الأَنْصَارِ فَسَأَلَ أنَسا بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ، فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذا الَّذِي أوْ فِي الله لَهُ يَا ذُنِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من آخر الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: هَذَا الَّذِي أوفى الله لَهُ بِإِذْنِهِ، وَذَلِكَ أَن زيد بن أَرقم لما حكى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول عبد الله بن أبي بن سلول، قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَعَلَّه أَخطَأ سَمعك. قَالَ: لَا، فَلَمَّا نزلت الْآيَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة لحق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا من خَلفه فَعَرَكَ أُذُنه فَقَالَ: وَقت أُذُنك يَا غُلَام، وَهُوَ معنى قَوْله: هَذَا الَّذِي أوفى الله لَهُ بِإِذْنِهِ بِضَم الْهمزَة، أَي صدق الله لَهُ بِإِذْنِهِ. أَي: يسمعهُ، وَكَأَنَّهُ جعل أُذُنه كالضامنة بِتَصْدِيق مَا سَمِعت، فَلَمَّا نزل الْقُرْآن بِهِ صَارَت كَأَنَّهَا واقية بضمانها.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده، وَذكره الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) فِي تَرْجَمَة أنس بن مَالك عَن زيد بن أَرقم. قَوْله: (حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله) ، هُوَ ابْن أبي أويس الْمدنِي ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس، وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِضَم الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف ابْن أخي مُوسَى بن عقبَة يروي عَن عَمه مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْأَسدي الْمَدِينِيّ، وَعبد الله بن الْفضل بن الْعَبَّاس بن ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي الْمدنِي من التَّابِعين الصغار الثِّقَات، وَمَاله من البُخَارِيّ عَن أنس إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من أَقْرَان مُوسَى بن عقبَة الرَّاوِي عَنهُ. قَوْله: (حزنت) ، بِكَسْر الزَّاي من الْحزن. قَوْله: (على من أُصِيب بِالْحرَّةِ) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وَهِي أَرض بِظَاهِر الْمَدِينَة فِيهَا حِجَارَة سود كَثِيرَة كَانَت بهَا وقْعَة فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ، وسببها أَن أهل الْمَدِينَة خلعوا بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة لما بَلغهُمْ مَا يعتمده من الْفساد، فَأمر الْأَنْصَار عَلَيْهِم عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر وَأمر الْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِم عبد الله بن مُطِيع الْعَدوي، وَأرْسل إِلَيْهِم يزِيد بن مُعَاوِيَة مُسلم بن عقبَة الْمزي فِي جَيش كثير فَهَزَمَهُمْ واستباحوا الْمَدِينَة. وَقتل من الْأَنْصَار خلق كثير جدا. وَكَانَ أنس يَوْمئِذٍ بِالْبَصْرَةِ قبلغه ذَلِك فَحزن على من أُصِيب من الْأَنْصَار، فَكتب إِلَيْهِ زيد بن أَرقم، وَكَانَ يَوْمئِذٍ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ معنى قَول أنس: فَكتب إِلَيّ، بتَشْديد الْيَاء زيد بن أَرقم الحَدِيث الَّذِي ذكره، وَهُوَ قَوْله: اللَّهُمَّ أَغفر للْأَنْصَار الحَدِيث، وعزى أنسا بذلك. قَوْله: (وبلغه شدَّة حزني) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنه قد بلغ زيد بن أَرقم شدَّة حزني الْقَائِل بذلك أنس. قَوْله: (يذكر) ، أَيْضا حَال. أَي: حَال كَون كِتَابَته يذكر أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَشك ابْن الْفضل) أَي: شكّ عبد الله بن الْفضل: هَل ذكر أَبنَاء الْأَبْنَاء أم لَا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق قَتَادَة: اللَّهُمَّ اغْفِر للْأَنْصَار ولأبناء الْأَنْصَار وَأَبْنَاء أَبنَاء الْأَنْصَار، من غير شكّ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عَليّ بن زيد عَن النَّضر بن أنس عَن زيد بن أَرقم أَنه كتب إِلَى أنس بن مَالك يعزيه فِيمَن أُصِيب من أَهله وَبني عَمه يَوْم الْحرَّة فَكتب إِلَيْهِ إِنِّي أُبَشِّرك ببشرى من الله إِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر للْأَنْصَار ولذراري الْأَنْصَار ولذراري ذَرَارِيهمْ قَوْله: (فَسَأَلَ أنسا بعض من كَانَ عِنْده) لم يعرف هَذَا السَّائِل من هُوَ، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون النَّضر بن أنس فَإِنَّهُ روى حَدِيث الْبَاب عَن زيد بن أَرقم. قلت: هَذَا احْتِمَال بالتخمين فَلَا يُفِيد شَيْئا على أَن عِنْد أنس كَانَت جمَاعَة حِينَئِذٍ، وَزعم ابْن التِّين أَنه وَقع عِنْد الْقَابِسِيّ، فَسَأَلَ أنس بعض من عِنْده: بِرَفْع أنس على الفاعلية، وَنصب بعض على المفعولية، وَالْأول هُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (هُوَ الَّذِي) أَي: زيد بن أَرقم هُوَ الَّذِي يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقه هَذَا الَّذِي أوفى الله لَهُ بأذنه، وَقد مر تَفْسِيره الْآن، وَقيل: يجوز فتح الْهمزَة والذال من أُذُنه أَي: أظهر صدقه فِيمَا أعلم بِهِ، وَمعنى: أوفى صدق.
7 - (بابُ قَوْلِهِ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزَّ مِنْهَا الأذَلَّ وَلله العزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المُنَافِقُونَ: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا} الْآيَة إِلَى آخرهَا، هَكَذَا سَاقهَا الْأَكْثَرُونَ إِلَى آخرهَا. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَمن قَوْله: (يَقُولُونَ) إِلَى قَوْله: (الْأَذَل) .
7094 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْناهُ مِنْ عَمْروٍ بنِ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ كُنَّا فِي غزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ(19/242)
الأنْصَارِ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ يَا لِلأَنْصَارِ وَقَالَ المُهاجِريُّ يَا لِلْمُهَاجِرِينَ فَسَمَّعَها الله رَسُولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا هاذا فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا للأَنْصَارِ وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ يَا لِلْمُهَاجِرِينَ فَقَال النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ قَالَ جِابِرٌ وَكَانَتْ الأنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ المُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ أوَقَدْ فَعَلُوا وَالله لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْها الأذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ رَضِيَ الله عَنهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ الله أضْرِبْ عُنْقَ هاذا المُنافِقِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدا يَقْتُلُ أصْحَابَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده حميد، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، والْحَدِيث مضى قبل الْبَاب الَّذِي سبق هَذَا الْبَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
46 - ( {سُورَةُ التغابُنِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة التغابن، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر سُورَة التغابن وَالطَّلَاق، وَغَيره اقْتصر على سُورَة التغابن وأفرد الطَّلَاق بترجمة، وَهُوَ الْمُنَاسب واللائق. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة بِلَا خلاف، وَقَالَ مقَاتل: مَدَنِيَّة وفيهَا مكي. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: مَكِّيَّة ومدنية، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَكِّيَّة إِلَّا آيَات من آخرهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: والتغابن اسْم من أَسمَاء الْقِيَامَة وَسميت بذلك لِأَنَّهُ يغبن فِيهَا الْمَظْلُوم الظَّالِم، وَقيل: يغبن فِيهَا الْكفَّار فِي تِجَارَتهمْ الَّتِي أخبر الله أَنهم اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى، وَهِي ألف وَسَبْعُونَ حرفا، ومائتان وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة وثمان عشرَة آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لَا خلاف فِي ثُبُوت الْبَسْمَلَة هَاهُنَا.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) هُوَ الَّذِي إذَا أصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ بِهَا وَعَرَفَ أنَّهَا مِنَ الله.
أَي: قَالَ عَلْقَمَة بن قيس عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه وَالله بِكُل شَيْء عليم هُوَ الَّذِي} إِلَى آخِره، وَوَصله عبد بن بن حميد فِي تَفْسِيره عَن عمر بن سعد عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} قَالَ: هُوَ الرجل يصاب بمصيبة فَيعلم أَنَّهَا من عِنْد الله فَيسلم ويرضى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ التغابُنُ غَبْنُ أهْلِ الجَنَّةِ أهْلَ النَّار
كَذَا لأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده، وَوَصله عبد بن حميد بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة: يَوْم التغابن يَوْم غبن أهل الْجنَّة أهل النَّار، أَي: لكَون أهل الْجنَّة بَايعُوا على الْإِسْلَام بِالْجنَّةِ فَرَبِحُوا، وَأهل النَّار امْتَنعُوا من الْإِسْلَام فحسروا فشبهوا بالمتبايعين يغبن أَحدهمَا الآخر فِي بَيْعه.
56 - ( {سُورَةُ الطلاقِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي تَفْسِير بعض سُورَة الطَّلَاق، هَكَذَا لغير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَته سُورَة الطَّلَاق ذكرت مَعَ التغابن كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا بِلَا خلاف، وَقَالَ مقَاتل: وَهِي سُورَة النِّسَاء الصُّغْرَى، قيل: إِنَّهَا نزلت بعد {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} (الْإِنْسَان: 1) وَقيل: {لم يكن} (الْبَيِّنَة: 1) وَهِي ألف وَسِتُّونَ حرفا، ومائتان وتسع وَأَرْبَعُونَ كلمة، واثنتا عشرَة آيَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَبَالَ أمْرِها جَزَاءَ أمْرِها
سقط هَذَا لأبي ذَر. أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فذاقت وبال أمرهَا وَكَانَ عَافِيَة أمرهَا خسرا} (الطَّلَاق: 9) وَفسّر الوبال بالجزاء،(19/243)
رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ. وَالضَّمِير فِي: فذاقت، يرجع إِلَى قَوْله: {وكأين من قَرْيَة عنت عَن أَمر رَبهَا} (الطَّلَاق: 8) .
إنَّ ارْتَبْتُمْ إنْ لَمْ تَعْلَمُوا أتَحِيض أمْ لَا تَحِيضُ: فَاللاَّئِي قَعَدْنَ عَنِ المَحِيضِ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ
هَذَا لأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده، وَأَشَارَ بقوله: (إِن ارتبتم) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر} (الطَّلَاق: 4) الْآيَة. وَفسّر قَوْله: (ارتبتم) بقوله: (إِن لم تعلمُوا) إِلَى آخِره حَاصله إِن لم تعلمُوا حيضهن. قَوْله: (فعدن من الْمَحِيض) أَي: يئسن مِنْهُ لكبر عَن قَوْله: (واللائي لم يحضن بعد) أَي: من الصغر، وَقيل: مَعْنَاهُ إِن ارتبتم فِي حكمهن وَلم تدروا مَا الحكم فِي عدتهن.
8094 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عَنْ ابنِ شهابٍ قَالَ أخْبَرَنِي سَالِمٌ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أخْبَرَهُ أنَّهُ طَلْقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قَالَ لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإنْ بَدَا لَهُ أنْ يُطَلِّقَها فَلْيُطَلِّقْها طَاهِرا قَبْلَ أنْ يَمَسَّها فَتِلْكَ العِدَّةَ كَمَا أمَرَهُ الله.
مطابقته لما فِي السُّورَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل: بِضَم الْعين ابْن خَالِد.
قَوْله: (فتغيظ) ، أَي: غضب فِيهِ لِأَن الطَّلَاق فِي الْحيض بِدعَة. قَوْله: (فَإِن بدا لَهُ) أَي: فَإِن ظهر لَهُ أَن يطلقهَا، وَكلمَة: أَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (طَاهِرا) أَي: حَال كَونهَا طَاهِرَة وَإِنَّمَا ذكره بِلَفْظ التَّذْكِير لِأَن الطُّهْر من الْحيض من المختصات بِالنسَاء فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّاء، كَمَا فِي الْحَائِض. قَوْله: (قبل أَن يَمَسهَا) ، أَي: قبل أَن يُجَامِعهَا. قَوْله: (فَتلك الْعدة) ، أَي: هِيَ الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء حَيْثُ قَالَ: {فطلقوهن لعدتهن} ثمَّ أعلم أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة عَن ابْن عمر: فَالْبُخَارِي أخرجه هُنَا وَفِي الطَّلَاق وَفِي الْأَحْكَام وَالْبَاقُونَ فِي الطَّلَاق، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد روى هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: رَوَاهُ عَن ابْن عمر نَافِع وَعبد الله بن دِينَار وَأنس بن سِيرِين وطاووس وَأَبُو الزبير وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو وَائِل. فرواية نَافِع عِنْد السِّتَّة غير التِّرْمِذِيّ، وَرِوَايَة عبد الله بن دِينَار عِنْد مُسلم وَرِوَايَة أنس بن سِيرِين عِنْد الشَّيْخَيْنِ، وَرِوَايَة طَاوُوس عِنْد مُسلم وَالنَّسَائِيّ، وَرِوَايَة أبي الزبير عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَرِوَايَة سعيد بن جُبَير عِنْد النَّسَائِيّ. وَرِوَايَة أبي وَائِل عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
ويستنبط مِنْهُ أَحْكَام: الأول: أَن طَلَاق السّنة أَن يكون فِي طهر، وَهَذَا بَاب اخْتلفُوا فِيهِ. فَقَالَ مَالك: طَلَاق السّنة أَن يُطلق الرجل امْرَأَته فِي طهر لم يَمَسهَا فِيهِ تَطْلِيقَة وَاحِدَة ثمَّ يَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة بِرُؤْيَة أول الدَّم من الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذَا أحسن من الطَّلَاق، وَله فِي قَول آخر قَالَ إِذا أَرَادَ أَن يطلقهَا ثَلَاثًا، طَلقهَا عِنْد كل طهر وَاحِدَة من غير جماع، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأَشْهَب، وَزعم المرغيناني: أَن الطَّلَاق على ثَلَاثَة أوجه عِنْد أَصْحَاب أبي حنيفَة حسن وَأحسن وبدعي، فالحسن هُوَ طَلَاق السّنة وَهُوَ أَن يُطلق الْمَدْخُول بهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَة أطهار، وَالْأَحْسَن أَن يطلقهَا تَطْلِيقَة وَاحِدَة فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ وَيَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا والبدعي أَن يطلقهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَة وَاحِدَة أَو ثَلَاثًا فِي طهر وَاحِد فَإِذا فعل ذَلِك وَقع الطَّلَاق وَكَانَ عَاصِيا.
وَقَالَ عِيَاض: اخْتلف الْعلمَاء فِي صفة الطَّلَاق السّني. فَقَالَ مَالك وَعَامة أَصْحَابه، هُوَ أَن يُطلق الرجل امْرَأَته تَطْلِيقَة وَاحِدَة فِي طهر لم يَمَسهَا فِيهِ ثمَّ يَتْرُكهَا حَتَّى تكمل عدتهَا، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: هَذَا أحسن الطَّلَاق، وَله قَول آخر إِنَّه إِن شَاءَ أَن يطلقهَا ثَلَاثًا طَلقهَا فِي كل طهر مرّة وَكِلَاهُمَا عِنْد الْكُوفِيّين طَلَاق سنة، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود، وَاخْتلف فِيهِ قَول أَشهب فَقَالَ مثله مرّة وَأَجَازَ أَيْضا ارتجاعها ثمَّ يُطلق ثمَّ يرتجع ثمَّ يُطلق فَيتم الثَّلَاث وَقَالَ الشَّافِعِي(19/244)
وَأحمد وَأَبُو ثَوْر، لَيْسَ فِي عدد الثَّلَاثَة سنة وَلَا بِدعَة وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْوَقْت.
الثَّانِي: فِي قَوْله: (ليراجعها) دَلِيل، على أَن الطَّلَاق غير الْبَائِن لَا يحْتَاج إِلَى رضَا الْمَرْأَة.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن الرّجْعَة تصح بالْقَوْل وَلَا خلاف فِي ذَلِك، وَأما الرّجْعَة بِالْفِعْلِ فقد اخْتلفُوا فِيهَا. فَقَالَ عِيَاض: وَتَصِح عندنَا أَيْضا بِالْفِعْلِ الْحَال مَحل القَوْل الدَّال فِي الْعبارَة على الارتجاع: كَالْوَطْءِ والتقبيل واللمس بِشَرْط الْقَصْد إِلَى الارتجاع بِهِ، وَأنكر الشَّافِعِي صِحَة الارتجاع بِالْفِعْلِ أصلا وأثبته أَبُو حنيفَة، وَإِن وَقع من غير قصد وَهُوَ قَول ابْن وهب من أَصْحَابنَا فِي الواطىء من غير قصد.
وَالرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة أَن من طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض فقد أَثم، وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يُرَاجِعهَا فَإِن تَركهَا تمْضِي فِي الْعدة بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاق.
الْخَامِس: أَن فِيهِ الْأَمر بالمراجعة، فَقَالَ مَالك: هَذَا الْأَمر مَحْمُول على الْوُجُوب، وَمن طلق زَوجته حَائِضًا أَو نفسَاء. فَإِنَّهُ يجْبر على رَجعتهَا فسوى دم النّفاس بِدَم الْحيض، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَابْن أبي ليلى وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: يُؤمر بالرجعة وَلَا يجْبر، وحملوا الْأَمر فِي ذَلِك على النّدب ليَقَع الطَّلَاق على السّنة، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا إِذا انْقَضتْ عدتهَا لَا يجْبر على رَجعتهَا، وَأَجْمعُوا على أَنه إِذا طَلقهَا فِي طهر قد مَسهَا فِيهِ لَا يجْبر على رَجعتهَا وَلَا يُؤمر بذلك، وَإِن كَانَ قد أوقع الطَّلَاق على غير سنة.
السَّادِس: أَن الطَّلَاق فِي الْحيض محرم وَلكنه إِن أوقع لزم، وَقَالَ عِيَاض: ذهب بعض النَّاس مِمَّن شَذَّ أَنه لَا يَقع الطَّلَاق. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي منع الطَّلَاق فِي الْحيض. قلت: هَذِه عبَادَة غير معقولة الْمَعْنى، وَقيل: بل هُوَ معال بتطويل الْعدة.
2 - (بابٌ: {أُولاتُ الأحْمَالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} (الطَّلَاق: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أولات الْأَحْمَال} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ لفظ بَاب: فِي كثير من النّسخ، وَيَجِيء الْآن تَفْسِير: أولات الْأَحْمَال.
وَأَوْلاتُ الأحْمَالِ: وَاحِدُها ذَاتُ حَمْلٍ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أولات جمع ذَات، والأحمال جمع حمل، وَالْمعْنَى: أَن أَجلهنَّ موقت وَهُوَ وضع حَملهنَّ، وَهَذَا عَام فِي المطلقات والمتوفى عَنْهُن أَزوَاجهنَّ، وَهُوَ قَول عمر وَابْنه مَسْعُود وَأبي مَسْعُود البدري وَأبي هُرَيْرَة وفقهاء الْأَمْصَار، وَعَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: تَعْتَد أبعد الآجلين، وَعَن الضَّحَّاك أَنه قَرَأَ: آجالهن على الْجمع.
9094 - حدَّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابنِ عَبَّاسٍ وَأبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ أفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلِدَتْ بَعْدَ زَوْجِها بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ آخِرُ الأجَلَيْنِ قُلْتُ أنَا {وَأُولاتُ الأحْمَالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ أنَا مَعَ ابْن أخِي يَعْنِي أبَا سَلَمَةَ فأرْسَلَ ابنُ عَبَّاسٍ غُلامَهُ كُرَيْبا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُها فَقَالَتْ قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَت فَأنْكَحَهَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ أبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ أَبُو مُعَاوِيَة، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير صَالح من أهل الْبَصْرَة سكن الْيَمَامَة، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَغَيره فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله.
قَوْله: (وَأَبُو هُرَيْرَة) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (آخر الْأَجَليْنِ) أَي: اقصاهما يَعْنِي: لَا بُد لَهَا من انْقِضَاء أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَلَا يَكْفِي وضع الْحمل إِن كَانَت هَذِه الْمدَّة أكثرهما، وَمن وضع الْحمل إِن كَانَت مدَّته أَكثر. قَوْله: (قلت أَنا) ، الْقَائِل أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن قَوْله: (أَنا مَعَ ابْن أخي) ، هَذَا على عَادَة الْعَرَب إِذْ لَيْسَ هُوَ ابْن أَخِيه حَقِيقَة. قَوْله: (كريبا) نصب لِأَنَّهُ عطف بَيَان على قَوْله: (غُلَاما) قَوْله: (سبيعة) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ عين مُهْملَة: بنت الْحَارِث(19/245)
الْأَسْلَمِيّ، قيل: إِنَّهَا أول امْرَأَة أسلمت بعد صلح الْحُدَيْبِيَة وَزوجهَا سعد بن خَوْلَة. قَالَ عُرْوَة: خَوْلَة من بني عَامر بن لؤَي، وَكَانَ من مهاجرة الْحَبَشَة وَشهد بَدْرًا. فَإِن قلت: قَالَ فِي الْجَنَائِز: إِن سعد بن خَوْلَة مَاتَ بِمَكَّة وَفِي قصَّة بدر توفّي عَنْهَا، وَهنا قَالَ: قتل؟ قلت: الْمَشْهُور الْمَوْت لَا الْقَتْل، وَأَنَّهَا قَالَت بِالْقَتْلِ بِنَاء على ظَنّهَا. قَوْله: (بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة) ، وَجَاء بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَجَاء بِخمْس وَعشْرين لَيْلَة وَجَاء: بِثَلَاث وَعشْرين لَيْلَة وَفِي رِوَايَة: بِعشْرين لَيْلَة، وَهَذَا كُله فِي تَفْسِير عبد وَابْن مرْدَوَيْه وَمُحَمّد بن جرير. قَوْله: (فَخطبت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَبُو السنابل) ، هُوَ ابْن يعكك واسْمه لبيد، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: عبد الله، وَقيل: أَصْرَم، وَقيل: حَبَّة بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: حنة بالنُّون، وَقيل: لبيد ربه، وبعكك، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة. وبكافين أولاهما مَفْتُوحَة ابْن الْحجَّاج بن الْحَارِث بن السباق بن عبد الدَّار بن قصي الْقرشِي الْعَبدَرِي، وَأمه عمْرَة بنت أَوْس من بني عذرة ابْن سعد هذيم من مسلمة الْفَتْح. كَانَ شَاعِرًا وَمَات بِمَكَّة. قَالَه أَبُو عمر، وَقَالَ العسكري: هَذَا غير أبي السنابل عبد الله بن عَامر ابْن كريز الْقرشِي.
وَفقه هَذَا الحَدِيث: أَن الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا آخر الْأَجَليْنِ عِنْد ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن أبي ليلى أَيْضا وَاخْتَارَهُ سَحْنُون، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رُجُوعه وانقضاء الْعدة بِوَضْع الْحمل وَعَلِيهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَعَمْرو ابْن مَسْعُود وَأبي سَلمَة. وَسبب الْخلاف تعَارض الْآيَتَيْنِ فَإِن كلاًّ مِنْهُمَا عَام من وَجه وخاص من وَجه. فَقَوله: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم} (الْبَقَرَة: 432، 042) عَام فِي الْمُتَوفَّى عَنْهُن أَزوَاجهنَّ سَوَاء كن حوامل أم لَا وَقَوله: {وَأولَات الْأَحْمَال} (الطَّلَاق: 4) عَام فِي المتوفي عَنْهُن سَوَاء كن حوامل أم لَا. فَهَذَا هُوَ السَّبَب فِي اخْتِيَار من اخْتَار أقْصَى الْأَجَليْنِ لعدم تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر فَيُوجب أَن لَا يرفع تَحْرِيم الْعدة إلاَّ بِيَقِين، وَذَلِكَ بأقصى الْأَجَليْنِ، غير أَن فُقَهَاء الْأَمْصَار اعتمدوا على الحَدِيث الْمَذْكُور فَإِنَّهُ مُخَصص لعُمُوم قَوْله: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم} وَلَيْسَ بناسخ لِأَنَّهُ أخرج بعض متناولاتها، وَحَدِيث سبيعة أَيْضا مُتَأَخّر عَن عدَّة الْوَفَاة لِأَنَّهُ كَانَ بعد حجَّة الْوَدَاع.
0194 - حدَّثنا وَقَالَ سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وَأبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْد عَنْ أيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كُنْتُ فِي حَلَقَةٍ فِيهَا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنْ أبِي لَيْلَى وَكَانَ أصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ فَذَكَرَ آخِرَ الأجَلَيْنِ فَحَدَّثْتُ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عتْبَةَ قَالَ فَضَمِنَ لِي بَعْضُ أصْحَابِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ فَفَطِنْتُ لَهُ فَقُلْتُ إنِّي إذَا لَجَرِيءٌ إنْ كَذَبْتُ عَلَى عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الكُوفَةِ فَاسْتَحْيَا وَقَال لَكِنَّ عَمَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَاكَ فَلَقِيتُ أبَا عَطِيَةَ مَالِكَ بنَ عَامِرٍ فَسَأَلْتُهُ فَذَهَبَ يُحَدِّثُنِي حَدِيثَ سُبَيْعَةَ فَقُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ عَنْ عَبْدِ الله فِيهَا شَيْئا فَقَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ الله فَقَالَ أتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ القُصْرَى بَعْدَ الطَّولَى {وَأُولاتُ الأحْمَالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
ذكر هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا عَن شَيْخه سُلَيْمَان بن حَرْب، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل الْمَعْرُوف بعارم كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد ابْن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) قَالَ حَدثنَا يُوسُف القَاضِي عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب. قَالَ: وَحدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَن أبي النُّعْمَان قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد فَذكره وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي سُورَة الْبَقَرَة عَن حبَان عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن عبد الله بن عون عَن مُحَمَّد بن سِيرِين. قَالَ: جَلَست إِلَى مجْلِس فِيهِ عظم من الْأَنْصَار وَفِيهِمْ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. الحَدِيث.
قَوْله: (فِي حَلقَة) بِفَتْح اللَّام وَالْمَشْهُور إسكانها. وَاقْتصر ابْن التِّين على الأول. قَوْله: (عبد الله بن عتبَة) بِضَم الْعين وَسُكُون التَّاء من فَوق ابْن مَسْعُود. قَوْله: (فضمن لي) ، قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) هَكَذَا فِي نُسْخَة سَمَاعنَا بالنُّون، وَقَالَ عِيَاض: فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بتَشْديد الْمِيم بعْدهَا نون وضبطها الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْكَسْر، قَالَ: وَهُوَ غير مَفْهُوم الْمَعْنى وأشبهها رِوَايَة أبي الْهَيْثَم بالزاي، وَلَكِن بتَشْديد الْمِيم وَزِيَادَة النُّون وياء بعْدهَا يَعْنِي: ضمزني. أَي: أسكتني، يُقَال: ضمز سكت وضمز غَيره أسكته(19/246)
وَقَالَ ابْن التِّين فضمر، بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْمِيم الْمُشَدّدَة وبالراء أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ أَن اسْكُتْ، وَيُقَال: ضمز الرجل إِذا عض على شَفَتَيْه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير أَيْضا بالضاد وَالزَّاي من ضمز إِذا سكت، ويروى: فغمض لي، فَإِن صحت فَمَعْنَاه من تغميض عينه. قَوْله: (ففطنت لَهُ) ، بِالْفَتْح وَالْكَسْر. قَوْله: (أَنى إِذا لجريء) ، يَعْنِي: ذُو جرْأَة شَدِيدَة، وَفِي رِوَايَة هشيم عَن ابْن سِيرِين عِنْد عبد بن حميد: أَنِّي لحريص على الْكَذِب. قَوْله: (وَهُوَ فِي نَاحيَة الْكُوفَة) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن عبد الله بن عتبَة كَانَ حَيا فِي ذَلِك الْوَقْت. قَوْله: (فاستحيي) ، أَي مِمَّا وَقع مِنْهُ. قَوْله: (لَكِن عَمه) ، عبد الله بن مَسْعُود لم يقل ذَلِك. قيل: كَذَا نقل عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَالْمَشْهُور عَن ابْن مَسْعُود خلاف مَا نَقله ابْن أبي ليلى، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقُول ذَلِك ثمَّ رَجَعَ أَو وهم النَّاقِل عَنهُ. قَوْله: (فَلَقِيت أَبَا عَطِيَّة مَالك بن عَامر) ، وَيُقَال: ابْن زبيد، وَيُقَال: عَمْرو بن أبي جُنْدُب الْهَمدَانِي الْكُوفِي التَّابِعِيّ، مَاتَ فِي ولَايَة صَعب بن الزبير على الْكُوفَة. وَالْقَائِل بقوله: لقِيت أَبَا عَطِيَّة مُحَمَّد بن سِيرِين. قَوْله: (فَسَأَلته) ، أَرَادَ بِهِ التثبيت. قَوْله: (فَذهب يحدثني حَدِيث سبيعة) ، يَعْنِي: مثل مَا حدث بِهِ عبد الله بن عتبَة عَنْهَا. قَوْله: (من عبد الله) ، يَعْنِي: ابْن مَسْعُود، وَأَرَادَ بِهِ اسْتِخْرَاج مَا عِنْده فِي ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود دون غَيره لما وَقع من التَّوَقُّف عِنْده فِيمَا أخبرهُ بِهِ ابْن أبي ليلى. قَوْله: (فَقَالَ: كُنَّا عِنْد عبد الله) ، أَي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظ) ؟ أَي: طول الْعدة بِالْحملِ إِذا زَادَت مدَّته على مُدَّة الْأَشْهر، وَقد يَمْتَد ذَلِك حَتَّى يُجَاوز تِسْعَة أشهر إِلَى أَربع سِنِين. أَي: إِذا جعلتم التَّغْلِيظ عَلَيْهَا فاجعلوا لَهَا الرُّخْصَة. أَي: التسهيل إِذا وضعت لأَقل من أَرْبَعَة أشهر. قَوْله: (لنزلت) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد لقسم مَحْذُوف، ويوضحه رِوَايَة الْحَارِث بن عُمَيْر، وَلَفظه: فوَاللَّه لقد نزلت. قَوْله: (سُورَة النِّسَاء الْقصرى) ، سُورَة الطَّلَاق. وفيهَا: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} (الطَّلَاق: 4) قَوْله: (بعد الطُّولى) لَيْسَ المُرَاد مِنْهَا سُورَة النِّسَاء، بل المُرَاد السُّورَة الَّتِي هِيَ أطول سور الْقُرْآن وَهِي الْبَقَرَة، وفيهَا: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم} (الْبَقَرَة: 432، 042) وَفِيه جَوَاز وصف السُّورَة بالطولى والقصرى، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْقصرى لَا أرَاهُ مَحْفُوظًا وَلَا صغرى، وَإِنَّمَا قَالَ: قَصِيرَة فَافْهَم، هُوَ رد للْأَخْبَار الثَّابِتَة بِلَا مُسْتَند وَالْقصر والطول أَمر نسبي، ورد فِي صفة الصَّلَاة. طولى الطولتين، وأزيد بذلك سُورَة الْأَعْرَاف.
66 - (سُورَةُ {لَمَ تُحَرِّمُ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {لم تحرم} وَفِي بعض النّسخ: سُورَة التَّحْرِيم. وَفِي بَعْضهَا: سُورَة المتحرم، وَهِي مَدَنِيَّة لَا خلاف فِيهَا. وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الحجرات وَقبل سُورَة الْجُمُعَة. وَقيل: نزلت فِي تَحْرِيم مَارِيَة، أخرجه النَّسَائِيّ وَصَححهُ الْحَاكِم على شَرط مُسلم. وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِي إِسْنَاده نظر. وَنَقله الْخطابِيّ عَن أَكثر الْمُفَسّرين، وَالصَّحِيح أَنه فِي الْغسْل، وَقَالَ النَّسَائِيّ: حَدِيث عَائِشَة فِي الْغسْل جيد غَايَة، وَحَدِيث مَارِيَة وتحريمها لم يَأْتِ من طَرِيق جَيِّدَة، وَهِي ألف وَسِتُّونَ حرفا ومائتان وَسبع وَأَرْبَعُونَ كلمة. واثنتا عشرَة آيَة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
1 - (بابٌ: {يَا أيُّهَا النبيُّ لَمْ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} )
لَيْسَ فِيهِ لفظ بَاب إلاَّ لأبي ذَر، وَالْكل ساقوا الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى رَحِيم، وَقد ذكرنَا الْآن الِاخْتِلَاف فِي سَبَب نُزُولهَا وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1194 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضَالَةَ حدَّثنا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى هُوَ يَعْلَى بنُ حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ فِي الحَرَامِ يُكَفَّرُ، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 12) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تَأْخُذ من قَوْله: {لم تحرم مَا أحل الله لَك} لِأَن فِي تَحْرِيم الْحَلَال كَفَّارَة، ومعاذ، بِضَم الْمِيم وبالعين الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة: الزهْرَانِي هِشَام والدستوائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير ضد الْقَلِيل(19/247)
ويعلى بن حَكِيم بِفَتْح الْحَاء الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام. قَالَ كتب إِلَى يحيى بن أبي كثير أَنه يحدث عَن يعلى بن حَكِيم عَن سعيد بن جُبَير، فَذكره، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن وهب بن جرير عَن هِشَام كَذَلِك. فَإِن قلت: كَيفَ حَال رِوَايَة البُخَارِيّ على هَذَا. قلت: قَالُوا يحْتَمل أَنه لم يطلع على هَذِه الْعلَّة إِذْ لَو اطلع عَلَيْهَا لذكرها، وَلَيْسَ بِجَوَاب كافٍ وَقيل: لَعَلَّ الْكِتَابَة وَالْأَخْبَار عِنْده سَوَاء لِأَنَّهُ قد صرح فِي (الْجَامِع) بِالْكِتَابَةِ فِي غير مَوضِع، ورد هَذَا بِأَن الْمُكَاتبَة عِنْده عِلّة يجب إظهارها إِذا علمهَا، وَفِي أَي مَوضِع ذكرهَا أظهرها، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِي غير مَوضِع، ورد هَذَا بِأَن الْمُكَاتبَة عِنْده عِلّة يجب إظهارها إِذا علمهَا، وَفِي أَي مَوضِع ذكرهَا أظهرهها وَالْأَحْسَن أَن يُقَال إِنَّه يحمل على أَن عِنْده أَن هشاما لَقِي يحيى فحدثه بعد أَن كَانَ كتب لَهُ بِهِ، وَرَوَاهُ لِمعَاذ بِالسَّمَاعِ الثَّانِي، ولإسماعيل بِالْكتاب الأول، وَذكر أَبُو عَليّ أَن فِي نُسْخَة ابْن السكن معَاذ بن فضَالة أخبرنَا هِشَام عَن يحيى عَن يعلى، وَفِي نُسْخَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ عَن الفريري. أخبرنَا هِشَام عَن يحيى بن حَكِيم عَن سعيد، قَالَ أَبُو عَليّ: وَهَذَا خطأ فَاحش وَصَوَابه هِشَام عَن يحيى عَن يعلى كَمَا رَوَاهُ ابْن السكن.
قَوْله: (يكفر) بِكَسْر الْفَاء أَي: يكفر من وَقع ذَلِك مِنْهُ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن وَحده: يكفر بِفَتْح الْفَاء أَي: إِذا قَالَ: أَنْت عليّ حرَام أَو هَذَا عليّ حرَام يكفر كَفَّارَة الْيَمين وَعَن ابْن عَبَّاس: إِذا حرم امْرَأَته لَيْسَ شَيْء، وَعند النَّسَائِيّ وَسُئِلَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْك بِحرَام عَلَيْك الْكفَّار عتق رَقَبَة، وَقَالَ ابْن بطال عَنهُ: يلْزمه كَفَّارَة الظِّهَار، قَالَ: وَهُوَ قَول أبي قلَابَة وَابْن جُبَير وَهُوَ قَول أَحْمد، وَعَن الشَّافِعِي: إِذا قَالَ لزوجته: أَنْت عليّ حرَام إِن نوى طَلَاقا كَانَ طَلَاقا، وَإِن نوى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا وَإِن نوى تَحْرِيم عينهَا بِغَيْر طَلَاق وَلَا ظِهَار لزمَه بِنَفس اللَّفْظ كَفَّارَة يَمِين، وَلَا يكن ذَلِك يَمِينا. وَإِن لم ينْو شَيْئا فَفِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا تلْزمهُ كَفَّارَة يَمِين، وَالثَّانِي أَنه لَغْو لَا شَيْء فِيهِ. وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء من الْأَحْكَام.
وَذكر عِيَاض فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَرْبَعَة عشر مذهبا: أَحدهَا: الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك إِنَّه يَقع بِهِ ثَلَاث تَطْلِيقَات سَوَاء كَانَت مَدْخُولا بهَا أم لَا لَكِن لَو نوى أقل من ثَلَاث قبل فِي غير الْمَدْخُول بهَا خَاصَّة، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب وَزيد وَالْحسن وَالْحكم. وَالثَّانِي: أَنه يَقع تَطْلِيقَات وَلَا تقبل نيتة فِي الْمَدْخُول بهَا وَلَا غَيرهَا، قَالَه ابْن أبي ليلى وَعبد الْملك بن الْمَاجشون. الثَّالِث: أَنه يَقع بِهِ على الْمَدْخُول بهَا ثَلَاث وعَلى غَيرهَا وَاحِدَة. قَالَه أَبُو مُصعب وَمُحَمّد بن عبد الحكم. الرَّابِع: أَنه يَقع بِهِ طَلْقَة وَاحِدَة بَائِنَة سَوَاء الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا، وَهِي رِوَايَة عَن مَالك. الْخَامِس: أَنَّهَا طَلْقَة رَجْعِيَّة، قَالَه عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة الْمَالِكِي. السَّادِس: أَنه يَقع مَا نوى وَلَا يكون أقل من طَلْقَة وَاحِدَة. قَالَه الزُّهْرِيّ. السَّابِع: أَنه إِن نوى وَاحِدَة أَو عددا أَو يَمِينا فَلهُ مَا نوى وإلاَّ فلغو قَالَه الثَّوْريّ. الثَّامِن: مثله إلاَّ أَنه إِذا لم ينْو شَيْئا لزمَه كَفَّارَة يَمِين قَالَه الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر. التَّاسِع: مَذْهَب الشَّافِعِي الْمَذْكُور قبل، وَهُوَ قَول أبي بكر وَعمر وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. الْعَاشِر: إِن نوى الطَّلَاق وَقعت طَلْقَة بَائِنَة، وَإِن نوى ثَلَاثًا وَقع الثَّلَاث وَإِن نوى اثْنَتَيْنِ وَقعت وَاحِدَة. وَإِن لم ينْو شَيْئا فيمين، وَإِن نوى الثَّلَاث كفر قَالَه أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. الْحَادِي عشر: مثل الْعَاشِر إلاَّ أَنه إِذا نوى اثْنَتَيْنِ وقعتا، قَالَه زفر. الثَّانِي عشر: أَنه يجب كَفَّارَة الظِّهَار قَالَه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه. الثَّالِث عشر: هِيَ يَمِين يلْزم فِيهَا كَفَّارَة الْيَمين، قَالَه ابْن عَبَّاس وَبَعض التَّابِعين وَعنهُ: لَيْسَ بِشَيْء. الرَّابِع عشر: أَنه كتحريم المَاء وَالطَّعَام فَلَا يجب فِيهِ شَيْء أصلا وَلَا يَقع بِهِ شَيْء بل هُوَ لَغْو قَالَه مَسْرُوق وَأَبُو سَلمَة وَالشعْبِيّ وإصبغ.
2194 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبَرَنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدَ بنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَها فَوَاطَئْتُ أنَا وَحَفْصَةُ عَنْ أيَتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْنَقُلْ لَهُ أكَلْتَ مَغَافِيرَ إنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ قَالَ لَا وَلاكِنِّي كُنْتُ أشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَلَنْ أعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذالِكَ أحَدا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقد حَلَفت) وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء الرَّازِيّ يعرف بالصغير، وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز(19/248)
ابْن جريج، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَعبيد بن عُمَيْر كِلَاهُمَا بِالتَّصْغِيرِ أَبُو عَاصِم اللَّيْثِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق وَفِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان وَالنُّذُور وَفِي عشرَة النَّسَائِيّ عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي وَفِي الطَّلَاق وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (عِنْد زَيْنَب بنت جحش) ، ويروى: ابْنة جحش وَهِي إِحْدَى زَوْجَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فواظيت) ، هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ وَأَصله: فواطأت، بِالْهَمْزَةِ أَي: اتّفقت أَنا وَحَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب إِحْدَى زَوْجَاته. قَوْله: (عَن أَيَّتنَا) أَي: عَن أَيَّة كَانَت منا، (دخل عَلَيْهَا) يَعْنِي: على أَيَّة زَوْجَة من زَوْجَاته دخل عَلَيْهَا. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لعَائِشَة وَحَفْصَة الْكَذِب والمواطأة الَّتِي فِيهَا إِيذَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: كَانَت عَائِشَة صَغِيرَة مَعَ أَنَّهَا وَقعت مِنْهُمَا من غير قصد الْإِيذَاء، بل على مَا هُوَ من جبلة النِّسَاء فِي الْغيرَة على الضرائر وَنَحْوهَا، وَاخْتلف فِي الَّتِي شرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا الْعَسَل، فَعِنْدَ البُخَارِيّ: زَيْنَب كَمَا ذكرت وَأَن القائلة: أكلت مَغَافِير، عَائِشَة وَحَفْصَة، وَفِي رِوَايَة حَفْصَة: وَأَن القائلة أكلت مَغَافِير، عَائِشَة وَسَوْدَة وَصفِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن، وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: أَنَّهَا سَوْدَة، وَكَانَ لَهَا أقَارِب أهدوا لَهَا عسلاً من الْيمن، وَالْقَائِل لَهُ عَائِشَة وَحَفْصَة، وَالَّذِي يظْهر أَنَّهَا زَيْنَب على مَا عِنْد البُخَارِيّ لِأَن أَزوَاجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كن حزبين على مَا ذكرت عَائِشَة قَالَت: أَنا وَسَوْدَة وَحَفْصَة وَصفِيَّة فِي حزب، وَزَيْنَب وَأم سَلمَة والباقيات فِي حزب. قَوْله: (أكلت مَغَافِير) ، بِفَتْح الْمِيم بعْدهَا غين مُعْجمَة: جمع مغْفُور، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة لَيْسَ فِي الْكَلَام مفعول إلاَّ مغْفُور ومغرور، وَهُوَ ضرب من الكمأة ومنجور وَهُوَ المنجر ومغلوق وَاحِد المغاليق، والمغفور صمغ حُلْو كالناطف وَله رَائِحَة كريهة ينضجه شجر يُسمى العرفط بِعَين مُهْملَة مَضْمُومَة وَفَاء مَضْمُومَة نَبَات مر لَهُ ورقة عريضة تنفرش على الأَرْض وَله شَوْكَة وَثَمَرَة بَيْضَاء كالقطن مثل زر قَمِيص خَبِيث الرَّائِحَة، وَزعم الْمُهلب أَن رَائِحَة العرفط والمغافير حَسَنَة. انْتهى، وَهُوَ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ الحَدِيث، وَمَا قَالَه النَّاس، قَالَ أهل اللُّغَة: العرفط من شجر الْعضَاة، وَهُوَ كل شجر لَهُ شوك، وتخبث رَائِحَة داعيته وروائح أَلْبَانهَا حَتَّى يتَأَذَّى بروائحها وأنفاسها النَّاس فيجتنبونها، وَحكى أَبُو حنيفَة فِي المغفور والمغثور بثاء مُثَلّثَة وَمِيم المغفور من الْكَلِمَة، وَقَالَ الْفراء: زَائِدَة وواحده مغفر وَحكى غَيره: مغفر، وَقَالَ آخَرُونَ: مغفار، وَقَالَ الْكسَائي: مغفر. قلت: الأولى بِفَتْح الْمِيم. وَالثَّانِي: بضَمهَا. وَالثَّالِث: على وزن مفعال بِالْكَسْرِ. وَالرَّابِع: بِكَسْر الْمِيم، فَافْهَم. قَوْله: (قَالَ: لَا) ، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أكلت مَغَافِير وَلَكِنِّي كنت أشْرب الْعَسَل عِنْد زَيْنَب. قَوْله: (فَلَنْ أَعُود لَهُ) ، أَي: حَلَفت أَنا على أَن لَا أَعُود لشرب الْعَسَل. قَوْله: (فَلَا تُخْبِرِي) ، الْخطاب لحفصة لِأَنَّهَا هِيَ القائلة: أكلت مَغَافِير، أَو غَيرهَا على خلاف فِيهِ، أَي: لَا تُخْبِرِي أحدا عَائِشَة أَو غَيرهَا بذلك. وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَبْتَغِي بذلك مرضاة أَزوَاجه، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْأَكْثَر على أَن الْآيَة نزلت فِي تَحْرِيم مَارِيَة الْقبْطِيَّة حِين حرمهَا على نَفسه، وَقَالَ لحفصة: لَا تُخْبِرِي عَائِشَة فَلم تكْتم السِّرّ، وأخبرتها فَفِي ذَلِك نزل {وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} (التَّحْرِيم: 3) .
2 - (بابٌ: {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمَانِكُمْ} (التَّحْرِيم: 1)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {تبتغي} أَي: تطلب رضَا أَزوَاجك وتحلف (قد فرض الله) أَي: بَين الله أَو قدر الله مَا تحللون بِهِ أَيْمَانكُم وَقد بَينهَا فِي سُورَة الْمَائِدَة.
406 - حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عبد الله حَدثنَا سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى عَن عبيد بن حنين أَنه سمع ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يحدث أَنه. قَالَ مكثت سنة أُرِيد أَن أسأَل عمر بن الْخطاب عَن آيَة فَمَا أَسْتَطِيع أَن أسأله هَيْبَة لَهُ حَتَّى خرج حَاجا فَخرجت مَعَه فَلَمَّا رجعت وَكُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق عدل إِلَى الْأَرَاك لحَاجَة لَهُ. قَالَ فوقفت لَهُ حَتَّى فرغ ثمَّ سرت مَعَه فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من اللَّتَان تظاهرتا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أَزوَاجه. فَقَالَ تِلْكَ حَفْصَة وَعَائِشَة(19/249)
قَالَ فَقلت وَالله إِن كنت لأريد أَن أَسأَلك عَن هَذَا مُنْذُ سنة فَمَا أَسْتَطِيع هَيْبَة لَك قَالَ فَلَا تفعل مَا ظَنَنْت أَن عِنْدِي من علم فاسألني فَإِن كَانَ لي علم خبرتك بِهِ قَالَ ثمَّ قَالَ عمر وَالله إِن كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة مَا نعد للنِّسَاء أمرا حَتَّى أنزل الله فِيهِنَّ مَا أنزل وَقسم لَهُنَّ مَا قسم قَالَ فَبينا أَنا فِي أَمر أتأمره إِذْ قَالَت امْرَأَتي لَو صنعت كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقلت لَهَا مَالك وَلما هَهُنَا فِيمَا تكلفك فِي أَمر أريده فَقَالَت لي عجبا لَك يَا ابْن الْخطاب مَا تُرِيدُ أَن تراجع أَنْت وَإِن ابْنَتك لتراجع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يظل يَوْمه غَضْبَان فَقَامَ عمر فَأخذ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دخل على حَفْصَة فَقَالَ لَهَا يَا بنية إِنَّك لتراجعين رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يظل يَوْمه غَضْبَان فَقَالَت حَفْصَة وَالله إِنَّا لنراجعه فَقلت تعلمين أَنِّي أحذرك عُقُوبَة الله وَغَضب رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا بنية لَا تغرنك هَذِه الَّتِي أعجبها حسنها حب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاهَا يُرِيد عَائِشَة قَالَ ثمَّ خرجت حَتَّى دخلت على أم سَلمَة لقرابتي مِنْهَا فكلمتها فَقَالَت أم سَلمَة عجبا لَك يَا ابْن الْخطاب دخلت فِي كل شَيْء حَتَّى تبتغي أَن تدخل بَين رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأزواجه فَأَخَذَتْنِي وَالله أخذا كسرتني عَن بعض مَا كنت أجد فَخرجت من عِنْدهَا وَكَانَ لي صَاحب من الْأَنْصَار إِذا غبت أَتَانِي بالْخبر وَإِذا غَابَ كنت أَنا آتيه بالْخبر وَنحن نتخوف ملكا من مُلُوك غَسَّان ذكر لنا أَنه يُرِيد أَن يسير إِلَيْنَا فقد امْتَلَأت صدورنا مِنْهُ فَإِذا صَاحِبي الْأنْصَارِيّ يدق الْبَاب فَقَالَ افْتَحْ افْتَحْ فَقلت جَاءَ الغساني فَقَالَ بل أَشد من ذَلِك اعتزل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَزوَاجه فَقلت رغم أنف حَفْصَة وَعَائِشَة فَأخذت ثوبي فَأخْرج حَتَّى جِئْت فَإِذا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مشربَة لَهُ يرقى عَلَيْهَا بعجلة وَغُلَام لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسود على رَأس الدرجَة فَقلت لَهُ قل هَذَا عمر بن الْخطاب فَأذن لي: قَالَ عمر فقصصت على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا الحَدِيث فَلَمَّا بلغت حَدِيث أم سَلمَة تَبَسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإنَّهُ لعلى حَصِير مَا بَينه وَبَينه شَيْء وَتَحْت رَأسه وسَادَة من أَدَم حشوها لِيف وَإِن عِنْد رجلَيْهِ قرظا مصبوبا وَعند رَأسه أهب معلقَة فَرَأَيْت أثر الْحَصِير فِي جنبه فَبَكَيْت. فَقَالَ مَا يبكيك فَقلت يَا رَسُول الله إِن كسْرَى وَقَيْصَر فِيمَا هما فِيهِ وَأَنت رَسُول الله فَقَالَ أما ترْضى أَن تكون لَهُم الدُّنْيَا وَلنَا الْآخِرَة) أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل تبتغي إِلَى آخِره وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ بَاب وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بعض الْآيَة الأولى وَحذف بَقِيَّة الثَّانِيَة وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر كاملتان كلتاهما وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ وَعبيد بن حنين كِلَاهُمَا بِالتَّصْغِيرِ مولى زيد بن الْخطاب والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح وَفِي خبر الْوَاحِد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله وَفِي اللبَاس وَفِي خبر الْوَاحِد أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره قَوْله " هَيْبَة لَهُ " أَي لأجل الهيبة الْحَاصِلَة لَهُ قَوْله " عدل إِلَى الْأَرَاك " أَي عدل عَن الطَّرِيق منتهيا إِلَى(19/250)
شَجَرَة الْأَرَاك وَهِي الشَّجَرَة الَّتِي يتَّخذ مِنْهَا المساويك قَوْله " لقَضَاء حَاجَة " كِنَايَة عَن التبرز قَوْله " تظاهرتا " أَي تعاونتا عَلَيْهِ بِمَا يسؤوه فِي الإفراط فِي الْغيرَة وإفشاء سره قَوْله " تِلْكَ حَفْصَة وَعَائِشَة " وَرُوِيَ تانك حِصَّة وَعَائِشَة وَلَفظ تانك من أَسمَاء الْإِشَارَة للمؤنث الْمثنى قَوْله " وَالله إِن كنت لأريد " كلمة إِن مُخَفّفَة من المثقلة وَاللَّام فِي لأريد للتَّأْكِيد قَوْله " وَالله إِن كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة " كلمة إِن هَذِه لتأكيد النَّفْي الْمُسْتَفَاد مِنْهُ وَلَيْسَت مُخَفّفَة من المثقلة لعدم اللَّام وَلَا نَافِيَة والألزم أَن يكون الْعد ثَابتا لِأَن نفي النَّفْي إِثْبَات قَوْله " أمرا " أَي شَأْنًا قَوْله " حَتَّى أنزل الله فِيهِنَّ مَا أنزل " مثل قَوْله تَعَالَى وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا فَإِن أطعنكم فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا قَوْله " وَقسم لَهُنَّ مَا قسم " مثل ولهن الرّبع مِمَّا تركْتُم وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن قَوْله " فَبينا أَنا فِي أَمر أتأمره " أَي بَين أَوْقَات ائتماري وَمعنى أتأمره أتفكر فِيهِ وَفِي رِوَايَة مُسلم فَبَيْنَمَا أَنا فِي أَمر أأتمره قَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه أَي أشاور فِيهِ نَفسِي وأفكر قَوْله إِذْ قَالَت جَوَاب فَبينا قَوْله " مَالك " أَي مَا شَأْنك أَي مَالك أَن تتعرضين لي فِيمَا أَفعلهُ قَوْله " وَلما هَهُنَا " أَي لِلْأَمْرِ الَّذِي نَحن فِيهِ وَفِي رِوَايَة مُسلم " فَقلت لَهَا وَمَالك أَنْت " وَلما هَهُنَا قَوْله " فِيمَا تكلفك " ويروى وَفِيمَا تكلفك أَي وَفِي أَي شَيْء تكلفك فِي أَمر أريده وَفِي رِوَايَة مُسلم وَمَا يكلفك فِي أَمر أريده وَهُوَ بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْكَاف من الإكلاف وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْكَاف وَضم اللَّام الْمُشَدّدَة من التَّكَلُّف من بَاب التفعل قَوْله " عجبا لَك " أَي أعجب عجبا لَك من مَقَالَتك هَذِه قَوْله " أَن تراجع " على صِيغَة الْمَجْهُول وَقَوله " لتراجع " على صِيغَة الْمَعْلُوم وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله ابْنَتك وَهُوَ فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر أَن وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد قَوْله " حَتَّى يظل يَوْمه غَضْبَان " غير مَصْرُوف قَوْله " حب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَرْفُوع بِأَنَّهُ بدل الاشتمال وَقَالَ ابْن التِّين حسنها بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ فَاعل وَحب بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول من أَجله أَي أعجبها حسنها لأجل حب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاهَا وَفِي رِوَايَة مُسلم وَحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاهَا بِالْوَاو وَقَالَ الْكرْمَانِي وَحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمُنَاسب للروايات الْأُخَر وَهِي لَا تغرنك إِن كَانَت جارتك أوضأ مِنْك وَأحب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " حَتَّى تبتغي " أَي حَتَّى تطلب قَوْله " فَأَخَذَتْنِي " أَي أم سَلمَة بكلامها أَو مقالتها أَخْذَة كسرتني عَن بعض مَا كنت أجد من الموجدة وَهُوَ الْغَضَب وَفِي رِوَايَة مُسلم قَالَ " فَأَخَذَتْنِي أخذا كسرتني بِهِ عَن بعض مَا كنت أجد " قَوْله " وَكَانَ لي صَاحب من الْأَنْصَار " وَفِيه اسْتِحْبَاب حُضُور مجَالِس الْعلم واستحباب التناوب فِي حُضُور الْعلم إِذا لم يَتَيَسَّر لكل أحد الْحُضُور بِنَفسِهِ قَوْله " من مُلُوك غَسَّان " ترك صرف غَسَّان وَقيل يصرف وهم كَانُوا بِالشَّام قَوْله " افْتَحْ افْتَحْ " مُكَرر للتَّأْكِيد قَوْله " فَقَالَ بل أَشد من ذَلِك " وَفِيه مَا كَانَت الصَّحَابَة من الاهتمام بأحوال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والقلق التَّام لما يقلقه ويغيظه قَوْله رغم أنف حَفْصَة بِكَسْر الْغَيْن وَفتحهَا يُقَال رغم يرغم رغما ورغما ورغما بِتَثْلِيث الرَّاء أَي لصق بالرغام وَهُوَ التُّرَاب هَذَا هُوَ الأَصْل ثمَّ اسْتعْمل فِي كل من عجز عَن الانتصاف وَفِي الذل والانقياد كرها قَوْله " فَأخذت ثوبي فَأخْرج " فِيهِ اسْتِحْبَاب التجمل بِالثَّوْبِ والعمامة وَنَحْوهمَا عِنْد لِقَاء الْأَئِمَّة والكبار احتراما لَهُم قَوْله فِي مشربَة بِفَتْح الْمِيم وَضم الرَّاء وَفتحهَا وَهِي الغرفة قَوْله " يرقى " على صِيغَة الْمَجْهُول أَي يصعد عَلَيْهَا قَوْله " بعجلة " بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْجِيم وَهِي الدرجَة وَفِي رِوَايَة مُسلم بعجلها قَالَ النَّوَوِيّ وَقع فِي بعض النّسخ بعجلتها وَفِي بَعْضهَا بعجلة فَالْكل صَحِيح والأخيرة أَجود وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة وَغَيره هِيَ دَرَجَة من النّخل قَوْله " وَغُلَام لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسود على رَأس الدرجَة " وَفِي رِوَايَة لمُسلم فَقلت لَهَا أَي لحفصة أَيْن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت هُوَ فِي خزانَة فِي الْمشْربَة فَدخلت فَإِذا أَنا برباح غُلَام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاعد على أُسْكُفَّة الْمشْربَة مدل رجلَيْهِ على نقير من خشب وَهُوَ جذع يرقى عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وينحدر قَوْله " تَبَسم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " التبسم الضحك بِلَا صَوت قَوْله " قرظا " بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء وبالظاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ ورق شجر يدبغ بِهِ قَوْله " مصبوبا " أَي مسكوبا ويروى مصبورا بالراء فِي آخِره أَي مجموعا من الصُّبْرَة وَقَالَ النَّوَوِيّ وَقع فِي بعض الْأُصُول مضبورا بالضاد الْمُعْجَمَة بِمَعْنى مجموعا أَيْضا قَوْله " أهب " بِفَتْح الْهمزَة وَضمّهَا لُغَتَانِ مشهورتان وَهُوَ جمع إهَاب وَهُوَ الْجلد الَّذِي لم يدبغ وَفِي رِوَايَة مُسلم فَنَظَرت ببصري فِي خزانَة رَسُول(19/251)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذا أَنا بقبضة من شعير نَحْو الصَّاع وَمثلهَا قرظا فِي نَاحيَة الغرفة وَإِذا أفِيق مُعَلّق بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْفَاء وَهُوَ الْجلد الَّذِي لم يتم دباغه وَجمعه أفق بفتحهما كأديم وأدم قَوْله " فِيمَا هما فِيهِ " أَي فِي الَّذِي هما فِيهِ من النعم وأنواع زِينَة الدُّنْيَا قَوْله " وَأَنت رَسُول الله " قيل هَذَا الْخَبَر لَا يُرَاد بِهِ فَائِدَة وَلَا لازمها فَمَا الْغَرَض مِنْهُ وَأجِيب بِأَن غَرَضه بَيَان مَا هُوَ لَازم للرسالة وَهُوَ اسْتِحْقَاقه مَا هما فِيهِ أَي أَنْت الْمُسْتَحق لذَلِك لَا هما وَفِي رِوَايَة مُسلم قَيْصر وكسرى فِي الثِّمَار والأنهار -
3 - (بابٌ: {وَإذْ أسَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى بَعْضِ أزْوَاجِهِ حَدِيثا فَلَمَّا نَبَّأْتْ بِهِ وأظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأعْرَض عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أنْبَأَكَ هاذا قَالَ نَبَّأَنِي العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التَّحْرِيم: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه} إِلَى آخرهَا، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، وَذكرت الْآيَة الْمَذْكُورَة بكمالها فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا إِلَى الْخَبِير. قَوْله: (وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه) ، إسراره هُوَ تَحْرِيمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتَاته أَي: مَارِيَة على نَفسه وَبَعض أَزوَاجه حَفْصَة بنت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْله لَهَا: لَا تُخْبِرِي بذلك أَي: بِتَحْرِيم الفتاة أحدا، وَعَن الْكَلْبِيّ: أسر إِلَيْهَا أَن أَبَاك وَأَبا عَائِشَة يكونَانِ خليفتين على أمتِي. قَوْله: (فَلَمَّا نبأت بِهِ) ، أخْبرت بِالْحَدِيثِ الَّذِي أسر إِلَيْهَا أَن أَبَاك وَأَبا عَائِشَة يكونَانِ خليفتين على أمتِي. قَوْله: (فَلَمَّا نبأت بِهِ) ، أَي: فَلَمَّا أخْبرت بِالْحَدِيثِ الَّذِي أسر إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاحبتها وأظهره الله عَلَيْهِ أَي: واطلع نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنه قد نبأت بِهِ قَوْله: (عرف بعضه) ، يَعْنِي: أخبر حَفْصَة بِبَعْض مَا قَالَت لعَائِشَة وَلم يخبرها بقولِهَا: أجمع. قَوْله: (فَلَمَّا نبأها بِهِ) أَي: فَلَمَّا أخبر حَفْصَة بذلك، قَالَت: من أَنْبَأَك هَذَا؟ قَالَ: نَبَّأَنِي الْعَلِيم الَّذِي يعلم كل شَيْء الْخَبِير بِمَا يَقع بَين عباده وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك.
{فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم}
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بِهِ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن عَائِشَة عبيد بن عُمَيْر فِي الْبَاب قبله.
4194 - حدَّثنا عَلِيٌّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْد بنَ حُنَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ أرَدْتُ أنْ أسَأَلَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا أتَمَمْتُ كَلامِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة. لَا تخفى، وَعلي هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا طرف من الحَدِيث الَّذِي مضى عَن قريب.
4 - (بابٌ قَوْلُهُ: {إنْ تَتُوبا إلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التَّحْرِيم: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَن تَتُوبَا} الْخطاب لعَائِشَة وَحَفْصَة، أَي: أَن تَتُوبَا إِلَى الله من التعاون على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإيذاء وَتَفْسِير: صغت، يَأْتِي الْآن.
صَغَوْتُ وَأصْغَيْتُ: مِلْتُ: لِتَصْغِي: لِتَحمَيلَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن معنى قَوْله: قد صغت، مَالَتْ وَعدلت واستوجبتما التَّوْبَة. يُقَال: صغوت. أَي: ملت، وَكَذَلِكَ: أصغيت، ذكر مثالين: أَحدهمَا ثلاثي وَالْآخر مزِيد فِيهِ. قَوْله: (لتصغى) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {ولتصغي إِلَيْهِ أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} (الْأَنْعَام: 311) أَي: التَّمْثِيل وَهَذَا ذكره اسْتِطْرَادًا.
وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ الله هُوَ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ عَوْنٌ تَظَاهَرُونَ تَعَاوَنُونَ.
كَذَا وَقع للأكثرين وَاقْتصر أَبُو ذَر من سِيَاق الْآيَة على قَوْله: (ظهير) عون. قَوْله: (وَإِن تظاهرا) أَي: وَإِن تعاونا على(19/252)
أَذَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ أَي: ناصره وحافظه فَلَا تضره المظاهرة مِنْكُمَا وَجِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وليه وَصَالح الْمُؤمنِينَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَه الْمسيب بن شريك. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن الْكَلْبِيّ: هم الْمُؤْمِنُونَ المخلصون الَّذين لَيْسُوا بمنافقين، وَعَن قَتَادَة هم الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَوْله: (وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك) ، أَي: بعد نصر الله وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ. (ظهير) أَي: أعوان، وَلم يقل: وصالحوا الْمُؤمنِينَ، وَلَا ظهرا، لِأَن لَفْظهمَا وَإِن كَانَ وَاحِدًا، فَهُوَ بِمَعْنى الْجمع. قَوْله: (تظاهرون) تَفْسِيره: تعاونون، وَفِي بعض النّسخ: تظاهرا تعاونا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ} (التَّحْرِيم: 6) أوْصُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ بِتَقْوَى الله وَأدِّبُوهُمُ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} (التَّحْرِيم: 6) أوصوا أَنفسكُم من الْإِيصَاء الْمَعْنى: أوصوا أَنفسكُم بترك الْمعاصِي. وَفعل الطَّاعَات. قَوْله: (وأهليكم) يَعْنِي: مُرُوهُمْ بِالْخَيرِ وانهوهم عَن الشَّرّ وعلموهم وأدبوهم، هَذَا هُوَ الْمَعْنى الصَّحِيح الَّذِي ذكره الْمُفَسِّرُونَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قوا أَنفسكُم بترك الْمعاصِي وَفعل الطَّاعَات وأهليكم بِأَن تأخذوهم بِمَا تأخذون بِهِ أَنفسكُم وقرىء: وأهلوكم، عطفا على وَاو قوا، كَأَنَّهُ قيل: قوا أَنْتُم، وأهلوكم أَنفسكُم وَذكر الشُّرَّاح هُنَا أَشْيَاء متعسفة، أَكْثَرهَا خَارج عَمَّا تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد فَمن ذَلِك مَا ذكره ابْن التِّين بِلَفْظ، قوا أهليكم. أوفقوا أهليكم، وَنسب القَاضِي عِيَاض هَذِه الرِّوَايَة هَكَذَا اللقايسي وَابْن السكن. ثمَّ قَالَ ابْن التِّين صَوَابه: أَوْفوا، قَالَ: وَنَحْو ذَلِك ذكر النّحاس وَلَا أعرف للألف من أَو وَلَا للفاء من قَوْله: فقوا، وَجها. قلت: كَأَنَّهُ جعل قَوْله: أوفقوا، كَلِمَتَيْنِ إِحْدَاهمَا كلمة أَو، وَالثَّانيَِة كلمة فقوا. وَأَصله بِتَقْدِيم الْفَاء على الْقَاف، ثمَّ ذكر أَشْيَاء متكلفة لم يذكرهَا أحد من الْمُفَسّرين وَذَلِكَ كُله نَشأ أَمن جعله: أَو فقوا. كَلِمَتَيْنِ وَجعل الْفَاء مُقَدّمَة على الْقَاف، وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ كلمة وَاحِدَة وَالْقَاف مُقَدّمَة على الْفَاء. وَالْمعْنَى: أوقفوا أهليكم عَن الْمعاصِي وامنعوهم، وَقَالَ ابْن التِّين وَالصَّوَاب على هَذَا حذف فِي الْألف لِأَنَّهُ ثلاثي من نوقف. قلت: لمن جعل هَذَا كلمة أَن يَقُول لَا نسلم أَنه من: وقف، بل من: الإيقاف من الْمَزِيد لَا من الثلاثي.
5194 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ. قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بنَ حُنَيْنٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أرَدْتُ أنْ أسْألَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَ بِمَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَكَثْتُ سَنَةً فَلَمْ أجِدْ لَهُ مَوْضِعا حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ حَاجّا فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرَانَ ذَهَبَ عُمَرَ لِحَاجَتِهِ فَقَالَ أدْرِكْنِي بِالوَضُوءِ فأدْرَكْتُهُ بِالإدَاَوَةِ فَجَعَلْتُ أسْكُبُ عَلَيْهِ المَاءَ وَرَأَيْتُ مَوْضِعا فَقُلْتُ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَنِ المَرْأَتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فَمَا أتْمَمْتُ كَلامِي حَتَّى قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. لَا تخفى على المتأمل، والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، ويحى بن سعيد هُوَ الْقطَّان الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي بَاب: {نبتغي مرضات أَزوَاجك} (التَّحْرِيم: 1) وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، قَوْله: (بظهران) ، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهَاء وبالراء وَالنُّون، بقْعَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة غير منصرف. قَوْله (بِوضُوء) بِفَتْح الْوَاو. وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (بِالْإِدَاوَةِ) بِكَسْر الْهمزَة وَهِي المطهرة قَوْله: (يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ) بِحَذْف الْألف من أَمِير للتَّخْفِيف.
5 - (بابٌ قَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّهُ أنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبَدِّلُهِ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَابِّحَاتٍ ثَيِّباتٍ وَأبْكَارا} )
(التَّحْرِيم: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {عَسى ربه} أَي: رب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا إِخْبَار عَن الْقُدْرَة وتخويف لَهُم لَا أَن فِي الْوُجُود(19/253)
من هُوَ خير من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: كَيفَ يكون المبدلات خيرا مِنْهُنَّ وَلم يكن على وَجه الأَرْض نسَاء خيرا من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟ قلت: إِذا طلقهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعصيانهن وإيذائهن إِيَّاه لم يبْقين على تِلْكَ الصّفة، وَكَانَ غَيْرهنَّ من الموصوفات بالأوصاف الْمَذْكُورَة مَعَ الطَّاعَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنُّزُول على رِضَاهُ وهواه خيرا مِنْهُنَّ. قَوْله: (مسلمات مؤمنات) مقرات مخلصات. (قانتات) داعيات مصليات. (تائبات) من الذُّنُوب راجعات إِلَى الله تَعَالَى وَرَسُوله تاركات لمحبة أَنْفسهنَّ. (عابدات) كثيرات الْعِبَادَة لله تَعَالَى، وَقيل: متذللات لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالطَّاعَةِ وَمِنْه أَخذ اسْم العَبْد لتذلله. (سائحات) يسحن مَعَه حَيْثُمَا ساح، وَقيل: صائمات، وقرىء: سيحات، وَهِي أبلغ، وَقيل للصَّائِم: سائح لِأَن السائح لَا زَاد مَعَه فَلَا يزَال ممسكا إِلَى أَن يجد مَا يطعمهُ، فَشبه بِهِ الصَّائِم فِي إِمْسَاكه إِلَى أَن يَجِيء وَقت إفطاره، وَقيل: (سائحات) مهاجرات، وَعَن زيد بن أسلم لم يكن فِي هَذِه الْأمة سياحة إلاَّ الْهِجْرَة. قَوْله: (ثيبات) جمع ثيب والأبكار جمع بكر فَإِن قلت: وَإِنَّمَا أخليت الصِّفَات كلهَا عَن العاطف ووسط بَين الثيبات والأبكار. قلت: لِأَنَّهُمَا صفتان متنافيتان لَا يجتمعن فيهمَا اجتماعهن فِي سَائِر الصِّفَات فَلم يكن بُد من الْوَاو.
6194 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَوْنٍ حدَّثنا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ اجْتَمَعَ نِسَاءُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكْنَّ أنْ يُبَدِّلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنَّ} (التَّحْرِيم: 5) فَنَزِلَتْ هاذِهِ الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَفِيه بَيَان لسَبَب النُّزُول، وَعَمْرو بن عون بن أَوْس الوَاسِطِيّ نزل الْبَصْرَة وروى البُخَارِيّ أَيْضا عَنهُ بالواسطة فِي الاسْتِئْذَان روى عَن عبد الله المسندي عَن عَمْرو بن عون وروى مُسلم عَن حجاج بن الشَّاعِر عَنهُ فِي مَوضِع، وهشيم مصغر هشم بن بشر مصغر بشر يرْوى عَن حميد، الطَّوِيل الْبَصْرِيّ، والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة: بأتم مِنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
76 - (سُورَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ} (تبَارك: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة (تبَارك) وَفِي بعض النّسخ سُورَة الْملك، وَلم تثبت الْبَسْمَلَة هَاهُنَا للْكُلّ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا، قَالَه مقَاتل، وَقَالَ السخاوي: نزلت قبل الحاقة وَبعد الطّور، وَهِي ألف وثلاثمائة حرف، وثلاثمائة وَثَلَاثُونَ كلمة وَثَلَاثُونَ آيَة.
التَّفَاوُتُ الاخْتِلافُ وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} (تبَارك: 3) وَفَسرهُ بالاختلاف وَالْمعْنَى: هَل ترى فِي خلق الرحمان اخْتِلَاف، وَأَشَارَ بِأَن التَّفَاوُت والتفوت بِمَعْنى وَاحِد كالتعهد والتعاهد والتطهر والتطاهر، وَقَرَأَ الْكسَائي وَحَمْزَة من تفوت بِغَيْر ألف، قَالَ الْفراء: وَهِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَالْبَاقُونَ بِالْألف.
تمَيْز: فَقَطَّعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تكَاد تميز من الغيظ} (تبَارك: 8) وَفَسرهُ بقوله: (تقطع) وَكَذَا فسره الْفراء، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْكفَّار الَّذين أخبر الله عَنْهُم بقوله: (إِذا القوافيها) أَي: فِي النَّار (سمعُوا لَهَا شهيقا) أَي: صَوتا كصوت حمَار. {وَهِي تَفُور} (تبَارك: 5) تزفر وتغلي بهم كَمَا تغلي الْقُدُور.
مَنَاكِبها جَوَانِبِها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فامشوا فِي مناكبها وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور} (تبَارك:) 51 أَي: امشوا فِي جَوَانِب الأَرْض، وَكَذَا فسره الْفراء، وأصل الْمنْكب الْجَانِب، وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: جبالها، وَعَن مُجَاهِد: طرقها.
تَدَّعُونَ وَتَدْعُونَ مِثْلُ: تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون} (تبَارك: 72) وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَأَن التَّخْفِيف لَيْسَ بِقِرَاءَة فلأجل ذَلِك. قَالَ: مثل تذكرُونَ وتذكرون.
وَيَقْبِضْنَ: يَضْرِبْنَ بأجْنِحَتِهِنَّ(19/254)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيقبض مَا يمسكهن إلاَّ الرَّحْمَن أَنه بِكُل شَيْء بَصِير} (تبَارك: 91) وَفَسرهُ بقوله: يضربن بأجنحتهن) الْمَعْنى: مَا يمسك الطُّيُور. أَي: مَا يحبسهن فِي حَال الْقَبْض والبسط أَن يسقطن، إلاَّ الرَّحْمَن، وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَافَّاتٍ بَسْطُ أجْنِحَتِهِنَّ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات} وَقَالَ: (صافات بسط أجنحتهن) يَعْنِي: فِي الطيران تطير وتقبض أَجْنِحَتهَا بعد انبساطها، وَلم يثبت هَذَا أَيْضا لأبي ذَر.
وَنُفُورٍ: الكُفُور
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بل لجوا فِي عتو ونفور} (تبَارك: 12) وَفسّر النفور بالكفور، وَرَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج عَن شَبابَة عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: معنى عتو تمادٍ فِي الضلال، وَمعنى: نفور تبَاعد من الْحق وَأَصله من النفرة.
86 - ( {سُورَةُ ن وَالقَلَم} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {نون والقلم} (الْقَلَم: 1) وَلم يَقع لفظ: سُورَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا. وَذكر ابْن النَّقِيب عَن ابْن عَبَّاس من أَولهَا إِلَى قَوْله: {سنسمه} (الْقَلَم: 61) مكي، وَمن بعد ذَلِك إِلَى قَوْله: {لَو كَانُوا يعلمُونَ} (الْقَلَم: 33) مدنِي، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة المزمل وَقبل المدثر: وَهِي ألف ومائتان وَسِتَّة وَخَمْسُونَ حرف وثلاثمائة كلمة، وَاثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَة.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ فَعَن مُجَاهِد وَمُقَاتِل وَالسُّديّ وَآخَرين: هُوَ الْحُوت الَّذِي يحمل الأَرْض، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَعَن الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: يهموت، وَعَن الْوَاقِدِيّ: ليوثا وَعَن عَليّ: بلهوت، وَقيل: هِيَ حُرُوف الرَّحْمَن، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الر وح م، وَنون حُرُوف الرحمان مقطعَة، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك: النُّون، الدَّوَاء وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَعَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة: لوح من نور رَفعه الله إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن ابْن كيسَان: هُوَ قسم أقسم الله بِهِ، وَعَن عَطاء افْتِتَاح اسْمه نور وناصر ونصير، وَعَن جَعْفَر: نون نهر فِي الْجنَّة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) .
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ قَتَادَةُ حَرْدٍ: جِدٍّ فِي أنْفُسِهِمْ
أَشَارَ بِهِ قَتَادَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وغدوا على جرد قَادِرين} (الْقَلَم: 52) وَفسّر قَوْله: (جرد) بقوله: (جد) بِكَسْر الْجِيم وَتَشْديد الدَّال وَهُوَ الِاجْتِهَاد، وَالْمُبَالغَة فِي الْأَمر، وَقَالَ ابْن التِّين: وَضبط فِي بعض الْأُصُول بِفَتْح الْجِيم رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (تَفْسِيره) عَن معمر عَن قَتَادَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: على قدرَة قَادِرين على أنفسهم، وَعَن النَّخعِيّ وَمُجاهد وَعِكْرِمَة على أَمر مجمع قد أسسوه بَينهم وَعَن سُفْيَان على حنق وَغَضب، وَعَن أبي عُبَيْدَة على منع.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَضَالُّونَ: أضْلَلْنا مَكَانَ جَنَّتِنا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون} (الْقَلَم: 62) أَي: أضللنا مَكَان جنتنا، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ، وَالضَّمِير فِي قَوْله: {فَلَمَّا رأوها} يرجع إِلَى الْجنَّة فِي قَوْله: {إِنَّا بلوناهم كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة} (الْقَلَم: 71) يَعْنِي: امتحنا واختبرنا أهل مَكَّة بِالْقَحْطِ والجوع (كَمَا بلونا) أَي: كَمَا ابتلينا أَصْحَاب الْجنَّة. قَالَ ابْن عَبَّاس: بُسْتَان بِالْيمن يُقَال لَهُ الضروان دون صنعاء بفرسخين وَكَانُوا حلفوا أَن لَا يصرمن نخلها إلاَّ فِي الظلمَة قبل خُرُوج النَّاس من المساكن إِلَيْهَا، فَأرْسل الله عَلَيْهَا نَارا من السَّمَاء فأحرقتها وهم نائمون، فَلَمَّا قَامُوا وَأتوا إِلَيْهَا رأوها قَالُوا: إِنَّا لضالون وَلَيْسَت هَذِه جنتنا. قَوْله: (أضللنا) ، قَالَ بَعضهم: زعم بعض الشُّرَّاح أَن الصَّوَاب فِي هَذَا أَن يُقَال: ضللنا، غير ألف. تَقول: ضللت الشَّيْء إِذا جعلته فِي مكن ثمَّ لم تدر أَيْن هُوَ، وأضللت الشَّيْء إِذا ضيعته. ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي وَقع فِي الرِّوَايَة صَحِيح الْمَعْنى. أَي: عَملنَا عمل من ضيع، وَيحْتَمل أَن يكون بِضَم أول أضللنا. انْتهى. قلت: أَرَادَ بِبَعْض الشُّرَّاح الْحَافِظ الدمياطي فَإِنَّهُ قَالَ هَكَذَا وَالَّذِي قَالَه هُوَ الصَّوَاب لِأَن اللُّغَة تساعده، وَلَكِن الَّذِي اخْتَارَهُ هَذَا الْقَائِل من الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا بعيد جدا. أما الأول: فَلَيْسَ(19/255)
بمطابق لقَوْل أهل الْجنَّة فَإِن عَمَلهم لم يكن إِلَّا رَوَاحهمْ إِلَى جنتهم فَقَط، وَلَيْسَ فِيهِ عمل عمل من ضيع: وَأما الثَّانِي: فبالاحتمال الَّذِي لَا يقطع، وَلَكِن يُقَال فِي تصويب الَّذِي وَقع بِهِ الرِّوَايَة: أضللنا أَنْفُسنَا عَن مَكَان جنتنا يَعْنِي: هَذِه لَيست بجنتنا بل تُهنا فِي طريقها.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَالصَّرِيمِ كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلِ انْصَرَمَ مِنَ النَّهَارِ وَهُوَ أيْضا كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ وَالصَّرِيمُ أيْضا المَصْرُومُ مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ.
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْبَحت كالصريم} (الْقَلَم: 02) أَي: فَأَصْبَحت الْجنَّة الْمَذْكُورَة كالصريم، وَفَسرهُ بقوله: (كالصبح انصرم) أَي: انْقَطع من اللَّيْل إِلَى آخِره، ظَاهر.
مَكْظُومٌ وَكَظِيمٌ مَغْنُومٌ، تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوَ تَرْخُصُ فَيَرْخُصُونَ
هَذَا كُله للنسفي، وَلم يَقع للباقين، وَأَشَارَ بقوله: تدهن إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ودّوا لَو تدهن فيدهنون} وَفَسرهُ بقوله: (ترخص فيرخصون) (الْقَلَم: 9) وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَعَن عَطِيَّة وَالضَّحَّاك، لَو نكفر فيكفرون. وَعَن الْكَلْبِيّ: لَو تلين لَهُم فيلينون لَك، وَعَن الْحسن: لَو تصانعهم فِي دينك فيصانعونك فِي دينهم، وَعَن الْحسن: لَو تقاربهم فيقاربونك. وَأَشَارَ بقوله: مكظوم. إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم} (الْقَلَم: 84) وَفَسرهُ: بقوله: {مغموم} وَأَشَارَ أَيْضا بِأَن مكظوم وكظيم، سَوَاء فِي الْمَعْنى.
1 - (بَابُ: {عُتُلٍ بَعْدَ ذالِكَ زَنِيمٍ} (الْقَلَم: 31)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {عتل بعد ذَلِك} أَي: مَعَ ذَلِك، والعتل الفانك الشَّديد الْمُنَافِق. قَالَه ابْن عَبَّاس: وَعَن عبيد بن عُمَيْر: العتل الأكول الشروب الْقوي الشَّديد يوضع فِي الْمِيزَان فَلَا يزن شعيرَة يدْفع الْملك من أُولَئِكَ فِي جَهَنَّم سبعين ألفا دفْعَة وَاحِدَة، هُوَ الزنيم والدعي الملحق النّسَب الملصق بالقوم وَلَيْسَ مِنْهُم، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الزنيم الَّذِي لَا أصل لَهُ. وَقيل: هُوَ الَّذِي لَهُ زنمة كزنمة الشَّاة، وَقيل: هُوَ المرمي بالأبنة.
7194 - حدَّثنا مَحْمُودٌ حدَّثنا عُبَيْدِ الله عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أبِي حَصِينٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا عُتُلٍّ بَعْدَ ذالِكَ زَنِيمٍ قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لهُ زَنَمَةٌ مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي مُحَمَّد، فَإِن صَحَّ فَهُوَ الذهلي، وَعبيد الله هُوَ ابْن مُوسَى من شُيُوخ البُخَارِيّ، وروى عَنهُ هُنَا بِوَاسِطَة، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد المهلمتين واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان.
قَوْله: (قَالَ رجل من قُرَيْش) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: الزنيم هُوَ رجل من قُرَيْش لَهُ زنمة مثل زنمة الشَّاة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الزنمة هِيَ الهنة من جلد الماعز تقطع فتخلى معلقَة فِي حلقها. وَقيل: الزنمة للمعز فِي حلقها كالقرط فَإِن كَانَت فِي الْأذن فَهُوَ زنمة، وَاخْتلف فِي الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصّفة القبيحة فَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي، وَقَالَ عَطاء وَالسُّديّ: هُوَ الْأَخْنَس بن شريق، وَقَالَ مُجَاهِد الْأسود بن عبد يَغُوث، وَعَن مُجَاهِد: كَانَت للوليد سِتّ أَصَابِع فِي كل يَد أصْبع زَائِدَة.
8194 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ مَعْبَد بنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بنَ وَهْبٍ الخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ، وَكلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كلُّ عُتلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَنْكِرٍ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كل عتل) وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، ومعبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة(19/256)
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن خَالِد الْكُوفِي مَاله فِي البُخَارِيّ إلاَّ ثَلَاثَة أَحَادِيث هَذَا، وَآخر تقدم فِي الزَّكَاة، وَآخر يَأْتِي فِي الطِّبّ، وحارثة بن وهب الْخُزَاعِيّ بِالْمُهْمَلَةِ والثاء الْمُثَلَّثَة.
والْحَدِيث ذكره البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن كثير وَفِي النذور عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْجنَّة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة جَهَنَّم عَن مَحْمُود بن غيلَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن بشار عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان بِهِ.
قَوْله: (متضعف) بِكَسْر الْعين وَفتحهَا وَالْفَتْح أشهر، وَكَذَا ضَبطه الدمياطي. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَغلط من كسرهَا وَإِنَّمَا هُوَ بِالْفَتْح. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ بِالْفَتْح عِنْد الْأَكْثَرين وبكسرها وَمَعْنَاهُ: ويستضعفه النَّاس وَيَحْتَقِرُونَهُ لضعف حَاله فِي الدُّنْيَا يُقَال: تضعفه أَي: اسْتَضْعَفَهُ، وَأما الْكسر فَمَعْنَاه: متواضع خامل متذلل. وَاضع من نَفسه، وَقيل: الضعْف رقة الْقلب وَلينه للْإيمَان. قَوْله: (لَو أقسم على الله لأبرَّه) أَي: لَو حلف يَمِينا طَمَعا فِي كرم الله تَعَالَى بإبراره لأبَّره. وَقيل: لَو دَعَاهُ لأجابه. قَوْله: (كل عتل) هُوَ الغليظ. وَقيل: الشَّديد من كل شَيْء، وَقيل: الْكَافِر. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ السمين، الْعَظِيم الْعُنُق والبطن، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: هُوَ الجموع المنوع، وَيُقَال: هُوَ الْقصير الْبَطن، وَقيل: الأكول الشروب الظلوم. (والجواظ) بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الْوَاو ثمَّ ظاء مُعْجمَة وَهُوَ الشَّديد الصَّوْت فِي الشَّرّ، وَقيل: المتكبر المختال فِي مشيته الفاخر. وَقيل: الْكثير اللَّحْم. وَلَيْسَ المُرَاد اسْتِيعَاب الطَّرفَيْنِ وَإِنَّمَا المُرَاد أَن أغلب أهل الْجنَّة وَأَن أغلب أهل النَّار هَؤُلَاءِ.
