وَاحِد، أَن المذكاة مَتى تحركت حَرَكَة تدل على بَقَاء الرّوح فِيهَا بعد الذّبْح فَهِيَ حَلَال وَهَذَا مَذْهَب جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، رَحِمهم الله. قَوْله: (وَمَا ذبح على النصب) ، قَالَ مُجَاهِد وَابْن جريج: كَانَت النصب حِجَارَة حول الْكَعْبَة قَالَ ابْن جريج: وَهِي ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ نصبا كَانَت الْعَرَب فِي جَاهِلِيَّتهَا يذبحون عِنْدهَا ويلطخون مَا أقبل مِنْهَا إِلَى الْبَيْت بدماء تِلْكَ الذَّبَائِح ويشرحون اللَّحْم ويضعونه على النصب. قَوْله: (وَأَن تستقسموا بالأزلام) ، أَي: وَحرم عَلَيْكُم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ الاستقسام بالأزلام، وَهُوَ جمع زلم بِفَتْح الزَّاي، وَهِي عبارَة عَن أقداح ثَلَاثَة على أَحدهَا مَكْتُوب افْعَل، وعَلى الآخر: لَا تفعل، وَالثَّالِث: غفل لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء. وَقيل: مَكْتُوب على الْوَاحِد أَمرنِي رَبِّي، وعَلى الآخر: نهاني رَبِّي، وَالثَّالِث غفل لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، فَإِذا جَاءَ السهْم الْآمِر فعله، أَو الناهي تَركه وَإِن طلع الفارغ أعَاد الاستقسام. قَوْله: (ذَلِكُم فسق) ، أَي: تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك. قَوْله: (الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا) ، يَعْنِي: يئسوا أَن يراجعوا دينهم. وَقيل: يئسوا من مشابهة الْمُسلمين بِمَا تميز بِهِ الْمُسلمُونَ من هَذِه الصِّفَات الْمُخَالفَة للشرك وَأَهله وَلِهَذَا أَمر الله عباده الْمُؤمنِينَ أَن يصيروا ويثبتوا فِي مُخَالفَة الْكفَّار وَلَا يخَافُوا أحدا إلاَّ الله تَعَالَى. فَقَالَ: {فَلَا تخشوهم واخشون} . حَتَّى: أَنْصُركُمْ عَلَيْهِم وأظفركم بهم وأشف صدوركم مِنْهُم وأجعلكم فَوْقهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
{وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: العُقُودُ العُهُودُ مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الخِنْزِيرِ} .
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} (الْمَائِدَة: 1) وَفسّر الْعُقُود بالعهود، وَحكى ابْن جرير الْإِجْمَاع على ذَلِك. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: الْعُقُود يَعْنِي: مَا أحل الله وَمَا حرمه وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن كُله. وَلَا تغدروا وَلَا تنكثوا قَوْله: (إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم) . قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب.
{يَجْرِمَنَّكُمْ: يَحْمِلَنَّكُمْ شَنآنُ: عَدَاوَةُ} )
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يجرمنكم شنآن قوم إِن صدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام} (الْمَائِدَة: 2) أَي: لَا يحملنكم بغض قوم على الْعدوان، وَقَرَأَ الْأَعْمَش بِضَم الْيَاء فِي: لَا يجرمنكم وَفسّر قَوْله: شنآن بقوله: عَدَاوَة وقرىء بِسُكُون النُّون أَيْضا، وَأنكر السّكُون من قَالَ: لَا يكون الْمصدر على فعلان.
{المُنْخَنِقَةُ: تُخْنَقُ فَتَمُوتُ. المَوْقُودَةُ، تُضْرَبُ بِالخَشَبِ يُوقِذُها فَتَمُوتُ، وَالمُتَرَدِّيَةُ: تَتَرَدَّى مِنَ الجَبَلِ. وَالنَّطِيحَةُ، تُنْطحُ الشَّاةُ، فَما أدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أوْ بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ} .
قد مر تَفْسِير هَذِه الْأَشْيَاء عَن قريب قَوْله: يوقذها من أَو قذ والموقودة من وقذ يُقَال: وقذه وأوقذه، والوقذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فِي الأَصْل: الضَّرْب المثخن، وَالْكَسْر الْمُؤَدِّي للْمَوْت. قَوْله: (فَمَا أَدْرَكته) ، بِفَتْح التَّاء على خطاب الْحَاضِر. قَوْله: (يَتَحَرَّك) فِي مَوضِع الْحَال أَي: فَمَا أَدْرَكته حَالَة كَونه متحركا بِذَنبِهِ قَوْله: (فاذبح) أَمر من ذبح (وكل) أَمر من أكل.(21/91)