2 - (بابٌ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} (الْقَلَم: 24)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكْشف عَن سَاق} قيل: تكشف الْقِيَامَة عَن سَاقهَا، وَقيل: عَن أَمر شَدِيد فظيع وَهُوَ إقبال الْآخِرَة. وَذَهَاب الدُّنْيَا، وَهَذَا من بَاب الِاسْتِعَارَة تَقول الْعَرَب للرجل إِذا وَقع فِي أَمر عَظِيم يحْتَاج فِيهِ إِلَى اجْتِهَاد ومعاناة ومقاساة للشدة شمر عَن سَاقه، فاستعير السَّاق فِي مَوضِع الشدَّة، وَإِن لم يكن كشف السَّاق حَقِيقَة، كَمَا يُقَال: أَسْفر وَجه الصُّبْح، واستقام لَهُ صدر الرَّأْي، وَالْعرب تَقول: لسنة الْحَرْب: كشفت عَن سَاقهَا.
9194 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدٍ بنِ أبِي هلالٍ عَنْ زَيْدِ ابنِ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَّار عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ يَكْشِفُ رَبُّنا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَّةٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاء وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقا وَاحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يكْشف رَبنَا عَن سَاقه) وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وخَالِد بن يزِيد من الزِّيَادَة. الجُمَحِي السكْسكِي الاسكندراني الْفَقِيه الْمُفْتِي، وَسَعِيد بن أبي هِلَال اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَزيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث الشَّفَاعَة.
قَوْله: (يكْشف رَبنَا عَن سَاقه) ، من المتشابهات، وَلأَهل الْعلم فِي هَذَا الْبَاب قَولَانِ: أَحدهمَا: مَذْهَب مُعظم السّلف أَو كلهم تَفْوِيض الْأَمر فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى وَالْإِيمَان بِهِ، واعتقاد معنى يَلِيق لجلال الله عز وَجل وَالْآخر: هُوَ مَذْهَب بعض الْمُتَكَلِّمين أَنَّهَا تتأول على مَا يَلِيق بِهِ، وَلَا يسوغ ذَلِك إلاَّ لمن كَانَ من أَهله بِأَن يكون عَارِفًا بِلِسَان الْعَرَب، وقواعد الْأُصُول وَالْفُرُوع، فعلى هَذَا قَالُوا: المُرَاد بالساق هُنَا الشدَّة، أَي: يكْشف الله عَن شدَّة وَأمر مهول، وَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَقَالَ عِيَاض: المُرَاد بالساق النُّور الْعَظِيم، وَرُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَوْم يكْشف عَن سَاق) قَالَ: عَن نور عَظِيم يخرون لَهُ سجدا وَعَن قَتَادَة فِيمَا رَوَاهُ عبد بن حميد (يَوْم يكْشف عَن سَاق) عَن أَمر فظيع، وَعَن عبد الله هِيَ ستور رب الْعِزَّة إِذا كشف لِلْمُؤمنِ يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن الرّبيع بن أنس: يكْشف عَن الغطاء فَيَقَع من كَانَ آمن بِهِ فِي الدُّنْيَا سَاجِدا، وَقَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ وَأما القَوْل من قَالَ: المُرَاد بالساق الشدَّة فِي الْقِيَامَة، وَفِي هَذَا قُوَّة لأهل التعطيل، وَجَاء حَدِيث عَن ابْن مَسْعُود يرفعهُ، وَفِيه(19/257)
بِمَ تعرفُون ربكُم؟ قَالُوا: بَيْننَا وَبَينه عَلامَة أَن رأيناها عَرفْنَاهُ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: يكْشف عَن سَاق. قَالَ: فَيكْشف عِنْد ذَلِك عَن سَاق فيخر الْمُؤْمِنُونَ سجدا. قَالَ: وَمَا يُنكر هَذَا اللفط ويفر مِنْهُ إلاَّ من يفر عَن الْيَد والقدم وَالْوَجْه وَنَحْوهَا. فعطل الصِّفَات. وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ: أَن ذَلِك بِمَعْنى كشف الشدائد عَن الْمُؤمنِينَ فيسجدون شكرا. وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أبي مُوسَى مَرْفُوعا. فَيكْشف لَهُم الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله، وَعَن ابْن مَسْعُود: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة قَامَ النَّاس لرب الْعَالمين أَرْبَعِينَ عَاما فِيهِ فَعِنْدَ ذَلِك يكْشف عَن سَاق ويتجلى لَهُم، وأوله بَعضهم بِأَن الله يكْشف لَهُم عَن سَاق لبَعض المخلوفين من مَلَائكَته وَغَيرهم، وَيجْعَل ذَلِك سَببا لبَيَان مَا شَاءَ من حكمته فِي أهل الْإِيمَان والنفاق. وَعَن أبي الْعَبَّاس النَّحْوِيّ أَنه قَالَ: السَّاق النَّفس. كَمَا قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَالله لأقاتلن الْخَوَارِج وَلَو تلفت ساقي، فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ تجلي ذَاته لَهُم وكشف الْحجب حَتَّى إِذا رَأَوْهُ سجدوا لَهُ. وَقرأَهَا ابْن عَبَّاس: يكْشف، بِضَم الْيَاء وقرىء: نكشف، بالنُّون، ويكشف، على الْبناء للْفَاعِل وللمفعول جَمِيعًا، وَالْفِعْل للساعة أَو للْحَال أَي: يَوْم تشتد الْحَال أَو السَّاعَة. وقرىء: بِالْيَاءِ المضمومة وَكسر الشين من أكشف إِذا دخل فِي الْكَشْف. قَوْله: (فَيسْجد لَهُ) ، أَي: لله. فَإِن قلت: الْقِيَامَة دَار الْجَزَاء لَا دَار الْعَمَل. قلت: هَذَا السُّجُود لَا يكون على سَبِيل التَّكْلِيف بل على سَبِيل التَّلَذُّذ بِهِ والتقرب إِلَى الله تَعَالَى. قَوْله: (يَاء) ، أَي: ليراه النَّاس. قَوْله: (وسَمعه) ، أَي: ليسمعونه. قَوْله: (طبقًا وَاحِدًا) ، أَي: لَا ينثني للسُّجُود وَلَا ينحني لَهُ، وَهُوَ بِفَتْح الطَّاء. وَالْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ الْهَرَوِيّ: الطَّبَق ففار الظّهْر أَي: سَار فقاره وَاحِدًا كالصحيفة فَلَا يقدر على السُّجُود، وَجَاء فِي حَدِيث طَوِيل فالمؤمنون يخرون سجدا على وُجُوههم ويخر كل مُنَافِق على قَفاهُ، وَيجْعَل الله تَعَالَى أصلابهم كصيامي الْبَقر، وَفِي رِوَايَة: وَيبقى المُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ كَأَن فِي ظُهُورهمْ السَّفَافِيد فَيذْهب بهم إِلَى النَّار، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقد اسْتدلَّ بعض الْعلمَاء بِهَذَا مَعَ قَول الله تَعَالَى: {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (الْقَلَم: 24) على جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَهَذَا اسْتِدْلَال بَاطِل. فَإِن الْآخِرَة لَيست دَار تَكْلِيف بِالسُّجُود وَإِنَّمَا المُرَاد امتحانهم.
(سُورَةُ الحَاقَّةِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الحاقة وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْجَمِيع، وَقَالَ السخاوي: نزلت قبل المعارج وَبعد سُورَة الْملك، وَهِي ألف وَأَرْبَعَة وَثَمَانُونَ حرفا. ومائتان وست وَخَمْسُونَ كلمة، وَاثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَة. وَفِي مُسْند ابْن عَبَّاس: عَن معَاذ إِنَّمَا سميت الحاقة لِأَن فِيهَا حقائق الْأَعْمَال من الثَّوَاب وَالْعِقَاب.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر وَحده.
حُسُوما مُتَتَابِعَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما} (الحاقة: 7) وَفَسرهُ بقوله: (متتابعة) ، وَكَذَا فسره مُجَاهِد وَقَتَادَة وَمعنى متتابعة لَيْسَ فِيهَا فَتْرَة وَهُوَ من حسم الكي وَهُوَ أَن يُتَابع عَلَيْهِ بالمكواة وَعَن الْكَلْبِيّ: دائمة، وَعَن الضَّحَّاك: كَامِلَة لم تفتر عَنْهُم حَتَّى أفنتهم، وَعَن الْخَلِيل: قطعا لدابرهم، والحسم الْقطع وَالْمَنْع وَمِنْه حسم الدَّوَاء وحسم الرَّضَاع وانتصابه على الْحَال وَالْقطع قَالَه الثَّعْلَبِيّ، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ للنسفي وَحده.
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 12) يُرِيدُ فِيهَا الرِّضا
أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {فَهُوَ فِي عيشة راضية} (الحاقة: 12) يُرِيد فِيهَا الرِّضَا أَي: ذَات الرِّضَا أَرَادَ بِهِ أَنه من بَاب ذِي كَذَا كتامر وَلابْن، وَعند عُلَمَاء الْبَيَان هَذَا اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ لأبي ذَر والنسفي.
القَاضِيَةَ المَوْتَةَ الأُوْلَى الَّتِي مُتُّها ثُمَّ أُحْيا بَعْدَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا ليتها كَانَت القاضية مَا أغْنى عني ماليه} (الحاقة: 72، 82) أَي: لَيْت الموتة الأولى كَانَت القاطعة لأمري لن أَحْيَا بعْدهَا وَلَا يكون بعث وَلَا جَزَاء، وَقَالَ قَتَادَة: تمنى الْمَوْت وَلم يكن عِنْده فِي الدُّنْيَا شَيْء أكره من الْمَوْت. قَوْله: (ثمَّ أَحْيَا) ، بعْدهَا: وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: لم أَحَي بعْدهَا، وَهَذِه هِيَ الْأَصَح، وَالظَّاهِر أَن النَّاسِخ صحف لم بثم.(19/258)
مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ أحَدٌ يَكُونُ لِلْجَمْعِ وَلِلْوَاحِدِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَا مِنْكُم من أجد عَنهُ حاجزين} (الحاقة: 74) الضَّمِير فِي عَنهُ: يرجع إِلَى الْقَتْل، وَقيل: إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحجزون عَن الْقَاتِل قَالَه النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) وغرض البُخَارِيّ فِي بَيَان أَن لفظ: أحد، يصلح للْجمع وللواحد وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نكرَة وَقع فِي سِيَاق النَّفْي. قَوْله: (للْجمع) ، ويروى للْجَمِيع.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الوَتِينَ: نِيَاطَ القَلْبِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى عز وَجل: {ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} (الحاقة: 64) أَي: (نِيَاط الْقلب) بِكَسْر النُّون وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَهُوَ حَبل الوريد إِذا قطع مَاتَ صَاحبه، وَتَعْلِيق ابْن عَبَّاس وَصله ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث سُفْيَان عَن عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد عَنهُ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: طَغَى كَثُرَ وَيُقَالُ: بِالطَّا غِيَةِ بِطُغْيَانِهِمْ. وَيُقَالُ: طَغَتْ عَلَى الخزانِ كَمَا طَغَى المَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لما طَغى المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} (الحاقة: 11) وَفسّر: (طغا) بقوله: (كثر) وَعَن قَتَادَة: طَغى المَاء عتى فَخرج بِلَا وزن وَلَا كيل، وطغا فَوق كل شَيْء خَمْسَة عشر ذِرَاعا وَالْجَارِيَة: السَّفِينَة. قَوْله: (وَيُقَال: بالطاغية) ، هُوَ مصدر نَحْو الجاثية. فَلذَلِك فسره بقوله: (بطغيانهم) وَقيل: الطاغية صفة موصوفها مَحْذُوف تَقْدِيره: وَأما ثَمُود فأهلكوا بأفعالهم الطاغية، يُقَال: طغا يطغو ويطغى طغيانا إِذا جَاوز الْحَد فِي الْعِصْيَان فَهُوَ طاغ وَهِي طاغية، وتستعمل هَذِه الْمَادَّة فِي معَان كَثِيرَة، يُقَال: طغا الرجل إِذا جَاوز الْحَد، وطغا الْبَحْر إِذا هاج، وطغا السَّيْل إِذا كثر مَاؤُهُ، وطغى الدَّم إِذا نبع وَغير ذَلِك، وَهَاهُنَا ذكر أَنه اسْتعْمل لمعان ثَلَاثَة: الأول: بِمَعْنى الْكَثْرَة أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: طغا كثر، وَهُوَ فِي قَضِيَّة قوم نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: بِمَعْنى مُجَاوزَة الْحَد فِي الْعِصْيَان، وَذَلِكَ فِي قَوْله: وَيُقَال بالطاغية. وَقد ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ فِي ثَمُود. وَالثَّالِث: بِمَعْنى مُجَاوزَة الرّيح حَده أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَيُقَال: طغت على الْخزَّان، وَهُوَ فِي قَضِيَّة قوم عَاد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: (وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة) (الحاقة: 6) وَقَوله: طغت. أَي: الرّيح خرجت بِلَا ضبط من الْخزَّان وَهُوَ جمع خَازِن، وللريح خزان لَا ترسلها إلاَّ بِمِقْدَار، وَأما عَاد لما عتوا فَأرْسل الله عَلَيْهِم ريحًا عَاتِيَة يَعْنِي اعتت على خزانها فَلم تطعهم، وجاوزت الْحَد وَذَلِكَ بِأَمْر الله تَعَالَى، وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أرسل الله ريحًا إلاَّ بِمِكْيَال، وَلَا قَطْرَة من المَاء إلاَّ بِمِكْيَال، إلاَّ قوم عَاد وَقوم نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طغيا على الْخزَّان فَلم يكن لَهُم عَلَيْهِمَا سَبِيل. وَقَالَ بَعضهم: لم يظْهر لي فَاعل طغت. لِأَن الْآيَة فِي حق ثَمُود وهم قد أهلكوا بالصيحة، وَلَو كَانَت عادا لَكَانَ الْفَاعِل الرّيح وَهِي لَهَا الْخزَّان انْتهى. قلت: ظهر لغيره مَا لم يظْهر لَهُ لقصوره، وَالْآيَة فِي حق عَاد كَمَا ذَكرْنَاهُ. وهم {أهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة} عنت على خزانها، وَأما ثَمُود فقد أهلكوا بالطاغية، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى، وَقد فسر الْمُفَسِّرُونَ الطاغية بالطغيان وَهُوَ الْمُجَاوزَة عَن الْحَد وَعَن مُجَاهِد وَابْن زيد، أهلكوا بأفعالهم الطاغية، وَدَلِيله قَوْله تَعَالَى: {كذبت ثَمُود بطغواها} (الشَّمْس: 11) والطغوى بِمَعْنى الطغيان وَقَول هَذَا الْقَائِل: إِن الْآيَة فِي حق ثَمُود، وهم قد أهلكوا بالصيحة. قَول رُوِيَ عَن قَتَادَة فَإِنَّهُ قَالَ: يَعْنِي: الصَّيْحَة الطاغية الَّتِي جَاوَزت مقادير الصياح، وَكَلَام البُخَارِيّ على قَول غَيره كَمَا ذَكرْنَاهُ فَافْهَم، وَلَو كَانَ مُرَاده على قَول قَتَادَة فَلَا مَانع أَن يكون فَاعل طغت الصَّيْحَة وَيكون الْمَعْنى: خرجت الصَّيْحَة من صائحها وهم خزانها فِي الْحَقِيقَة بِلَا مِقْدَار بِحَيْثُ أَنَّهَا جَاوَزت مقادير الصياح كَمَا فِي قَول قَتَادَة.
وَغِسْلِينٍ: مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أهْلِ النَّارِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا طَعَام إلاَّ من غسلين} (الحاقة: 63) وَفَسرهُ بقوله: (يسيل من صديد أهل النَّار) وَهُوَ قَول الْفراء. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: كَأَنَّهُ غسالة جروحهم وقروحهم، وَعَن الضَّحَّاك وَالربيع، هُوَ شجر يَأْكُلهُ أهل النَّار، وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ غِسْلَينٍ: كلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غَسْلَيْنٌ فِعْلَيْنٌ مِنَ الغَسْلِ مِنَ الجَرْحِ وَالدُّبْرِ
هَذَا أَيْضا للنسفي وَحده. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، يدل على أَن قبل قَوْله: وغسلين. وَقَالَ الْفراء وَغَيره، وَقد سقط من(19/259)
النَّاسِخ، وَيكون معنى قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير الْفراء وَإِن لم يقدر شَيْء هُنَاكَ لَا يَسْتَقِيم الْكَلَام. فَافْهَم.
أعْجَارُ نَخْلٍ: أُصُولُها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} (الحاقة: 8) وَفسّر الإعجاز بالأصول، وخاوية: سَاقِطَة، هَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
بَاقِيَةٍ: بَقِيةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة} (الحاقة: 8) أَي: بَقِيَّة، وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده. وَالله أعلم.
07 - ( {سُورَةُ سألَ سَائِلٌ {)
أَي: هَذَا تَفْسِير فِي بعض سُورَة: {سَأَلَ سَائل} (المعارج: 1) وَتسَمى: سُورَة المعارج، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي ألف وَاحِد وَسِتُّونَ حرفا. ومائتان وست عشرَة كلمة، وَأَرْبع وَأَرْبَعُونَ آيَة. وَلم يذكر الْبَسْمَلَة هَاهُنَا للْجَمِيع.
الفَصيلَةُ: أصْغَرُ آبَائِهِ القُرْبَى إلَيْهِ: يَنْتَمِي مَنِ انْتَمَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وفصيلته الَّتِي تؤويه} (المعارج: 31) وفسرها: بقوله: (أَصْغَر آبَائِهِ الْقُرْبَى) يَعْنِي: عشيرته الأدنون الَّذين فصل عَنْهُم، وَنقل كَذَا عَن الْفراء وَعَن أبي عُبَيْدَة فَخذه، وَقيل: أقرباؤه الأقربون عَن مُجَاهِد: قبيلته، وَعَن الدَّاودِيّ: إِن الفصيلة ولظى من أَبْوَاب جَهَنَّم، وَهَذَا غَرِيب. قَوْله: (يننمي) ، أَي: ينتسب، ويروى: إِلَيْهِ يَنْتَهِي، من الِانْتِهَاء.
لِلشَّوَى: اليَدَانِ وَالرَّجُلانِ وَالأطْرَافُ وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ يُقَالُ لَهَا شَوَاةٌ وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْتَلٍ فَهُوَ شَوَّى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهَا لظى نزاعة للشَّوى} (المعارج: 51، 61) وَكَلَامه ظَاهِرَة مَنْقُول عَن مُجَاهِد، وَفِي التَّفْسِير: نزاعة للشوى أَي: نزاعة لجلد الرَّأْس، وَقيل: المحاسن الْوَجْه، وَقيل: للعصب والعقب. وَقيل: لأطراف الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَالرَّأْس، وَقيل: اللَّحْم دون الْعظم، واحده شواة. أَي: لَا تتْرك النَّار لَهُم لَحْمًا وَلَا جلدا إلاَّ أحرقته. وَعَن الْكَلْبِيّ: تَأْكُل لحم الرَّأْس والدماغ كُله ثمَّ يعود الدِّمَاغ كَمَا كَانَ ثمَّ تعود تَأْكُله، فَذَلِك دأبها، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَالعِزُونَ الجَماعَاتُ وَوَاحِدُها عِزَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مهطعين عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين} (المعارج: 63، 73) وَفسّر: عزين بالجماعات وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: العزون الْحلق، وَالْجَمَاعَات وَالْحلق بِفَتْح الْحَاء على الْمَشْهُور، وَيجوز كسرهَا. قَوْله: (وواحدها) ، وَفِي بعض لنسخ وواحدتها عزة: بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الزَّاي، ونظيرها: ثبة وَتبين، وكرة وكرين، وَقلة وقلين. قَوْله: (مهطعين) ، أَي: مُسْرِعين مُقْبِلين عَلَيْك مادّي أَعْنَاقهم ومديمي النّظر إِلَيْك متطلعين نَحْوك. نصب على الْحَال: عزين حلقا وفرقا وعصبة عصبَة وَجَمَاعَة جمَاعَة مُتَفَرّقين.
يُوفِضُونَ الإيفاضُ الإسْرَاعِ
هَذَا للنسفي وَحده، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون} (المعارج: 34) وَفسّر: (الإيفاض) الَّذِي هُوَ مصدر (بالإسراع) وَيفهم مِنْهُ أَن معنى: يوفضون يسرعون، وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: يسعون وَعَن مُجَاهِد وَأبي الْعَالِيَة: يَسْتَبقُونَ، وَعَن الضَّحَّاك: ينطلقون، وعنالحسن، يبتدرون، وَعَن الْقُرْطُبِيّ: يَشْتَدُّونَ، وَالنّصب الْمَنْصُوب وَعَن ابْن عَبَّاس: إِلَى نصب، إِلَى غَايَة، وَذَلِكَ حِين سمعُوا الصَّيْحَة الْأَخِيرَة، وَعَن الْكسَائي: يَعْنِي إِلَى أوثانهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها من دون الله عز وَجل.
17 - ( {سُورَةُ نُوحٍ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة نوح، عَلَيْهِ الصلام، وَفِي بعض النّسخ: سُورَة (إِنَّا أرسلنَا نوحًا) (المعارج: 1) وَهِي مَكِّيَّة نزلت بعد النَّحْل وَقبل سُورَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَسَقَطت الْبَسْمَلَة عِنْد الْكل، وَهِي تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَعِشْرُونَ حرفا، ومائتان وَأَرْبع وَعِشْرُونَ كلمة، وثمان وَعِشْرُونَ آيَة.
أطوَارا: طوْرا كَذَا وَطَوْرا كَذَا يُقالُ: عَدَا طَوْرَهُ أيْ قَدْرَهُ(19/260)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقد خَلقكُم أطوارا} (نوح: 41) وَذكر عبد عَن خَالِد بن عبد الله، قَالَ: طورا نُطْفَة وطورا علقَة وطورا مُضْغَة وطورا عظاما ثمَّ كسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر، وَقَالَ مُجَاهِد: طورا من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ مَا ذكر حَتَّى يتم خلقه، وَالطور فِي هَذِه الْمَوَاضِع بِمَعْنى: تارةٍ وَيَجِيء أَيْضا بِمَعْنى الْقدر أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَيُقَال عدا طوره أَي: تجَاوز قدره، وَيجمع على أطوار.
وَالكِبَّارُ أشَدُّ مِنَ الكُبَارِ وَكَذلِكَ جُمَّالٌ وَجَمِيلٌ لأنَّهَا أشَدُّ مُبَالَغَةٍ، وَكُبَّارٌ الكَبِيرُ وَكُبارا أيْضا بِالتَّخْفِيفِ. وَالعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ حُسَّانٌ وَجُمَّالٌ وَحُسَانٌ مُخَفَّفٌ وحمال مخفف
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {ومكروا مكرا كبارًا} (نوح: 22) وَقَالَ: (الْكِبَار) يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ (أَشد) يَعْنِي: أبلغ فِي الْمَعْنى من الْكِبَار بِالتَّخْفِيفِ، والكبار بِالتَّخْفِيفِ أبلغ معنى من الْكَبِير. قَوْله: (كَذَلِك جمال) بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، يَعْنِي: الْجمال أبلغ فِي الْمَعْنى من الْجَمِيل، وَهُوَ معنى قَوْله: (لِأَنَّهَا أَشد مُبَالغَة) . قَوْله: (وكبار) ، يَعْنِي: بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنى الْكَبِير وَكَذَلِكَ الْكِبَار بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (حسان) ، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد السِّين، وَهُوَ أبلغ من حسان بِالتَّخْفِيفِ. وَكَذَلِكَ جمال بِالتَّشْدِيدِ أبلغ من جمال بِالتَّخْفِيفِ.
دَيَّارا مِنْ دَوْرٍ وَلاكِنَّهُ فَيْعالٌ مِنَ الدَّوَرَانِ كَمَا قَرَأَ عُمَرُ الحَي القَيَّامُ. وَهِيَ مِنّ قَمْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ: دَيَّارا أحدا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَرب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} (نوح: 62) واشتقاقه من دور، ووزنه: فيعال، لِأَن أَصله ديوَان فأبدلت الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، وَلَا يُقَال: وَزنه فعال. لِأَنَّهُ لَو قيل: دوار، كَانَ يُقَال: فعال قَوْله: كَمَا قَرَأَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْحَيّ الْقيام، ذكر هَذَا نظيرا للديار لِأَن أَصله قوام فَلَا يُقَال: وَزنه فعال. بل يُقَال: فيعال، كَمَا فِي الديار. وَأخرج ابْن أبي دَاوُد فِي الْمَصَاحِف من طَرِيق عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَرَأَهَا كَذَلِك، وَذكر عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا قَوْله: وَقَالَ غَيره: هَذَا يَقْتَضِي تقدم أحد سقط من بعض النقلَة وَإِلَّا لَا يَسْتَقِيم الْمَعْنى على مَا لَا يخفى، وَنسب إِلَى هَذَا الْغَيْر أَن ديارًا يَأْتِي بِمَعْنى أحد وَالْمعْنَى: لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين أحدا، وَقد أَشَارَ الثَّعْلَبِيّ إِلَى هَذَا الْمَعْنى حَيْثُ قَالَ: ديارًا أحدا يَدُور فِي الأَرْض فَيذْهب وَيَجِيء، وَكَذَلِكَ ذكره النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) .
تَبارا هَلَاكًا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزد الظَّالِمين إلاَّ تبارا} (نوح: 82) وَفسّر التيار بِالْهَلَاكِ، وَفَسرهُ الثَّعْلَبِيّ بالدمار.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مِدْرَارا يَتْبَعُ بَعْضَهُ بَعْضا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} (نوح: 11) أَي: مَاء السَّمَاء وَهُوَ الْمَطَر، وَفسّر المدرار بقوله: (يتبع بعضه بَعْضًا) وَوصل هَذَا ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَارا عَظَمَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى؛ {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} (نوح: 31) وَفسّر: الْوَقار. بالعظمة. وَأخرجه سُفْيَان فِي تَفْسِيره عَن أبي روق عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: لَا يخَافُونَ فِي الله حق عَظمته. وَأخرجه عبد بن حميد من رِوَايَة أبي الرّبيع عَنهُ: مَا لكم لَا تعلمُونَ لله عَظمته، وَقَالَ مُجَاهِد: لَا ترَوْنَ لله عَظمَة. وَعَن الْحسن: لَا تعرفُون لله حَقًا وَلَا تشكرون لَهُ نعْمَة، وَعَن ابْن جُبَير: لَا ترجون ثَوابًا وَلَا تخافون عقَابا.
1 - (بَابٌ: {وَدَّا وَلَا سَوَّاعا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تذرن ودّوالا سواعا} (نوح: 32) الْآيَة. وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب كَانَ لآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خمس بَنِينَ. ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر فَمَاتَ رجل مِنْهُم فَحَزِنُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ الشَّيْطَان: أَنا أصور لكم مثله إِذا نظرتم إِلَيْهِ ذكرتموه. قَالُوا افْعَل، فَصورهُ فِي الْمَسْجِد من صفر ورصاص(19/261)
ثمَّ مَاتَ آخر وصوره حَتَّى مَاتُوا كلهم وتنغصت الْأَشْيَاء إِلَى أَن تركُوا عبَادَة الله بعد حِين، فَقَالَ الشَّيْطَان للنَّاس: مَا لكم لَا تَعْبدُونَ إلاهكم وإلاه آبائكم أَلا ترونها فِي مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله حَتَّى بعث الله، عز وَجل، نوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ السُّهيْلي: يَغُوث هُوَ ابْن شِيث، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَابْتِدَاء عِبَادَتهم من زمن مهلائيل بن قينان، وَفِي (كتاب الْعين) ود بِفَتْح الْوَاو صنم كَانَ لقوم نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَبِضَمِّهَا صنم لقريش، وَبِه سمي عَمْرو بن عبد ود، وَقِرَاءَة نَافِع بِالضَّمِّ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْح، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هُوَ أول صنم معبود وَسمي ودا لودهم لَهُ، وَكَانَ بعد قوم نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لكَلْب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرَان بن الحاف بن قضاعة، وَكَانَ بدومة الجندل، وسواع كَانَ على صُورَة امْرَأَة، وَكَانَ لهذيل بن مدركة بن الياس بن مُضر برهاط مَوضِع بِقرب مَكَّة شرفها الله بساحل الْبَحْر، ويغوث كَانَ لمراد ثمَّ لبني غطيف بالجوف من أَرض الْيمن على مَا نذكرهُ فِي الحَدِيث.
0294 - حدَّثنا إبْرَاهِيمِ بنُ مُوسَى أخْبرنَا هِشامٌ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا صَارَتِ الأوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي العَرَبِ بَعْدُ أمَّا وَد فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الجَنْدَلِ وَأمَّا صُوَاغٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمَوادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالجَوْفِ عِنْدَ صَبا وأمّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرِ لآلِ ذِي الكَلاعِ أسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ أنْ انْصِبُوا إلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصابا وَسَموها بأسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إذَا هَلَكَ أُوْلَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ، وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء هُوَ الْخُرَاسَانِي، وَلَيْسَ بعطاء بن أبي رَبَاح وَلَا بعطاء بن يسَار. قَالَه الغساني، وَقَالَ ابْن جريج: أَخذه من كتاب عَطاء لَا من السماع مِنْهُ وَلِهَذَا قيل: إِنَّه مُنْقَطع لِأَن عَطاء الْخُرَاسَانِي لم يلق ابْن عَبَّاس، وَقَالَ أَبُو مَسْعُود: ظن البُخَارِيّ أَنه ابْن أبي رَبَاح وَابْن جريج لم يسمع التَّفْسِير من الْخُرَاسَانِي، وَإِنَّمَا أَخذ الْكتاب من ابْنه وَنظر فِيهِ، وروى عَن صَالح بن أَحْمد عَن ابْن الْمَدِينِيّ، قَالَ: سَأَلت يحيى بن سعيد عَن أَحَادِيث ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي، فَقَالَ: ضَعِيف. فَقلت: ليحيى: إِنَّه كَانَ يَقُول أخبرنَا. قَالَ: لَا شَيْء كُله ضَعِيف إِنَّمَا هُوَ كتاب دَفعه إِلَيْهِ ابْنه، وَقيل: فِي معاضدة البُخَارِيّ فِي هَذَا، إِنَّه بِخُصُوصِهِ عِنْد ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح جَمِيعًا وَلَا يخفى على البُخَارِيّ ذَلِك مَعَ تشدده فِي شَرط الِاتِّصَال واعتماده عَلَيْهِ، وَيُؤَيّد هَذَا إِنَّه لم يكثر من تَخْرِيج هَذَا وَإِنَّمَا ذكره بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي موضِعين هَذَا وَالْآخر فِي النِّكَاح، وَلَو كَانَ يخفى عَلَيْهِ ذَلِك لاستكثر من إِخْرَاجه لِأَن ظَاهره على شَرطه. انْتهى. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى لِأَن تشدده فِي شَرط الِاتِّصَال لَا يسْتَلْزم عدم الخفاء عَلَيْهِ أصلا فسبحان من لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء وَقَوله: على ظَاهره. على شَرطه لَيْسَ بِصَحِيح لِأَن الْخُرَاسَانِي من أَفْرَاد مُسلم كَمَا ذكر فِي مَوْضِعه.
قَوْله: (الْأَوْثَان) ، جمع وثن وَفِي (الْمغرب) الوثن مَا لَهُ جثة من خشب أَو حجر أَو فضَّة أَو جَوْهَر ينحت، وَكَانَت الْعَرَب تنصب الْأَوْثَان وتعبدها. قَوْله: (فِي الْعَرَب بعد) ، بِضَم الدَّال أَي: بعد كَون الْأَوْثَان فِي قوم نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَت فِي الْعَرَب، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة كَانَت الْأَوْثَان آلِهَة يَعْبُدهَا قوم نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ عبدتها الْعَرَب بعد، وَعَن أبي عُبَيْدَة: زَعَمُوا أَنهم كَانُوا مجوسا وَأَنَّهَا غرقت فِي الطوفان فَلَمَّا نصب المَاء عَنْهَا أخرجهَا إِبْلِيس، عَلَيْهِ اللَّعْنَة فبثها فِي الأَرْض قبل قَوْله: كَانُوا مجوسا غير صَحِيح لِأَن الْمَجُوسِيَّة نَخْلَة ظَهرت بعد ذَلِك بدهر طَوِيل. قَوْله: (أما ود) ، شرع فِي تَفْصِيل هَذِه الْأَوْثَان وبيانها. قَوْله: أما، بِكَلِمَة التَّفْصِيل. قَوْله: (لكَلْب) ، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن كَلْبا هُوَ ابْن وبرة بن تغلب. قَوْله: (بدومة الجندل) ، بِضَم الدَّال والجندل بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون مَدِينَة من الشَّام مِمَّا يَلِي الْعرَاق وَيُقَال: بَين الْمَدِينَة وَالشَّام، وَالْعراق وفيهَا اجْتمع الحكمان. قَوْله: (لهذيل) مصغر الهذل قَبيلَة وَهُوَ ابْن مدركة(19/262)
بن الياس بن مُضر. قَوْله: (لمراد) ، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء الْمُهْملَة أَبُو قَبيلَة من الْيمن. قَوْله: (ثمَّ لبني غطيف) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء، وَهُوَ بطن من مُرَاد وَهُوَ: غطيف بن عبد الله بن نَاجِية بن مُرَاد. قَوْله: (بالجوف) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وبالفاء، وَهُوَ المطمئن من الأَرْض، وَقيل: هُوَ وَاد بِالْيمن، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن غير الْكشميهني بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْكشميهني بالجرف بِضَم الْجِيم وَالرَّاء، وَقَالَ ياقوت: وَرِوَايَة الْحميدِي بالراء، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بالجون بِالْجِيم وَالْوَاو وَالنُّون. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان، رَأَيْته كَانَ من رصاص على صُورَة أَسد. قَوْله: (عِنْد سبأ) ، هَذَا فِي رِوَايَة غير أبي ذَر. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: سبأ اسْم مَدِينَة بلقيس، وَقيل: هُوَ اسْم رجل ولد مِنْهُ عَامَّة قبائل الْيمن، وَكَذَا جَاءَ مُفَسرًا فِي الحَدِيث، وَسميت الْمَدِينَة بِهِ قَوْله: (لهمدان) ، بِسُكُون الْمِيم وإهمال الدَّال قَبيلَة، وَأما مَدِينَة هَمدَان الَّتِي هِيَ مَدِينَة من بِلَاد عراق الْعَجم فَهِيَ بِفَتْح الْمِيم والذال الْمُعْجَمَة. قَوْله: (لحمير) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، أَبُو قَبيلَة. قَوْله: (لآل ذِي كلاع) ، بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام وبالعين الْمُهْملَة وَهُوَ اسْم ملك من مُلُوك الْيمن. قَوْله: (أَسمَاء رجال) أَي: هَذِه الْخَمْسَة أَسمَاء رجال صالحين قَالَه الْكرْمَانِي، وَقدر مُبْتَدأ محذوفا. وَهُوَ قَوْله: هَذِه الْخَمْسَة، وَيكون ارْتِفَاع: أَسمَاء رجال على الخبرية. قَالَ: ويروى ونسر، أسما ثمَّ قَالَ وَالْمرَاد: نسر وإخواته أَسمَاء رجال صالحين، وَقيل: وَسقط لفظ: ونسر، لغير أبي ذَر. قَوْله: (فَلَمَّا هَلَكُوا) أَي: فَلَمَّا مَاتَ الصالحون، وَكَانَ مبدأ عبَادَة قوم نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذِه الْأَصْنَام بعد هلاكهم ثمَّ تَبِعَهُمْ من بعدهمْ على ذَلِك. قَوْله: (أنصابا) جمع النصب وَهُوَ مَا ينصب لغَرَض كالعبادة. قَوْله: (وسموها) أَي: هَذِه الْأَصْنَام بأسماء الصَّالِحين الْمَذْكُورين. قَوْله: (فَلم تعبد) هَذِه الْأَصْنَام حَتَّى إِذا هلك أُولَئِكَ الصالحون. قَوْله: (وتنسخ) بِلَفْظ الْمَاضِي من التفعيل أَي تغير علمهمْ بِصُورَة الْحَال وزالت معرفتهم بذلك، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني، وَنسخ الْعلم فَحِينَئِذٍ عبدت على صِيغَة الْمَجْهُول، وَحَاصِل الْمَعْنى، أَنهم لما مَاتُوا وتغيرت صُورَة الْحَال وزالت معرفتهم جعلوها معابيد بعد ذَلِك.
27 - (سُورَةُ: {قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير بَعْص سُورَة: {قل أُوحي} (الْجِنّ: 1) تسمى: سُورَة الْجِنّ، وَهِي مَكِّيَّة. وَهِي ثَمَانمِائَة وَسَبْعُونَ حرفا. ومائتان وَخمْس وَثَمَانُونَ كلمة، وثمان وَعِشْرُونَ آيَة.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لِبَدا: أعْوانا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} (الْجِنّ: 91) وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ هَكَذَا. قَوْله: (لبدا) ، يَعْنِي: مُجْتَمعين يركب بَعضهم بَعْضًا ويزدحمون ويسقطون حرصا مِنْهُم على اسْتِمَاع الْقُرْآن، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة وَابْن زيد يَعْنِي لما قَامَ عبد الله بالدعوة تلبدت الْإِنْس وَالْجِنّ وتظاهروا عَلَيْهِ ليبطلوا الْحق الَّذِي جَاءَهُم بِهِ ويطفؤا نور الله فَأبى الله إلاَّ أَن يتم هَذَا الْأَمر وينصره ويظهره على من ناواه. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) وأصل اللبد الْجَمَاعَات بَعْضهَا فَوق بعض جمع لبدة وَهِي مَا تلبد بعضه على بعض، وَمِنْه سمي اللبد لتراكمه، وَعَاصِم كَانَ يقْرؤهَا بِفَتْح اللَّام وبضم الَّذِي فِي سُورَة الْبَلَد، وَفسّر لبدا بِكَثِير هُنَاكَ، ولبدا هُنَا باجتمع بَعْضهَا على بعض، وقرىء بِضَم اللَّام وَالْبَاء وَهُوَ جمع لبود، وقرىء: لبدا جمع لابد كراكع وَركع، فَهَذِهِ أَربع قراآت. قَوْله: (أعوانا) ، جمع عون وَهُوَ الظهير على الْأَمر، وَهُوَ مُكَرر فِي بعض النّسخ أَعنِي: ذكر مرَّتَيْنِ.
بَخْسا نَقْصا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا} (الْجِنّ: 31) وَفسّر البخس بِالنَّقْصِ، والرهق فِي كَلَام الْعَرَب الْإِثْم وغشيان الْمَحَارِم، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ للنسفي وَحده.
1294 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عُكاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشيَّاطِينَ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتِ الشيَّاطِينُ فَقَالُوا(19/263)
مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالَ مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلاَّ مَا حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَها فَانْظُروا مَا هاذا الأمْرُ الَّذِي حَدَثَ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَها يَنْظُرُونَ مَا هاذا الأمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ قَالَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَخْلَةً وَهُوَ عَامِدٌ إلَى سُوقِ عُكاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأصْحَابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ فَقَالُوا هاذا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أحَدا وَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ} (الْجِنّ: 1) وَإنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ويوضح سَبَب النُّزُول أَيْضا وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر: بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة جَعْفَر بن أبي وحشية الوَاسِطِيّ الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب الْجَهْر بِقِرَاءَة الصُّبْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (انْطلق) كَانَ ذَلِك فِي ذِي الْقعدَة سنة عشر من الْبعْثَة. قَوْله: (عكاظ) بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْكَاف وبالظاء الْمُعْجَمَة: سوق الْعَرَب بِنَاحِيَة مَكَّة يصرف وَلَا يصرف وَكَانُوا يُقِيمُونَ بِهِ أَيَّامًا فِي الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (قد حيل) ، على بِنَاء الْمَجْهُول من حَال إِذا حجز. قَوْله: (تهَامَة) ، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ اسْم لكل مَا نزل عَن نجد من بِلَاد الْحجاز. قَوْله: (بنخلة) ، مَوضِع مَشْهُور ثمَّة وَهُوَ غير منصرف. قَوْله: (عَامِدًا) أَي: قَاصِدا. قَوْله: (تسمعوا) ، أَي: تكلفوا للسماع لِأَن بَاب التفعل للتكلف قَوْله: (حَال) ، أَي: حجز.
37 - (سُورَةُ {المُزَّمَّلِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة المزمل وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: سُورَة المزمل والمدثر، وَلم يذكر فِي بعض النّسخ لفظ: سُورَة. قَالَ مقَاتل: هِيَ مَكِّيَّة إلاَّ قَوْله: {وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} (المزمل: 02) وَهِي ثَمَانمِائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثُونَ حرفا ومائتان وَخمْس وَثَمَانُونَ كلمة، وَعِشْرُونَ آيَة وأصل المزمل بِالتَّشْدِيدِ المتزمل فأبدلت التَّاء زايا وأدغمت الزَّاي فِي الزَّاي، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب على الأَصْل والمزمل والمدثر والمتلفف والمشتمل بِمَعْنى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتبَتَّلْ أخْلِصْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلاً} (المزمل: 8) وَفَسرهُ بقوله: أخْلص، وَرَوَاهُ عبد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن جريج عَنهُ بِلَفْظ: أخْلص لَهُ الْمَسْأَلَة وَالدُّعَاء، وَقَالَ قَتَادَة: أخْلص لَهُ الدعْوَة وَالْعِبَادَة، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي صَالح وَالضَّحَّاك وعطية وَالسُّديّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي مثل ذَلِك، وَعَن عَطاء: انْقَطع إِلَيْهِ انْقِطَاعًا، وَهُوَ الأَصْل فِيهِ. يُقَال: تبتلت الشَّيْء إِذا قطعته.
وَقَالَ الحَسَنْ: أنْكالاً: قُيُودا
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن لدينا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} (المزمل: 21) وَرَوَاهُ عبد عَن يحيى بن عبد الحميد عَن حَفْص بن عمر عَنهُ، والأنكال جمع نكل بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْكَاف وبفتحهما.
مُنْفَطِرٌ بِهِ مُثْقَلَةٌ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا السَّمَاء منفطر بِهِ} وفسرخ بقوله: (مثقلة بِهِ) وَرَوَاهُ عبد من وَجه آخر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ نَحوه: وَإِنَّمَا قَالَ: منفطر، بالتذكير على تَأْوِيلهَا بالسقف أوشيء منفطر بِهِ أَو ذَات انفطار.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كَثِيبا: مَعِيلاً الرَّمْلُ: السَّائِلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلاً} (المزمل: 41) أَي: رملاً سَائِلًا. رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
وَبِيلاً شَدِيدا(19/264)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فأخذناه أخذا وبيلاً} (المزمل: 61) وَفسّر (وبيلاً) بقوله: (شَدِيدا) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وبيلاً أَي: شَدِيدا صعبا ثقيلاً وَمِنْه يُقَال: كلاء مستوبل، وَطَعَام مستوبل إِذا لم يسْتَمر أَو مِنْهُ الوبال.
47 - (سُورَةُ {المُدَّثِّرِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة المدثر، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي ألف وَعشرَة أحرف، ومائتان وَخمْس وَخَمْسُونَ كلمة، وست وَخَمْسُونَ آيَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: {يَا أَيهَا المدثر} (المدثر: 1) أَي: فِي القطيفة وَالْجُمْهُور على أَنه المدثر بثيابه.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: عَسِيرٌ شَدِيدٌ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَذَلِك يَوْمئِذٍ عسيرا} (المدثر: 9) وَفسّر بقوله: {شَدِيد} وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة.
قَسُوَرَةٌ: رَكْزُ النَّاسِ وأصْوَاتُهُمْ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة فرت من قسورة} (المدثر: 05، 15) وَفسّر القسورة بركز النَّاس وأصواتهم، وَصله سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: هُوَ ركز النَّاس وأصواتهم، قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي حسهم وأصواتهم.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ الأسَدُ وَكلُّ شَدِيدٍ قَسْوَرَةٌ وَقَسْوَرٌ
أَي: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: القسورة الْأسد، وروى عبد بن حميد من طَرِيق سعد عَن زيد بن أسلم. قَالَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة إِذا قَرَأَ: {كَأَنَّهُمْ حمرَة مستنفرة فرت من قسورة} (المدثر: 05، 15) قَالَ: القسورة الْأسد وَهَذَا مُنْقَطع بَين ابْن زيد وَأبي هُرَيْرَة. قَوْله: (وكل شَدِيد) مُبْتَدأ. وقسورة خَبره، وقسور عطف عَلَيْهِ من القسر وَهُوَ الْغَلَبَة، وَقيل: القسورة الرُّمَاة حُكيَ عَن مُجَاهِد وَعَن سعيد بن جُبَير: القسورة القناص ووزنها فعولة، وروى ابْن جرير من طَرِيق يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس: القسورة الْأسد بِالْعَرَبِيَّةِ، وبالفارسية: شير، وبالحبشية: القسورة وَلَفظ قسور من زِيَادَة النَّسَفِيّ رَحمَه الله.
مُسْتَنْفِرَةٌ: نَافِرَةٌ مَذْعُورَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة} وفسرها بقوله: {نافرة مَذْعُورَة} بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي: مخافقة وَقَرَأَ أهل الشَّام وَالْمَدينَة بِفَتْح الْفَاء وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ.
2294 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بنِ المُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثِيرٍ سألْت أبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ أوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ يَا أيُّها المُدَّثِّرُ قُلْتُ يَقُولُونَ اقْرَأْ بَاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فَقَالَ أبُو سَلَمَةَ سَألْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا عَنْ ذالِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْل الَّذِي قُلْتَ فَقَالَ جَابِرٌ لَا أُحَدِّثُكَ إلاَّ مَا حَدَّثنا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ جَاوَرْتُ بُحَرَاء فَلَمَّا قَضَيْتُ جَوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينَي فَلَمْ أرَ شَيْئا وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أرَ شَيْئا وَنَظَرْتُ أمَامِي فَلَمْ أرَ شَيْئا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا فَرَفَعْتُ رَأسِي فَرَأيْتُ شَيْئا فَأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدا فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدا قَالَ فَنَزَلَتْ: {يَا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فَأنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَفِيه بَيَان سَبَب النُّزُول. وَيحيى هُوَ ابْن مُوسَى الْبَلْخِي أَو يحيى بن جَعْفَر، وَقد مضى جُزْء مِنْهُ فِي أول الْكتاب فِي بَدْء الْوَحْي، قَالَ ابْن شهَاب: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الحَدِيث.
قَوْله: (جَاوَرت(19/265)
بحراء) ، أَي: اعتكفت بهَا، وَهُوَ بِكَسْر الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وبالمد منصرفا على الْأَشْهر، حَبل على يسَار السائر من مَكَّة إِلَى منى. قَوْله: (جواري) ، بِكَسْر الْجِيم أَي: مجاورتي. أَي: اعتكافي. قَوْله: (فَرَأَيْت شَيْئا) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ، رَأَيْت جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد قَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك} (اقْرَأ: 1) فَخفت من ذَلِك ثمَّ أتيت خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقلت: دَثرُونِي أَي: غطوني فَنزلت: {يَا أَيهَا المدثر} (المدثر: 1) وَالْجُمْهُور على أَن أول مَا نزل هُوَ {اقْرَأ باسم رَبك} وَفِي هَذَا الحَدِيث استخرج جَابر ذَلِك عَن الحَدِيث بِاجْتِهَادِهِ، وظنه فَلَا يُعَارض الحَدِيث الصَّحِيح الْمَذْكُور فِي أول الْكتاب الصَّرِيح بِأَنَّهُ اقْرَأ أَو تَقول إِن لفظ: أول من الْأُمُور النسبية، فالمدثر يصدق عَلَيْهِ أَنه أول مَا نزل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا نزل بعده.
2 - (بَابُ قَوْلِهِ: {قُمْ فَأنْذِرْ} (المدثر: 2)
أَي: قُم يَا مُحَمَّد من مضجعك قيام عزم وجد فَأَنْذر قَوْمك وَغَيرهم لِأَنَّهُ أطلق الْإِنْذَار.
3294 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ مَهْدُيٍ وَغَيْرُهُ قَالا حَدَّثنا حَرْبُ بنُ شَدَّادٍ عَنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ جَاوَرْتُ بِحَرَاءِ مِثْلَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بنِ عُمَرَ عَنْ عَلِيِّ بنِ المُبَارَكَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار بالشين الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (وَغَيره) ، يشبه أَن يكون أَرَادَ بِهِ أَبَا دَاوُد فَإِن أَبَا نعيم الْأَصْبَهَانِيّ رَوَاهُ عَن أبي إِسْحَاق بن حَمْزَة حَدثنَا أَبُو عوَانَة حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو دَاوُد قَالَا: حَدثنَا حَرْب فَذكره. قَوْله: (مثل حَدِيث عُثْمَان ابْن عمر) ، أحَال رِوَايَة حَرْب بن شَدَّاد على رِوَايَة عُثْمَان بن عمر وَلم يخرج هُوَ رِوَايَة عُثْمَان بن عمر، وَهِي عِنْد مُحَمَّد بن بشار شيخ البُخَارِيّ فِيهِ أخرجه أَب عرُوبَة فِي كتاب (الْأَوَائِل) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عُثْمَان بن عمر أخبرنَا عَليّ بن الْمُبَارك، وَهَكَذَا أخرجه مُسلم عَن ابْن مثنى عَن عُثْمَان بن عمر عَن عَليّ بن الْمُبَارك.
3 - (بَابُ قَوْلِهِ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَرَبك فَكبر} أَي: فَعظم وَلَا تشرك بِهِ، وَهَذَا التَّكْبِير قد يكون فِي الصَّلَاة وَقد يكون فِي غَيرهَا. وَلما نزل ذَلِك قَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكبر فكبرت خَدِيجَة وفرحت وَعلمت أَنه الْوَحْي من الله تَعَالَى، وَالْفَاء على معنى جَوَاب الْجَزَاء أَي: قُم فَكبر رَبك، وَكَذَلِكَ مَا بعده. قَالَ الزّجاج، وَقيل: الْفَاء صلَة كَقَوْلِك: زيدا فَاضْرب.
4294 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدَّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ حدَّثنا حَرْبُ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ سَألْتُ أبَا سَلَمَةَ أيُّ القُرْآنَ أُنْزِلَ أوَّلُ افَقَالَ: {يَا أيُّها المُدَثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئتُ أنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبَّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أبُو سَلَمَةَ سَألْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله أيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ أوَّلُ فَقَال: {يَا أيَّها المُدَّثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ لَا أُخْبِرُكَ إلاَّ بِمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّماءِ وَالأرْضِ فَأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدا وَأُنْزِلَ عَلَيَّ: {يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَإنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 1، 3) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج أبي يَعْقُوب الْمروزِي عَن عبد الصَّمد ابْن عبد الْوَارِث الْبَصْرِيّ عَن حَرْب بن شَدَّاد عَن يحيى بن أبي كثير.
قَوْله: (أول) ، قَوْله: (أنبئت) على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: أخْبرت. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن حَرْب. قلت: إِنَّه بَلغنِي أَن أول مَا نزل اقْرَأ وَلم يبين يحيى بن أبي كثير من أنبأه بذلك وَلَعَلَّه يُرِيد عُرْوَة بن الزبير، كَمَا لم يبين أَبُو سَلمَة من أنبأه بذلك، وَلَعَلَّه يُرِيد عَائِشَة فَإِن الحَدِيث مَشْهُور عَن(19/266)
عُرْوَة عَن عَائِشَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَمَا تقدم فِي بَدْء الْوَحْي من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَنهُ مطولا. قَوْله: (فَاسْتَبْطَنْت) ، أَي: وصلت بطن الْوَادي. قَوْله: (على عرش) ويروى: على كرْسِي.
4 - (بَابُ قَوْلِهِ: {ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} قَالَ الثَّعْلَبِيّ: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: مَعْنَاهَا لَا تلبسها على مَعْصِيّة وَلَا على غدرة، وَالْعرب تَقول للرجل إِذا وفى وَصدق: إِنَّه طَاهِر الثِّيَاب، وَإِذا غدر ونكث: إِنَّه لدنس الثِّيَاب، وَعَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا تلبسها على عجب وَلَا على ظلم وَلَا على إِثْم والبسها وَأَنت طَاهِر، وَعَن ابْن سِيرِين وَابْن زيد: نقِّ ثِيَابك واغسلها بِالْمَاءِ وطهرها من النَّجَاسَة، وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين كَانُوا لَا يتطهرون فَأمره أَن يتَطَهَّر ويطهر ثِيَابه. وَعَن طَاوُوس وثيابك فقصر وشمر، لِأَن تَقْصِير الثِّيَاب طهرة لَهَا.
5294 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ ح وحدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُحَدِّث عَنْ فَتْرَةِ الوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَبَيْنَا أنَا أمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوْتا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحَراءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ فَجَثِثْتُ مِنْهُ رُعْبا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمَّلُونِي زَمَّلُونِي فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أيتُّها المُدَّثِّرُ} إلَى {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1، 5) قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصلاةُ وَهِيَ الأوْثَانُ..
هَذَا أَيْضا حَدِيث جَابر الْمَذْكُور وَلَكِن رَوَاهُ من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة وَذكره من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث بن سعد عَن عقيل، بِضَم الْعين ابْن خَالِد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. وَالْآخر: عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن عبد الرَّزَّاق الخ.
قَوْله: (وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال وَهَذَا مشْعر بِأَنَّهُ كَانَ قبل نزُول: {يَا أَيهَا المدثر} (المدثر: 1) وَحي وَلَيْسَ ذَلِك إلاَّ سُورَة اقْرَأ على الصَّحِيح. قَوْله: قَوْله: {على كرْسِي} وَفِي الحَدِيث الَّذِي مضى على عرش وَلَا تفَاوت بَينهمَا بِحَسب الْمَقْصُود. وَهُوَ مَا يجلس عَلَيْهِ وَقت العظمة {فَجَثَتْ} على صِيغَة الْمَجْهُول من الجأث، بِالْجِيم والهمزة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ الْفَزع والرعب وَالْخَوْف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: فجثثت بالمثلثتين من الجث وَهُوَ الْقلع والرعب. قَوْله: (قيل أَن تفرض الصَّلَاة) غَرَضه أَن تَطْهِير الثِّيَاب كَانَ وَاجِبا قبل الصَّلَاة قَوْله: (وَهِي) أَي: الرجز هِيَ الْأَوْثَان، وَإِنَّمَا أنث بِاعْتِبَار أَن الْخَبَر جمع وَإِنَّمَا فسر بِالْجمعِ نظر إِلَى الْجِنْس.
5 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالرجز فاهجز} عَن ابْن عَبَّاس: فاترك المأثم، وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ وَابْن زيد: والأوثان فاهجر وَلَا تَقربهَا، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: الزَّاي فِيهِ بدل من السِّين لقرب مخرجهما. دَلِيله قَوْله عز وَجل: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} (الْحَج: 03) وَعَن أبي الْعَالِيَة الرّبيع: الرجز، بِالضَّمِّ الصَّنَم، وبالكسر النَّجَاسَة وَالْمَعْصِيَة، وَعَن الضَّحَّاك: الشّرك وَعَن ابْن كيسَان الشَّيْطَان.
يُقَالُ: الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ: العَذَابُ
هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة والكلبي، ومجاز الْآيَة أَهجر مَا أوجب لَك الْعَذَاب من الْأَعْمَال، وَقيل: أسقط حب الدُّنْيَا من قَلْبك فَأَنَّهُ رَأس كل خَطِيئَة.
6294 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابنُ شِهابٍ سَمِعْتُ أبَا سَلَمَة(19/267)
َ قَالَ أخْبَرَنِي جَابِرُ بنُ عَبْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَة الوَحْيِ فَبَيْنا أنَا أمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوْتا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحَرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضي فَجَثثْت مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إلَى الأرْضِ فَجَئْتُ أهْلِي فَقُلْتُ زَمَّلُونِي زَمَّلُونِي فَزَمَلونِي فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أيُّها المُدَّثَّرُ} إلَى: {فَاهْجُرْ} (المدثر: 1) . قَالَ أبُو سَلَمَةَ وَالرِّجْزَ الأوْثَانَ ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاهجر) وَهَذَا أَيْضا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر. قَوْله: (فَبينا) أَصله: بَين أشبعت فَتْحة النُّون بِالْألف وَهُوَ ظرف يُضَاف إِلَى الْجُمْلَة وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب وَجَوَابه قَوْله: (إِذا سَمِعت) قَوْله: (حَتَّى هويت) أَي: حَتَّى سَقَطت. قَوْله: (وَالرجز الْأَوْثَان) ، بِكَسْر الرَّاء وَالضَّم لُغَة قَالَه الْفراء، وَقَالَ بعض الْبَصرِيين بِالْكَسْرِ الْعَذَاب وَلَا يضم، وَفسّر أَبُو سَلمَة الرجز بالأوثان لِأَنَّهَا مؤدية إِلَى الْعَذَاب، ويروى عَن مُجَاهِد وَالْحسن بِالضَّمِّ اسْم الصَّنَم وبالكسر الْعَذَاب، وروى ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق مُحَمَّد بن كثير عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث الرجز بِالضَّمِّ وَهِي قِرَاءَة حَفْص عَن عَاصِم.
57 - (سُورَةُ {القِيَامَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْقِيَامَة، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي سِتّمائَة وإثنان وَخَمْسُونَ حرفا وَمِائَة وَسبع وَتسْعُونَ كلمة. وَأَرْبَعُونَ آيَة.
1 - (بابُ وَقَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (الْقِيَامَة: 61)
أَي: وَقَوله تَعَالَى: {لَا تحرّك بِهِ} الْخطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: لَا تحرّك بِالْقُرْآنِ لسَانك، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يفتر عَن قِرَاءَة الْقُرْآن مَخَافَة أَن لَا ينساه وَلَا ويحرك بِهِ لِسَانه. فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجب بِهِ} أَي: بتلاوته لتحفظه وَلَا تنساه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: سُدًى هَمَلاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} (الْقِيَامَة: 63) أَي: هملاً بِفتْحَتَيْنِ أَي: مهملاً.
وَقَالَ ليَفْجُرَ أمَامَةُ: سَوْفَ أتُوبُ سَوْفَ أعْمَلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الْإِنْسَان ليفجر أَمَامه} (الْقِيَامَة: 5) فسره بقوله: (سَوف أَتُوب سَوف أعمل) وَحَاصِل الْمَعْنى: يُرِيد الْإِنْسَان أَن يَدُوم على فجوره فِيمَا يستقبله من الزَّمَان وَيَقُول: سَوف أَتُوب وسوف أعمل عملا صَالحا.
لَا وَزَرَ لَا حِصْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلا لَا وزر إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر} (الْقِيَامَة: 21، 31) وَفسّر الْوزر بالحصن، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصن وَعَن أبي عُبَيْدَة: الْوزر الملجأ.
7294 - حدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا مُوسَى بنُ أبِي عَائِشَةَ وَكَانَ ثِقَةً عَنْ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيْ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَوَصَفَ سُفْيَانُ يُرِيدُ أنْ يَحْفَظَهُ فَأنْزَلَ الله: {لَا تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
(الْقِيَامَة: 61) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمضى الحَدِيث فِي بَدْء الْوَحْي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ قَوْله: (وَكَانَ ثِقَة) ، مقول سُفْيَان، ومُوسَى هَذَا تَابِعِيّ صَغِير كُوفِي من موَالِي آل جعدة ابْن هُبَيْرَة وَلَا يعرف اسْم أَبِيه، ومدار هَذَا الحَدِيث عَلَيْهِ وَإِلَى قَوْله: (لتعجل بِهِ) فِي رِوَايَة أبي ذَر وَزَاد غَيره الْآيَة الَّتِي بعْدهَا.
(بَابٌ: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (الْقِيَامَة: 71)(19/268)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {أَن علينا جمعه} أَي: فِي صدرك {وقرآنه} (الْقِيَامَة: 71) وقراءته عَلَيْك حَتَّى تعيه، وَالْقُرْآن مصدر كالرجحان وَالنُّقْصَان.
8294 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى عَنْ مُوسَى بنِ أبِي عَائِشَةَ أنَّهُ سَأَلَ سَعِيد بنِ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (الْقِيَامَة: 61) قَالَ وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يَخَشَى أنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أنْ تَقْرَأَهُ: {فَإِذَا قَرَأْناهُ} يَقُولُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ (فَاتَبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (الْقِيَامَة: 81، 91) أنْ نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس أبي إِسْحَاق السبيعِي. وَهَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس من رِوَايَة إِسْرَائِيل عَن مُوسَى الْمَذْكُور. قَوْله: (كَانَ) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَرك شَفَتَيْه إِذا أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن. قَوْله: (أَن يتفلت) أَي: يضيع ويفوت قَوْله: (إِن علينا جمعه) إِلَى آخِره، يحْتَمل أَن يكون مُعَلّقا عَن ابْن عَبَّاس، وَسِيَاق الحَدِيث الَّذِي بعده أتم مِنْهُ.
2 - (بَابٌ: {فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأناه} أَي: إِذا قرأناه عَلَيْك: {فَاتبع قرآنه} أَي: مَا فِيهِ من الْأَحْكَام.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَرْآنَهُ بَيَانَهُ فَانبِعْ اعْمَلْ بِهِ
هَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس هَذِه التَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} وروى هَذَا التَّفْسِير عَليّ بن أبي طَلْحَة وَقد أخرجه ابْن حَاتِم.
9294 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرُ عَنْ مُوسَى بنِ أبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ بِالوَحْي وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَقُ مِنْهُ فَأنْزَلَ الله الآيَةَ الَّتِي فِي {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَة: 1) {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (الْقِيَامَة: 61، 71) قَالَ عَلَيْنَا أنْ نَجْمَعُهُ فِي صَدْرِكَ وَقرْآنَهُ: {فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فإذَا أَنْزَلْنَا فَاسْتَمِعْ {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (الْقِيَامَة: 91) عَلَيْنَا أنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ: فَكَانَ إذَا أتَاهُ جِبْرِيلُ أطْرَقَ فَإذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ الله تَعَالَى..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير بن عبد الحميد عَن مُوسَى الْمَذْكُور.
قَوْله: (لِسَانه وشفتيه) ذكر هما هُنَا وَاقْتصر سُفْيَان فِي رِوَايَته السَّابِقَة على ذكر لِسَانه، وَاقْتصر إِسْرَائِيل على ذكر شَفَتَيْه وَالْكل مُرَاد. قَوْله: (فيشتد عَلَيْهِ) أَي: يشْتَد عَلَيْهِ حَاله عِنْد نزُول الْوَحْي، وَمضى فِيمَا تقدم، وَكَانَت الشدَّة تحصل مَعَه عِنْد نزُول الْوَحْي لثقل القَوْل، وَفِي حَدِيث الْإِفْك، فَأَخذه مَا كَانَ يَأْخُذهُ من البرحاء وَكَانَ يتعجل بِأَخْذِهِ لتزول الشدَّة سَرِيعا. قَوْله: (وَكَانَ يعرف مِنْهُ) أَي: وَكَانَ الاشتداد، يعرف مِنْهُ حَالَة نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ. قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى) أَي: بِسَبَب ذَلِك الاشتداد أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {وقرآنه} زَاد إِسْرَائِيل فِي رِوَايَته الْمَذْكُورَة أَن تَقْرَأهُ أَي: أَنْت تقرؤه. قَوْله: (فَإِذا قرأناه) أَي: فَإِذا قَرَأَهُ عَلَيْك الْملك قَوْله: (أطرق) يُقَال: أطرق الرجل إِذا سكت، وأطرق أَي أرْخى عَيْنَيْهِ ينظر إِلَى الأَرْض.
{أَوْلَى لَكَ} تَوَعُّدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أولى لَك فَأولى ثمَّ أولى لَك فَأولى} وَفَسرهُ. بقوله: (توعد) أَي: هَذَا وَعِيد من الله تَعَالَى على وَعِيد لأبي جهل، وَهِي كلمة مَوْضُوعَة للتهديد والوعيد، وَقيل: أولى من المقلوب ويلي من الويل كَمَا يُقَال: مَا أطيبه وأبطيه، وَمعنى الْآيَة لِأَنَّهُ يَقُول لأبي جهل الويل لَك يَوْم تحيى وَالْوَيْل لَك يَوْم تَمُوت وَالْوَيْل لَك يَوْم تبْعَث وَالْوَيْل لَك يَوْم تدخل النَّار.(19/269)
67 - (سُورَةُ {هَلْ أتَى عَلَى الإنْسَانِ} (الْإِنْسَان: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} وَهِي مَكِّيَّة قَالَه قَتَادَة وَالسُّديّ وسُفْيَان، وَعَن الْكَلْبِيّ: أَنَّهَا مَكِّيَّة إِلَّا آيَات (ويطعمون الطَّعَام على حبه) (الْإِنْسَان: 8، 9) إِلَى قَوْله: (قمطريرا) وَيذكر عَن الْحسن أَنَّهَا مَكِّيَّة وفيهَا آيَة مَدَنِيَّة {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} (الْإِنْسَان: 42) وَقيل: مَا صَحَّ فِي ذَلِك قَول الْحسن وَلَا الْكَلْبِيّ، وَجَاءَت أَخْبَار فِيهَا أَنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْن عَليّ وَفَاطِمَة وابنيهما، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذكر ابْن النَّقِيب أَنَّهَا مَدَنِيَّة كلهَا. قَالَه الْجُمْهُور، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الرحمان وَقبل الطَّلَاق، وَهِي ألف وَأَرْبَعَة وَخَمْسُونَ حرفا ومائتان وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.
يُقَالُ مَعْنَاهُ أنَى عَلَى الإنْسَانِ وَهَلْ تَكُونُ جَحْدا وَتَكُونُ خَبرا وَهاذا مِنَ الخَبَرِ يَقُولُ كَانَ شَيْئا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورا وَذالِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إلَى أنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ.
الْقَائِل فِيهِ بذلك الْقُرَّاء. قَوْله: (مَعْنَاهُ أَتَى على الْإِنْسَان) ، يدل على أَن لفظ هَل، صلَة وَلَكِن لم يقل أحد إِن: هَل، قد تكون صلَة. قَوْله: (وَهل تكون جحدا) ، يَعْنِي: نفيا وَتَكون خَبرا يَعْنِي إِثْبَاتًا يَعْنِي يخبر بِهِ عَن أَمر مُقَرر، وَيكون جعل حِينَئِذٍ بِمَعْنى قد للتحقيق، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَهَذَا من الْخَبَر، أَرَادَ بِهِ أَن هَل هُنَا يَعْنِي يَعْنِي: فِي قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} بِمَعْنى: قد، وَمَعْنَاهُ. قد أَتَى على الْإِنْسَان وَأُرِيد بِهِ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة والصلام، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِن هَل أَتَى أَبَد بِمَعْنى: قد وَأَن الِاسْتِفْهَام إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَاد من همزَة مقدرَة مَعهَا، وَنَقله فِي (الْمفصل) عَن سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ: وَعند سِيبَوَيْهٍ أَن أهل بِمَعْنى قد إلاَّ أَنهم تركُوا الْألف قبلهَا لِأَنَّهَا لَا تقع إلاَّ فِي الِاسْتِفْهَام. قَوْله: (حِين من الدَّهْر) ، أَرْبَعُونَ سنة ملقًى بَين مَكَّة والطائف، قبل أَن ينْفخ فِيهِ الرّوح. قَوْله: (لم يكن شَيْئا مَذْكُورا) ، لَا يذكر وَلَا يعرف وَلَا يدْرِي مَا اسْمه، وَلَا مَا يُرَاد بِهِ، وَالْمعْنَى: أَنه كَانَ شَيْئا لكنه لم يكن مَذْكُورا يَعْنِي: انْتِفَاء هَذَا الْمَجْمُوع بِانْتِفَاء صفته لَا بِانْتِفَاء الْمَوْصُوف، وَلَا حجَّة فِيهِ للمعتزلة فِي دَعوَاهُم أَن الْمَعْدُوم شَيْء وَوَقع فِي بعض النّسخ، وَقَالَ يحيى: مَعْنَاهُ أَتَى على الْإِنْسَان إِلَى آخِره، وَيحيى هَذَا هُوَ ابْن زِيَاد بن عبد الله بن مَنْصُور الديلمي الْفراء. صَاحب كتاب مَعَاني الْقُرْآن، وَقَالَ بَعضهم هُوَ صَوَاب لِأَنَّهُ قَول وَيحيى بن زِيَاد الْفراء بِلَفْظِهِ. قلت: دَعْوَى الصَّوَاب غير صَحِيحَة لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون هَذَا قَول غَيره كَمَا هُوَ قَوْله، وَلم يطلع البُخَارِيّ على أَنه قَول الْفراء وَحده، فَلذَلِك قَالَ: يُقَال مَعْنَاهُ أَو اطلع أَيْضا على قَول غَيره مثل قَول الْفراء فَذكر بِلَفْظ يُقَال: ليشْمل كل من قَالَ بِهَذَا القَوْل، فَافْهَم.
أمْشَاجٍ: الأخْلاطُ مَاءُ المَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ الدَّمُ، والعَلَقَةُ. وَيُقَالُ: إذَا خُلِطَ مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ لَهُ خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج} (الْإِنْسَان: 2) وَفسّر: (الأمشاج) بقوله: (الأخلاط) والأمشاج جمع مشج بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الأمشاج جمع وَهُوَ فِي معى الْوَاحِد لِأَنَّهُ نعت للنطفة وَهَذَا كَمَا يُقَال: برمة أعشار، وثوب أَخْلَاق. قَوْله: (مَاء الْمَرْأَة وَمَاء الرجل) تَفْسِير الأخلاط يخْتَلط الماآن فِي الرَّحِم فَيكون مِنْهُمَا جَمِيعًا الْوَلَد وَمَاء الرجل أَبيض غليظ وَمَاء الْمَرْأَة أصفر رَقِيق، فَأَيّهمَا علا صَاحبه كَانَ الشّبَه لَهُ كَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَمُجاهد، وَالربيع. قَوْله: (الدَّم والعلقة) ، تَقْدِيره ثمَّ الدَّم ثمَّ الْعلقَة ثمَّ المضغة ثمَّ اللَّحْم ثمَّ الْعظم ينشئه الله تَعَالَى خلقا آخر. قَوْله: (إِذا خلط) يَعْنِي: إِذا خلط شَيْء بِشَيْء يُقَال لَهُ مشيج على وزن فعيل بِمَعْنى ممشوج أَي: مخلوط، يُقَال: مشجت هَذَا بِهَذَا أَي خلطته.
سَلاسَلاً. وَأغْلالاً(19/270)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسلا وإغلالاً وسعيرا} عندنَا هيأنا. والسلاسل جمع سلسلة كل سلسلة سَبْعُونَ ذِرَاعا والأغلال جمع غل بِالضَّمِّ، فالسلاسل فِي أَعْنَاقهم والأغلال فِي أَيْديهم والسعير يوقدون فِيهِ لَا يطفى، وَقيل: السلَاسِل الْقُيُود، وَقَرَأَ نَافِع وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: سلاسلاً، بِالتَّنْوِينِ وَهِي رِوَايَة هِشَام عَن أهل الشَّام، وَقَرَأَ حَمْزَة وَخلف وَحَفْص وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو بالفتحة بِلَا تَنْوِين.
وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ
بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْجِيم وبالراء من الإجراء أَرَادَ بِهِ لم يصرف بَعضهم سلاسل، يَعْنِي: لَا يدْخلُونَ فِيهِ التَّنْوِين، وَهَذَا على الِاصْطِلَاح الْقَدِيم، يَقُولُونَ: اسْم مجْرى وَاسم غير مجْرى، يَعْنِي: اسْم مَصْرُوف وَاسم لَا ينْصَرف، وَذكر عِيَاض أَنه فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: لم يجز، بالزاي أَي بدل الرَّاء، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ إلاَّ الأجه وَلم يبين وَجه إلاَّ الأوجهية بل بالراء أوجه على مَا لَا يخفى.
مُسْتَطِيرا مِمْتَدا البَلا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} (الْإِنْسَان: 7) وَفَسرهُ بقوله: (ممتدا الْبلَاء) وَكَذَا فسره الْفراء، وَيُقَال: ممتدا فاشيا، يُقَال: استطار الصدع فِي الزجاجة واستطال إِذا اشْتَدَّ.
والقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ يُقالُ يَوْمٌ قَمْطَرِيرُ وَيَوْمٌ قُماطِرٌ وَالعَبُوسُ وَالقَمْطَرِيرُ وَالقُماطِرُ وَالعَصِيبُ أشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ الأيَّامِ فِي البَلاءِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطيريرا} (الْإِنْسَان: 01) وَالْبَاقِي ظَاهر، وقماطر، بِضَم الْقَاف، وَعَن ابْن عَبَّاس: العبوس: الضّيق، والقمطرير: الطَّوِيل، وَعَن مُجَاهِد القمطرير الَّذِي يقلص الْوُجُوه ويقنص الْحَيَاة وَمَا بَين الْأَعْين من شدته. وَعَن الْكسَائي، يُقَال: أقمطر الْيَوْم وأزمهر قمطرارا وازمهرارا وَهُوَ الزَّمْهَرِير.
وَقَالَ الحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الوَجْهِ وَالسُّرْورُ فِي القَلْبِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى وتعظم: {ولقاهم نَضرة وسرورا} (الْإِنْسَان: 11) أَن النضرة فِي الْوَجْه وَالسُّرُور فِي الْقلب، وَلم يثبت هَذَا إِلَّا للنسفي والجرجاني.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الأرَائِكُ السُّرُرُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {متكئين فِيهَا على الأرائك} (الْإِنْسَان: 31) وفسرها بالسرر جمع سَرِير، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الأرائك السرر فِي الحجال لَا يكون أريكة إِلَّا إِذا اجْتمعَا، وَهِي لُغَة أهل الْيمن، وَقَالَ مقَاتل: الأرائك السرر فِي الحجال من الدّرّ والياقوت موضونة بقضبان الدّرّ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وألوان الْجَوَاهِر، وَلم يثبت هَذَا أَيْضا، إِلَّا للنسفي والجرجاني.
وَقَالَ البَرَاءُ: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها يَقْطُعُونَ كَيْفَ شَاؤُوا
أَي: قَالَ الْبَراء فِي قَوْله تَعَالَى: {وذللت قطوفها تذليلاً} (الْإِنْسَان: 41) يقطفون كَيفَ شاؤوا. قَوْله: (قطوفها) أَي: ممارها، يقطفون، أَي: يقطعون مِنْهَا قيَاما وقعودا ومضطجعين يتناولونها كَيفَ شاؤوا وعَلى أَي حَال كَانُوا وَلم يثبت هَذَا إِلَّا للنسفي وَحده.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: أسْرَهُمْ شِدَّةُ الخَلْقِ وَكلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتبٍ أوْ غَبِيطٍ فَهُوَ مأسورٌ
أَي: قَالَ معمر بن الْمثنى أَبُو عُبَيْدَة أَو معمر بن رَاشد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنحن خلقناهم وشددنا أسرهم} (الْإِنْسَان: 82) الْآيَة. وَسقط هَذَا لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفسّر الْأسر شدَّة الْخلق، وَيُقَال للْفرس: شَدِيد الْأسر، أَي: شَدِيد الْخلق. قَوْله: (أَو غبيط) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره طاء مُهْملَة وَهُوَ رَحل النِّسَاء يشد عَلَيْهِ الهودج، وَالْجمع غبط بِضَمَّتَيْنِ، وَظن بَعضهم بنه معمر بن رَاشد، وَزعم أَن عبد الرَّزَّاق أخرجه فِي تَفْسِيره عَنهُ. قلت يُرِيد بِهِ شَيْخه صَاحب التَّوْضِيح فَإِنَّهُ قَالَ بعد قَوْله. وَقَالَ معمر آلى آخِره. وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة وَذكره عَن مُجَاهِد وَغَيره، وَالظَّاهِر أَنه معمر بن رشاد لِأَنَّهُ روى عَن قَتَادَة نَحوه، وَأَيْضًا فَالْبُخَارِي أخرج فِي التَّفْسِير عَن أبي عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَلم يُصَرح باسمه فَمَا باله هُنَا صرح بِهِ؟ وَأَرَادَ بِهِ ابْن الْمثنى وَلَيْسَ إلاَّ معمرا بن رَاشد.(19/271)
77 - (سُورَةُ: {المُرْسِلاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة المرسلات، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: والمرسلات، بِدُونِ لفظ سُورَة وَهِي مَكِّيَّة بِغَيْر خلاف. قَالَه أَبُو الْعَبَّاس، وَقَالَ مقَاتل: فِيهَا من الْمدنِي {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (المرسلات: 84) وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد الْهمزَة. وَقيل ق، وَهِي ثَمَانمِائَة وَسِتَّة عشر حرفا وَمِائَة وَإِحْدَى وَثَمَانُونَ كلمة وَخَمْسُونَ آيَة. والمرسلات: الرِّيَاح الشديدات الهبوب، والناشرات. الرِّيَاح اللينة قَوْله: (عرفا) نصب على الْحَال أَي: المرسلات يتبع بَعْضهَا بَعْضًا حَال كَونهَا كعرف الْفرس، وعَلى تَفْسِير المرسلات بِالْمَلَائِكَةِ يكون نصبا على التَّعْلِيل، أَي: لأجل الْعرف أَي: الْمَعْرُوف وَالْإِحْسَان.
جَمَالاتٌ حِبالٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى؛ {إِنَّهَا ترمى بشرر كالقصر كَأَنَّهُ جمالات صفر} (المرسلات: 23، 33) وَفسّر الجمالات بالحبال، وَهِي الحبال الَّتِي تشد بهَا السفن، هَذَا إِذا قرىء بِضَم الْجِيم، وَأما إِذا قرىء بِالْكَسْرِ فَهُوَ، جمع جمالة، وجمالة جمل زوج النَّاقة. وَقَالَ ابْن التِّين: يَنْبَغِي أَن يقْرَأ فِي الأَصْل بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ فَسرهَا بالحبال وَقد قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} (الْأَعْرَاف: 4) هُوَ: حَبل السَّفِينَة وَعَن ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير: جمالات صفر، هِيَ حبال السفن، يجمع بَعْضهَا إِلَى بعض حَتَّى تكون كأوساط الرِّجَال وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ مُجَاهِد: جمالات: حبال.
ارْكَعُوا صَلُّوا لَا يَرْكَعُونَ: لَا يُصَلونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (المرسلات: 84) وَفسّر قَوْله: (ارْكَعُوا) بقوله: (صلوا) وَقَوله: (لَا يَرْكَعُونَ) بقوله: (لَا يصلونَ) أطلق الرُّكُوع وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاة، وَهُوَ من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل وَقَوله: (لَا يَرْكَعُونَ) سقط فِي رِوَايَة غير أبي ذَر، وَفِي بعض النّسخ، وَقَالَ مُجَاهِد: ارْكَعُوا إِلَى آخِره.
{وَسُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {هاذا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} (المرسلات: 84) وَالله رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أفْوَاهِهِمْ} (ي س: 56) .
فَقَالَ: إنَّهُ ذُو ألْوَانٍ مَرَّةً يَنْطِقُونَ وَمَرَّةً يَخْتَمُ عَلَيْهِمْ.
حَاصِل السُّؤَال عَن كَيْفيَّة التلفيق بَين قَوْله: (لَا ينطقون) وَقَوله: {الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم} بَين قَوْله: (وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين) لِأَن هَذِه الْآيَة تدل على أَنهم ينطقون. وَحَاصِل الْجَواب: أَن يَوْم الْقِيَامَة ذُو ألوان يَعْنِي: يَوْم طَوِيل ذُو مَوَاطِن مُخْتَلفَة فَيَنْطَلِقُونَ فِي وَقت وَمَكَان لَا ينطقون فِي آخر، وَقَوله: لَا يَرْكَعُونَ لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
0394 - حدَّثني مَحْمُودٌ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالمُرْسِلاتِ وَإنَّا لَنَتَلَقَّاها مِنْ فِيهِ فَخَرَجَتْ حَيةٌ فَابْتَدَرْناها فَسَبَقَتْنا فَدَخَلَتْ جُحْرَها فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وأنزلت عَلَيْهِ والمرسلات} ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، وَعبيد الله بن مُوسَى شيخ البُخَارِيّ وروى عَنهُ هُنَا بالواسطة، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس، وَقد تكَرر ذكره عَن قريب، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن قيس، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. والْحَدِيث قد مضى فِي بَدْء الْخلق.
قَوْله: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَوَقع فِي رِوَايَة جرير، فِي غَار وَوَقع فِي رِوَايَة حَفْص بن غياث بمنى، وَوَقع فِي رِوَايَة للطبراني فِي الْأَوْسَط على حراء قَوْله: (من فِيهِ) أَي من فَمه، قَوْله: (فابتدرناها) أَي: فسبقناها. وَقَالَ أَيْضا: فسبقتنا فيكونون سابقين ومسبوقين. وَالْجَوَاب: إِنَّهُم كَانُوا السَّابِقين أَولا فصاروا مسبوقين آخرا. قَوْله: (شركم) ، مَنْصُوب بِأَنَّهُ مفعول ثَان.
1394 - حدَّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ الله أخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ آدَمَ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُور(19/272)
ٍ بِهاذا.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أخرجه عَن عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الله الصفار الْخُزَاعِيّ عَن يحيى بن آدم بن سُلَيْمَان الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ.
قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَكَذَا سَاقه فِي بَدْء الْخلق فِي بَاب خمس من الفواسق.
وَعَنْ إسْرَائِيلَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله مِثْلَهُ.
هَذَا مُتَّصِل بِمَا قبله أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن إِسْرَائِيل رَوَاهُ فِي الطَّرِيق الأول عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم، وَفِي هَذَا عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله مثله. أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور.
وَتابَعَهُ أسْوَدُ بنُ عَامِرٍ عَنْ إسْرَائِيلَ
أَي: تَابع يحيى بن آدم فِي رِوَايَته عَن إِسْرَائِيل أسود بن عَامر الملقب بشاذان الشَّامي، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة أَحْمد عَنهُ بِهِ.
وَقَالَ حَفْصٌ وَأبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بنُ قَرْمٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ.
أَرَادَ بِهَذَا أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة خالفوا رِوَايَة إِسْرَائِيل عَن الْأَعْمَش فِي شيخ إِبْرَاهِيم، فإسرائيل يَقُول: عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة يَقُولُونَ: عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود، هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ عَن عبد الله.
أما رِوَايَة حَفْص هُوَ ابْن غياث فوصلها البُخَارِيّ وَسَيَأْتِي بعد بَاب، وَأما رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرْب فأخرجها مُسلم عَن يحيى ابْن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَأما رِوَايَة سُلَيْمَان بن قرم، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء: الضَّبِّيّ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وبالباء الْمُوَحدَة، الْبَصْرِيّ فقد تقدّمت فِي بَدْء الْخلق، وَسليمَان هَذَا ضَعِيف الْحِفْظ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع الْمُعَلق.
وَقَالَ يَحْيَى بنُ حَمَّادٍ أخْبَرَنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله.
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق عَن يحيى بن حَمَّاد الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ شيخ البُخَارِيّ عَن أبي عوَانَة بِفَتْح الْعين الوضاح الْيَشْكُرِي عَن مُغيرَة بن مقسم بِكَسْر الْمِيم الْكُوفِي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود إِلَى أَن مُغيرَة وَافق إِسْرَائِيل فِي شيخ إِبْرَاهِيم وَأَنه عَلْقَمَة بن قيس، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرَانِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ حَدثنَا الْفضل بن سهل حَدثنَا يحيى بن حَمَّاد بِهِ، وَلَفظه: كُنَّا مَعَ النَّبِي ت بحراء الحَدِيث، وَقَالَ عِيَاض: إِنَّه وَقع فِي بعض النّسخ، وَقَالَ حَمَّاد أخبرنَا أَبُو عوَانَة، وَهُوَ غلط.
وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ عَنْ عَبحده الرَّحْمانِ بنِ الأسُوَدِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله.
أَشَارَ بِهَذَا الْمُعَلق إِلَى أَن للْحَدِيث أصلا عَن الْأسود بن يزِيد من غير طَرِيق الْأَعْمَش وَمَنْصُور وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَحْمد عَن يَعْقُوب بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن ابْن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه عَن عبد الله بن مَسْعُود وَابْن إِسْحَاق هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب (الْمَغَازِي) وَوَقع فِي بعض النّسخ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق، وَهُوَ تَصْحِيف.
حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالمُرْسِلاتِ فَتَلقَّيْناها مِنْ فِيهِ وَإنَّ فَاهُ لَرَطُب بِهِا إذْ خَرَجَتْ حَيَةٌ فَقَالَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُمْ اقْتُلُوها قَالَ فَابْتَدَرْناها فَسَبَقَتْنا قَالَ فَقَالَ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّها.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير بن عبد الحميد عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي عَن عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: (بَينا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَنه ظرف(19/273)
يُضَاف إِلَى الْجُمْلَة وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب. قَوْله: (إِذْ نزلت) ، جَوَابه. قَوْله: (لرطب بهَا) ، أَي: لم يجِف ريق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ أول زمَان نُزُوله. قَوْله: (إِذا خرجت) ، كلمة إِذْ للمفاجأة، وَبَاقِي الْكَلَام مر.
2 - (بَابُ قَوْلِهِ: {إنَّهَا تَرْمِي بَشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (المرسلات: 23)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِنَّهَا} أَي: جَهَنَّم (ترمى بشرر) وَهِي مَا يتطاير من النَّار إِذا التهبت، وَاحِدهَا شررة. قَوْله: (كالقصر) ، عَن ابْن مَسْعُود، كالحصون والمدائن، وَهُوَ وَاحِد الْقُصُور، وَعَن مُجَاهِد هِيَ حزم الشّجر، وَعَن سعيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك: هِيَ أصُول النّخل وَالشَّجر الْعِظَام وَاحِدهَا قصرة مثل ثَمَرَة وثمر وَحُمرَة، وحمر، وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِإِسْكَان الصَّاد، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو رزين وَأَبُو الجوزاء وَمُجاهد بِفَتْح الْقَاف وَالصَّاد، وَقَرَأَ سعد بن أبي وَقاص وَعَائِشَة وَعِكْرِمَة بِفَتْح الْقَاف وَكسر الصَّاد، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَإِبْرَاهِيم بِضَم الْقَاف وَالصَّاد، وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاء بِكَسْر الْقَاف وَفتح الصَّاد، وَقَالَ ابْن مقسم: وَكلهَا لُغَات بِمَعْنى وَاحِد.
2394 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبرنا سُفْيَانُ حدَّثنا عَبْذُ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ إنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ قَالَ كنَّا نَرْفَعُ الخَشَبَ بِقِصَرِ ثَلاثَةِ أذْرُعٍ أوْ أقَلَّ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتاءِ فَنُسَمِّيهِ القَصَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة: النَّخعِيّ الْكُوفِي والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (بقصر) ، بِالْبَاء الَّتِي هِيَ من حُرُوف الْجَرّ وبكسر الْقَاف وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وبالإضافة إِلَى ثَلَاثَة أَذْرع أَي بِقدر ثَلَاثَة أَذْرع. قَوْله: (أَو أقل) ، أَي: أَو أقل من ثَلَاثَة أَذْرع، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بعْدهَا أَو فَوق ذَلِك، وَهِي فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده. قَوْله: (للشتاء) ، أَي: لأجل الشتَاء والاستسحان بِهِ، وَقَالَ ابْن التِّين وَرُوِيَ بِسُكُون الصَّاد وَبِفَتْحِهَا وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ الْقصر من قُصُور جُفَاة الْأَعْرَاب. قَوْله: (فنسميه الْقصر) ، بِفتْحَتَيْنِ.
3 - (بَابٌ قَوْلِهِ: {كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 33)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {كَأَنَّهُ جمالات صفر} أَي: كَانَ الشرر، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: رد الْكتاب إِلَى اللَّفْظ وَمر الْكَلَام فِي الجمالات عَن قريب.
3394 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا يَحْيَى أخْبرنا سُفْيَانُ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ترْمى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قَالَ كُنَّا نَعْمِدُ إلَى الخَشَبَةِ ثَلاثَةَ أذْرُعٍ أوْ فَوْقَ ذالِكَ فَتَرْفَعَهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ القَصَرَ كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ حِبال السُّفْنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأوْسَاطِ الرِّجَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَدِيث أَنَّهَا وصف للقصر، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. قَوْله: (أَو فَوق ذَلِك) من زِيَادَة الْمُسْتَمْلِي.
4 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {هاذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} (المرسلات: 53)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هَذَا يَوْم لَا ينطقون} أَي: فِي بعض مَوَاقِف الْقِيَامَة وَفِي بَعْضهَا يختصمون، وَفِي بَعْضهَا: يخْتم على أَفْوَاههم وَلَا يَتَكَلَّمُونَ.
4394 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ بنِ غَياثٍ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(19/274)
(الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالمُلاْسِلاتِ فَإنَّهُ لَيَتْلُوها وَإنِّي لأتَلَقَّاها مِنْ فِيهِ وَإنَّ فَاهُ فَرَطْبٌ بِها إذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتُلُوها فَابْتَدَرْناها فَذَهَبَتْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّها.
قَالَ عُمَرُ حَفِظْتُهُ مِنْ أبِي فِي غَارٍ بِمَنًى.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي الْحَيَّة الْمَذْكُورَة. أخرجه عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِذْ وَثَبت) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وثب، بالتذكير وَكَذَا قَالَ: اقْتُلُوهُ. قَوْله: (قَالَ عمر) ، هُوَ ابْن حَفْص شيخ البُخَارِيّ.
87 - (سُورَةُ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (النبأ: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {عَم يتساءلون} وَتسَمى أَيْضا سُورَة النبأ وَهِي: مَكِّيَّة، وَهِي: سَبْعمِائة وَسَبْعُونَ حرفا وَمِائَة وَثَلَاث وَسَبْعُونَ كلمة وَأَرْبَعُونَ آيَة. قَوْله: (عَم) أَصله: عَمَّا حذفت الْألف للتَّخْفِيف وَبِه قَرَأَ الْجُمْهُور وَعَن ابْن كثير رِوَايَة بِالْهَاءِ وَهِي هَاء السكت. قَوْله: (يتساءلون) أَي: عَن أَي شَيْء يتساءل هَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ؟ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَرْجُونَ حِسابا لَا يَخَافُونَهُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا} (النبأ: 72) وَفَسرهُ بقوله: (لَا يخافونه) وَرَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ وَلَفظه: لَا يبالون فيصدقون بِالْبَعْثِ والرجاء يسْتَعْمل فِي الأمل وَالْخَوْف وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ مُجَاهِد.
صَوَابا حَقّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا} (النبأ: 83) وَفَسرهُ بقوله: (حَقًا فِي الدُّنْيَا وَعمل بِهِ) وَقَالَ أَبُو صَالح: قَالَ صَوَابا. قَالَ: لَا إلاه إِلَّا لله فِي الدُّنْيَا.
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطابا (النبأ: 73) لَا يُكَلِّمُونَهُ إلاَّ أنْ يَأْذَنَ لَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرحمان لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا} وَالضَّمِير فِي: لَا يملكُونَ، لأهل السَّمَوَات وَالْأَرْض أَي: لَيْسَ فِي أَيْديهم مِمَّا يُخَاطب بِهِ الله، وَقيل: لَا يملكُونَ أَن يخاطبوه بِشَيْء من نقص الْعَذَاب أَو زِيَادَة فِي الثَّوَاب إلاَّ أَن يَأْذَن لَهُم فِي ذَلِك وَيَأْذَن لَهُم فِيهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ثَجاجا مُنْصَبّا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا} (النبأ: 41) وَفسّر ثجاجا. بقوله: (منصبا) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده.
ألْفافا مُلْتَفَّةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وجنات ألفافا) (النبأ: 61) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: ألفافا متلفا بعضه بِبَعْض، وَاحِدهَا ألف، فِي قَول نجاة الْبَصْرَة وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ آخَرُونَ، وَاحِدهَا لفيف، وَقيل: هُوَ جمع الْجمع، وَيُقَال: جنَّة لفاء وَنبت لف وجنان لف بِضَم اللَّام. ثمَّ يجمع اللف على الفاف، وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهَاجا مُضِيئا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا} (النبأ: 31) وَفَسرهُ بقوله: (مضيئا) وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ غَيْرُهُ غَساقا غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَنْسقُ الْجُرحُ يَسِيلُ كأنَّ الغَساقِ وَالغَسِيقَ وَاحِدٌ أَي قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: (ر يذيقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا إِلَّا حميماً وغساقا (النبأ: 42، 52) هَذَا لم يثبت إلاَّ لأبي ذَر، وَوَقع عِنْد النَّسَفِيّ والجرجاني، وَقَالَ معمر فَذكره، وَمعمر هُوَ أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (غسقت عينه ويغسق الْجرْح يسيل) أَشَارَ بِهِ إِلَى(19/275)
أَن معنى غساقا سيالاً من الدَّم وَنَحْوه لِأَنَّهُ من غسقت عينه أَي: سَالَتْ، ويغسق الْجرْح أَي: يسيل، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الغساق الزَّمْهَرِير وَقيل: صديد أهل النَّار، وَقيل: دموعهم، وَعَن شهر بن حَوْشَب، الغساق وادٍ فِي النَّار فِيهِ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثُونَ شعبًا فِي كل شعب ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا فِي كل بَيت أَربع زَوَايَا فِي كل زَاوِيَة شُجَاع كأعظم مَا خلق الله تَعَالَى من الْخلق فِي رَأس كل شُجَاع من السم قلَّة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الغساق البادر المنتن يُخَفف ويشدد. قَرَأَ أَبُو عَمْرو: إلاَّ جَمِيعًا وغساقا. بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْكسَائي بِالتَّشْدِيدِ.
عَطَاءً حِسابا جَزَاءً كَافِيا أعْطَانِي مَا أحْسَبَنِي أيْ: كَفَانِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} (النبأ: 63) وَفَسرهُ بقوله: (جَزَاء كَافِيا) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ، عَطاء حسابا كثيرا كَافِيا وافيا. قَوْله: (أَعْطَانِي مَا أحسبني) أَي: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن لفظ الْحساب يَأْتِي بِمَعْنى الْكِفَايَة، يُقَال: أَعْطَانِي فلَان مَا أحسبني، أَي: مَا كفاني، وَيُقَال: أحسبت فلَانا أَي: أَعْطيته مَا يَكْفِيهِ حَتَّى قَالَ: حسبي.
1 - (بَابٌ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أفْوَاجا} (النبأ: 81) زُمَرا)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} وَفسّر الأفواج بقوله: (زمرا) .
5394 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخْبرَنَا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأعْمَشِ عَنِ أبِي صَالح عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ قَالَ أرْبَعُونَ يَوْما قَالَ أرْبَعُونَ شَهْرا قَالَ أبَيْتُ قَالَ أرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أبَيْتُ قَالَ ثُمَّ يُنْزِلُ الله مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإنْسَانِ شَيْءٌ إلاَّ يَبْلَى إلاَّ عَظْما وَاحِدا وَهُوَ عَجْبُ الذنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي، وَأَبُو مُعَاوِيَة محمدبن خازم الضَّرِير، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات، والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الزمر وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَبيت) ، أَي: امْتنعت عَن الْإِخْبَار بِمَا لَا أعلم قَوْله: (أَلا يبْلى) أَي: يخلق قَوْله: (عجب الذَّنب) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم الأَصْل فَهُوَ آخر مَا يخلق وَأول مَا يخلق.
97 - (سُورَةُ {وَالنَّازِعَاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة والنازعات وَتسَمى: سُورَة الساهرة، وَهِي مَكِّيَّة لَا اخْتِلَاف فِيهَا وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة النبأ وَقبل سُورَة {إِذا السَّمَاء انفطرت} (الانفطار: 1) وَهِي سَبْعمِائة وَثَلَاثَة وَخَمْسُونَ حرفا وَمِائَة وتسع وَسَبْعُونَ كلمة وست وَأَرْبَعُونَ آيَة فِي النازعات أَقْوَال الْمَلَائِكَة تنْزع نفوس بني آدم رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: وَالْمَوْت ينْزع النُّفُوس قَالَه سعيد بن جُبَير، والنجوم تنْزع من أفق إِلَى أفق تطلع ثمَّ تغيب والغزاة الرُّمَاة. قَالَه عَطاء وَعِكْرِمَة.
زَجْرَةٌ: صَيْحَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} (النازعات: 31) وفسرها بقوله: (صَيْحَة) وَثَبت هَذَا للنسفي وَحده.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ هِيَ الزَلْزَلَةُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الراجفة} (النازعات: 6) الراجفة الزلزلة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: يَعْنِي النفخة الأولى الَّتِي يتزلزل ويتحرك لَهَا كل شَيْء، وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الآيَةَ الكُبْرَى عَصَاهُ وَيَدُهُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى} (النازعات: 02) أَي: فَأرى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِرْعَوْن الْآيَة الْكُبْرَى، وفسرها مُجَاهِد بعصاه وَيَده حِين خرجت بَيْضَاء وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة مثله.
سَمكَها: بَنَاها بِغَيْرِ عَمَدٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رفع سمكها فسواها} (النازعات: 82) وَفَسرهُ بقوله: (بناها) بِغَيْر عمد وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: سمكها سقفها وَقَالَ الْفراء كل شَيْء(19/276)
حمل شَيْئا من الْبناء وَغَيره فَهُوَ سمك وَبِنَاء مسموك، فسواها بِلَا شطور وَلَا فطور، وَهَذَا للنسفي وَحده.
طَغَى عَصى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} (النازعات: 71) وَفَسرهُ بقوله: (عصى) وطغى من الطغيان وَهُوَ الْمُجَاوزَة عَن الْحَد وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
يُقَالُ الناخِرَةُ وَالنَّخِرَة سَوَاءٌ مِثْلُ الطَّامِعَ وَالطَّمِعِ وَالبَاخِلِ وَالْبخل. وَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّخِرَةُ البَالِيَةُ وَالنَّاخِرَةُ العَظْمُ المُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ فَيَنْخَرُ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أئذا كُنَّا عظاما نخرة} (النازعات: 11) قَوْله: (سَوَاء) ، لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الناخرة اسْم فَاعل، والنخرة صفة مشبهة. وَإِن كَانَ مُرَاده سَوَاء فِي أصل الْمَعْنى، فَلَا بَأْس بِهِ. قَوْله: (مثل الطامع والطمع) ، بِكَسْر الْمِيم على وزن، فعل، بِكَسْر الْعين (والباخل وَالْبخل) على وزن فعل بِكَسْر الْعين أَيْضا. وَفِي التَّمْثِيل بهما نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ الْآن. وَالْآخر: التَّفَاوُت بَينهمَا فِي التَّذْكِير والتأنيث، وَلَو قَالَ: مثل، صانعة وصنعة، وَنَحْو ذَلِك لَكَانَ أصوب، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني، الناحل والنحل، بالنُّون والحاء الْمُهْملَة فيهمَا وَقَالَ بَعضهم بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة هُوَ الصَّوَاب. قلت: لم يبين جِهَة الصَّوَاب، لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي مُقَابلَة الْخَطَأ وَالَّذِي وَقع بالنُّون والحاء الْمُهْملَة لَيْسَ بخطأ حَتَّى يكون الَّذِي ذكره صَوَابا. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم) ، الظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ هُوَ ابْن الْكَلْبِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَعْنِي النخرة البالية إِلَى آخِره فينخر أَي: يصوت، وَهَذَا قد فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى أَيْضا وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة إلاَّ حفصا: ناخرة، بِالْألف وَالْبَاقُونَ نخرة، بِلَا ألف، وَذكر أَن عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُحَمّد بن كَعْب وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم، كَانُوا يقرؤون: عظاما ناخرة، بِالْألف، وَقَالَ الْفراء: ناخرة بِالْألف أَجود الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الحَافِرَةُ إلَى أمْرِنا الأوَّلِ إلَى الحَياةِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أئنا لمردودون فِي الحافرة} (النازعات: 01) وفسرها بقوله: (إِلَى أمرنَا الأول) يَعْنِي: إِلَى الْحَالة الأولى: يَعْنِي الْحَيَاة يُقَال: رَجَعَ فلَان فِي حافرته أَي: فِي طَرِيقَته الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، وَأخرج هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن أبي صَالح: حَدثنِي أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَأخْبر الْقُرْآن عَن منكري الْبَعْث من مُشْركي مَكَّة أَنهم قَالُوا: ائنا لمردودون فِي الحافرة. أَي: فِي الْحَالة لأولى، يعنون بِالْحَيَاةِ بعد الْمَوْت أَي: فنرجع أَحيَاء كَمَا كُنَّا قبل مماتنا، وَقيل: التَّقْدِير عِنْد الحافرة، يُرِيدُونَ عِنْد الْحَالة الأولى، وَقيل: الحافرة الأَرْض الَّتِي تحفر فِيهَا قُبُورهم فسميت حافرة بِمَعْنى محفورة، وَقد سميت الأَرْض حافرة لِأَنَّهَا مُسْتَقر الحوافر.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {أيانَ مُرْساها} (النازعات: 24) مَتى مُنْتَهَاهَا، وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أَيَّانَ مرْسَاها} يَعْنِي: مَتى مُنْتَهَاهَا، ومرسى، بِضَم الْمِيم وَالضَّمِير فِي: مرْسَاها، يرجع إِلَى السَّاعَة. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لم يزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر السَّاعَة وَيسْأل عَنْهَا حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة.
1 - (بَابٌ: {الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الأولَى. الرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ} )
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} (النازعات: 6، 7) وروى هَذَا التَّفْسِير الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
6394 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ حدَّثنا الفُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ حدَّثنا أبُو حَازِمٍ حدَّثنا سَهْلُ ابنُ سَعْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بِإصْبِعَيْهِ هاكَذا بِالوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإبْهَامَ بُعِثتُ والسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ
.(19/277)
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ السُّورَة من حَيْثُ إِنَّه من جملَة مَا فِيهَا، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد ابْن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (قَالَ بإصبعيه) أَي: ضم بَين إصبعيه وَالْقَوْل يسْتَعْمل فِي غير مَعْنَاهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة من روى، وَضم بَين السبابَة وَالْوُسْطَى وَفِي رِوَايَة: قرن بَينهمَا. قَوْله: (بعثت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: أرْسلت، ويروى: (بعثت أَنا) قَوْله: (والساعة) ، قَالَ الْكرْمَانِي بِالنّصب وَسكت عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: رويته بِفَتْح السَّاعَة وَضمّهَا فالضم على الْعَطف وَالْفَتْح على الْمَفْعُول مَعَه وَالْعَامِل: بعثت وكهاتين، حَال أَي: مقترنين، فعلى النصب يَقع التَّشْبِيه بِالضَّمِّ وعَلى الرّفْع يحْتَمل هَذَا وَيحْتَمل أَن يَقع بالتفاوت الَّتِي بَين السبابَة وَالْوُسْطَى فِي الطول، وَيدل عَلَيْهِ قَول قَتَادَة فِي رِوَايَته كفضل إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى، وَحَاصِل هَذَا التَّعْرِيف بِسُرْعَة مَجِيء الْقِيَامَة. قَالَ عز وَجل: فقد جَاءَ أشراطها.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أغْطَشَ أظْلَمَ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وأغطش لَيْلهَا} (النازعات: 92) وَفَسرهُ بقوله: وَقد أظلم، وَقد مر فِي بَدْء الْخلق، وَهَذَا ثَبت هُنَا للنسفي وَحده.
الطَّامَةُ: تَطُمُّ كلَّ شَيْءٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} (النازعات: 43) وفسرها بقوله: (نظلم كل شَيْء) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الطامة عِنْد الْعَرَب الداهية الَّتِي لَا تستطاع وَإِنَّمَا أَخذ من قَوْلهم: طم الْفرس طميما إِذا استفرغ جهده فِي الجري، وَهَذَا أَيْضا ثَبت للنسفي وَحده.
08 - (سُورَةُ {عَبَسَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {عبس} ، وَتسَمى: سُورَة السفرة، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي خَمْسمِائَة وَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حرفا. وَمِائَة وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة، وَاثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ آيَة وَذكر السخاوي أَنَّهَا نزلت قبل سُورَة الْقدر وَبعد سُورَة النَّجْم، وَذكر الْحَاكِم مصححا عَن عَائِشَة أَنَّهَا نزلت فِي ابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يَقُول: يَا رَسُول الله أَرْشدنِي وَعند رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجال من عُظَمَاء الْمُشْركين، فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرض عَنهُ وَيقبل على الآخرين. الحَدِيث.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم.
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
عَبَسَ: كَلَحَ وَأعْرَضَ
نفسير عبس بقوله: كلح هُوَ لأبي عُبَيْدَة وَتَفْسِيره بأعرض لغيره، وَلم يخْتَلف السّلف فِي أَن فَاعل عبس هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الدَّاودِيّ، فَقَالَ: هُوَ الْكَافِر الَّذِي كَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى. قيل: كَانَ هَذَا أبي بن خلف، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة، وَقيل: أُميَّة بن خلف، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وروى ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث عَائِشَة أَنه كَانَ يُخَاطب عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن عَائِشَة أَنه كَانَ فِي مجْلِس فِيهِ نَاس من وُجُوه الْمُشْركين فيهم أَبُو جهل وَعتبَة، فَهَذَا يجمع الْأَقْوَال.
مُطَهَّرَةٌ لَا يَمَسُّها إلاَّ المُطَهَّرُونَ وَهُمْ المَلائِكَةُ وَهاذا مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَالْمُدَبِّراتِ أمْرا} (النازعات: 5) جَعَلَ المَلائِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً لأنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ فَجَعَلَ التَّطْهِيرُ لِمَنْ حَمَلَهَا أيْضا.
أَشَارَ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {فِي صحف مكرمَة مَرْفُوعَة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 31، 61) وَفسّر المطهرة بقوله: (لَا يَمَسهَا إلاَّ الْمُطهرُونَ وهم الْمَلَائِكَة) يَعْنِي: لما كَانَت الصُّحُف تتصف بالتطهير، وصف أَيْضا حاملها أَي: الْمَلَائِكَة. فَقيل: لايمسها إلاَّ الْمُطهرُونَ وَهَذَا كَمَا فِي المدبرات أمرا فَإِن التَّعْبِير لمحمول خُيُول الْغُزَاة فوصف الْحَامِل يَعْنِي الْخُيُول بِهِ. فَقيل: (فالمدبرات أمرا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ لَا يَقع بِزِيَادَة، لَا فِي تَوْجِيهه تكلّف. قلت: وَجهه أَن الصُّحُف لَا يُطلق عَلَيْهَا التَّطْهِير الَّذِي هُوَ خلاف التَّنْجِيس حَقِيقَة وَإِنَّمَا المُرَاد أَنَّهَا مطهرة عَن أَن ينالها أَيدي الْكفَّار. وَقيل: مطهرة عَمَّا لَيْسَ بِكَلَام الله فَهُوَ الْوَحْي الْخَالِص وَالْحق الْمَحْض، وَقَوله: (مطهرة) فِي رِوَايَة غير أبي ذَر والنسفي، وَقَالَ غَيره: مطهرة، وَهَذَا يَقْتَضِي(19/278)
تقدم أحد قبله حَتَّى يَصح، وَقَالَ غَيره: وَالظَّاهِر أَن فِي أول تَفْسِير عبس، وَقَالَ مُجَاهِد: عبس كلح، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ غَيره أَي: غير مُجَاهِد.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الغُلْبُ المُلْتَفَّةُ وَالأبُّ مَا يَأْكُلُ الأنْعَامُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنَخْلًا وَحَدَائِق غلبا وَفَاكِهَة وَأَبا} (عبس: 92، 13) وَقَالَ الغلب الملتفة من الالتفاف، وَالْأَب بِالتَّشْدِيدِ مَا يَأْكُل الْأَنْعَام وَهُوَ الْكلأ والمرعى، وَعَن الْحسن: هُوَ الْحَشِيش وَمَا تَأْكُله الدَّوَابّ وَلَا يَأْكُلهُ النَّاس، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الغلب غِلَاظ الْأَشْجَار واحده أغلب، وَمِنْه قيل للتغليظ الرَّقَبَة الْأَغْلَب وَعَن قَتَادَة: الغلب النّخل الْكِرَام، وَعَن ابْن زيد: عِظَام الْجُذُوع، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ للنسفي.
سفَرَةٌ: المَلائِكَةُ وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ سَفَرْتُ أصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ وَجُعِلَتِ المَلائِكَةُ إذَا نَزَلَتْ بِوَحْي الله وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْن القَوْمِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بأيدي سفرة} ، أَي: بأيدي الْمَلَائِكَة. قَوْله: (واحدهم) ، أَي: وَاحِد السفرة سَافر، وَعَن قَتَادَة واحدهم سفير، وَإِنَّمَا ذكره بواو الْجَمَاعَة بِاعْتِبَار الْمَلَائِكَة. قَوْله: (سفرت) ، إِشَارَة إِلَى أَن معنى: سَافر من سفرت بِمَعْنى أصلحت بَينهم، وَمِنْه السفير وَهُوَ الرَّسُول، وسفير الْقَوْم هُوَ الَّذِي يسْعَى بَينهم بِالصُّلْحِ، وسفرت بَين الْقَوْم إِذا أصلحت بَينهم، وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُقَاتِل: سفرة، كتبة وهم الْمَلَائِكَة الْكِرَام الكاتبون، وَمِنْه قيل للْكتاب: سفر، وَجمعه أسفار، وَيُقَال للوراق سفر بلغَة العبرانية. قَوْله: (وتأديته) ، من الْأَدَاء أَي: وتبليغه ويروى: وتأديبه من الْأَدَب لَا من الْأَدَاء. قَالَه الْكرْمَانِي: وَفِيه مَا فِيهِ.
تَصَدَّى: تَغَافَلُ عَنْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَنت لَهُ تصدى} ، وَفَسرهُ بقوله: (تغافل) وَأَصله: تتغافل وَكَذَلِكَ أصل: تصدى تتصدى فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي تتعرض لَهُ بالإقبال عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسب الْمَشْهُور، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) فِي أَكثر النّسخ تصدى تغافل عَنهُ، وَالَّذِي فِي غَيرهَا تصدى أقبل عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ الصَّوَاب وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَقَالَ غَيره: تصدى تغافل، وَهَذَا يَقْتَضِي تقدم ذكر أحد قبله حَتَّى يَسْتَقِيم أَن يُقَال: وَقَالَ غَيره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لمَا يَقْضِ لَا يَقْضِي أحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لما يقْض مَا أمره} وَتَفْسِيره ظَاهر، (وَأمر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَرَوَاهُ عبد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد وَلَفظه: لَا يقْض أحد مَا افْترض عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: تَرْهَقُها: تَغْشَاهَا شِدَّةٌ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ترهقها فَتْرَة} تغشاها شدَّة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ بِهِ، وَقيل: يُصِيبهَا ظلمَة وذلة وكآبة وكسوف وَسَوَاد، وَعَن ابْن زيد: الْفرق بَين الغبرة والفترة أَن الغبرة مَا ارْتَفع من الْغُبَار فلحق بالسماء، والقترة مَا كَانَ أَسْفَل فِي الأَرْض.
مُسْفِرَةٌ: مُشْرِقَةُ
كَذَا فسره ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
{بأيْدِي سَفَرَةٍ} وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كَتَبَةٍ أسْفَارا كَتُبا
قد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَهُوَ من وَجه مُكَرر.
تَلَهَّى: تَشَاغَلَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَنت عَنهُ تلهى} (عبس: 1) أَصله: تتلهى. أَي: تتشاغل حذفت التَّاء مِنْهُمَا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: تعرض وتتغافل عَنهُ وتتشاغل بِغَيْرِهِ.
يُقَالُ: وَاحِدُ الأسْفَارِ، سِفْرٌ(19/279)
سقط هَذَا لأبي ذَر، والأسفار جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} (الْجُمُعَة: 5) ذكره اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ جمع سفر بِكَسْر السِّين وَهُوَ الْكتاب، وَقد مر عَن قريب.
فَأقْبَرَهُ يُقالُ: أقْبَرتُ الرَّجُلَ جَعَلْتُ لَهُ قَبْرا قَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَمَاتَهُ فاقبره} (عبس: 12) قَوْله: (يُقَال) ، إِلَى آخِره، ظَاهر، وَقَالَ الْفراء: أَي جعلته مقبورا وَلم يقل: قَبره، لِأَن القابر هُوَ الدافن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فأقبره أَي: جعل لَهُ قبرا وَالَّذِي يدْفن بِيَدِهِ هُوَ القابر.
7394 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بنَ أوْفَى يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ بنِ هِشامٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفْرَةِ الكِرَامِ وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَؤهُ وَهُوَ يَتَعَاهَدَهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أجْرَانِ.
مطابقته لقَوْله تَعَالَى: {بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 51، 61) وَسَعِيد بن هِشَام بن عَامر الْأنْصَارِيّ. ولأبيه صُحْبَة وَلَيْسَ لَهُ فِي يالبخاري إلاَّ هَذَا الْموضع وَآخر مُعَلّق فِي المناقب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبيد وَغَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن غيلَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَغَيره وَفِي التَّفْسِير عَن أبي الْأَشْعَث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي ثَوَاب الْقُرْآن عَن هِشَام بن عمار.
قَوْله: (مثل الَّذِي) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: صفته كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون} (الرَّعْد: 53) قَوْله: (وَهُوَ حَافظ لَهُ) ، أَي: الْقُرْآن وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (مَعَ السفرة) ، ويروى مثل السفرة، وَقَالَ ابْن التِّين: كَأَنَّهُ مَعَ السفرة فِيمَا يسْتَحقّهُ من الثَّوَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ مثل زَائِد وَإِلَّا فَلَا رابطة بَينه وَبَين السفرة لِأَنَّهُمَا مُبْتَدأ وَخبر فَيكون التَّقْدِير الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مَعَ السفرة الْكِرَام، أَي: كَائِن مَعَهم وَيجوز أَن يكون لفظ مثل بِمَعْنى: مثيل، بِمَعْنى: شَبيه، فيكو التَّقْدِير: شَبيه الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مَعَ السفرة الْكِرَام. قَوْله: (وَهُوَ يتعاهده) ، أَي: يضبطه ويتفقده. قَوْله: (وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيد) ، أَي: وَالْحَال أَن التعاهد عَلَيْهِ شَدِيد. قَوْله: (فَلهُ أَجْرَانِ) ، من حَيْثُ التِّلَاوَة وَمن حَيْثُ الْمَشَقَّة قَالَه الْقُرْطُبِيّ. فَإِن قلت: مَا معنى كَون الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن وَهُوَ حَافظ لَهُ مَعَ السفرة. قلت: لَهُ مَعْنيانِ أَحدهمَا: أَن يكون لَهُ منَازِل فَيكون فِيهَا رَفِيقًا للْمَلَائكَة لاتصافه بصفاتهم من حمل كتاب الله تَعَالَى، وَالْآخر: أَن يكون المُرَاد أَنه عَامل بِعَمَل السفرة وسالك مسلكهم.
18 - (سُورَةُ: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {إِذا الشَّمْس كورت} (التكوير: 1) وَيُقَال: سُورَة كورت بِدُونِ لفظ إِذا الشَّمْس، وَسورَة التكوير، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا. وَمِائَة وَأَرْبع كَلِمَات، وتسع وَعِشْرُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثب ت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر
انْكَدَرَتْ انْتَثَرَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا النُّجُوم انكدرت} (التكوير: 2) وَفَسرهُ بقوله: انتثرت. أَي: تناثرت وتساقطت من السَّمَاء على الأَرْض. يُقَال: انكدر الطَّائِر أَي سقط عَن عشه، وَعَن ابْن عَبَّاس تَغَيَّرت.
وَقَالَ الحَسَنُ: سُجِّرَتْ ذَهَبَ مَاؤُها فَلا تَبْقَى فَطْرَةٌ. وَقَالَ مُجاهِدٌ: المَسْجُور المَمْلُوءُ. وَقَالَ غَيْرُهُ سُجِرَتْ أفْضَى بَعْضُها إلَى بَعْضٍ فَصَارَتْ بَحْرا وَاحِدا.
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا الْبحار سجرت} (التكوير: 6 وَتَفْسِيره ظَاهر، وَكَذَا قَالَه السّديّ، وَقَالَ ابْن زيد وَابْن عَطِيَّة وسُفْيَان ووهب: أوقدت فَصَارَت نَارا. قَوْله: (وَقَالَ مُجَاهِد: الْبَحْر الْمَسْجُور المملوء) ، وَهُوَ فِي سُورَة الطّور ذكره اسْتِطْرَادًا. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، أَي: غير مُجَاهِد، والأصوب أَن يُقَال: غير الْحسن على مَا لَا يخفى معنى سجرت أفْضى إِلَى آخِره وَهُوَ قَول مقَاتل وَالضَّحَّاك.(19/280)
وَالخُنَّسُ: تَخْنِسُ فِي مُجْرَاهَا تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ: تَسْتَتِرُ كَمَا تَكْنِسُ الظِّباءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس الْجوَار الكنس} (التكوير: 51، 61) قَالَ الْفراء: الخنس النُّجُوم الْخَمْسَة، تخنس فِي مجْراهَا إِلَى آخِره، والخمسة هِيَ: بهْرَام وزحل وَعُطَارِد والزهرة وَالْمُشْتَرِي، ويروى أَن رجلا من مُرَاد قَالَ لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {الخنس الْجوَار الكنس} قَالَ: هِيَ الْكَوَاكِب تخنس بِالنَّهَارِ فَلَا ترى وتكنس بِاللَّيْلِ فتأوى إِلَى مجاريهن، وأصل الخنس الرُّجُوع إِلَى وَرَاء الكنوس. أَي: تأوي إِلَى مكانسها وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي تأوي إِلَيْهَا الْوَحْش، وَقيل: الخنس بقر الْوَحْش إِذا رَأَتْ الْإِنْس تخنس وَتدْخل كناسها، وروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عمر بن ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل. قَالَ: قَالَ ابْن مَسْعُود: مَا الخنس؟ قَالَ قلت: أَظُنهُ بقر الْوَحْش. قَالَ: وَأَنا أَظن ذَلِك، والخنس جمع خانس والكنس جمع كانس كالركع جمع رَاكِع.
تَنَفَّسَ: ارْتَفَعَ النَّهَارُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّبْح إِذا تنفس} (التكوير: 81) وَفَسرهُ بقوله: (ارْتَفع النَّهَار) .
وَالظَّنِينُ: المُتَّهَمُ. وَالضَّنِينُ يَضَنُّ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا هُوَ على الْغَيْب بظنين} (التكوير: 42) وَفسّر الظنين الَّذِي بالظاء الْمُعْجَمَة بالمتهم، وَفسّر الضنين الَّذِي بالضاد الْمُعْجَمَة بقوله: (يضن بِهِ) أَي: يبخل بِهِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَا هُوَ يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْغَيْب أَي: الْوَحْي وَخبر السَّمَاء وَمَا اطلع عَلَيْهِ من علم الْغَيْب بضنين أَي ببخيل، فَلَا يبخل بِهِ عَلَيْكُم، بل يعلمكم وَيُخْبِركُمْ بِهِ. قلت: هَذَا الَّذِي فسره هُوَ الضنين الَّذِي بالضاد الْمُعْجَمَة. تَقول: ضننت بالشَّيْء فَأَنا ضنين أَي يخيل. ثمَّ قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وقرىء بالظاء وَمَعْنَاهُ وَمَا هُوَ بمتهم فِيمَا يخبر بِهِ، وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَأهل الْمَدِينَة وَالشَّام بالضاد وَالْبَاقُونَ بالظاء من الظنة وَهِي التُّهْمَة. وَقَالَ النَّسَفِيّ (فِي تَفْسِيره) واتقان الْفَصْل بَين الضَّاد والظاء وَاجِب وَمَعْرِفَة مخرجهما لَا بُد مِنْهُ للقارىء فَإِن أَكثر الْعَجم لَا يفرقون بَين الحرفين وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي فصل الضَّاد: ضننت بالشَّيْء أضن بِهِ ضنا وضنانة إِذا بخلت بِهِ، وَهُوَ ضنين بِهِ. قَالَ الْفراء: وضننت بِالْفَتْح لُغَة، وَقَالَ فِي فصل الظَّاء والظنين الْمُتَّهم والظنة التُّهْمَة.
وَقَالَ عُمَرُ {وَإذَا النفُوسُ زُوِّجَتْ} (التكوير: 7) يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ رَضِيَ الله عَنْهُ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ} (الصافات: 22) .
أَي: قَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا النُّفُوس زوجت} يُزَوّج الرجل نَظِيره من أهل الْجنَّة ويزوج الرجل نَظِيره من أهل النَّهَار، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد عَن أبي نعيم، حَدثنَا سُفْيَان عَن سماك عَن النُّعْمَان ابْن بشير عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي لفظ: الْفَاجِر مَعَ الْفَاجِرَة والصالح مَعَ الصَّالِحَة. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: زوج الْمُؤمن الْحور الْعين وَالْكَافِر الشَّيْطَان، وَقَالَ الرّبيع بن خثيم: يَجِيء الْمَرْء مَعَ صَاحب عمله يُزَوّج الرجل بظيره من أهل الْجنَّة وبنظيره من أهل النَّار، وَقَالَ الْحسن: ألحق كل امرء بشيعته، وَقَالَ عِكْرِمَة: يحْشر الزَّانِي مَعَ الزَّانِيَة والمسيء مَعَ المسيئة والمحسن مَعَ المحسنة. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ) ، أَي: ثمَّ قَرَأَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مستدلاً على مَا قَالَه بقوله تَعَالَى: {احشروا الَّذين ظلمُوا أَزوَاجهم} .
عَسْعَسَ أدْبَرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا عسعس} (التكوير: 71) وَفَسرهُ بقوله: (أدبر) رَوَاهُ ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الزّجاج: عسعس اللَّيْل إِذا أقبل، وعسعس إِذا أدبر فعلى هَذَا هُوَ مُشْتَرك بَين الضدين.
28 - (سُورَةُ {إذَا السمَّاءُ انْفَطَرَتْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَيُقَال لَهَا أَيْضا سُورَة الانفطار وَهِي مَكِّيَّة. وَهِي ثَلَاثمِائَة وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ حرفا، وَثَمَانُونَ كلمة وتسع عشرَة آيَة.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم.(19/281)
الْبَسْمَلَة مَوْجُودَة هُنَا عِنْد الْكل.
انْفِطَارُها: انْشِقَاقُها
ثَبت هَذَا للنسفي وَحده، والانفطار من الْفطر بِالْفَتْح وَهُوَ الشق.
وَيُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ بِعثرَتْ يَخْرُجُ مَنْ فِيهَا مِنَ الأَمْوَاتِ
أَي: يذكر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا الْقُبُور بعثرت} (الانفطار: 4) وَتَفْسِيره ظَاهر، وَبِه قَالَ الْفراء أَيْضا. وَهَذَا أَيْضا ثَبت للنسفي وَحده.
وَقَالَ غَيْرُهُ: بُعْثِرَتْ: أُثِيرَتْ: بَعْثَرْتُ حَوْضِي أيْ جَعَلْتُ أسْفَلَهُ أعْلاهُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {بعثرت} أَن مَعْنَاهُ: أثيرت وبحثت فاستخرج مَا فِي الأَرْض من الْكُنُوز وَمن فِيهَا من الْمَوْتَى، وَهَذَا من أَشْرَاط السَّاعَة أَن تخرج الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا من ذهبها وفضتها وموتاها. قَوْله: (بعثرت حَوْضِي) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه يُقَال: بعثرت حَوْضِي وبحثرته إِذا هدمته فَجعلت أَسْفَله أَعْلَاهُ، وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده. وَقد مر فِي أَوَاخِر كتاب الْجَنَائِز.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بنُ خُثَيْمٍ: فُجِّرَتْ فَاضَتْ
أَي: قَالَ الرّبيع بن خثيم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْبحار فجرت} (الانفطار: 3) أَي: فاضت، وَالربيع، بِفَتْح الرَّاء ابْن خثيم، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: التَّابِعِيّ الثَّوْريّ الْكُوفِي. قَوْله: (فاضت) ، من الْفَيْض مَعْنَاهُ: فتح بَعْضهَا إِلَى بعض عذبها إِلَى ملحها وملحها إِلَى عذبها فَصَارَت بحرا وَاحِدًا. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد قَالَ: حَدثنَا مُؤَمل وَأَبُو نعيم قَالَا: أخبرنَا سُفْيَان وَهُوَ ابْن سعيد الثَّوْريّ عَن أَبِيه عَن أبي يعلى، هُوَ مُنْذر الثَّوْريّ عَن الرّبيع بن خثيم بِهِ.
وَقَرَأَ الأعْمَشُ وَعَاصِمٌ: فَعَدَلَكَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ أهْلُ الحجازِ بِالتَّشْدِيدِ، وأرَادَ: مُعْتَدِلَ الخَلْقِ وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أيِّ صُورَةٍ شَاءَ إمَّا حَسَنٌ وَإمّا قَبِيحٌ وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ.
أَي: قَرَأَ سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَعَاصِم بن أبي النجُود بِفَتْح النُّون وَضم الْجِيم الْأَسدي أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة. قَوْله تَعَالَى: {فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} (الانفطار: 8) بِالتَّخْفِيفِ أَي: بتَخْفِيف الدَّال وَبِه قَرَأَ أَيْضا الْحسن وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو رَجَاء وَعِيسَى بن عمر وَعمر بن عبيد والكوفيون، وَقَرَأَ أهل الْحجاز بتَشْديد الدَّال. قَوْله: (وَمن خفف) ، يحْتَمل أَن يكون عطفا على فَاعل أَرَادَ، أَي: وَمن خفف أَرَادَ أَيْضا معتدل الْخلق، وَلَفظ فِي أَي صُورَة لَا يكون مُتَعَلقا بِهِ بل هُوَ كَلَام مُسْتَأْنف لقَوْله تَعَالَى: {أَفِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَالْبَاقِي ظَاهر.
38 - (سُورَةُ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِفِينَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين: 1) وَفِي بعض النّسخ: سُورَة المطففين، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي رِوَايَة همام وَسَعِيد عَن قَتَادَة وَمُحَمّد بن ثَوْر عَن معمر أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَكَذَا قَالَ سُفْيَان، وَقَالَ السّديّ: إِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَعَن الْكَلْبِيّ نزلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَرِيقه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَقَالَ مقَاتل: مَدَنِيَّة غير آيَة نزلت بِمَكَّة قَالَ: {أساطير الْأَوَّلين} (المطففين: 31) وَعند ابْن النَّقِيب عَنهُ هِيَ أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَذكر السخاوي أَنَّهَا نزلت بعد سُورَة العنكبوت، وَفِي (سنَن النَّسَائِيّ) وَابْن مَاجَه، بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق يزِيد النَّحْوِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: لما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة كَانُوا من أَخبث النَّاس كَيْلا فَأنْزل الله عز وَجل: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ} فَأحْسنُوا الْكَيْل بعد ذَلِك، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَدَنِيَّة وَهِي سَبْعمِائة وَثَمَانُونَ حرفا وَمِائَة وتسع وَسِتُّونَ كلمة، وست وَثَلَاثُونَ آيَة.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
قَوْله: (ويل) ، قَالَ مقَاتل: ويل وادٍ فِي جَهَنَّم قَعْره سَبْعُونَ سنة فِيهِ سَبْعُونَ ألف شعب فِي كل شعب سَبْعُونَ ألف شقّ فِي كل شقّ سَبْعُونَ ألف مغار فِي كل مغار سَبْعُونَ ألف قصر كالتوابيت من حَدِيد فِي كل تَابُوت سَبْعُونَ ألف شَجَرَة. فِي كل شَجَرَة سَبْعُونَ ألف غُصْن من نَار فِي كل غُصْن سَبْعُونَ ألف ثَمَرَة طولهَا سَبْعُونَ ألف ذِرَاع تَحت كل شَجَرَة سَبْعُونَ ألف ثعبان وَسَبْعُونَ ألف عقرب طول كل ثعبان مسيرَة شهر وغلظه كالجبل لَهُ أَنْيَاب كالنخل لَهُ ثَلَاثمِائَة وَسَبْعُونَ(19/282)
قفازا فِي كل قفاز قلَّة من سم، وَذكره القتبي فِي كِتَابه (عُيُون الْأَخْبَار) . عَن ابْن عَبَّاس، وَذكر ابْن وهب نَحوه فِي (كتاب الْأَهْوَال) ، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) أصل لهَذَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (يُسَلط على الْكَافِر تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا، أَتَدْرُونَ مَا التنين؟ سَبْعُونَ حَيَّة لكل حَيَّة سبع رُؤُوس يلسعونه ويخدشونه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . والمطفقون الَّذين ينقصُونَ النَّاس ويبخسون حُقُوقهم فِي الْكَيْل وَالْوَزْن، وَأَصله من الشَّيْء الطفيف وَهُوَ النزر الْقَلِيل، والتطفيف البخس فِي الْكَيْل وَالْوَزْن لِأَن مَا يبخس شَيْء طفيف حقير.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ رَانَ ثَبْتُ الخَطَايَا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {كلاًّ بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 41) وَفسّر: (ران) بقوله: (ثَبت الْخَطَايَا) وروى ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. قَالَ: أَثْبَتَت على قُلُوبهم الْخَطَايَا حَتَّى غمرتها. وران من الرين وَأَصله الْغَلَبَة. يُقَال: رانت الْخمر على قلبه إِذا غلبت عَلَيْهِ فَسَكِرَ، وَمعنى الْآيَة: غلبت الْخَطَايَا على قُلُوبهم وأحاطت بهَا حَتَّى غمرتها وغشيتها. وَيُقَال: الران والرين الغشاوة، وَهُوَ كالصدي على الشَّيْء الصَّقِيل.
ثُوِّبَ جُوزِيَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَل ثُوِّبَ الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين: 1) وَفسّر ثوب بقوله: (جوزي) على صِيغَة الْمَفْعُول من الْجَزَاء، وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة. وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَيْضا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: المُطَفِّفُ لَا يُوَفِّي غَيْرَهُ
أَي: قَالَ غَيره مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين: 1) (المطفف لَا يُوفي غَيره) أَي: لَا يقوم بوفاء حق غَيره بل فِي دَفعه بخس وَنقص.
الرَّحِيقُ الخَمْرُ خِتامُهُ مِسْكٌ طِينَتُهُ التَّسْنيمُ يَعْلو شَرَابَ أهْلِ الجَنَّةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {يسقون من رحيق} (المطففين: 52) وَفسّر الرَّحِيق بِالْخمرِ وَأَشَارَ بقوله: (ختامه مسك) إِلَى قَوْله عز وَجل: {مختوم ختامه مسك} (المطففين: 52، 62) عَيْني: ختمت بمسك ومنعت من أَن يَمَسهَا مَاس أَو تتناولها يدا إِلَى أَن يفك خَتمهَا الْأَبْرَار يَوْم الْقِيَامَة، وَأَشَارَ بقوله: (طينته التسنيم) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ومزاجه من تسنيم} (المطففين: 72) قَالَ الضَّحَّاك: وَهُوَ شراب اسْمه تسنيم، وَهُوَ من أشرف الشَّرَاب، وَهُوَ معنى قَوْله: (يَعْلُو شراب أهل الْجنَّة) وَقَالَ مقَاتل: يُسمى تسنيما لِأَنَّهُ يتسنم، فينصب عَلَيْهِم انصبابا من فَوْقهم فِي غرفهم ومنازلهم يجْرِي من جنَّة عدن إِلَى أهل الْجنان، وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده، وَتقدم شَيْء من ذَلِك فِي بَدْء الْخلق.
8394 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثنا مَعْنٌ قَالَ حدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ} (المطففين: 6) حَتَّى يَغِيبَ أحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إلَى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
وَجه ذكره هَذَا قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة اسْم فَاعل من الْإِنْذَار، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة. وَفِي آخِره نون ابْن عِيسَى الْأَشْجَعِيّ الْقَزاز بتَشْديد الزَّاي الأولى.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة جَهَنَّم عَن عبد الله بن جَعْفَر الْبَرْمَكِي، وَهَذَا الحَدِيث من غرائب حَدِيث مَالك وَلَيْسَ هُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) .
قَوْله: (يَوْم يقوم النَّاس) ، قيامهم فِيهِ لله خاضعين وَوصف ذَاته بِرَبّ الْعَالمين بَيَان بليغ لعظم الذَّنب وتفاقم الْإِثْم فِي التطفيف. قَوْله: (فِي رشحه) ، أَي: فِي عرقه. قَوْله: (إِلَى أَنْصَاف أُذُنَيْهِ) ، هُوَ من إِضَافَة الْجمع إِلَى الْجمع حَقِيقَة وَمعنى لِأَن لكل وَاحِد أذنين.
48 - (سُورَةُ: {إذَا السَّماءُ انْشَقَتْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {إِذا السَّمَاء انشقت} وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ: سُورَة. وَتسَمى أَيْضا: سُورَة الانشقاق، وَسورَة انشقت، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثُونَ حرفا وَمِائَة وَسبع كَلِمَات وَثَلَاث وَعِشْرُونَ آيَة.
كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ يَأخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ
معنى أَخذ كِتَابه بِشمَالِهِ أَنه يَأْخُذ من وَرَاء ظَهره، وَفَسرهُ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أولى كِتَابه وَرَاء ظَهره} (الانشقاق: 1) أَنه نقل(19/283)
يَده الْيُمْنَى إِلَى عُنُقه وَتجْعَل يَده الشمَال وَرَاء ظَهره فيؤتي كِتَابه من وَرَاء ظَهره، وَعَن مُجَاهِد أَيْضا، أَنه تخلع يَده من وَرَاء ظَهره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أذِنَتْ سَمِعَتْ وَأطَاعَتْ لِرَبِّهَا وَألْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ المَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت وَإِذا الأَرْض مدت وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت} (الانشقاق: 2، 4) وَفسّر قَوْله: أَذِنت بقوله: سَمِعت وأطاعت، وَفسّر قَوْله: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا) بقوله: أخرجت مَا فِيهَا من الْمَوْتَى، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: من الْكُنُوز والموتى. قَوْله: (وتخلت) ، أَي: خلت فَلَيْسَ فِي بَطنهَا شَيْء، وَهَذَا كُله للنسفي.
وَسَقَ: جَمْعَ مِنْ دَابَّةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل وَمَا وسق} (الانشقاق: 71) وَفَسرهُ بقوله: (جمع من دَابَّة) وَقَالَ مُجَاهِد: وَمَا أَوَى فِيهَا من دَابَّة، وَعَن عِكْرِمَة: وَمَا جمع فِيهَا من دَوَاب وعقارب وحيات، وَعَن مقَاتل: وَمَا سَاق من ظلمَة. قَوْله: (وسق) ، من وسقته أسقه وسْقا أَي: جمعته وَمِنْه قيل للطعام الْكثير الْمُجْتَمع: وسق، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعا. وَطَعَام موسوق أَي: مَجْمُوع فِي غرارة ومركب موسوق إِذا كَانَ مشحونا بالخلق أَو بالبضائع.
ظَنَّ أنْ لَنْ يَحورَ أنْ لَا يَرْجِعَ إلَيْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه ظن أَن لن يحور} (الانشقاق: 41) وَفَسرهُ بقوله: (أَن لَا يرجع إِلَيْنَا) وَهُوَ من الْحور وَهُوَ الرُّجُوع، وَيُقَال: حاورت فلَانا أَي: راجعته وَيُطلق على التَّرَدُّد فِي الْأَمر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يُوعُونَ يَشْتَرُونَ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَالله أعلم بِمَا يوعون} (الانشقاق: 32) أَي: يشْتَرونَ، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَعَن مُجَاهِد يكتمون، وَعَن قَتَادَة: يَزْعمُونَ فِي صُدُورهمْ، وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده.
1 - (بَابٌ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} وَهَذِه التَّرْجَمَة لم تثبت إلاَّ لأبي ذَر.
9394 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بنِ الأسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ أبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وحدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وحدَّثنا مَسدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أبِي يُونُسَ حَاتِمِ بنِ أبِي صَغِيرَةَ عَنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنِ القَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ أحَدٌ يُحَاسَبُ إلاَّ هَلَكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ ألَيْسَ يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 7، 8) قَالَ ذَاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الحِسابَ هَلَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرج هَذَا الحَدِيث من ثَلَاث طرق: أَحدهَا: عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر بن كنيز، بالنُّون وَالزَّاي الفلاس عَن يحيى الْقطَّان عَن عُثْمَان بن الْأسود بن مُوسَى الجُمَحِي بِضَم الْجِيم عَن عبد الله بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم عَن عَائِشَة، وَوَقع هُنَا للقابسي: عَن عُثْمَان الْأسود فَجعل الْأسود صفة لعُثْمَان وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ ابْن الْأسود. الثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن عَائِشَة. الثَّالِث: عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن أبي يُونُس حَاتِم بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن ي صَغِيرَة. ضد الْكَبِيرَة الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الر قاق وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن أبان وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ(19/284)
عَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعبد الله بن أبي مليكَة روى هُنَا عَن عَائِشَة بالواسطة وَفِي الطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلين بِلَا وَاسِطَة، وَيحمل هَذَا على أَن ابْن أبي مليكَة حمله عَن الْقَاسِم ثمَّ سَمعه عَن عَائِشَة، وسَمعه أَولا من عَائِشَة ثمَّ استثبت الْقَاسِم، إِذْ فِي رِوَايَته زِيَادَة لَيست عِنْده، وَبِهَذَا يُجَاب عَن اسْتِدْرَاك الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الحَدِيث لهَذَا الِاخْتِلَاف، وَعَما قَالَه الجياني: سقط من نُسْخَة أبي زيد من السَّنَد الأول ذكر ابْن أبي مليكَة وَلَا بُد مِنْهُ، ذكر ذَلِك الْقَابِسِيّ وعبدوس عَن شيخهما أبي زيد وَمِمَّا ذكره أَبُو إِسْحَاق الْمُسْتَمْلِي وَابْن الْهَيْثَم عَن الفريري، فِي السَّنَد الثَّانِي، ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة وَهُوَ وهم، وَالْمَحْفُوظ فِيهِ أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة لَيْسَ فِيهِ الْقَاسِم، وَأَيْضًا فَأن يحيى الْقطَّان وَعبد الله بن الْمُبَارك روياه عَن حَاتِم عَن ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وهما زادا فِيهِ وهما حَافِظَانِ ثقتان، وَزِيَادَة الْحَافِظ مَقْبُولَة. فَإِن قلت: روى أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن الْحسن مَنْصُور الطَّبَرِيّ فِي (السّنَن) تأليفه بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. قَالَت: لَا يُحَاسب رجل يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ دخل الْجنَّة. قَالَ الله عز وَجل: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 7، 8) يقْرَأ عَلَيْهِ عمله فَإِذا عرفه غفر لَهُ ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} (الرَّحْمَن: 93) وَأما الْكَافِر فَقَالَ: {يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيَأْخُذ بالنواصي والإقدام} (الرَّحْمَن: 14) قلت: أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن هَذَا وَإِن كَانَ إِسْنَاده صَحِيحا فَلَا يُقَاوم مَا فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) ، وَمن شَرط الْمُعَارضَة التَّسَاوِي فِي الصِّحَّة وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَإِن عَائِشَة قد خالفها غَيرهَا فِي ذَلِك للآيات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك. فَإِن قلت: إِن الْحساب يُرَاد بِهِ الثَّوَاب وَالْجَزَاء، وَلَا ثَوَاب للْكَافِرِ فيجازى عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ، وَلِأَن المحاسب لَهُ هُوَ الله تَعَالَى، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة} (الْبَقَرَة: 471) قلت: أجَاب عَن ذَلِك مُحَمَّد بن جرير بِأَن معنى لَا يكلمهم الله. أَي: بِكَلَام يحبونه، وإلاَّ فقد قَالَ عز وَجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} (الْمُؤْمِنُونَ: 801) قَوْله: (ذَاك الْعرض) ، هُوَ الإبداء والإبراز وَقيل: هُوَ أَن يعرف ذنُوبه لم يتَجَاوَز عَنهُ، وَحَقِيقَة الْعرض إدارك الشَّيْء بالحواس ليعلم غَايَته وحاله. قَوْله: (وَمن نُوقِشَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من المناقشة وَهِي الِاسْتِقْصَاء فِي الْأَمر. قَوْله: (الْحساب) مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض.
2 - (بَابُ: {لتَرْكَبُنَّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ} (الانشقاق: 91)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لتركبن طبقًا عَن طبق} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر قَوْله: (لتركبن طبقًا عَن طبق) قَرَأَ ابْن كثير وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِفَتْح التَّاء وَالْبَاء وَهُوَ خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْنَاهُ الْآخِرَة بعد الأولى وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَبَّاس بِفَتْح التَّاء وَضم الْبَاء وَهُوَ خطاب لجَمِيع النَّاس، وَمَعْنَاهُ: حَالا بعد حَال، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء، وَقَرَأَ أَبُو المتَوَكل بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَرفع الْبَاء.
0494 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ النَّضْرِ أخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أخْبَرَنَا أبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بنُ إيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ} حَالا بَعْدَ حَالٍ قَالَ هاذا نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسَعِيد بن النَّضر بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة الْبَغْدَادِيّ مر فِي أول التَّيَمُّم، وهشيم بِضَم الْهَاء ابْن بشر، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة. والحدي من أَفْرَاده.
قَوْله: (حَالا بعد حَال) ، أَي: حَال مُطَابقَة للشَّيْء قبلهَا فِي الشدَّة، وَقيل: الطَّبَق جمع طبقَة وَهِي الْمرتبَة أَي: هِيَ طَبَقَات بَعْضهَا أَشد من بعض، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اخْتلف فِي معنى الْآيَة. فَقَالَ أَكْثَرهم حَالا بعد حَال، وأمرا بعد أَمر، وَهُوَ مَوَاقِف الْقِيَامَة وَعَن الْكَلْبِيّ: مرّة يعْرفُونَ وَمرَّة يجهلون، وَعَن مقَاتل يَعْنِي الْمَوْت ثمَّ الْحَيَاة ثمَّ الْمَوْت ثمَّ الْحَيَاة. وَعَن عَطاء: مرّة فقر أَو مرّة غناء، وَعَن ابْن عَبَّاس: الشدائد والأهوال، الْمَوْت ثمَّ الْبَعْث ثمَّ الْعرض؟ وَالْعرب تَقول لمن وَقع فِي أَمر شَدِيد: وَقع فِي ثبات طبق وَفِي إِحْدَى ثبات طبق، وَعَن أبي عُبَيْدَة سنَن من كَانَ قبلهم وأحوالهم، وَعَن عِكْرِمَة: حَالا بعد حَال رَضِيع ثمَّ فطيم ثمَّ غُلَام ثمَّ شَاب ثمَّ شيخ.
وَقلت الْحُكَمَاء يَشْمَل الْإِنْسَان كَونه نُطْفَة إِلَى أَن يَمُوت على سَبْعَة وَثَلَاثِينَ حَالا وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ اسْما، نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ عظاما ثمَّ خلقا آخر ثمَّ جَنِينا(19/285)
ثمَّ وليدا ثمَّ رضيعا ثمَّ فطيما ثمَّ يافعا ثمَّ نَاسِيا ثمَّ مترعرعا ثمَّ حزورا ثمَّ مراهقا ثمَّ محتلما ثمَّ بَالغا ثمَّ أَمْرَد ثمَّ طارا ثمَّ باقلاً ثمَّ مستطرا ثمَّ مطرخما ثمَّ مخلطا ثمَّ صملاً ثمَّ ملتحيا ثمَّ مستويا ثمَّ مصعدا ثمَّ مجتمعا. والشاب يجمع ذَلِك كُله. ثمَّ ملهوزا ثمَّ كهلاً ثمَّ أشمط ثمَّ أشيخا ثمَّ شَبَّبَ ثمَّ حوقلاً ثمَّ صفتاتا ثمَّ هما ثمَّ هرما ثمَّ مَيتا. فَهَذَا معنى قَوْله: (لتركبن طبقًا عَن طبق) والطبق فِي اللُّغَة الْحَال قَالَه الثَّعْلَبِيّ.
قلت: ثمَّ يافعا بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، من أَيفع الْغُلَام أَي: ارْتَفع فَهُوَ يافع، وَالْقِيَاس موفع وَهُوَ من النَّوَادِر، كَذَا قَالَه أهل الْعَرَبيَّة. وَقيل: جَاءَ يفع الْغُلَام فعلى هَذَا يافع على الأَصْل، وَذكر فِي كتاب (خلق الْإِنْسَان) وَقَالَ بَعضهم: اليافع والحزور والمترعرع وَاحِد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الحزور الْغُلَام إِذا اشْتَدَّ وَقَوي وحزم، وَكَأَنَّهُ أَخذه من الْحَزْوَرَة وَهِي كل صَغِير، والمترعرع. قَالَ الْجَوْهَرِي: ترعرع الصَّبِي أَي: تحرّك وَنَشَأ، والطارّ بتَشْديد الرَّاء من طر شَارِب الْغُلَام إِذا نبت والمطرخم بتَشْديد الْمِيم الَّتِي فِي آخِره من اطرخمَّ أَي: شمخ بِأَنْفِهِ وتعظم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: شَاب مطرخم أَي: حسن تَامّ، والمخلط بِكَسْر الْمِيم الرجل الَّذِي يخالط الْأُمُور، والصمل بِضَم الصَّاد وَالْمِيم وَتَشْديد اللَّام أَي: شَدِيد الْخلق، والملهوز، بالزاي فِي آخِره من لهزت الْقَوْم أَي: خالطتهم، وَالْوَاو فِيهِ زَائِدَة، والحوقل من حوقل الشَّيْخ حوقلة وحقيالاً إِذا كبر وفتر عَن الْجِمَاع، والصفتات، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وبتاءين مثناتين بَينهمَا ألف: الرجل الْقوي وَكَذَلِكَ الصفتيت، وَفِي الْأَحْوَال الْمَذْكُورَة أسامي لم تذكر، وَهِي شرخ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة بعد أَن يُقَال غُلَام ثمَّ بعد ذَلِك يُسمى جفرا بِالْجِيم والجحوش بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة بعْدهَا الْحَاء الْمُهْملَة المضمومة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة بعد أَن يُقَال فطيم، وناشىء يُقَال بعد كَونه شَابًّا ومحمم إِذا اسود شعر وَجهه وَأخذ بعضه بَعْضًا، وصتم إِذا بلغ أقْصَى الكهولة، وعانس إِذا قعد بعد بُلُوغ النِّكَاح أعواما لَا ينْكح، وشميط وأشمط يُقَال لَهُ بعد مَا شَاب، ومسن ونهشل يُقَال إِذا ارْتَفع عَن الشيخوخة وَإِذا ارْتَفع عَن ذَلِك، يُقَال: فخم وَإِذا تضعضع لَحْمه يُقَال: متلحم، وَإِذا قَارب الخطو وَضعف يُقَال لَهُ دالف، وَإِذا ضمر وانحنى يُقَال لَهُ عشمة وعشبة، وَإِذا بلغ أقْصَى ذَلِك، يُقَال لَهُ: هرم وهم وَإِذا أَكثر الْكَلَام وَاخْتَلَطَ يُقَال لَهُ: مهتر، وَإِذا ذهب عقله يُقَال لَهُ خرف.
وَقَالَ بَعضهم: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه فَهُوَ جَنِين، فَإِذا وَلدته يُسمى صَبيا مَا دَامَ رضيعا فَإِذا فطم يُسمى غُلَاما إِلَى سبع سِنِين ثمَّ يصير يافعا إِلَى عشر حجج ثمَّ يصير حزورا إِلَى خمس عشرَة سنة ثمَّ يصير قمدا إِلَى خمس وَعشْرين سنة ثمَّ يصير عنطنا إِلَى ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ يصير صملاً إِلَى أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ يصير كهلاً إِلَى خمسين سنة ثمَّ يصير شَيخا إِلَى ثَمَانِينَ سنة ثمَّ يصير هما بعد ذَلِك فانيا كَبِيرا.
قَوْله: (هَذَا نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: الْخطاب فِي التركين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على قِرَاءَة فتح الْبَاء الْمُوَحدَة فَافْهَم.
58 - (سُورَةُ {البُرُوجِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة البروج، وَفِي بعض النّسخ: البروج، بِدُونِ لفظ سُورَة، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي أَرْبَعمِائَة وَثَمَانِية وَخَمْسُونَ حرفا وَمِائَة وتسع كَلِمَات وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ آيَة، والبروج الاثنا عشر وَهِي قُصُور السَّمَاء على التَّشْبِيه، وَقيل: البروج النُّجُوم الَّتِي هِيَ منَازِل الْقَمَر، وَقيل: عِظَام الْكَوَاكِب، وَقيل: أَبْوَاب السَّمَاء.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الأخْدُودُ شَقٌّ فِي الأرْضِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى؛ {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} (البروج: 4) قَالَ الْأُخْدُود: شقّ فِي الأَرْض أخرجه عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
فَتَنُوا: عَذَّبُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (البروج: 1) وَفَسرهُ بقوله: عذبُوا. والفتنة جَاءَت لمعانٍ مِنْهَا: الْعَذَاب كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم هم على النَّار يفتنون} (الذاريات: 31) أَي: يُعَذبُونَ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الوَدُودِ الحَبِيبُ المَجِيدُ الكَرِيمُ} (البروج: 41)
أَي قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله(19/286)
تَعَالَى: {وَهُوَ الغفور الْوَدُود} وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: تَعَالَى: {الغفور الْوَدُود الحبيب} (البروج: 41) وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده.
68 - (سُورَةُ: {الطَّارِقِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الطارق، وَفِي بعض النّسخ الطارق، بِلَا لفظ سُورَة، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ حرفا، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ كلمة، وَسبع عشرَة آيَة نزلت فِي أبي طَالب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتحفه بِلَبن وخبز، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس يَأْكُل إِذا انحط نجم فَامْتَلَأَ مَاء ثمَّ نَارا، فَفَزعَ أَبُو طَالب، وَقَالَ: أَي شَيْء هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نجم رمي بِهِ وَهُوَ آيَة من آيَات الله تَعَالَى، فتعجب أَبُو طَالب، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء والطارق} (الطارق: 1) يَعْنِي: النَّجْم يظْهر لَيْلًا وَيخْفى نَهَارا، وكل مَا جَاءَ لَيْلًا فقد طرق.
هُوَ النَّجْمُ: وَمَا أتَاكَ لَيْلاً فَهُوَ طَارِقٌ
أَي: الطارق هُوَ النَّجْم قَوْله: (وَمَا أَتَاك) ، أَي الَّذِي أَتَاك فِي اللَّيْل يُسمى طَارِقًا من الطّرق، وَهُوَ الدق، وَسمي بِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى دق الْبَاب، هَذَا للنسفي.
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} (الطارق: 3) المُضِيءُ
هَذَا أَيْضا للنسفي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الثَّاقِبُ الَّذِي يَتَوَهَّجُ
ثَبت هَذَا لأبي نعيم عَن الْجِرْجَانِيّ عَن السّديّ: الَّذِي يرْمى بِهِ، وَقيل: الثاقب الثريا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ذَاتِ الرَّجْعِ} سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالمَطَرِ {ذَاتِ الصَّدْعِ} الأرْضُ تَتَصَدَّعُ بِالنباتِ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع وَالْأَرْض ذَات الصدع} (الطارق: 11، 21) وَتَفْسِيره ظَاهر، وَيُقَال: يرجع بالغيث، وأرزاق الْعباد كل عَام، وَلَوْلَا ذَلِك لهلكوا وَهَلَكت مَوَاشِيهمْ، وَعَن ابْن عَبَّاس: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع} (الطارق: 11) ذَات الْمَطَر {وَالْأَرْض ذَات الصدع} (الطارق: 21) النَّبَات وَالْأَشْجَار وَالثِّمَار والأنهار.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَقَوْل فَصْلٌ لَحق
هَذَا للنسفي وَحده، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: حق وجد وجزل يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل.
{لَمَّا عَلَيْها حَافِظٌ} (الطارق: 4) إلاَّ عَلَيْهَا حَافِظٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} وَفَسرهُ بقوله: (إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ) ، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق يزِيد النَّحْوِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَإِسْنَاده صَحِيح. لَكِن أنكرهُ أَبُو عُبَيْدَة. قَالَ: لم نسْمع لقَوْل: لما بِمَعْنى: إلاَّ شَاهدا فِي كَلَام الْعَرَب وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) قَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ: لما بتَشْديد الْمِيم على أَن تكون نَافِيَة. وَتَكون: لما بِمَعْنى إلاّ وَهِي لُغَة هُذَيْل يَقُولُونَ: نشدتك الله لما قُمْت يعنون إلاّ قُمْت، وَالْمعْنَى: مَا نفس (إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ) من رَبهَا، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ جعلُوا: مَا صلَة وَأَن مُخَفّفَة من المثقلة أَي: إِن كل نفس لعليها حَافظ من رَبهَا يحفظ عَلَيْهَا ويحصي عَلَيْهَا مَا تكسبه من خير أَو شَرّ. قلت: فِي كَلَامه رد على إِنْكَار أبي عُبَيْدَة فِي مَجِيء شَاهد: للما بِمَعْنى: إلاَّ.
78 - (سُورَةُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) وَيُقَال لَهَا سُورَة الْأَعْلَى، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَأَرْبَعَة وَثَمَانُونَ حرفا، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ كلمة، وتسع عشرَة آيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَكَذَلِكَ يرْوى عَن عَليّ وَأبي مُوسَى وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَأخرج سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير: سَمِعت ابْن عمر يقْرَأ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى الَّذِي خلق فسوى. وَهِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {قَدَّرَ فَهَدَى} (الْأَعْلَى: 3) قَدَّرَ للإنْسَانِ الشقاءَ والسَّعادَةَ وَهَدَى الأنْعَامَ لِمَرَاتِعها
هَذَا للنسفي، وَالْمعْنَى ظَاهر.
1 - (بَابَ: {وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {غُناءَ أحْوَى} (الْأَعْلَى: 5) غَشِيما مُتَغَيِّرا} )
هَذَا أَيْضا للنسفي، وَيُقَال: أَي بِالْيَاءِ أحوى: أَي اسود إِذا هاج وعنق.(19/287)
1494 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخْبَرَنِي أبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلا يُقْرِئانِنا القُرْآنَ ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلالٌ وَسَعْدٌ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ جَاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا رأيْتُ أهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الوَلائِدَ وَالصُّبْيَانَ يَقُولُونَ هَذَا رَسُولُ الله قَدْ جَاءَ فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الأعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) فِي سُوَرٍ مِثْلِها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان يروي عَن أَبِيه عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي عَن الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَاب مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (ابْن أم مَكْتُوم) هُوَ عَمْرو بن قيس الْقرشِي العامري، وَاسم أم مَكْتُوم عَاتِكَة، وَسعد هُوَ ابْن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ. قَوْله: (فِي عشْرين) ، أَي: فِي جملَة عشْرين صحابيا. قَوْله: (الولائد) ، جمع وليدة وَهِي الصبية وَالْأمة. قَوْله: (يَقُولُونَ، هَذَا رَسُول الله) ، لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الصَّلَاة عَلَيْهِ إِنَّمَا شرعت فِي السّنة الْخَامِسَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} (الْأَحْزَاب: 65) وَهَذِه الْآيَة فِي الْأَحْزَاب ونزولها فِي السّنة الْخَامِسَة على الصَّحِيح، وَقَالَ بَعضهم: لَا مَانع أَن تتقدم الْآيَة الْمَذْكُورَة على مُعظم السُّورَة. قلت: الْمَانِع مَوْجُود لعدم الْعلم بتقدم الْآيَة الْمَذْكُورَة على مُعظم السُّورَة، وَأَيْضًا من أَيْن علمُوا أَن الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بُد مِنْهَا على أَي وَجه كَانَت وقتئذ، وَأَيْضًا من قَالَ إِن لفظ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلب الرِّوَايَة من لفظ الصَّحَابِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون صدر ذَلِك مِمَّن دونه، وَقَالَ بَعضهم: وَقد صَرَّحُوا بِأَنَّهُ ينْدب أَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: مَذْهَب الإِمَام أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ أَنه تجب الصَّلَاة عَلَيْهِ كلما ذكر اسْمه. قَوْله: (فِي سُورَة مثلهَا) ، أَي: قَرَأت {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} مَعَ سور أُخْرَى مثلهَا، وَقد مر فِي رِوَايَة الْهِجْرَة فِي سور من الْمفصل.
88 - (سُورَةُ: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {هَل أَتَاك} (الغاشية: 1) وَفِي بعض النّسخ: {هَل أَتَاك} فَقَط. وَفِي بَعْضهَا: سُورَة {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} وَفِي بَعْضهَا: سُورَة الغاشية، وَهِي مَكِّيَّة بِالْإِجْمَاع، وَهِي ثَلَاثمِائَة وَاحِد وَثَلَاثُونَ حرفا. وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ كلمة. وست وَعِشْرُونَ آيَة. والغاشية اسْم من أَسمَاء يَوْم الْقِيَامَة. يَعْنِي: تغشي كل شَيْء بالأهوال قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الغاشية النَّار، دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وتغشى وُجُوههم النَّار} (إِبْرَاهِيم: 5) .
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} (الغاشية: 2، 3) النَّصَارَى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة} وَفسّر عاملة وناصبة بالنصارى، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) لم أر من ذكره عَن ابْن عَبَّاس. قلت: عدم رُؤْيَته إِيَّاه لَا يسْتَلْزم عدمهَا مُطلقًا وَقد روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق شبيب ابْن بشر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَزَاد الْيَهُود. قَوْله: (يَوْمئِذٍ) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة خاشعة: ذليلة، وَقيل: خاشعة فِي النَّار. قَوْله: (عاملة) ، يَعْنِي: فِي النَّار. و (ناصبة) فِيهَا وَعَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير لم تعْمل لله فِي الدُّنْيَا فاعملها وانصبها فِي النَّار بمعالجة السلَاسِل والأغلال، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن قَتَادَة: تكبرت فِي الدُّنْيَا عَن طَاعَة الله تَعَالَى فاعملها وانصبها فِي النَّار، وَعَن الضَّحَّاك يكلفون ارتقاء جبل من حَدِيد فِي النَّار، وَالنّصب الدأب فِي الْعَمَل، وَعَن عِكْرِمَة: عاملة فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي ناصبة فِي النَّار يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن سعيد بن جُبَير وَزيد بن أسلم: هم الرهبان وَأَصْحَاب الصوامع، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد: عين آنِية بلغ إتاها وحان شربهَا. حميم آنٍ بلغ إناه أَي وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {تسقى من عين آنِية) بقوله بلغ إناها بِكَسْر الْهمزَة، أَي وَقتهَا. يُقَال أَنى بِأَنِّي أنيا،(19/288)
أَي: حَان. قَالَ الْجَوْهَرِي: أَنِّي الْحَمِيم أَي: انْتهى حره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {حميم آن} (الرَّحْمَن: 44) قَوْله: وحان أدْرك شربهَا، وَرَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا ظَنك بِقوم قَامُوا لله عز وَجل على أَقْدَامهم مِقْدَار خمسين ألف سنة لم يَأْكُلُوا فِيهَا أَكلَة وَلم يشْربُوا فِيهَا شربة، حَتَّى إِذا انْقَطَعت أَعْنَاقهم عطشا فاحترقت أَجْوَافهم جوعا انْصَرف بهم إِلَى النَّار فسقوا من عين آنِية قد أَتَى حرهَا وَاشْتَدَّ نضجها، وَعَن قَتَادَة أَي: طبخها مُنْذُ خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقَالَ مقَاتل: عين آنِية تخرج من أصل جبل طولهَا مسيرَة سبعين عَاما أسود كدردي الزَّيْت كدر غليظ كثير الدعاميص يسْقِيه إِيَّاه الْملك فِي إِنَاء من حَدِيد من نَار إِذا جعله على فِيهِ أحرق شدقيه وتناثرت أنيابه وأضراسه، فَإِذا بلغ صَدره نضج قلبه، فَإِذا بلغ بَطْنه ذاب كَمَا يذوب الرصاص. قلت: الدعاميص جمع دعموص، وَهِي دويبة تكون فِي مستنقع المَاء، وَهُوَ بِالدَّال وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ.
{لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً} (الغاشية: 11) شَتْما
أَي: لَا تسمعه فِي الْجنَّة لاغية، وَفَسرهُ بقوله: (شتما) وَقيل: كلمة لَغْو، واللاغية مصدر كالعافية، وَالْمعْنَى: لَا تسمع فِيهَا كذبا وبهتانا وَكفرا. وَقيل: بَاطِلا. وَقيل: مَعْصِيّة. وَقيل: حَالفا بِيَمِين برة وَلَا فاجرة، وَقيل: لَا تسمع فِي كَلَامهم كلمة تلغى لِأَن أهل الْجنَّة لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بالحكمة، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: تسمع، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، ولاغية بِالرَّفْع، وَنَافِع كَذَلِك إلاَّ أَنه قَرَأَ بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَالْبَاقُونَ بِفَتْح التَّاء ولاغية بِالنّصب.
وَيُقالُ: الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أهْلُ الحجازِ الضَّرِيعُ إذَا يَبِسَ وَهُوَ سَمٌّ.
الْقَائِل هُوَ الْفراء. قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع لَا يسمن وَلَا يغنى من جوع} (الغاشية: 6، 7) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة. قَالَ الْمُشْركُونَ: إِن إبلنا لتسمن على الضريع فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يسمن وَلَا يغنى من جوع} (الغاشية: 7) وكذبوا فَإِن الْإِبِل إِنَّمَا ترعاه إِذا كَانَ رطبا. فَإِذا يبس فَلَا تَأْكُله، ورطبه يُسمى شبرقا بِالْكَسْرِ لَا ضريعا فَإِن قلت: كَيفَ قيل: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} (الغاشية: 6) وَفِي الحاقة: {وَلَا طَعَام إلاَّ من غسلين} (الحاقة: 63) قلت: الْعَذَاب ألوان والمعذبون طَبَقَات فَمنهمْ: أَكلَة الزقوم، وَمِنْهُم أَكلَة الغسلين، وَمِنْهُم: أَكلَة الضريع. وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الضريع شجر من نَار، وَقَالَ الْخَلِيل هُوَ نبت أَخْضَر منتن الرّيح يرْمى بِهِ فِي الْبَحْر.
بِمُسَيْطِرٍ: بِمُسَلِطٍ وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} (الغاشية: 22) وَفسّر: المسيطر بالمسلط. قَوْله: (وَيقْرَأ بالصَّاد وَالسِّين) ، قَرَأَ عَاصِم: بمسيطر بِالسِّين، وَحَمْزَة بِخِلَاف عَن خَلاد بَين الصَّاد وَالزَّاي، وَالْبَاقُونَ بالصَّاد الْخَالِصَة بمصيطر.
إيَابَهُمْ مَرْجِعَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن إِلَيْنَا إيابهم} (الغاشية: 52) أَي: مرجعهم، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
98 - (سُورَةُ: {وَالفَجْرِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْفجْر وَهِي مَكِّيَّة. وَقيل: مَدَنِيَّة حَكَاهُ ابْن النَّقِيب عَن ابْن أبي طَلْحَة، وَهِي خَمْسمِائَة وَسَبْعَة وَسَبْعُونَ حرفا، وَمِائَة وتسع وَثَلَاثُونَ كلمة وَثَلَاثُونَ آيَة. الْفجْر قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي النَّهَار كُله، وَعنهُ: صَلَاة الْفجْر، وَعنهُ فجر الْمحرم، وَعَن قَتَادَة: أول يَوْم من الْمحرم وَفِيه تنفجر السّنة، وَعَن الضَّحَّاك فجر ذِي الْحجَّة، وَعَن مقَاتل: غَدَاة جمع كل سنة، وَعَن الْقُرْطُبِيّ: انفجار الصُّبْح من كل يَوْم إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الْفجْر الصخور والعيون تنفجر بالمياه، وَالله أعلم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: الوِتْرُ الله
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشفع وَالْوتر} (الْفجْر: 3) الْوتر: هُوَ الله عز وَجل، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي يحيى عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: الشفع الزَّوْج، وَالْوتر هُوَ الله عز وَجل، وَعند عبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس: الشفع يَوْم النَّحْر وَالْوتر يَوْم عَرَفَة، وَعَن قَتَادَة: من الصَّلَاة شفع وَمِنْهَا وتر، وَقَالَ الْحسن: من الْعدَد شفع وَمِنْه وتر، ويروى: الشفع آدم وحواء(19/289)
عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَالْوتر هُوَ الله تَعَالَى، وَقِرَاءَة الْمَدِينَة وَمَكَّة وَالْبَصْرَة وَبَعض الْكُوفِيّين بِفَتْح الْوَاو هِيَ لُغَة أهل الْحجاز، وَعَامة قراء الْكُوفَة بِكَسْرِهَا.
{إرَمَ ذَاتِ العِمادِ} (الْفجْر: 7) القَدِيمَةِ وَالعِمَادُ أهْلُ عَمُودٍ لَا يُقِيمُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد إرم ذَات الْعِمَاد} (الْفجْر: 6، 7) قَوْله: (إرم) ، عطف بَيَان لعاد، وَكَانَت عَاد قبيلتين عَاد الأولى وَعَاد الْأَخِيرَة، وأشير إِلَى عَاد الأولى بقوله الْقَدِيمَة، وَقيل: لعقب عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عا، كَمَا يُقَال لبني هَاشم، وارم تَسْمِيَة لَهُم باسم جدهم وهم عَاد الأولى، وَقيل: لمن بعدهمْ، عَاد الْأَخِيرَة، وإرم غير منصرف، قَبيلَة كَانَت أَو أَرضًا للتعريف والتأنيث، وَاخْتلف فِي إرم ذَات الْعِمَاد فَقيل: دمشق. قَالَه سعيد بن الْمسيب، وَعَن الْقُرْطُبِيّ: هِيَ الاسكندرية، وَعَن مُجَاهِد: هِيَ أمة وَمَعْنَاهَا الْقَدِيمَة، وَعَن قَتَادَة: هِيَ قَبيلَة من عَاد، وَعَن ابْن إِسْحَاق: هِيَ جد عَاد، وَالصَّوَاب أَنَّهَا اسْم قَبيلَة أَو بَلْدَة. قَوْله: (ذَات الْعِمَاد) ، ذَات الطول والشدة وَالْقُوَّة، وَعَن الْمِقْدَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ذكر إرم ذَات الْعِمَاد فَقَالَ: كَانَ الرجل مِنْهُم يَأْتِي الصَّخْرَة فيحملها على الْحَيّ فيهلكهم، وَعَن الْكَلْبِيّ: كَانَ طول الرجل مِنْهُم أَرْبَعمِائَة ذِرَاع. وَعَن مقَاتل: طول أحدهم إثنا عشر ذِرَاعا فِي السَّمَاء مثل أعظم أسطوانة، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) طول أحدهم مائَة ذِرَاعا وأقصرهم اثْنَا عشر ذِرَاعا. قَوْله: (والعماد) ، مُبْتَدأ أَو و (أهل عَمُود) خَبره. أَي: أهل خيام لَا يُقِيمُونَ فِي بَلْدَة وَحَاصِل الْمَعْنى أَنه قيل لَهُم ذَات الْعِمَاد لأَنهم كَانُوا أهل عَمُود لَا يُقِيمُونَ. وَكَانُوا سيارة ينتجعون الْغَيْث وينتقلون إِلَى الكلاء حَيْثُ كَانَ ثمَّ يرجعُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ فَلَا يُقِيمُونَ فِي مَوضِع، وَكَانُوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كَانَت بوادي الْقرى، وَقيل: سموا ذَات الْعِمَاد لبِنَاء بناه شَدَّاد بن عَاد وحكايته مَشْهُورَة فِي التفاسير.
سَوْطَ عَذَابٍ: الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} (الْفجْر: 31) وَفسّر: (سَوط عَذَاب) بقوله: (الَّذِي عذبُوا بِهِ) فَقيل: هُوَ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب لكل نوع من الْعَذَاب يدْخل فِيهِ السَّوْط، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق قَتَادَة: كل شَيْء عذب بِهِ سَوط عَذَاب.
أكْلاً لَمَّا: السَّفُّ. وَجَمّا: الكَثِيرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتأكلوا التراث أكلا لمّا وتحبون المَال حبا جما} (الْفجْر: 91، 02) قَوْله: (التراث) ، أَي: تراث الْيَتَامَى أَي: ميراثهم. قَوْله: (لمّا) ، فسره بقوله: (السف) من سففت الْأكل أسفه سفّا. وَيُقَال أَيْضا سففت الدَّوَاء أسفة، وأسففت غَيْرِي وَهُوَ السفوف بِالْفَتْح. وسففت المَاء إِذا أكثرت من شربه من غير أَن تروى. وَقَالَ الْحسن: يَأْكُل نصِيبه وَنصِيب غَيره، وَقَالَ النَّسَفِيّ: أكلا لمّا: ذَا لم وَهُوَ الْجمع بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَعَن بكر بن عبد الله اللم الاعتداء فِي الْمِيرَاث يَأْكُل كل شَيْء يجده وَلَا يسْأَل عَنهُ أحلال أم حرَام، وَيَأْكُل الَّذِي لَهُ وَلغيره، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء وَلَا الصّبيان، وَقيل: يَأْكُلُون مَا جمعه الْمَيِّت من الْمظْلمَة وَهُوَ عَالم بذلك فيلم فِي الْأكل من حَلَاله وَحَرَامه، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يُقَال: لممت مَا على الخوان إِذا أتيت مَا عَلَيْهِ وأكلته كُله أجمع. قَوْله: (وجما الْكثير) ، أَي: معنى قَوْله: (حبا جما) ، أَي: كثيرا شَدِيدا مَعَ الْحِرْص، والشره عَلَيْهِ وَمنع الْحُقُوق يُقَال: جم المَاء فِي الْحَوْض إِذا كثر وَاجْتمعَ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ السماءُ شَفْعٌ وَالوِتْرُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّفْع وَالْوتر} (الْفجْر: 3) وَالْبَاقِي ظَاهر فَإِن قلت السَّمَاء وتر لِأَنَّهُ سبع قلت مَعْنَاهُ السَّمَاء شفع الأَرْض كالحار والبارد وَالذكر وَالْأُنْثَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ سَوْطَ عَذَابٍ كَلِمَةٌ تَقُولُها العَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ العَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ.
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} وَقد مر الْكَلَام فِيهِ الْآن، وَلَو ذكر هَذَا عِنْد قَوْله: {سَوط عَذَاب} الَّذِي عذبُوا بِهِ لَكَانَ أولى وأرتب.
لَبِالْمِرْصَادِ إلَيْهِ المَصِيرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك لبالمرصاد} (الْفجْر: 41) وَفَسرهُ بقوله: إِلَيْهِ الْمصير، وَكَذَا فسره الْفراء، والمرصاد على وزن مفعال،(19/290)
وَقَالَ بَعضهم: مفعال من مرصد وَهُوَ مَكَان الرصد. قلت: هَذَا كَلَام من لَيْسَ لَهُ يَد فِي علم التصريف، بل المرصاد هُوَ المرصد وَلَكِن فِيهِ من الْمُبَالغَة مَا لَيْسَ فِي المرصد، وَهُوَ مفعال من رضده كميقات من وقته، وَهَذَا مثل لإرصاده العصاة بِالْعَذَابِ وَأَنَّهُمْ لَا يفوتونه، وَعَن ابْن عَبَّاس: بِحَيْثُ يرى وَيسمع، وَعَن مقَاتل: يرصد النَّاس على الصِّرَاط فَيجْعَل: رصدا من الْمَلَائِكَة مَعَهم الكلاليب والمحاجن والحسك.
تحاضُّونَ: تُحافِظُونَ. وَتَحُضُّونَ: تَأْمُرُونَ بِإطْعَامِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحضون على طَعَام الْمِسْكِين} (الْفجْر: 81) وَهنا قراءتان إِحْدَاهمَا: تحاضون بِالْألف وَهِي قِرَاءَة أهل الْكُوفَة. وَالْأُخْرَى: تحضون، بِلَا ألف وَهِي قِرَاءَة البَاقِينَ، وَعَن الْكسَائي تحاضون بِالضَّمِّ، وَفسّر الَّذِي بِلَا ألف بقوله: تأمرون بإطعامه أَي: إطْعَام مِسْكين.
المُطْمَئِنَةُ المُصَدِّقَةُ بِالثَّوابِ، وَقَالَ الحَسَنُ: يَا أيَّتُها النَّفْسُ إذَا أرَادَ الله عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَها اطمآنتْ إلَى الله وَاطمَآنَّ الله إلَيْها وَرَضِيَتْ عَنِ الله وَرَضِيَ الله عَنْها فَأمرَ بِقَبْضِ رُوحها وأدْخَلَها الله الجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك} (الْفجْر: 72) بقوله: (المصدقة بالثواب) وَقيل: المطمئنة إِلَى مَا وعد الله المصدقة بِمَا قَالَ، وَعَن ابْن كيسَان: المطمئنة المخلصة، وَعَن ابْن عَطاء: العارفة بِاللَّه تَعَالَى الَّتِي لَا تصبر عَنهُ طرفَة عين، وَقيل: المطمئنة بِذكر الله دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله} (الرَّعْد: 82) وَقيل: المتوكلة على الله. قَوْله: (وَقَالَ الْحسن) أَي: الْبَصْرِيّ فِي قَوْله عز وَجل: (يَا أيتها النَّفس) إِلَى آخِره وتأنيث الضمائر فِيهِ فِي الْمَوَاضِع السَّبْعَة ظَاهر لِأَنَّهَا ترجع إِلَى النَّفس. وَفِي قَوْله: (وَجعله بالتذكير) بِاعْتِبَار الشَّخْص، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بالتأنيث فِي ثَلَاث مَوَاضِع فَقَط، وَهِي قَوْله: وَاطْمَأَنَّ الله إِلَيْهَا، وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهَا، وأدخلها الله الْجنَّة. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق حَفْص عَنهُ، وَإِسْنَاده الاطمئنان إِلَى الله تَعَالَى مجَاز يُرِيد بِهِ لَازمه وغايته من نَحْو إِيصَال الْخَيْر إِلَيْهِ وَفِيه المشاكلة، والرضى هُوَ ترك الِاعْتِرَاض.
وَقَالَ غَيْرُهُ: جَابُوا نَقَبُوا مِنْ جَيْبِ القَمِيصِ قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ يَجُوبُ الفلاة يَقْطَعُها
أَي: قَالَ غير الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: {وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد} (الْفجْر: 9) وَفسّر: (جابوا) بقوله: (نقبوا) . قَوْله: (من جيب الْقَمِيص) أَشَارَ إِلَى أَن أصل الجيب الْقطع، وَمِنْه يُقَال: جبت الْقَمِيص إِذا قطعت لَهُ جيبا وَكَذَلِكَ يجوب الفلاة أَي: يقطعهَا. وَقَالَ الْفراء جابوا الصخر: خرقوه فاتخذوه بُيُوتًا.
لَمَّا: لَمْمتُهُ أجْمَعَ أتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ
لم يثبت هَذَا لأبي ذَر، وسقوطه أولى لِأَنَّهُ مُكَرر ذكر مرّة عَن قريب، وَمَعَ هَذَا لَو ذكر هُنَاكَ لَكَانَ أولى.
09 - (سُورةُ: {لَا أُقْسِمُ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد} (الْبَلَد: 1) وَيُقَال لَهَا أَيْضا: سُورَة الْبَلَد، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي ثَلَاثمِائَة وعشرو حرفا، وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ كلمة وَعِشْرُونَ آيَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهاذا البَلَدِ} (الْبَلَد: 2) مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ(19/291)
مِنَ الإثْمِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} (الْبَلَد: 1، 2) هِيَ: مَكَّة، ويروى: بِمَكَّة، وَمعنى: حل أَنْت يَا مُحَمَّد حَلَال بِهَذَا الْبَلَد فِي الْمُسْتَقْبل تصنع فِيهِ مَا تُرِيدُ من الْقَتْل والأسر وَذَلِكَ أَن الله عز وَجل أحل لنَبيه يَوْم الْفَتْح حَتَّى قتل من قتل وَأخذ مَا شَاءَ وَحرم مَا شَاءَ، فَقتل ابْن خطل وَأَصْحَابه وَحرم دَار أبي سُفْيَان. وَقَالَ الوَاسِطِيّ: المُرَاد الْمَدِينَة حَكَاهُ فِي (الشِّفَاء) وَالْأول أصح لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وروى قَول مُجَاهِد: (وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد) مَكَّة الْحَنْظَلِي عَن أَحْمد بن سِنَان الوَاسِطِيّ حَدثنَا ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد، وَقَالَهُ أَيْضا عَطاء وَقَتَادَة وَابْن زيد، وروى قَوْله: (لَيْسَ على النَّاس من الْإِثْم) الطَّبَرِيّ عَن ابْن حميد: حَدثنَا مهْرَان عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَنهُ، وَعَن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدثنَا أَبُو عَاصِم حَدثنَا عِيسَى عَن وَرْقَاء عَن ابْن ابْن نجيح عَنهُ
وَوَالِد: آدَمَ وَمَا وَلَدَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ووالد وَمَا ولد} (الْبَلَد: 3) وَفسّر ذَلِك بقوله آدم وَمَا ولد أَي: آدم وَأَوْلَاده، وَقيل: إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ من نَسْله، وَعَن عِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير الْوَالِد الَّذِي يُولد لَهُ وَمَا ولد العاقر الَّذِي لَا يُولد لَهُ. وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وعَلى هَذَا يكون: مَا، نفيا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَهُوَ بعيد وَلَا يَصح إلاَّ بإضمار، وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس، ووالد وَولده.
لِبَدا: كَثِيرا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى يَقُول: {أهلكت مَالا لبدا} (الْبَلَد: 6) وَفسّر: (لبدا) بقوله: (كثيرا) . قَوْله: (يَقُول) ، أَي: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة أهلكت أنفقت مَالا لبدا أَي مَالا كثيرا بعضه على بعض فِي عَدَاوَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واللبد من التلبيد وَهُوَ كَون الشَّيْء بعضه على بعض، وَمِنْه اللبد، وقرىء بتَشْديد الْبَاء وتخفيفها.
وَالنَّجْدَيْنِ: الخَيْرُ وَالشّرُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وهديناه النجدين} (الْبَلَد: 01) يَعْنِي: سَبِيل الْخَيْر وسبيل الشَّرّ، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَأكْثر الْمُفَسّرين على هَذَا، وَعَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: النجدين الثديين وَإِلَيْهِ ذهب سعيد بن الْمسيب وَالضَّحَّاك، والنجد فِي الأَصْل الطَّرِيق فِي ارْتِفَاع.
مَسْغَبَة: مَجَاعَةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسبغة} (الْبَلَد: 41) أَي: مجاعَة.
مَتْرَبَةٍ: السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة} (الْبَلَد: 61) وَفَسرهُ بقوله: (السَّاقِط فِي التُّرَاب) وروى ابْن عُيَيْنَة من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بَينه وَبَين الأَرْض شَيْء، وروى الْحَاكِم من طَرِيق حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْمَطْرُوح الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَيت.
يُقَالُ {فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةِ
فَلَمْ يَقْتَحِمِ العَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فَسَّرَ العَقَبَةَ فَقَالَ: {وَمَا أدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} جملَة مُعْتَرضَة، وَمعنى فك رَقَبَة: أعتق رَقَبَة كَانَت فداءه من النَّار. وَعَن عِكْرِمَة فك رَقَبَة من الذُّنُوب بِالتَّوْبَةِ. قَوْله: (أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسبغة) (الْبَلَد: 21، 41) .
لما ذكر المسغبة والمتربة شرع فِي بَيَان مَا يفعل بِذِي مسبغة وبذي مَتْرَبَة، فَقَالَ فَلَا اقتحم الْعقبَة فِي الدُّنْيَا يَعْنِي: فَلم يُجَاوز هَذَا الْإِنْسَان الْعقبَة فِي الدُّنْيَا فَيَأْمَن، والاقتحام الدُّخُول والمجاوزة بِشدَّة ومشقة، ثمَّ عظم أَمر الْعقبَة فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَمَا أَرَاك مَا الْعقبَة) وكل شَيْء قَالَ: وَمَا أَدْرَاك، فَإِنَّهُ أخبرهُ بِهِ وَمَا قَالَ: وَمَا يدْريك فَإِنَّهُ لم يُخبرهُ بِهِ ثمَّ فسر الْعقبَة بقوله: (فك رَقَبَة) إِلَى قَوْله: (مَتْرَبَة) وَشبه عظم الذُّنُوب وثقلها على مرتكبها بعقبة فَإِذا أعتق رَقَبَة وَعمل عملا صَالحا كَانَ مثله مثل من اقتحم الْعقبَة الَّتِي هِيَ الذُّنُوب حَتَّى تذْهب وتذوب كمن يقتحم عقبَة فيستوي عَلَيْهَا ويجوزها، وَذكر عَن ابْن عمر: أَن هَذِه الْعقبَة جبل فِي جَهَنَّم، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة، هِيَ عقبَة فِي النَّار دون الجسر فاقتحموها بِطَاعَة الله تَعَالَى، وَعَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك والكلبي، هِيَ الصِّرَاط يضْرب على جَهَنَّم كَحَد السَّيْف مسيرَة ثَلَاثَة آلَاف سنة سهلاً وصعودا وهبوطا وَأَن بجنبيه كلاليب وَخطأ طيف كشوك السعدان، وَعَن كَعْب: هِيَ سَبْعُونَ دركة فِي جَهَنَّم. قَوْله: (فك رَقَبَة) بَدَلا من اقتحم الْعقبَة أَو إطْعَام عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة) ، (الْبَلَد: 21) مجاعَة يَتِيما ذَا مقربة أَي: ذَا قرَابَة {ومسكينا ذَا مَتْرَبَة} قد لصق بِالتُّرَابِ من الْفقر فَلَيْسَ لَهُ مأوى إِلَّا التُّرَاب، والمسبغة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إِذا جَاع، وَقرب فِي النّسَب، وترب إِذا افْتقر، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ: فك، بِفَتْح الْكَاف وَأطْعم بِفَتْح الْمِيم على الْفِعْل كَقَوْلِه: ثمَّ كَانَ وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَة على الِاسْم.(19/292)
19 - (سُورَةُ: {وَالشَّمْسِ وَضُحاهَا} (الشَّمْس: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَسَبْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا وَأَرْبع وَخَمْسُونَ كلمة وَخمْس عشرَة آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت البسلمة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ضُحاها ضَوْءَها إذَا تَلاهَا تَبِعَها. وَطحاها دَحَاها دَسَّاهَا أغْوَاهَا.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} أَي: (ضوءها) يَعْنِي: إِذا أشرقت وَقَامَ سلطانها، وَلذَلِك قيل: وَقت الضُّحَى وَكَانَ وَجهه شمس الضُّحَى، وَقيل: الضحوة ارْتِفَاع النَّهَار وَالضُّحَى فَوق ذَلِك، وَعَن قَتَادَة: هُوَ النَّهَار كُله، وَقَالَ مقَاتل: حرهَا. قَوْله: (إِذا تَلَاهَا) تبعها، يَعْنِي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} (الشَّمْس: 2) أَي: تبعها فَأخذ من ضوئها وَذَلِكَ فِي النّصْف الأول من الشَّهْر إِذا غربت الشَّمْس تَلَاهَا الْقَمَر طالعا. قَوْله: (وطحاها دحاها) أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض وَمَا طحاها} (الشَّمْس: 6) أَي: وَالَّذِي طحاها أَي: دحاها أَي: بسطها. يُقَال: دحوت الشَّيْء دحوا بسطته، ذكره الْجَوْهَرِي ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} (النازعات: 03) وَقَالَ فِي بَاب الطَّاء: طحوته مثل دحوته أَي: بسطته. قَوْله: (دساها أغواها) ، أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقد خَابَ من دساها} (الشَّمْس: 01) أَي: أغواها. أَي: خسرت نفس دساها الله فأخملها وخذلها، وَوضع مِنْهَا وأخفى محلهَا حَتَّى عملت بِالْفُجُورِ وَركبت الْمعاصِي، وَهَذَا كُله ثَبت للنسفي وَحده.
فَألْهَمَها: عَرَّقَها الشقَّاءَ وَالسَّعادَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فألهمها فجورها وتقواها} (الشَّمْس: 8) أَي: فألهم النَّفس فجورها أَي شقاوتها وتقواها أَي: سعادتها. وَعَن ابْن عَبَّاس: بَين لَهَا الْخَيْر وَالشَّر، وَعنهُ أَيْضا وَعلمهَا الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة، وَهَذَا أَيْضا ثَبت للنسفي.
{وَلا يَخافُ عُقْباها} (الشَّمْس: 51) عُقْبَى أحَدٍ
قبلهَا قَوْله تَعَالَى: {فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم فسواها وَلَا يخَاف عقباها} (الشَّمْس: 41، 51) قَالَ: فدمدم عَلَيْهِم، أَي: أهلكهم رَبهم بتكذيبهم رَسُوله وعقرهم نَاقَته. قَوْله: (فسواها) أَي: فسوى الدمدمة عَلَيْهِم جَمِيعًا وعمهم بهَا فَلم يُفلت مِنْهُم أحدا وَقَالَ المؤرج الدمدمة إهلاك باستئصال. قَوْله: (وَلَا يخَاف عقباها) ، قَالَ: عُقبى أحد إِنَّمَا قَالَ عُقبى أحد مَعَ أَن الضَّمِير فِي عقباها مؤنث بِاعْتِبَار النَّفس وَهُوَ مؤنث، وَعبر عَن النَّفس بالأحد. وَفِي بعض النّسخ أَخذنَا بِالْخَاءِ والذال المعجمتين وَهُوَ معنى الدمدمة. أَي: الْهَلَاك الْعَام، وَقَالَ النَّسَفِيّ: عقباها عَاقبَتهَا، وَعَن الْحسن: لَا يخَاف الله من أحد تبعه فِي إهلاكهم، وَقيل: الضَّمِير يرجع إِلَى ثَمُود، وَعَن الضَّحَّاك وَالسُّديّ والكلبي: الضَّمِير فِي لَا يخَاف، يرجع إِلَى العاقر، وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير تَقْدِيره إِذا انْبَعَثَ أشقاها وَلَا يخَاف عقابها، وَقَرَأَ أهل الْمَدِينَة وَالشَّام فَلَا يخَاف بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مصاحفهم وَالْبَاقُونَ بِالْوَاو، وَهَكَذَا فِي مصاحفهم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: بِطَغْواها بِمعاصيها
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {كذبت ثَمُود بطغواها} (الشَّمْس: 11) وَقَالَ: (بمعاصيها) وَرَوَاهُ الْفرْيَابِيّ من طَرِيق مُجَاهِد: بمعصيتها، قَالَ بَعضهم: وَهُوَ الْوَجْه. قلت: لم يبين مَا الْوَجْه بل الْوَجْه بِلَفْظ الْجمع وَلَا يخفى ذَلِك والطغوى والطغيان وَاحِد كِلَاهُمَا مصدران من طَغى.
2494 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثَنا هِشَامٌ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ عَبْدُ الله ابنُ زَمْعَةَ أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إذَا انُبَعَثَ أشْقَاهَا) (الشَّمْس: 21) انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهطِهِ مِثْلُ أبِي زَمْعَةَ وَذَكَرَ النِّسَاءِ فَقَالَ يَعْمِدُ أحَدُكُمْ يَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُها مِن آخِرِ يَوْمِهِ ثُمَّ وَعَظَهُمْ(19/293)
فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ وَقَالَ: لِمَ يَضْحَكُ أحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ.
مطابقته للسورة الْمَذْكُورَة ظَاهِرَة. ووهيب: مصغر وهب ابْن خَالِد، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام يروي عَن أَبِيه عَن عبد الله بن زَمعَة، بِفَتْح الزَّاي وَالْمِيم وبسكونها وبالعين الْمُهْملَة ابْن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي صَحَابِيّ. مَشْهُور، وَأمه قريبَة أُخْت أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ أَبُو عمر: روى عَنهُ عُرْوَة وَثَلَاثَة أَحَادِيث وَهِي مَجْمُوعَة فِي حَدِيث الْبَاب وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فِي بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا} (الْأَعْرَاف: 37) عَن الْحميدِي بالقصة الأولى، وَذكر فِي الْأَدَب عَن عَليّ بن عبد الله بالقصة الثَّانِيَة، وَفِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن يُوسُف بالقصة الثَّالِثَة.
وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن ابْن أبي شيبَة وَأبي كريب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هَارُون بن إِسْحَاق وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع بالقصة الأولى وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور بالقصة الثَّالِثَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهَذِهِ الْقِصَّة.
قَوْله: (وَذكر النَّاقة) ، أَي: نَاقَة صَالح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: فَخَطب وَذكر كَذَا وَكَذَا وَذكر النَّاقة، هَذَا هُوَ الحَدِيث الأول. قَوْله: (وَالَّذِي عقر) ، ذكره بِحَذْف مَفْعُوله وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة وَالَّذِي عقرهَا، وَهُوَ قدار بن سالف وَأمه قديرة وَهُوَ أُحَيْمِر ثَمُود الَّذِي يضْرب الْمثل فِي الشؤم، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَكَانَ أَحْمَر أشقر أَزْرَق قصير وَذكر ولد زنى، ولد على فرَاش ساف. قَوْله: (إِذا انْبَعَثَ أشقاها) (الشَّمْس: 21) يَعْنِي: قَرَأَ هَذِه الْآيَة ثمَّ قَالَ انْبَعَثَ لَهَا رجل أَي: قَامَ لَهَا أَي: للناقة (رجل عَزِيز) أَي: قَلِيل الْمثل. قَوْله: (عَارِم) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالرَّاء أَي: جَبَّار صَعب شَدِيد مُفسد خَبِيث، وَقيل: جَاهِل شرس. قَوْله: (منيع) ، أَي: قوي ذُو مَنْعَة فِي رهطه أَي: فِي قومه. قَوْله: (مثل أبي زَمعَة) ، وَهُوَ الْأسود الْمَذْكُور جد عبد الله بن زَمعَة، وَكَانَ الْأسود أحد الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَمَات على كفره بِمَكَّة وَقتل ابْنه زَمعَة يَوْم بدر كَافِرًا أَيْضا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَبُو زَمعَة هَذَا يحْتَمل أَن يكون البلوي المبايع تَحت الشَّجَرَة، وَتُوفِّي بإفريقية فِي غَزْوَة ابْن خديج وَدفن بالبلوية بالقيروان. قَالَ: فَإِن كَانَ هُوَ هَذَا فَإِنَّهُ إِنَّمَا شبهه بعاقر النَّاقة فِي أَنه عَزِيز فِي قومه ومنيع على من يُريدهُ من الْكفَّار. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يُرِيد غَيره مِمَّن يُسمى بِأبي زَمعَة من الْكفَّار. قَوْله: (وَذكر النِّسَاء) ، هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور الثَّانِي أَي: وَذكر مَا يتَعَلَّق بِأُمُور النِّسَاء. قَوْله: (يعمد أحدكُم) ، بِكَسْر الْمِيم. أَي: يقْصد. قَوْله: (يجلد) ، ويروى: فيجلد أَي: فَيضْرب، يُقَال: جلدته بِالسَّيْفِ وَالسَّوْط وَنَحْوهمَا إِذا ضَربته. قَوْله: (جلد العَبْد) أَي: كَجلْد العَبْد، وَفِيه الْوَصِيَّة بِالنسَاء والإحجام عَن ضربهن. قَوْله: (فَلَعَلَّهُ) أَي: فَلَعَلَّ الَّذِي يجلدها فِي أول الْيَوْم (يضاجعها) أَي: يَطَؤُهَا من آخر يَوْمه، وَكلمَة من هُنَا بِمَعْنى: فِي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) أَي: فِي يَوْم الْجُمُعَة. قَوْله: (ثمَّ وعظهم) إِلَى آخر الحَدِيث الثَّالِث أَي: ثمَّ وعظ الرِّجَال فِي ضحكهم من الضرطة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فِي ضحك بِالتَّنْوِينِ دون الْإِضَافَة إِلَى الضَّمِير، وَفِيه الْأَمر بالإغماض والتجاهل والإعراض عَن سَماع صَوت الضراط، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا وَقع من أحدهم ضرطه فِي الْمجْلس يَضْحَكُونَ وَنهى الشَّارِع عَن ذَلِك إِذا وَقع وَأمر بالتغافل عَن ذَلِك والاشتغال بِمَا كَانَ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا من جملَة أَفعَال قوم لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُم كَانُوا يتضارطون فِي الْمجْلس ويتضاحكون.
وَقَالَ أبُو مُعَاوِيَةَ: حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ زَمْعَةَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مِثْلُ أبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ.
أَبُو مُعَاوِيَة هُوَ مُحَمَّد بن خازم بالمعجمتين الضَّرِير، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة إِلَى آخر ذكر الحَدِيث بِتَمَامِهِ، وَقَالَ فِي آخِره: (مثل أبي زَمعَة عَم الزبير بن الْعَوام) وَأخرجه أَحْمد أَيْضا عَن أبي مُعَاوِيَة لَكِن لم يقل فِي آخِره عَم الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (عَم الزبير) بطرِيق تَنْزِيل ابْن الْعم منزلَة الْعم لِأَن الْأسود هُوَ ابْن الْمطلب بن أَسد وَالزُّبَيْر بن الْعَوام بن خويلد بن أَسد، وَقَالَ الْكرْمَانِي أعلم أَن بَعضهم استدركوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: أَبُو زَمعَة لَيْسَ عَم الزبير(19/294)
ثمَّ أجابوا بِمثل مَا ذكرنَا.
29 - (سُورَةُ: {اللَّيْلِ إذَا يَغْشَى} (اللَّيْل: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} وَهِي مَكِّيَّة فِي رِوَايَة قَتَادَة والكلبي وَالشعْبِيّ وسُفْيَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر الصّديق حِين اعْتِقْ بِلَالًا وَفِي أبي سُفْيَان، وَقَالَ عِكْرِمَة وَعبد الرَّحْمَن بن زيد مَدَنِيَّة نزلت فِي أبي الدحداح رجل من الْأَنْصَار وَأم سَمُرَة فِي قصَّة لَهما طَوِيلَة. وَهِي ثَلَاثمِائَة وَعشرَة أحرف، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ كلمة، وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ آيَة. قَوْله: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} أَي: يغشى بظلمته النَّهَار، وَلم يذكر مَفْعُوله للْعلم بِهِ، وَقَالَ الزّجاج: غشى الْأُفق وَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسِ {وَكَذَّبِ بِالحُسْنَى} بِالخَلَفِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَكذب بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 9) أَي: (بالخلف) عَن إِعْطَائِهِ والعوض عَن إِنْفَاقه، وَعَن مُجَاهِد. وَكذب بِالْجنَّةِ وَعَن ابْن عَبَّاس: بِلَا إلاه إلاَّ الله، وَالْأول أشبه لِأَن الله تَعَالَى وعد بالخلف للمعطي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَدَّى: مَاتَ: وَتَلَظَّى: تَوَهَّجَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُغني عَنهُ مَاله إِذا تردى} (اللَّيْل: 11) أَي: إِذا مَاتَ، وَعَن قَتَادَة وَأبي صَالح إِذا هوي فِي جَهَنَّم، نزلت فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب. قَوْله: (وتلظى توهج) يَعْنِي: قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَارا تلظى} يعْنى توهج (اللَّيْل: 41) أَي: تتوقد وتوهج بِضَم الْجِيم لِأَن أَصله تتوهج فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
وَقَرَأَ عُبَيْدُ بنُ عُسْرٍّ: تَتَلَظَّى
يَعْنِي قَرَأَهَا بِدُونِ حذف التَّاء على الأَصْل، وَوصل هَذَا سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة وَدَاوُد الْعَطَّار كِلَاهُمَا عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَرَأَ: نَارا تتلظى بتاءين، وَقيل: إِن عبيد بن عُمَيْر قَرَأَهَا بِالْإِدْغَامِ فِي الْوَصْل. لَا فِي الِابْتِدَاء وَهِي قِرَاءَة البزي من طَرِيق ابْن كثير.
1 - (بَابٌ: {وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى} (اللَّيْل: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّهَار إِذا تجلى} أَي: إِذا انْكَشَفَ بضوئه، وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة لأبي ذَر والنسفي.
3494 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِ عَبْدِ الله الشَّأْمَ فَسَمِعَ بِنا أبُو الدَّرْدَاءِ فَأتانا فَقَالَ أفِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ فَقُلْنا نَعَمْ قَالَ فَأَيُّكُمْ أقْرَأُ فأشارُوا إلَيَّ فَقَالَ اقْرَأُ فَقَرَأْتْ: {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشِى وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} (اللَّيْل: 1، 3) قَالَ: آنْتَ سَمِعْتَها مِنْ فِي صَاحِبِكَ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأنا سَمِعْتُها مِنْ فِي النبىِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهاؤُلاءِ يَأْبَوْنَ عَلَيْنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وعلقمة بن قيس، وَأَبُو الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك، وَفِيه اخْتلف.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقِرَاءَة عَن هناد بن السرى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر وَغَيره.
قَوْله: (من أَصْحَاب عبد الله) أَي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (أفيكم) ، الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على وَجه الاستخبار. قَوْله: (فَأَيكُمْ أَقرَأ) أَي: أقوى وَأحسن قِرَاءَة. قَوْله: (إِلَى) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (أَنْت سَمعتهَا من فِي صَاحبك) ، أَي: عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (من فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من فَمه. قَوْله: (وَهَؤُلَاء) أَي: أهل الشَّام. (يأبون) أَي: يمْنَعُونَ هَذِه الْقِرَاءَة يَعْنِي: (وَالنَّهَار إِذا تجلى وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى) (اللَّيْل: 3) وَيَقُولُونَ: الْقِرَاءَة المتواترة: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} وَهَذِه الْقِرَاءَة الْوَاجِبَة، وَأَبُو الدَّرْدَاء كَانَ يحذفه.(19/295)
2 - (بَابٌ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} (اللَّيْل: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} يَعْنِي: وَمن خلق الذّكر وَالْأُنْثَى.
4494 - حدَّثنا عُمَرُ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ قَدِمَ أصْحَابُ عَبْدِ الله عَلى أبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ أيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ الله قَالَ كُلُّنا قَالَ فأيُّكُمْ يَحْفَظُ وَأشَارُوا إلَى عَلْقَمَةَ قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى} (اللَّيْل: 1) قَالَ عَلّقَمَةُ: وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى. قَالَ أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ أَنا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ هاكذا وَهَؤُلاءِ يُرِيدُونِي عَلَى أنْ أقْرَأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} لَا أُتَابِعُهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعمر هُوَ ابْن حَفْص، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: أخبرنَا عمر بن حَفْص يذكر حَفْص صَرِيحًا، وَعمر يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَهَذَا صورته الْإِرْسَال لِأَن إِبْرَاهِيم مَا حضر الصة، وَوَقع فِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة وَهَذِه تبين أَن لَا إرْسَال، وَصرح فِي رِوَايَة أبي نعيم: إِن إِبْرَاهِيم سمع عَلْقَمَة.
قَوْله: (على قِرَاءَة عبد الله) أَي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (قَالَ: كلنا) أَي: كلنا يقْرَأ، وَالظَّاهِر أَن فَاعل: قَالَ، هُوَ عَلْقَمَة. قَوْله: (قَالَ: فَأَيكُمْ) أَي: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لَهُم: فَأَيكُمْ يحفظ؟ ويروى: فَأَيكُمْ أحفظ؟ قَوْله: (وأشاروا) أَي: أَصْحَاب عبد الله أشاروا إِلَى عَلْقَمَة. قَوْله: (قَالَ: كَيفَ سمعته) أَي: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لعلقمة: كَيفَ سَمِعت عبد الله يقْرَأ: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} قَالَ: عَلْقَمَة وَالذكر وَالْأُنْثَى، بخفض الذّكر. قَوْله: (قَالَ: أشهد، أَي: قَالَ) أَبُو الدَّرْدَاء: أشهد أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ هَكَذَا يَعْنِي: وَالذكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (وَهَؤُلَاء) أَي: أهل الشَّام يردوني ويروى يردونني على أَن أَقرَأ: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} وَأَنا لَا أتابعهم، أَي: على هَذِه الْقِرَاءَة، يَعْنِي بِزِيَادَة (وَمَا خلق) وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أتابعهم مَعَ كَون قراءتهم متواترة لكَون طَرِيقه طَرِيقا يقينيا وَهُوَ سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يخالفوه. قلت: لَهُم طَرِيق يقيني أَيْضا وَهُوَ ثُبُوت قراءتهم بالتواتر، وَقَالَ الْمَازرِيّ: يجب أَن يعْتَقد فِي هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنه كَانَ قُرْآنًا ثمَّ نسخ. وَلم يعلم مِمَّن خَالف النّسخ فَبَقيَ على النّسخ. قَالَ: أَو لَعَلَّه وَقع من بَعضهم قبل أَن يبلغ مصحف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمجمع عَلَيْهِ الْمَحْذُوف مِنْهُ كل مَنْسُوخ، وَأما بعد ظُهُور مصحف عُثْمَان فَلَا يظنّ وَاحِد مِنْهُم أَنه خَالف فِيهِ.
3 - (بَابٌ قَوْلِهِ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى} أَي: فَأَما من أعْطى مَاله فِي سَبِيل الله، وَاتَّقَى ربه واجتنب مَحَارمه.
5494 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَن الأعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ السلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَّ النَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَّكِلُ فَقَالَ اعْمَلُوا فَكُلُّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} إلَى قَوْلِهِ: {لِلْعُسْرَى} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَسعد بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: ختن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ واسْمه عبد الله، والسلمي بِضَم السِّين وَفتح اللَّام، وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب موعظة الْمُحدث عِنْد الْقَبْر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي بَقِيع الْغَرْقَد) ، بِإِضَافَة البقيع بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف إِلَى الْغَرْقَد بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وبالدال الْمُهْملَة وَهُوَ مَقْبرَة الْمَدِينَة(19/296)
قَوْله: (أَفلا نَتَّكِل) ، أَي: أَفلا نعتمد على كتَابنَا الَّذِي قدر الله علينا، فَقَالَ: أَنْتُم مأمورون بِالْعَمَلِ فَعَلَيْكُم بمتابعة الْأَمر فَكل وَاحِد مِنْكُم ميسر لما خلق لَهُ وَقدر عَلَيْهِ. قَوْله: (فَأَما من أعْطى) ، أَي: مَاله وَاتَّقَى ربه واجتنب مَحَارمه وَصدق بِالْحُسْنَى. أَي: بالخلف يَعْنِي: أَيقَن أَن الله تَعَالَى سيخلف عَلَيْهِ، وَعَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَالضَّحَّاك، وَصدق بِالْحُسْنَى بِلَا إلاه إلاَّ الله، وَعَن مُجَاهِد وَصدق بِالْجنَّةِ، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: بموعود الله تَعَالَى. قَوْله: (فسنيسره) ، أَي: فسنهيئه لليسرى، أَي: للخلة الْيُسْرَى، وَهُوَ الْعَمَل بِمَا يرضاه الله تَعَالَى.
(بَابُ قَوْلِهِ: {وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (وَصدق بِالْحُسْنَى) ، وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر والنسفي، وَسقط لفط: بَاب من التراجم كلهَا إلاَّ لأبي ذَر.
حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنّا قُعُودا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَ الحَدِيث.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَليّ الْمَذْكُور أخرجه مُخْتَصرا عَن مُسَدّد عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد الْبَصْرِيّ إِلَى آخِره.
4 - (بَابٌ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (اللَّيْل: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فسنيسره لليسرى} .
6494 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ خَالِدٍ أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعْدٍ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأخَذَ هُودا يَنْكُتُ فِي الأرْضِ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أوْ مِنَ الجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَقَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 5، 6) الآيَةَ.
قَالَ شُعْبَةُ وحدَّثني بِهِ مَنْصُورٌ فَلَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن بشر بِكَسْر الْيَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد الخ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش.
قَوْله: (ينكت) من النكت وَهُوَ أَن يضْرب الْقَضِيب فِي الأَرْض فيؤثر فِيهَا.
قَوْله: (قَالَ شُعْبَة) مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (وحَدثني بِهِ) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور (مَنْصُور) هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر (فَلم أنكرهُ من حَدِيث سُلَيْمَان) يَعْنِي: الْأَعْمَش أَرَادَ بِهِ أَنه وَافق مَا حدث بِهِ الْأَعْمَش فَمَا أنرك مِنْهُ شَيْئا.
5 - (بَابُ قَوْلِهِ: {وَأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (اللَّيْل: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَأما من بخل وَاسْتغْنى} يَعْنِي: أما من بخل بِالنَّفَقَةِ فِي الْخَيْر وَاسْتغْنى عَن ربه فَلم يرغب فِي ثَوَابه وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى أَي: للْعَمَل بِمَا لَا يرضى الله تَعَالَى حَتَّى يسْتَوْجب النَّار.
7494 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعٌ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ كُنَّا جُلُوسا عِنْدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ فَقُلْنا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَّكِلُ قَالَلا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (اللَّيْل: 5، 7) إلَى قَوْلِهِ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (اللَّيْل: 1) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن يحيى بن مُوسَى السّخْتِيَانِيّ البخلي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، عَن وَكِيع عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَى آخِره.
قَوْله: (جُلُوسًا) أَي: جالسين وَفِي حَدِيث سمدد الْمَذْكُور: كُنَّا قعُودا.(19/297)
6 - (بَابٌ قَوْلِهُ: {وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 9)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكذب بِالْحُسْنَى} .
8494 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنَّا فِي جُنازَة فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأتانا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُثُ بِمَخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ كُتِبَ مَكَانَها مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإلاّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أوْ سَعِيدَةً قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى أهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ الشَّقاءِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أمَّا أهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا أهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُون لِعَمَلِ أهْلِ الشقاءِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 5، 6) الآيَةَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور إِلَى آخِره قَوْله: (محضرة) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة: مَا أمْسكهُ الْإِنْسَان بِيَدِهِ من عَصا وَنَحْوه، وَقَالَ القتبي: المخصرة إمْسَاك الْقَضِيب بِالْيَدِ، وَكَانَت الْمُلُوك تتخصر بقضبان يشيرون بهَا، والمخصرة من شعار الْمُلُوك. قَوْله: (منفوسة) ، أَي: مولودة، يُقَال: نفست الْمَرْأَة، بِالْفَتْح وَالْكَسْر.
7 - (بَابٌ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (اللَّيْل: 01)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فسنيسره للعسرى} .
9494 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ الأعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّث عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَةٍ فَأخَذَ شَيْئا فَجَعَلَ يَنْكُثُ بِهِ الأرْضَ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَكِّلُ عَلَى كِتابنا وَنَدَعُ العَمَلَ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَرٌ لِما خَلقَ لَهُ أمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الشَّقاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} الآيَةَ..
هَذَا طَرِيق سادس للْحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه من سِتَّة طرق وَوضع على كل طَرِيق تَرْجَمَة مقطعَة، وَفِي هَذَا الطَّرِيق التَّصْرِيح بِسَمَاع الْأَعْمَش عَن سعد بن عُبَيْدَة، وَانْظُر التَّفَاوُت الْيَسِير فِي متونها من بعض زِيَادَة ونقصان، وَلم يذكر لفظ: لما خلق لَهُ إلاَّ فِي هَذَا الطَّرِيق، وَمضى أَكثر الْكَلَام فِيهَا فِي كتاب الْجَنَائِز.
39 - (سُورَةُ: {وَالضُّحَى} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة وَالضُّحَى، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ حرفا وَأَرْبَعُونَ كلمة وَإِحْدَى عشرَة آيَة. وَالضُّحَى يَعْنِي: النَّهَار كُله قَالَه الثَّعْلَبِيّ، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: يَعْنِي وَقت الضُّحَى وَهِي السَّاعَة الَّتِي فِيهَا ارْتِفَاع الشَّمْس، واعتدال النَّهَار من الْحر وَالْبرد فِي الشتَاء والصيف، وَهُوَ قسم تَقْدِيره: وَرب الضُّحَى.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: إذَا سَجَى اسْتَوَى(19/298)
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا سجى} (الضُّحَى: 2) مَعْنَاهُ اسْتَوَى، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن حجاج عَن حَمْزَة عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
وَقَالَ غَيْرُهُ: سَجَى أظْلَمَ وَسَكَنَ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي تَفْسِير: (سجى: أظلم) وَهُوَ مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس قَوْله: (وَسكن) مَنْقُول عَن عِكْرِمَة، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا سجى ذهب، وَعَن الْحسن: جَاءَ، وَعنهُ اسْتَقر وَسكن، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: أولى الْأَقْوَال من قَالَ: سكن، يُقَال: بَحر سَاج إِذا كَانَ سَاكِنا.
عَائِلاً: ذُو عِيَالٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضُّحَى: 8) وفسرالعائل بقوله: (ذُو عِيَال) قَالَ الثَّعْلَبِيّ فأغناك بِمَال خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ثمَّ بالغنائم، وَقَالَ مقَاتل: رضاك بِمَا أَعْطَاك من الرزق، وَعَن ابْن عَطاء: وَجدك فَقير النَّفس فأغنى قَلْبك.
1 - (بَابٌ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
0594 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدَّثنا زُهَيْرٌ حدَّثنا الأسْوَدُ بنُ(19/299)
قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبَ بنَ سُفْيَانَ رَضِي الله عنهُ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثَا فَجَاءَتِ امْرأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إنِّي لأَرْجُو أنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلَاثًا فَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 1، 3) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَفِيه بَيَان سَبَب نزُول هَذِه السُّورَة، وَزُهَيْر مصغر زهر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، وَالْأسود بن قيس الْعَبْدي وَقيل: البَجلِيّ، جُنْدُب، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا وَهُوَ جند بن عبد الله بن سُفْيَان البَجلِيّ تَارَة ينْسب إِلَى أَبِيه وَتارَة إِلَى جده.
والْحَدِيث قد مر فِي قيام اللَّيْل فِي ترك الْقيام للْمَرِيض، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن الْأسود الخ. قَوْله: (اشْتَكَى) أَي: مرض. قَوْله: (فَجَاءَت امْرَأَة) وَهِي أم جميل، بِفَتْح الْجِيم، امْرَأَة أبي لَهب وَهِي بنت حَرْب أُخْت أبي سُفْيَان وَاسْمهَا العوراء. قَوْله: (قربك) بِكَسْر الرَّاء وَلَفظ قرب يَجِيء لَازِما ومتعديا يُقَال: قرب الشَّيْء بِالضَّمِّ أَي: دنا وقريته بِالْكَسْرِ أَي: دَنَوْت مِنْهُ، وَهنا مُتَعَدٍّ.
2 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} كَذَا ثبتَتْ هَذَا للمستملي، وَهِي مكررة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيره لِأَن غَيره لم يذكرهَا فِي الأولى.
تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ
أَي: يقْرَأ قَوْله: (مَا وَدعك) بتَشْديد الدَّال وتخفيفها فالتشديد قِرَاءَة الْجُمْهُور وَالتَّخْفِيف قِرَاءَة ابْن أبي عبلة قَوْله: (بِمَعْنى وَاحِد) يَعْنِي كلتا الْقِرَاءَتَيْن بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ قَوْله: (مَا تَركك) يَعْنِي: ودع، سَوَاء كَانَ بِالتَّشْدِيدِ أَو بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنى ترك فِيهِ تَأمل، فَإِن أَبَا عُبَيْدَة قَالَ: التَّشْدِيد من التوديع وَالتَّخْفِيف من ودع يدع، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أماتوا ماضيه فَلَا يُقَال: ودعه وَإِنَّمَا يُقَال: تَركه قلت: قِرَاءَة ابْن أبي عبلة ترد عَلَيْهِ مَا قَالَه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَا تَرَكَكَ وَمَا أبْغَضَكَ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله: {مَا وَدعك مَا تَركك} وَفِي تَفْسِير قَوْله: (وَمَا قلى) أَي: (وَمَا أبغضك) وَأَصله: وَمَا قلاك فَحذف الْكَاف مِنْهُ وَمن قَوْله: (فأغنى) وَقَوله: (فهدى) للمشاكلة فِي أَوَاخِر الْآي، وَيُقَال لهَذَا فواصل. كَمَا يُقَال: فِي غير الْقُرْآن أسجاع، وقلى يقلى من بَاب ضرب يضْرب ومصدره قلى وقلى، قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا فتحت مددت وَمَعْنَاهُ البغض، وقلاه أبغضه وتقليه تبْغضهُ ولغة طي: تقلاه.
1594 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ الأسْوَدِ بنِ قَيسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبا البَجَلِيِّ قَالَتِ امْرَأَةٌ يَا رَسولَ الله مَا أُرَى صَاحِبَكَ إلاَّ أبْطاعَتْكَ فَنَزَلَتْ: {مَا وَدَّعَكَ رَبِّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 3) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جُنْدُب أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار هُوَ بنْدَار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر هُوَ غنْدر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَضم الدَّال وَفتحهَا. وَكِلَاهُمَا لقب.
قَوْله: (قَالَت امْرَأَة) ، قيل إِنَّهَا خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَرْأَة كَانَت كَافِرَة فَكيف قَالَت: يَا رَسُول الله؟ قلت: قَالَت إِمَّا استهزاء وَإِمَّا أَن يكون هُوَ من تَصَرُّفَات الرَّاوِي إصلاحا للعبارة، وَقَالَ بَعضهم، بعد أَن نقل كَلَام الْكرْمَانِي: هُوَ موجه لِأَن مخرج الطَّرِيقَيْنِ وَاحِد. قلت: أما قَول الْكرْمَانِي: الْمَرْأَة كَانَت كَافِرَة، فِيهِ نظر، فَمن أَيْن علم أَنَّهَا كَانَت كَافِرَة فِي هَذَا الطَّرِيق؟ نعم كَانَت كَافِرَة فِي الطَّرِيق الأول لِأَنَّهُ صرح فِيهِ بقوله إِنِّي لأرجو أَن يكون شَيْطَانك قد تَركك، وَهَذَا القَوْل لَا يصدر عَن مُسلم وَلَا مسلمة، وَهنا قَالَ صَاحبك، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَمثل هَذَا لَا يصدر عَن كَافِر، وَقَول بَعضهم: هَذَا موجه، لِأَن مخرج الطَّرِيقَيْنِ، وَاحِد، فِيهِ نظر أَيْضا لِأَن اتِّحَاد الْمخْرج يسْتَلْزم أَن يكون هَذِه الْمَرْأَة هُنَا بِعَينهَا تِلْكَ الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة هُنَاكَ، على أَن الواحدي ذكر عَن عُرْوَة أَبْطَأَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج جزعا شَدِيدا. فَقَالَت خَدِيجَة: قد قلاك رَبك لما يرْوى من جزعك فَنزلت وَهِي فِي (تَفْسِير مُحَمَّد بن جرير) ، عَن جُنْدُب ابْن عبد الله، فَقَالَت امْرَأَة من أَهله وَمن قومه: ودع مُحَمَّدًا فَإِن قلت: ذكر ابْن بشكوال أَن الْقَائِل بذلك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. قَالَ: ذكره ابْن سنيد فِي تَفْسِيره. قلت: هَذَا لَا يَصح لِأَن هَذِه السُّورَة مَكِّيَّة بِلَا خلاف وَأَيْنَ عَائِشَة حِينَئِذٍ. قَوْله: (إلاَّ أَبْطَأَ عَنْك) ، وَكَأَنَّهُ وَقع فِي نُسْخَة الْكرْمَانِي، أبطأك، ثمَّ تكلّف فِي نقل كَلَام وَالْجَوَاب عَنهُ، فَقَالَ: قيل الصَّوَاب أَبْطَأَ عَنْك، وَأَبْطَأ بك أَو عَلَيْك، قَول: وَهَذَا أَيْضا صَوَاب إِذْ مَعْنَاهُ مَا أرى صَاحبك يَعْنِي جِبْرِيل إلاَّ جعلك بطيئا فِي الْقِرَاءَة لِأَن بطأه فِي الإقراء إبطاء فِي قِرَاءَته، أَو هُوَ من بَاب حذف حرف الْجَرّ وإيصال الْفِعْل بِهِ، وَهنا فصلان:
الأول: فِي مُدَّة احتباس جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَعَن ابْن جريج: اثْنَا عشر يَوْمًا، وَعَن ابْن عَبَّاس: خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَعنهُ: خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا. وَعَن مقَاتل: أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقيل: ثَلَاثَة أَيَّام.
وَالثَّانِي: سَبَب الاحتباس، فَفِيهِ أَقْوَال فَعَن خَوْلَة خادمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن جروا دخل الْبَيْت فَمَاتَ تَحت السرير فَمَكثَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَّامًا لَا ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي، فَقَالَ: يَا خَوْلَة مَاذَا حدث فِي بَيْتِي؟ قَالَت. فَقلت: لَو هيأت الْبَيْت وكنسته فَأَهْوَيْت بالمكنسة تَحت السرير فَإِذا شَيْء ثقيل فنطرت فَإِذا جرو ميت فألقيته فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرعد لحياه، فَقَالَ: يَا خَوْلَة! دثريني. فَنزلت: {وَالضُّحَى} وَعَن مقَاتل: لما أَبْطَأَ الْوَحْي قَالَ الْمُسلمُونَ: يَا رَسُول الله تلبث عَلَيْك الْوَحْي؟ فَقَالَ: كَيفَ ينزل عليّ الْوَحْي وَأَنْتُم لَا تنفقون براجمكم وَلَا تقلمون أظفاركم؟ وَعَن ابْن إِسْحَاق أَن الْمُشْركين سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَضَر وَفِي القرنين وَالروح فَوَعَدَهُمْ بِالْجَوَابِ إِلَى غَد وَلم يسْتَثْن فَأَبْطَأَ جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة. وَقيل: أَكثر من ذَلِك. فَقَالَ الْمُشْركُونَ: ودعه ربه، فَنزل جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسُورَة (وَالضُّحَى) بقوله: {وَلَا تقولن لشَيْء أَنِّي فَاعل ذَلِك غَدا} (الْكَهْف: 32) انْتهى. فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض رِوَايَة جُنْدُب. قلت: لَا إِذْ يكون جَوَابا بالذينك الشَّيْئَيْنِ أَو جَوَابا لمن قَالَ: كَائِنا من كَانَ.
49 - (سُورَةُ: {ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {ألم نشرح لَك} (الشَّرْح 1:) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (ألم نشرح) وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَثَلَاثَة أحرف، وَسبع وَعِشْرُونَ كلمة، وثمان آيَات. قَوْله: (ألم نشرح) يَعْنِي: ألم نفتح ونوسع ونلين لَك قَلْبك بِالْإِيمَان والنبوة وَالْعلم وَالْحكمَة؟ والهمزة فِيهِ لَيْسَ على الِاسْتِفْهَام الْحَقِيقِيّ، وَمَعْنَاهُ: شرحنا لَك صدرك، وَلِهَذَا عطف (ووضعنا) عَلَيْهِ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وِزرَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ووضعنا عَنْك وزرك} (الشَّرْح: 2) رَوَاهُ ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن عَمْرو: أخبرنَا أَبُو عَاصِم أخبرنَا عِيسَى عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَقَرَأَ عبد الله: وحللنا عَنْك وزرك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فِي الْجَاهِلِيَّة) صفة للوزر لَا مُتَعَلق بِالْوَضْعِ، وَأَرَادَ بِهِ(19/300)
الْوزر الْكَائِن فِي الْجَاهِلِيَّة من ترك الْأَفْضَل والذهاب إِلَى الْفَاضِل، وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل: يَعْنِي الْخَطَأ والسهو، وَقيل: ذنُوب أمتك فأضافها إِلَيْهِ لاشتغال قلبه بهَا واهتمامه لَهَا.
أنْقَضَ أثْقَلَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وزرك الَّذِي أنقض ظهرك} (الشَّرْح: 2، 3) وَفَسرهُ بقوله: (أثقل) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف وَاللَّام، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن جرير: أخبرنَا ابْن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا ابْن ثَوْر عَن معمر عَن قَتَادَة، وَقَالَ عِيَاض: كَذَا فِي جَمِيع النّسخ: اتقن، بمثناة وقاف وَنون وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب: أثقل، مثل مَا ضبطناه، تَقول الْعَرَب أنقض الْجمل ظهر النَّاقة إِذا أثقلها وَعَن الْفراء: كسر ظهرك حَتَّى سمع نقيضه وَهُوَ صَوته.
{مَعَ العُسْرِ يُسْرا} (الشَّرْح: 5، 6) قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ أيْ مَعَ العُسْرِ يُسْرا آخَرَ كَقَوْلِهِ: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلاَّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَينِ} .
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسر} وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَقد فسر قَوْله: (مَعَ الْعسر يسرا) بقوله: إِن مَعَ ذَلِك الْعسر يسرا آخر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَول النُّحَاة: إِن الْمعرفَة إِذا أُعِيدَت معرفَة تكون الثَّانِيَة عين الأولى، والنكرة إِذا أُعِيدَت نكرَة تكون غَيرهَا. قَوْله: (كَقَوْلِه: هَل تربصون بِنَا إلاَّ إِحْدَى الحسنيين) وَجه التَّشْبِيه أَنه كَمَا ثَبت للْمُؤْمِنين تعدد الْحسنى كَذَا ثَبت لَهُم تعدد الْيُسْر، قَوْله: (وَلنْ يغلب عسر يسرين) وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا حَدِيث أَو أثر، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَصح عطفه على مقوله قلت: يبين أَنه حَدِيث وَأثر، بل تردد فِيهِ، وَقد رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا مَوْصُولا ومرسلاً وَرُوِيَ مَوْقُوفا أما الْمَرْفُوع فقد أخرجه ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث جَابر بِإِسْنَاد ضَعِيف، وَلَفظه: أوحى إِلَى أَن مَعَ الْعسر يسرا وَلنْ يغلب عسر يسرين، وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق من حَدِيث ابْن مَسْعُود. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو كَانَ الْعسر فِي جُحر لدخل الْيُسْر حَتَّى يُخرجهُ، وَلنْ يغلب عسر يسرين. وَقَالَ (إِن مَعَ الْعسر يسرا) وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَأما الْمُرْسل فَأخْرجهُ عبد بن حميد من طَرِيق قَتَادَة. قَالَ: ذكر لنا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشر أَصْحَابه بِهَذِهِ الْآيَة. وَقَالَ: (لن يغلب عسر يسرين) إِن شَاءَ الله، وَأما الْمَوْقُوف فَأخْرجهُ مَالك عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كتب إِلَى أبي عُبَيْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: مهما تنزل بأَمْري شدَّة يَجْعَل الله لَهُ بعْدهَا فرجا، وَإنَّهُ لن يغلب عسر يسرين، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحَّ ذَلِك عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عمر لكنه مُنْقَطع.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَانْصَبْ فِي حَاجَتَكَ إلَى رَبِّكَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا فرغت فانصب} (الشَّرْح: 7) يَعْنِي: انصب فِي حَاجَتك يَعْنِي: إِذا فرغت عَن الْعِبَادَة فاجتهد فِي الدُّعَاء فِي قَضَاء الْحَوَائِج، وروى أَبُو جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن عمر وَحدثنَا أَبُو عَاصِم حَدثنَا عِيسَى عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فانصب فِي حَاجَتك إِلَى رَبك، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِذا فرغت مِمَّا فرض الله عَلَيْك من الصَّلَاة فسل الله وارغب إِلَيْهِ وانصب لَهُ، وَقَالَ قَتَادَة: أمره إِذا فرغ من صلَاته أَن يُبَالغ فِي دُعَائِهِ، وَقَوله: فانصب من النصب وَهُوَ التَّعَب فِي الْعَمَل، وَهُوَ من نصب ينصب من بَاب علم يعلم.
وَيُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: {ألَمْ نَشْرَحَ لَكَ صَدْرَكَ} (الشَّرْح: 1) شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإسْلامِ
رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي إِسْنَاده راو ضَعِيف، وَعَن الْحسن: ملأناه حلما وعلما. قَالَ مقَاتل: وسعناه بعد ضيقه.
59 - (سُورَةُ: {وَالتِّينِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة والتين، وَهِي مَكِّيَّة، وَقيل: مَدَنِيَّة، وَهِي مائَة وَخَمْسُونَ حرفا، وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ كلمة، وثمان آيَات.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ
رَوَاهُ عَنهُ عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح، عَنهُ قَالَ: التِّين وَالزَّيْتُون الْفَاكِهَة الَّتِي يَأْكُل النَّاس، وَعَن قَتَادَة: التِّين الْجَبَل(19/301)
الَّذِي عَلَيْهِ دمشق، وَالزَّيْتُون الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ بَيت الْمُقَدّس.
يُقَالُ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ فَما الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأعْمَالِهِمْ كَأنّهُ قَالَ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالعِقابِ
هَذَا ظَاهر. قَوْله: (يدانون) ، أَي: يجازون وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن غير الْكشميهني: يدالون، بِاللَّامِ بدل النُّون الأولى وَالْأول هُوَ الصَّوَاب وَالْخطاب فِي قَوْله: (فَمَا يكذبك) للْإنْسَان الْمَذْكُور فِي قَوْله: {لقد خلنقا الْإِنْسَان} (التِّين: 4) على طَريقَة الِالْتِفَات وَقيل: الْخطاب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
2594 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي العِشاءِ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وعدي هُوَ ابْن ثَابت الْكُوفِي، والبراء هُوَ ابْن عَازِب، والْحَدِيث قد مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب الْقِرَاءَة فِي الْعشَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن خَلاد بن يحيى عَن مسعر عَن عدي بن ثَابت إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر: سفر.
69 - سُورَةُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: اقْرَأ وَتسَمى سُورَة العلق وَفِي بعض النّسخ: سُورَة اقْرَأ فَقَط وَهِي مَكِّيَّة وَهِي مِائَتَان وَسَبْعُونَ حرفا، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ كلمة. وَعِشْرُونَ آيَة.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حدَّثنا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى بنِ عَتِيقٍ عَنِ الحَسَنِ. قَالَ: اكْتُبْ فِي المُصْحَفِ فِي أوَّلِ الإمامِ: بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطّا.
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قَوْله: (اقْرَأ باسم رَبك) فِي قِرَاءَة: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم، لَكِن فِي أول سُورَة الْفَاتِحَة فَقَط أَو فِي أول كل سُورَة من الْقُرْآن؟ فِيهِ خلاف مَشْهُور بَين الْعلمَاء. فمذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَمَا ذكره البُخَارِيّ. بقوله: قَالَ قُتَيْبَة وَذَلِكَ بطرِيق المذاكرة، وقتيبة هُوَ ابْن سعيد يروي عَن حَمَّاد بن زيد عَن يحيى بن عَتيق ضد الْجَدِيد. الطفَاوِي، بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة وبالفاء وَالْوَاو عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَيْسَ ليحيى هَذَا فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع وَهُوَ ثِقَة بَصرِي من طبقَة أَيُّوب وَمَات قبله. قَوْله: (فِي أول الإِمَام) ، أَي: أول الْقُرْآن أَي: اكْتُبْ فِي أول الْقُرْآن الَّذِي هُوَ الْفَاتِحَة: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم، فَقَط ثمَّ اجْعَل بَين كل سورتين خطا أَي: عَلامَة فاصلة بَينهمَا، وَهَذَا مَذْهَب حَمْزَة من الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن أَرَادَ خطأ فَقَط بِغَيْر الْبَسْمَلَة فَلَيْسَ بصواب لِاتِّفَاق الصَّحَابَة على كِتَابَة الْبَسْمَلَة بَين كل سورتين إلاَّ بَرَاءَة، وَإِن أَرَادَ بِالْإِمَامِ إِمَام كل سُورَة فَيجْعَل الْخط مَعَ الْبَسْمَلَة فَحسن، ورد عَلَيْهِ بِأَن مَذْهَب الْحسن أَن الْبَسْمَلَة تكْتب فِي أول الْفَاتِحَة فَقَط ويكتفي فِي الْبَاقِيَة بَين كل سورتين بالعلامة، فَإِذا كَانَ هَذَا مذْهبه كَيفَ يَقُول الدَّاودِيّ إِن أَرَادَ خطا بِغَيْر الْبَسْمَلَة فَلَيْسَ بصواب وَإِن أَرَادَ بِالْإِمَامِ بِكَسْر الْهمزَة الَّذِي هُوَ الْفَاتِحَة فَكيف يَقُول: وَإِن أَرَادَ بِالْإِمَامِ أَمَام كل سُورَة بِفَتْح الْهمزَة يَعْنِي: فَكيف يَصح ذكر الإِمَام بِالْكَسْرِ، وَيُرَاد بِهِ الإِمَام بِالْفَتْح؟ وَقَالَ السُّهيْلي: هَذَا الْمَذْكُور عَن مصحف الْحسن شذوذ، قَالَ: وَهِي على هَذَا من الْقُرْآن إِذْ لَا يكْتب فِي الْمُصحف مَا لَيْسَ بقرآن، وَلَيْسَ يلْزم قَول الشَّافِعِي: إِنَّهَا آيَة من كل سُورَة وَلَا أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة، بل يَقُول إِنَّهَا آيَة من كتاب الله تَعَالَى مقترنة مَعَ السُّورَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَدَاوُد، وَهُوَ قَول بَين الْقُوَّة لمن أنصف. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) لَا نسلم لَهُ ذَلِك، بل من تَأمل الْأَدِلَّة ظهر لَهُ أَنَّهَا من الْفَاتِحَة وَمن كل سُورَة. قلت: مُجَرّد الْمَنْع بِغَيْر إِقَامَة الْبُرْهَان مَمْنُوع، وَمَا قَالَه بِالْعَكْسِ، بل من تَأمل الْأَدِلَّة ظهر لَهُ أَنَّهَا لَيست من الْفَاتِحَة وَلَا من أول كل سُورَة، بل هِيَ آيَة مُسْتَقلَّة أنزلت للفصل بَين السورتين، وَلِهَذَا اسْتدلَّ ابْن الْقصار الْمَالِكِي على أَن بِسم الله الرحمان الرَّحِيم لَيست بقرآن فِي أَوَائِل السُّور من قَوْله: اقْرَأ باسم رَبك لم تذكر الْبَسْمَلَة.(19/302)
وَقَالَ مُجاهِدٌ: نَادِيَهُ: عَشِيرَتَهُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَليدع نَادِيه} أَي: (عشيرته) أَي: أهل نَادِيه، لِأَن النادي هُوَ الْمجْلس الْمُتَّخذ للْحَدِيث، وَرَوَاهُ ابْن جرير عَن الْحَارِث: حَدثنِي الْحسن عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
الزَّبَانِيَةَ: المَلائِكَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سَنَدع الزَّبَانِيَة} وَالْمرَاد بالزبانية (الْمَلَائِكَة) والزبانية فِي كَلَام الْعَرَب الشَّرْط الْوَاحِد زبنية كعفرية من الزين وَهُوَ الدّفع، وَقيل: زابن. وَقيل: زباني، وَقيل: زبني كَأَنَّهُ نسب إِلَى الزين، وَالْمرَاد: مَلَائِكَة الْعَذَاب الْغِلَاظ الشداد.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: الرُّجْعى: المَرْجِعُ
أَي: قَالَ معمر وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن إِلَى رَبك الرجعى} (العلق: 8) أَي: الرُّجُوع، وَهَذَا هَكَذَا وَقع لأبي ذَر وَلم يثبت لغيره.
لَنَسْفَعْن: قَالَ لَنَأْخُذَنْ وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الخَفِيفَةُ سَفَعْتُ بِيَدِهِ أخَذْتُ
أَي: قَالَ معمر فِي قَوْله تَعَالَى: {لنسفعن بالناصية} (العلق: 51) لنأخذن قَوْله: (بالناصية) هِيَ مقدم الرَّأْس، وَاكْتفى بِذكر الناصية عَن الْوَجْه كُله لِأَنَّهَا فِي مقدمه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَيَأْخُذ بالنواصي والأقدام. قَوْله: (بالنُّون) الْخَفِيفَة وَقد علم أَن نون التَّأْكِيد خَفِيفَة وثقيلة وَقد رُوِيَ عَن أبي عَمْرو بالنُّون الثَّقِيلَة. قَوْله: (سفعت بِيَدِهِ) أَشَارَ بِهِ إِلَى معنى السفع من حَيْثُ اللُّغَة وَهُوَ الْأَخْذ، وَقيل: هُوَ الْقَبْض بِشدَّة، وَقَالَ مقَاتل: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة فَوجدَ أَبَا جهل قد قلد هُبل طوقا من ذهب وطيبه، وَهُوَ يَقُول: يَا هُبل لكل شَيْء شكر وَعزَّتك لأشكرنك من قَابل. قَالَ: وَكَانَ قد ولد لَهُ ذَلِك الْعَام ألف نَاقَة وَكسب فِي تِجَارَته ألف مِثْقَال ذهب، فَنَهَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ لَهُ: وَالله إِن وَجَدْتُك هُنَا تعبد غير إلاهنا لأسفعنك على ناصيتك، يَقُول: لأجرنك على وَجهك، فَنزلت: {كلا لَئِن لم ينْتَه لنسفعن بالناصية} أَي: فِي النَّار.
1 - ( {بَاب} )
هَذَا كالفصل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاب، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، بموجود.
3594 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بَكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شهابٍ ح وحدَّثني سَعِيدُ بنُ مَرْوَانَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ أبِي رَزْمَةَ أخْبَرَنَا أبُو صَالِحٍ سَلْمُويَةُ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله عَنْ يُونُسَ بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنِي ابنُ شِهابٍ أنَّ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُ أنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا الحَدِيث قد مر فِي أول الْكتاب. وَأخرجه هُنَا أَيْضا بِإِسْنَادَيْنِ: الأول: عَن يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، وينسب إِلَى جده غَالِبا وَذكر هُنَا مُجَردا وَفِي بعض النّسخ يحيى بن بكير يروي عَن اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ عَن عقيل بِضَم الْعين بن خَالِد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الثَّانِي: عَن سعيد بن مَرْوَان أبي عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ نزيل نيسابور من طبقَة البُخَارِيّ، وشاركه فِي الرِّوَايَة عَن أبي نعيم وَسليمَان بن حَرْب وَنَحْوهمَا وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع وَمَات قبل البُخَارِيّ بِأَرْبَع سِنِين، كَذَا قَالَه بَعضهم: ثمَّ قَالَ: وَلَهُمَا شيخ آخر يُقَال لَهُ: أَبُو عُثْمَان سعيد بن مَرْوَان الرهاوي حدث عَنهُ أَبُو حَاتِم وَابْن واره وَغَيرهمَا، وَفرق بَينهمَا البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) وَوهم من زعم أَنَّهُمَا وَاحِد ووحدهما الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: وَسَعِيد بن مَرْوَان الرهاوي بِفَتْح الرَّاء وخفة الْهَاء وبالواو الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. قلت: الْكرْمَانِي تبع فِي ذَلِك صَاحب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) فَإِنَّهُ قَالَ: سعيد بن مَرْوَان أَبُو عُثْمَان الرهاوي ثمَّ الْبَغْدَادِيّ سمع مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزمة روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي تَفْسِير (اقْرَأ باسم رَبك) (العلق: 1) وَقَالَ: مَاتَ بنيسابور يَوْم الِاثْنَيْنِ النّصْف من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَصلى عَلَيْهِ مُحَمَّد بن يحيى، وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الصَّوَاب مَعَ الْكرْمَانِي وَمَعَ من قَالَ بقوله يظْهر ذَلِك بِالتَّأَمُّلِ، وَمُحَمّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزقة بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الزَّاي واسْمه غَزوَان وَهُوَ أَيْضا مروزي من طبقَة أَحْمد بن حَنْبَل وَهُوَ من الطَّبَقَة الْوُسْطَى من شُيُوخ البُخَارِيّ وَمَعَ ذَلِك حدث عَنهُ بِوَاسِطَة، وَلَيْسَ لَهُ عِنْده إلاَّ هَذَا الْموضع، وَقد روى عَنهُ أَبُو دَاوُد بِلَا وَاسِطَة، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَأَبُو صَالح اسْمه سُلَيْمَان بن صَالح(19/303)
الْمروزِي يلقب بسلمويه، بِفَتْح السِّين المهلمة وَفتح اللَّام وسكونها وَضم الْمِيم، وَهُوَ أَيْضا مروزي يُقَال: اسْم أَبِيه دَاوُد كَانَ من أخصاء عبد الله بن الْمُبَارك والمكثرين عَنهُ، وَقد أدْركهُ البُخَارِيّ بِالسِّنِّ لِأَنَّهُ مَاتَ سنة عشر وَمِائَتَيْنِ، وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس بن يزِيد من الزِّيَادَة الْأَيْلِي، وَهَذَا من الغرائب إِذْ البُخَارِيّ كثيرا يروي عَن ابْن الْمُبَارك بِوَاسِطَة شخص وَاحِد مثل عَبْدَانِ وَغَيره وَهنا روى عَنهُ بِثَلَاث وسائط وَهَذَا الحَدِيث من ثمانيات البُخَارِيّ.
قَالَتْ كَانَ أوَّلُ مَا بُدِيَّ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلاَّ جَاءَتْ مِثلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حَرَاءِ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَالَ وَالتَحنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلَى أهْلِهِ وَيَتَرَدَّدُ لِذالِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حَرَاءِ فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ اقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أنَا بِقَارِىءٍ قَالَ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأُ قُلْتُ مَا أنَا بِقَارِىءٍ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أنَا بِقَارِىءٍ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الْآيَات (العلق: 1، 4) إلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَرْجَفُ بُوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ. قَالَ لِخَدِيجَةَ: أيِّ خَدِيجَةُ: مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَأخْبَرَها الخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا أبشِرْ فَوَالله لَا يُخزِيكَ الله أبَدا فَوَالله إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمِ وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الكَلَّ وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أخِي أبِيها وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالعَرَبِيَةِ مَا شَاءَ الله أنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخا كَبِيرا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ يَا عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابنِ أخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أخِي مَاذَا تَرَى فأخْبَرَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبَرَ مَا رَأى فَقَالَ وَرَقَةُ هاذا النّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيها جَذَعا لَيْتَنِي أكُونُ حَيّا وَذَكَرَ حَرْفا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلاّ أُوْذِيَ وَإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمِكَ حَيّا أنْصُرْكَ نَصْرا مُؤْزَّرا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوْفِّيَ وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةَ حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قد مر الْكَلَام فِي شَرحه مُسْتَوفى وَلَكِن نذْكر بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة. قَوْله: (قَالَت) ، أَي: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا من مَرَاسِيل الصَّحَابَة لِأَن عَائِشَة لم تدْرك هَذِه الْقِصَّة، ووفق بَعضهم كَلَامه بِأَن الْمُرْسل مَا يرويهِ الصَّحَابِيّ من الْأُمُور الَّتِي لم يدْرك زمانها بِخِلَاف الْأُمُور الَّتِي يدْرك زمانها فَإِنَّهَا لَا يُقَال: إِنَّهَا مُرْسلَة، بل يحمل على أَنه سَمعهَا أَو حضرها، وَعَائِشَة سَمعتهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم تحضرها، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْلهَا فِي أثْنَاء الحَدِيث فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ: اقْرَأ إِلَى قَوْله: فأخذني فغطني، فَظَاهر هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرهَا بذلك فَيحمل بَقِيَّة الحَدِيث عَلَيْهِ فَلْيتَأَمَّل. قَوْله: (من الْوَحْي) أَي: إِلَى الْوَحْي قَالَه(19/304)
بَعضهم وَلَا أَدْرِي مَا وَجه عدوله عَن معنى من إِلَى معنى إِلَى، بل هَذِه من البيانية تبين أَن مَا بدىء بِهِ من الْوَحْي كَذَا وَكَذَا وإلاَّ فدلائل النُّبُوَّة قبل ذَلِك ظَهرت فِيهِ، مثل: سَمَاعه من بحير الراهب، وسماعه عِنْد بِنَاء الْكَعْبَة أشدد عَلَيْك إزارك، وَتَسْلِيم الْحجر عَلَيْهِ، فَالْأول: عِنْد التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي مُوسَى. وَالثَّانِي: عِنْد البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر، الثَّالِث: عِنْد مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة. قَوْله: (الرُّؤْيَا الصادقة) ويروى الرُّؤْيَا الصَّالِحَة، وَهِي الَّتِي لَا تكون أضغاثا وَلَا من تلبيس الشَّيْطَان. قَوْله: (فِي النّوم) تَأْكِيد، وإلاَّ فالرؤيا مُخْتَصَّة بِالنَّوْمِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بالرؤيا لِئَلَّا يفجأه الْملك ويأتيه بِصَرِيح النُّبُوَّة بَغْتَة فَلَا تتحملها القوى البشرية فيبدىء بتباشير الْكَرَامَة وَصدق الرُّؤْيَا استئناسا. قَوْله: (فلق الصُّبْح) ، شبه مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَة ووجده فِي الْخَارِج طبقًا لما رَآهُ فِي الْمَنَام بالصبح فِي إنارته ووضوحه، والفلق الصُّبْح لكنه لما كَانَ اسْتِعْمَاله فِي هَذَا الْمَعْنى وَغَيره أضيف إِلَيْهِ للتخصيص وَالْبَيَان إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: للفلق شَأْن عَظِيم وَلذَلِك جَاءَ وَصفا لله تَعَالَى فِي قَوْله: {فالق الإصباح} (الْأَنْعَام: 69) وَأمر بالاستعاذة بِرَبّ الفلق لِأَنَّهُ ينبىء عَن انْشِقَاق ظلمَة عَالم الشَّهَادَة وطلوع تباشير الصُّبْح بِظُهُور سُلْطَان الشَّمْس وإشراقها الْآفَاق كَمَا أَن الرُّؤْيَا الصَّالِحَة مبشرة تنبىء عَن وجود أنوار عَالم الْغَيْب وآثار مطالع الهدايات. قَوْله: (الْخَلَاء) بِالْمدِّ: الْمَكَان الْخَالِي، وَيُرَاد بِهِ الْخلْوَة، وَهُوَ المُرَاد هُنَا: وَإِنَّمَا حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء لِأَن الْخلْوَة شَأْن الصَّالِحين ودأب عباد الله العارفين. قَوْله: (فَكَانَ يلْحق بِغَار حراء) كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة وَفِي بَدْء الْوَحْي تقدم، فَكَانَ يَخْلُو، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: فَكَانَ يجاور، وبسطنا الْكَلَام هُنَاكَ فِي غَار حراء. قَوْله: (فَيَتَحَنَّث) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ النُّون ثمَّ التَّاء الْمُثَلَّثَة، وَقد فسره فِي الحَدِيث بِأَنَّهُ التَّعَبُّد. قَوْله: (اللَّيَالِي) أطلق اللَّيَالِي وَأُرِيد بهَا اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامهَا على سَبِيل التغليب لِأَنَّهَا أنسب للخلوة، وَوصف اللَّيَالِي بذوات الْعدَد لإِرَادَة التقليل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {دَرَاهِم مَعْدُودَة} (يُوسُف: 2) قيل: يحْتَمل أَن يكون التَّفْسِير من قَول الزُّهْرِيّ: أدرجه فِي الحَدِيث، وَذَلِكَ من عَادَته إِذْ قَول عَائِشَة يَتَحَنَّث فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد، وَقَوله: والتحنث التَّعَبُّد معترض بَين كلاميها. وَقَالَ التوريشتي: قَوْلهَا: (اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد) يتَعَلَّق بيتحنث لَا بالتعبد، وَمَعْنَاهُ: يَتَحَنَّث اللَّيَالِي، وَلَو جعل مُتَعَلقا بالتعبد فسد الْمَعْنى فَإِن التحنث لَا يشْتَرط فِيهِ اللَّيَالِي بل يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير. قَوْله: (قبل أَن يرجع إِلَى أَهله) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله، وَرَوَاهُ مُسلم كَذَلِك، يُقَال: نزع إِلَى أَهله إِذا جن إِلَيْهِم فَرجع إِلَيْهِم. قَوْله: (ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود) ، خص خَدِيجَة بِالذكر بعد أَن عبر بالأهل إِمَّا تَفْسِير بعد إِبْهَام، وَإِمَّا إِشَارَة إِلَى اخْتِصَاص التزود بِكَوْنِهِ من عِنْدهَا دون غَيرهَا. قَوْله: (فيتزود بِمِثْلِهَا) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة الْكشميهني وَعند غَيره: لمثلهَا، بِاللَّامِ وَالضَّمِير فِيهِ لليالي أَو الْخلْوَة أَو الْمرة السَّابِقَة ويتزود بِالرَّفْع عطف على قَوْله: يلْحق، وَهُوَ من التزود وَهُوَ اتِّخَاذ الزَّاد، وَلَا يقْدَح فِي التَّوَكُّل لوُجُوب السَّعْي فِي إبْقَاء النَّفس بِمَا يبقيه. قَوْله: (حَتَّى فجئه الْحق) ، أَي: حَتَّى أَتَاهُ أَمر الْحق بَغْتَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: حَتَّى جَاءَهُ الْحق. يُقَال: فجىء يفجأ بِكَسْر الْجِيم فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الغابر، وفجأ يفجأ بِالْفَتْح فيهمَا، وَالْمرَاد بِالْحَقِّ: الْوَحْي أَو رَسُول الْحق، وَهُوَ جِبْرِيل. قَوْله: (وَهُوَ فِي غَار حراء) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فَجَاءَهُ الْملك) ، أَي: جِبْرِيل. قَالَه السُّهيْلي. قَوْله: (اقْرَأ) ، هَذَا الْأَمر لمُجَرّد التَّنْبِيه والتيقظ لما سيلقى إِلَيْهِ. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون على بَابه فيستدل بِهِ على جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي الْحَال وَإِن قدر عَلَيْهِ بعد ذَلِك. قَوْله: (مَا أَنا بقارىء) ، ويروى: مَا أحسن أَن أَقرَأ. وَجَاء فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: مَا أَقرَأ، وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود فِي مغازيه أَنه قَالَ: كَيفَ أَقرَأ؟ قَوْله: (فغطني) ، من الغط وَهُوَ الْعَصْر الشَّديد، والضغط وَمِنْه الغط فِي المَاء، وَهُوَ الغوص فِيهِ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: فغتني، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق والغت حبس النَّفس مرّة وإمساك الْيَد أَو الثَّوْب على الْفَم، ويروى فِي غير هَذِه الرِّوَايَة فسأبني، من سأبت الرجل سأبا إِذا خنقته، ومادته سين مُهْملَة وهمزة وباء مُوَحدَة، ويروى: ساتني، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق عوض الْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ أَبُو عَمْرو: ساته بسألته سأتا إِذا خنقه حَتَّى يَمُوت، ويروى: فدعتني، من الدعت بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الدغت الدّفع العنيف، ويروى: ذأتني، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة قَالَ أَبُو زيد: ذأته إِذا خنقه أَشد الخنق حَتَّى أدلع لِسَانه، وَيُقَال: غطني وغتني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني، كُله بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (حَتَّى بلغ من الْجهد) ، يجوز فِيهِ فتح الْجِيم وَضمّهَا وَهُوَ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة، وَيجوز نصب الدَّال على(19/305)
معنى: بلغ جِبْرِيل مني الْجهد، وَالرَّفْع على معنى: بلغ الْجهد مبلغه وغايته، وَالْحكمَة فِي الغط شغله عَن الِالْتِفَات وَالْمُبَالغَة فِي أمره بإحضار قلبه لما يَقُوله: وكرره ثَلَاثًا مُبَالغَة فِي التَّنْبِيه. قَوْله: (فَرجع بهَا) ، أَي: بِسَبَب تِلْكَ الضغطة. قَوْله: (ترجف بوارده) ، فِي رِوَايَة الْكشميهني: فُؤَاده، أَي: يضطرب بوادره، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْكَتف والعنق ترجف عِنْد الْفَزع. قَوْله: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) ، هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات بالتكرار، وَهُوَ من التزميل وَهُوَ التلفيف والتزمل الاشتمال والتلفف وَمثله التدثر. قَوْله: (الروع) ، بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ الْفَزع، وَأما الَّذِي بِضَم الرَّاء فَهُوَ مَوضِع الْفَزع من الْقلب. قَوْله: (أَي خَدِيجَة) ، يَعْنِي: يَا خَدِيجَة. قَوْله: (لقد خشيت على نَفسِي) ، قَالَ عِيَاض: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنى الشَّك فِيمَا آتَاهُ الله تَعَالَى لكنه رُبمَا خشِي أَنه لَا يقوى على مقاووته هَذَا الْأَمر وَلَا يقدر على حمل أعباء الْوَحْي فتزهق نَفسه. قَوْله: (كلا) ، مَعْنَاهُ النَّفْي والردع عَن ذَلِك الْكَلَام، وَالْمرَاد هُنَا التَّنْزِيه عَنهُ، وَهَذَا أحد مَعَانِيهَا. قَوْله: (لَا يخزيك) من الخزي وَهُوَ الفضيحة والهوان، وَوَقع فِي رِوَايَة معمر: لَا يحزنك، من الْحزن، وَقَالَ اليزيدي: أَخْزَاهُ لُغَة تَمِيم وحزنه لُغَة قُرَيْش. قَوْله: (الْكل) بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ: الثّقل وَأَصله من الكلال وَهُوَ الإعياء أَي: ترفع الثّقل، أَرَادَت: تعين الضَّعِيف الْمُنْقَطع واليتيم والعيال. قَوْله: (وتكسب الْمَعْدُوم) بِفَتْح التَّاء هُوَ الْمَشْهُور وَالصَّحِيح فِي الرِّوَايَة وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة وروى بضَمهَا، وَفِي معنى المضموم قَولَانِ: أصَحهمَا: مَعْنَاهُ تكسب غَيْرك المَال الْمَعْدُوم أَي: تعظيه لَهُ تَبَرعا. ثَانِيهمَا: تُعْطِي النَّاس مَالا يجدونه عِنْد غير من مُقَدمَات الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق يُقَال: كسبت مَالا وأكسبت غَيْرِي مَالا وَفِي معنى المفتوح قَولَانِ: أصَحهمَا: أَن مَعْنَاهُ كمعنى المضموم، وَالْأول أفْصح وَأشهر. وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ تكسب المَال وتصيب مِنْهُ مَا يعجز غَيْرك عَن تَحْصِيله ثمَّ تجود بِهِ وتنفقه فِي وُجُوه المكارم. قَوْله: (وتقري الضَّيْف) ، بِفَتْح التَّاء تَقول قريت الضَّيْف أقريه قرى بِكَسْر الْقَاف وَالْقصر، وقراه بِالْفَتْح وَالْمدّ. قَوْله: (على نَوَائِب الْحق) ، النوائب جمع نائبة وَهِي الْحَادِثَة والنازلة خيرا أَو شرا. وَإِنَّمَا قَالَ: الْحق لِأَنَّهَا تكون فِي الْحق وَالْبَاطِل. قَوْله: (وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ) ، قد بسطت الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْكتاب. قَوْله: (هَذَا الناموس الَّذِي أنزل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَتقدم فِي بَدْء الْوَحْي: أنزل الله، والناموس بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة هُوَ صابح السِّرّ، وَقَالَ ابْن سَيّده: الناموس السِّرّ، وَقَالَ صَاحب (الغريبين) هُوَ صَاحب سر الْملك، وَقَالَ ابْن ظفر فِي (شرح المقامات) صَاحب سر الْخَيْر ناموس، وَصَاحب سر الشَّرّ جاسوس، وَقد سوى بَينهمَا رؤبة ابْن العجاج، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّحِيح، وَلَيْسَ بِصَحِيح بل الصَّحِيح الْفرق بَينهمَا على مَا نقل النَّوَوِيّ فِي (شَرحه) من أهل اللُّغَة والغريب الْفرق بَينهمَا بِمَا ذَكرْنَاهُ، وَقد ذكرنَا الْحِكْمَة فِي قَول ورقة: ناموس مُوسَى، وَلم يقل: عِيسَى، مَعَ أَنه كَانَ تنصر. قَوْله: (لَيْتَني فِيهَا) أَي: فِي أَيَّام الدعْوَة أَو الدولة. قَوْله: (جذعا) ، بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة: الشَّاب الْقوي. قَوْله: (وَذكر حرفا) أَي: وَذكر ورقة بعد ذَلِك كلمة أُخْرَى، وَهِي فِي الرِّوَايَات الْأُخَر: إِذْ يخْرجك قَوْمك. أَي: يَوْم إخراجك أَو يَوْم دعوتك. قَوْله: (أَو مخرجي هم) ؟ جملَة من الْمُبْتَدَأ وَهُوَ قَوْله: هم وَالْخَيْر وَهُوَ قَوْله: مخرجي. قَوْله: (مؤزرا) بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التأزير. أَي: التقوية، والأزر الْقُوَّة. قَوْله: (ثمَّ لم ينشب) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة. أَي: لم يلبث قَوْله: (وفتر الْوَحْي) ، أَي: احْتبسَ قَوْله: (وحزن) ، بِكَسْر الزَّاي.
4594 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ شِهابٍ فأخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ أنَّ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله الأنْصَارِيَّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرةِ الوَحْي قَالَ فِي حَدِيثهِ بَيْنا أَنا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحَرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ فَفَزَعْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَرُوهُ فَأنْزَلَ الله تَعَالى {يَا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فَأنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1، 5) قَالَ أبُو سَلَمَةَ وَهِيَ الأوْثَانُ الَّتِي كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ قَالِ: ثُمَّ تَتَابَعَ الوَحْيُ
.(19/306)
هَذَا مَوْصُول بالإسنادين الْمَذْكُورين فِي أول الْبَاب، وَمُحَمّد بن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ. قَوْله: (فَأَخْبرنِي) ، مَعْطُوف على مَحْذُوف وَالتَّقْدِير، قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي عُرْوَة بِمَا تقدم وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَوْله: (أَن جَابر بن عبد الله) وَهَذَا أَيْضا مُرْسل الصَّحَابِيّ لِأَن جَابِرا لم يدْرك زمَان الْقِصَّة وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ آخر قد حضرها. قَوْله: (فَرفعت رَأْسِي) ، ويروى: فَرفعت بَصرِي. قَوْله: (فَفَزِعت مِنْهُ) ، كَذَا فِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب عِنْد مُسلم: فجئثت مِنْهُ، بِضَم الْجِيم وَكسر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة من: جأت الرجل إِذا فزع فَهُوَ مجثوث، ويروى: فجثثت بِضَم الْجِيم وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة الأولى، ويروى: فَرُعِبْت مِنْهُ، بِضَم الرَّاء وَكسر الْعين على صِيغَة الْمَجْهُول، وَرِوَايَة الْأصيلِيّ: رعبت، بِفَتْح الرَّاء وَضم الْعين من الرعب وَهُوَ الْخَوْف، ويروى: ففرقت، بِالْفَاءِ وَالرَّاء وَالْقَاف من الْفرق بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْخَوْف والفزع، يُقَال: فرق يفرق من بَاب علم يعلم فرقا. قَوْله: (وَهِي الْأَوْثَان) ، جمع وثن وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى الرجز بِاعْتِبَار الْجِنْس، وَقد مر فِي تَفْسِير المدثر قَوْله: (ثمَّ تتَابع الْوَحْي) أَي: اسْتمرّ.
2 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من علق} وَأَرَادَ بالإنسان بني آدم لِأَن بني آدم خلقهمْ من علق وَهُوَ جمع علقَة وَهُوَ الدَّم الجامد وَهُوَ أول مَا تتحول إِلَيْهِ النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَإِنَّمَا جمع الْإِنْسَان فِي معنى الْجمع، وَقيل: أَرَادَ بالإنسان آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَرَادَ بقوله: من علق من طين يعلق بالكف.
5594 - حدَّثنا ابنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ عُرْوَةَ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ أوَّلُ مَا بُدِيَّ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 1، 3) .
ابْن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، وَهَذَا طرف من الحَدِيث الَّذِي قبله بِرِوَايَة عقيل عَن ابْن شهَاب. قَوْله: (الصَّالِحَة) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الصادقة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
3 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 3)
هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأ وَرَبك الأكرم} هَذَا التكرير للتَّأْكِيد، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون الأول للْعُمُوم، وَالثَّانِي للخصوص. قَوْله: (وَرَبك الأكرم) ، أَي: الَّذِي لَهُ الْكَمَال فِي زِيَادَة كرمه على كَلَام كل كريم إِذْ ينعم على عباده بنعمه الَّتِي لَا تحصى ويحلم عَنْهُم فَلَا يعاجلهم بالعقوبة مَعَ كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وأطراحهم الْأَوَامِر.
6594 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني عُقَيْلٌ قَالَ مُحَمَّدٌ أخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أوَّلُ مَا بُدِيَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرؤْيا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأُ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَق اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 1، 4) .
هَذَا أَيْضا مُخْتَصر من حَدِيث عَائِشَة جدا، وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر بِفَتْح الميمين بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَالثَّانِي: عَن اللَّيْث عَن عقيل بن خَالِد بن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وَهَذَا مُعَلّق وَصله فِي بَدْء الْوَحْي ثمَّ فِي الْبَاب الَّذِي قبله، ثمَّ فِي التَّعْبِير أخرجه فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث؟ .
(بَابٌ: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 4)(19/307)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي علم بالقلم} (العلق: 4) وَهَذِه التَّرْجَمَة لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (علم بالقلم) أَي: علم الْخط وَالْكِتَابَة بالقلم.
7594 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْها فَرَجَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
وَهَذَا أَيْضا طرف من حَدِيث بَدْء الْوَحْي وَالْكَلَام فِي إرْسَال هَذَا قد مر عَن قريب.
4 - (بَابٌ: {كَلاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (العلق: 51، 61)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {كلا} إِلَى آخِره وَسقط لغير أبي ذَر لفظ: بَاب، وَمن نَاصِيَة إِلَى آخِره قَوْله: {لَئِن لم ينْتَه} أَي: أَبُو جهل عَن إنذار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَهْيه عَن الصَّلَاة. قَوْله: (لنسفعن) أَي: لنأخذن بالناصية، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَكتب بِالْألف فِي الْمُصحف على حكم الْوَقْف قَوْله: نَاصِيَة بدل من قَوْله بالناصية، وَوصف الناصية بِالْكَذِبِ وَالْخَطَأ على الْإِسْنَاد الْمجَازِي، وَالْكذب وَالْخَطَأ فِي الْحَقِيقَة لصَاحِبهَا أَي: صَاحب الناصية كَاذِب خاطىء.
8594 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا عَبْدِ الرَّزَاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ الْجِزَرِيِّ عَنْ عِكْرَمَةَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ أبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأيْتُ مُحَمَّدا يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ لأَطْأنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَوْ فَعَلَ لأخَذَتْهُ المَلائِكَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى إِمَّا ابْن مُوسَى وَإِمَّا ابْن جَعْفَر، وَعبد الْكَرِيم بن مَالك الْجَزرِي، بِفَتْح الْجِيم وَالزَّاي.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التفسيرعن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن أبي رَافع عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله.
قَوْله: (قَالَ أَبُو جهل) اسْمه: عَمْرو بن هِشَام المَخْزُومِي، وَهَذَا من مرسلات عبد الله بن عَبَّاس لِأَنَّهُ لم يدْرك زمن قَول أبي جهل ذَلِك لِأَن مولده قبل الْهِجْرَة نَحْو ثَلَاث سِنِين، وَيحمل على أَنه سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ آخر قَوْله: (على عُنُقه) بالنُّون وَالْقَاف، ويروى بِالْقَافِ وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْأول أصح. قَوْله: (لَو فعل) أَي: أَبُو جهل. قَوْله: (لَأَخَذته الْمَلَائِكَة) أَي: مَلَائِكَة الْعَذَاب، وَوَقع عِنْد البلاذري نزل اثْنَا عشر ملكا من الزَّبَانِيَة رؤوسهم فِي السَّمَاء وأرجلهم فِي الأَرْض وَأخرج النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَزَاد فِي آخِره فَلم يفجأهم مِنْهُ إلاَّ وَهُوَ. أَي: أَبُو جهل نكص على عقبه ويتقى بِيَدِهِ. فَقيل لَهُ: مَالك؟ قَالَ: إِن بيني وَبَينه لَخَنْدَقًا من نَا وَهولا وَأَجْنِحَة. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو دنا لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَة عضوا عضوا) .
تَابَعَهُ عَمْرُو بنُ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ
أَي: تَابع عبد الرَّزَّاق أَو يحيى فِي رِوَايَته عَمْرو بن خَالِد الْحَرَّانِي من شُيُوخ البُخَارِيّ عَن عبيد الله بن عَمْرو الرقي بالراء وَالْقَاف عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي الْمَذْكُور، وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ فِي (منتخب الْمسند) لَهُ عَن عَمْرو بن خَالِد فَذكره.
79 - (سُورَةُ: {إنَّا أنْزَلْنَاهُ} (الْقد: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: سُورَة الْقدر، وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ عَكسه، وَذكر الواحدي أَنَّهَا أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَهِي مائَة وَاثنا عشر جرفا وَثَلَاثُونَ كلمة، وَخمْس آيَات. قَوْله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يَعْنِي: الْقُرْآن كِنَايَة عَن غير مذكرو جملَة وَاحِد. (فِي لَيْلَة الْقدر) من اللَّوْح الْمَحْفُوظ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا. فوضعناه فِي بَيت الْعِزَّة فأملأه جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على السفرة، ثمَّ كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ينزله على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجوما، وَكَانَ بَين أَوله وَآخره ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة.
يُقَال المَطْلَعُ هُوَ الطُّلُوعُ وَالمَطْلِعُ المَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سَلام هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} (الْقدر: 5) وَفِيه قراءتان: إِحْدَاهمَا: بِفَتْح اللَّام أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: المطلع، يَعْنِي: بِفَتْح اللَّام(19/308)
هُوَ الطُّلُوع، وَهُوَ مصدر ميمي، وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور. وَالثَّانيَِة: بِكَسْر اللَّام أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: والمطلع، يَعْنِي: بِكَسْر اللَّام الْموضع الَّذِي يطلع مِنْهُ، وَأَرَادَ بِهِ اسْم الْموضع، وَهِي قِرَاءَة الْكسَائي وَخلف.
أنْزَلْنَاهُ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ القُرْآنِ أنْزَلْنَاهُ مَخْرَجَ الجَمِيعِ وَالمُنْزِلُ هُوَ الله وَالعَرَبُ تُوَكِّدُ فِعْلَ الوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الجَمِيعِ لِيَكُونَ أثْبَتَ وَأَوْكَدَ.
أَرَادَ أَن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي قَوْله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) كِنَايَة عَن الْقُرْآن يرجع إِلَيْهِ من غير أَن يسْبق ذكره لفظا. لِأَنَّهُ مَذْكُور حكما بِاعْتِبَار أَنه حَاضر دَائِما فِي ذهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لِأَن السِّيَاق يدل عَلَيْهِ أَو لِأَن الْقُرْآن كُله فِي حكم سُورَة وَاحِدَة. قَوْله: (مخرج الْجَمِيع) بِالنّصب أَي: خرج (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) مخرج الْجَمِيع وَكَانَ الْقيَاس أَن يكون بِلَفْظ الْمُفْرد بِأَن يَقُول: إِنِّي أنزلته لِأَن الْمنزل هُوَ الله وَهُوَ وَاحِد لَا شريك لَهُ. قَوْله: (وَالْعرب) إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى بَيَان فَائِدَة الْعُدُول عَن لفظ الْمُفْرد إِلَى لفظ الْجَمِيع. وَقَالَ الْعَرَب: إِذا أردْت التَّأْكِيد وَالْإِثْبَات تذكر الْمُفْرد بِصِيغَة الْجَمِيع، وَلَكِن هَذَا لَيْسَ بمصطلح، والمصطلح فِي مثله أَن يُقَال: فَائِدَة ذكر المرد بِالْجمعِ للتعظيم، وَيُسمى بِجمع التَّعْظِيم.
89 - (سُورَةُ: {لَمْ يَكُنْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {لم يكن} وَيُقَال لَهَا: سُورَة المنفكين، وَسورَة الْقِيَامَة، وَسورَة الْبَيِّنَة، وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجُمْهُور، وَحكى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَهُوَ اخْتِيَار يحيى بن سَلام، وَعَن سُفْيَان: مَا أَدْرِي مَا هِيَ، وَفِي رِوَايَة همام عَن قَتَادَة وَمُحَمّد بن ثَوْر عَن معمر: أَنَّهَا مَكِّيَّة وَفِي رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَهِي ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وَأَرْبع وَتسْعُونَ كلمة، وثمان آيَات.
مُنْفَكِينَ: زَائِلِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} (الْبَيِّنَة: 1) وَفَسرهُ بقوله: (زائلين) أَي: عَن كفرهم وأصل الفك الْفَتْح، وَمِنْه فك الْكتاب.
القَيِّمَةُ: القَائِمَةُ دِينُ القَيِّمَةِ: أضَافَ الدِّينَ إلَى المُؤَنثِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: دين الْملَّة الْقَائِمَة المستقيمة فالدين مُضَاف إِلَى مؤنث وَهِي الْملَّة وَالْقيمَة صفته فَحذف الْمَوْصُوف.
9594 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حَدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبِيِّ بنِ كَعْبٍ إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أقْرأ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ وَسَمَّانِي قَالَ نَعَمْ فَبَكَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ السُّورَة ظَاهِرَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَنَاقِب أبي بن كَعْب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن. قَوْله: (لأبي) هُوَ أبي بن كَعْب، وَفِي بعض النّسخ لأبي بن كَعْب مَذْكُور بِأَبِيهِ قَوْله: وسماني إِنَّمَا استفسر لِأَنَّهُ جوز بِالِاحْتِمَالِ أَن يكون الله أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ على رجل من أمته وَلم ينص عَلَيْهِ فَأَرَادَ تَحْقِيقه، وَأما بكاؤه فَلِأَنَّهُ استحقر نَفسه وتعجب وخشي وَهَذَا لِأَن شَأْن الصَّالِحين إِذا فرحوا بِشَيْء خلطوه بالخشية.
0694 - حدَّثنا حَسَّانُ بنُ حَسَّانَ حدَّثنا هَمامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبِيٍّ إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ القُرْآنَ قَالَ أُبَيٌّ الله سَمَّانِي لَكَ قَالَ الله سَمَّاكَ لِي فَجَعَلَ أُنِيُّ يَبْكِي قَالَ قَتَادَةُ فَانْبِئْتُ أنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ}
.(19/309)
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس أخرجه عَن حسان على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن حسان أبي على الْبَصْرِيّ، سكن مَكَّة من أَفْرَاد البُخَارِيّ، يروي عَن همام بن يحيى عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة وَفِي الْفَضَائِل عَن هَدِيَّة بن خَالِد، وَهنا قَالَ: إِن الله أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة أَن الله أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْك {لم يكن الَّذين كفرُوا} (الْبَيِّنَة: 1) وَهنا قَالَ أَيْضا فانبئت أَنه قَرَأَ عَلَيْهِ {لم يكن الَّذين كفرُوا} وَهَذَا يدل على أَن قَتَادَة لم يحمل نسمية السُّورَة عَن أنس، وَفِي حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة الْآتِي لم يبين شَيْئا من ذَلِك، وَهَذِه الطّرق الثَّلَاثَة كلهَا عَن قَتَادَة، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن، مُطلق يتَنَاوَل {لم يكن الَّذين كفرُوا} وَغَيرهَا. وَقَول قَتَادَة: فأنبئت إِلَى آخِره يدل ظَاهرا أَنه بلغه من غير أنس أَن الَّذِي أمره أَن يقْرَأ على أبي هُوَ: {لم يكن الَّذين كفرُوا} ثمَّ إِنَّه كَانَ عاود أنس بن مَالك فَأخْبرهُ بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره الله تَعَالَى أَن يقْرَأ على أبي: {لم يكن الَّذين كفرُوا} فَحمل حِينَئِذٍ عَن أنس مَا بلغه من غَيره، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُنَا قَالَ: أقريك الْقُرْآن، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة الْآتِي عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن. قلت: الْقِرَاءَة عَلَيْهِ نوع من أقرائه وَبِالْعَكْسِ، قَالَ فِي (الصِّحَاح) فلَان قَرَأَ عَلَيْك السَّلَام وأقرأك السَّلَام بِمَعْنى، وَقد يُقَال أَيْضا: كَانَ فِي قِرَاءَته قُصُور فَأمر الله تَعَالَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يقرئه على التجويد وَيقْرَأ عَلَيْهِ ليتعلم مِنْهُ حسن الْقِرَاءَة وجودتها، وَلَو صَحَّ هَذَا القَوْل كَانَ اجْتِمَاع الْأَمريْنِ الْقِرَاءَة عَلَيْهِ والإقراء ظَاهرا. وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: وَاخْتلفُوا فِي الْحِكْمَة فِي قِرَاءَته عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَار أَن سَببهَا أَن تستن الْأمة بذلك فِي الْقِرَاءَة على أهل الْفضل، لَا يأنف أحد من ذَلِك، وَقيل: للتّنْبِيه على حَلَاله، أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأهليته لأخذ الْقُرْآن عَنهُ، وَكَانَ بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأْسا وإماما فِي الْقُرْآن، وَلَا يعلم أحد من النَّاس شَاركهُ فِيهِ، وَيذكر الله لَهُ فِي هَذِه الْمنزلَة الرفيعة، وَأما وَجه تَخْصِيص هَذِه السُّورَة فَلَمَّا فِيهَا من ذكر المعاش من بَيَان أَحْوَال الدّين من التَّوْحِيد والرسالة، وَمَا ثَبت بِهِ الرسَالَة من المعجزة الَّتِي هِيَ الْقُرْآن وفروعه من الْعِبَادَة وَالْإِخْلَاص، وَذكر معادهم من الْجنَّة وَالنَّار، وتقسيمهم إِلَى السُّعَدَاء والأشقياء، وَخير الْبَريَّة وشرهم وأحوالهم قبل الْبعْثَة وَبعدهَا مَعَ وجازة السُّورَة فَإِنَّهَا من قصار الْمفصل.
1694 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ أبِي دَاوُدَ أبُو جَعْفَرٍ المُنَادِي حدَّثنا رَوْحٌ حدَّثَنا سَعِيدُ بنُ أبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ أنَّ نبيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أقْرِئَكَ القُرْآنَ قَالَ الله سَمَّانِي لَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ قَالَ نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن أَحْمد بن أبي دَاوُد أبي جَعْفَر الْمُنَادِي، هَكَذَا وَقع عِنْد الفريري عَن البُخَارِيّ، وَوَقع عِنْد النَّسَفِيّ حَدثنَا أَبُو جَعْفَر الْمُنَادِي حسب، فَكَانَت تَسْمِيَته من قبل الفريري، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: الْمَشْهُور عِنْد البغاددة أَنه مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي دَاوُد، وَقَالَ بَعضهم: أَحْمد وهم من البُخَارِيّ، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أعرف باسم شَيْخه من غَيره فَلَيْسَ وهما وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ لأبي جَعْفَر حَدِيث سوى هَذَا الحَدِيث، وَقد عَاشَ بعد البُخَارِيّ سِتَّة عشر عَاما لِأَنَّهُ عمر وعاش مائَة سنة وَسنة وأشهرا. وَقَالَ ابْن طَاهِر: روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي تَفْسِير (لم يكن) حَدِيثا وَاحِدًا. قَالَ: وَأهل بَغْدَاد يعرفونه بِمُحَمد، وَهَذَا الحَدِيث مَشْهُور من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي دَاوُد أبي جَعْفَر الْمُنَادِي وَلما ذكره الْخَطِيب من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبيد الله هَذَا فِي (تَارِيخه) قَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن ابْن الْمُنَادِي إلاَّ أَنه سَمَّاهُ أَحْمد وَسمعت هبة الله الطَّبَرِيّ يَقُول: قيل: إِنَّه اشْتبهَ على البُخَارِيّ فَجعل مُحَمَّدًا أَحْمد، وَقيل: كَانَ لمُحَمد أَخ بِمصْر اسْمه أَحْمد، وَهُوَ عندنَا بَاطِل لَيْسَ لأبي جَعْفَر أَخ فِيمَا نعلم، أَو لَعَلَّ البُخَارِيّ كَانَ يرى أَن مُحَمَّدًا أَو أَحْمد شَيْء وَاحِد. انْتهى. قلت: هَذَا لَا يَصح، لِأَن البُخَارِيّ أجلّ من أَن لَا يفرق بَين مُحَمَّد وَأحمد، وَهُوَ الرَّأْس فِي تَمْيِيز أَسمَاء الرِّجَال وأحوالهم.
99 - (سُورَةُ: {إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ} (الزلزلة: 1)(19/310)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {إِذا زلزلت} وَتسَمى سُورَة الزلزلة، وَفِي بعض النّسخ {إِذا زلزلت} بِدُونِ لفظ سُورَة وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَتِسْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا. وَخمْس وَثَلَاثُونَ كلمة وثمان آيَات. قَوْله: (إِذا زلزلت) ، أَي: حركت الأَرْض حَرَكَة شَدِيدَة لقِيَام السَّاعَة.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
1 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ} (الزلزلة: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} وَلم يثبت لفظ بَاب: إلاَّ لأبي ذَر، والمثقال على وزن مفعال من الثّقل، وَمعنى المثقال هُنَا الْوَزْن، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الذّرة، فَقَالَ: إِن مائَة نملة وزن حَبَّة، والذرة وَاحِدَة مِنْهَا، وَعَن يزِيد بن هَارُون: زَعَمُوا أَن الذّرة لَيْسَ لَهَا وزن.
يُقَالُ: أوْحَى لَهَا: أوْحَى إلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إلَيْهَا وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ تحدث أخبارك بِأَن رَبك أوحى لَهَا} (الزلزلة: 4، 5) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أوحى لَهَا أَي: أوحى إِلَيْهَا. قَوْله: (يُقَال) ، الخ غَرَضه أَن هَذِه الْأَلْفَاظ الْأَرْبَعَة بِمَعْنى وَاحِد، وَجَاء اسْتِعْمَالهَا بِكَلِمَة إِلَى وباللام، وَمَعْنَاهُ أمرهَا بالْكلَام وَأذن لَهَا فِيهِ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مجازه يُوحى الله إِلَيْهَا.
2694 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مَالِكٌ عَنْ زَيْدٍ بنِ أسْلَمَ عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْلُ لِثلاثَةٍ لِرَجُلٍ أجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأمّا الَّذِي لَهُ أجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ الله فَأطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أوْ رَوْضَةٍ فَمَا أصَابَتْ فِي طِيَلِها ذالِكَ فِي المَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَها فَاسْتَنَّتْ شَرَفا أوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُها أرْوَائُها حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أنَّها مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أنْ يَسْقَى بِهِ كَانَ ذالِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ فَهِيَ لِذلِكَ الرَّجُلِ أجْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَشِّيا وَتَعَفُف وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ الله فِي رِقَابِها وَلا ظُهُورِها فَهِّيَ لَهُ سِتْر وَرَجُلٌ رَبَطَها فَخْرا وَرِئَاءً وَنِوَاءً فَهِّيَ عَلَى ذالِكَ وِزْرٌ فَسُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنِ الحُمُرِ قَالَ مَا أنْزَلَ الله عَلَيَّ فِيهَا إلاَّ هاذِهِ الآيَةَ الفَاذَّةَ الجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة} الخ وَأَبُو صَالح السمان اسْمه ذكْوَان.
والْحَدِيث قد مضى فِي الشّرْب عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي الْجِهَاد وعلامات النُّبُوَّة عَن القعني، وَمر الْكَلَام فِيهِ، ولنذكر بعض شَيْء.
قَوْله: (فِي مرج) ، وَهُوَ الْموضع الَّذِي ترعى فِيهِ الدَّوَابّ قَوْله: (طيلها) بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يطول للدابة ويشد أحد طَرفَيْهِ فِي الوتد. قَوْله: (فاستنت) {} يُقَال: اسْتنَّ، إِذا ألح فِي الْعَدو. قَوْله: (شرفا) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَهُوَ الشوط، وَسمي بِهِ لِأَن العادي بِهِ يشرف على مَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ. قَوْله: (تغَنِّيا) أَي: اسْتغْنَاء عَن النَّاس أَو بنتاجها وَتَعَفُّفًا عَن السُّؤَال يتَرَدَّد عَلَيْهَا إِلَى متاجره ومزارعه وَنَحْوهَا فَتكون سترا لَهُ تحجبه عَن الْفَاقَة. قَوْله: (وَلم ينس حق الله فِي رقابها) بِأَن يُؤَدِّي زَكَاتهَا، وَبِه احْتج أَبُو حنيفَة فِي زَكَاة الْخَيل. قَوْله: (وَلَا ظُهُورهَا) أَي: وَلَا فِي ظُهُورهَا، بِأَن يركب عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله. قَوْله: (ونواء) بِكَسْر النُّون أَي: مناوأة. أَي: معاداة. قَوْله: (الفاذة) بِالْفَاءِ وبالذال الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة أَي الفردة. وَجعلهَا فاذة لخلوها عَن بَيَان مَا تحتهَا من التناسل أَنْوَاعهَا، وَقيل: إِذا لَيْسَ مثلهَا آيَة أُخْرَى فِي قلَّة الْأَلْفَاظ وَكَثْرَة الْمعَانِي لِأَنَّهَا جَامِعَة لكل أَحْكَام الْخيرَات والشرور، وَقيل: جَامِعَة لاشتمال اسْم الْخَيْر على أَنْوَاع الطَّاعَات وَالشَّر على أَنْوَاع الْمعاصِي وَدلَالَة على الْآيَة على الْجَواب من حَيْثُ أَن سُؤَالهمْ كَانَ إِن الْحمار لَهُ حكم الْفرس أم لَا؟ فَأجَاب بِأَنَّهُ إِن كَانَ لخير فَلَا بُد أَن يرى خَيره، وإلاَّ فبالعكس، وَالله أعلم.(19/311)
2 - (بَابٌ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} (الزلزلة: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَمن يعْمل} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب.
3694 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثَنِي ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخْبَرَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدٍ بنِ أسْلَمَ عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّنَّانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنِ الحُمُرِ فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيها شَيْءٌ إلاَّ هاذِهِ الآيَ الجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَيحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي سكن مصر يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَهَذَا وَجه آخر عَن مَالك مُقْتَصرا فِي الْقِصَّة الْأَخِيرَة.
001 - (سُورَةُ: {وَالَعادِيَاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة: وَالْعَادِيات، كَذَا لغير أبي ذَر، فَإِن عِنْده سُورَة العاديات وَالْقَارِعَة، وَسورَة العاديات مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَثَلَاثَة وَسِتُّونَ حرفا، وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَإِحْدَى عشرَة آيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد وَالْحسن وَعِكْرِمَة والكلبي وَأبي الْعَالِيَة وَأبي الرّبيع وعطية وَقَتَادَة وَمُقَاتِل وَابْن كيسَان: العاديات هِيَ الْخَيل الَّتِي تعدو فِي سَبِيل الله. قَوْله: (ضَبْحًا) ، أَي: يضبحن ضَبْحًا، وهوصوت أنفاسها إِذا جهدت فِي الجري.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الكَنُودُ: الكَفُورُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} (العاديات: 6) أَي: لكفور، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالربيع، أَي: لكفور جحود لنعم الله تَعَالَى؟ قَالَ الْكَلْبِيّ: هِيَ بِلِسَان كِنْدَة وَحضر موت، وبلسان معد كلهم العَاصِي، وبلسان مُضر وَرَبِيعَة وقضاعة: الكفور، بِلِسَان بني مَالك الْبَخِيل.
يُقَالُ: {فَأثَرْنَ بِهِ نَقْعا} (العاديات: 4) رَفَعْنَ بِهِ غُبارا
الْقَائِل بذلك أَبُو عُبَيْدَة، وَالْمعْنَى: أَن الْخَيل الَّتِي أغارت صباحا أثرن بِهِ غبارا، وَالضَّمِير فِيهِ بِهِ للصبح أَي: أثرن وَقت الصُّبْح، وَقيل للمكان دلّت عَلَيْهِ الْإِشَارَة وَإِن لم يجر لَهُ ذكر، وَقيل: يرجع إِلَى الْعَدو الَّذِي يدل عَلَيْهِ العاديات.
لِحُبِّ الخَيْرِ مِنْ أجْلِ حُبِّ الخَيْرِ: لَشَدِيدٌ لَبَخِيلٌ وَيُقالُ لِلْبَخُيلِ شَدِيدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} وَفَسرهُ بقوله: {من أجل حب الْخَيْر لشديد} وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة، جعل اللَّام للتَّعْلِيل، وَقيل: للتعدية بِمَعْنى أَنه لقوي مطيق لحب الْخَيْر وَهُوَ المَال، وَعَن ابْن زيد: سمى الله تَعَالَى المَال خيرا وَعَسَى أَن يكون خبيثا وحراما، وَلَكِن النَّاس يعدونه خيرا، فَسَماهُ الله خيرا. وَكَانَ مُقْتَضى الْكَلَام، وَإنَّهُ لشديد الْحبّ للخير، وَلَكِن أخر الشَّديد لرعاية الفواصل.
حُصِّلَ: مُيِّزَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} (العاديات: 1) وَفَسرهُ بقوله: (ميز) وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة، وَقيل: جمع وَقيل: أخرج، وَقيل: أظهر.
101 - (سُورَةُ: {القَارِعَةِ} )
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير شَيْء من سُورَة القارعة، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَاثْنَانِ حرفا وست وَثَلَاثُونَ كلمة وَإِحْدَى عشرَة آيَة. وَلم يذكر هَذَا لأبي ذَر لِأَنَّهُ ذكرهَا مَعَ العاديات كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَالْقَارِعَة: الْقِيَامَة لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب.
كَالفَرَاشِ المَبْثُوثِ كَغَوْغَاءِ الجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضا كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَالْعِهْنِ كألْوَانِ الْعِهْنِ: وَقَرَأَ عَبْدُ الله: كالصُّوفِ.(19/312)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث وَتَكون الْجبَال كالعهن المنفوش} (القارعة: 4، 5) وَفسّر الْفراش المبثوث بقوله: (كغوغاء الْجَرَاد) إِلَى آخِره، وَعَن أبي عُبَيْدَة: الْفراش طير ذياب وَلَا بعوض، والمبثوث المتفرق. وَقيل: الْفراش الطير الَّتِي تتساقط فِي النَّار، والغوغاء الصَّوْت والجلية، وَفِي الأَصْل: الغوغاء الْجَرَاد حِين يخف للطيران. قَوْله: (كألوان العهن) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} وَهُوَ الصُّوف وَكَذَلِكَ قَرَأَ عبد الله بدل العهن ذكره ابْن أبي دَاوُد عَنهُ؟ والمنقوش: المندوف، وَالله أعلم.
201 - (سُورَةُ: {ألْهَاكُمْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة أَلْهَاكُم، وَتسَمى: سُورَة التكاثر أَيْضا. وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَعِشْرُونَ حرفا، وثمان وَعِشْرُونَ كلمة، وثمان آيَات.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: التكاثُرُ مِنَ الأمْوَالِ وَالأوْلادِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله عز وَجل: {أَلْهَاكُم التكاثر} (التكاثر: 1) أَي: شغلكم التكاثر من الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن قَتَادَة: نزلت فِي الْيَهُود حِين قَالُوا: نَحن أَكثر من بني فلَان وَبَنُو فلَان أَكثر من بني فلَان أَلْهَاكُم ذَلِك حَتَّى مَاتُوا ضلالا وَعَن ابْن بُرَيْدَة: نزلت فِي فخذين من الْأَنْصَار تفاخرا، وَعَن مقَاتل والكلبي: نزلت فِي حيين من قُرَيْش بني عبد منَاف وَبني سهم بن عَمْرو، وَالله أعلم.
301 - (سُورَةُ: {وَالْعَصْرِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير شَيْء من سور وَالْعصر، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ حرفا وَأَرْبع عشرَة كلمة، وَثَلَاثَة آيَات.
وَقَالَ يَحْيَى: الدَّهْرُ: أقْسَمَ بِهِ
يحيى هُوَ يحيى بن زِيَاد الْفراء، أَي: قَالَ يحيى فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَالْعصر} أَي: الدَّهْر أقسم الله بِهِ، وَلَفظ يحيى لم يذكر فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعَن الْحسن: الْعَصْر الْعشي، وَعَن قَتَادَة: سَاعَة من سَاعَات النَّهَار، وَعَن ابْن كيسَان: اللَّيْل وَالنَّهَار، وَعَن مقَاتل: صَلَاة الْعَصْر هِيَ الْوُسْطَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُسْرٌ ضَلالُ: ثُمَّ اسْتَثْنَى إلاَّ مَنْ آمَنَ
لم يثبت هَذَا إلاَّ للنسفي وَحده، أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} (الْعَصْر: 2) وَفَسرهُ بقوله: (ضلال) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: خسران، ونقصان. وَعَن الْأَخْفَش: هلكة، وَعَن الْفراء عُقُوبَة. قَوْله: (ثمَّ اسْتثْنى) ، أَي: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} (الْعَصْر: 3) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَإِنَّهُم لَيْسُوا فِي خسر، وَالله أعلم.
401 - (سُورَةُ: {الْهَمْزَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة الْهمزَة، وَفِي بعض النّسخ سُورَة: {ويل لكل همزَة} (الْهمزَة: 1) وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَثَلَاثُونَ حرفا، وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة، وتسع آيَات وَعَن ابْن عَبَّاس الْهمزَة المشاؤن بالنميمة المفرقون بَين الْأَحِبَّة، وَعَن قَتَادَة: الْهمزَة الَّذِي يَأْكُل لُحُوم النَّاس ويغتابهم، واللمزة: الطعان.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ البسلمة لأبي ذَر.
الحَطَمَةُ: اسْمُ النَّارِ مِثْلُ سَقَرَ وَلَظَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلا لينبذن فِي الحطمة} (الْهمزَة: 4) وفسرها بقوله: {اسْم النَّار مثل سقر ولظى} وَسميت بالحطمة لِأَنَّهَا تحطم، أَي: تكسر.
501 - (سورَةُ: {ألَمْ تَرَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة: ألم تَرَ، وَتسَمى سُورَة الْفِيل، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي سِتَّة وَتسْعُونَ حرفا، وَعِشْرُونَ كلمة، وَخمْس آيَات.
ألَمْ تَرَ ألَمْ تَعْلَمْ
كَذَا وَقع لغير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ألم تَرَ، وَفسّر: (ألم تَرَ) بقوله: (ألم تعلم) وَعَن الْفراء: ألم تَرَ ألم تخبر عَن الْحَبَشَة والفيل، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدْرك قصَّة أَصْحَاب الْفِيل، لِأَنَّهُ ولد فِي تِلْكَ السّنة.
أبَابِيلَ مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل} (الْفِيل: 3) وَفسّر: (الأبابيل) بقوله: (متتابعة مجتمعة) رُوِيَ هَذَا عَن مُجَاهِد، وَقَالَ(19/313)
الثَّعْلَبِيّ: أبابيل كَثِيرَة مُتَفَرِّقَة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى كَالْإِبِلِ الموبلة، وَعَن ابْن عَبَّاس لَهَا خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الْكلاب، وَعَن عِكْرِمَة: لَهَا رُؤُوس كرؤوس السبَاع لم تَرَ قبل ذَلِك وَبعده، وَعَن ربيع لَهَا أَنْيَاب كأنياب السبَاع، وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِير أبابيل: جمع أبال، وَقيل: أبابيل مثل عباديل لَا وَاحِد لَهَا وَقيل: جمع أبول مثل عجول يجمع على عجاجيل.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سِجِّيلٍ: هِيَ سَنْكٍ وَكِلْ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ترميهم بحجارة من سجيل} (الْفِيل: 4) وَفسّر السجيل بقوله هِيَ: (سنك وكل) وسنك فِي لُغَة الفارسية بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وبالكاف الْمَكْسُورَة: الْحجر، وكل بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون اللَّام هُوَ الطين، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس التَّفْسِير الْمَذْكُور، وَالله أعلم.
601 - (سُورَةُ: {لإيْلافِ فُرَيْشٍ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة لِإِيلَافِ قُرَيْش، وَتسَمى: سُورَة قُرَيْش، وَذكر أَبُو الْعَبَّاس أَنَّهَا مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَذكر الضَّحَّاك وَعَطَاء بن السَّائِب أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَهِي ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ حرفا وَسبع عشرَة كلمة، وَأَرْبع آيَات وَاخْتلف فِي لَام لِإِيلَافِ، فَقيل: هِيَ مُتَّصِلَة بالسورة الأولى، وَعَن الْكسَائي والأخفش: هِيَ لَام التَّعَجُّب تَقول: أعجب لِإِيلَافِ قُرَيْش رحْلَة الشتَاء والصيف وتركهم عبَادَة رب هَذَا الْبَيْت، وَقيل: هِيَ لَام كي مجازها {فجعلهم كعصف مَأْكُول} ليؤلف قُرَيْش، وَعَن الزّجاج،: هِيَ مَرْدُودَة إِلَى مَا بعْدهَا تَقْدِيره فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت لإيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف، وقريش هم ولد النَّضر بن كنابة، فَمن وَلَده النَّضر فَهُوَ قرشي، وَمن لم يلده النَّضر فَلَيْسَ بقرشي. قَوْله: (إيلافهم) ، بدل من الإيلاف الأول.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لإيلافِ ألِفُوا ذَلِكَ فَلا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَآمَنَهُمْ مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِمْ فِي حَرَمِهِمْ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لِإِيلَافِ} ألفوا بِكَسْر اللَّام أَي: ألفهم الله تَعَالَى فألفوا ذَلِك أَي: الارتحال، وآمنهم الله تَعَالَى من كل عدوهم فِي حرمهم، وَعَن الضَّحَّاك وَالربيع وسُفْيَان: وآمنهم من الجذام فَلَا يصيبهم فِي بلدهم.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: لإيلافِ لِنعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ
أَي: قَالَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره: لِإِيلَافِ بنعمتي على قُرَيْش، رَوَاهُ عَنهُ سعيد بن عبد الرَّحْمَن، والإيلاف مصدر من قَوْلك: آلفت الْمَكَان أولفه إيلافا وَأَنا مؤلف، وَقَرَأَ الْجُمْهُور: لِإِيلَافِ بِإِثْبَات الْيَاء إلاَّ ابْن عَامر فَإِنَّهُ حذفهَا، وَاتَّفَقُوا على إِثْبَاتهَا فِي قَوْله: إيلافهم إلاَّ فِي رِوَايَة عَن ابْن عَامر فكالأول. وَفِي أُخْرَى عَن ابْن كثير بِحَذْف الْألف الَّتِي بعد اللَّام أَيْضا وَالله أعلم.(19/314)
701 - (سورَةُ أرَأيْتَ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة أَرَأَيْت، وَتسَمى سُورَة الماعون أَيْضا وَهِي مَكِّيَّة وَهِي مائَة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حرفا، وَخمْس وَعِشْرُونَ كلمة، وَسبع آيَات. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ مقَاتل والكلبي نزلت فِي الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي. وَعَن السّديّ وَابْن كيسَان: فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَعَن الضَّحَّاك فِي عَمْرو بن عَائِذ، وَقيل: فِي هُبَيْرَة بن وهب المَخْزُومِي، وَقَالَ الْفراء، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: أرأيتك الَّذِي يكذب، قَالَ: وَالْكَاف صلَة، وَقَالَ النَّسَفِيّ: أَرَأَيْت؟ هَل عرفت الَّذِي يكذب بِالدّينِ بالجزاء من هُوَ؟ إِن لم تعرفه فَذَلِك الَّذِي يكذب بالجزاء، هُوَ الَّذِي يدع الْيَتِيم أَي: يَقْهَرهُ ويزجره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَدُعُّ، يَدْفَعُ عنْ حقِّه ويُقالُ: هُوَ مِنْ دَعَعْتُ يُدَعُّونَ يُدْفَعُونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم} (الماعون: 2) أَي: يَدْفَعهُ عَن حَقه، من دع يدع دَعَا، وَعَن أبي رَجَاء: يدع الْيَتِيم أَي يتْركهُ وَيقصر فِي حَقه. قَوْله: (وَيُقَال: هُوَ من دععت) أَشَارَ بِهِ إِلَى اشتقاقه وَأَن ماضيه: دععت لِأَن عِنْد اتِّصَال الضَّمِير لَا يدغم قَوْله: (يدعونَ) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {يَوْم يدعونَ} (الطّور: 31) أَي: يدْفَعُونَ، وَقَرَأَ الْحسن وَأَبُو رَجَاء بِالتَّخْفِيفِ، وَنقل عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا.
ساهُونَ لاهُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} وَفسّر بقوله: (لاهون) وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد كَذَلِك، وَقَالَ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يؤخرونها عَن وَقتهَا، وَقَالَ غير وَاحِد: هُوَ التّرْك، وَعَن ابْن عَبَّاس: هم المُنَافِقُونَ يتركون الصَّلَاة فِي السِّرّ إِذا غَابَ النَّاس ويصلونها فِي الْعَلَانِيَة إِذا حَضَرُوا، وَعَن قَتَادَة: ساه لَا يُبَالِي صلى أم لم يصلِّ.
والماعُونُ المَعْرُوف كلهُ. وَقَالَ بَعْضُ العَرَبِ الماعُونُ الماءُ؛ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أعْلاَها الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ وأدْناها عارِيَّةُ المَتاعِ
ذكر فِي تَفْسِير الماعون ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: الْمَعْرُوف كُله: وَهُوَ الَّذِي يتعاطاه النَّاس بَينهم: كالدلو والفأس وَالْقدر والقداحة وَنَحْوهَا، وَهُوَ قَول الْكَلْبِيّ وَمُحَمّد بن كَعْب. الثَّانِي: الماعون: المَاء وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَمُقَاتِل، قَالُوا: الماعون المَاء بلغَة قُرَيْش. الثَّالِث: قَول عِكْرِمَة، وَهُوَ (أَعْلَاهَا الزَّكَاة) إِلَى آخِره، وَهُوَ قَول ابْن عَمْرو وَالْحسن وَقَتَادَة قَوْله: (عَارِية الْمَتَاع) أَي: الماعون اسْم جَامع لمتاع الْبَيْت كالمنخل والغربال والدلو وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يسْتَعْمل فِي الْبيُوت، وَقيل: الماعون مَا لَا يحمل مَنعه مثل المَاء(20/2)
وَالْملح وَالنَّار، وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم.
801 - (سورَةُ: إنَّا أعْطَيْناك الكَوْثَر)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} (الْكَوْثَر: 1) وَقيل: سُورَة الْكَوْثَر، وَهِي مَكِّيَّة عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ قَتَادَة وَالْحسن وَعِكْرِمَة: مَدَنِيَّة، وَسبب الِاخْتِلَاف فِيهِ لأجل الِاخْتِلَاف فِي سَبَب النُّزُول فَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت فِي الْعَاصِ ابْن وَائِل: فَإِنَّهُ قَالَ فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الأبتر، وَقيل: فِي عقبَة بن أبي معيط. وَعَن عِكْرِمَة: فِي جمَاعَة من قُرَيْش، وَقيل: فِي أبي جهل: وَقَالَ السُّهيْلي: فِي كَعْب بن الْأَشْرَف، قَالَ: وَيلْزم من هَذَا أَن تكون السُّورَة مَدَنِيَّة، وَفِيه تَأمل؛ وَهِي إثنان وَأَرْبَعُونَ حرفا، وَعشر كَلِمَات، وَثَلَاث آيَات.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ شانِئَكَ عَدُوَّكَ
أَي قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} أَي: عَدوك هُوَ الأبتر، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِذكر: قَالَ ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة غَيره بِدُونِ ذكره.
1 - (بَاب)
4694 - حدَّثنا آدَمُ حدّثنا شَيْبانُ حَدثنَا قَتادَةُ عنْ أَنَسٍ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السَّماءِ قَالَ: أتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفا، فَقُلْتُ: مَا هاذا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هاذَا الكَوْثَرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم.
قَوْله: (حافتاه) أَي: جانباه تَثْنِيَة حافة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْفَاء. قَوْله: (الْكَوْثَر) على وزن فوعل من الْكَثْرَة وَالْعرب تسمى كل شَيْء كثير فِي الْعدَد أَو فِي الْقدر والخطر: كوثرا، وَاخْتلف فِيهِ، وَالْجُمْهُور على أَنه الْحَوْض. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ. وَقيل: الْكَوْثَر حَوْض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ عِيَاض: أَحَادِيث الْحَوْض صَحِيحَة وَالْإِيمَان بِهِ فرض والتصديق بِهِ من الْإِيمَان، وَهُوَ على ظَاهره عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة لَا يتَأَوَّل وَلَا يخْتَلف، وَحَدِيثه متواتر النَّقْل رَوَاهُ خلائق من الصَّحَابَة، وَحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور هُنَا: الْكَوْثَر نهر مَا ييجيء عَن قريب، وَعَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْكَوْثَر نهر فِي الْجنَّة حافتاه من الذَّهَب وَمَجْرَاهُ من الدّرّ والياقوت وتربته أطيب من الْمسك وماؤه أحلى من الْعَسَل وَأَشد بَيَاضًا من الثَّلج) وَرُوِيَ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن أبي نجيح، قَالَت عَائِشَة: لَيْسَ أحد يدْخل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ إلاَّ سمع خرير الْكَوْثَر، وَعَن عِكْرِمَة: الْكَوْثَر النُّبُوَّة وَالْقُرْآن وَالْإِسْلَام، وَعَن مُجَاهِد: الْخَيْر كُله، وَقيل: نور فِي قلبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دله على الْحق وقطعه عَمَّن سواهُ، وَقيل: الشَّفَاعَة، وَقيل: المعجزات، وَقيل: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَقيل: الْفِقْه فِي الدّين، وَقيل: الصَّلَوَات الْخمس، وَقيل فِيهِ أَقْوَال أُخْرَى كَثِيرَة.
5694 - حدَّثنا خالِدُ بنُ يَزِيدَ الكاهِلِيُّ حدّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبي إسْحاقَ عنْ أبي عُبَيْدَةَ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ: سألْتُها عَن قَوْلهِ تَعَالَى: إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الْكَوْثَر: 1) قالَتْ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شاطِئَاهُ عَليْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله عَن أبي عُبَيْدَة عَامر بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن حَرْب.
قَوْله: (قَالَ: سَأَلتهَا) أَي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سَأَلت عَائِشَة قَوْله: (أعْطِيه) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (شاطئاه) أَي: جانباه وَهُوَ تَثْنِيَة شاطىء موهو الْجَانِب. قَوْله: (عَلَيْهِ) يرجع إِلَى جنس الشاطىء، وَلِهَذَا لم يقل عَلَيْهِمَا، ودر مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ ومجوف صفته وَخَبره عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول أَعنِي: شاطئا.
رَاوهُ زَكَرِيَّاءُ وأبُو الأَحْوَص ومُطَرِّفٌ عنْ أبي إسْحاق
أَي: رُوِيَ الحَدِيث الْمَذْكُور زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة، وَأَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم، ومطرف بن طريف بِالطَّاءِ الْمُهْملَة فرواية زَكَرِيَّاء رَوَاهَا عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن يحيى بن زَكَرِيَّاء عَن أَبِيه، وَرِوَايَة أبي الْأَحْوَص رَوَاهَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَنهُ أبي، وَلَفظه:(20/3)
(الْكَوْثَر نهر بِفنَاء الْجنَّة شاطئاه در مجوف وَفِيه من بَقِي عدد النُّجُوم، وَرِوَايَة مطرف رَوَاهَا النَّسَائِيّ من طَرِيقه.
6694 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدّثنا هُشَيْمٌ حدّثنا أبُو بشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أنهُ قَالَ فِي الكَوْثَر: هُوَ الخَيْرُ الّذِي أعْطاهُ الله إيَّاهُ: قَالَ أبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيد بنِ جُبَيْرٍ: فإِنَّ الناسَ يَزْعَمُونَ أنَّهُ نَهرٌ فِي الجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهرُ الَّذِي فِي الجنةِ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أَعْطاهُ الله إيَّاهُ.
(انْظُر الحَدِيث 8756 فِي طرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي يروي عَن هشيم، مصغر هشيم، ابْن بشير، مصغر بشر، الوَاسِطِيّ عَن أبي بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جَعْفَر بن أبي وحشية الوَاسِطِيّ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر الْحَوْض. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن كَامِل، وَقَول سعيد بن جُبَير هَذَا جمع بَين حَدِيثي عَائِشَة وَابْن عَبَّاس، وَالْحَاصِل أَن قَول ابْن عَبَّاس يَشْمَل جَمِيع الْأَقْوَال الَّتِي ذكروها فِي الْكَوْثَر لِأَن جَمِيع ذَلِك من الْخَيْر الَّذِي أعطَاهُ الله تَعَالَى إِيَّاه.
901 - (سورَةُ قُلْ يَا أيُّها الكافِرُونَ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء مِمَّن سُورَة: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) وَيُقَال لَهَا سُورَة الْكَافرين، والمتشقسة، أَي: المبرئة من النِّفَاق، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي أَرْبَعَة وَتسْعُونَ حرفا، وست وَعِشْرُونَ كلمة، وست آيَات وَالْخطاب لأهل مَكَّة مِنْهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَالْعَاص بن وَائِل والْحَارث بن قيس السَّهْمِي وَالْأسود بن عبد يَغُوث وَالْأسود بن عبد الْمطلب وَأُميَّة بن خلف، قَالُوا: يَا مُحَمَّد فَاتبع ديننَا وَنَتبع دينك ونشركك فِي أمرنَا كُله تعبد آلِهَتنَا سنة ونعبد إلهك سنة، فَقَالَ: معَاذ الله أَن أشرك بِهِ غَيره، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) إِلَى آخر السُّورَة.
لَكُمْ دِينَكُمْ الكُفْرُ ولِيَ دِينِ الإسْلاَمُ، ولَم يَقُلْ دِيني لِأَن الآياتِ بالنُّونِ فَحُذِفَتِ الياءُ كَما قَالَ: يَهْدِينِ وَيَشْفِينِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {لكم دينكُمْ ولي دين} (الْكَافِرُونَ: 6) أَي: لكم دين الْكفْر ولي دين الْإِسْلَام، هَكَذَا فسره الْفراء، وَقَرَأَ نَافِع وَحَفْص وَهِشَام: ولي، بِفَتْح الْيَاء وَالْبَاقُونَ بسكونها وَهَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف قَوْله: (وَلم يقل ديني) إِلَى آخِره حَاصله أَن النونات أَي: الفواصل كلهَا بِحَذْف الْيَاء رِعَايَة للمناسبة، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين. وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين} (الشُّعَرَاء: 87 18) فَإِن الْيَاء حذفت فِي كلهَا رِعَايَة للفواصل والتناسب وَهَذَا نوع من أَنْوَاع البديع.
وَقَالَ غيْرُهُ: لَا أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الآنَ ولاَ أُجِيبُكُمْ فِيما بَقِيَ مِنْ عُمُري ولاَ أنْتُمْ عابدُون مَا أعبُدُ وهُمُ الَّذِينَ قَالَ: { (5) وليزيدن كثيرا مِنْهُم. مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا} (الْمَائِدَة: 46)
لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر لفظ: (وَقَالَ غَيره) وَقَالَ بَعضهم، وَالصَّوَاب إثْبَاته لِأَنَّهُ لَيْسَ من بَقِيَّة كَلَام الْفراء بل هُوَ كَلَام أبي عُبَيْدَة. قلت: الصَّوَاب حذفه لِأَنَّهُ لم يذكر قبله، وَقَالَ الْفراء حَتَّى يُقَال بعده: وَقَالَ غَيره، وَهَذَا ظَاهر، وَحَاصِل قَوْله (لَا أعبد) إِلَى قَوْله: (وهم الَّذين) أَي: لَا أعبد فِي الْحَال وَلَا فِي الِاسْتِقْبَال مَا تَعْبدُونَ إِنَّمَا قَالَ: مَا، وَلم يقل من، لِأَن المُرَاد الصّفة، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أعبد الْبَاطِل وَأَنْتُم لَا تَعْبدُونَ الْحق. وَقيل: مَا مَصْدَرِيَّة أَي: لَا أعبد عبادتكم وَلَا تَعْبدُونَ عبادتي ثمَّ وَجه التّكْرَار فِيهِ التَّأْكِيد لِأَن من مَذَاهِب الْعَرَب التّكْرَار إِرَادَة التَّأْكِيد والإفهام، كَمَا أَن من مذاهبهم الِاخْتِصَار إِرَادَة التَّخْفِيف والإيجاز، وَهَذَا بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الْحَال، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا للْحَال حَقِيقَة وللاستقبال مجَازًا أَو بِالْعَكْسِ، أَو هُوَ مُشْتَرك، وَكَيف جَازَ الْجمع بَينهمَا، ثمَّ أجَاب بقوله. قلت: الشَّافِعِيَّة جوزوا ذَلِك مُطلقًا، وَأما غَيرهم فجوزوه بِعُمُوم الْمجَاز. قَوْله: (وهم الَّذين) أَي: المخاطبون بقوله: أَنْتُم(20/4)
هم الَّذين قَالَ الله فِي حَقهم: {وليزيدن كثيرا مِنْهُم} (الْمَائِدَة: 46) إِلَى آخر.
سورَةُ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء مِمَّن سُورَة: {إِذا جَاءَ نصر الله} (النَّصْر: 1) وَيُقَال: سُورَة النَّصْر، وَقَالَ ابْن الْعَبَّاس: هِيَ مَدَنِيَّة بِلَا خلاف وَقَالَ ابْن النَّقِيب: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا آخر سُورَة نزلت، وَقَالَ الواحدي: وَذَلِكَ منصرف سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حنين، وعاش بعد نُزُولهَا سنتَيْن، وَقَالَ مقَاتل: لما نزلت قَرَأَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ففرحا وسمعها عبد الله بن عَبَّاس فَبكى فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يبكيك؟ قَالَ: نعيت إِلَيْك نَفسك، فَقَالَ: صدقت فَعَاشَ بعْدهَا ثَمَانِينَ يَوْمًا فَمسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَأسه وَقَالَ: (اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل) ، وَهِي تِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وست وَعشرَة كلمة، وَثَلَاث آيَات.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم.
تثبت الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.
1 - (بَاب)
7694 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ الرَّبِيعِ حَدثنَا أبُو الأحْوَصِ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عَن عَائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: مَا صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةً بَعْدَ أَن نَزَلَتْ عَليْه إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1) إلاَّ يَقُولُ فِيها: سُبْحانَك رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن الرّبيع بِفَتْح الرَّاء ضد الخريف ابْن سُلَيْمَان البَجلِيّ الْكُوفِي، يعرف بالبوراني، وَهُوَ من مَشَايِخ مُسلم أَيْضا مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِالْكُوفَةِ، وَأَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح، ومسروق بن الأجدع. والْحَدِيث مر فِي الصَّلَاة فِي بَاب التَّسْبِيح وَالدُّعَاء فِي السُّجُود، عَن حَفْص بن عمر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
2 - (بَاب)
8694 - حدَّثنا عُثمانُ بنُ أبي شَيْبَة حدّثن جَيريٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ فِي ركُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِر لِي، يتَأوَّلُ القُرْآنَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر آلى آخِره قَوْله: (يتَأَوَّل الْقُرْآن) أَي: يعْمل بِمَا أَمر بِهِ فِي الْقُرْآن وَهُوَ قَوْله: (فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ) (النَّصْر: 3) قَوْله: (سُبْحَانَكَ) أَي: سبحت بحَمْدك، وَإِضَافَة الْحَمد إِلَى الله وَهُوَ الْفَاعِل، وَالْمرَاد لأزمه أَي التَّوْفِيق أَو إِلَى الْمَفْعُول أَي: بحمدي لَك.
3 - (بابٌ قوْلهُ: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} (النَّصْر: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ} (النَّصْر: 2) هُوَ فِي مَحل النصب إِمَّا على الْحَال على أَن رَأَيْت بِمَعْنى أَبْصرت أَو عرفت أَو على أَنه مفعول ثَان على أَنه بِمَعْنى: علمت، وَقيل: المُرَاد بِالنَّاسِ أهل الْيمن. قَوْله: (أَفْوَاجًا) أَي: فوجا بعد فَوْج، وزمرا بعد زمر الْقَبِيلَة بأسرها وَالْقَوْم بأجمعهم من غير قتال.
9694 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ أبي شَيْبَةَ حدَّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ عنْ سُفْيانَ عنْ حَبِيبِ بنِ أبي ثابتٍ عنْ سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنهُ، سألَهُمْ عنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (النَّصْر: 2) قالُوا: فَتْحُ المَدَائِنِ والقُصُورِ، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابنَ عَبَّاس؟ قَالَ: أجَلٌ أوْ مثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُعِيَتْ لهُ نَفْسهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي شيبَة أَخُو عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن مهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، والْحَدِيث من أفرادهي.
قَوْله: (أجل) . بِالتَّنْوِينِ وَكَذَا قَوْله: (أَو مثل) بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (ضرب) من الضَّرْب بِمَعْنى(20/5)
التَّوْقِيت فِي قَوْله: (أجل) وَمن ضرب الْمثل فِي قَوْله: (أَو مثل) ، قَوْله: (نعيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من نعي الْمَيِّت ينعاه نعيا ونعيا إِذا أذاع مَوته وَأخْبر بِهِ.
4 - (بَاب {فسبح اسْم رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} (النَّصْر: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْد رَبك} (النَّصْر: 3) الْمَعْنى: إِذا دخل النا فِي دين الله أَفْوَاجًا فسبح بِحَمْد رَبك فَإنَّك حِينَئِذٍ لَا حق بِهِ ذائق الْمَوْت كَمَا ذاق من قبلك من الرُّسُل.
توَّابٌ علَى العِباد، والتوَّابُ مِنَ النَّاس التّائِبُ منَ الذَّنْب
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن التواب لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: تواب يُقَال لله تَعَالَى بِمَعْنى أَنه رجّاع عَلَيْهِم بالمغفرة وَقبُول التَّوْبَة، وَقيل: الَّذِي يرجع إِلَى كل مذنب بِالتَّوْبَةِ وَأَصله من التوب وَهُوَ الرُّجُوع، وَقيل: هُوَ الَّذِي ييسر للمذنبين أَسبَاب النّوبَة ويوفقهم ويسوق إِلَيْهِم مَا ينبههم عَن رقدة الْغَفْلَة ويطلعهم على وخامة عواقب الزلة، فَسُمي الْمُسَبّب للشَّيْء باسم الْمُبَاشر لَهُ كَمَا أسْند إِلَيْهِ فعله فِي قَوْلهم: بنى الْأَمِير الْمَدِينَة. وَالْآخِرَة: تواب يُقَال للْعَبد بِمَعْنى أَنه تائب من الذُّنُوب الَّتِي اقترفها.
0794 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبي بِشْر عنْ سعيد بن جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أشْيَاخِ بَدْرٍ، فكَأنَّ بعْضُهمْ وجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هاذا مَعنا ولَنا أبْناءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمرُ: إنّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ، فدَعا ذَاتَ يَوْمٍ فادْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَما رئِيتُ أنّهُ دَعانِي يَوْمَئِذٍ إلاَّ لِيُريَهُمْ، قَالَ: مَا تقُولُونَ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1) ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنا أنْ نحْمَدَ الله ونَسْتَغْفِرَهُ إِذا نُصِرْنا فُتِحَ علَيْنا، وسكَتَ بعْضُهُمْ فلَم يقُلْ شَيْئا، فَقَالَ لي: أكذَاكَ تَقُولُ يَا ابنَ عباسٍ؟ فقُلْت: لَا. قَالَ: فَما تقُول؟ قُلْتُ: هُو أجَلُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْلَمَهُ لهُ قَالَ: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1) وذالِكَ عَلاَمَةُ أجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَواِبَا} (النَّصْر: 3) فَقَالَ عُمَرُ: مَا أعْلَمُ مِنْها إلاَّ مَا تَقُولُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تُؤْخَذ من قَوْله: {فسبح بِحَمْد رَبك} (النَّصْر: 3) إِلَى آخِره ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جَعْفَر بن أبي وحشية إياش الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، وَيُقَال الوَاسِطِيّ.
والْحَدِيث مر فِي الْمَغَازِي فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (يدخلني) بِضَم الْيَاء من الإدخال. قَوْله: (مَعَ أَشْيَاخ بدر) . يَعْنِي: من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله: (فَكَأَن بَعضهم) هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَوْله: (وجد) ، أَي غضب قَوْله: (أَنه من حَيْثُ علمْتُم) . أَي: أَن عبد الله بن عَبَّاس مِمَّن علمْتُم فَضله وَزِيَادَة علمه وعرفتم قدمه. قَوْله: (فَمَا رئيت) على صِيغَة الْمَجْهُول بِضَم الرَّاء وَكسر الحمزة. وَفِي غَزْوَة الْفَتْح فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فَمَا أريته بِتَقْدِيم الْهمزَة وَالْمعْنَى وَاحِد. قَوْله: (إِلَّا لِيُرِيَهُمْ) بِضَم الْيَاء من الإراءة. قَوْله: (قلت: لَا) أَي: لَا أَقُول مثل مَا يَقُول هَؤُلَاءِ قَالَ عمر: فَمَا تَقول يَا عبد الله؟ قَوْله: (مَا أعلم مِنْهَا) أَي: من المقالات الَّتِي قَالَ بَعضهم.
111 - (سورةُ {تبت يدا أبي لَهب} (المسد: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء مِمَّن سُورَة {تبت يدا أبي لَهب} (المسد: 1) وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ سُورَة، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي سَبْعَة وَسَبْعُونَ حرفا، وَثَلَاث وَعِشْرُونَ كلمة، وَخمْس آيَات وَأَبُو لَهب بن عبد الْمطلب واسْمه عبد الْعزي وَأمه خزاعية وكنى أَبَا لَهب فَقيل: بِابْنِهِ لَهب، وَقيل: لشدَّة حمرَة وجنتيه وَكَانَ وَجهه يتلهب من حسنه وَوَافَقَ ذَلِك مَاتَ آل إِلَيْهِ، أمره وَهُوَ دُخُوله { (111) نَارا ذَات(20/6)
لَهب} (المسد: 3) وَكَانَ من أَشد النَّاس عَدَاوَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَمَادَى على عداوته حَتَّى مَاتَ بعد بدر بأيام وَلم يحضرها بل أرسل عَنهُ بديلاً فَلَمَّا بلغه مَا جرى لقريش مَاتَ غما.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تثبت الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.
وتَبَّ: خَسِرَ تَبَابٌ: خُسْرَانٌ: تَتْبِيبٌ: تَدْمِيرٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتب مَا أغْنى عَنهُ مَاله} (المسد: 1 2) وَفسّر: (تب) بقوله: (تباب) بقوله (خسران) وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} وَأَشَارَ بقوله (تتبيب) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا زادوهم غير تتبيب} (هود: 101) أَي: غير تدمير، أَي غير هَلَاك، وَالْوَاو فِي وَتب للْعَطْف فَالْأول دَعَاهُ وَالثَّانِي خبر، وَلَفظ: يَد أَصله تَقول الْعَرَب: يَد الدَّهْر وَيَد الرزايا، وَقيل: المُرَاد ملكه وَمَاله، يُقَال: فلَان قَلِيل ذَات الْيَد، يعنون بِهِ المَال، وَقيل: يذكر الْيَد وَيُرَاد بِهِ النَّفس من قبيل ذكر الشَّيْء بِبَعْض أَجْزَائِهِ.
1 - (بَاب)
1794 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ مُوسى احدثنا أبُو أُسامةَ حَدثنَا الأعْمَشُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، رَضِي الله عنْهما، قَالَ: لما نَزَلَتْ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ورهْطَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِين} (الشُّعَرَاء: 412 512) خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حتَّى صعَدَ الصَّفا فَهَتَفَ: يَا صبَاحاهْ {فقالُوا: مَنْ هاذا؟ فاجْتمَعُوا إليْهِ، فَقَالَ: أرَأيْتُمْ إنْ أخبَرتُكُمْ أنَّ خيْلاً تَخْرُجُ مِنْ صَفْحِ هاذا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِي؟ قالُوا: مَا جَرَّبْنا عَلَيْكَ كذبا قَالَ: فإِنِّي { (34) نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد} (سبأ: 64) قَالَ أبُو لَهَبٍ: تبّا لكَ} مَا جَمعتَنا إِلَّا لِهذا؟ ثمَ قامَ فَنَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1) وقَدْ تَبَّ، هاكذا قَرَأَهَا الأعْمَشُ يَوْمَئِذٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَفِيه بَيَان سَبَب نزُول السُّورَة. يُوسُف بن مُوسَى بن رَاشد بن بِلَال الْقطَّان الْكُوفِي، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهَذَا من مُرْسل الصَّحَابِيّ لِأَن ابْن عَبَّاس لم يخلق حِينَئِذٍ.
والْحَدِيث قد قتدم بِتَمَامِهِ فِي مَنَاقِب قُرَيْش، وببعضه فِي الْجَنَائِز.
قَوْله: (ورهطك مِنْهُم المخلصين) أما تَفْسِير لقَوْله: عشيرتك، وَإِمَّا قِرَاءَة شَاذَّة رَوَاهَا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: قَرَأَهَا ابْن عَبَّاس، وَقَالَ النَّوَوِيّ عبارَة ابْن عَبَّاس مشعرة بِأَنَّهَا كَانَت قُرْآنًا ثمَّ نسخت تِلَاوَته. قَوْله: (فَهَتَفَ) أَي: صَاح. قَوْله: (يَا صَبَاحَاه {) هَذِه كلمة يَقُولهَا المستغيث، وَأَصلهَا إِذا صاحوا اللغارة لأَنهم أَكثر مَا كَانُوا يغيرون بالصباح ويسمون يَوْم الْغَارة يَوْم الصَّباح، وَكَانَ الْقَائِل: يَا صَبَاحَاه، يَقُول: قد غشينا الْعَدو. قَوْله: (من سفح) بِالسِّين أَو الصَّاد: وَجه الْجَبَل وأسفله.
2 - (بابٌ قوْلُهُ {وَتب مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب} (المسد: 1 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَتب مَا أغْنى عَنهُ} (المسد: 1 2) أَي: عَن أبي لَهب مَاله من عَذَاب الله، وَقيل: مَاله أغنامه، وَكَانَ صَاحب سَائِمَة. قَوْله: (وَمَا كسب) قَالَ الثَّعْلَبِيّ: يَعْنِي: وَلَده لِأَن وَلَده من كَسبه، وَقَالَ النَّسَفِيّ كلمة: مَا، مَوْصُولَة يَعْنِي: وَالَّذِي كسب من الْأَمْوَال والأرباح، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة يَعْنِي: وَكَسبه.
2794 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخبرَنا أبُو مُعاوِيةَ حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ عَمْرو بن مُرَّةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَرَجَ إِلَى البَطْحاءِ فصَعِدَ إِلَى الجَبَلِ فَنادَى: يَا صبَاحاهْ} فاجْتمَعَتْ إليْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ: أرَأيْتُمْ إنْ حَدَّثْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ أكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فإِنِّي { (34) نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد} (سبأ: 64) فَقَالَ أبُو لَهَبٍ: ألهَذا جَمَعْتَنا؟ تبّا لَكَ. فأنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1) آلى آخِرها.(20/7)
هَذَا هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه من طَرِيق آخر عَن مُحَمَّد بن سَلام بتَشْديد اللَّام عَن أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِلَى الْبَطْحَاء) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وبطحاء مَكَّة وأبطحها مسيل واديها وَيجمع على البطاح والأباطح. قَوْله: (مصبحكم) من التصبيح وممسيكم من الإمساء قَوْله: (تصدقوني) ويروي: تصدقونني.
3 - (بابٌ قوْلُهُ: {نَارا ذَات لَهب} (المسد: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: سيصلى أَي: أَبُو لَهب سيدخل نَارا ذَات لَهب، وَالسِّين فِيهِ للوعيد إِذْ هُوَ كَائِن لَا محَالة وَإِن تَأَخّر وقته.
4 - (بابٌ {وَامْرَأَته حمالَة الْحَطب} (المسد: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَامْرَأَته حمالَة الْحَطب} (المسد: 4) قَرَأَ عَاصِم: حمالَة، بِالنّصب على الذَّم وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْع على تَقْدِير: سيصلى نَارا هُوَ وَامْرَأَته، وَتَكون امْرَأَته، عطفا على الضَّمِير فِي سيصلى، وحمالة بدل مِنْهَا، وَقد ذكرنَا أَن امْرَأَته أم جميل بنت حَرْب أُخْت أبي سُفْيَان، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَت تنشر السعدان على طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيطؤه كَمَا يطَأ أحدكُم الْحَرِير، وَعَن مرّة الْهَمدَانِي: كَانَت أم جميل تَأتي كل يَوْم بحزمة من الحسك والشوك والسعدان فتطرحها على طَرِيق الْمُسلمين، فَبَيْنَمَا هِيَ ذَات يَوْم بحملة أعيت فَقَعَدت على حجر تستريح، فَأتى ملك فجذبها من خلفهَا فأهلكها.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: حَمَّالَةَ الحطَبِ: تَمْشِي بالنَّمِيمةِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وامرأتُه حمالةَ الْحَطب} (المسد: 4) كَانَت تمشي بالنميمة، رَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَكَانَت تنم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمُشْركين، وَقَالَ الْفراء: كَانَت تنم فتحرش فتوقع بَينهم الْعَدَاوَة، فكنى عَن ذَلِك: بحمالة الْحَطب.
فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} (المسد: 5) يقالُ: مَسَدٍ لِيفِ المُقْلِ، وهْيَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي فِي النّار
هَذَانِ قَولَانِ حَكَاهُمَا الْفراء الأول: معنى قَوْله: (فِي جيدها حَبل من مسد) (المسد: 4) أَي: فِي عُنُقهَا حَبل من لِيف الْمقل، هَذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا حِين كَانَت تحمل الشوك. وَالثَّانِي: أَن معنى قَوْله: من مسد، هِيَ السلسلة الَّتِي فِي النَّار، وَهُوَ فِي الْآخِرَة عَن ابْن عَبَّاس وَعُرْوَة: سلسلة من حَدِيد ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا تدخل من فِيهَا وَتخرج من دبرهَا وتلوى سائرها فِي عُنُقهَا، وَالله أعلم.
211 - (سورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاص: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) تسمى سُورَة الْإِخْلَاص: وَهِي مَكِّيَّة، مَدَنِيَّة، وَهِي سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا، وَخمْس عشرَة كلمة، وَأَرْبع آيَات. نزلت لما قَالَت قُرَيْش أَو كَعْب بن الْأَشْرَف أَو مَالك بن الصعب أَو عَامر بن الطُّفَيْل العامري: أنسب لنا رَبك.
يُقالُ: لَا يُنَوَّنُ (أحَدٌ) أيْ: واحِدٌ
أَي: قد يحذف التَّنْوِين من: أحد، فِي حَال الْوَصْل فَيُقَال: هُوَ الله أحد الله، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(فألقيته غير مستعتب ... وَلَا ذَاكر الله إِلَّا قَلِيلا)
قَوْله: (أَي: وَاحِد) تَفْسِير. قَوْله: (أحد) . أَرَادَ أَنه لَا فرق بَينهمَا، وَهَذَا قَول قَالَه بَعضهم، وَالصَّحِيح الْفرق بَينهمَا، فَقيل: الْوَاحِد بِالصِّفَاتِ والأحد بِالذَّاتِ، وَقيل: الْوَاحِد يدل على أزليته وأوليته لِأَن الْوَاحِد فِي الْأَعْدَاد ركنها وَأَصلهَا ومبدؤها، والأحد يدل على تميزه من خلقه فِي جَمِيع صِفَاته وَنفي أَبْوَاب الشّرك عَنهُ، فالأخذ لنفي مَا يذكر مَعَه من الْعدَد،(20/8)
وَالْوَاحد اسْم لمفتح الْعدَد، فأحد يصلح فِي الْكَلَام فِي مَوضِع الْجُحُود، وَالْوَاحد فِي مَوضِع الْإِثْبَات، تَقول: يأتني مِنْهُم أحد، وَجَاءَنِي مِنْهُم وَاحِد وَلَا يُقَال: جَاءَنِي مِنْهُم أحد لِأَنَّك إِذا قلت: لم يأتني مِنْهُم أحد فَمَعْنَاه أَنه لَا وَاحِد أَتَانِي وَلَا إثنان، وَإِذا قلت: جَاءَنِي مِنْهُم وَاحِد، فَمَعْنَاه أَنه لم يأتني اثْنَان، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أحد فِي الأَصْل وَاحِد.
4794 - حدَّثنا أبُو اليمَانِ حدَّثنا شعَيْبٌ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: كذَّبَني ابنُ آدَمَ وَلَمْ يكُنْ لَهُ ذالِكَ، وشَتَمَني ولَمْ يَكُنْ لَهُ ذالِكَ، فأمَّا تَكذِيبُهُ إيَّايَ فقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأنِي، ولَيْسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأهْوَنَ علَيَّ مِنْ إعادَتِه؛ وأمَّا شَتْمُهُ إيَّاي فقَوْلَهُ: { (2) اتخذ الله ولدا} (الْبَقَرَة: 611) وَأَنا الأحَدُ الصَّمَدُ لَمْ ألِدْ ولَمْ أولَدْ ولَمْ يَكُنْ لِي كُفْئا أحَدٌ.
(انْظُر الحَدِيث 3913 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث قد مضى فِي سُورَة الْبَقَرَة فِي: بَاب {قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ} (الْبَقَرَة: 611) عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن عبد الله بن أبي حُسَيْن عَن نَافِع بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس نَحْو رِوَايَة أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (وَشَتَمَنِي) الشتم توصيف الشَّخْص بارزاء وَنقص فِيهِ لَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بِالنّسَبِ.
2 - (بابٌ قوْلُهُ اللَّهُ الصَّمَدُ} (الْإِخْلَاص: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل {الله الصَّمد} (الْإِخْلَاص: 2) وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاّ لأبي ذَر.
والعَرُبُ تُسَمِّي أشْرَافَها الصَّمَد. قَالَ أبُو وَائِلٍ: هُوَ السَّيِّدُ الذِي انْتَهَى سُودَدُهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن معنى الصَّمد عِنْد الْعَرَب الشّرف، وَلِهَذَا يسمون رؤساءهم: الْأَشْرَاف بالصمد. وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ السَّيِّد الَّذِي قد كمل أَنْوَاع الشّرف والسؤدد، وَقيل: هُوَ السَّيِّد الْمَقْصُود فِي الْحَوَائِج، تَقول الْعَرَب: صمدت فلَانا أصمده صمدا، بِسُكُون الْمِيم: إِذا قصدته والمصمود صَمد، وَيُقَال: بَيت مصمود إِذا قَصده النَّاس فِي حوائجهم. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو وَائِل) بِالْهَمْزَةِ بعد الْألف كنية شَقِيق بن مسلمة، وَهَذَا ثَبت النَّسَفِيّ هُنَا، وَقد ذكر فِي تَفْسِير الصَّمد مَعَاني كَثِيرَة.
5794 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ منْصُورٍ قَالَ: وَحدثنَا عبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرَنا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ الله: كذَّبَنِي ابنُ آدَمَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ذالِكَ، وشَتَمَني ولَم يَكُنْ لَهُ ذالك؛ أمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّاي أنْ يقُولَ: إنِّي لَنْ أعِيدَهُ كَما بَدَأْتُهُ، وأمَّا شَتْمُهُ إيَّاي أنْ يقُولَ { (2) اتخذ الله ولدا} (الْبَقَرَة: 611) وَأَنا الصَّمدُ الّذِي لَمْ أَلِدْ ولَمْ أُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤا أحَدٌ.
(انْظُر الحَدِيث 3913 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أخرجه عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور الْمروزِي عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر بن رَاشد عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (كَذبَنِي ابْن آدم) ، أَي: بعض بني آدم، وَالْمرَاد بهم المنكرون للبعث من مُشْركي الْعَرَب وَغَيرهم من عباد الْأَوْثَان وَالنَّصَارَى. قَوْله: (وَلم يكن لَهُ ذَلِك) ثَبت هَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَلم يثبت لبَقيَّة الروَاة عَن الْفربرِي، وَكَذَا النَّسَفِيّ. قَوْله: (أما تَكْذِيبه إيَّايَ أَن يَقُول) الْقيَاس: أَن يُقَال: فَأن يَقُول، بِالْفَاءِ وَهَذَا دَلِيل من جوز حذف الْفَاء من جَوَاب أما قَوْله: (وَلم يكن لي كُفؤًا أحد) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: وَلم يكن لَهُ، بطرِيق الِالْتِفَات.
كُفُؤا وكَفيئا وكِفاءً واحدٌ(20/9)
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن كفوا بِضَمَّتَيْنِ بِدُونِ الْهمزَة، وكفيئا على وزن فعيل. وكفاءً على وزن فعال بِالْكَسْرِ بِمَعْنى وَاحِد، والكفؤ الْمثل والنظير وَلَيْسَ لله عز وَجل كفؤ وَلَا مثيل وَلَا شَبيه، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي قَوْله: وَلم يكن لَهُ كُفؤًا أحد، على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير أَي لَيْسَ لَهُ أحد كُفؤًا. وَقَرَأَ حَمْزَة وَيَعْقُوب: كفئا، سَاكِنة الْفَاء ممهوزة وَمثله رُوِيَ الْعَبَّاس عَن أبي عَمْرو وَإِسْمَاعِيل عَن نَافِع وَحَفْص عَن عَاصِم وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَم الْفَاء وَفتح حَفْص الْوَاو بِغَيْر همزَة، وَرُوِيَ فِي الشواذ عَن سُلَيْمَان بن على أَنه قَرَأَ: كفاء، بِكَسْر ثمَّ مد، وَرُوِيَ عَن نَافِع مثله لَكِن بِغَيْر مد.
311 - (سورَةُ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (الفلق: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة: {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} (الفلق: 1) وَفِي بعض النّسخ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} من غير ذكر سُورَة وَفِي بَعْضهَا وَفِي بَعْضهَا سُورَة الفلق.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر.
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول سُفْيَان وَفِي رِوَايَة همام وَسَعِيد عَن قَتَادَة مَكِّيَّة وَكَذَا قَالَه السّديّ وَقَالَ سُفْيَان الفلق وَالنَّاس تزلتا فِيمَا كانلبيد بن الأعصم سحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقصته مسهورة فِي التفاسير وَهِي أَرْبَعَة وَسَبْعُونَ حرفا وَثَلَاث وَعِشْرُونَ كلمة وَخمْس آيَات والفلق الصُّبْح كَذَا روى عَن ابْن عَبَّاس وَعنهُ سجن فِي جَهَنَّم وَعَن السّديّ جب فِي جَهَنَّم وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ يرفعهُ بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ الفلق جب فيجهنم مغطى وَعَن كَعْب الْجب بَيت فِي جَهَنَّم إِذا فتح صَاح أهل النَّار من شَرّ حره وَقيل غير ذَلِك.
{وَقَالَ مُجَاهِد الفلق الصُّبْح وغاسق اللَّيْل إِذا وَقب غرُوب الشَّمْس يُقَال أبين من فرق وفلق الصُّبْح وَقب إِذا دخل فِي كل شَيْء وأظلم}
أَي قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} أَن الْغَاسِق اللَّيْل وَإِذا وَقب غرُوب الشَّمْس وَكَذَا روى عَن أبي عُبَيْدَة ووقب من الوقوب وَهُوَ غرُوب الشَّمْس وَالدُّخُول فِي موضعهَا وَيُقَال وَقب إِذا دخل فِي كل شَيْء وأظلم وَهُوَ كَلَام الْفراء وَكَذَا قَوْله يُقَال أبين من فرق وفلق الصُّبْح من كَلَام الْفراء.
472 - حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا سُفْيَان عَن عَاصِم وَعَبدَة عَن زر بن حُبَيْش قَالَ سَأَلت أبي بن كَعْب عَن المعوذتين فَقَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لي فَقلت فَنحْن نقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وسُفْيَان وَهُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعَاصِم هُوَ ابْن أبي النجُود بِفَتْح النُّون وَضم الْجِيم وبالمهملة أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة وَعَبدَة ضد الْحرَّة ابْن أبي لبَابَة بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْمُوَحدَة الأولى الْأَسدي وزر بِكَسْر الزَّاي وَشدَّة الرَّاء ابْن جبيش مصغر الْحَبَش بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة قَوْله: (عَن المعوذتين) بِكَسْر الْوَاو وَمعنى السُّؤَال عَنْهُمَا لأجل قَول ابْن مَسْعُود أَن المعوذتين ليستا من الْقُرْآن فَسَأَلَ عَنْهُمَا من أَبى من هَذِه الْجِهَة فَقَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ قيل لي أعوذ أَي إقرأنيهما جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يعْنى أَنَّهُمَا من الْقُرْآن قَوْله (فَنحْن نقُول) من كَلَام أبي رضى الله تَعَالَى عَنهُ.
(سُورَة {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} )
أَي هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة (قل أعوذ بِرَبّ النَّاس) وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ: سُورَة وَفِي بَعْضهَا بِسُورَة النَّاس، وَهِي مَدَنِيَّة، وَهِي تِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وَعِشْرُونَ كلمة، وست آيَات.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: الوَسْوَاسِ إذَا وُلِدَ خَنَسَةُ الشّيْطانُ فإِذَا ذُكِرَ الله عَزَّ وجلَّ ذَهَبَ، وإذَا لَمْ يُذْكَرِ الله ثَبَتَ علَى قَلْبِهِ(20/10)
كَذَا فِي وَقع لغير أبي ذَر، وَوَقع لَهُ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْأول أولى لِأَن إِسْنَاد الحَدِيث إِلَى ابْن عَبَّاس ضَعِيف أخرجه الطَّبَرِيّ وَالْحَاكِم فِي إِسْنَاده حَكِيم بن جُبَير وَهُوَ ضَعِيف، وَلَفظه: مَا من مَوْلُود إلاَّ على قلبه الوسواس، فَإِذا عمل فَذكر الله خنس، وَإِذا غفل وسوس. قَوْله: (خنس الشَّيْطَان) ، قَالَ الصَّاغَانِي الأولى نخسه الشَّيْطَان، مَكَان خنسه الشَّيْطَان، فَإِن سلمت اللَّفْظَة من الانقلاب والتصحيف فَالْمَعْنى، وَالله أعلم: أَخّرهُ وأزاله عَن مَكَانَهُ لشدَّة نخسه وطعنه فِي خاصرته.
7794 - حدَّثنا عَليُّ بنُ عبْد الله حدّثنا سُفْيانُ حدّثنا عَبْدَةُ بنُ أبِي لُبابَةَ عنْ زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ وحدّثنا عاصِمٌ عنْ زِرٍّ قَالَ: سألْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ قُلْتُ: يَا أَبَا المُنْذِرِ! إنَّ أخاكَ ابنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وكَذَا، فَقَالَ أبَيُّ: سألْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لِي: قِيلَ لي. فَقُلْتُ. قَالَ، فَنَحْنُ نَقُولُ كَما قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن أبي كَعْب أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَحدثنَا عَاصِم) الْقَائِل: وَحدثنَا عَاصِم، هُوَ سُفْيَان وَكَأَنَّهُ كَانَ يجمعهما تَارَة ويفردهما أُخْرَى، وَأَبُو الْمُنْذر كنية أبي بن كَعْب وَله كنيته أُخْرَى: أَبُو الطُّفَيْل. قَوْله: (إِن أَخَاك) يَعْنِي فِي الدّين. قَوْله: (كَذَا وَكَذَا) ، يَعْنِي: أَنَّهُمَا ليستا من الْقُرْآن. قَوْله: (قيل لي) ، أَي: إنَّهُمَا من الْقُرْآن، وَهَذَا كَانَ مِمَّا اخْتلف فِيهِ الصَّحَابَة ثمَّ ارْتَفع الْخلاف وَوَقع الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، فَلَو أنكر الْيَوْم أحد قرآنيتهما كفر، وَقَالَ بَعضهم: مَا كَانَت الْمَسْأَلَة فِي قرآنيتهما بل فِي صفة من صفاتهما وخاصة من خاصتهما، وَلَا شكّ أَن هَذِه الرِّوَايَة تحتملهما، فالحمل عَلَيْهَا أولى وَالله أعلم. فَإِن قلت: قد أخرج أَحْمد وَابْن حَيَّان من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم بِلَفْظ: أَن ابْن مَسْعُود كَانَ لَا يكْتب المعوذتين فِي مصحفه، وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زيادات الْمسند وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ. قَالَ: كَانَ عبد الله بن مَسْعُود يحك المعوذتين من مصاحفه، وَيَقُول: إنَّهُمَا ليستا من الْقُرْآن، أَو من كتاب الله تَعَالَى. قلت: قَالَ الْبَزَّار: لم يُتَابع ابْن مَسْعُود على ذَلِك أحدٌ من الصَّحَابَة، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَرَأَهَا فِي الصَّلَاة، وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم عَن عبة بن عَامر وَزَاد فِيهِ ابْن حَيَّان من وَجه آخر عَن عقبَة بن عَامر فَإِن اسْتَطَعْت أَن لانفوتك قراءتهما فِي صَلَاة فافعل، وَأخرج أَحْمد من طَرِيق أبي الْعَلَاء بن الشخير عَن رجل من الصَّحَابَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرأه المعوذتين، وَقَالَ لَهُ: إِذا أَنْت صليت فاقرأ بهما، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَرُوِيَ سعيد بن مَنْصُور من حَدِيث معَاذ بن جبل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الصُّبْح فَقَرَأَ فيهمَا بالمعوذتين قَوْله: (قَالَ: فَنحْن نقُول) ، الْقَائِل هُوَ أبي بن كَعْب.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
تثبت الْبَسْمَلَة لأبي ذَر وَحده.
66 - (كِتابُ فَضائِلِ القُرْآنِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان فَضَائِل الْقُرْآن، وَلم يَقع لفظ كتاب، إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، والمناسبة بَين كتاب التَّفْسِير وَبَين كتاب فَضَائِل الْقُرْآن ظَاهِرَة لَا تخفي، والفضائل جمع فَضِيلَة قَالَ الْجَوْهَرِي: الْفضل والفضيلة خلاف النَّقْص والنقيصة.
1 - (بابٌ: كَيْفَ نُزُولُ الوَحْي وأوَّلُ مَا نَزلَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة نزُول الْوَحْي وَبَيَان أول مَا نزل من الْوَحْي. قَوْله: (كَيفَ نزُول الْوَحْي) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: كَيفَ نزل الْوَحْي، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَقَالَ بَعضهم، كَيفَ نزُول الْوَحْي: بِصِيغَة الْجمع. قلت: كَأَنَّهُ ظن من عدم وُقُوفه على الْعُلُوم الْعَرَبيَّة أَن لفظ النُّزُول جمع وَهُوَ غلط فَاحش، وءنما هُوَ مصدر من نزل ينزل نزولاً وَقد تقدم فِي أول الْكتاب كَيْفيَّة نُزُوله وَبَيَان أول مَا نزل.(20/11)
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ المُهَيْمِنُ الأَمِينُ القُرْآنُ أمِينٌ علَى كلِّ كِتابٍ قَبْلَهُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ} (الْمَائِدَة: 84) وَفسّر الْمُهَيْمِن بالأمين، وَمن أَسمَاء الله تَعَالَى: الْمُهَيْمِن، قيل: أَصله مؤيمن فَقبلت الْهمزَة هَاء كَمَا قبلت فِي أرقت. هرقت، وَمَعْنَاهُ: الْأمين الصَّادِق وعده، وَذكر لَهُ معَان أخر. قَوْله: (الْقُرْآن أَمِين على كل كتاب قبله) يَعْنِي: من الْكتب والصحف الْمنزلَة على الْأَنْبِيَاء وَالرسل، عَلَيْهِم السَّلَام، وَأثر ابْن عَبَّاس هَذَا رَوَاهُ عبد بن حميد فِي تَفْسِيره عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعت التَّمِيمِي عَن ابْن عَبَّاس.
9794 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى اعنْ شْيْبَانِ عنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَة، قَالَ: أخبرَتْنِي عائِشَةُ وابنَ عَبَّاسٍ، رَضِي الله عنهُمْ، قَالَا: لَبِثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَليْهِ القُرْآنُ وبالمَدِينةِ عَشْرا..
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة الظَّاهِرَة وشيبان أَبُو معوية النَّحْوِيّ؛ وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي.
قَوْله: (عشرا) مُهِمّ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: عشر سِنِين، يذكر مميزه وَهُوَ يُفَسر الْإِبْهَام الْمَذْكُور، فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا مَا ذكره أَيْضا من حدث ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت عَمْرو بن دِينَار: قلت لعروة إِن ابْن عَبَّاس يَقُول: لبث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة بضع عشر سنة قلت يحمل الأول على أَنه من حَيْثُ حمي الْوَحْي وتتابع وَرِوَايَة مقَامه بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة يُرِيد من حِين الْبعْثَة، وَقيل: يحمل على أَن إسْرَافيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وكل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث سِنِين ثمَّ جَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْقُرْآنِ.
0894 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حدّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أبي عَن عُثْمانَ، قَالَ: أُنْبِئْتُ أنَّ جبْريلَ أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعِنْدَهُ أُمُّ سَلمَةَ، فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمِّ سَلَمَةَ: مَنْ هاذَا؟ أوْ كَمَا قَالَ؟ قالَتْ: هاذَا دِحْيَةُ، فلَمَّا قامَ قالَتْ: وَالله مَا حَسِبْتُهُ إلاَّ إيَّاهُ حتَّى سمِعْتُ خُطْبَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ، أوْ كَما قَالَ: قَالَ أبي: قُلْتُ لأبي عُثْمانَ. مِمَّنْ سَمِعْتَ هذَا؟ قَالَ: مِنْ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ..
هَذَا أَيْضا يُطَابق الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة، ومعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان التَّمِيمِي، يروي عَن أَبِيه عَن أبي عُثْمَان عبد الرَّحْمَن الْهِنْدِيّ، بِفَتْح النُّون؟ والْحَدِيث قد مُضر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَبَّاس بن الْوَلِيد النَّرْسِي.
قَوْله: (أنبئت) على صِيغَة الْمَجْهُول من الإنباء أَي: أخْبرت. قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (مَا حسبته إلاَّ إِيَّاه) كَلَام أم سَلمَة قَوْله: (يخبر خبر جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ويروي بِخَبَر جِبْرِيل بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة مُسلم: فَقَالَت: أَيمن الله مَا حسبته إلاَّ إِيَّاه. قَوْله: (إلاَّ إِيَّاه) أَي: دحْيَة. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون هَذَا فِي قصَّة بني قُرَيْظَة فقد وَقع فِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكلم رجلا وَهُوَ رَاكب، فَلَمَّا دخل قلت: من هَذَا الَّذِي كنت تكَلمه؟ قَالَ: بِمن تشبهين؟ قلت: بِدِحْيَةَ. قَالَ: ذَاك جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، يَأْمُرنِي أَن أمضي إِلَى بني قُرَيْظَة. قلت: هَذَا بعيد من وُجُوه: الأول: أَن الرائية فِي حَدِيث الْبَاب أم سَلمَة وَهنا عَائِشَة. وَالثَّانِي: فِيهِ اخْتِلَاف الروَاة عَنْهُمَا الثَّالِث: أَن الظَّاهِر أَن أم سَلمَة رَأَتْهُ فِي بَيتهَا وَعَائِشَة رَأَتْهُ خَارج بَيتهَا لقولها. فَلَمَّا دخل، وَأَنَّهَا رَأَتْهُ وَهُوَ رَاكب، فعلى كل الْوُجُوه لَا دلَالَة على أَن قصَّة أم سَلمَة كَانَت فِي قصَّة بني قُرَيْظَة، وَالله أعلم. قَوْله: (قَالَ أبي) بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، أَي: قَالَ مُعْتَمر بن سُلَيْمَان. قَالَ أبي: لأبي عُثْمَان، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور: مِمَّن سَمِعت هَذَا الحَدِيث؟ قَالَ: سمعته من أُسَامَة بن زيد الصَّحَابِيّ، حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر أَبُو مَسْعُود هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أُسَامَة وَكَذَلِكَ الْحَافِظ(20/12)
الْمزي، وَقَالَ الْحميدِي فِي مُسْند أم سَلمَة: وَقَالُوا: فِيهِ فَضِيلَة أم سَلمَة ودحية، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر لِأَن أَكثر الصَّحَابَة رَأَوْا جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي صُورَة الرجل. قلت: هَذَا فِيهِ نظر لِأَن ذكر هَذَا الْأُم سَلمَة فَضِيلَة لَا يسْتَلْزم نفي فَضِيلَة غَيرهَا من النِّسَاء. وَقَوله: أَكثر الصَّحَابَة رَأَوْا جِبْرِيل، غير مُسلم على مَا لَا يخفى.
1894 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حَدثنَا اللَّيْتُ حدَثنا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا منَ الأنبياءِ نَبيٌّ إِلَّا اعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَليْهِ البَشَرُ وإنَّما كانَ الَّذِي أوتِيتُهُ وحْيا أوْحاهُ الله إليَّ، فأرْجُو أنْ أكْثَرَهُمْ تابِعا يَوْمَ القِيامَةِ.
مطقابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أُوتِيتهُ وَحيا أوحاه الله) وَسَعِيد المَقْبُري يروي عَن أَبِيه كيسَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة. قَوْله: (مَا من الْأَنْبِيَاء نَبِي إلاَّ أعطي) يدل على أَن النَّبِي لَا بُد لهمن معجزه تَقْتَضِي إِيمَان من شَاهدهَا بصدقه وَلَا يضرّهُ مِمَّن أصر على المعاندة. قَوْله: (مَا مثله) كلمة: مَا، مَوْصُولَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان لأعطي. قَوْله: (مثله) مُبْتَدأ. (وآمن عَلَيْهِ الْبشر) خَبره، وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول، والمثل يُطلق وَيُرَاد بِهِ عين الشَّيْء أَو مَا يُسَاوِيه. قَوْله: (عَلَيْهِ) الْقيَاس يَقْتَضِي أَن يُقَال: بِهِ، لِأَن الْأَيْمَان يسْتَعْمل بِالْبَاء أَو بِاللَّامِ وَلَا يسْتَعْمل بعلى، وَلَكِن فِيهِ تضمين معنى الْغَلَبَة أَي: يُؤمن بذلك مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع دَفعه عَن نَفسه، لَكِن قد يخذل فيعاند، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لفظ (عَلَيْهِ) هُوَ حَال أَي: مَغْلُوبًا عَلَيْهِ فِي التحدي والمباراة، أَي: لَيْسَ نَبِي إلاّ قد أعطَاهُ الله من المعجزات الشَّيْء الَّذِي صفتُه أَنه إِذا شوهد اضْطر الشَّاهِد إِلَى الْأَيْمَان بِهِ، وتحريره أَن كل نَبِي اخْتصَّ بِمَا يثبت دَعْوَاهُ من خارق الْعَادَات بِحَسب زَمَانه: كقلب الْعَصَا ثعبانا، لِأَن الْغَلَبَة فِي زمَان مُوسَى للسحر، فَأَتَاهُم بِمَا فَوق السحر فاضطرهم إِلَى الْأَيْمَان بِهِ، وَفِي زمَان عِيسَى الطِّبّ، فجَاء بِمَا هُوَ أَعلَى من الطِّبّ وَهُوَ إحْيَاء الْمَوْتَى، وَفِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البلاغة فَجَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ. قَوْله: (آمن) ، وَقع فِي رِوَايَة حَكَاهَا ابْن قرقول (أَو من) بِضَم ثمَّ وَاو، قَالَ أَبُو الْخطاب: كَذَا قيدناه فِي رِوَايَة الْكشميهني وَالْمُسْتَمْلِي، وَقَالَ ابْن دحْيَة: وَقَيده بَعضهم أَيمن بِكَسْر الْهمزَة بعْدهَا يَاء وَمِيم مَضْمُومَة، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: أَمن بِغَيْر مدمن الْأمان، وَالْكل رَاجع إِلَى معنى: الْإِيمَان، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف فِي معنى هَذَا الحَدِيث على أَقْوَال: أَحدهَا: أَن كل نَبِي أعْطى من المعجزات مَا كَانَ مثله لمن كَانَ قبله من الْأَنْبِيَاء فَآمن بِهِ الْبشر وَأما معجزتي الْعَظِيمَة الظَّاهِرَة فَهِيَ الْقُرْآن الَّذِي لم يُعْط أحد مثله فَلهَذَا أَنا أَكْثَرهم تبعا. وَالثَّانِي: أَن الَّذِي أُوتِيتهُ لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تخييل بِسحر أَو تَشْبِيه، بِخِلَاف معْجزَة غَيْرِي فَإِنَّهُ قد يخيل السَّاحر بِشَيْء مِمَّا يُقَارب صورتهَا كَمَا خيلت السَّحَرَة فِي صُورَة عَصا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، والخيال قد يروج على بعض الْعَوام، وَالْفرق بَين المعجزة والتخييل يحْتَاج إِلَى فكر، فقد يخطىء النَّاظر فيعتقدهما سَوَاء. وَالثَّالِث: أَن معجزات الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، انقرضت بانقراضهم وَلم يشاهدها إلاَّ من حضرها بحضرتهم، ومعجزة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن المستمر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: (وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتهُ وَحيا) كلمة: إِنَّمَا، للحصر، ومعجزة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن منحصرة فِي الْقُرْآن، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه أعظم معجزاته وأفيدها فَإِنَّهُ يشْتَمل على الدعْوَة وَالْحجّة وَينْتَفع بِهِ الْحَاضِر وَالْغَائِب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلهَذَا راتب عمله قَوْله: (فأرجوان أكون أَكْثَرهم) أَي: أَكثر الْأَنْبِيَاء تَابعا أَي أمة تظهر يَوْم الْقِيَامَة.
2984 - حدَّثنا عمْرُو بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا أبي عنْ صالِحِ بنِ كيْسانَ عنِ ابنِ شِهابٍ. قَالَ: أخبَرَنِي أنَسُ بْنُ مالِكٍ، رَضِي الله عَنهُ، أنَّ الله تَعَالَى تابَعَ علَى رسولهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوَحْيَ قَبْلَ وفاتِهِ حتَّى تَوَفَّاهُ أكْثَرَ مَا كانَ الوَحْيُ، ثُمَّ تُوفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وعمرود وبالفتح ابْن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ الملقب بالناقد، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن النَّاقِد وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي(20/13)
فَضَائِل الْقُرْآن عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور.
قَوْله: (تَابع) أَي أنزل الله تَعَالَى الْوَحْي مُتَتَابِعًا متواترا أَكثر مِمَّا كَانَ، وَكَانَ ذَلِك قرب وَفَاته قَوْله: (حَتَّى توفاه أَكثر مَا كَانَ الْوَحْي) أَي: الزَّمَان الَّذِي وَقعت فِيهِ وَفَاته مَا كَانَ نزُول الْوَحْي فِيهِ أَكثر من غَيره من الْأَزْمِنَة. قَوْله: (بعد) بِالضَّمِّ مَبْنِيّ لقطع الْإِضَافَة عَنهُ أَي: بعد ذَلِك.
3894 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سفْيانخ عَن الأسْوَدِ بنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جنْدَبا يَقُولُ: اشْتَكَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلمْ يَقُمْ لَيْلةً أوْ لَيْلَتَيْنِ، فأنَتْهُ امْرَأةٌ فقالَتْ: يَا مُحَمَّدُ! مَا أرَى شيْطانَكَ إلاّ قَدْ تَرَكَكَ؟ فأنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} (الضُّحَى: 1 3) ..
وَجه إِيرَاده هَذَا الحَدِيث هُنَا الْإِشَارَة إِلَى أَن تَأْخِير النُّزُول لَا لقصد التّرْك أصلا وَإِنَّمَا هُوَ لوجوه من الْحِكْمَة: تسهيل حفظه، لِأَنَّهُ لَو نزل دفْعَة وَاحِدَة لشق عَلَيْهِم لأَنهم أمة أُميَّة وغالبهم لَا يقْرَأ أَو لَا يكْتب، وَتردد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عز وَجل إِلَيْهِ وَلَا يَنْقَطِع إِلَى أَن يلقى الله تَعَالَى، ونزوله بِحَسب الوقائع والمصالح، وَكَون الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف مُنَاسِب أَن ينزل مفرقا إِذْ فِي نُزُوله دفْعَة وَاحِدَة كَانَت مشقة عَلَيْهِم.
والْحَدِيث مر عَن قريب فِي سُورَة الضُّحَى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن الْأسود، وَهنا أخرجه عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الْأسود. وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
2 - (بابٌ نزَلَ القُرْآنُ بلِسانِ قُرَيْشٍ والعَرَبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقُرْآن نزل بِلِسَان قُرَيْش، أَي: معظمه وَأَكْثَره، لِأَن فِي الْقُرْآن همزا كثيرا وقريش لَا تهمز، وَفِيه كلمت على خلاف لُغَة قُرَيْش، وَقد قَالَ الله تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبيا} (طه: 311) وَلم يقل: قرشيا، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: (بِلِسَان قُرَيْش) أَي: ابْتِدَاء نُزُوله ثمَّ أُبِيح أَن يقْرَأ بلغَة غَيرهم قَوْله: (وَالْعرب) أَي: ولسان الْعَرَب، وَهُوَ من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص لِأَن قُريْشًا من الْعَرَب لَكِن فَائِدَة ذكر قُرَيْش بِعَدَد دُخُوله فِي الْعَرَب لزِيَادَة شرف قُرَيْش على غَيرهم من الْعَرَب، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} (الْحجر: 78) . وَقَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه علم الْأَوْلِيَاء إِن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الله تَعَالَى لم ينزل وَحيا قطّ إلاَّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَترْجم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، لكل رَسُول بِلِسَان قومه، وَالرَّسُول صَاحب الْوَحْي يترجم بِلِسَان أُولَئِكَ، فَأَما الْوَحْي فباللسان الْعَرَبِيّ.
{ (20) قُرْآنًا عَرَبيا} (طه: 311) بِلِسانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ
ذكر هَذَا فِي معرض الِاسْتِدْلَال بِأَن الْقُرْآن على لِسَان الْعَرَب، وَلِهَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر لقَوْل الله تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبيا} (طه: 311) بسان عَرَبِيّ مُبين.
4894 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ حَدثنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ، وأخْبَرني أنَسُ بنُ مالِكٍ قَالَ: فأمَرَ عُثْمانُ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ وسَعِيدَ بنَ العاصِ وعبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ وعبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ أنْ يَنْسَخُوها فِي المَصاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ أنْتُمْ وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ فِي عَرَبِيةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ القُرْآنِ فاكْتُبُوها بلِسانِ قُرَيْشٍ فإِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسانِهِم ففَعَلُوا.
(انْظُر الحَدِيث 6053 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاكتبوها بِلِسَان قُرَيْش) وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر مرَارًا كَثِيرَة مَعَ اخْتِلَاف الْمُتُون.
والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب نزُول الْقُرْآن بِلِسَان قُرَيْش فِي: بَاب المناقب.
قَوْله: (وَأَخْبرنِي) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: فَأَخْبرنِي، بِالْفَاءِ قَوْله: (أَن ينسخوها) ، أَي: السُّور والآيات الَّتِي أحضرت من بَيت حَفْصَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أَن ينسخوا مَا فِي الْمَصَاحِف، أَي ينقلوا الَّذِي فِيهَا إِلَى مصاحف أُخْرَى، وَالْأول هُوَ الْمُعْتَمد لِأَنَّهُ كَانَ فِي صحف لَا فِي مصاحف، وَقد ذكر عَن ابْن شهَاب أَنه قَالَ: اخْتلفُوا يومذ فِي التابوت، فَقَالَ زيد بن ثَابت إِنَّه التابوه، وَقَالَ ابْن الزبير وَمن مَعَه التابوت،(20/14)
فترافعوا إِلَى عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ: أكتبوه التابوت بلغَة قُرَيْش. قَوْله: (فِي عَرَبِيَّة) أَي: فِي لُغَة عَرَبِيَّة من عَرَبِيَّة الْقُرْآن أَي: من لغته قَوْله: (فَإِن الْقُرْآن أنزل بلسانهم) أَي: بِلِسَان قُرَيْش، وَالْمرَاد مُعظم الْقُرْآن كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله: (فَفَعَلُوا) أَي: فَفعل هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الَّذِي أَمر بِهِ عُثْمَان من كِتَابَة الْقُرْآن بلغَة قُرَيْش، وَقَالَ ابْن عَبَّاس نزل الْقُرْآن بلغَة قُرَيْش ولسان خُزَاعَة لِأَن الدَّار كَانَت وَاحِدَة، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا أفصحكم لأنى من قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد بن مَالك فَلَا يجب لذَلِك أَن يُقَال: الْقُرْآن نزل بلغَة سعد بن بكر، بل لَا يمْنَع أَن يُقَال: بلغَة أفْصح الْعَرَب وَمن دونهَا فِي الفصاحة إِذا كَانَت فصاحتهم غير مُتَفَاوِتَة، وَقد جَاءَت الرِّوَايَات أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ بلغَة قُرَيْش وَغير لغتها، كماأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن الْفضل ابْن أبي خَالِد، سَمِعت أَبَا الْعَالِيَة يَقُول: قَرَأَ الْقُرْآن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَمْسَة رجال، فَاخْتَلَفُوا فِي اللُّغَة فَرضِي قراءتهم كلهَا، وَكَانَ بَنو تَمِيم أعرب الْقَوْم، فَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يقْرَأ بلغَة بني تَمِيم وخزاعة وَأهل لُغَات مُخْتَلفَة قد أقرّ جَمِيعهَا ورضيها.
5894 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا همَّامٌ حَدثنَا عَطاءٌ.
(ح) وَقَالَ مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيى عنِ ابنِ جُرَيْحٍ قَالَ: أَخْبرنِي عَطاء قَالَ أخْبرَني صَفْوَانُ بنُ يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ أنَّ يَعْلَى كانَ يَقُولُ: لَيْتَني أرَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حينَ يُنْزَلُ علَيْهِ الوَحْيُ، فَلمَّا كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجعْرَانَة وعلَيْه ثَوْبٌ قَدْ أظَلَّ عليْهِ ومَعَهُ ناسٌ مِنْ أَصْحابهِ، إذْ جاءَهُ رجُلٌ مُتَضَمِّخُ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رسُولَ الله! كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فنظَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساعَةً فَجاءَهُ الوَحْيُ، فأشارَ عُمَرُ إلَى يَعْلَى أنْ تَالَ، فَجاءَ يَعْلى فأدْخَلَ رأسَهُ، فإِذا هُوَ مُحْمَرُّ الوَجْهِ يَغِظُّ كذالِكَ ساعَةً ثُمَّ سُرِّي عَنْهُ، فَقَالَ: أيْنَ الّذِي يَسْألَني عنِ العُمْرةِ آنِفا؟ فالْتُمِسَ الرَّجُل فَجِيءَ بهِ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وأمّا الجُبَّةُ فانْزِعْها ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ..
قيل: وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التَّنْبِيه على أَن الْقُرْآن وَالسّنة كِلَاهُمَا بِوَحْي وَاحِد ولسان وَاحِد، وَقيل: أَشَارَ البُخَارِيّ بذلك إِلَى أَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} (إِبْرَاهِيم: 4) لَا يسْتَلْزم أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل بِلِسَان قُرَيْش فَقَط لكَوْنهم قومه، بل أرسل بِلِسَان جَمِيع الْعَرَب لِأَنَّهُ أرسل إِلَيْهِم كلهم بِدَلِيل أَنه خَاطب الْأَعرَابِي الَّذِي سَأَلَهُ بِمَا يفهمهُ بعد أَن نزل الْوَحْي عَلَيْهِ بِجَوَاب مَسْأَلته، فَدلَّ أَن الْوَحْي كَانَ ينزل عَلَيْهِ بِمَا بفهمه من الْعَرَب، قرشيا كَانَ أَو غير قرشي، وَالْوَحي أَعم من أَن يكون قُرْآنًا يُتْلَى أَو لَا يُتْلَى، وَقيل غير ذَلِك، وَالْكل لَا يشفى العليل وَلَا يروي الغليل، وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: ذكر هَذَا الحَدِيث فِي التَّرْجَمَة الَّتِي قبل هَذِه أظهر وَأبين، فَلَعَلَّ ذَلِك وَقع من بعض النساخ. وَقَالَ آخر مثله وَهُوَ: أَن إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله أليق، ثمَّ اعتذر عَنهُ، فَقَالَ: فَلَعَلَّهُ قصد التَّنْبِيه على أَن الْوَحْي بِالْقُرْآنِ وَالسّنة كَانَ على صفة وَاحِدَة لِسَان وَاحِد؟ انْتهى. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْحَج فِي: بَاب إِذا أحرم جَاهِلا وَعَلِيهِ قَمِيص، وَأخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد بن همام عَن عَطاء،. قَالَ: حَدثنِي صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه الحَدِيث، وَهنا أخرجه عَن أبي نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن عَن همام بن يحيى عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن صَفْوَان بن يعلى إِلَى آخِره. وَأخرجه من طَرِيق آخر بقوله: وَقَالَ مُسَدّد، وَهَذَا بطرِيق المذاكرة مَعَ أَن مُسَددًا شَيْخه وَهُوَ يروي عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. والجعرانة بِسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَقد تكسر وتشدد الرَّاء، وَهِي مَوضِع قريب من مَكَّة، وَهِي فِي الْحل ومقيات للْإِحْرَام. والتضمخ بالمعجمتين التلطخ، وغطيط النَّائِم نخيره، وسري أَي كشف(20/15)
وأزيل عَنهُ.
3 - (بابُ جَمْعِ القُرْآنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة جمع الْقُرْآن، وَالْمرَاد بِهِ جمع مَخْصُوص وَهُوَ جمع المتفرق مِنْهُ فِي صحف ثمَّ تجمع تِلْكَ الصُّحُف فِي مصحف وَاحِد مُرَتّب السُّور والآيات.
6894 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْماعِيلَ عنْ إبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ حَدثنَا ابنُ شِهابٍ عَنْ عُبَيْدٍ بنِ السَّبَّاقِ: أنَّ زَيْدَ بن ثابِتٍ، رضيَ الله عنهُ قَالَ: أرْسَلَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهْلِ اليَمامَةِ فَإِذا عُمَرُ بنُ الخَطّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أبُو بَكْرٍ، رَضِي الله عَنهُ: إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ وإنِّي أخْشَى أنْ يَسْتَحرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ بالمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وإنِّي أرَى أنْ تأمُرَ بِجَمْعِ القُرْآن. قلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئا لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ عُمَرُ: هاذا وَالله خَيْرٌ، فَلَمْ يَزلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِذَلِكَ ورَأيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأى عُمَر.
قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّكَ رجُلٌ شَاب عاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَتَتَبَّعِ القَرْآنَ فاجْمَعْهُ. فَوَالله لوْ كَلَّفُوني نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبالِ مَا كانَ أثْقَلَ عَليَّ مِمَّا أمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئا لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: هُوَ وَالله خَيْرٌ، فَلمْ يزَل أبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُني حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ واللِّخافِ وصُدُرِ الرِّجالِ حتَّى وجَدْتُ آخِرَ سورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أبي خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ لَمْ أجِدْها معَ أحَدٍ غَيْرِهِ { (9) لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم} (التَّوْبَة: 821) حتَّى خاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أبي بَكْرٍ حتَّى تَوَفَّاهُ الله ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنتِ عُمَرَ رضِي الله عَنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبيد بن السباق، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمدنِي التَّابِعِيّ، يكنى أَبَا سعيد وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث. لَكِن كَرَّرَه فِي الْأَبْوَاب.
والْحَدِيث مضى فِي التَّفْسِير فِي آخر سُورَة بَرَاءَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي ابْن السباق أَن زيد بن ثَابت إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم فِي بعض شَيْء.
فَقَوله: (مقتل أهل الْيَمَامَة) أَي: بعد قتل مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَقتل من الْقُرَّاء يَوْمئِذٍ سَبْعمِائة وَقيل أَكثر. قَوْله: (قد استحر) بسين مُهْملَة ومثناة من فَوق مَفْتُوحَة وحاء مُهْملَة مَفْتُوحَة وَرَاء مُشَدّدَة أَي: اشْتَدَّ وَكثر وَهُوَ على وزن استفعل من الْحر خلاف الْبرد قَوْله: (بالمواطن) ، أَي: فِي المواطن أَي الْأَمَاكِن الَّتِي يَقع فِيهَا الْقِتَال مَعَ الْكفَّار. قَوْله: (لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ الْخطابِيّ وَغَيره: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا لم يجمع الْقُرْآن فِي الصُّحُف لما كَانَ يترقب من وُرُود نَاسخ لبَعض أَحْكَامه أَو تِلَاوَته، فَلَمَّا انْقَضى نُزُوله بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألهم الله الْخُلَفَاء الرَّاشِدين ذَلِك وَفَاء لوعده الصَّادِق بِضَمَان حفظه على هَذِه الْأمة المحمدية، فَكَانَ ابْتِدَاء ذَلِك على يَد الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بمشورة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه ابْن أبي دَاوُد فِي الْمَصَاحِف بِإِسْنَاد حسن عَن عبد خير قَالَ: سَمِعت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: أعظم النَّاس فِي الْمَصَاحِف أجرا أَبُو بكر رَحْمَة الله على أبي بكر، هُوَ أول من جمع كتاب الله. فَإِن قلت: أخرج ابْن أبي دَاوُد فِي الْمَصَاحِف من طَرِيق ابْن سِيرِين، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لما مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلَيْت أَن لَا آخذ على رِدَائي إلاَّ لصَلَاة جُمُعَة حَتَّى أجمع الْقُرْآن، فَجَمعه قلت: إِسْنَاده ضَعِيف لانقطاعه، وَلَئِن سلمنَا كَونه(20/16)
مَحْفُوظًا فمراده بجمعه حفظه فِي صَدره قَوْله: (وَالله خير) ، يَعْنِي: خير فِي زمانهم. قَوْله: (فتتبع الْقُرْآن) صِيغَة أَمر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (فاجمعه) قَوْله: (فتتبعت الْقُرْآن أجمعه) حَال أَي: حَال كوني أجمعه، وَقت التتبع. قَوْله: (من العسب) بِضَم الْعين وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ بعدهمَا بَاء مُوَحدَة جمع عسب وَهُوَ جريد النّخل كَانُوا يكشطون الخوص ويكتبون فِي الطّرف العريض، وَقيل: العسب طرف الجريد العريض الَّذِي لم ينْبت عَلَيْهِ الخوص، وَالَّذِي ينْبت عَلَيْهِ الخوص هُوَ السعف، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب: الْقصب والعسب والكرانيف وجرائد النّخل. وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي التَّفْسِير من الرّقاع، الأكتاف والعسب وصدور الرِّجَال، والرقاع جمع رقْعَة، وَقد يكون من جلد أَو ورق أَو كاغد، وَفِي رِوَايَة عمَارَة بن غزيَّة: وَقطع الْأَدِيم. وَفِي رِوَايَة ابْن أبي دَاوُود من طَرِيق أبي دَاوُود الذيالسي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد: والصحف وَفِي رِوَايَة ابْن أبي دَاوُد والأضلاع، وَعِنْده أَيْضا: والاقتاب جمع قتب الْبَعِير. قَوْله: (واللخاف) ، بِكَسْر اللَّام وبالخاء الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف فَاء وَهُوَ جمع لخفة، بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْحجر الْأَبْيَض الرَّقِيق، وَقَالَ الْخطابِيّ: اللخاف صَفَائِح الْحِجَارَة الرقَاق. قَوْله: (مَعَ أبي خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ) وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد مَعَ خُزَيْمَة بن ثَابت، أخرجه أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ، وَرِوَايَة من قَالَ: مَعَ أبي خُزَيْمَة أصح، وَالَّذِي وجد مَعَه آخر سُورَة التَّوْبَة أَبُو خُزَيْمَة بالكنية، وَالَّذِي وجد مَعَه الْآيَة من الْأَحْزَاب خُزَيْمَة، وَاسم أبي خُزَيْمَة لَا يعرف وَهُوَ مَشْهُور بكنيته وَهُوَ ابْن أَوْس بن زيد بن أَصْرَم. قَوْله: (فَكَانَت) أَي: الصُّحُف الَّتِي جمعهَا زيد بن ثَابت عِنْد أبي بكر إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى. قَوْله: (ثمَّ عِنْد عمر حَيَاته) ، أَي: ثمَّ كَانَت عِنْد عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مُدَّة حَيَاته. قَوْله: (ثمَّ عِنْد حَفْصَة) ، أَي: ثمَّ بعد عمر كَانَت عِنْد حَفْصَة بنت عمر فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا كَانَت عِنْد حَفْصَة لِأَن عمر أوصى بذلك فاستمرت عِنْدهَا إِلَى أَن طلبَهَا من لَهُ الطّلب.
7894 - حدَّثنا مُوسى احدّثنا إبْرَاهيم حَدثنَا ابنُ شِهاب: أنَّ أنَسَ بنَ مالِكٍ حدَّثَهُ أنَّ حذَيْفَةَ ابنَ اليَمانِ قَدِمَ علَى عُثْمانَ، وكانَ يُغازي أهْلع الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وأذْرَبِيجانَ مَعَ أهْلِ العِرَاقِ، فأفْزعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَة، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمانَ: يَا أميرَ المُؤْمِنينَ أدْرِكَ هذِه الأُمَّةَ قَبْلَ أنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ والنصارَى، فأرْسَلَ عثْمانُ إِلَى حَفْصَةَ أنْ أرْسِلِي إليْنا بالصُّحُفِ نَنْسَخُها فِي المصاحِفِ ثُمَّ نَزُدها إليْكِ، فأرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إِلَى عُثْمانَ فأمَرَ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ وعَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ وسَعِيدَ بنَ الْعاصِ وعبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوها فِي المَصاحِفِ. وَقَالَ عُثْمانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثلاثَةِ: إِذا اخْتَلَفْتُمْ أنْتُمْ وزَيْدُ بنُ ثابتٍ فِي شَيْء مِنَ القُرْآنِ فاكْتُبُوهُ بِلِسانِ قُرَيْشٍ فإِنَّما نَزَلَ بلِسَانِهمْ. ففَعَلُوا، حتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصاحِفِ رَدَّ عُثْمانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، فأرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ ممَّا نَسَخُوا وأمَرَ بمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أوْ مُصْحَفٍ أنْ يخْرَقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل، وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن سعد، وَهَذَا الْإِسْنَاد إِلَى ابْن شهَاب هُوَ الَّذِي قبله بِعَيْنِه، أَعَادَهُ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمَا حديثان لِابْنِ شهَاب فِي قصتين مختلفتين، وَإِن اتفقَا فِي كِتَابَة الْقُرْآن وَجمعه، وَله قصَّة أُخْرَى عَن خَارِجَة بن زيد فِي آخر هَذَا الحَدِيث، على مَا يَأْتِي الْآن.
قَوْله: (وَكَانَ يغازي) ، أَي: يغزى، أَي: كَانَ عُثْمَان يُجهز أهل الشَّام وَأهل الْعرَاق لغزو أرمينية وأذربيجان وفتحهما، وأرمينية بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْمِيم بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ نون مَكْسُورَة، وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ بِفَتْح الْهمزَة، وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ بلد مَعْرُوف يضم كورا كَثِيرَة سميت بذلك لكَون الأرمن فِيهَا، وَهِي أمة كالروم، وَقيل: سميت بأرمون بن ليطى بن يومن بن يافث بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام: وَقَالَ(20/17)
الرشاطي: افتتحت فِي سنة أَربع وَعشْرين فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على يَد سلمَان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، قَالَ: وَأَهْلهَا بَنو أرمي بن أرم بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وأذربيجان بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبالراء الْمَفْتُوحَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة ثمَّ الْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة ثمَّ الْجِيم وَالْألف وَالنُّون، وَقَالَ ابْن قرقول: فتح عبد الله بن سُلَيْمَان الْيَاء، وَعَن الْمُهلب بِالْمدِّ وَكسر الرَّاء بعْدهَا يَاء سَاكِنة بعْدهَا بَاء مَفْتُوحَة، وَقَالَ أَبُو الْفرج: ألفها مَقْصُورَة وذالها سَاكِنة كَذَلِك قِرَاءَته على أبي مَنْصُور، ويغلط من يمده. وَفِي المبتدىء: من يقدم الْيَاء أُخْت الْوَاو على الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ جهل، وَفِي النَّوَادِر لِابْنِ الْأَعرَابِي: الْعَرَب تَقوله بقصر الْهمزَة، وَكَذَا ذكره صَاحب تثقيف اللِّسَان وَلَكِن كسر الْهمزَة، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق البحتري: من الفصيح أذربيجان، وَقَالَ الجواليقي: الْهمزَة فِي أَولهَا أَصْلِيَّة لِأَن أذر مضموم إِلَيْهِ الآخر، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: اجْتمعت فِيهَا أَربع مَوَانِع من الصّرْف: العجمة والتعريف، والتأنيث والتركيب، وَهِي بَلْدَة بالجبال من بِلَاد الْعرَاق يَلِي كور أرمينية من جِهَة الغرب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأَشْهر عِنْد الْعَجم أذربايجان، بالمدو الْألف بَين الْمُوَحدَة والتحتانية، هُوَ بَلْدَة تبريز وقصباتها. قَوْله: (مَعَ أهل الْعرَاق) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فِي أهل الْعرَاق. قَوْله: (فأفزع) من الإفزاع، و (حُذَيْفَة) بِالنّصب. مَفْعُوله، (وَاخْتِلَافهمْ) بِالرَّفْع فَاعله، وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه: فيتناز عون فِي الْقُرْآن حَتَّى سمع حُذَيْفَة من اخْتلَافهمْ مَا ذعره، وَفِي رِوَايَة يُونُس: فتذاكروا الْقُرْآن وَاخْتلفُوا فِيهِ حَتَّى كَاد يكون بَينهم فتْنَة، وَفِي رِوَايَة عمَارَة بن غزيَّة أَن حُذَيْفَة قدم من غَزْوَة فَلم يدْخل بَيته حَتَّى أَتَى عُثْمَان فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أدْرك النَّاس! قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: غزوت فرج أرمينية فَإِذا أهل الشَّام يقرأون بِقِرَاءَة أبي بن كَعْب فَيَأْتُونَ بِمَا لم يسمع أهل الْعرَاق، وَإِذا أهل الْعرَاق يقرأون بِقِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود فَيَأْتُونَ بِمَا لم يسمع أهل الشَّام فيكفر بَعضهم بَعْضًا انْتهى. وَكَانَ هَذَا سَببا لجمع عُثْمَان الْقُرْآن فِي الْمُصحف، وَالْفرق بَينه وَبَين الصُّحُف أَن الصُّحُف هِيَ الأوراق المحررة الَّتِي جمع فِيهَا الْقُرْآن فِي عهد أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَت سورا مفرقة كل سُورَة مرتبَة بآياتها على حِدة، لَكِن لم يرتب بَعْضهَا إِثْر بعض، فَلَمَّا نسخت ورتب بعصها إِثْر بعض صَارَت مُصحفا، وَلم يكن مُصحفا إلاَّ فِي عهد عُثْمَان، على مَا ذكر فِي الحَدِيث من طلب عُثْمَان الصُّحُف من حَفْصَة وَأمره للصحابة الْمَذْكُورين فِي الحَدِيث بِكِتَابَة مصاحف وإرساله إِلَى كل نَاحيَة بمصحف، قَوْله: (فَأمر زيد بن ثَابت) هُوَ الْأنْصَارِيّ، والبقية قرشيون. قَوْله: (فنسخوها) أَي: الصُّحُف أَي: مَا فِي الصُّحُف الَّتِي أرسلتها حَفْصَة إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (للرهط القرشيين) وهم عبد الله بن الزبير الْأَسدي وَسَعِيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَرْث المخرومي. قَوْله: (فَإِنَّمَا نزل بلسانهم) أَي: فَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن بِلِسَان قُرَيْش أَي: مُعظم الْقُرْآن، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَأرْسل إِلَى كل أفق) أَي: نَاحيَة، وَيجمع على: آفَاق، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: فَأرْسل إِلَى كل جند من أجناد الْمُسلمين بمصحف. وَاخْتلف فِي عدد الْمَصَاحِف الَّتِي أرسل بهَا عُثْمَان إِلَى الْآفَاق فَالْمَشْهُور أَنَّهَا خَمْسَة، وَأخرج ابْن أبي دَاوُد فِي كتاب الْمَصَاحِف من طَرِيق حَمْزَة الزيات، قَالَ: أرسل عُثْمَان أَرْبَعَة مصاحف وَبعث مِنْهَا إِلَى الْكُوفَة بمصحف فَوَقع عِنْد رجل من مُرَاد فَبَقيَ حَتَّى كتبت مصحفي مِنْهُ، وَقَالَ ابْن أبي دَاوُد: وَسمعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول: كتبت سَبْعَة مصاحف: إِلَى مَكَّة وَإِلَى الشَّام وَإِلَى الْيَمين وَإِلَى الْبَحْرين وَإِلَى الْبَصْرَة وَإِلَى الْكُوفَة وَحبس بِالْمَدِينَةِ وَاحِدًا. قَوْله: (أَن يخرق) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة رِوَايَة الأكثين وبالمهملة رِوَايَة الْمروزِي وبالوجهين رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وبالمعجمة أثبت، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَن يُمحى أَو يحرق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ إحراق الْقُرْآن؟ قلت: المحروق هُوَ الْقُرْآن الْمَنْسُوخ أَو الْمُخْتَلط بِغَيْرِهِ من التَّفْسِير أَو بلغَة غير قُرَيْش أَو الْقرَاءَات الشاذة، وَفَائِدَته أَن لَا يَقع الِاخْتِلَاف فِيهِ، قلت: هَذِه الْأَجْوِبَة جَوَاب من لم يطلع على كَلَام الْقَوْم وَلم يتَأَمَّل مَا يدل عَلَيْهِ قَوْله فِي آخر الحَدِيث وَقَالَ عِيَاض: غسلوها بِالْمَاءِ ثمَّ أحرقوها مُبَالغَة فِي إذهابها، وَعند أبي دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ: وَأمرهمْ أَن يحرقوا كل مصحف يُخَالف الْمُصحف الَّذِي أرسل بِهِ، قَالَ: فَذَلِك زمَان أحرقت الْمَصَاحِف بالعراق بالنَّار، وَفِي رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا تَقولُوا لعُثْمَان فِي إحراق الْمَصَاحِف إلاَّ خيرا وَفِي رِوَايَة بكير بن الْأَشَج: فَأمر بِجمع الْمَصَاحِف فأحرقها ثمَّ بَث فِي الأجناد الَّتِي كتبت، وَمن طَرِيق مُصعب بن سعد قَالَ: أدْركْت النَّاس متوافرين حِين أحرق عُثْمَان الْمَصَاحِف، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِك أَو قَالَ: لم يُنكر ذَلِك مِنْهُم أحد.(20/18)
وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز تحريق الْكتب الَّتِي فِيهَا اسْم الله، عز وَجل، بالنَّار وَإِن ذَلِك إكرام لَهَا وصون عَن وَطئهَا بالأقدام، وَقيل: هَذَا كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت، وَأما الْآن فالغسل إِذا دعت الْحَاجة إِلَى إِزَالَته، وَقَالَ أَصْحَابنَا الحنيفة: إِن الْمُصحف إِذا بلي بِحَيْثُ لَا ينْتَفع بِهِ يدْفن فِي مَكَان طَاهِر بعيد عَن وَطْء النَّاس.
8894 - حدَّثنا قَالَ ابنُ شِهاب: وَأَخْبرنِي خارِجَةُ بنُ زَيْدٍ بنِ ثابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بنَ قابِتٍ، قَالَ: فقَدْتُ آيَة مِنَ الأحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا المُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أسْمَعُ رسولَ لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقْرَأُ بِهَا، فالْتَمَسْناها فَوَجَدْناها مَعَ خُزَيمَةَ بن ثابِتٍ الأنْصارِيِّ { (33) من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب: 32) فأَلْحقْناها فِي سُوْرَتِها فِي المُصْحفِ..
هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول، وَذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا مُفردا فِي الْجِهَاد وَفِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب وَرَوَاهُ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ كَمَا رَوَاهُ هُنَا، وَظَاهر حَدِيث زيد بن ثَابت هَذَا أَنه فقد آيَة الْأَحْزَاب من الصُّحُف الَّتِي كَانَ نسخهَا فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى وجدهَا مَعَ خُزَيْمَة بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن مجمع عَن ابْن شهَاب أَن فَقده إِيَّاهَا إِنَّمَا كَانَ خلَافَة أبي بكر، وَهُوَ وهم مِنْهُ، وَالصَّحِيح مَا فِي الصَّحِيح وَأَن الَّذِي فَقده فِي خلَافَة أبي بكر آيتان من آخر بَرَاءَة، وَأما الَّتِي فِي الْأَحْزَاب ففقدها لما كتب الْمُصحف فِي خلَافَة عُثْمَان، وَجزم ابْن كثير بِمَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن مجمع، وَلَيْسَ كَذَلِك وَالله أعلم. قيل: كَيفَ ألحقها بالمصحف وَشرط الْقُرْآن التَّوَاتُر؟ وَأجِيب بِأَنَّهُ كَانَت مسموعة عِنْدهم من فَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسورتها وموضعها مَعْلُومَة لَهُم ففقدوا كتَابَتهَا. قيل: لما كَانَ الْقُرْآن متواترا فَمَا هَذَا التتبع وَالنَّظَر فِي العسب؟ وَأجِيب للاستظهار، وَقد كتبت بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وليعلم هَل فِيهَا قِرَاءَة لغير قِرَاءَته من وجوهها أم لَا قيل: شَرط الْقُرْآن كَونه متواترا فَكيف أثبت فِيهِ مَا لم يجده مَعَ أحد غَيره؟ وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ لم يجده مَكْتُوبًا عِنْد غَيره، وَأَيْضًا لَا يلْزم من عدم وجدانه أَن لَا يكون متواترا وَأَن لَا يجد غَيره، أَو الْحفاظ نسوها ثمَّ تذكروها.
4 - (بابُ كاتِبِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَاتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي بعض النّسخ: بَاب ذكر كَاتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَأَنَّهُ وَقع عِنْد الْبَعْض: بَاب كتَّاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجمعِ، وَقد ترْجم: كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يذكر إلاَّ زيد بن ثَابت، وَهَذَا عَجِيب، فَكَأَنَّهُ لم يَقع لَهُ على شَرط غير هَذَا فَإِن صَحَّ ذكر التَّرْجَمَة بِالْجمعِ فَكَلَامه موجه وإلاّ فَلَيْسَ بِذَاكَ، وكتّاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَثِيرُونَ غير وَيَد بن ثَابت لِأَنَّهُ أسلم بعد الْهِجْرَة وَكَانَ لَهُ كتَّاب بِمَكَّة، فَأول من كتب لَهُ بِمَكَّة من قُرَيْش عبد الله بن أبي سرح ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ عَاد إِلَى الْإِسْلَام يَوْم الْفَتْح، وَكتب لَهُ فِي الْجُمْلَة الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وخَالِد وَأَبَان ابْنا سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة وحَنْظَلَة بن الرّبيع الْأَسدي ومعيقيب بن أبي فَاطِمَة وَعبد الله بن الأرقم الزُّهْرِيّ وشرحبيل بن حَسَنَة وَعبد الله بن رَوَاحَة، وَأول من كتب بِالْمَدِينَةِ أبي بن كَعْب، كتب لَهُ قبل زيد بن ثَابت وَجَمَاعَة آخَرُونَ كتبُوا لَهُ.
9894 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عَن ابنِ شهَاب: أنَّ ابنَ السَّبَّاقِ قَالَ: إنَّ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ قَالَ: أرْسَلَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: إنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتَّبعِ القُرْآنَ فَتَبَّعْتُ حتَّى وجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أبي خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ لمْ أجِدْهُما مَعَ أَحَدٍ غَيْرهُ: { (9) لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم} (التَّوْبَة: 821) إِلَى آخرِهِا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّك كنت تكْتب الْوَحْي لرَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَابْن السباق هُوَ عبيد، وَقد مر الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهَذَا طرف مِنْهُ.(20/19)
09994 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى اعنْ إسْرَائيلَ عنْ إسحاقَ عنِ البَرَاءِ قَالَ: لما نَزَلَتْ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجعاهِدُونَ فِي سَبِيل الله قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادْعُ لِي زَيْدا ولْيَجىءُ باللَّوْحِ والدَّوَاةِ والكَتِفِ أَو الكَتِفِ والدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ: اكْتُب: { (4) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} (النِّسَاء: 59) وخَلْفَ ظهْرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمْرُو بنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأعْمى قَالَ: يَا رسولَ الله! فَما تأمُرُني فإِنِّي رَجلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ؟ فَنَزَلَتْ مَكانَها { (4) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} فِي سَبِيل الله { (4) غير ولي الضَّرَر} (النِّسَاء: 59) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبيد الله بن مُوسَى بن باذام الْكُوفِي وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله عَن الْبَراء بن عَازِب والْحَدِيث قد مر فِي سُورَة النِّسَاء.
قَوْله: (أَو الدواة والكتف) شكّ من الرَّاوِي فِي تَقْدِيم الدواة على الْكَتف، وتأخيرها. قَوْله: (مَكَانهَا) أَي: فِي مَكَان الْآيَة أَي فِي الْحَال. قَوْله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ فِي سَبِيل الله غير أولي الضَّرَر} (النِّسَاء: 59) ، وَقد وَقع لفظ غير أولى الضَّرَر، بعد لفظ: فِي سَبِيل الله، وَفِي الْقُرْآن بعد لفظ: الْمُؤمنِينَ، وَقد تقدم عَن إِسْرَائِيل من وَجه آخر على الصَّوَاب.
5 - (بابٌ أنْزِلَ القُرآنُ علَى سَبْعةِ أحْرُف)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف) أَي: سَبْعَة أوجه، وَهُوَ سبع لُغَات، يَعْنِي يجوز أَن يقْرَأ بِكُل لُغَة مِنْهَا، وَلَيْسَ المُرَاد أَن كل كلمة مِنْهُ تقْرَأ على سَبْعَة أوجه قيل: قد يُوجد بعض الْكَلِمَات يقْرَأ على أَكثر من سَبْعَة أوجه وَأجِيب: بِأَن غَالب ذَلِك من قبيل الِاخْتِلَاف فِي كَيْفيَّة الْأَدَاء، كَمَا فِي الْمَدّ والإمالة وَنَحْوهمَا، وَقيل: لَيْسَ المُرَاد بالسبعة حَقِيقَة الْعدَد بل المُرَاد التَّيْسِير والتسهيل، وَلَفظ السَّبْعَة يُطلق على إِرَادَة الْكَثْرَة فِي الْآحَاد كَمَا يُطلق السبعون فِي المشرات، والسبعمائة فِي المئات وَلَا يُرَاد الْعدَد الْمعِين، وَإِلَى هَذَا مَال عِيَاض وَمن تبعه.
1994 - حدَّثنا سَعِيدُ بنخ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللّيْثُ قَالَ: حدّثني عُقَيْلٌ عنْ ابنِ شهَاب قَالَ: حَدثنِي عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله: أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رضِيَ الله عَنْهُمَا حدَّثه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أقْرَأْني جِبْرِيلُ علَى حَرْفٍ فرَاجَعْتُهُ، فلَمْ أزَلْ أسْتَزيِدُهُ ويَزِيدُني حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسَعِيد بن عفير هُوَ سعيد بن كثير بن عفير بِضَم الْعين الْمُهْملَة ينْسب إِلَى جده وَهُوَ من حفاظ المصريين وثقاتهم وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب بَدْء الْخلق، وَفِيه ابْن عَبَّاس لم يُصَرح بِسَمَاعِهِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَأَنَّهُ سَمعه عَن أبي بن كَعْب لِأَن النَّسَائِيّ أخرجه من طَرِيق عِكْرِمَة بن خَالِد عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي بن كَعْب نَحوه.
قَوْله: (فراجعته) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَرددت إِلَيْهِ أَن هوّن عَليّ أمتِي، وَفِي رِوَايَة: إِن أمتِي لَا تطِيق ذَلِك. قَوْله: (إِلَى سَبْعَة أحرف) أَي: سبع قراآت أَو سبع لُغَات.
2994 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني الليْثُ قَالَ: حدّثني عُقَيْلٌ عنِ ابْن شهابٍ، قَالَ: حدّثني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ: أنَّ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ وعبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عبدٍ القارِيَّ حدَّثاهُ أنَّهُما سَمِعا عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشام بنَ حَكِيمٍ يقرَأ سورَةَ الفُرْقانِ فِي حيَاةِ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فإِذَا هُوَ يَقْرَأُ علَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكِدْتُ أُساورُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سلَمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أقْرَأَكَ هاذِهِ السُّورَةَ الَّتي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ . قَالَ: أقْرَأْنِيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقُلْت: كَذَبْتَ، فإِنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ أقْرَأْنِيها علَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بهِ أقُودُهُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ(20/20)
إنِّي سَمِعْتُ هاذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفرْقان علَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيها. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أرْسِلْهُ: اقْرَأ يَا هِشامُ فَقَرَأ علَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَالَ: اقْرَأُ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةُ الَّتِي أقْرَأني، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَذالِكَ أُنْزِلَتْ إنَّ هاذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ علَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ فاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْخُصُومَات وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَعبد الرَّحْمَن بن عبد) بِالتَّنْوِينِ غير مُضَاف إِلَى شَيْء (والقاري) بتَشْديد الْيَاء نِسْبَة إِلَى قارة بطن من خُزَيْمَة بن مدركة. قَوْله: (هِشَام بن حَكِيم) ابْن حزَام هُوَ الْأَسدي لَهُ ولأبيه صُحْبَة وَكَانَ إسلامهما يَوْم الْفَتْح، وَهِشَام مَاتَ قبل أَبِيه وَلَيْسَ لَهُ فيالبخاري رِوَايَة، وَأخرجه لَهُ مُسلم حَدِيث وَاحِدًا مَرْفُوعا من رِوَايَة عُرْوَة عَنهُ. قَوْله: (أساوره) أَي: أواثبه. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: أَي آخذه بِرَأْسِهِ، وَالْأول أشبه. قَوْله: (حَتَّى سلّم) أَي: من صلَاته. قَوْله: (فلببته برادئه) أَي: جمعت عَلَيْهِ ثِيَابه عِنْد لبته لِئَلَّا ينفلت مني. قَوْله: (كذبت) ، فِيهِ إِطْلَاق ذَلِك على غَلَبَة الظَّن أَو المُرَاد بقوله لَهُ: كَذبك أَخْطَأت، لِأَن أهل الْحجاز يطلقون الْكَذِب فِي مَوضِع الْخَطَأ. قَوْله: (أقوده) كَأَنَّهُ لما لببه صَار يجره. قَوْله: (إِن هَذَا الْقُرْآن) إِلَى آخِره إِنَّمَا ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تطمينا لعَمْرو، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِئَلَّا يُنكر تصويب الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفين، قَوْله: (مَا تيَسّر مِنْهُ) ، أَي: من الْمنزل، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن التَّعَدُّد فِي الْقِرَاءَة للتيسير على القارىء، هَذَا يُقَوي قَول من قَالَ: المُرَاد بالأحرف تأدية الْمَعْنى بِاللَّفْظِ المرادف وَلَو كَانَ من لُغَة وَاحِدَة، لِأَن لُغَة هِشَام بِلِسَان قُرَيْش وَكَذَلِكَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ومه ذَلِك فقد اخْتلفت قراءتهما، قَالَ ذَلِك ابْن عبد الْبر، وَنقل ذَلِك عَن أَكثر أهل الْعلم: أَن هَذَا هُوَ المُرَاد بالأحرف السَّبع، وَالله أعلم.
6 - (بابُ تأليفِ القُرْآن)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تأليف الْقُرْآن أَي: جمع آيَات السُّورَة الْوَاحِدَة، أَو جمع السُّور مرتبَة.
3994 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبرنا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْ أخْبَرَهُمْ قَالَ: وأخْبَرَني يُوسُفُ بنُ ماهَكٍ قَالَ: إنِّي عِنْدَ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ. رَضِي الله عَنْهَا إذْ جاءَها عِرَاقيٌ فَقَالَ: أيُّ الكَفَنِ خَيْرٌ؟ قالَتْ: ويْحَكَ {وَمَا يَضُرُّكَ؟ قَالَ: يَا أمَّ المُؤْمِنِينَ} أرِيني مُصْحَفَكِ. قالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لعَلِّي أُؤَلِّفُ القُرْآنَ عَلَيْهِ فإنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤُلَّفٍ. قالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أيَّةُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ فِيها ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حَتَّى إِذا ثابَ الناسُ إِلَى الإسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ والحَرَامُ، ولوْ نَزَلَ أوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الخَمْر لَقالُوا: لَا تَدَعُ الخَمْرَ أبَدا، ولَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا لَقالُوا: لَا تَدَعُ الزِّنا أبَدا لقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلى مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنِّي لَجارِيَة ألْعَبُ: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (الْقَمَر: 64) وَمَا نَزَلْتُ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّساءِ إلاّ وَأَنا عِندَهُ عِنْدَهُ، قَالَ: فأخْرَجَتْ لهُ المُصْحَفَ فأمْلَتْ علَيْهِ آيَ السُّورَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 6784) .
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (لعَلي أؤلف الْقُرْآن عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يقْرَأ غير مؤلف) وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا. وَابْن جريج ويوسف بن مَاهك بِفَتْح الْهَاء مُعرب لِأَن مَاهك بِالْفَارِسِيَّةِ قمير مصغر الْقَمَر وماه اسْم الْقَمَر والتصغير عِنْدهم بِالْحَقِّ الْكَاف فِي آخر الِاسْم قَالَ الْكرْمَانِي: وَالأَصَح فِيهِ الِانْصِرَاف قلت: الْأَصَح فِيهِ عدم الِانْصِرَاف للعجمة والعلمية.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن يُوسُف بن سعيد بن مُسلم.
قَوْله: (قَالَ: وَأَخْبرنِي يُوسُف) ، أَي: قَالَ ابْن جريج:(20/21)
وَأَخْبرنِي يُوسُف قَالَ بَعضهم: وَمَا عرفت مَاذَا عطف عَلَيْهِ، ثمَّ رَأَيْت الْوَاو سَاقِطَة فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ. قلت: يجوز أَن يكون مَعْطُوفًا على مَحْذُوف تَقْدِيره أَن يُقَال: قَالَ ابْن جريج: أَخْبرنِي فلَان بِكَذَا وَأَخْبرنِي يُوسُف بن مَاهك إِلَى آخِره قَوْله: (إِذْ جاءها) ، كلمة إِذْ للمفاجأة. قَوْله: (عراقي) أَي: رجل من أهل الْعرَاق وَلم يدر اسْمه. قَوْله: (أَي الْكَفَن خير؟) يحْتَمل أَن يكون سُؤَاله عَن الْكمّ يَعْنِي لفافه أَو أَكثر؟ وَعَن الكيف يَعْنِي: أَبيض أَو غَيره وناعما أَو خشنا؟ وَعَن النَّوْع أَنه قطن أَو كتَّان مثلا؟ قَوْله: (وَيحك) كلمة ترحم. قَوْله: (وَمَا يَضرك؟) أَي: أَي شَيْء يَضرك بعد موتك وَسُقُوط التَّكْلِيف عَنْك فِي أَي كفن كفنت؟ لبُطْلَان حسك بالنعومة والخشونة وَغير ذَلِك قَوْله: (قَالَت: لِمَ) أَي: لم أريك مصحفي؟ قَالَ: لعَلي أؤلف عَلَيْهِ الْقُرْآن. قيل: قصَّة الْعِرَاقِيّ كَانَت قبل أَن يُرْسل عُثْمَان الْمَصَاحِف إِلَى الْآفَاق. ورد عَلَيْهِ بِأَن يُوسُف بن مَاهك لم يدْرك زمَان إرْسَال عُثْمَان الْمَصَاحِف إِلَى الْآفَاق، وَقد صرح يُوسُف فِي هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ عِنْد عَائِشَة حِين سَأَلَهَا هَذَا الْعِرَاقِيّ، وَالظَّاهِر أَن هَذَا الْعِرَاقِيّ كَانَ مِمَّن أَخذ بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَكَانَ ابْن مَسْعُود لما حضر مصحف عُثْمَان إِلَى الْكُوفَة لم يُوَافق على الرُّجُوع عَن قِرَاءَته وَلَا على إعدام مصحفه، وَكَانَ تأليف مصحف الْعِرَاقِيّ مغايرا لتأليف مصحف عُثْمَان، فَلذَلِك جَاءَ إِلَى عَائِشَة وَسَأَلَ الْإِمْلَاء من مصحفها. قَوْله: (آيَة) بِالنّصب أَي: أَي آي الْقُرْآن قَرَأت قَوْله: (قبل) أَي: قبل قِرَاءَة السُّورَة الْأُخْرَى. قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الْقُرْآن. قَوْله: (من الْمفصل) قَالَ الْخطابِيّ: سمي مفصلا لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من فُصُول التَّسْمِيَة بَين السُّور، وَقد اخْتلف فِي أول الْمفصل. فَقيل: هُوَ سُورَة، وَقيل: سُورَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ النَّوَوِيّ: سمي بِالْفَصْلِ لقصر سُورَة وَقرب انفصالهن بَعضهنَّ من بعض. قَوْله: (أول مَا أنزل مِنْهُ) أَي: من الْقُرْآن من الْمفصل فِيهَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار، وَأول مَا نزل إِمَّا المدثر وَإِمَّا اقْرَأ، فَفِي كل مِنْهُمَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار، أما فِي المدثر فصريح وَهُوَ قَوْله: {وَمَا أدْرك مَا سقر} (المدثر: 72) وَقَوله: {فِي جنَّات يتساءلون} (المدثر: 04) وَأما فِي اقْرَأ فَيلْزم ذكرهمَا من قَوْله: {كذب وَتَوَلَّى} (العلق: 31) {وسندع الزَّبَانِيَة} (العلق: 81) وَقَوله: {إِن كَانَ على الْهدى} (العلق: 11) وَبِهَذَا التَّقْرِير يرد على بَعضهم فِي قَوْله: هَذَا ظَاهره يغاير مَا تقدم أَن أول شَيْء نزل {اقْرَأ باسم رَبك} (العلق: 1) وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار. قَوْله: (حَتَّى إِذا تَابَ) ، أَي: رَجَعَ. قَوْله: (نزل الْحَلَال وَالْحرَام) ، أشارت بِهِ إِلَى الْحِكْمَة الإل هية فِي تَرْتِيب التَّنْزِيل. وَأَنه أول مَا نزل من الْقُرْآن الدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد والتبشير للْمُؤْمِنين والمطيعين بِالْجنَّةِ، والإنذار والتخويف للْكَافِرِينَ بالنَّار، فَلَمَّا اطمأنت النُّفُوس على ذَلِك أنزلت الْأَحْكَام، وَلِهَذَا قَالَت: (وَلَو نزل أول شَيْء لَا تشْربُوا الْخمر) إِلَى آخِره. وَذَلِكَ لانطباع النُّفُوس بالنفرة عَن ترك المألوف. قَوْله: (لقد نزل مَكَّة) ، إِلَى آخِره إِشَارَة مِنْهَا إِلَى تَقْوِيَة مَا ظهر لَهَا من الْحِكْمَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ تقدم سُورَة الْقَمَر وَلَيْسَ فِيهَا شَيْء من الْأَحْكَام على نزُول سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء مَعَ كَثْرَة اشتمالهما على الْأَحْكَام. قَوْله: (إلاَّ وَأَنا عِنْده) ، يَعْنِي: بِالْمَدِينَةِ، لِأَن دُخُوله عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَ بعد الْهِجْرَة بِلَا خلاف. قَوْله: (فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ) ، أَي أملت عَائِشَة على الْعِرَاقِيّ من الْإِمْلَاء، ويروى من الإملا. وهما بِمَعْنى وَاحِد، قيل: فِي الحَدِيث رد على النّحاس فِي قَوْله: إِن سُورَة النِّسَاء مَكِّيَّة، مُسْتَندا إِلَى أَن قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) نزلت بِمَكَّة اتِّفَاقًا فِي قصَّة مِفْتَاح الْكَعْبَة، وَهِي حجَّة واهية لِأَنَّهُ لَا يلْزم من نزُول آيَة أَو آيَات من سُورَة طَوِيلَة بِمَكَّة إِذا أنزل معظمها بِالْمَدِينَةِ أَن تكون مَكِّيَّة، وَالله أعلم.
4994 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عبْدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ مَسْعُودٍ يقُولُ: فِي بَنِي إسْرَائِيلَ والْكَهْفِ ومَرْيَمَ وطَهَ والأنْبِياء: إنّهُنَّ مِنَ العِتاقِ الأولِ وهُنَّ مِنْ تِلاَدِي.
(انْظُر الحَدِيث 8074 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه السُّورَة نزلت بِمَكَّة وَأَنَّهَا مرتبَة فِي مصحف ابْن مَسْعُود كَمَا هِيَ فِي مصحف عُثْمَان. وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ السبيعِي عَمْرو بن عبد الله وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن قيس النَّخعِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة بني إِسْرَائِيل بِسَنَدِهِ.
قَوْله: (فِي بني إِسْرَائِيل) أَي: فِي شَأْن هَذِه السُّورَة، قَالَ الْكرْمَانِي: ويروي بِدُونِ كلمة فِي فَالْقِيَاس أَن يَقُول: بَنو إِسْرَائِيل، فَلَعَلَّهُ بِاعْتِبَار حذف الْمُضَاف وابقاء الْمُضَاف إِلَيْهِ على حَاله أَي، سُورَة بني إِسْرَائِيل، أَو على سَبِيل الْحِكَايَة عَمَّا فِي الْقُرْآن، وَهُوَ قَوْله: {وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} (السَّجْدَة: 32) . قَوْله: (الْعتاق) ، جمع عَتيق وَهُوَ مَا بلغ الْغَايَة فِي الْجَوْدَة يُرِيد تَفْضِيل هَذِه السُّور لما(20/22)
يتَضَمَّن مفتتح كل مِنْهَا أمرا غَرِيبا والأولية بِاعْتِبَار حفظهَا أَو نُزُولهَا. قَوْله: (تلادي) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ مَا كَانَ قَدِيما وَيحْتَمل أَن يكون الْعتاق بِمَعْنَاهُ، فَيكون الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ.
5994 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ أنْبَأنا أبُو إِسْحَاق سَمِعَ البرَاءَ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: تَعَلَّمْتُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاََعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) قبْلَ أنْ يَقْدَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه السُّورَة مُتَقَدّمَة فِي النُّزُول. وَهِي فِي أَوَاخِر الْمُصحف والتأليف بالتقديم وَالتَّأْخِير. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو.
قَوْله: (قبل أَن يقدم) ، أَي: الْمَدِينَة، ويروي أَيْضا بِلَفْظ الْمَدِينَة والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) .
7 - (بابٌ: كانَ جِبْريلُ يَعْرِضُ القُرْآنَ علَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام (يعرض الْقُرْآن) ، أَي: يستعرضه مَا أقراه إِيَّاه.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، عنْ فَاطِمَةَ علَيْها السَّلاَمُ: أسَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ جِبْرِيلَ يُعارِضُنِي بالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وإنَّهُ عارَضَنِي العامَ مَرَّتَيْنِ، ولاَ أرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجلي.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ بِتَمَامِهِ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة ومسروق هُوَ ابْن الأجدع الْهَمدَانِي الْكُوفِي التَّابِعِيّ ثِقَة.
قَوْله: (عَن فَاطِمَة) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لَيْسَ لَهَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم إلاَّ هَذَا الحَدِيث، قَالَه صَاحب التَّوْضِيح والتلويح. قَوْله: (يعارضني) أَي: يدارسني. قَوْله: (إِنَّه عارضني) وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: وَإِنِّي عارضني. قَوْله: (الْعَام) أَي: فِي هَذَا الْعَام. قَوْله: (وَلَا أرَاهُ) بِضَم الْهمزَة(20/23)
أَي: وَلَا أَظُنهُ (إلاَّ حضر أَجلي) ويروى: إلاَّ حُضُور أَجلي.
8994 - حدَّثنا خالِدُ بنُ يزِيدَ حَدثنَا أبُو بَكْرٍ عنْ أبي حُصَيْنٍ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: كانَ يَعْرِضُ علَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القُرْآنَ كُلَّ عامٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ علَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعامِ الَّذِي قُبِضَ فيهِ، وكانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عامٍ عَشْرا، فاعْتَكَفَ عشْرِينَ فِي الْعامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.
(انْظُر الحَدِيث 4402) .
مطابقتة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن معنى قَوْله: (كَانَ يعرض) أَي: جِبْرِيل فطوى ذكره وَقد صرح بِهِ إِسْرَائِيل فِي رِوَايَته عَن أبي حُصَيْن أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَرُوِيَ: كَانَ يعرض، على صِيغَة، الْمَجْهُول أَي: الْقُرْآن وَأخرج هَذَا الحَدِيث عَن خَالِد ابْن يزِيد الْكَاهِلِي عَن أبي بكر بن عَيَّاش، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف والشين الْمُعْجَمَة، عَن أبي حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة عُثْمَان بن عَاصِم عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان.
فِي هَذَا الْإِسْنَاد من اللطافة أَنه مسلسل بالكنى إِلَّا شَيْخه.
والْحَدِيث مضى فِي الِاعْتِكَاف عَن عبد الله بن أبي شيبَة.
قَوْله: (يعرض عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن، وَسقط لفظ: الْقُرْآن، لغير الْكشميهني.
8 - (بابُ القُرَّاءِ مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من اشْتهر بِالْحِفْظِ من الْقُرَّاء من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم الَّذين تصدوا للتعليم.
9994 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ عُمْرٍ وعنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ ذَكَرَ عبْدُ الله ابنُ عمْرٍ وعبْدَ الله بنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَا أزالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقُولُ: خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أرْبعَةٍ: منْ عبْدِ الله بنِ مسْعُودٍ وسالِمٍ ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ وأُبَيِّ بنِ كَعْب رَضِي الله عنْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو هُوَ ابْن مرّة، وَبَينه البُخَارِيّ فِي المتاقب من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عَمْرو أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، وَهُوَ وهم مِنْهُ وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَمضى الحَدِيث فِي مَنَاقِب سَالم.
قَوْله: (ذكر) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم وفاعله: (عبدُ الله بن عَمْرو) ومفعوله: (وعبدَ الله بن مَسْعُود) قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: عبد الله بن عَمْرو: (لَا أَزَال أحبه) ، أَي: أحب عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: (خُذُوا الْقُرْآن) ، أَي: تعلموه مِنْهُم. قَوْله: (من عبد الله بن مَسْعُود) إِلَى آخِره. تَفْسِير الْأَرْبَعَة مِنْهُم: سَالم بن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف، مولى أبي حُذَيْفَة، وَتَخْصِيص الْأَرْبَعَة لكَوْنهم تفرغوا للأخذ مِنْهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ الْإِعْلَام بِمَا يكون بعده، أَي: أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة يبقون حَتَّى ينفردوا بذلك، وَورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُم لم ينفردوا(20/24)
بل الَّذين مهروا فِي تجويد الْقُرْآن بعد الْعَصْر النَّبَوِيّ أَضْعَاف الْمَذْكُورين، وَقد قتل سَالم بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وقْعَة الْيَمَامَة، وَمَات معَاذ بن جبل فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَات أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد تَأَخّر زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وانتهت إِلَيْهِ الرياسة فِي الْقِرَاءَة، وعاش بعدهمْ زَمَانا طَويلا وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي وَقت وَفَاته فَقيل: سنة خمس وَأَرْبَعين، قيل: سنة إِحْدَى أَو اثْنَيْنِ وَخمسين، وَصلى عَلَيْهِ مَرْوَان.
0005 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي الأعْمَشُ حَدثنَا شقيقُ بنُ سَلَمَةَ، قَالَ: خطَبنَا عبْدُ الله بن مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَالله! لقَدْ أخَذْتُ منْ فِيِّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضْعا وسَبْعِينَ سورَةَ، وَالله لَقَدْ عَلِمَ أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنِّي مِنْ أعْلَمِهِمْ بِكتابِ الله وَمَا أَنا يِخَيْرِهِمْ.
قَالَ شَقيقٌ: فجَلَسْتُ فِي الحِلَقِ أسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سمِعْتُ رَدّا يَقُولُ غَيْرَ ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من ظَاهر الحَدِيث، أخرجه عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَخ وَحكي الجياني أَنه وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن الْجِرْجَانِيّ: حَدثنَا حَفْص بن عمر حَدثنَا أبي وَهُوَ خطأ مقلوب وَلَيْسَ لحفص بن عمر أَب يروي عَنهُ فِي الصَّحِيح، وَإِنَّمَا هُوَ عمر بن حَفْص بن غياث، بالغين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ. وَفِي الزِّينَة عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب.
قَوْله: (من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من فَمه. قَوْله: (بضعا) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع. قَوْله: (إِنِّي من أعلمهم بِكِتَاب الله) ، وَوَقع فِي رِوَايَة عَبدة وَابْن شهَاب جَمِيعًا عَن الْأَعْمَش، أَنِّي أعلمهم بِكِتَاب الله، بِحَذْف من وَزَاد: وَلَو أعلم أَن أحدا أعلم مني فرحلت إِلَيْهِ، وَفِيه: جَوَاز ذكر الْإِنْسَان نَفسه بالفضيلة للْحَاجة، وَإِنَّمَا النَّهْي عَن التَّزْكِيَة فَإِنَّمَا هُوَ لمن مدحها للفخر والإعجاب. قَوْله: (وَمَا أَنا بخيرهم) ، يَعْنِي: مَا أَنا بأفضلهم، إِذْ الْعشْرَة المبشرة أفضل مِنْهُ بالِاتِّفَاقِ، وَفِيه أَن زِيَادَة الْعلم لَا توجب الْأَفْضَلِيَّة، لِأَن كَثْرَة الثَّوَاب لَهَا أَسبَاب أخر من التَّقْوَى وَالْإِخْلَاص وأعلاء كلمة الله وَغَيرهَا مَعَ أَن الأعلمية بِكِتَاب الله لَا تَسْتَلْزِم الأعلمية مُطلقًا، لاحْتِمَال أَن يكون غَيره أعلم بِالسنةِ.
قَوْله: (قَالَ شَقِيق) أَي: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فِي الْحلق) ، بِفَتْح الْحَاء وَاللَّام. قَوْله: (رادا) أَي: عَالما يرد الْأَقْوَال لِأَن رد الْأَقْوَال لَا يكون إلاّ للْعُلَمَاء، وغرضه أَن أحدا لم يرد عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَام بل سلمُوا إِلَيْهِ.
1005 - حدَّثني مُحَمَّد بنُ كثِيرٍ أخْبرَنا سُفيانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنّا بحِمْصَ فقَرَأ ابنُ مَسْعُودٍ سورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ رجُلٌ: مَا هاكذَا أُنْزِلَتْ. قَالَ: قَرَأْتُ علَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أحْسَنْتَ. ووجدَ منْهُ رِيحَ الخمْر، فَقَالَ: أتَجْمَعُ تُكَذِّبَ بكِتابِ الله وتَشْرَبَ الخمْرَ؟ فَضَرَبَهُ الحَدَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تؤخد من قَوْله قَالَ: قَرَأت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وعلقمة ابْن قيس النَّخعِيّ.
قَوْله: (بحمص) وَهِي: بَلْدَة مَشْهُورَة من بِلَاد الشَّام غير منصرف على الْأَصَح، وَظَاهر الحَدِيث أَن عَلْقَمَة حضر الْقِصَّة، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة عَن مُحَمَّد بن كثير شيخ البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق جرير عَن الْأَعْمَش وَلَفظه: عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: كنت بحمص فَقَرَأت فَذكر الحَدِيث، وَهَذَا يقْضِي أَن عَلْقَمَة لم يحضر الْقِصَّة، وَإِنَّمَا نقلهَا عَن ابْن مَسْعُود. قَوْله: (فَقَالَ رجل) . قيل: إِنَّه نهيك بن سِنَان الَّذِي تقدّمت لَهُ الْقِصَّة فِي الْقُرْآن غير هَذِه. قَوْله: (قَرَأت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَقلت: وَيحك؟ وَالله لقد أَقْرَأَنيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَوجد مِنْهُ؟) أَي من الرجل الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَبينا أَنا ُأكَلِّمهُ إِذْ وجدتُ مِنْهُ ريح الْخمر. قَوْله: (فَضَربهُ الْحَد) أَي: فَضَربهُ(20/25)
ابْن مَسْعُود حد شرب الْخمر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَحْمُول على أَنه كَانَت ولَايَة إِقَامَة الْحُدُود لكَونه نَائِبا للْإِمَام عُمُوما أَو خُصُوصا وعَلى أَن الرجل اعْترف بشربها بِلَا عذرو إِلَّا فَلَا يحد بِمُجَرَّد رِيحهَا، وعَلى أَن التَّكْذِيب كَانَ بإنكار بعضه جَاهِلا إِذا لَو أنكر حَقِيقَة لكفر، وَقد أَجمعُوا على أَن من جحد حرفا معجما عَلَيْهِ من الْقُرْآن فَهُوَ كَافِر، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: فَضَربهُ الْحَد أَي: رَفعه إِلَى الإِمَام فَضَربهُ، وَأسْندَ الضَّرْب إِلَى نَفسه مجَازًا لكَونه كَانَ سَببا فِيهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَد لِأَنَّهُ جعل لَهُ ذَلِك من الْولَايَة أَو لِأَنَّهُ رأى أَنه أَقَامَ عَن الإِمَام بِوَاجِب أَو لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمَان ولَايَته الْكُوفَة فَإِنَّهُ وَليهَا فِي زمَان عمر، رَضِي الله عَنهُ، وصدرا من خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ. انْتهى. قَوْله: أَو لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمَان ولَايَته الْكُوفَة، مَرْدُود، وَذُهُول عَمَّا كَانَ فِي أول الْخَبَر أَن ذَلِك كَانَ بحمص، وَلم يلها ابْن مَسْعُود، وَإِنَّمَا دَخلهَا غازيا، وَكَانَ ذَلِك فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله عَنهُ. وَقَول النَّوَوِيّ: على أَن الرجل اعْترف بشربها بِلَا عذر وإلاَّ فَلَا يحد بِمُجَرَّد رِيحهَا فِيهَا نظر لِأَن الْمَنْقُول عَن ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ يرى وجوب الْحَد بِمُجَرَّد وجود الرَّائِحَة.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي الحَدِيث حجَّة على من يمْنَع وجوب الْحَد بالرائحة كالحنيفة، وَقد قَالَ بِهِ مَالك وَأَصْحَابه وَجَمَاعَة من أهل الْحجاز. قلت: لَا حجَّة عَلَيْهِم فِيهِ لِأَن ابْن مَسْعُود مَا حد الرجل إلاَّ باعترافه، لِأَن نفس الرّيح لَيْسَ بقطعي الدّلَالَة على شرب الْخمر لاحْتِمَال الِاشْتِبَاه أَلا يُرى أَن رَائِحَة السَّفَرْجل الْمَأْكُول يشبه رَائِحَة الْخمر، فَلَا يثبت إلاَّ بِشَهَادَة أَو باعتراف.
2005 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّقنا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حَدثنَا مُسْلِمٌ عنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عبْدُ الله، رضِيَ الله عَنهُ: وَالله الَّذي لَا إلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتابِ الله إلاّ أعْلَمُ أيْن أُنْزِلَتْ ولاَ. أنْزِلَتْ ولاَ أنْزلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتابِ الله إلاّ أَنا أعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَو أعْلَمَ مِنِّي بِكتاب الله تُبَلِّغُهُ الإبِلُ لَرَكِبْتُ إلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح عَن مَسْرُوق بن الأجدع عَن عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: (فيمَ أنزلت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فِيمَا، على الأَصْل. قَوْله: (وَلَو أعلم أحدا تبلِّغه الْإِبِل) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: تبلغنيه. قَوْله: (لركبت إِلَيْهِ) ويروي: لرحلت إِلَيْهِ.
وَفِيه جَوَاز ذكر الْإِنْسَان نَفسه بِمَا فِيهِ من الْفَضِيلَة بِقدر الْحَاجة، وَأما المذموم فَهُوَ الَّذِي يَقع من الشَّخْص فحرا وإعجابا.
3005 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا هَمَّامٌ حَدثنَا قَتَادَةُ قَالَ: سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ، رضِي الله عنهُ: مَنْ جَمَعَ القُرْآنَ علَى عِهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ ومُعَاذُ بنُ جَبَلٍ وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ وأبُو زَيْدٍ رضِيَ الله عَنهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَرْبَعَة) وهم الْقُرَّاء من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَفْص بن عمر بن الْحَارِث أَبُو عمر الحوضي، وَهَمَّام بن يحيى.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن سُلَيْمَان بن معبد.
قَوْله: (أَرْبَعَة) أَي: جمعه أَرْبَعَة. قَوْله: (أبي بن كَعْب) أَي: أحدهم أبي بن كَعْب، وَالثَّانِي: معَاذ بن جبل، وَالثَّالِث: زيد بن ثَابت وَالرَّابِع: أَبُو زيد اسْمه سعد بن عبيد الأوسي، وَقيل: قيس بن السكن الخزرجي، وَقيل: ثَابت بن زيد الأشْهَلِي، تقدم فِي مَنَاقِب زيد بن ثَابت، وَلَيْسَ فِي ظَاهر الحَدِيث مَا يدل على الْحصْر لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة غَيرهم قد جمعُوا على مَا تبينه الْآن، وَأَنه لامفهوم لَهُ فلاف يلْزم أَن لَا يكون غَيرهم جمعه. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عَن أنس: لم يجمع الْقُرْآن على عهد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ أَرْبَعَة وَكَذَا فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ. قلت: قد قُلْنَا إِنَّه لَا مَفْهُوم لَهُ لِأَنَّهُ عدد.
وَلَئِن سلمنَا فَالْجَوَاب من وُجُوه: الأول: أُرِيد بِهِ الْجمع بِجَمِيعِ وجوهه ولغاته وحروفه، وقراآته الَّتِي أنزلهَا الله عز وَجل. وَأذن للْأمة فِيهَا وَخَيرهَا فِي الْقِرَاءَة بِمَا شَاءَت مِنْهَا. الثَّانِي: أُرِيد بِهِ الْأَخْذ من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تلقينا وأخذا(20/26)
دون وَاسِطَة. الثَّالِث: أُرِيد، بِهِ أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة ظَهَرُوا بِهِ وانتصبوا لتلقيته وتعليمه. الرَّابِع: أُرِيد بِهِ مرسوما فِي مصحف أَو صحف. الْخَامِس: قَالَه أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: أُرِيد بِهِ أَنه لم يجمع مَا نسخ مِنْهُ وَزيد رسمه بعد تِلَاوَته إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة. السَّادِس: قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: أُرِيد بِهِ أَنه لم يذكرهُ أحد عَن نَفسه سوى هَؤُلَاءِ. السَّابِع: أُرِيد، بِهِ أَن من سواهُم ينْطق بإكماله خوفًا من الرِّيَاء واحتياطا على النيات. وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة أظهروه لأَنهم كَانُوا آمِنين على أنفسهم، أَو لرأي اقْتضى ذَلِك عِنْدهم. الثَّامِن: أُرِيد بِالْجمعِ الْكِتَابَة فَلَا يَنْفِي أَن يكون غَيرهم جمعه حفظا عَن ظهر قلبه، وَأما هَؤُلَاءِ فجمعوه كِتَابَة وحفظوه عَن ظهر الْقلب. التَّاسِع: أَن قصارى الْأَمر أَن أنسا قَالَ: جمع الْقُرْآن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة، قد يكون المُرَاد: أَنِّي لَا أعلم سوى هَؤُلَاءِ، وَلَا يلْزمه أَن يعلم كل الحافظين لكتاب الله تَعَالَى. الْعَاشِر: أَن معنى قَوْله: جمع أَي: سمع لَهُ وأطاع. وَعمل بِمُوجبِه، كَمَا رُوِيَ أَحْمد فِي كتاب الزّهْد: أَن أَبَا الزَّاهِرِيَّة أَتَى أَبَا الدَّرْدَاء، فَقَالَ: إِن ابْني جمع الْقُرْآن، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر، إِنَّمَا جمع الْقُرْآن من سمع لَهُ وأطاع، لَكِن يُعَكر على هَذَا أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة كلهم كَانُوا سَامِعين مُطِيعِينَ، وَأما الَّذين جَمَعُوهُ غَيرهم، فالخلفاء الْأَرْبَعَة جمعُوا الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكره أَبُو عَمْرو وَعُثْمَان بن سعيد الداني، وَقَالَ أَبُو عمر: جمعه أَيْضا على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: جمع الْقُرْآن فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبَادَة بن الصَّامِت وَأَبُو أَيُّوب خَالِد بن زيد، ذكره ابْن عَسَاكِر، وَعَن الداني: جمعه أَيْضا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَمجمع بن جَارِيَة، ذكره ابْن إِسْحَاق وَقيس ابْن أبي صعصعة عَمْرو بن زيد الْأنْصَارِيّ البدري، ذكره أَبُو عبيد بن سَلام فِي حَدِيث مطول، وَذكر ابْن حبيب فِي المحبر جمَاعَة مِمَّن جمع الْقُرْآن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم: سعد بن عبيد بن النُّعْمَان الأوسي، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِمَّنْ جمع الْقُرْآن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قيس بن السكن وَأم ورقة بنت نَوْفَل، وَقيل: بنت عبد الله بن الْحَارِث وَذكر ابْن سعد أَنَّهَا جمعت الْقُرْآن، وَذكر أَبُو عُبَيْدَة الْقُرَّاء من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعد من الْمُهَاجِرين الْأَرْبَعَة وَطَلْحَة وسعدا وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وسالما وَأَبا هُرَيْرَة وَعبد الله بن السَّائِب والعبادلة، وَمن النِّسَاء: عَائِشَة وَحَفْصَة وَأم سَلمَة، وَذكر ابْن أبي دَاوُد من الْمُهَاجِرين أيضاتميم بن أَوْس الدَّارِيّ وَعقبَة بن عَامر وَمن الْأَنْصَار: معَاذ الَّذِي يكنى أَبَا حليمة وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد، وَعَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَرَأت الْقُرْآن وَأَنا ابْن عشر سِنِين، وَقد ظهر من هَذَا أَن الَّذين جمعُوا الْقُرْآن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحصيهم أحد وَلَا يضبطهم عدد، وَذكر القَاضِي أَبُو بكر: فَإِن قيل: إِذا لم يكن دَلِيل خطاب فلأي شَيْء خص هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة بِالذكر دون غَيرهم؟ قيل لَهُ: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لتَعلق غَرَض الْمُتَكَلّم بهم دون غَيرهم، أَو يَقُول: إِن هَؤُلَاءِ فيهم دون غَيرهم. فَإِن قلت: قد حاول بعض الْمَلَاحِدَة فِيهِ بِأَن الْقُرْآن شَرطه التَّوَاتُر فِي كَونه قُرْآنًا، وَلَا بُد من خبر جمَاعَة أحالت الْعَادة تواطئهم على الْكَذِب قلت: ضَابِط التَّوَاتُر الْعلم بِهِ، وَقد يحصل بقول هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة، وَأَيْضًا لَيْسَ من شَرطه أَن يتَقَبَّل جَمِيعهم بل لَو حفظه كل جُزْء مِنْهُ عدد التَّوَاتُر لَصَارَتْ الْجُمْلَة متواترا، وَقد حفظ جَمِيع أَجْزَائِهِ مئون لَا يُحصونَ.
تابَعَهُ الفَضْلُ عنْ حُسَيْنِ بنِ واقِدٍ عنْ ثُمامَةَ عنْ أنَسٍ
أَي: تَابع حَفْص بن عمر فِي رِوَايَته هَذَا الحَدِيث الْفضل بن مُوسَى السينَانِي عَن حُسَيْن بن وَاقد بِالْقَافِ عَن ثُمَامَة بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الله قَاضِي الْبَصْرَة عَن جده أنس بن مَالك، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده عَن الْفضل ابْن مُوسَى فَذكره.
4005 - حدَّثنامُعَلَّى بنُ أسَدغ حدَّثنا عبْدُ الله بنُ المُثَنَّى قَالَ: حدّثني ثابِتٌ البُنانِيُّ وثُمامةُ عنْ أنَسٍ قَالَ: ماتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولمْ يَجْمَعِ القُرْآنِ غَيْرُ أرْبَعَةٍ: أبُو الدَّرْداءِ ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ وأبُو زَيْدٍ، قَالَ: ونَحْنُ ورِثْناهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين فِيهِ من الْقُرَّاء من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَهَذَا يُخَالف رِوَايَة قَتَادَة عَن أنس من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: التَّصْرِيح بِصِيغَة الْحصْر فِي الْأَرْبَعَة. الآخر: ذكر أبي الدَّرْدَاء بدل أبي بن كَعْب، وَقد مر(20/27)
الْجَواب عَن الأول: وَأما الثَّانِي، فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَانِ الحديثان مُخْتَلِفَانِ وَلَا يجوزان فِي الصَّحِيح مَعَ تباينهما، بل الصَّحِيح أَحدهمَا، وَجزم الْبَيْهَقِيّ أَن ذكر أبي الدَّرْدَاء وهم أنس حدث بِهَذَا الحَدِيث فِي وَقْتَيْنِ. فَذكر مرّة أبي بن كَعْب وَمُدَّة أُخْرَى بدله أَبَا الدَّرْدَاء، انْتهى: فَكيف يكون الصَّوَاب أبي بن كَعْب. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لَا أرى ذكر أبي الدَّرْدَاء مَحْفُوظًا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذكر فِي الطَّرِيق الأول أبي بن كَعْب من الْأَرْبَعَة، وَفِي هَذَا الطَّرِيق لم يذكرهُ، وَذكر قَوْله أَبَا الدَّرْدَاء، والراوي فيهمَا أنس، وَهَذَا أشكل الأسئلة. قلت: أما الأول: فَلَا قصر فِيهِ فَلَا يَنْفِي جمع أبي الدَّرْدَاء، وَأما الثَّانِي فَلَعَلَّ اعْتِقَاد السَّامع كَانَ أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لم يجمعوا وَأَبا الدَّرْدَاء لم يكن من الجامعين، فَقَالَ ردا عَلَيْهِ: لم يجمعه إلاَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة، ادَّعَاهُ ومبالغة فَلَا يلْزم مِنْهُ النَّفْي عَن غَيره حَقِيقَة إِذا لحصر لَيْسَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفس الْأَمر بل بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَاده انْتهى. قلت: قَوْله: أما الأول فَلَا قصر فِيهِ، ظَاهر وَأما قَوْله: وَأما الثَّانِي إِلَى آخِره، فَفِيهِ تَأمل وَهُوَ غير شافٍ فِي دفع السُّؤَال لِأَن قَوْله: فَقَالَ ردا عَلَيْهِ: لم يجمعه إلاَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة إِن كَانَ مُرَاده من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة هم المذكورون فِي الرِّوَايَة الأولى فَلَا سُؤال فِيهِ من الْوَجْه الَّذِي ذكر، وَإِن كَانَ مُرَاده أَنهم هم المذكورون فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة فالسؤال باقٍ على مَا لَا يخفي على النَّاظر إِذا أمعن نظره فِيهِ، وَقد نقل بَعضهم كَلَام الْكرْمَانِي هَذَا وَسكت عَنهُ كَأَنَّهُ رَضِي بِهِ للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَكَانَ من عَادَته أَن ينْقل شَيْئا من كَلَامه الْوَاضِح وَيرد عَلَيْهِ لعدم المبالاة بِهِ، وَرضَاهُ هُنَا لأجل دفع سُؤال السَّائِل فِي هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ المتباينتين اللَّتَيْنِ ذكرهمَا البُخَارِيّ حَتَّى قَالَ فِي جملَة كَلَامه: وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الْجَواب بِهَذَا الِاحْتِمَال الواهي مقنعا للسَّائِل مَعَ أَن أصل الحَدِيث وَاحِد والراوي وَاحِد؟ قَوْله: (وَنحن ورثناه) أَي: قَالَ أنس: نَحن ورثنا أَبَا زيد لِأَنَّهُ مَاتَ وَلم يتْرك عقبا وَهُوَ أحد عمومة أنس، وَقد تقدم فِي مَنَاقِب زيد بن ثَابت، قَالَ قَتَادَة: قلت: وَمن أَبُو زيد؟ قَالَ: أحد عمومتي.
5005 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخْبرنا يَحْيَى عنْ سُفْيانَ عنْ حَبِيبِ بنِ أبِي ثابِتٍ عنْ سَعِيدٍ ابنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أُبَيُّ اقْرَؤُنا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحنِ أُبَيّ، وأُبَيُّ يَقُولُ: أخذْتُهُ مِنْ فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ أتْرُكُهُ لِشَيء، قَالَ الله تَعَالَى: { (2) مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} (الْبَقَرَة: 601)
(انْظُر الحَدِيث 1844) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أبي اقرؤنا) لِأَنَّهُ يدل على أَنه أقرّ الْقُرَّاء من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي تفيسر سُورَة الْبَقَرَة عَن عَمْرو بن عَليّ: حَدثنَا يحيى أخبرنَا سُفْيَان عَن حبيب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أقرؤنا أبي وأقضانا عَليّ وَإِنَّا لندع إِلَى آخِره. وَقَالَ الْمزي فِي الْأَطْرَاف: لَيْسَ فِي رِوَايَة صَدَقَة ذكر عَليّ؟ قلت: كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَلَكِن ثَبت فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ فِي البُخَارِيّ، وَكَذَا ألحق الْحَافِظ الدمياطي ذكر عَليّ هُنَا وَصَححهُ، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ هَذَا بجيد لِأَنَّهُ سَاقِط من رِوَايَة الْفربرِي الَّتِي عَلَيْهَا مدَار رِوَايَته. قلت: هَذَا عَجِيب، وَكَيف يُنكر هَذَا على الدمياطي وَقد سبقه النَّسَفِيّ بِهِ؟ وَالَّذِي لَاحَ للدمياطي مَا لَاحَ لهَذَا الْقَائِل، فَلهَذَا قدم الْإِنْكَار.
قَوْله: (وَإِنَّا لندع) أَي: لنترك. قَوْله: (من لحن أبي) ولحن القَوْل فحواه وَمَعْنَاهُ، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا القَوْل. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: اللّحن بِسُكُون الْحَاء اللُّغَة وبالفتح الفطنة، واللحن أَيْضا إِزَالَة الْإِعْرَاب عَن وَجهه بالإسكان. قَوْله: (وَأبي يَقُول) جملَة حَالية. قَوْله: (لشَيْء) أَي: لناسخ، وَكَانَ أبي لَا يسلم نسح بعض الْقُرْآن، وَقَالَ: لَا أترك الْقُرْآن الَّذِي أَخَذته من فَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل نَاسخ، وَاسْتدلَّ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالْآيَةِ الدَّالَّة على النّسخ.
9 - (بابُ فَضْلِ فاتِحَةِ الكِتابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل فَاتِحَة الْكتاب، وَفِي بعض النّسخ: بَاب فِي فَضَائِل فَاتِحَة الْكتاب، وَفِي بَعْضهَا: بَاب فضل الْفَاتِحَة، وَمن أول قَوْله: بَاب فَضَائِل الْقُرْآن، إِلَى هُنَا لَيْسَ فِيهَا شَيْء يتَعَلَّق بفضائل الْقُرْآن، نعم يتَعَلَّق بِأُمُور الْقُرْآن وَهِي التراجم الَّتِي ذكرهَا إِلَى هُنَا.(20/28)
6005 - حدَّثنا عَليُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: حدّثني خُبَيْبُ بنُ عبْدِ الرحْمانِ عنْ حَفْصٍ بنِ عاصِمٍ عنْ أبي سَعِيدٍ بنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أصَلِّي، فَدَعَاني النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُول الله {إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. قَالَ: ألَمْ يَقُلِ الله: { (8) اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ} (الْأَنْفَال: 42) . ثُمَّ قَالَ: ألاَ أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سورَةٍ فِي القُرْآن قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِد؟ فأخذَ بِيَدِي، فَلمَّا أرَدْنا أنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يَا رسُولَ الله} إنَّكَ قُلْتَ: لاَ عَلَّمَنَّك أعْظَمَ سُورَة مِنَ القُرْآنِ، قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الْفَاتِحَة: 2) هيَ السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَلا أعلمك أعظم سُورَة فِي الْقُرْآن) إِلَى آخِره.
وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وخبيب بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الرَّحْمَن الخزرجي، وَحَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَبُو سعيد اسْمه الْحَارِث على اخْتِلَاف فِيهِ ابْن الْمُعَلَّى بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التعلية.
والْحَدِيث قد مر فِي أول كتاب التَّفْسِير فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي فاتحتة الْكتاب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
7005 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حَدثنَا وهْبٌ حَدثنَا هِشامٌ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ مَعْبَدٍ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا فِي مَسيرٍ لَنا، فَنَزَلْنا فَجاءَتْ جاريَةٌ فقالَتْ: إنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وإنَّ نَفَرَ ناغيَبٌ فَهَلْ منْكمْ رَاقٍ؟ فقامَ رجُلٌ مَا كُنا نأْبُنُهُ بِرُقْيَة، فَرَقاهُ فَبَرَأ، فأمَرَ لهُ بِثَلاَثِينَ شَاة وَسَقَانَا لِبَنَا، فلَما رجَعَ قُلْنا لهُ: أكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ قَالَ: لَا مَا رَقَيْتُ إلاَّ بأُمِّ الكِتاب، قُلْنا: لَا تُحدِثُوا شيْئا حَتَّى نأتِيَ أوْ نَسأَلَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ ذَكَرْناهُ لِلنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: وكا كانَ يُدْرِيهِ أنَّها رُقُيَةٌ؟ اقْسِمُوا واضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على فضل الْفَاتِحَة ظَاهرا. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث مطولا فِي كتاب الْإِجَارَة فِي: بَاب مَا يعْطى فِي الرّقية، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَن أبي المتَوَكل عَن أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهنا أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن وهب بن جرير عَن هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن معبد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة ابْن سِيرِين أخي مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك مَشْهُور باسمه وكنيته وبكنيته أَكثر وَبَينهمَا تفَاوت فِي الْإِسْنَاد وَفِي الْمَتْن أَيْضا، بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان، وَهُنَاكَ قَالَ أَبُو سعيد: انْطلق نفر من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفرة سافروها الحَدِيث، وَهنا قَالَ: كُنَّا فِي مسير لنا، وَهَذَا يدل على أَن أَبَا سعيد كَانَ مَعَ النَّفر الَّذين سافروا فِي الحَدِيث الَّذِي هُنَاكَ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِن الرجل الراقي هُوَ أَبُو سعيد نَفسه الرَّاوِي للْحَدِيث.
قَوْله: (سليم) أَي: لديغ، وَكَأَنَّهُم تفاءلوا بِهَذَا اللَّفْظ. قَوْله: (غيب) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف المخففة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَهُوَ جمع غَائِب ويروي: غيب، بِضَم الْغَيْن وَتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة. قَوْله: (راقٍ) اسْم فَاعل من رقي يرقي من بَاب ضرب يضْرب، وَأَصله راقي فأعل إعلال قاصٍ. قَوْله: (مَا كُنَّا نأبنه) أَي: ماكنا نعلمهُ أَنه يرقي فنعينه، ومادته همزَة وباء مُوَحدَة وَنون، من أبنت الرجل ابْنه وَابْنه إِذا رميته بخلة سوء، وَهُوَ مأبون وَالِابْن بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء التُّهْمَة. قَوْله: (وَكنت ترقي) بِكَسْر الْقَاف. قَوْله: (مَا رقيت) بِفَتْح الْقَاف. قَوْله: (إلاَّ بِأم الْكتاب) وَهِي الْفَاتِحَة. قَوْله: (لَا تحدثُوا) من الإحداث أَي: لَا تحدثُوا أمرا وَلَا تعلمُوا شَيْئا حَتَّى نأتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَو نسْأَل) شكّ من الرَّاوِي. فَإِن قلت: يروي أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود، قَالَ: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره الرقيا إلاَّ بالمعوذات. قلت: قَالَ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه: لَا يَصح، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: وَفِي(20/29)
إِسْنَاده من لَا يعرف: وَابْن حَرْمَلَة لَا نعرفه فِي أصَاب عبد الله. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِحَدِيث عبد الرَّحْمَن بَأْس وَلم أر أحدا يُنكره أَو يطعن عَلَيْهِ، وَقَالَ السَّاجِي: لَا يَصح حَدِيثه، وَأما ابْن حبَان فَذكره فِي ثقاته، وَأخرج حَدِيثه فِي صَحِيح وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَبَقِيَّة الْكَلَام تقدّمت هُنَاكَ.
وَقَالَ أبُو مَعْمَرٍ: حَدثنَا عبْدُ الوَارِثِ حَدثنَا هِشَامٌ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ حدّثني مَعْبَدُ بن سِيرِينَ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ بِهاذَا
أَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو المقعد مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَهِشَام بن حسان، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيق التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ من مُحَمَّد بن سِيرِين لهشام وَمن معبد لمُحَمد فَإِنَّهُ فِي الْإِسْنَاد اذي سَاقه أَولا بالعنعنة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن يحيى الذهلي عَن أبي معمر كَذَلِك.
01 - (بابُ فَضْلِ سورَةِ البَقَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سُورَة الْبَقَرَة، وَفِي بعض النّسخ: فضل سُورَة الْبَقَرَة، بِلَا لفظ: بَاب، وَمعنى سُورَة الْبَقَرَة السُّورَة التيتذكر فِيهَا الْبَقَرَة.
8005 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بن كَثِيرٍ أخْبَرنا شعْبَةُ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي مَسْعُودِ، رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: منْ قرَأ بالآيَتَيْنِ..
9005 - حدَّثنا أبُو نُعيْمٍ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ عنْ أبي مَسْعُودٍ، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ قَرَأ بالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سورَةِ البقَرَةِ فِي لَيْلةٍ كَفَتاهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (كفتاه) لِأَن أحد مَعَانِيه: كفتاه عَن قيام اللَّيْل.
وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو البدري، وَهَذَا رجال الطَّرِيق الأول، وَرِجَال الطَّرِيق الثَّانِي: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسفيا بن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَفِي نُسْخَة أبي مُحَمَّد: عَن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن مَسْعُود، وَالصَّوَاب: أَبُو مَسْعُود، مكني لِأَنَّهُ حَدِيثه ومشهور بِهِ وَعنهُ خرجه مُسلم وَالنَّاس.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (بالآيتين) وهما من قَوْله: (آمن الرَّسُول) إِلَى آخر السُّور، وَوجه تخصيصهما بِمَا تضمنتا من الثَّنَاء على الله عز وَجل وعَلى الصَّحَابَة لجميل انقيادهم إِلَى الله تَعَالَى وابتهالهم ورجوعهم إِلَيْهِ فِي جَمِيع أُمُورهم، وَلما حصل فيهمَا من إِجَابَة دَعوَاهُم.
قَوْله: (كفتاه) أَي: عَن قيام اللَّيْل، وَقيل: مَا يكون من الْآفَات تِلْكَ اللَّيْلَة، وَقيل: من الشَّيْطَان وشره، وَقيل: كفتاه من حزبه إِن كَانَ لَهُ حزب من الْقُرْآن، وَقيل: حَسبه بهما أجرا وفضلاً، وَقيل: أقل مَا يَكْفِي فِي قيام اللَّيْل آيتان مَعَ أم الْقُرْآن وَقَالَ المظهري: أَي دفعتا عَن قاريهما شَرّ الْإِنْس وَالْجِنّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ النَّوَوِيّ: كفتاه عَن قِرَاءَة سُورَة الْكَهْف وَآيَة الْكُرْسِيّ. انْتهى. لم يقل النَّوَوِيّ ذَلِك وَكَانَ سَبَب وهمه أَنه عِنْد النَّوَوِيّ عقيب هَذَا بَاب فضل سُورَة الْكَهْف
وَآيَة الْكُرْسِيّ، فَلَعَلَّ النُّسْخَة الَّتِي كَانَت لَهُ سقط مِنْهَا شَيْء فصحف عَلَيْهِ.
0105 - حدَّثنا وَقَالَ عُثْمانُ بنُ الهَيْثَمِ: حَدثنَا عَوْفٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: وكَّلَني رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِفْظِ زَكاةِ رمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْتُو مِنَ الطعامِ، فأخَذْتُهُ فقُلْتُ: لَأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَصَّ الحَدِيثَ، فَقَالَ: إذَا أويْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فاقْرأُ آيَةَ الكرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعكَ مِنَ الله حافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ حتَّى تُصْبِحَ. وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صَدَقكَ وهْوَ كذُوبُ ذَاكَ شَيْطَانٌ.(20/30)
(انْظُر الحَدِيث 1132 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعُثْمَان بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، فَالْبُخَارِي تَارَة يروي عَنهُ بالواسطة وَأُخْرَى بِدُونِهَا وَكَأَنَّهُ أَخذ عَنهُ مذاكرة، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب: حَدثنَا عُثْمَان بن الْهَيْثَم بِهِ، وعَوْف هُوَ الْأَعرَابِي.
والْحَدِيث مضى مطولا فِي كتاب الْوكَالَة فِي: بَاب إِذا وكل رجل رجلا فَترك الْوَكِيل شَيْئا، وَذكر هُنَا بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، فَقَالَ: وَقَالَ عُثْمَان بن الْهَيْثَم إِلَى آخِره، وَذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
قَوْله: (زَكَاة رَمَضَان) هُوَ الْفطْرَة. قَوْله: (فَقص الحَدِيث) هُوَ قَوْله: فَقَالَ إِنِّي مُحْتَاج وَعلي عِيَال ولي حَاجَة شَدِيدَة، قَالَ: فخليت عَنهُ فَأَصْبَحت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ مَا فعل أسيرك البارحة؟ قَالَ: قلت: شكى حَاجَة شَدِيدَة يَا رَسُول الله وعيالاً فرحمته فحليت سَبيله، قَالَ: أما أَنه قد كذب وَسَيَعُودُ، فَعَاد إِلَى ثَلَاث مَرَّات وَقَالَ فِي الثَّالِثَة: (إِذا أويت) من الثلاثي بِدُونِ الْمَدّ قَوْله: (لن يزَال) ، ويروى: لم يزل. قَوْله: (حَافِظًا) بِالنّصب وَالرَّفْع. أما النصب فعلى أَنه خبر: لن يزَال، وَأما الرّفْع فعلى أَنه اسْمه. قَوْله: (صدقك) أَي: فِي نفع قِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ، لَكِن شَأْنه وعادته الْكَذِب والكذوب قد يصدق. قَوْله: (ذَاك شَيْطَان) ، وَوَقع فِي كتاب الْوكَالَة: (ذَاك الشَّيْطَان) ، بِالْألف وَاللَّام إِمَّا للْجِنْس وَإِمَّا للْعهد الذهْنِي لِأَن لكل آدَمِيّ شَيْطَانا وكل بِهِ، وَيجوز أَن يكون عوضا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ أَي: ذَاك شَيْطَانك.
11 - (بابُ فَضْلِ سورَةِ الكَهْفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سُورَة الْكَهْف، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: فضل سُورَة الْكَهْف، وَلم يثبت لفظ: بَاب إلاَّ لأبي ذَر.
1105 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ حَدثنَا زُهَيْرٌ حَدثنَا أبُو إسْحاقَ عنِ البَرَاءُ، قَالَ: كانَ رجُلٌ يَقْرَأُ سورَة الكَهْفِ وَإِلَى جانِبِهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْن، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدنُو، وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفرُ. فلَمَّا أصْبَحَ أَتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لهُ فَقَالَ: تلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآن.
(انْظُر الحَدِيث 4163 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَزُهَيْر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْفَتْح، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق إِلَى آخِره، وَلم يذكر فِيهِ سُورَة الْكَهْف، وَإِنَّمَا قَالَ: يقْرَأ وَفرس لَهُ مربوط فِي الدَّار.
قَوْله: (كَانَ رجل) قيل: هُوَ أسيد بن حضير. قَوْله: (حصان) بِكَسْر الْحَاء، هُوَ الْفَحْل الْكَرِيم من الْخَيل قَوْله: (بشطنين) تَثْنِيَة شطن بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة، وَهُوَ الْحَبل، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّبْط بشطنين لأجل جموحه واستصعابه. قَوْله: (فتغشته) أَي: أحاطت بِهِ سَحَابَة. قَوْله: (تَدْنُو) أَي: تقرب. قَوْله: (ينفر) بالنُّون وَالْفَاء من النفرة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ينفر بِالْقَافِ وَالزَّاي، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ خطأ فَإِن كَانَ مَا قَالَه من حَيْثُ الرِّوَايَة فَلهُ وَجه، وَإِن كَانَ من حَيْثُ اللُّغَة فَلَيْسَ بِذَاكَ. قَوْله: (تِلْكَ السكينَة) وَاخْتلف أهل التَّأْوِيل فِي تَفْسِير السكينَة، فَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هِيَ ريح هفافة لَهَا وَجه كوجه الْإِنْسَان، وَعنهُ: إِنَّهَا ريح خجوج وَلها رأسان، وَعَن مُجَاهِد: لَهَا رَأس كرأس الهر وجناحان وذنب كذنب الهر، وَعَن الرّبيع: هِيَ دَابَّة مثل الهر لعينيها شُعَاع فَإِذا التقى الْجَمْعَانِ أخرجت فَنَظَرت إِلَيْهِم فينهزم ذَلِك الْجَيْش من الرعب وَعَن ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ: هِيَ طست من ذهب من الْجنَّة يغسل فِيهَا قُلُوب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصرة وَالسَّلَام، وَعَن ابْن مَالك: طست من ذهب ألْقى فِيهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، الألواح والتوراة والعصا. وَعَن وهب: روح من الله يتَكَلَّم، إِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء بيَّن لَهُم مَا يُرِيدُونَ. وَعَن الضَّحَّاك: الرَّحْمَة، وَعَن عَطاء مَا يعْرفُونَ من الْآيَات فيسكنون إِلَيْهَا، وَهُوَ اخْتِيَار الطَّبَرِيّ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمُخْتَار أَنَّهَا من الْمَخْلُوقَات فِيهِ طمأنينة وَرَحْمَة وَمَعَهُ الْمَلَائِكَة، وَقد تكَرر فِي الْقُرْآن والْحَدِيث لفظ السكينَة، فَيحل فيكل مَوضِع وَردت فِيهِ على مَا يَلِيق بِهِ من الْمعَانِي الْمَذْكُورَة، وَالَّذِي يَلِيق فِي الْمَذْكُور فِي الْبَاب قَول الضَّحَّاك، وَالله أعلم.
قَوْله: (تنزلت) فِي رِوَايَة الْكشميهني: تنزل، بِضَم اللَّام على صِيغَة الْمُضَارع، وَأَصله: تتنزل بتاءين فحذفت إِحْدَاهمَا.
21 - (بابُ فَضْلِ سورَةِ الفَتْحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سُورَة الْفَتْح، وَلَيْسَ لفظ: بَاب إلاَّ لأبي ذَر.(20/31)
2105 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حَدثنِي مالِكٌ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يسِيرُ فِي بعْضِ أسْفارِهِ وعُمَرُ بنُ الخَطّابِ يسِيرُ معَهُ لَيْلاً، فَسألَهُ عُمَرُ عنْ شَيْء فلَمْ يُجِبْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثُمَّ فلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سألَهُ فلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّك! نَزَرْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاثَ مرَّاتٍ كُلُّ ذلِك لَا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فحَرَّكْتُ بَعيرِي حَتَّى كنْتُ أمامَ النَّاس وخَشِيتُ أنْ يَنزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارِخا يَصْرُخُ، قَالَ: فقُلْتُ: لقَدْ خَشِيتُ أنْ يَكونَ نزَلَ فيَّ قُرْآنٌ، قَالَ: فَجِئْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَلَّمْتُ علَيْهِ فَقَالَ: لقَدْ أُنْزِلَتْ علَيَّ اللَّيْلَةَ سورَةُ لَهِيْ أحَبُّ إلَيَّ مِمِّا طلَعَتْ علَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَرَأ {إنَّا قتحْنا لكَ فتْحا مُبينا} (الْفَتْح: 1) .
(انْظُر الحَدِيث 7714 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (لقد أنزلت عَليّ) إِلَى آخِره. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أَوْس ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَزيد بن أسلم يروي عَن أَبِيه أسلم مولى عمر بن الْخطاب وَصُورَة هَذَا صُورَة الْإِرْسَال.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه فَقَالَ: عَن أبي سَمِعت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب، وَقد رَوَاهُ بَعضهم عَن مَالك فَأرْسلهُ وَأَشَارَ بذلك إِلَى الطَّرِيق الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ. وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن فِي أثْنَاء السِّيَاق مَا يدل على أَنه من رِوَايَة أسلم عَن عمر لقَوْله فِيهِ: قَالَ عمر: فحركت بَعِيري إِلَى آخر. والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْفَتْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عِنْد عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره.
قَوْله: (ثكلتك أمك) دُعَاء من عمر على نَفسه. قَوْله: (نزرت) بِفَتْح النُّون وَالزَّاي المخففة أَو الْمُشَدّدَة أَي: ألححت عَلَيْهِ وبالغت أَي فِي شأني من جرأتي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإلحاحي عَلَيْهِ قَوْله: (فَمَا نشبت) أَي: فَمَا لَبِثت قَوْله أحب إِلَى آخِره، وَكَانَت أحب لما فِيهَا من مغفرته مَا تقدم وَمَا تَأَخّر وإتمام النِّعْمَة عَلَيْهِ وَالرِّضَا عَن أَصْحَابه تَحت الشَّجَرَة، وَالله أعلم.
31 - (بابُ فَضْلِ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ بَاب.
فِيهِ: عَمْرَة عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي فضل {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) رَوَت عمر بنت عبد الرَّحْمَن عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْكرْمَانِي: وَلما لم يكن على طَريقَة شَرط البُخَارِيّ لم يَنْقُلهُ بِعَيْنِه فَاكْتفى بالأخبار عَنهُ إِجْمَالا قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل هَذَا على شَرطه، وَقد أخرجه بِتَمَامِهِ فِي أول كتاب التَّوْحِيد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا ابْن وهب حَدثنَا عَمْرو عَن ابْن أبي هِلَال أَن أَبَا الرِّجَال مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن حَدثهُ عَن أمه عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن وَكَانَت فِي حجرَة عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا على سَرِيَّة وَكَانَ يقْرَأ لأَصْحَابه فِي صلَاته فيختم ب {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) الحَدِيث، وَفِي آخِره: أَخْبرُوهُ أَن الله يُحِبهُ.
3105 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِك عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عبْدِ الله بن عبْدِ الرَّحْمانِ ابْن أبي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رجُلاً سَمِعَ رجلا يقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُها، فلَمَّا أصبَحَ جاءَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَكَرَ ذالكَ لهُ، وكأنَّ الرَّجُلَ يَتَقالُّها. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالَّذِي نَفْسي بيَدِه، إنَّها لتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأ وَرَوَاهُ أَبُو صَفْوَان الْأمَوِي عَن مَالك، فَقَالَ: عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة عَن أَبِيه. أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَالصَّوَاب هُوَ الَّذِي فِي الصَّحِيح وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ الصَّوَاب عبد الرَّحْمَن بن عبد الله، بَعْدَمَا رُوِيَ هَذَا الحَدِيث.
قَوْله: (أَن رجلا سمع رجلا) الرجل السَّامع كَانَ أَبُو(20/32)
سعيد الْخُدْرِيّ رَاوِي الحَدِيث، وَالرجل القارىء قتاذة بن النُّعْمَان. قَوْله: (يُرَدِّدهَا) أَي: يكررها. قَوْله: (يتقالها) بتَشْديد اللَّام، أَي: يعد أَنَّهَا قَليلَة، فِي رِوَايَة ابْن الطباع. كَأَنَّهُ يقللها، وَفِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان عَن مَالك: فَكَأَنَّهُ يستقلها وَالْمرَاد اسْتِقْلَال قِرَاءَته لَا التنقيص. قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن قِرَاءَة {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) لتعدل ثلث الْقُرْآن.
وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ الْمَازرِيّ: الْقُرْآن ثَلَاثَة أنحاء: قصَص وَأَحْكَام وصفات الله، عز وَجل، وَهَذِه السُّورَة متمحضة للصفات، وَهِي ثلث وجزء من الثَّلَاثَة، وَقيل: ثَوَابهَا يُضَاعف بِقدر ثَوَاب ثلث الْقُرْآن بِغَيْر تَضْعِيف، وَقيل: الْقُرْآن لَا يتَجَاوَز ثَلَاثَة أَقسَام: الْإِرْشَاد إِلَى معرفَة ذَات الله تَعَالَى، وَمَعْرِفَة أَسمَاء وَصِفَاته وَمَعْرِفَة أَفعاله وسننه، وَلما اشْتَمَلت هَذِه السُّورَة على التَّقْدِيس وازنها رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، بِثلث الْقُرْآن. وَقيل: إِن من عمل بِمَا تضمنته من الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ والإذعان بالخالق كمن قَرَأَ ثلث الْقُرْآن، وَقيل: قَالَ ذَلِك لشخص بِعَيْنِه قَصده رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَقَالَ أَبُو عمر: نقُول بِمَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا نعده وَنكل مَا جهلناه من مَعْنَاهُ فنره إِلَيْهِ، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا نَدْرِي لم تعدل هَذِه ثلث الْقُرْآن. وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن لَو قَرَأَ الْقُرْآن كُله كَانَت قِرَاءَة {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) تعدل ذَلِك إذاقرأها ثَلَاث مَرَّات، لَا، وَلَو قَرَأَهَا أَكثر من مِائَتي مرّة. وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: لَعَلَّ الرجل الَّذِي بَات يُرَدِّدهَا كَانَت مُنْتَهى حفظه فجَاء يقلل عمله، فَقَالَ لَهُ سيدنَا رَسُوله الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّهَا التعدل ثلث الْقُرْآن ترغيبا فِي عمل الْخَيْر، وَإِن قل: وَللَّه عز وَجل أَن يجازي عَبده على الْيَسِير بِأَفْضَل مِمَّا يجازي لكثير. وَقَالَ الْأصيلِيّ: مَعْنَاهُ يعدل ثَوَابهَا ثلث الْقُرْآن لَيْسَ فِيهِ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) وَأما تَفْضِيل كَلَام رَبنَا بعضه على بعض فَلَا، لِأَنَّهُ كُله صفة لَهُ، وَهَذَا مَا ماشٍ على أحد المذهبين أَنه لَا تَفْضِيل فِيهِ، وَنَقله الْمُهلب عَن الْأَشْعَرِيّ وَأبي بكربن أبي الطّيب وَجَمَاعَة عُلَمَاء السّنة. فَإِن قلت: فِي مُسْند ابْن ووهب عَن ابْن لَهِيعَة عَن الْحَارِث بن يزِيد عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: بَات قَتَادَة بن النُّعْمَان يقْرَأ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) حَتَّى أصبح، فَذكرهَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أَنَّهَا لتعدت ثلث الْقُرْآن أَو نصفه. قلت: قَالَ أَبُو عمر: هَذَا شكّ من الرواي لَا يجوز أَن يكون شكا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنَّهَا لَفْظَة غير مَحْفُوظَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا فِي غَيره وَالصَّحِيح الثَّابِت فِي هَذَا الحَدِيث وَغَيره أَنَّهَا لتعدل ثلث الْقُرْآن من غير شكّ، وَقد رُوِيَ ثلث الْقُرْآن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أبي بن كَعْب وَعمر، ذكرهمَا أَبُو عمر وَأَبُو أَيُّوب وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ وَسماك عَن النُّعْمَان بن بشير وَأَبَان عَن أنس.
4105 - وزَادَ أبُو مَعْمَرٍ: حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفرٍ عنْ مالِكِ بنِ أنَسٍ عنْ عبْدِ الرحْمانِ بنِ عبْدِ الله بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ أخي قَتادَةُ بنُ النّعْمَانِ أنَّ رجُلاً قامَ فِي زَمَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأُ مِنَ السَّحَرِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاص: 1) لَا يَزِيدُ علَيْها، فلَمَّا أصْبَحْنا أتَى رجُلٌ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ.
أَبُو معمر هَذَا هُوَ عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري، قَالَه الدمياطي. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر والمزي: هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن معمر بن الْحسن أَبُو معمر الْهُذلِيّ الْهَرَوِيّ، سكن بَغْدَاد وَجزم بِهِ صَاحب التَّلْوِيح، وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: كَذَا وَقع لشَيْخِنَا، يَعْنِي: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم واستصوب بَعضهم مَا قَالَه ابْن عَسَاكِر والمزي، وَقَالَ: وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا يكنى أَبَا معمر هما من شُيُوخ البُخَارِيّ لِأَن هَذَا الحَدِيث يعرف الْهُذلِيّ بل لايعرف للمنقري عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر شَيْئا. قلت: كلا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمل وترجيح أَحدهمَا بِعَدَمِ علمه للمنقري عَن إِسْمَاعِيل رِوَايَة لَا يسْتَلْزم نفي علم غَيره بذلك.
وَأما هَذَا التَّعْلِيق فقد وَصله النَّسَائِيّ والإسماعيلي من طرق عَن أبي عمر عَن إِسْمَاعِيل إِلَى آخِره.
قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو سِيَاق الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (يقْرَأ من السحر) أَي: فِي السحر، أَو كلمة: من، بَيَانِيَّة.
5105 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْص حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حَدثنَا إبْرَاهيمُ والضَّحَّاك المِشْرَقِيُّ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأصْحابِهِ: أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أَن يقرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ(20/33)
فِي لَيْلَةٍ؟ فَشَقَّ ذالِكَ عَلَيْهِمْ وقالُوا: أَيّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رسولُ الله؟ فَقَالَ: الله الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الله الْوَاحِد الصَّمد ثلث الْقُرْآن) ، وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَن الضَّحَّاك بن شرَاحِيل، وَيُقَال: ابْن شُرَحْبِيل وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر يَأْتِي فِي كتاب الْأَدَب وَحكى الْبَزَّار أَن بَعضهم زعم أَنه الضَّحَّاك بن مزاجم وَهُوَ غلط.
قَوْله: (المشرقي) بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: نِسْبَة إِلَى مشرق بن زيد بن جشم بن حاشد، بطن من هَمدَان، وَهَكَذَا ضَبطه العسكري. وَقَالَ: من فتح الْمِيم فقد صحف، فَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ابْن أبي حَاتِم فَإِنَّهُ قَالَ: مشرق مَوضِع بِالْيمن، وَضَبطه بِفَتْح الْمِيم وَكسر الرَّاء الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن مَاكُولَا وتبعهما السَّمْعَانِيّ فِي مَوضِع، ثمَّ ذهل فَذكره بِكَسْر الْمِيم، كَمَا قَالَ العسكري، لَكِن جعل قافه فَاء ورد عَلَيْهِ ابْن الْأَثِير فَأصَاب فِيهِ. قَوْله: (أَيعْجزُ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. ويعجز بِكَسْر الْجِيم لِأَنَّهُ من بَاب ضرب يضْرب. وَأما عجزت الْمَرْأَة تعجز من بَاب نصر ينصر فَمَعْنَاه: صَارَت عجوزا بِفَتْح الْعين وعجوز بِالضَّمِّ مصدر عُجزت الْمَرْأَة وَأما عجزت الْمَرْأَة بِكَسْر الْجِيم تعجز من بَاب علم يعلم عَجزا بِفتْحَتَيْنِ وعجزا بِضَم الْعين وَسُكُون الْجِيم فَمَعْنَاه: عظمت عجيزتها. قَوْله: (الْوَاحِد الصَّمد) كِنَايَة عَن {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) فِيهَا ذكر الإل هية والوحدة والصمدية، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن الْأَعْمَش فَقَالَ: يقْرَأ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) فَهِيَ ثلث الْقُرْآن.
قَالَ الفِرَبْرِي: سمِعْتُ أَبَا جَعْفرٍ مُحَمَّدَ بنَ أبي حاتِم ورَّاقَ أبي عبْدِ الله يقُولُ: قَالَ أبُو عبْدِ الله: عنْ إبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ. وعنِ الضَّحَّاكِ المِشْرَقِيِّ مُسْنَدٌ
هَذَا ثَبت عِنْد أبي ذَر عَن شُيُوخه، والفربري هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر بن صَالح بن بشر، ونسبته إِلَى فربر قَرْيَة بَينهَا وَبَين بخاري ثَلَاث مراحل، وَقَالَ: سمع كتاب الصَّحِيح لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل تسعون ألف رجل فَمَا بَقِي أحد يرويهِ غَيْرِي، مَاتَ سنة عشْرين وثلاثمائة، وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أبي حَاتِم كَانَ يورق للْبُخَارِيّ أَي ينْسَخ لَهُ، وَكَانَ من الملازمين لَهُ العارفين بِهِ المكثرين عَنهُ. قَوْله: (وراق أبي عبد الله) . هُوَ البُخَارِيّ. وَكَذَلِكَ قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ. قَوْله: (عَن إِبْرَاهِيم) النَّخعِيّ عَن أبي سعيد (مُرْسل) وَهَذَا مُنْقَطع فِي اصْطِلَاح الْقَوْم، وَلَكِن البُخَارِيّ أطلق على الْمُنْقَطع لفظ الْمُرْسل. قَوْله: (وَعَن الضحك) أَي: الَّذِي يرويهِ عَن ابْن سعيد (مُسْند) يَعْنِي مُتَّصِل.
41 - (بابُ فَضْل المُعَوِّذَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل المعوذات، وَهِي بِكَسْر الْوَاو جمع معوذة وَالْمرَاد بهَا السُّور الثَّلَاث وَهِي: سُورَة الْإِخْلَاص وَسورَة الفلق وَسورَة النَّاس، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الثَّلَاثَة وَأحمد وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من حَدِيث عقبَة بن عَامر، قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) و {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} (الفلق: 1) و {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} (النَّاس: 1) تعوّذ بِهن فَإِنَّهُ لم يتَعَوَّذ بمثلهن وَفِي لفظ: اقْرَأ المعوذات دبر كل صَلَاة، فَذَكرهنَّ فَإِن قلت: التَّعَوُّذ ظَاهر فِي المعوذتين، وَكَيف هُوَ فِي سُورَة الْإِخْلَاص؟ قلت: لأجل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من صفة الرب أطلق عَلَيْهِ المعوذ وَإِن لم يُصَرح فِيهِ. وَمِنْهُم من ظن أَن الْجمع فِيهِ من بَاب إِن أقل الْجمع اثْنَان. وَلَيْسَ كَذَلِك، فَافْهَم.
6105 - حدَّثناعبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ، رضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إِذا اشْتَكَى يَقْرَأُ علَى نَفْسِهِ بالمُعَوِّذَاتِ ويَنْفُثُ فلَمَّا اشْتَدَّ وجعَهُ كُنْتُ أقْرَأُ علَيْهِ وأمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ وَفِي التَّفْسِير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ عَن سهل بن أبي سهل وَعَن غَيره.
قَوْله: (إِذا اشْتَكَى) أَي: إِذا مرض قَوْله: (ينفث) من النفث وَهُوَ إِخْرَاج الرّيح من الْفَم مَعَ شَيْء من الرِّيق.(20/34)
7105 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا المُفَضَّلُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا أوَى إِلَى فِرَاشِهِ كلَّ لَيْلةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهما فقَرَأ فِيهِما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاص: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (النَّاس: 1) ثُمَّ يَمْسَحُ بِهما مَا اسْتَطاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِما علَى رَأْسِهِ وَوجْهِهِ وَمَا أقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن الْمفضل على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من التَّفْضِيل ابْن فضَالة بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الْمُعْجَمَة، وَهَذَا الحَدِيث غير الحَدِيث الأول، وجعلهما أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي حَدِيثا وَاحِدًا وَعَابَ ذَلِك عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي وَفرق بَينهمَا فِي كِتَابه، وَكَذَا فعله خلف الوَاسِطِيّ، وأجدر بِهِ أَن يكون صَوَابا لتباينهما.
قَوْله: (إِذا أَوَى) ، يُقَال: أويت إِلَى منزلي، بقصر الْألف، وأويت غَيْرِي وآويته بِالْقصرِ وَالْمدّ. وَأنكر بَعضهم الْمَقْصُور الْمُتَعَدِّي، وأبى ذَلِك الْأَزْهَرِي فَقَالَ: هِيَ لُغَة فصيحة. قَوْله: (يبْدَأ بهما) . إِلَخ. وَعلم الْمُبْتَدَأ من لفظ: يبْدَأ، وَأما الْمُنْتَهى فَلَا يعلم إلاَّ من مُقَدّر تَقْدِيره: ثمَّ يَنْتَهِي إِلَى مَا أدبر من جسده. قَالَ المطهري فِي شرح المصابيح: ظَاهر الحَدِيث يدل على أَنه نفث فِي كَفه أَولا ثمَّ ققرأ وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد وَلَا فَائِدَة فِيهِ. وَلَعَلَّه سَهْو من الرَّاوِي، والنفث يَنْبَغِي أَن يكون بعد التِّلَاوَة ليوصل بركَة الْقُرْآن إِلَى بشرة القارىء أَو المقروء لَهُ، وَأجَاب الطَّيِّبِيّ عَنهُ: بِأَن الطعْن فِيمَا صحت رِوَايَته لَا يجوز، وَكَيف وَالْفَاء فِيهِ مثل مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت القرآة فاستعذ} (النَّحْل: 89) فَالْمَعْنى: جمع كفيه ثمَّ عزم على النفث فِيهِ أَو لَعَلَّ السِّرّ فِي تَقْدِيم النفث فِيهِ مُخَالفَة السَّحَرَة، وَالله أعلم.
51 - (بابُ نُزُولِ السَّكينَةِ والمَلاَئِكَةُ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة نزُول السكينَة، وَعطف عَلَيْهَا الْمَلَائِكَة. قيل: جمع بَينهمَا وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب ذكر السكينَة، وَلَا فِي حَدِيث الْبَراء السَّابِق فِي فضل سُورَة الْكَهْف ذكر الْمَلَائِكَة، وَوجه ذَلِك مَا قَالَه أَبُو الْعَبَّاس بن الْمُنِير: فهم البُخَارِيّ تلازمهما، وَفهم من الظلة أَنَّهَا السكينَة، فَلهَذَا سَاقهَا فِي التَّرْجَمَة. وَقَالَ ابْن بطال: دلّ على أَن السكينَة كَانَت فِي تِلْكَ الظلة وَأَنَّهَا تنزل أبدا مَعَ الْمَلَائِكَة.
8105 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حدّثني يَزِيدُ بنُ الهَادِ عنْ مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وفَرَسُهُ مَرْبُوطٌ عنْدَهُ، إذْ جالَتِ الْفَرَسُ فَسكَتَ فسَكَنَتْ. فَقَرَأ، فَجالَتِ الفَرَسُ فَسكَتَ فَسكَنَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأ فَجالَتِ الفَرَسُ، فانْصَرَفَ وكانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبا منْها فأشْفَقَ أَن تُصِيبَهُ، فَلمَّا اجْتَرَّهُ رفَعَ رأسَهُ إِلَى السَّماءِ حَتَّى مَا يَراها، فَلما أصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لهُ: اقْرَأ يَا ابنَ حُضَيْرٍ، قَالَ: فأشْفَقْتُ يَا رسُولَ الله أنْ تَطأ يَحْيَى وَكَانَ منْها قَرِيبا، فَرَفَعْتُ رأسِي فانْصَرَفْتُ إليْهِ، فرَفَعْتُ رأسِي إِلَى السَّماء فإِذا مثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أمْثالُ المَصابِيحِ، فَخَرَجْتُ حتَّى لَا أرَاها، قَالَ: وتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لصَوْتِكَ، ولَوْ قَرَأتَ لأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إليْها لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ.
مطابقه للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ فهم من الظلة السكينَة، وَأما الْمَلَائِكَة فَفِي قَوْله: (تِلْكَ الْمَلَائِكَة) وَيزِيد من الزِّيَادَة هُوَ ابْن أُسَامَة بن عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد بِحَذْف الْيَاء للتَّخْفِيف، وَسمي بالهاد لِأَنَّهُ كَانَ يُوقد ناره للأضياف وَلمن سلك الطَّرِيق لَيْلًا، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: وَقيل اسْم شَدَّاد أُسَامَة بن عَمْرو وَشَدَّاد لقب والهاد هُوَ عَمْرو وَقَالَ أَبُو عَمْرو وَكَانَ شَدَّاد بن الْهَاد سلفا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلأبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ كَانَ تَحت سلمى بنت عُمَيْس أُخْت أَسمَاء بنت عُمَيْس وَهِي أُخْت(20/35)
مَيْمُونَة بنت الْحَارِث لأمها، وَله رِوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سكن الْمَدِينَة ثمَّ تحول إِلَى الْكُوفَة، وَسلف الرجل زوج أُخْت امْرَأَته، وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم هُوَ التَّيْمِيّ من صغَار التَّابِعين وَلم يدْرك أسيد بن حضير فروايته عَنهُ مُنْقَطِعَة، لَكِن الِاعْتِمَاد فِي وصل الحَدِيث الْمَذْكُور على الْإِسْنَاد الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: (قَالَ ابْن الْهَاد) على مَا يَجِيء عَن قريب، وَهَذَا الْإِسْنَاد مُنْقَطع ومعلق وَصله أَبُو عبيد فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث بالإسنادين جَمِيعًا.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَغَيره، وَفِي المناقب عَن أَحْمد بن سعيد الريَاحي.
قَوْله: (بَيْنَمَا) كلمة بَين زيدت فِيهَا مَا يُضَاف إِلَى الْجُمْلَة وَيحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَهنا جوابها هُوَ قَوْله: (إِذْ جالت الْفرس) يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى وَلِهَذَا قَالَ: (فجالت الْفرس) بالتأنيث وَقَالَ فِي قَوْله: (وفرسه مربوط) بالتذكير. قَوْله: (من اللَّيْل) أَي: فِي اللَّيْل، وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد فِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (بَيْنَمَا هُوَ يقْرَأ فِي مربده) أَي فِي الْمَكَان الَّذِي فِيهِ التَّمْر فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة أبي عبيد أَنه كَانَ يقْرَأ على ظهر بَيته، وَبَينهمَا تغاير قلت: قَوْله: (وفرسه مربوط إِلَى جَانِبه) يرد رِوَايَة ظهر الْبَيْت، إلاَّ أَن يُرَاد بِظهْر الْبَيْت خَارجه لَا أَعْلَاهُ فَيَنْتَفِي التغاير. فَإِن قلت: تقدم فِي بَاب فضل الْكَهْف: كَانَ رجل يقْرَأ سُورَة الْكَهْف وَإِلَى جَانِبه حصان، وَقد قيل: إِن هَذَا الرجل هُوَ أسيد بن حضير، وَإنَّهُ كَانَ يقْرَأ سُورَة الْكَهْف. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّه قرأهما يَعْنِي السورتين الْكَهْف وَسورَة الْبَقَرَة أَو كَانَ ذَلِك الرجل غير أسيد، هَذَا هُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (جالت) من الجولان وَهُوَ الِاضْطِرَاب الشَّديد. قَوْله: (قَرِيبا مِنْهَا) أَي: من الْفرس، يَعْنِي: كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت قَرِيبا مِنْهَا. قَوْله: (فَلَمَّا اجتره) بجيم وتاء مثناة من فَوق وَرَاء مُشَدّدَة، من الاجترار من الْجَرّ أَي: فَلَمَّا جر أسيد ابْنه يحيى من الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ حَتَّى لَا يطَأ الْفرس رفع رَأسه، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: أَخّرهُ، بخاء مُعْجمَة مُشَدّدَة وَرَاء من التَّأْخِير أَي: أَخّرهُ من الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ خشيَة عَلَيْهِ. قَوْله: (يَا ابْن حضير) وَقع مرَّتَيْنِ أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِقْبَال والحض عَلَيْهَا، أَي: كَانَ يَنْبَغِي أَن تستمر على الْقِرَاءَة وتغتنم مَا حصل لَك من نزُول السكينَة وَالْمَلَائِكَة، وَالدَّلِيل على طلب دوَام الْقِرَاءَة جَوَابه: بِأَنِّي خفت إِن دمت عَلَيْهَا أَن يطَأ الْفرس وَلَدي. قَوْله: (وَكَانَ مِنْهَا) أَي: وَكَانَ يحيى قَرِيبا من الْفرس. قَوْله: (مثل الظلة) بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة: شَيْء مثل الصّفة، فَأول بسحابة نظل. قَوْله: (فَخرجت) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم. ويروى بِلَفْظ الغائبة، فَقيل: صَوَابه فعرجت بِالْعينِ. قَوْله: (دنت) أَي: قربت لصوتك، وَكَانَ حسن الصَّوْت وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: اقْرَأ أسيد فقد أُوتيت من مَزَامِير آل دَاوُد. قَوْله: (وَلَو قَرَأت) وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ليلى: إِمَّا إِنَّك لَو مضيت. قَوْله: (لَا تتوارى مِنْهُم) أَي: لَا تستتر من النَّاس، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ليلى: لرأيت الْأَعَاجِيب، وَفِيه جَوَاز رُؤْيَة بني آدم الْمَلَائِكَة فالمؤمنون يرونهم رَحْمَة وَالْكفَّار عذَابا، لَكِن بِشَرْط الصّلاح وَحسن الصَّوْت، وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا نَشأ عَن قِرَاءَة خَاصَّة من سُورَة خَاصَّة بِصفة خَاصَّة، وَلَو كَانَ على الْإِطْلَاق لحصل ذَلِك لكل قارىء.
وَفِيه: فَضِيلَة أسيد، وفضيلة قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة فِي صَلَاة اللَّيْل.
قَالَ ابنُ الهَادِ. حدّثنيهذا الحَدِيثَ عبدُ الله بنُ خَبابٍ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عنْ أُسَيْد بنِ حُضَيْرٍ
هَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي عَلَيْهِ الْعُمْدَة لِأَن ابْن الْهَاد رَوَاهُ هُنَا عَن عبد الله بن خباب على وزن فعال بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة مولى بن عدي بن النجار الْأنْصَارِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن أسيد بن حضير، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو نعيم الْحَافِظ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن خَلاد حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن ملْحَان، حَدثنَا يحيى بن بكير، حَدثنَا اللَّيْث بن سعد حَدثنِي يزِيد بن الْهَاد.
61 - (بابُ: مَنْ قَالَ لَمْ يتْرُكِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ مَا بَيْنَ الدَّفَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من قَالَ إِلَى آخِره، وَقد ترْجم لهَذَا الْبَاب للرَّدّ على الروافض الَّذين ادعوا أَن كثيرا من الْقُرْآن ذهب لذهاب حَملته وَأَن التَّنْصِيص على إِمَامَة عَليّ بن أبي طَالب واستحقاقه الْخلَافَة عِنْد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ثَابتا فِي الْقُرْآن، وَأَن الصَّحَابَة كتموه، وَهَذِه دَعْوَى بَاطِلَة مَرْدُودَة وحاشا الصَّحَابَة عَن ذَلِك. قَوْله: (إلاَّ مَا بَين الدفتين) أَي: الْقُرْآن(20/36)
الْمَكْتُوب بَين دفتي الْمَصَاحِف، وَهِي تَثْنِيَة دفة بِفَتْح الدَّال وَتَشْديد الْفَاء قَالَ فِي الْمغرب: الدفة الْجنب وَكَذَلِكَ الدُّف: وَمن دفتا السرج للوحين اللَّذين يقعان على جَنْبي الدَّابَّة، ودفتا الْمُصحف اللَّتَان ضمتاه من جانبيه، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الجلدان اللَّذَان بَين جَانِبي الْمُصحف، وَقيل: ترك من الحَدِيث أَكثر من الْقُرْآن. وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَا ترك مَكْتُوبًا بأَمْره إلاَّ الْقُرْآن. وَقيل: قد تقدم فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. من حَدِيث الشّعبِيّ عَن أبي جُحَيْفَة، قَالَ: قلت لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل عنْدكُمْ كتاب؟ قَالَ: لَا إلاَّ كتاب الله، أَو فهم أعْطِيه رجل مُسلم، أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة الحَدِيث وَأجِيب بِأَنَّهُ لَعَلَّهَا لم تكن مَكْتُوبَة بِأَمْر رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يُجَاب بِأَن بعض النَّاس كَانُوا يَزْعمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أوصى إِلَيّ عَليّ، فالسؤال هُوَ عَن شَيْء يتَعَلَّق بِذكر الْإِمَامَة فَقَالَ: مَا ترك شَيْئا مُتَعَلقا بِذكر الْإِمَامَة إلاَّ مَا بَين الدفتين من الْآيَات الَّتِي يتَمَسَّك بهَا فِي الْأمة. وَهَذَا حسن وَفِي التَّلْوِيح: (إلاَّ مَا بَين الدفتين) يحْتَمل أَنه مَا ترك شَيْئا من الدُّنْيَا أَو مَا ترك علما مسطورا سوى الْقُرْآن الْعَزِيز.
9105 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنا وشَدَّادُ بنُ مَعْقلٍ علَى ابنِ عبَّاسٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ شدَّادُ بنُ مَعْقلٍ: أتَرَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مِنْ شَيْء؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتيْنِ. قَالَ: ودَخَلْنا علَى مُحَمَّدٍ بنِ الْحَنِفِيَّة فَسألْناهُ، فَقَالَ: مَا تَرَكَ إلاَّ مَا بَيْن الدَّفَتَيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي الِاسْتِدْلَال على الروافض وَبَيَان بطلَان دَعوَاهُم بقول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَهُوَ ابْن عَليّ بن أبي طَالب الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنَفِيَّة، وَهِي خَوْلَة بنت جَعْفَر من نَبِي حنيفَة، وَكَانَت سبي الْيَمَامَة الَّذين سباهم أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبقول عبد الله بن عَبَّاس: وَفِيه نُكْتَة لطفية من البُخَارِيّ حَيْثُ اسْتدلَّ على الروافض فِي بطلَان مَذْهَبهم بِمُحَمد بن الْحَنَفِيَّة الَّذين يدعونَ إِمَامَته. فَلَو كَانَ شَيْء يتَعَلَّق بإمامة أَبِيه عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما كَانَ يَسعهُ كِتْمَانه لجلاله قدره وَقُوَّة دينه، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بقول ابْن عَبَّاس: فَإِنَّهُ ابْن عمر عَليّ بن أبي طَالب وَأَشد النَّاس لَهُ لُزُوما وإطلاعا على حَاله، فَلَو كَانَ عِنْده شَيْء من ذَلِك مَا وَسعه كِتْمَانه لِكَثْرَة علمه وَقُوَّة دينه وجلالة قدره. وَأخرج هَذَا الحَدِيث عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء الْأَسدي الْمَكِّيّ، سكن الْكُوفَة وَمَات بعد الثَّلَاثِينَ وَمِائَة، وَشَدَّاد على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: الْأَسدي الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، عَليّ بن أبي طَالب، وَلم يَقع لَهُ ذكر فِي البُخَارِيّ إِلَّا فِي هَذَا الْموضع.
قَوْله: (اترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (من شَيْء) فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: شَيْئا سوى الْقُرْآن. قَوْله: (قَالَ: ودخلنا) الْقَائِل هُوَ عبد الْعَزِيز بن رفيع.
71 - (بابُ فَضْلِ القُرْآنِ علَى سائِرِ الكَلاَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام، وَقد وَقع مثل لفظ هَذِه التَّرْجَمَة فِي حَدِيث أخرجه ابْن عدي من رِوَايَة شهر بن حَوْشَب عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه فِي إِسْنَاده عمر بن سعيد الْأَشَج وَهُوَ ضَعِيف.
0205 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خالِدٍ أبُو خالِدٍ حدَّثنا هَمَّامٌ حَدثنَا قَتادَةُ حَدثنَا أنَسٌ عنْ أبي مُوسى اعن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُها طيِّبٌ ورِيحُها طَيِّبٌ والَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآن كالتَّمْرَةِ طَعْمُها طيِّبٌ وَلَا ريحَ لَها، ومَثَلُ الْفاجِرِ الَّذِي يقْرَأُ القُرْآن كمَثَلِ الريْحانَةِ(20/37)
رِيحُها طيِّبٌ وطَعْمُها ومَثَلُ الْفاجِرِ الَّذِي لَا يٌ قْرَأُ القُرْآنَ كمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، طَعْمُها مُر وَلَا رِيحَ لَها.
قيل: الحَدِيث فِي بَيَان فضل قارىء الْقُرْآن، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض إِلَى ذكر فضل الْقُرْآن. قلت: لما كَانَ لقارىء الْقُرْآن فضل كَانَ لِلْقُرْآنِ فضل أقوى مِنْهُ، لِأَنَّهُ الْفضل للقارىء إِنَّمَا يحصل من قِرَاءَة الْقُرْآن فتأتي مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ وَرِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وَهِي رِوَايَة قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هدبة، وَعَن غَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد بِهِ وَعَن عبيد الله بن معَاذ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن عبيد الله بن سعيدوفي الْأَيْمَان عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار.
قَوْله: (مثل الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن) إِلَى آخِره إعلم أَن هَذَا التَّشْبِيه والتمثيل فِي الْحَقِيقَة وصف اشْتَمَل على معنى مَعْقُول صرف لَا يبرزه عَن مكنونة إلاَّ تَصْوِيره بالمحسوس الْمشَاهد، ثمَّ إِن كَلَام الله الْمجِيد لَهُ تَأْثِير فِي بَاطِن العَبْد وَظَاهره، وَإِن الْعباد متفاوتون فِي ذَلِك، فَمنهمْ من لَهُ النَّصِيب الأوفر من ذَلِك التَّأْثِير وَهُوَ الْمُؤمن القارىء، وَمِنْهُم من لَا نصيب لَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ الْمُنَافِق الْحَقِيقِيّ، وَمِنْهُم من تأثر ظَاهره دون بَاطِنه وَهُوَ الْمرَائِي أَو بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الْمُؤمن الَّذِي لم يقرأه، وإبراز هَذِه الْمعَانِي وتصويرها فِي المحسوسات مَا هُوَ مَذْكُور فِي الحَدِيث وَلم يجد مَا يُوَافِقهَا ويلايمها أقرب وَلَا أحسن وَلَا أجمع من ذَلِك لِأَن المشبهات والمشبه بهَا وَارِدَة على التَّقْسِيم الْحَاضِر، لِأَن النَّاس إِمَّا مُؤمن أَو غير مُؤمن وَالثَّانِي إِمَّا مُنَافِق صرف أَو مُلْحق بِهِ، وَالْأول إِمَّا مواظب عَلَيْهَا، فعلى هَذَا قس الأثمار الْمُشبه بهَا وَوجه التَّشْبِيه فِي الْمَذْكُورَات مركب منتزع من أَمريْن محسوسين: طعم وريح، وَقد ضرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمثل بِمَا تنبته الأَرْض ويخرجه الشّجر للمشابهة الَّتِي بَينهَا وَبَين الْأَعْمَال فَإِنَّهَا من ثَمَرَات النُّفُوس، فحص مَا يُخرجهُ الشّجر من الأترجة وَالتَّمْر بِالْمُؤمنِ، وَبِمَا تنبته الأَرْض من الحنظلة والريحانة بالمنافق تَنْبِيها على علو شَأْن الْمُؤمن وارتفاع علمه ودوام ذَلِك، وتوقيفا على ضعة شَأْن الْمُنَافِق وإحباط عمله وَقلة جدواه. قَوْله: (مثل الَّذِي يقْرَأ) فِيهِ إِثْبَات الْقِرَاءَة على صِيغَة الْمُضَارع، وَفِي قَوْله: (لَا يقْرَأ) بِالنَّفْيِ لَيْسَ المُرَاد مِنْهَا حُصُولهَا مرّة ونفيها بِالْكُلِّيَّةِ بل المُرَاد مِنْهَا الِاسْتِمْرَار والدوام عَلَيْهَا، وَأَن الْقِرَاءَة دأبه وعادته وَلَيْسَ ذَلِك من هجيراه كَقَوْلِه: فلَان يقري الضَّيْف ويحمي الْحَرِيم. قَوْله: (كالأترجة) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم الرَّاء وَتَشْديد الْجِيم وَقد تخفف، ويروى اترنجة، بالنُّون الساكنة بعد الرَّاء. وَحكى أَبُو زيد: ترنجة وترنج وترج، وَجه التَّشْبِيه بالأترنجة لِأَنَّهَا أفضل مَا يُوجد من الثِّمَار فِي سَائِر الْبلدَانِ، وأجدى لأسباب كَثِيرَة جَامِعَة للصفات الْمَطْلُوبَة مِنْهَا، والخواص الْمَوْجُودَة فِيهَا فَمن ذَلِك كبر جرمها وَحسن منظرها وَطيب مطعمها ولين ملمسها تَأْخُذ الْأَبْصَار صبغة ولونا فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين تتوق إِلَيْهَا النَّفس قبل التَّنَاوُل تفِيد آكلها بعد الالتذاذ بذوقها طيب نكهة ودباغ معدة وهضم اشْتِرَاك الْحَواس الْأَرْبَع الْبَصَر والذوق والشم واللمس فِي الاحتظاء بهَا ثمَّ إِن أجزاءها تَنْقَسِم على طبائع: قشرها حَار يَابِس، ولحمها حَار وَرطب، وحماضها بَارِد يَابِس، وبرزها حَار مجفف، وفيهَا من الْمَنَافِع مَا هُوَ مَذْكُور فِي الْكتب الطبية. قَوْله: (وَلَا ريح لَهَا) ويروي فِيهَا. قَوْله: (وَمثل الْفَاجِر) أَي: الْمُنَافِق. قَوْله: كَمثل الحنظلة طعمها مر وَلَا ريح لَهَا، وَوَقع فِي التِّرْمِذِيّ كَمثل الحنظلة طعهمها مر وريحها مر. قيل: الَّذِي عِنْد البُخَارِيّ أحسن لِأَن الرّيح لَا طعم لَهُ إِذْ المرارة عرض وَالرِّيح عرض وَالْعرض لَا يقوم بِالْعرضِ وَوجه هَذَا بِأَن رِيحهَا لما كَانَ كريها استعير للكراهة لفظ المرارة لما بَينهمَا من الْكَرَاهَة الْمُشْتَركَة.
1205 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيى عنْ سُفْيانَ حدّثني عبْدُ الله بنُ دِينارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إنَّما أجَلُكُمْ فِي أجَلِ مَنْ خلاَ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ ومَغْرِبِ الشَّمْسِ ومَثَلُكُمْ ومَثَلُ اليَهُودِ والنَّصارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً. فَقَالَ:(20/38)
مَن يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهارِ علَى قِيرَاطٍ فَعَلِمَتِ اليَهُودُ. فَقَالَ: منْ يَعمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهارِ إِلَى العَصْرِ علَى قيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ النَّارَى، ثُمَّ أنْتُمْ تَعلَمونَ مِنَ العَصْرِ إِلَى المَغْرِبِ بِقِيرَاطِيْنَ قِيرَاطَيْنِ. قالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً وأقَلُّ عَطاءً. قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَاكَ فَضْلي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا قيل مَعَ إصْلَاح الْفَقِير إِيَّاه من أَن ثُبُوت فضل هَذِه الْأمة على غَيرهَا من الْأُمَم بِالْقُرْآنِ الَّذِي أمروا بِالْعَمَلِ بِهِ. فَإِذا ثَبت الْفضل بِالْقُرْآنِ فضل لَا فضل فَوْقه، وَتَأْتِي الْمُطَابقَة من هَذِه الْجِهَة. وَإِن كَانَ فِيهِ بعض تعسف.
وَأخرج الحَدِيث عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخِره، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفِي.
81 - (بابُ الوَصَايَةِ بِكتابِ الله عَزَّ وجَلَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوِصَايَة بِكِتَاب الله عز وَجل بِالْهَمْزَةِ بعد الْألف وبالياء آخر الْحُرُوف وَفتح الْوَاو وَكسرهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، بَاب الْوَصِيَّة، وَالْمرَاد بِالْوَصِيَّةِ بِكِتَاب الله حفظه حسا وَمعنى، وإكرامه وصونه، وَلَا يُسَافر بِهِ إِلَى أَرض الْعَدو، وَيتبع مَا فِيهِ فَيعْمل بأوامره ويجتنب نواهيه ويداوم تِلَاوَته وتعلمه وتعليمه، وَنَحْو ذَلِك.
2205 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا مالِكُ بنُ مِغوَلٍ حدَّثنا طَلْحَةُ قَالَ: سألْتُ عبدَ الله بنِ أبي أوْفَى آوْصَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ على النَّاسِ الوَصيَّةُ امرُوا بِها ولَمُ يُوصِ؟ قَالَ: أوْصَى بِكِتابِ الله.
(انْظُر الحَدِيث 5472 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أوصى بِكِتَاب الله) وَمَالك بن مغول، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو، وَفِي آخِره لَام: البَجلِيّ، وَطَلْحَة بن مصرف على وزن اسْم فَاعل من التصريف اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَاسم أبي أَو فِي عَلْقَمَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْوَصَايَا عَن خَلاد بن يحيى وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي نعيم، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بِكِتَاب الله) قيل إِنَّه منَاف لقَوْله: (لَا) وَأجِيب بِأَنَّهُ مَخْصُوص بِمَا يتَعَلَّق بِالْمَالِ أَو بِأَمْر الْخلَافَة.
91 - (بابُ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرْآنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم ير التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ. وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام من طَرِيق ابْن جريج عَن ابْن شهَاب بِسَنَد حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ: من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ منا، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: الحَدِيث أثبت التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ، فَلم ترْجم الْبَاب بقوله: من لم يَتَغَنَّ؟ بِصُورَة النَّفْي، وَفِي جَوَابه: هُوَ وهم وَذُهُول حَيْثُ قَالَ. قلت: أما بِاعْتِبَار مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ منا، فَأَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك الحَدِيث، وَلما لم يكن بِشَرْطِهِ لم يذكرهُ انْتهى وَجه الْوَهم أَنه قَالَ: وَلما لم يكن بِشَرْطِهِ، فَكيف يَقُول ذَلِك وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام كَمَا ذَكرْنَاهُ؟ وَيَأْتِي عَن قريب تَفْسِير التَّغَنِّي.
وقَوْلِهِ تَعَالَى: { (29) أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} (العنكبوت: 15)
وَقَوله تَعَالَى، مجرور عطفا على قَوْله: من لم يَتَغَنَّ لِأَنَّهُ فِي مَحل الْجَرّ بِإِضَافَة لفظ بَاب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أورد هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى أَن معنى التَّغَنِّي الِاسْتِغْنَاء لِأَن مَضْمُون الْآيَة الْإِنْكَار على من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ عَن غير من الْكتب السالفة، وَهِي نزلت فِي قوم آتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِكِتَاب فِيهِ خبر من أَخْبَار الْأُمَم، فَالْمُرَاد بِالْآيَةِ الِاسْتِغْنَاء بِالْقُرْآنِ عَن أَخْبَار الْأُمَم، وَلَيْسَ المُرَاد بهَا الِاسْتِغْنَاء الَّذِي هُوَ ضد الْفقر وَاتبع البُخَارِيّ التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الْآيَة ليدل على أَن هَذَا(20/39)
مَذْهَب فِي الحَدِيث، وَهُوَ مُوَافق لتأويل سُفْيَان، يتَغَنَّى بِهِ، لكنه حمله على ضد الْفقر، وَالْبُخَارِيّ حمله على مَا هُوَ أَعم من ذَلِك، وَهُوَ إِلَّا كتفاء مُطلقًا.
3205 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهاب قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَمْ يأذَنِ الله لشَيْء مَا أذِنَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَتَغَنَّى بالقرْآنِ.
وَقَالَ: صاحبٌ لهُ يريدُ يَجْهَرُ بِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه فِي التَّوْحِيد أَيْضا.
قَوْله: (للنَّبِي) بالنُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة رُوَاة البُخَارِيّ كلهم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: لشَيْء، بالشين الْمُعْجَمَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم فِي جَمِيع طرقه. قَوْله: (مَا أذن للنَّبِي) بِالْألف وَاللَّام عِنْد أبي ذَر، وَعَن، غَيره لنَبِيّ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَقَالَ بَعضهم: فَإِن كَانَت مَحْفُوظَة بِالْألف وَاللَّام فَهِيَ للْجِنْس وَوهم من ظَنّهَا للْعهد، وتوهم أَن المُرَاد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا أذن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَشَرحه على ذَلِك. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره عين الْوَهم، وَالْأَصْل فِي الْألف وَاللَّام أَن يكون للْعهد خُصُوصا فِي الْمُفْرد، وعَلى مَا ذكره يفْسد الْمَعْنى لِأَنَّهُ يكون على هَذِه الصُّورَة لم يَأْذَن الله لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء مَا أذن لجنس النَّبِي وَهَذَا فَاسد. قَوْله: (أَن يبتغى) كَذَا فِي رِوَايَة الْكل بِلَفْظَة: أَن وَفِي رِوَايَة أبي نعيم من وَجه آخر: عَن يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ بِدُونِ: أَن وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن الصَّوَاب حذف (أَن) وَأَن إِثْبَاتهَا وهم من بعض الروَاة لأَنهم كَانُوا يروون بِالْمَعْنَى، فَرُبمَا ظن بَعضهم الْمُسَاوَاة فَوَقع فِي الْخَطَأ لِأَن الحَدِيث لَو كَانَ بِلَفْظ أَن لَكَانَ من الْإِذْن بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال بِمَعْنى الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق، وَلَيْسَ ذَلِك مرَادا هُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ من الْأذن بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاع. قَوْله: (أذن) أَي: اسْتمع، وَالْحَاصِل أَن لَفْظَة: أذن، بفتحة ثمَّ كسرة فِي الماصي، وَكَذَا فِي الْمُضَارع مُشْتَرك بَين الْإِطْلَاق وَالِاسْتِمَاع تَقول: آذَنت آذن بِالْمدِّ، فَإِن أردْت الْإِطْلَاق فالمصدر بِكَسْر ثمَّ سُكُون، وَإِن أردْت الِاسْتِمَاع فالمصدر أذن بِفتْحَتَيْنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أصل الْأذن بِفتْحَتَيْنِ أَن المستمع يمِيل بأذنه إِلَى جِهَة من يسمعهُ، وَهَذَا الْمَعْنى فِي حق الله لَا يُرَاد بِهِ ظَاهر، وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل التَّوَسُّع على مَا جرى بِهِ عرف التخاطب، وَالْمرَاد بِهِ فِي حق الله تَعَالَى إكرام القارىء وإجزال ثَوَابه، لِأَن ذَلِك ثَمَرَة الإصغاء.
وَاخْتلفُوا فِي معنى التَّغَنِّي، فَعَن الشَّافِعِي: تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ، وَيُؤَيِّدهُ قَول ابْن أبي مليكَة فِي سنَن أبي دَاوُد إِذا لم يكن حسن الصَّوْت يُحسنهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَقيل: يَسْتَغْنِي بِهِ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أَحْمد عَن وَكِيع وَقيل: يَسْتَغْنِي بِهِ عَن أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والكتب الْمُتَقَدّمَة، وَقيل: مَعْنَاهُ التشاغل بِهِ والتغني، وَقيل: ضد الْفقر، وَقيل: من لم يرتح لقرَاءَته وسماعه، وَقَالَ الإِمَام: أوضح الْوُجُوه فِي تَأْوِيله: من لم يغنه الْقُرْآن وَلم يَنْفَعهُ فِي إيمَانه وَلم يصدق بِمَا فِيهِ من وعد ووعيد فَلَيْسَ منا، وَمن تَأَول بِهَذَا التَّأْوِيل كره الْقِرَاءَة بالألحان والترجيع، رُوِيَ ذَلِك عَن أنس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة فِي كتاب الثَّوَاب وَقَالُوا: كَانُوا يكرهونها بتطريب، وَهُوَ قَول مَالك، وَمِمَّنْ قَالَ: المُرَاد بِهِ تَحْسِين الصَّوْت والترجيع بقرَاءَته والتغني بِمَا شَاءَ من الْأَصْوَات واللحون الشَّافِعِي وَآخَرُونَ، وَذكر عمر بن شبة قَالَ: ذكرت لأبي عَاصِم النَّبِيل تَأْوِيل ابْن عُيَيْنَة الَّذِي ذكره عَن قريب، فَقَالَ: مَا يصنع ابْن عُيَيْنَة شَيْئا، حَدثنَا ابْن جريج عَن عَطاء عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: كَانَ لداود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، معزفة يتَغَنَّى عَلَيْهَا ويبكى ويبكى، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يقْرَأ الزبُور بسبعين لحنا وَيقْرَأ قِرَاءَة يطرب مِنْهَا المحموم، فَإِذا أَرَادَ أَن يبكي نَفسه لم تيقدابة فِي بر أَو بَحر إِلَّا أنصتن يسمعن ويبكين، وَمن الْحجَّة لهَذَا القَوْل أَيْضا حَدِيث ابْن مُغفل فِي وصف قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: ثَلَاث مَرَّات، وَهَذَا غَايَة الترجيع، ذكره البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام، وَسُئِلَ الشَّافِعِي عَن تَأْوِيل ابْن عُيَيْنَة، فَقَالَ: نَحن أعلم بِهَذَا لَو أَرَادَ الِاسْتِغْنَاء لقَالَ: من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ، وَلَكِن لما قَالَ: من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، علمنَا أَنه أَرَادَ بِهِ التَّغَنِّي، وَكَذَلِكَ فسره(20/40)
ابْن أبي مليكَة أَنه تَحْسِين الصَّوْت، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالنضْر بن شُمَيْل، وَمِمَّنْ أجَاز الألحان فِي الْقِرَاءَة فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول لأبي مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ذكّرنا رَبنَا، فَيقْرَأ أَبُو مُوسَى ويتلاحن، وَقَالَ مرّة: من اسْتَطَاعَ أَن يُغني بِالْقُرْآنِ غناء أبي مُوسَى فَلْيفْعَل، وَكَانَ عقبَة بن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من أحسن النَّاس صَوتا بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أعرض عَليّ سُورَة كَذَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَبكى عمر، وَقَالَ: مَا كنت أَظن أَنَّهَا نزلت، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود، وَرُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَاحْتج بِحَدِيث عبيد بن عُمَيْر، وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن يزِيد يتتبع الصَّوْت الْحسن فِي الْمَسَاجِد فِي شهر رَمَضَان، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه أَنهم كَانُوا يَسْتَمِعُون الْقُرْآن بألحان، وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الحكم رَأَيْت أبي وَالشَّافِعِيّ ويوسف بن عَمْرو يسمعُونَ الْقُرْآن بألحان، وَاحْتج الطَّبَرِيّ لهَذَا القَوْل، وَأَن معنى الحَدِيث: تَحْسِين الصَّوْت، بِمَا رُوِيَ سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (مَا أذن الله لشَيْء وَمَا أذن لنَبِيّ حسن الترنم بِالْقُرْآنِ) ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: ومعقول: إِن الترنم لَا يكون إلاَّ بالصوت إِذا حسنه وطرب بِهِ وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: تحمل الْأَحَادِيث الَّتِي جَاءَت فِي حسن الصَّوْت على التحزن والتخويف والتشويق، وَرُوِيَ سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ: أَي النَّاس أحسن صَوتا بِالْقُرْآنِ؟ قَالَ: (الَّذِي إِذا سمعته رَأَيْته خشِي الله تَعَالَى وَعند الْآجُرِيّ من حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر عَن إِبْرَاهِيم عَن أبي الزبير عَن جَابر يرفعهُ: أحسن النَّاس صَوتا بِالْقُرْآنِ الَّذِي إِذا سمعته يقْرَأ حسبته يخْشَى الله عز وَجل.
قَوْله: (وَقَالَ صَاحب لَهُ) أَي: لأبي سَلمَة، والصاحب هُوَ عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بَينه الزبيدِيّ عَن ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث أخرجه ابْن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي الزهريات من طَرِيقه بِلَفْظ: (مَا أذن الله لشَيْء مَا أذن لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) ، قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سَلمَة يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ، فَكَأَن هَذَا التَّفْسِير لم يسمعهُ ابْن شهَاب من أبي سَلمَة، وسَمعه من عبد الحميد عَنهُ فَكَانَ تَارَة يُسَمِّيه وَتارَة يبهمه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجْهر بِهِ مَعْنَاهُ بتحسين صَوته وتحزينه وترقيقه، وَيسْتَحب ذَلِك مَا لم تخرجه الألحان عَن حد الْقِرَاءَة فَإِن أفرط حَتَّى زَاد حرفا أَو أخْفى حرفا فَهُوَ حرَام.
4205 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سلَمَةَ بن عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا أذنَ الله لشَيْء مَا أذِن لِلنبيِّ أنْ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ. قَالَ سُفْيانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أخرجه عَن عَليّ بن أبي عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي تَفْسِيره أَي تَفْسِير قَوْله: (يتَغَنَّى يسْتَغْنى بِهِ) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
4205 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سلَمَةَ بن عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا أذنَ الله لشَيْء مَا أذِن لِلنبيِّ أنْ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ. قَالَ سُفْيانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أخرجه عَن عَليّ بن أبي عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي تَفْسِيره أَي تَفْسِير قَوْله: (يتَغَنَّى يسْتَغْنى بِهِ) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
02 - (بابُ اغْتِباطِ صاحِبِ القُرْآنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اغتباط صَاحب الْقُرْآن، والاغتباط من الْغِبْطَة وَهُوَ حسد خَاص، يُقَال: غبطت الرجل أغبطه غبطا إِذا اشْتهيت أَن يكون لَك مثل مَاله، وَأَن يَدُوم عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ، وحسدته أحسده حسدا إِذا اشْتهيت أَن يكون لَك مثله، وَأَن يَزُول عَنهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتِرَاض على هَذِه التَّرْجَمَة بِأَن صَاحب الْقُرْآن لَا يغتبط نَفسه بل يغتبطه غَيره، وَأجَاب عَنهُ بَعضهم بِأَن الحَدِيث لما كَانَ دَالا على أَن غير صَاحب الْقُرْآن يغتبط صَاحب الْقُرْآن بِمَا أعْطِيه من الْعَمَل بِالْقُرْآنِ، فاغتباط صَاحب الْقُرْآن بِعَمَل نَفسه أولى. قلت: هَذَا لَيْسَ بِذَاكَ، وَكَيف يُوَجه هَذَا الْكَلَام وَقد علم أَن الْغِبْطَة اشتهاه مثل مَا أعْطى فلَان مثلا، وَكَيف يتَصَوَّر اغتباط من أعْطى مثل مَا أعْطى غَيره، وَالْأَحْسَن فِيهِ أَن يقدر فِي التَّرْجَمَة مَحْذُوف تَقْدِيره: بَاب باغتياط الرجل صَاحب الْقُرْآن، وَلَا يحْتَاج إِلَى تعسفات بعيدَة.(20/41)
5205 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْريِّ قَالَ: حدّثني سالِمُ بنُ عبدِ الله أنَّ عبْدَ الله بنَ عُمرَ رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ: لَا حَسَدَ إلاَّ علَى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتاهُ الله الكِتابَ وقامَ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ، ورَجُلٌ أعْطاهُ الله مَالا فَهْوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا حسد إِلَّا على اثْنَتَيْنِ) ، فَإِن المُرَاد بِالْحَسَدِ هُنَا الْحَسَد الْخَاص وَهُوَ الْغِبْطَة، تدل عَلَيْهِ التَّرْجَمَة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (لَا حسد) أَي: لَا رخصَة فِي الْحَسَد إلاَّ فِي خَصْلَتَيْنِ، قيل: الْحَسَد قد يكون فِي غَيرهمَا فَمَا معنى الْحصْر؟ وَأجِيب بِأَن الْمَقْصُود: لَا حسد جَائِز فِي شَيْء من الْأَشْيَاء إلاَّ فيهمَا وَقيل: أَرْبَد بِالْحَسَدِ شدَّة الْحِرْص وَالتَّرْغِيب. قَوْله: (إلاَّ على اثْنَتَيْنِ) وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم فِي كتاب الْعلم إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، وَكَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْآتِي، وَكلمَة على تَأتي بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة} (الْقَصَص: 51) {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سيلمان} (الْبَقَرَة: 201) أَي: فِي ملكه. قَوْله: (آنَاء اللَّيْل) الآناء جمع أَنِّي مثل معي، قَالَه الْأَخْفَش، وَقيل: أَنى وأنو. يُقَال: مضى أنيان من اللَّيْل وأنوان، وآناء اللَّيْل ساعاته وَلم يذكر فِيهِ النَّهَار وَلم يذكر فِيهِ النَّهَار وَفِي مستخرج أبي نعيم، من طَرِيق أبي بكر بن زَنْجوَيْه عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: آنَاء اللَّيْل وآناء النَّهَار، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن يسَار عَن أبي الْيَمَان، وَكَذَا هُوَ عِنْد مُسلم من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ، وَالْمرَاد بِالْقيامِ بِالْكتاب الْعَمَل بِهِ.
6205 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا رَوْحٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا حَسَدَ إلاّ فِي اثْنَتَيْنِ: رجُلٌ عَلَّمَهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ إناءَ اللّيْلِ وآناءَ النَّهارِ فَسَمِعَهُ جارٌ لهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِي فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، ورَجُلٌ آتاهُ الله مَالا فهْوَ يُهْلِكُهُ فِي الحَقِّ، فَقَالَ رجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فعَلِمْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ بِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ اخْتلف فِيهِ فَقيل: هُوَ الوَاسِطِيّ فِي قَول الْأَكْثَرين وَاسم جده عبد الْمجِيد الْيَشْكُرِي وَهُوَ ثِقَة متقن عَاشَ بعد البُخَارِيّ نَحْو عشْرين سنة، وَقيل: هُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم نسب إِلَى جده، وَبِهَذَا جزم ابْن عدي، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن مَنْدَه: هُوَ عَليّ بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم، نسب إِلَى جده، وَقَالَ الْحَاكِم: قيل: هُوَ عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْمروزِي وَهُوَ مَجْهُول، وَقيل: الوَاسِطِيّ، وروح هُوَ ابْن عبَادَة، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وذكوان بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة هُوَ أَبُو صَالح السمان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
قَوْله: (أُوتيت) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وأوتي كَذَلِك كلهَا على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (يهلكه) بِضَم الياءمن الإهلاك. قَوْله: (فِي الْحق) ، قيد لِأَنَّهُ إِذا كَانَ فِي غير الْحق فَلَا غِبْطَة فِيهِ وَالله أعلم.
12 - (بابٌ: خَيْرُكُمْ منْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه وَوضع التَّرْجَمَة من نفس الحَدِيث.
7205 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: أخبرَني عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ سَمعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ عنْ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ السَّلَمِيِّ عنْ عُثْمانَ، رَضِي الله عنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القرْآنَ وعَلَّمَهُ.
التَّرْجَمَة والْحَدِيث وَاحِد. وعلقمة بن مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمُثَلَّثَة وبالدال الْمُهْملَة: الْحَضْرَمِيّ الْكُوفِي، وَسعد بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة الْكُوفِي السّلمِيّ ختن أبي عبد الرَّحْمَن واسْمه عبد الله بن حبيب بن ربيعَة بِالتَّصْغِيرِ السمي الْكُوفِي(20/42)
القارىء، لِأَبِيهِ صَحبه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن حَفْص ابْن عَمْرو وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن غيلَان وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ وَغَيره وَهنا أَدخل شُعْبَة بَين عَلْقَمَة وَأبي عبد الرَّحْمَن بن سعد بن عُبَيْدَة. وَفِي الحَدِيث الْآتِي خَالف الثَّوْريّ شُعْبَة وَلم يدْخلهُ بَينهمَا، وَقد تَابع شُعْبَة جمَاعَة وعدهم الْحَافِظ أَبُو الْعَلَاء الْحسن بن أَحْمد الْعَطَّار فِي كِتَابه الْهَادِي فِي الْقرَاءَات فَوق الثَّلَاثِينَ مِنْهُم، عبد بن حميد وَقيس بن الرّبيع، قَالَ: وَقد تَابع سُفْيَان أَيْضا جمَاعَة وعدهم فَوق الْعشْرين، مِنْهُم: مسعر وَعَمْرو بن قيس الْملَائي وَأخرج البُخَارِيّ الطَّرِيقَيْنِ، فَكَأَنَّهُ ترجح عِنْده أَنَّهُمَا جَمِيعًا محفوظان: وَرجح الْحفاظ رِوَايَة الثَّوْريّ، وعدوا رِوَايَة شُعْبَة من الْمَزِيد فِي مُتَّصِل الْأَسَانِيد، وَيحمل على أَن عَلْقَمَة سَمعه أَولا من سعد ثمَّ لَقِي أَبَا عبد الرَّحْمَن فحدثه بِهِ أَو سَمعه مَعَ سعد من أبي عبد الرَّحْمَن، فَثَبت فِيهِ سعد.
وَعلل أَبُو الْحسن الْقشيرِي هَذَا الحَدِيث بِثَلَاث علل: الأولى: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور. الثَّانِيَة: وقف من وَقفه، وإرسال من أرْسلهُ. الثَّالِثَة: مَا رُوِيَ عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: لم يسمع أَبُو عبد الرَّحْمَن من عُثْمَان، وَقيل لأبي حَاتِم: أسمع من عُثْمَان قَالَ: رُوِيَ عَنهُ لَا يذكر سَمَاعا. وَأجِيب عَن الأولى: بِأَنَّهُ لَا يُوجب الْقدح فِي الحَدِيث لأَنا نعلم أَن سُفْيَان وَشعْبَة إِذا اخْتلفَا فِي الحَدِيث فَالْحَدِيث حَدِيث سُفْيَان. قَالَ وَكِيع: رُوِيَ شُعْبَة حَدِيثا فَقيل لَهُ: إِن سُفْيَان يخالفك فِيهِ، قَالَ: دعوا حَدِيثي، سُفْيَان أحفظ مني وَعَن الثَّانِيَة: إِن الاعتلال بِالْوَقْفِ والإرسال لَيْسَ بقادح لِأَن الزِّيَادَة عَن الْحَافِظ الثِّقَة مَقْبُولَة إِجْمَاعًا. وَعَن الثَّالِثَة: بِأَن بَعضهم قَالُوا: إِن الأكابر من الصَّدْر الأول قَالُوا: إِن أَبَا عبد الرَّحْمَن قَرَأَ الْقُرْآن على عُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،، فَإِن قلت: رُوِيَ أَبُو الْحسن سعيد بن سَلام الْعَطَّار الْبَصْرِيّ هَذَا الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن أبان عَن عَلْقَمَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان عَن أَبِيه عُثْمَان. قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وهم فِي ذكر أبان فِي إِسْنَاده، فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء: فَإِن ثَبت رِوَايَته فَالْحَدِيث غَرِيب على أَنه يحْتَمل أَن يكون السّلمِيّ سمع الحَدِيث من أبان ثمَّ سَمعه من عُثْمَان نَفسه، وَرُوِيَ عَاصِم بن عَليّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ عَن شُعْبَة عَن مسعر عَن عَلْقَمَة عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن السّلمِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن ثبتَتْ هَذِه الرِّوَايَة فَهُوَ غَرِيب جدا وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحَضْرَمِيّ عَن شريك عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن السّلمِيّ عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وأصحها: عَلْقَمَة عَن سعد عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عُثْمَان مَرْفُوعا، وَقد أدرج بعض الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات يظنّ من لَا علم لَهُ بمساق الحَدِيث إِنَّهَا مَرْفُوعَة، وَهُوَ أَن أَبَا يحيى إِسْحَاق بن سُلَيْمَان الرَّازِيّ رُوِيَ عَن الْجراح بن الضَّحَّاك رُوِيَ عَن الْجراح بن الضَّحَّاك عَن عَلْقَمَة عَن السّلمِيّ عَن عُثْمَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه، وَفضل على سَائِر الْكَلَام كفضل الْخَالِق على الْمَخْلُوق، وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ، وَهَذِه الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ من كَلَام أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ ذَلِك عَامَّة الْحفاظ بَينهَا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَغَيره.
قَوْله: (وَعلمه) بواو الْعَطف عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: أَو علمه، بِكَلِمَة أَو للتنويع لَا للشَّكّ. وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن قِرَاءَة الْقُرْآن أفضل أَعمال الْبر كلهَا، لِأَنَّهُ لما كَانَ من تعلم الْقُرْآن أَو علمه أفضل النَّاس أَو خَيرهمْ دلّ عَليّ على مَا قُلْنَا. فَإِن قلت: إيما أفضل تعلم الْقُرْآن أَو تعلم الْفِقْه؟ قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: تعلم اللَّازِم مِنْهُمَا فرض على الْأَعْيَان، وَتعلم جميعهما فرض على الْكِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ قوم سقط عَن البَاقِينَ، فَإِن فَرضنَا الْكَلَام فِي التزيد مِنْهُمَا على قدر الْوَاجِب فِي حق الْأَعْيَان فالمتشاغل بالفقه أفضل، وَذَلِكَ رَاجع إِلَى حَاجَة الْإِنْسَان لِأَنَّهُ الْفِقْه أفضل من الْقِرَاءَة، وَإِنَّمَا كَانَ القارىء فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الأفقه فَلذَلِك قدم القارىء فِي الصَّلَاة.
قَالَ: وأقْرَأْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ فِي إمْرةِ عُثْمانَ حتَّى كانَ الحَجَّاجُ، قَالَ: وذَاكَ الَّذِي أقْعَدَني مَقْعَدِي هاذَا.
أَي: قَالَ سعد بن عُبَيْدَة أَقرَأ أَبُو عبد الرَّحْمَن من الإقراء يَعْنِي أَقرَأ أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّاس فِي إمرة عُثْمَان بن عَفَّان إِلَى أَن انْتهى إقراؤه النَّاس إِلَى زمن الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَهَذِه مُدَّة طَوِيلَة، وَلم يبين ابْتِدَاء إقرائه، وَلَا انْتِهَاء آخِره على التَّحْرِير، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن بَين أول خلَافَة عُثْمَان وَآخر ولَايَة الْحجَّاج الْعرَاق ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سنة إلاَّ ثَلَاثَة أشهر، وَبَين آخر(20/43)
خلَافَة عُثْمَان وَأول ولَايَة الْحجَّاج الْعرَاق ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة. قَوْله: (قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي) أَي: قَالَ أَبُو عبد الرخمن السّلمِيّ: وَذَاكَ إِشَارَة إِلَى الحَدِيث الْمَرْفُوع أَي: إِن الحَدِيث الَّذِي حدث بِهِ عُثْمَان فِي أَفضَلِيَّة من تعلم الْقُرْآن وَعلمه حَملَنِي على أَن أقعدني مقعدي هَذَا وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَقْعَده الَّذِي كَانَ يقْرَأ النَّاس فِيهِ. وَفِي الْحَقِيقَة مُرَاده من المعقد الَّذِي أقعد فِيهِ مَنْزِلَته الَّتِي حصلت لع مَعَ طول الْمدَّة ببركة تَعْلِيمه الْقُرْآن الْكَرِيم للنَّاس، وَإِسْنَاده إِلَيْهِ إِسْنَاد مجازي، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا صَرِيحًا مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وحجاج بن مُحَمَّد جَمِيعًا عَن شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سعد بن عُبَيْدَة قَالَ: قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: فَذَاك الَّذِي أقعدني هَذَا المقعد وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ: أَقْرَأَنِي، بِذكر الْمَفْعُول وَهَذَا أنسب لقَوْله: وَذَلِكَ أَي إقراؤه إيَّايَ هُوَ الَّذِي أقعدني فِي هَذَا المقعد الرفيع والمنصب الْجَلِيل، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: إِن الْكرْمَانِي كَأَنَّهُ ظن أَن قَائِل: وَذَاكَ الَّذِي أقعدني، هُوَ سعد بن عُبَيْدَة وَلَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَلَو كَانَ كَمَا ظن للَزِمَ أَن تكون الْمدَّة الطَّوِيلَة سبقت لبَيَان زمَان قِرَاءَة أبي عبد الرَّحْمَن لسعد بن عُبَيْدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك وَأَيْضًا فَكَانَ يلْزم أَن يكون سعد بن عُبَيْدَة قَرَأَ على أبي عبد الرَّحْمَن من زمن عُثْمَان، وَسعد لم يدْرك زمَان عُثْمَان، فَإِن أكبر شيخ لَهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَقد عَاشَ بعد عُثْمَان خمس عشر سنة. انْتهى. قلت: مَا قَالَه هُوَ الصَّوَاب، وَقد تاه الْكرْمَانِي فِي هَذَا، وَمَا اكْتفى بنقله رِوَايَة: أَقْرَأَنِي الني مَا صحت حَتَّى بنى عَلَيْهَا كَلَامه الَّذِي صدر من غير روية.
8205 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَد عنْ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عنْ عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ أفْضَلَكُمْ مَنْ تَعلَّمَ القُرْآنَ أوْ عَلَّمَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 7205) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. أخرجه عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِن أفضلكم) ، وَذكر فِي الطَّرِيق الْمَاضِي: خَيركُمْ، وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى لِأَن قَوْله: خَيركُمْ، تَقْدِيره: أخيركم، وَلَا شكّ أَن أخيرهم هُوَ أفضلهم. قَوْله: (أَو علمه) بِكَلِمَة: أَو ثَبت عِنْدهم وَقد ذكرنَا وَجهه، وَوَقع فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق بشر بن السّري عَن سُفْيَان: خَيركُمْ أَو أفضلكم، وَوَقع التنويع بَين الْخَيْرِيَّة والأفضلية كَمَا نرَاهُ.
9205 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ هَوْنِ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: أتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأةٌ فقالَتْ: إنَّها قَدْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلّهِ ولِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَالِي فِي النِّساءِ مِنْ حاجَةٍ، فَقَالَ رجُلٌ: زَوِّجْنِيها. قَالَ: أعْطِها ثَوْبا. قَالَ: لَا أجِدُ. قَالَ: أعْطِها ولوْ هاتَما مِنْ حَديدٍ، فاعْتَلَّ لهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: كذَا وكَذَا. قَالَ: فقَدْ زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ..
قيل مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوج الْمَرْأَة لحُرْمَة الْقُرْآن، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن السِّيَاق يدل على أَنه زَوجهَا لَهُ على أَن يعلمهَا قلت: فِي كل مِنْهُمَا نظر. أما الأول: فَلِأَن التَّرْجَمَة لَيست فِي بَيَان حُرْمَة الْقُرْآن، وَأما الثَّانِي: فدلالته على التَّزْوِيج على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيُمكن أَن يُوَجه الْمُطَابقَة من قَوْله: كَذَا وَكَذَا أَي: سُورَة كَذَا، على مَا وَقع هَكَذَا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ أَن الْفضل ظهر على الرجل بحفظه كَذَا وَكَذَا، سُورَة، وَلم يحصل لَهُ هَذَا الْفضل إلاَّ من فضل الْقُرْآن، فَدخل تَحت قَوْله: (خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن) ، لِأَنَّهُ تعلم وَدخل فِي المتعلمين، وَدخل أَيْضا تَحت قَوْله: (وَعلمه) لِأَنَّهُ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا زوجه إِيَّاهَا على أَن يعلمهَا الْقُرْآن.
وَبَقِي الْكَلَام هُنَا فِي فُصُول.
الأول: فِي رجال الحَدِيث، وهم: عَمْرو بِالْفَتْح ابْن عون بن أَوْس الوَاسِطِيّ، نزل الْبَصْرَة وَرُوِيَ مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي موضِعين.
الثَّانِي: أَنه أخرجه البُخَارِيّ هُنَا أَيْضا عَن قُتَيْبَة على مَا يَأْتِي، وَأخرجه أَيْضا فِي النِّكَاح فِي مَوَاضِع فِي: بَاب النّظر إِلَى الْمَرْأَة قبل التَّزْوِيج، عَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بأتم من هَذَا، وَهنا اخْتَصَرَهُ فِي: بَاب إِذا قَالَ الْخَاطِب للْوَلِيّ:(20/44)
زَوجنِي فُلَانَة، عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد إِلَى آخِره مُخْتَصرا وَفِي: بَاب التَّزْوِيج على الْقُرْآن عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي: بَاب الْمهْر بالعروض عَن يحيى عَن وَكِيع مُخْتَصرا. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة فَمُسلم أخرجه فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة بن سعيد، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَالنَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن هَارُون بن عبد الله وَابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن حَفْص بن عَمْرو.
الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: (امْرَأَة) ، اخْتلف فِي اسْم هَذِه الْمَرْأَة الواهبة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: هِيَ خَوْلَة بنت حَكِيم، وَقيل: هِيَ أم شريك الْأَزْدِيَّة، وَقيل: مَيْمُونَة، حُكيَ هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي كتاب المبهماتوق ال شَيخنَا زين الدّين لَا يَصح شَيْء من هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أما خوله فَإِنَّهَا لم تتَزَوَّج، وَكَذَلِكَ أم شريك لم تتَزَوَّج، وَأما مَيْمُونَة فَكَانَت إِحْدَى زَوْجَاته، فَلَا يَصح أَن تكون هَذِه لِأَن هَذِه قدر زَوجهَا لغيره. قَوْله: (وَلَو خَاتمًا) ، بِالنّصب أَي: وَلَو كَانَ الَّذِي يُعْطِيهَا خَاتمًا، ويروي بِالرَّفْع، فوجهه إِن صحت الرِّوَايَة يكون مَرْفُوعا بكان التَّامَّة الْمقدرَة أَي: وَلَو كَانَ خَاتم. قَوْله: (من حَدِيد) كلمة من بَيَانِيَّة. قَوْله: (فاعتل لَهُ) أَي: حزن وتضجر لأجل ذَلِك، وَقد جَاءَ اعتل بِمَعْنى تشاغل. قَوْله: (مَا مَعَك من الْقُرْآن؟) أَي: أَي شَيْء تحفظ من الْقُرْآن؟ قَوْله: (قَالَ: كَذَا وَكَذَا) ، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد سُورَة الْبَقَرَة وَالَّتِي تَلِيهَا.
الرَّابِع: فِي استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ وَفِيه: جَوَاز عقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ. وَصورته أَن يَقُول الرجل: قد وهبت لَك ابْنَتي، فَيَقُول الآخر: قبلت أَو تزوجت، وسواه فِي ذَلِك سميا الْمهْر أَو لَا فَإِن سمياه فلهَا الْمُسَمّى وإلاَّ فلهَا مهر مثلهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَمَالك على اخْتِلَاف عَنهُ. وَلَا خلاف فِي جَوَاز هبة الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من خَصَائِصه لقَوْله عز وَجل: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} (الْأَحْزَاب: 05) وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: لَا تحل الْهِبَة لأحد بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه مَا يسْتَدلّ بِهِ الشَّافِعِي على جَوَاز النِّكَاح بِمَا تراضى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ: كالسوط والنعل، وَإِن كَانَت قِيمَته أقل من دِرْهَم، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو الزِّنَاد وَابْن أبي ذِئْب وَيحيى بن سعيد وَاللَّيْث بن سعد وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد وَابْن وهب من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ مَالك لَا يجوز أقل من ربع دِينَار قِيَاسا على الْقطع فِي السّرقَة، وَقَالَ ابْن حزم: وَجَائِز أَن يكون صَدَاقا كل مَاله نصف قلَّ أَو كثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعير أَو غير ذَلِك، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله: (وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أكره أَن يكون الْمهْر بِمثل أجر الْبَغي وَلَكِن الْعشْرَة وَالْعِشْرين، وَعنهُ: السّنة فِي النِّكَاح الرطل من الْفضة، وَعَن الشّعبِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يتَزَوَّج الرجل على أقل من ثَلَاث أواقي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يكون الصَدَاق أقل من عشرَة دَرَاهِم، لما رُوِيَ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: عَن شريك عَن دَاوُد الزعافري عَن الشّعبِيّ، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا مهر أقل من عشرَة دَرَاهِم. وَالظَّاهِر أَنه قَالَ تَوْفِيقًا لِأَنَّهُ بَاب لَا يُوصل إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن عَليّ بَاطِلَة لِأَنَّهَا عَن دَاوُد الزعافري، وَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط، ثمَّ هِيَ مُرْسلَة لِأَن الشّعبِيّ لم يسمع من عَليّ قطّ حَدِيثا. قلت: قَالَ ابْن عدي: لم أَرَ لَهُ حَدِيثا مُنْكرا جَاوز الْحَد إِذا رُوِيَ عَنهُ ثِقَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ بِقَوي فِي الحَدِيث فَإِنَّهُ يكْتب حَدِيثه وَيقبل إِذا رُوِيَ عَنهُ ثِقَة، وَذكر عَن الْمزي أَن الشّعبِيّ سمع عَليّ بن أبي طَالب، وَلَئِن سلمنَا أَن رِوَايَته مُرْسلَة فقد قَالَ الْعجلِيّ: مُرْسل الشّعبِيّ صَحِيح وَلَا يكَاد يُرْسل إلاَّ صَحِيحا. وَالْجَوَاب عَن قَوْله: (وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) أَنه خَارج مخرج الْمُبَالغَة كَمَا فِي قَوْله: تصدقوا وَلَو بظلف محرق، وَفِي لفظ: وَلَو بفرسن شَاة، وَلَيْسَ الظلْف والفرسن مِمَّا يتَصَدَّق بهما وَلَا مِمَّا ينتفعه بهما، وَيُقَال: وَلَعَلَّ الْخَاتم كَانَ يُسَاوِي ربع دِينَار، وَيُقَال: لَعَلَّ التماسه للخاتم لم يكن كل الصَدَاق بل شَيْء يعجله لَهَا قبل الدُّخُول: وَفِيه: إجَازَة اتِّخَاذ خَاتم الْحَدِيد. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز لبسه، وَفِيه: مَا يسْتَدلّ بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، والظاهرية على جَوَاز التَّزْوِيج على سُورَة من الْقُرْآن، وَعَلِيهِ أَن يعلمهَا وَلم يجوز ذَلِك أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة صَحِيحَة وَاللَّيْث بن سعد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَقَالُوا: إِذا تزَوجهَا عَليّ تَعْلِيم سُورَة فَالنِّكَاح صَحِيح وَيجب فِيهِ مهر مثلهَا، وَهَذَا كمن تزوج امْرَأَة وَلم يسم لَهَا مهْرا فَإِنَّهُ يجب مهْرا لمثل وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ بِأَن قَوْله: (زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) أَن حمل على الظَّاهِر، فَذَلِك على السُّورَة لَا على تعليمها، وَإِذا كَانَ ذَلِك على السُّورَة فَهُوَ على حرمتهَا، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض للمهر كَمَا فِي تزوج أم سليم على إِسْلَامه(20/45)
فَلم يكن ذَلِك الْإِسْلَام مهْرا فِي الْحَقِيقَة، وَالسورَة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، وَيكون الْمَعْنى: زوجتكها بِسَبَب حُرْمَة مَا مَعَك من الْقُرْآن وبركته، فَتكون الْبَاء للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله: {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 04) فَإِن قلت: فِي رِوَايَة ابْن ماجة ذُو جتكها على مَا مَعَك من الْقُرْآن وَفِي مُسْند أحد السّنة: مَا مَعَك من الْقُرْآن. قلت أما على فَإِنَّهَا تَجِيء للتَّعْلِيل أَيْضا كالباء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 581) أَي: لهدايته إيَّاكُمْ، وَيكون الْمَعْنى زوجتكها لأجل مَا مَعَك من الْقُرْآن وَلَا يُنَافِي هَذَا تَسْمِيَة المَال، وَأما مَعَ، فَإِنَّهَا للمصاحبة وَالْمعْنَى، زوجتكها لمصاحبتك الْقُرْآن فَإِن قلت: الأَصْل فِي الْبَاء للمقابلة فَتكون هَهُنَا نَحْو وقولك: بِعْتُك ثوبي بِدِينَار. قلت: لَا يَصح هُنَا أَن تكون للمقابلة لِأَنَّهُ يلْزم أَن تكون الْمَرْأَة موهوبة وَذَلِكَ لَا يجوز إلاَّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: الْمَعْنى زوجتكها بِأَن تعلمهَا مَا مَعَك من الْقُرْآن، أَو مِقْدَار مَا مِنْهُ، وَيكون ذَلِك صَدَاقهَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: أَنطلق فقد زوجتكها فعلمها من الْقُرْآن، وَفِي رِوَايَة عَطاء: فعلمها عشْرين آيَة. قلت: قد ذكرنَا غير مرّة أَن هَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال فَيكون قد زَوجهَا مِنْهُ مَعَ تحريضه على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيكون الْمهْر مسكوتا عَنهُ إِمَّا النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، قد أصدق عَنهُ، كَمَا كفر عَن الواطىء فِي رَمَضَان إِذْ لم يكن عِنْده شَيْء موفقا بأمته، وَإِمَّا أَنه أبقى الصَدَاق فِي ذمَّته إِلَى أَن ييسر الله عَلَيْهِ.
22 - (بابُ القِرَاءَةِ عنْ ظَهْرِ القَلْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب أَي بِغَيْر نظر فِي الْمُصحف.
0305 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا يَعْقُوبُ بنَ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سعَدٍ أنَّ امْرَأةً جاءَتْ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رسولَ الله {جِئْتُ لِأَهَبَ لكَ نَفْسِي لكَ نَفْسِي فنَظَرَ إليْها رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَعَدَ النَّظَرَ إليْها وصوَّبَهُ ثُمَّ طأْطأ رَأسَهُ، فلَمَّا رَأتِ المَرْأَةُ لَمْ يَقْضِ فِيها شَيْئا جلَسَتْ، فقامَ رَجُلٌ مِنْ أصْحابِهِ فَقَالَ: يَا رسولَ الله} إنْ لَمْ يَكُنْ لكَ بِها حاجَةٌ فزَوِّجْنِيها. فَقَالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ منْ يْءٍ؟ فَقَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ اا. قَالَ: إذْهَبْ إِلَى أهْلِكَ فانْظُرْ هَلْ نَجِدُ شَيْئا؟ فذَهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ الله، مَا وجَدْتُ شَيْئَا. فَقَالَ: انْظُر ولَوْ خَاتما مِنْ حَديدِ، فطهَبَ ثُمَّ رجَعَ، فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسولَ الله وَلَا خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، ولاكِنْ هاذا إِزَارِي. قَالَ سَهْلٌ: مالَهُ رِدَاءٌ فلَها نِصْفُهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَصْنَعُ بإِزَارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ علَيْها مِنْهُ شَيْءٌ وإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ علَيْكَ شَيْءٌ، فجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قامَ فرآهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَلِّيَا، فأمَرَ بهِ فَدُعِيَ فلَمَّا جاءَ قَالَ: ماذَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كذَا وسُورَةُ كَذا وسُورَةُ كَذا، عَدَّها. قَالَ: أتَقْرَؤُهُنَّ عنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إذْهَبْ فقَدْ ملَّكْتُكَها بمَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ: أتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك) وَهُوَ حَدِيث سهل الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق.
وَأخرجه هُنَا وَهُوَ أتم من ذَاك قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك) إِنَّمَا هُوَ لاستثبات أَنه يحفظ تِلْكَ السُّورَة الَّتِي عدهَا وَذَلِكَ ليتَمَكَّن من تَعْلِيمه الْمَرْأَة، وَلَا يدل على أَن الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب أفضل. وَأجَاب بَعضهم بِأَن المُرَاد بِهِ بقوله: بَاب الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب، مشروعيتها أَو استحبابها، وَهُوَ مُطَابق لما ترْجم بِهِ، وَلم يتَعَرَّض لكَونهَا أفضل من الْقِرَاءَة نظرا. قلت: سُبْحَانَ الله، مَا أبعد هَذَا الْجَواب عَن الصَّوَاب وأبرده، وَالْبَاب مَذْكُور فِي بَيَان فَضَائِل الْقُرْآن، فَكيف يَقُول: وَلم يتَعَرَّض لكَونهَا أفضل من الْقِرَاءَة نظرا؟ وَلم يضع هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لبَيَان أَفضَلِيَّة الْقِرَاءَة نظرا. وَإِن كَانَ فِيهِ الاستثبات أَيْضا وَهُوَ لَا يُنَافِي الْأَفْضَلِيَّة(20/46)
أَيْضا على أَنه ورد أَحَادِيث كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (أعْطوا أعينكُم حظها من الْعِبَادَة، قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَمَا حظها من الْعِبَادَة؟ قَالَ: النّظر فِي الْمُصحف والتفكر فِيهِ وَالِاعْتِبَار عِنْد عجائبه) : وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي فَضَائِل الْقُرْآن من طَرِيق عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَفعه قَالَ: (فضل قِرَاءَة الْقُرْآن نظرا على من يقرأه ظهرا كفضل الْفَرِيضَة على النَّافِلَة) وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَمن طَرِيق ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا: (أديموا النّظر فِي الْمُصحف) ، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَقَالَ يزِيد بن حبيب: (من قَرَأَ الْقُرْآن فِي الْمُصحف خفف عَن وَالِديهِ الْعَذَاب وَإِن كَانَا كَافِرين) . رَوَاهُ ابْن وضاح.
قَوْله: (فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا) بتَشْديد الْعين أَي: رفع. قَوْله: (وَصَوَّبَهُ) ، أَي: خفضه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يحْتَمل أَن ذَلِك كَانَ قبل الْحجاب، وَيحْتَمل أَن يكون بعده وَهِي متلففة، وَأي ذَلِك فَإِنَّهُ يدْخل فِي بَاب نظر الرجل الْمَرْأَة المخطوبة. قَوْله: (ثمَّ طأطأ رَأسه) أَي: خفضه. قَوْله: (قَالَ سهل: مَاله رِدَاء فلهَا نصفه) ، مدرج من كَلَام سهل يُرِيد بِهِ أَن إزَاره يكون بَينهمَا، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا تصنع بإزارك إِن لبسته لم يكن عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْء وَإِن لبسته) أَي الْمَرْأَة إِن لبست الْإِزَار (لم يكن عَلَيْك شَيْء) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك حِين أَرَادَ الرجل قطعه ويعطيها نصفه. قَوْله: (فَرَآهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موليا) أَي: مُدبرا ذَاهِبًا معرضًا. قَوْله: (فدعي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (عَن ظهر قَلْبك) ، أَي: من حفظك لامن النّظر، وَلَفظ: الظّهْر، مقحم أَو بِمَعْنى الِاسْتِظْهَار. قَوْله: (ملكتكها) ويروى: (ملكتها) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذِه الرِّوَايَة وهم وَالصَّوَاب رِوَايَة من رُوِيَ: (زوجتكها) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون جرى لفظ التَّزْوِيج أَولا فملكها ثمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فقد ملكتها بِالتَّزْوِيجِ السَّابِق فَلَيْسَ بوهم.
وَفِيه: جَوَاز الْحلف بِغَيْر الِاسْتِحْلَاف، وتزويج الْعسر، وَجَوَاز النّظر إِلَى امْرَأَة يُرِيد أَن يَتَزَوَّجهَا.
32 - (بابُ اسْتِذْكارِ القُرْآنِ وتعَاهُدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان استذكار الْقُرْآن، أَي: طلب ذكر بِضَم الذَّال. قَوْله: (وتعاهده) أَي: تَجْدِيد يَد الْعَهْد بملازمته الْقِرَاءَة وَتَحفظه وَترك الكسل عَن تكراره.
1305 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابْن عُمرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِنما مثَلُ صاحِبِ القُرْآنِ كمَثَلِ صاحِبِ الإبِلِ المُعَقَّلةِ إِن عاهدها أمْسَكها وإِنْ أطْلَقَها ذَهَبتْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْفَضَائِل وَالصَّلَاة.
قَوْله: (المعقلة) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْقَاف أَي: المشدودة وبالعقال بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ ركبة الْبَعِير، شبَّه درس الْقُرْآن واستمرار تِلَاوَته بربط الْبَعِير الَّذِي يخْشَى مِنْهُ الهروب، فَمَا دَامَ التعاهد مَوْجُودا فالحفظ مَوْجُود، كَمَا أَن الْبَعِير مَا دَامَ مشدودا بالعق ال فَهُوَ مَحْفُوظ، وَخص الْإِبِل بِالذكر لِأَنَّهُ أَشد الْحَيَوَان الأنسي نفورا، وَفِي تَحْصِيلهَا بعد استمكان نفورها صعوبة. قَوْله: (ذهبت) ، أَي: انفلتت.
2305 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ منْصُور عنْ أبي وائِلٍ عنْ عبْدِ الله قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بِئْسَ مَا لِأحَدِهِمْ أنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيةَ كيْتَ وكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ، واستَذْكِرُوا القُرْآنِ فإِنهُ أشَدُّ تَفَصِّيا مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ منَ النَّعَمِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استذكروا الْقُرْآن) وَمُحَمّد بن عرْعرة، بِفَتْح الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَان الرَّاء الأولى: النَّاجِي الشَّامي الْبَصْرِيّ الْقرشِي أَبُو عبد الله، وَيُقَال: أَبُو إِبْرَاهِيم، رُوِيَ مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقرَاءَات(20/47)
عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَغَيره.
قَوْله: (بئس) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: بِئس أُخْت نِعم، الأولى للذم وَالْأُخْرَى للمدح، وهما فعلان غير متصرفين يرفعان الْفَاعِل ظَاهرا أَو مضمرا إلاَّ أَنه إِذا كَانَ ظَاهرا لم يكن فِي الْأَمر الْعَام إلاَّ بِالْألف وَاللَّام للْجِنْس أَو يُضَاف إِلَى مَا هما فِيهِ حَتَّى يشْتَمل على الْمَوْصُوف بِأَحَدِهِمَا، وَلَا بُد من ذكره تعيينا كَقَوْلِه: نعم الرجل زيد، وَبئسَ الرجل عَمْرو، فَإِن كَانَ الْفَاعِل مضمرا فَلَا بُد من ذكر اسْم نكرَة ينصب على التَّفْسِير للمضمر كَقَوْلِك: نعم رجلا زيد، وَقد يكون هَذَا التَّفْسِير مَا على نَص عَلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث، وكما فِي قَوْله: فَنعما هِيَ: وَمَا، نكرَة مَوْصُوفَة. قَوْله: (أَن يَقُول) مَخْصُوص بالذم أَي: بئس شَيْئا كَائِنا أحدهم. يَقُول قَوْله: (نسيت) ، بِفَتْح النُّون وَتَخْفِيف السِّين اتِّفَاقًا. قَوْله: (كَيْت وَكَيْت) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَيْت وَكَيْت، يعبر بهما عَن الْجمل الْكَثِيرَة، والْحَدِيث الطَّوِيل، وَمثلهَا: ذيت وذيت، وَقَالَ ثَعْلَب: كَيْت للأفعال، وذيت للأسماء، وَحكى ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ أَن هَذِه الْكَلِمَة مثل: كَذَا إلاَّ بالمؤنث، وَزعم أَبُو السعادات أَن أَصْلهَا: كيه، بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّاء فِيهَا بدل من إِحْدَى الياءين وَالْهَاء الَّتِي فِي الأَصْل محذوفة وَقد تضم التَّاء وتكسر. قَوْله: (بل نُسي) بِضَم النُّون وَكسر السِّين الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: رَوَاهُ بعض رُوَاة مُسلم بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ عِيَاض: كَانَ أَبُو الْوَلِيد الوقشي لَا يجوز فِي هَذَا غير التَّخْفِيف، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: التثقيل مَعْنَاهُ أَنه عُوقِبَ بِوُقُوع النسْيَان عَلَيْهِ لتَفْرِيطه فِي معاهدته واستذكاره، قَالَ: وَمعنى التَّخْفِيف أَن الرجل تَركه غير ملتفت إِلَيْهِ، وَالْحَاصِل أَن الذَّم فِيهِ يرجع إِلَى الْمقَال فنهي أَن يُقَال: نسيت آيَة كَذَا إِلَّا أَنه يتَضَمَّن التساهل فِيهِ والتغافل عَنهُ وَهُوَ كَرَاهَة تَنْزِيه، وَقَالَ القَاضِي: الأولى أَن يُقَال: إِنَّه ذمّ الْحَال لَازم الْمقَال، أَي: بئس حَال من حفظ الْقُرْآن فيغفل عَنهُ حَتَّى نَسيَه، وَقَالَ الْخطابِيّ: بئس، يَعْنِي: عُوقِبَ بِالنِّسْيَانِ على ذَنْب كَانَ مِنْهُ أَو على سوء تعهده بِالْقُرْآنِ حَتَّى نَسيَه، وَقد يحْتَمل معنى آخر وَهُوَ أَن يكون ذَلِك فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين النّسخ وَسُقُوط الْحِفْظ عَنْهُم. فَيَقُول الْقَائِل مِنْهُم: نسيت كَذَا، فنهاهم عَن هَذَا القَوْل لِئَلَّا يتوهموا على مُحكم الْقُرْآن الضّيَاع، فأعلمهم أَن ذَلِك بِإِذن الله، وَلما رَآهُ من الْمصلحَة فِي نسخه، وَمن أضَاف النسْيَان إِلَى الله تَعَالَى فَإِنَّهُ خالقه وخالق الْأَفْعَال كلهَا، وَمن نسبه إِلَى نَفسه فَلِأَن النسْيَان فعل مِنْهُ يُضَاف إِلَيْهِ من جِهَة الِاكْتِسَاب وَالتَّصَرُّف. وَمن نسب ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان. كَمَا قَالَ يُوشَع بن نون، عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا أنسانيه إلاَّ الشَّيْطَان} (الْكَهْف: 36) فَلَمَّا جعل الله لَهُ من الوسوسة، فَلِكُل إِضَافَة مِنْهَا وَجه صَحِيح. قَوْله: (واستذكروا الْقُرْآن) . أَي: واظبوا على تِلَاوَته واطلبوا من أَنفسكُم المذاكره بِهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَهُوَ عطف من حَيْثُ الْمَعْنى على قَوْله: بئس مَا لأحدكم أَي لَا تقتصروا فِي معاهدته واستذكروه. قَوْله: (تفيصا) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الصَّاد الْمَكْسُورَة بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف. هُوَ الِانْفِصَال والانفلات والتخلص. يُقَال تفصيت كَذَا أَي: أحطت بتفاصيله، وَالِاسْم الفصة. قَوْله: (من النعم) وَهِي الْإِبِل وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه.
52 - (حَدثنَا عُثْمَان حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور مثله) عُثْمَان هُوَ ابْن أبي شيبَة وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد وَمَنْصُور هُوَ الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الَّذِي قبله وَهَذَا الطَّرِيق ثَبت عِنْد الْكشميهني وَحده وَثَبت أَيْضا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَقد أخرجه مُسلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة مَقْرُونا بإسحق بن رَاهَوَيْه وَزُهَيْر بن حَرْب ثَلَاثَتهمْ عَن جرير وَلَفظه مسَاوٍ للفظ شُعْبَة الْمَذْكُور إِلَّا أَنه قَالَ استذكروا بِغَيْر وَاو وَقَالَ فَهُوَ أَشد بدل قَوْله فَإِنَّهُ وَزَاد بعد قَوْله من النعم بعقلها قَوْله " مثله " أَي مثل الحَدِيث الَّذِي قبله
(تَابعه بشر عَن ابْن الْمُبَارك عَن شُعْبَة وَتَابعه ابْن جريج عَن عَبدة عَن شَقِيق سَمِعت عبد الله سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) أَي تَابع مُحَمَّد بن عرْعرة بشر بن عبد الله الْمروزِي شيخ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة وَلَيْسَ بشر وَابْن الْمُبَارك بمنفردين فِي هَذِه الْمُتَابَعَة فَإِن الْإِسْمَاعِيلِيّ روى هَذِه الْمُتَابَعَة عَن الْفرْيَابِيّ حَدثنَا مُزَاحم بن سعيد حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك حَدثنَا شُعْبَة قَوْله " وَتَابعه ابْن جريج " أَي تَابع مُحَمَّد بن عرْعرة عبد الْملك بن(20/48)
عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَبدة بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن أبي لبَابَة بِضَم اللَّام وباءين موحدتين مخففتين عَن شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا مُسلم من طَرِيق مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج قَالَ حَدثنِي عُهْدَة بن لبَابَة عَن شَقِيق بن سَلمَة سَمِعت عبد الله بن مَسْعُود فَذكر الحَدِيث إِلَى قَوْله بل هُوَ نسي وَلم يذكر مَا بعده -
3305 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ حَدثنَا أبُو أُسامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: تعَاهَدُوا القُرْآنَ، فوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أشَدُّ تَقَصِّيَا منَ الإبِلِ فِي عُقُلِها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تَعَاهَدُوا) . وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب الْهَمدَانِي الْكُوفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن عبد الله عَن أبي بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عَامر بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: وَالْحَاصِل أَن بريد بن عبد الله يروي عَن جده أبي بردة: وَهُوَ يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس. والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة.
قَوْله: (تَعَاهَدُوا) مثل: تعهدوا، وَمَعْنَاهُ: واظبوا عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ والترداد. قَوْله: (فِي عقلهَا) بِضَم الْعين وَضم الْقَاف وَيجوز تسكينها، جمع عقال وَهُوَ الْحَبل. وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب. وَذكر الكلاماني فِي بعض النّسخ: من عللها، يَعْنِي بلامين بدل: من عقلهَا. قيل: هُوَ تَصْحِيف. قلت: رُبمَا يكون: من غللها بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وباللامين جمع غل وَهُوَ الْقَيْد، وَهَذَا لَهُ وَجه على مَا لَا يخفي، وَوَقع هُنَا: (فِي عقلهَا) . بِكَلِمَة: فِي يروي: من عقلهَا بِكَلِمَة: من قَالَ الْقُرْطُبِيّ: من رَوَاهُ من عقلهَا، فَهُوَ على الأَصْل الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّعَدِّي من لفظ التفصي، وَمن رَوَاهُ بِكَلِمَة: فِي يحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى: من أَو بِمَعْنى الظّرْف. قلت: كلمة فِي تَأتي بِمَعْنى: من، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(أَلاَ عِمْ صباحا أَيهَا الطلل الْبَالِي ... وَهل يعمن من كَانَ فِي الْعَصْر الْخَالِي)
(وَهل يعمن من كَانَ أحدث عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال)
وَيجوز أَن يكون فِي هَهُنَا بِمَعْنى المصاحبة، يَعْنِي: مَعَ عقلهَا، وَتَأْتِي: فِي، بِمَعْنى مَعَ كَمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا فِي أُمَم} (الْأَعْرَاف: 83) .
42 - (بابُ القِرَاءَةِ علَى الدَّابةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْقِرَاءَة للراكب على الدَّابَّة، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا الرَّد على من كره الْقِرَاءَة على الدَّابَّة، نَقله ابْن أبي دَاوُد عَن بعض السّلف، كَيفَ يكره وأصل الْقِرَاءَة على الدَّابَّة مَوْجُود فِي الْقُرْآن؟ قَالَ عز وَجل: {لتستووا على ظُهُوره ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم استوتيم عَلَيْهِ} (الزخرف: 31) الْآيَة. وَقَالَ ابْن بطال: الْقِرَاءَة على الدَّابَّة سنة مَوْجُودَة، وأصل هَذِه السّنة قَوْله تَعَالَى: {لتستووا} (الزخرف: 31) الْآيَة.
4305 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: أخْبرنِي أبُو إِياسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عبْدَ الله بنَ مُغفَلٍ قَالَ: رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وهْوَ يَقْرَأُ علَى رَاحِلَتِهِ سُورَةَ الفَتْحِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة: مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ، وَعبد الله بن مُغفل، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء: الْمُزنِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي التَّفْسِير عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَيَجِيء فِي التَّوْحِيد عَن أَحْمد بن أبي شُرَيْح الرَّازِيّ. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة غير ابْن مَاجَه.
52 - (بابُ تعْليم الصِّبْيان القُرْآنَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز تَعْلِيم الصّبيان الْقُرْآن، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى الرَّد على من كره ذَلِك، وَقد جَاءَت كَرَاهِيَة ذَلِك عَن سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، رَوَاهُ ابْن أبي دَاوُد عَنْهُمَا، فَلفظ سعيد بن جُبَير: كَانُوا يحبونَ أَن يكون يقْرَأ الصَّبِي بعد حِين، مَعْنَاهُ: أَن يتْرك الصَّبِي أَولا مرفها ثمَّ يُؤخذ بالجد على التدريج، وَلَفظ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يعلم الْغُلَام الْقُرْآن حَتَّى يعقل.(20/49)
5305 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبي بشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ المُفَضَّلَ هُوَ المُحْكَمُ، قَالَ: وَقَالَ ابنُ عَبْاسٍ، تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا ابنُ عَشْرِ سِنِينَ وقَدْ قرَأْتُ المُحْكَمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَرَأَ الْمُحكم من الْقُرْآن وعمره عشر سِنِين، وَيُطلق عَلَيْهِ الْغُلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَأخرجه عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري الَّذِي يُقَال لَهُ التَّبُوذَكِي عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي الوَاسِطِيّ عَن أبي بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس الْيَشْكُرِي الوَاسِطِيّ إِلَى آخِره.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن هشيم.
قَوْله: (قَرَأَ الْمُحكم) وَهُوَ الَّذِي لَا نسخ فِيهِ، وَيُطلق الْمُحكم على ضد الْمُتَشَابه فِي اصْطِلَاح أهل الْأُصُول، وَهَذَا سعيد بن جُبَير فسر الْمفصل بالمحكم، وَغَيره فسره بِأَنَّهُ من الحجرات إِلَى آخر الْقُرْآن على الصَّحِيح، وَسمي بِالْفَصْلِ للسور الَّتِي كثرت فصولها فِيهِ. قَوْله: (وَأَنا ابْن عشر سِنِين) ، وَقد اخْتلف فِيهِ، فَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة من وَجه آخر: أَنه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع قد ناهز الِاحْتِلَام، وَفِي رِوَايَة أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ: قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا ختين وَكَانُوا لَا يخنتون الْغُلَام حَتَّى يدْرك، وَفِي لفظ: (وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة) . وَقَالَ ابْن حبَان: وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة، وَقَالَ عَمْرو بن على: الصَّحِيح عندنَا أَنه لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد استوفي ثَلَاث عشرَة وَدخل فِي أَربع عشرَة، وَقد اسْتشْكل عِيَاض قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا ابْن عشر سِنِين، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا يُخَالف الَّذِي مضى فِي الصَّلَاة، وَبَالغ الدَّاودِيّ فِي هَذَا فَقَالَ: حَدِيث أبي بشر الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب وهم وَأجَاب عِيَاض بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون قَوْله: أونا ابْن عشر سِنِين، رَاجعا إِلَى حفظ الْقُرْآن لَا إِلَى وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيكون تَقْدِير الْكَلَام توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد جمعت الْمُحكم وَأَنا ابْن عشر سِنِين، فَفِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير. انْتهى. قلت: الجملتان: أَعنِي قَوْله: (وَأَنا ابْن عشر سِنِين) ، وَقَوله: (وَقد قَرَأت الْمُحكم) وقعتا حَالين وَالْحَال قيد فَكيف يُقَال فِيهِ تَقْدِيم وتأخيره؟ وَقَالَ بَعضهم: وَيُمكن الْجمع بَين مُخْتَلف الرِّوَايَات بِأَن كَون ناهز الِاحْتِلَام لما قَارب ثَلَاث عشرَة ثمَّ بلغ لما استكملها وَدخل فِي الَّتِي بعْدهَا، وَإِطْلَاق خمس عشرَة بِالنّظرِ إِلَى جبر الْكسر، وَإِطْلَاق الْعشْر بِالنّظرِ إِلَى إِلْغَاء الْكسر انْتهى. قلت: لَا كسر هُنَا حَتَّى يجْبر أَو يلغى لِأَن الْكسر على نَوْعَيْنِ: أَصمّ وَهُوَ الَّذِي لَا يُمكن أَن ينْطق بِهِ إِلَّا بالجزئية كجزء من أحد عشر وجزء من تِسْعَة وَعشْرين، ومنطق وَهُوَ على أَرْبَعَة أَقسَام: مُفْرد وَهُوَ من النّصْف إِلَى الْعشْر وَهِي الكسور التِّسْعَة، ومكرر كثلاثة أَسْبَاع وَثَمَانِية أتساع، ومركب وَهُوَ الَّذِي يذكر بِالْوَاو العاطفة: كَنِصْف وَثلث وكربع وتسع، وضاف كَنِصْف عشر وَثلث سبع وَثمن تسع، وَقد يتركب من الْمنطق والأصم: كَنِصْف جُزْء من أحد عشر، وَالظَّاهِر أَنه الصَّوَاب مَعَ الدَّاودِيّ، وَالله أعلم.
6305 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا هُشَيْمٌ أخبرَنا أبُو بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا: جَمَعْتُ المُحْكَمَ فِي عَهْد رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ لهُ: وَمَا المُحْكَمُ؟ قَالَ: المُفَصَّلُ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
قَوْله: (حَدثنِي) ويروي: حَدثنَا، بِصِيغَة الْجمع، وهشيم مصغر هشم بن بشير وَقد تكَرر وَذكره وَقَالَ بَعضهم: فَاعل. قلت: أَبُو بشر، لَهُ أَي لسَعِيد بن جُبَير، وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن تَفْسِير الْمُحكم والمفصل من كَلَام سعيد بن جُبَير. قلت: هَذَا تصرف واه لِأَن قَوْله: (فَقلت) عطف على كَلَام ابْن عَبَّاس، عطف سعيد بن جُبَير كَلَامه على كَلَام ابْن عَبَّاس بعد مَا سَأَلَهُ، وَأَيْضًا لَا يسْتَلْزم كَون تَفْسِير ابْن جُبَير الْمفصل والمحكم هُنَاكَ أَن يكون هُنَا أَيْضا مِنْهُ.
62 - (بابُ نِسْيانِ القُرْآنِ، وهَلْ يقولُ: نَسِيتُ آيةَ كَذا وكَذا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نِسْيَان الْقُرْآن بِسَبَب تعَاطِي أَسبَابه الْمُقْتَضِيَة لذَلِك. قَوْله: (وَهل يَقُول) إِلَى آخِره، صُورَة الِاسْتِفْهَام(20/50)
الإنكاري لَكِن لَيْسَ الْإِنْكَار عَن الْإِتْيَان بقوله: نسيت آيَة كَذَا وَكَذَا، على مَا لَا يَجِيء الْآن، وَلَكِن الْإِنْكَار على ارْتِكَاب أَسبَابه الداعية إِلَى ذَلِك.
وقَوْلِ الله تَعَالَى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الْأَعْلَى: 6 7)
وَقَول الله عطف عَليّ قَوْله: نِسْيَان الْقُرْآن، أَي: وَفِي قَول الله، عز وَجل: {سنقرئك} (الْأَعْلَى: 6) من الإقراء، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعجل بالقراء إِذا لقِيه جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقيل: لَا تعجل لِأَن جِبْرِيل مَأْمُور بِأَن يقرأه عَلَيْك قِرَاءَة مكررة إِلَى أَن تحفظه فَلَا تنساه إلاَّ مَا شَاءَ الله لم يذكر بعد النسْيَان، وَكلمَة: لَا، للنَّفْي، وَكَأن البُخَارِيّ صَار إِلَيْهِ وَأَن الله أقرأه إِيَّاه وَأخْبرهُ أَنه لَا ينساه، وَقيل: لَا للنَّهْي وزيدت الْألف الفاصلة، كَقَوْلِك: السبيلا، يَعْنِي: فَلَا تتْرك قِرَاءَته وتكريره فتنساه إلاَّ مَا شَاءَ الله أَن ينسكه يرفع تِلَاوَته للْمصْلحَة، وَقَالَ الْفراء: الِاسْتِثْنَاء للتبرك وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء اسْتثْنى، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة {إلاَّ مَا شَاءَ الله} (الْأَعْلَى: 7) أَي: قضى أَن ترفع تِلَاوَته، وَعَن ابْن عَبَّاس: إلاَّ مَا أَرَادَ الله أَن ينسيكه لتنس. وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تتْرك الْعَمَل بِهِ إِلَّا مَا أَرَادَ الله أَن ينسخه فَتتْرك الْعَمَل بِهِ. وَالله أعلم.
7305 - حدَّثنا رَبِيعُ بنُ يحْيَى حَدثنَا زَائِدَةُ حَدثنَا هِشَامٌ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَة، رضيَ الله عَنْهَا، قالَتْ: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَجُلاً يقْرَأ فِي المَسْجِد، فَقَالَ: يَرْحَمُهُ الله {لقَدْ أذْكرَني كذَا وكَذا آيَة مِنْ سُورَةِ كَذا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسي كَذَا وَكَذَا آيَة ثمَّ تذكرها. وَقَالَ ابْن التِّين: وَفِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينسى الْقُرْآن ثمَّ يتذكره.
وربيع ضد الخريف ابْن يحيى أَبُو الْفَصْل، مر فِي: بَاب من أحب الْعتاق فِي الْكُسُوف، وزائدة من الزِّيَادَة ابْن قدامَة بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عَن عَائِشَة.
والْحَدِيث من إِفْرَاده.
قَوْله: (رجلا) أَي: صَوت رجل. قَوْله: (أذكرني) إِلَى آخِره وَلم يبين فِيهِ تعْيين الْآيَات الْمَذْكُورَة وَلَا عَددهَا.
واستنبط بَعضهم من هَذَا مَسْأَلَة فقهية إِنَّهَا كَانَت إِحْدَى وَعشْرين آيَة، وَهِي أَن رجلا لَو قَالَ، لفُلَان عَليّ كَذَا وَكَذَا درهما يلْزمه أحد وَعِشْرُونَ درهما لِأَنَّهُ فصل بَين كَذَا وَكَذَا بِحرف الْعَطف، وَأَقل ذَلِك من الْعدَد الْمُفَسّر أحد وَعِشْرُونَ، حَتَّى قَالَ: كَذَا كَذَا درهما بِغَيْر حرف الْعَطف يلْزمه أحد عشر درهما، لِأَن أقل ذَلِك من الْعدَد الْمُفَسّر أحد عشر، لِأَنَّهُ ذكر عددين مبهمين. وَعند الشَّافِعِي: يلْزمه دِرْهَم. وَله صُورَة كَثِيرَة موضعهَا الْفُرُوع. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ النسْيَان على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: الإنساء لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُور: جَازَ النسْيَان عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ طَرِيقه الْبَلَاغ والتعليم بِشَرْط أَن لَا يقْرَأ عَلَيْهِ، بل لَا بُد أَن يذكرهُ، وَأما غَيره فَلَا يجوز قبل التَّبْلِيغ، وَأما نِسْيَان مَا بلغه كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث فَهُوَ جَائِز بِلَا خلاف.
حدَّثنا محَمَّدُ بن عُبَيْدِ بنِ ميْمُونٍ حَدثنَا عِيسَى عنْ هِشامٍ، وَقَالَ: أسقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كذَا.
أَشَارَ بذلك إِلَى أَن هشاما زَاد فِي هَذِه الرِّوَايَة لفظ: (اسقطتهن من سُورَة كَذَا) وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون عَن عِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق. قَوْله: (اسقطتهن) ، أَي: بِالنِّسْيَانِ، وَقد تقدم فِي الشَّهَادَات بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد، أَعنِي: عَن مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون عَن عِيسَى بن يُونُس عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا يقْرَأ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ: رَحمَه الله} لقد أذكرني كَذَا وَكَذَا آيَة أسقطتهن من سُورَة كَذَا وَكَذَا.
تابَعَهُ علِيٌّ بنُ مُسْهِرٍ وعبْدَةُ عنْ هِشَامٍ
أَي: تَابع مُحَمَّد بن عبيد عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من الإسهار. قَوْله: (وَعَبدَة) ، عطف عَلَيْهِ أَي: وَتَابعه أَيْضا عَبدة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بعطف عَبدة على سُلَيْمَان، وَوَقع لأبي ذَر عَن الْكشميهني: تَابعه عَليّ بن مسْهر عَن عَبدة. قيل: هَذَا غلط فَإِن عَبدة هُنَا رَفِيق عَليّ بن مسْهر لَا شَيْخه، وَقد أخرج البُخَارِيّ طَرِيق عَليّ بن مسْهر فِي آخر الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا بِلَفْظ: أسقطتها، وَأخرج طَرِيق عَبدة فِي الدَّعْوَات مثل لفظ عَليّ بن مسْهر سَوَاء.(20/51)
9305 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ مَنْصُور عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ عبْدِ الله قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بِئْسَ مَا لِأحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ.
(انْظُر الحَدِيث 2305) [/ ح.
قد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب استذكار الْقُرْآن، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عرْعرة عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور إِلَى آخِره، وَهنا عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
72 - (باُب: منْ لَمْ يرَ بأْسَاأنْ يَقُولَ: سُورَةُ البَقَرَةِ، وسورَةُ كَذَا وكَذَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم ير بَأْسا: إِلَخ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على من قَالَ: لَا يُقَال: سُورَة الْبَقَرَة، وَلَا يُقَال: إلاَّ السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَنَحْو ذَلِك.
0405 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْضٍ حَدثنَا أبي الأعْمَشُ قَالَ: حدّثني إبْرَاهيمُ عنْ عَلْقَمَةَ وعبدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ عنْ أبي مَسْعُودٍ الأنْصاريِّ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الآيتَان مِنْ آخِرِ سورَةِ البَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَ بهِما لَيْلَةٍ كَقَتَاهُ..
مر هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي فضل سُورَة الْبَقَرَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن كثير. وَالْآخر: عَن أبي نعيم وَأخرجه هُنَا عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن أبي مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو والبدري. وَمر كَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
1405 - حدَّثنا أبُو اليمَانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ حَدِيثٍ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ وعبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عبْدٍ القاريِّ أنَّهُما سَمِعا عُمَر بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ حكِيمِ بنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سورَةَ الفُرْقانِ فِي حَياةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فإِذَا هُوَ يَقْرَؤُها علَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذِبْتُ أُساوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ فَقُلْتُ: مَنْ أقْرَأكَ هاذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أقْرَأنِيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَلْتُ لهُ: كذَبْتَ، فَوَالله إنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهْوَ أقْرَأني هذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقُودُهُ، فَقُلْتُ: يَا رسُولَ الله! إنِّي سَمِعْتُ هاذَا يَقْرَأ سورَةَ الفُرْقانِ علَى حرُوفٍ(20/52)
لَمْ تُقْرِ رئْنِيها وإنّكَ أقْرَأتْنِي سُورَةَ الفُرْقانِ. فَقَالَ: يَا هِشَامُ اقْرَأها، فقرَأَها القِرَاءَةَ الَّتي، سَمِعْتُهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هاكَذا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأُ يَا عُمَرُ، فَقرَأتُها الَّتِي أقْرَأنِيها، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هاكَذا أنزِلتْ: ثُمّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ علَى سَبْعَةَ أحْرُفٍ فاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: سُورَة الْفرْقَان والْحَدِيث قد مر فِي بَاب أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير إِلَى آخِره. وَأخرجه هُنَا عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَلَا نعيده لقرب الْمسَافَة.
2405 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ آدَمَ أخبرَنا عليُّ بنُ مُسْهرٍ أخبرَنا هِشَامٌ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: سَمِع النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قارِئا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فيالمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَرْحَمُهُ الله! لقَدْ أذْكرَني كذَا وكَذا آيَة أسْقَطْتُها منْ سُورَةِ كَذا وكَذا..
هَذَا أَيْضا مضى عَن قريب فِي: بَاب نِسْيَان الْقُرْآن أخرجه هُنَاكَ من طرق، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
82 - (بابُ التَّرْتِيلِ فِي القِرَاءَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الترتيل فِي قِرَاءَة الْقُرْآن، وَهُوَ تَبْيِين حروفها والتأني فِي أَدَائِهَا لتَكون أدعى إِلَى فهم مَعَانِيهَا. وَقيل: الترتيل تَبْيِين الْحُرُوف وإشباع الحركات.
وقَوْلِهِ تَعَالَى { (73) ورتل الْقُرْآن ترتيلا} (المزمل: 4)
وَقَوله تَعَالَى، بِالْجَرِّ عطف على الترتيل فِي الْقُرْآن، وَمعنى: رتل الْقُرْآن أقرأه قِرَاءَة بَينه، قَالَه الْحسن، وَعَن مُجَاهِد: بعضه على أثر بعض على تؤدة بَيِّنَة بَيَانا، وَعَن قَتَادَة: تثبت فِيهِ تثبيتا، وَقيل: فَصله تَفْصِيلًا وَلَا تعجل فِي قِرَاءَته، وَهُوَ من قَول الْعَرَب: ثغر رتل، إِذا كَانَ مفلجا.
وقَوْلِهِ { (17) وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث} (الْإِسْرَاء: 601)
وَقَوله، هَذَا عطف على قَوْله الأول. قَوْله: (وقرآنا فرقناه) ، يَعْنِي: نزلناه نجوما لَا جملَة وَاحِدَة بِخِلَاف الْكتب الْمُتَقَدّمَة، يدل عَلَيْهِ قَوْله: {لتقرأه على النَّاس على مكث} (الْإِسْرَاء: 601) .
وَمَا يُكْرَهُ أنْ يُهَذِّ كَهَذِّ الشِّعْرِ
هَذَا عطف على قَوْله بَاب الترتيل. وَقد ذكرنَا أَن التَّقْدِير: بَاب فِي بَيَان الترتيل. وَكَذَلِكَ التَّقْدِير هُنَا، أَي: فِي بَيَان مَا يكره أَن يهذر، كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَكَذَلِكَ كلمة: أَن، وَالتَّقْدِير: أَي وَفِي بَيَان كَرَاهَة الهذ كهذ الشّعْر، والهذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة: سرعَة الْقطع والمرور فِيهِ من غير تَأمل للمعنى، كَمَا ينشد الشّعْر وتعد أبياته وقوافيه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الإفراط فِي العجلة فِي حفظه ورواياته لَا فيإنشاده وترنمه لِأَنَّهُ يزِيد فِي الإنشاد والترنم فِي الْعَادة.
فِيها يُفْرِقُ: يُفَصَّلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كَا أَمر حَكِيم} (الدُّخان: 4) وَفسّر: (يفرق) ، بقوله: (وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة) .
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فرَقْناهُ: فصَّلْناهُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وقرآنا فرقناه} (الْإِسْرَاء: 601) أَن مَعْنَاهُ: فصلناه، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن الْمُبَارك: حَدثنَا زيد حَدثنَا ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ. وَأخرجه ابْن جرير من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
3405 - حدَّثنا أبُو النعْمانِ حَدثنَا مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُونٍ حَدثنَا واصلٌ عنْ أبي وائِلٍ عنْ عبْدِ الله، قَالَ: غدَوْنا علَى عبْدِ الله، فقار رجلٌ: قرَأْتُ المُفَصَّلَ البَارِحَةَ، فَقَالَ: هَذّا كهَذِّ الشِّعْر؟ إنّا قَدْ سَمِعْنا القِرَاءَةَ وإنِّي(20/53)
لأحْفَظُ القُرناءَ الَّتِي كانَ يَقْرَأ بِهِنَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِي عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ المفَصَّلِ وسُورَتَيْنِ منْ آلِ حم.
مطابقته لقَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَمَا يكره أَن يهذ كهذ الشّعْر. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وواصل بن حبَان الأحدب الْأَسدي الْكُوفِي، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
والْحَدِيث مر فِي الصَّلَاة فِي: بَاب الْجمع بَين السورتين فِي الرَّكْعَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي وَائِل، وَمر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (على عبد الله) أَي: ابْن مَسْعُود قَوْله: (فَقَالَ رجل) هُوَ نهيك بن سِنَان كَمَا أخرجه مُسلم من طَرِيق مَنْصُور عَن أبي وَائِل فِي هَذَا الحَدِيث. قَوْله: (هَذَا) نصب على الْمصدر أَي: هذذت هَذَا. قَوْله: (إِنَّا قد سمعنَا الْقِرَاءَة) قَالَ الْكرْمَانِي: الْقِرَاءَة بِلَفْظ الْمصدر، ويروي الْقِرَاءَة جمع القارىء. قَوْله: (لأحفظ القرناء) أَي: النَّظَائِر فِي الطول وَالْقصر. قَوْله: (ثَمَانِي عشرَة) إِلَى آخِره، وَقد تقدم فِي: بَاب كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عشرُون سُورَة، وعدَّ ثمَّة: حم من الْمفصل، وَهَهُنَا قد أخرجه مِنْهُ وَأجِيب بِأَن مُرَاده ثمَّة أَن مُعظم الْعشْرين مِنْهُ. قَوْله: (من آل حم) أَي: السُّور الَّتِي أَولهَا حم، كَقَوْلِك: فلَان من آل فلَان، قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ غَيره المُرَاد حم نَفسهَا، يَعْنِي لفظ: آل، مقحمة كَقَوْلِك: آل دَاوُد، يُرِيد دَاوُد نَفسه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَوْلَا أَنه فِي الْكِتَابَة مُنْفَصِل لحسن أَن يُقَال: إِنَّه الْألف وَاللَّام الَّتِي لتعريف الْجِنْس، يَعْنِي: وسورتين من جنس الحواميم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: (من آل حم) من كَلَام أبي وَائِل وإلاَّ كَانَ أول الْمفصل عِنْد ابْن مَسْعُود من أول الجاثية، قيل: إِنَّمَا يرد لَو كَانَ تَرْتِيب مصحف ابْن مَسْعُود كترتيب الْمُصحف العثماني، وَالْأَمر بِخِلَاف ذَلِك، فَإِن تَرْتِيب السُّور فِي مصحف ابْن مَسْعُود يغاير التَّرْتِيب فِي الْمُصحف العثماني، فَلَعَلَّ هَذَا مِنْهَا، وَيكون أول الْمفصل عِنْده الجاثية، وَالدُّخَان مُتَأَخِّرَة فِي ترتيبه عَن الجاثية.
4405 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا جَرِيرٌ عنْ مُوسَى بنِ أبي عائِشَةَ عنْ سعِيدِ بنِ جبَيْر عنِ ابْن عبَّاسٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي قوْلِهِ: { (75) لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} (الْقِيَامَة: 61) قَالَ: كَانَ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا نَزَلَ عَليهِ جِبْرِيلُ بالوَحْيِ وكانَ مِمَّا يُحرِّك بِهِ لِسانَهُ وشَفَتَيْهِ فيَشْت، علَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فأنْزَلَ الله الآيةَ الَّتِي فِي لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَة: 1) لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} (الْقِيَامَة: 61 81) فإِذَا أَنْزَلْناهُ فاسْتَمِع ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (الْقِيَامَة: 91) قَالَ: إِنَّ علَيْنا أنْ نُبَيِّنَهُ بلِسانِكَ قَالَ: وكانَ إِذَا أتاهُ جِبْرِيلُ أطْرَقَ، فإِذَا ذَهَبَ قرَأهُ كَما وعَدَهُ الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} (الْقِيَامَة: 51) لِأَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِحْبَاب التأني فِيهِ وَمِنْه يحصل الترتيل. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، ومُوسَى ابْن أبي عَائِشَة أَبُو بكر الْهَمدَانِي. والْحَدِيث قد مر فِي تَفْسِير سُورَة الْقِيَامَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بطرق كَثِيرَة. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
92 - (بابُ مَدِّ القِرَاءَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مد الْقِرَاءَة، وَالْمدّ هُوَ إشباع الْحَرْف الَّذِي بعده ألف أَو وَاو أَو يَاء.
5405 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا جَرِيرُ بنُ حازِمِ الأزْدِيُّ حَدثنَا قَتادَة قَالَ: سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ عنْقِرَاءَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: كانَ يَمُدُّ مدّا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير بِالْجِيم ابْن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْأَزْدِيّ بالزاي وَالدَّال الْمُهْملَة أَبُو النَّضر الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن بنْدَار وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
قَوْله: (كَانَ يمد) أَي: يمد الْحَرْف الَّذِي يسْتَحق الْمَدّ قَوْله: (مدان نصب) على المصدرية.(20/54)
6405 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عاصِمٍ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتادةَ. قَالَ: سُئِلَ أنَسٌ: كَيْفَ كانَتْ قَرَاءَةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: كانَتْ مَدّا ثُمَّ قَرَأ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. يَمُدُّ بِبسْمِ الله ويَمُدُّ بالرَّحْمانِ ويَمُدُّ بالرَّحِيمِ.
(انْظُر الحَدِيث 5405) .
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن عَمْرو بِالْفَتْح ابْن عَاصِم بن عبيد الله الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ. وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى.
قَوْله: (كَانَت مدا) أَي: كَانَت قِرَاءَته مدا أَي: ذَات، مد وَوَقع عَنهُ أبي نعيم من طَرِيق أبي النُّعْمَان عَن جرير بن حَازِم: كَانَ يمد صَوته، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: كَانَ يمد قِرَاءَته قَوْله: (يمد بِبسْم الله) كَذَا وَقع بباء مُوَحدَة قبل الْمُوَحدَة الَّتِي فِي: بِسم الله، كَأَنَّهُ حكى فِي: بِسم الله، كَمَا حُكيَ لفظ: الرَّحْمَن فِي قَوْله: (ويمد بالرحمن) وَوَقع عِنْد أبي نعيم من طَرِيق الْحسن الْحلْوانِي عَن عَمْرو بن عَاصِم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: يمد بِسم الله ويمد الرَّحْمَن ويمد الرَّحِيم، من غير بَاء مُوَحدَة فِي الثَّلَاثَة، وَيُقَال: إِنَّمَا أَدخل الْبَاء فِي الْبَاء إِمَّا لِأَنَّهُ ذكر اسْم الله على سَبِيل الْحِكَايَة، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جعله كالكلمة الْوَاحِدَة علما لذَلِك، وَالْمدّ إِنَّمَا يكون فِي الْوَاو وَالْألف وَالْيَاء، وَمد الرَّحْمَن والرحيم لَيْسَ كمد غَيرهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَسْمَلَة همزَة توجب الْمَدّ فِي حُرُوف الْمَدّ واللين، وللقراءة فِي مَوضِع الْمَدّ فِي مِقْدَاره وجوهات بيّنت فِي موضعهَا.
03 - (بابُ التَّرْجِيعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الترجيع: هُوَ تقَارب ضروب الحركات فِي الْقِرَاءَة، وَأَصله الترديد، وترجيع الصَّوْت تريده فِي الْحلق كَقِرَاءَة أَصْحَاب الألحان: وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الترجيع ترديد الْقِرَاءَة، وَمِنْه تَرْجِيع الْأَذَان.
7405 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إِيَاس حَدثنَا شُعْبَةُ حَدثنَا أبُو إياسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عبْدَ الله بنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: رأيْتُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقْرَأُ وهْوَ علَى ناقَتِهِ أوْ جَمَلِهِ وهْيَ تَسِيرُ بِهِ وهْوَ يَقْرَأُ سورَةَ الفَتْحِ أوْ مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ وهْوَ يُرَجِّعُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالمهملة: واسْمه مُعَاوِيَة بن قُرَّة، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء: الْبَصْرِيّ، وَعبد الله بن مُغفل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْوَلِيد وَفِي التَّفْسِير عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن وَعَن حجاج بن منهال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، والواوات فِي: (وَهُوَ يقْرَأ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ (وَهِي تسير) كلهَا للْحَال.
قَوْله: (أَو جمله) ، شكّ من الرَّاوِي. وَكَذَلِكَ قَوْله: (أَو من سُورَة الْفَتْح) وَقَالُوا: تَرْجِيع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحْتَمل أَمريْن: أَحدهمَا: أَنه حصل من هز النَّاقة وَالْآخر: أَنه أشْبع الْمَدّ فِي مَوْضِعه فحدف ذَلِك، وَقيل: الترجيع تَحْسِين التِّلَاوَة لَا تَرْجِيع الْغناء، لِأَن الْقِرَاءَة بترجيع الْغناء يُنَافِي الْخُشُوع الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود من التِّلَاوَة.
13 - (بابُ حُسْنِ الصَّوْتِ بالقرَاءَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مطلوبية حسن الصَّوْت بالقراةء، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب حسن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ، وَقيل: الْإِجْمَاع على اسْتِحْبَاب سَماع الْقُرْآن من ذِي الصَّوْت الْحسن: وَأخرج ابْن أبي دَاوُد من طَرِيق أبي مسجعة، قَالَ: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقدم الشَّاب الْحسن الصَّوْت لحسن صَوته بَين يَدي الْقَوْم.
8405 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ خَلَفٍ أبُو بَكْرٍ حدَّثنا أبُو يَحْيَى الحِمَّانِيُّ حدَّثَنا بُرَيْدُ بنُ عبْدِ الله بنِ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهُ: يَا أَبا مُوسَى! لَقَدْ أوتيتَ مِزْمارا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاودَ.(20/55)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، كَانَ حسن الصَّوْت جدا. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد أُوتيت مِزْمَارًا أَي: صَوتا حسنا، وَأَصله الْآلَة أطلق اسْمهَا على الصَّوْت الْحسن للمشابهة بَينهمَا.
وَمُحَمّد بن خلف أَبُو بكر الْمقري الْبَغْدَادِيّ الحدادي، بالمهملات وَفتح أَوله وَتَشْديد الدَّال الأولى، من صغَار شُيُوخ البُخَارِيّ، وعاش بعد البُخَارِيّ خمس سِنِين وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لشيخه فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَأَبُو يحيى اسْمه عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن الملقب ببشمين، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَكسر المم وبالنون بعد الْيَاء آخر الْحُرُوف. فَارسي مَعْنَاهُ: الصُّوفِي، الْحمانِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم وبالنون: نِسْبَة إِلَى حمان قَبيلَة من تَمِيم، الْكُوفِي أَصله من خوارزم، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء ابْن عبد الله بن أبي بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء: واسْمه عَامر، يروي بريد الْمَذْكُور عَن جده عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبد الله بن قيس، ويروي أَبُو يحيى الْحمانِي: سَمِعت بريد بن عبد الله بدل حَدثنَا بريد بن عبد الله.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن الْكِنْدِيّ.
قَوْله: (مِزْمَارًا) ، بِكَسْر الْمِيم، قد مر تَفْسِيره الْآن قَوْله: (آل دَاوُد) ، لَفظه آل مقحمة وَالْمرَاد نفس دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ لم يذكر أَن أحدا من آل دَاوُد قد أعطي من حسن الصَّوْت مَا أعطي دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
23 - (بابُ مَنْ أحَبَّ أنْ يَسْمَعَ القُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحب أَن يسمع الْقُرْآن من غَيره، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الْقِرَاءَة.
9405 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ حدَّثنا أبي عنِ الأعْمَشِ قَالَ: حدَّثني إِبْرَاهِيمُ عنْ عبِيدَةَ عنْ عبْده الله، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْرَأُ عَليَّ القُرْآنَ. قُلْتُ: اقْرَأُ عَليْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ منْ غَيْرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب أَن يسمع الْقُرْآن من غَيره ليَكُون عرض الْقُرْآن سنة، وَيحْتَمل أَن يكون لأجل تدبره وَزِيَادَة تفهمه، لِأَن المستمع أقوى على ذَلِك وَأنْشط من القارىء لاشتغاله بِالْقِرَاءَةِ، بِخِلَاف قِرَاءَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي بن كَعْب، فَإِنَّهُ كَانَ لإِرَادَة تَعْلِيمه كَيْفيَّة أَدَاء الْقِرَاءَة ومخارج الْحُرُوف وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا أخرجه مُخْتَصرا، والذييأتي عَقِيبه بأتم مِنْهُ، وَنَذْكُر رِجَاله فِيهِ لِأَنَّهُمَا حَدِيث وَاحِد.
33 - (بابُ قَوْل المُقْرِىء لِلقارِىء: حَسْبُكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول المقرىء وَهُوَ الَّذِي يقرىء غَيره للقارىء الَّذِي يقْرَأ: حَسبك أَي: يَكْفِيك.
0505 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُف حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبرَاهيمَ عنْ عَبِيدَةَ عنْ عبْدِ الله ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْرَأ علَيَّ. قُلْتُ: يَا رسولَ الله! اقْرَأُ عَليْكَ وعَليْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نعَمْ فَقَرأْتُ سُورَةَ النِّساءِ حتَّى أتيْتُ إِلَى هاذِه الآيَةَ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلاءِ شَهِيداً} (النِّسَاء: 14) قَالَ: حَسْبُكَ الآنَ، فالْتَفَتُّ إِلَيْه فإِذَا عَيْناهُ تَذْرِفانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ مَسْعُود: (حَسبك) وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَسليمَان، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعبيدَة، بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: السَّلمَانِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث مر فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تَذْرِفَانِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وبالفاء أَي: تسيلان دمعا، من ذرفت الْعين تذرف إِذا سَالَ دمعها. فَإِن قلت: مَا وَجه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ مَسْعُود: (حَسبك) عِنْد وُصُوله إِلَى الْآيَة الْمَذْكُورَة؟ قلت: تَنْبِيها على الموعظة وَالِاعْتِبَار فِي هَذِه الْآيَة، وَلِهَذَا(20/56)
بَكَى وبكاؤه إِشَارَة مِنْهُ إِلَى معنى الْوَعْظ لِأَنَّهُ تمثل لنَفسِهِ أهوال يَوْم الْقِيَامَة وَشدَّة الْحَال الداعية لَهُ إِلَى شَهَادَته لأمته بتصديقه وَالْإِيمَان بِهِ وسؤاله الشَّفَاعَة لَهُم ليربحهم من طول الْموقف وأهواله، وَهَذَا أَمر يحِق لَهُ طول الْبكاء والحزن.
43 - (بَاب فِي كَمْ يُقْرَأُ القُرْآنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كم من مُدَّة من الْوَقْت يقْرَأ القارىء الْقُرْآن فِيهَا وَلم يبين فِيهِ الْمدَّة لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ شَيْء من الْحَد الْعين، وَلكنه يُرِيد بذلك الرَّد على من قَالَ: أقل مَا يجزىء من الْقِرَاءَة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة جُزْء من أَرْبَعِينَ جُزْءا من الْقُرْآن، حُكيَ ذَلِك عَن إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ والحنابلة.
وقَوْلُ الله تَعَالَى { (73) فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ} (المزمل: 02)
أورد هَذَا فِي معرض الِاسْتِدْلَال على عدم التَّحْدِيد فِي كمية الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ عَام يَشْمَل الْجُزْء من الْقُرْآن وَأَقل مِنْهُ وَأكْثر مِنْهُ على حسب التَّيْسِير، فَلَا يَقْتَضِي جُزْءا معينا، وَلَا محدودا، وَلَا وقتا محدودا وَلَا معينا، وَمَا ورد فِيهِ من الْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار لَا يدل على تنصيص الكمية فِي الْقدر وَالْوَقْت، فَافْهَم.
1505 - حدَّثنا عَلِيٌّ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ لِي ابنُ شُبرُمةَ: نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ مِنَ القُرْآنِ فَلَمْ أجِدْ سُورَةً أقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ آياتٍ، فَقُلْتُ: لَا يَنْبَغَي لِأحَدٍ أَن يَقْرَأ أقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ آياتٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه إِشَارَة إِلَى الكمية بِثَلَاث آيَات، وَلكنه لَيْسَ بتحديد بِحَسب الْوُجُوب لَا بِحَسب السّنة.
وَعلي هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَابْن شبْرمَة، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الرَّاء وَفتح الْمِيم: هُوَ عبد الله بن شبْرمَة بن الطُّفَيْل الضَّبِّيّ أَبُو شبْرمَة الْكُوفِي القَاضِي فَفِيهِ أهل الْكُوفَة، عداده فِي التَّابِعين، رُوِيَ عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ عفيفا صَارِمًا عَاقِلا فَقِيها يشبه النساك ثِقَة فِي الحَدِيث، شَاعِرًا حسن الْخلق جوادا وَكَانَ قَاضِيا لأبي جَعْفَر على سَواد الْكُوفَة وضياعها، مَاتَ سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح وَرُوِيَ لَهُ فِي الْأَدَب وَرُوِيَ لَهُ الْبَاقُونَ سوى التِّرْمِذِيّ.
قَوْله: (كم يَكْفِي الرجل من الْقُرْآن) قَالَ بَعضهم: أَي فِي الصَّلَاة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل مُرَاده: كم يَكْفِيهِ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من قِرَاءَة الْقُرْآن مُطلقًا.
قَالَ عَلِي: حَدثنَا سُفْيانُ أخبرنَا مَنْصُورٌ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزيدَ أخْبَرَهُ علْقمَةُ عنْ أبي مَسْعُودٍ: ولَقِيتُهُ وهْوُ يَطُوفُ بالْبيْتِ فَذَكَرَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ مَنْ قَرَأ بالآيَتَينِ مِنْ إخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتاهُ
أَي: قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَهَذَا مَوْصُول من تَتِمَّة الْخَبَر الْمَذْكُور. قَوْله: (حَدثنَا) أَي: سُفْيَان أخبرنَا مَنْصُور بن المعمر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عَلْقَمَة بن قيس عَن أبي مَسْعُود عقبَة بن عَامر البدري، ومطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من قَرَأَ الْآيَتَيْنِ) من حَيْثُ إِنَّه يدل على الإكتفاء بالآيتين، بِخِلَاف مَا قَالَ ابْن شبْرمَة: بِثَلَاث. وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد رُوِيَ هُنَا عَن عَلْقَمَة عَن أبي مَسْعُود وَرُوِيَ فِي: بَاب فضل سُورَة الْبَقَرَة، وَفِي: بَاب من لم ير بَأْسا أَن يَقُول: سُورَة الْبَقَرَة، عَن أبي مَسْعُود، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَارَة يروي بِوَاسِطَة وَتارَة بِلَا بِوَاسِطَة، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْكَلَام فِي الحَدِيث مر فِي فضل سُورَة الْبَقَرَة.
2505 - حدَّثنا مُوسَى حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ مُغيرَةَ عنْ مُجاهدٍ عنْ عبْدِ الله بن عَمْرٍ وَقَالَ: أنْكَحَنِي أبي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكانَ يَتَعَاهَدُ كَنّتَهُ فَيَسألُها عنْ بَعْلِها، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ، لَمْ يَطَأْ لَنا فِرَاشا ولَمْ يُفَدِّشْ لَنا كَنَفَا مُذْ أتَيْناهُ، فلَمَّا طَال ذالِكَ عليْهِ ذَكَرَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ(20/57)
وَسلم، فَقَالَ: القِينِي بِهِ، فَلَيقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ قَالَ: كلَّ يَوْمٍ. قَالَ: وكَيْفَ تَخْتِمُ؟ قَالَ: كلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ صُمْ فِي كلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةً، واقْرَإ القُرْآنَ فِي كلِّ شَهْرٍ. قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: صُمْ ثَلاَثَة أيَّامٍ فِي الجُمُعَةِ. قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ. قَالَ: أفْطِرْ يَوْمَيْنِ وصُمْ يَوْما، قَالَ: قُلْتُ أُطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَقال: صُمْ أفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ داوُدَ: صِيامَ يَوْمٍ وإفْطارَ يَوْمٍ، واقْرَأْ فِي كلِّ سَبْعِ لَيالٍ مَرَّةً، فلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وذَاكَ أنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ، فَكانَ يقْرَأُ علَى بَعْضٍ أهْلِهِ السُّبْعَ مِنَ القُرْآنِ بِالنَّهَارِ والذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهارِ لِيَكُونَ أخَفَّ علَيْهِ باللَّيْلِ، وَإِذا أرَادَ أنَّ يتَقَوَّى أفطَرَ أيَّاما وأحْصي، وصامَ مِثْلَهُنَّ كرَاهِيَةَ أنْ يتْرُكَ شَيْئا، فارَقَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَيهِ.
قَالَ أبُو عبْدِ الله: وَقَالَ بعْضُهُمْ: فِي ثَلاثٍ وَفِي خَمْسٍ، وأكْثَرُهُمْ علَى سَبْعٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَيفَ تختم؟ قَالَ: كل لَيْلَة) . ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، ومغيرة هُوَ ابْن مقسم، بِكَسْر الْمِيم: الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن بشر بِهِ وَفِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن معمر وَغَيره.
قَوْله: (أنكحني أبي) أَي: زَوجنِي، وَهُوَ مَحْمُول على أَنه كَانَ المشير عَلَيْهِ بذلك، وَإِلَّا فعبد الله بن عَمْرو وَكَانَ رجلا كَامِلا، أَو كَانَ مُحْتملا عَنهُ بِالصَّدَاقِ، أَو زوجه بالفضول فَأَجَازَهُ. قَوْله: (امْرَأَة ذَات حسب) أَي: ذَات شرف بِالْآبَاءِ، وَجَاء فِي رِوَايَة أَحْمد: امْرَأَة من قُرَيْش، وَهِي أم مُحَمَّد بنت محمية، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْمِيم وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف الْخَفِيفَة: ابْن جُزْء الزبيدِيّ حَلِيف قُرَيْش. قَوْله: (فَكَانَ يتَعَاهَد) أَي: فَكَانَ أبي وَهُوَ عَمْرو بن الْعَاصِ يتَعَاهَد أَي: يتفقد. قَوْله: (كنته) بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد النُّون، وَهِي امْرَأَة ابْنه. قَوْله: (عَن بَعْلهَا) أَي: عَن زَوجهَا وَهُوَ عبد الله. قَوْله: (فَتَقول) أَي الكنة تَقول فِي جَوَاب عَمْرو حِين يسْأَلهَا عَنهُ. قَوْله: (نعم الرجل من رجل) قَالَ الْكرْمَانِي: الْمَخْصُوص بالمدح مَحْذُوف، ثمَّ قَالَ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: نعم الرجل من بَين الرِّجَال، والنكرة فِي الْإِثْبَات قد تفِيد التَّعْمِيم، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {علمت نفس مَا أحضرت} (التكوير: 41) أَو أَن يكون من بَاب التَّجْرِيد كَأَنَّهَا جردت من رجل مَوْصُوف بِكَذَا وَكَذَا رجلا، فَقَالَت: نعم الرجل الْمُجَرّد من كَذَا فلَان، وَقَالَ الْمَالِكِي فِي الشواهد: تضمن هَذَا الحَدِيث وُقُوع التَّمْيِيز بعد فَاعل نعم ظَاهرا، وسيبويه لَا يجوّز أَن يَقع التَّمْيِيز بعد فَاعله إلاَّ إِذا اضمر الْفَاعِل، وَأَجَازَهُ الْمبرد وَهُوَ الصَّحِيح. قَوْله: (لم يطَأ لنا فراشا) أَي: لم يضاجعنا حَتَّى يطَأ فراشنا. قَوْله: (وَلم يفتش لنا) ، بفاه مَفْتُوحَة وتاء مثناة من فَوق مُشَدّدَة: كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَفِي رِوَايَة الكشمهيني: وَلم يغش، بغين مُعْجمَة سَاكِنة بعْدهَا شين مُعْجمَة. قَوْله: (كنفا) بِفَتْح الْكَاف وَالنُّون بعْدهَا فَاء وَهُوَ السّتْر والجانب، وأرادت بذلك الْكِنَايَة عَن عدم جمَاعَة لَهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: والكنف السَّاتِر والوعاء أَو بِمَعْنى الكنيف. فَإِن قلت: مَا الْمَقْصُود من الجملتين؟ قلت: تَعْنِي لم يضاجعنا حَتَّى يطَأ فراشا، وَلم يطعم عندنَا حَتَّى يحْتَاج أَن يفتش عَن مَوضِع قَضَاء الْحَاجة، انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: الأول أولى. قلت: لم يبين وَجه الْأَوْلَوِيَّة وَلم يكن قَصده إلاَّ غمزة فِي حَقه. قلت: حَاصِل الْكَلَام هُنَا أَن هَذِه الْمَرْأَة شكرت عبد الله أَولا بِأَنَّهُ قوام بِاللَّيْلِ صوام بِالنَّهَارِ، ثمَّ شكت من حَيْثُ إِنَّه لم يضاجعها وَلم يطعم شَيْئا عِنْدهَا، فحط عَلَيْهِ أَبوهُ عمر، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا جَاءَ فِي رِوَايَة هشيم: فَأقبل عَليّ يلومني، فَقَالَ: أنكحتك امْرَأَة من قُرَيْش ذَات حسب فعضلتها وَفعلت، ثمَّ انْطلق إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشَكَانِي. قَوْله: (فَلَمَّا طَال ذَلِك عَلَيْهِ) أَي: على عَمْرو، ذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ القني بِهِ) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعَمْرو بن الْعَاصِ: القني بِهِ أَي: بِعَبْد الله، والقني مُشْتَقّ من اللِّقَاء. وَالْمعْنَى: اجْتمعَا عِنْدِي. قَوْله: (فَلَقِيته بعد) أَي: لقِيت عبد الله، قَائِله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: اخْتلف الروَاة كَيفَ كَانَ لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ، وَقيل: لَقيته اتِّفَاقًا، فَقَالَ لَهُ: اجْتمع بِي. قَوْله: (بعد) مَبْنِيّ على الضَّم لانقطاعه عَن الْإِضَافَة أَي: بعد ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:(20/58)
(كَيفَ تَصُوم) . وَقد مضى فِي كتاب الصَّوْم مَا يتَعَلَّق بِهِ قَوْله: (أُطِيق أَكثر من ذَلِك) وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالفَة لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ علم أَن مُرَاده تسهيل الْأَمر وتخفيفه عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمر للْإِيجَاب. قَوْله: (صم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْجُمُعَة قَالَ: أُطِيق أَكثر من ذَلِك) أَي: من ثَلَاثَة أَيَّام قَوْله: (قَالَ: صم يَوْمًا) أَي: قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صم يَوْمًا وَأفْطر يَوْمَيْنِ. قلت: أُطِيق أَكثر من ذَلِك، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا وهم من الرَّاوِي لِأَن ثَلَاثَة أَيَّام من الْجُمُعَة أَكثر من فطر يَوْمَيْنِ وَصِيَام يَوْم؛ وَكَذَا قَالَه عبد الْملك، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إلاَّ أَن يُرِيد ثَلَاثَة من قَوْله: (أفطر يَوْمًا وصم يَوْمًا) وَهَذَا خُرُوج عَن الظَّاهِر. قَوْله: (صِيَام يَوْم) وَيجوز فِيهِ النصب على تَقْدِير: كَانَ يَصُوم صِيَام يَوْم، وَيجوز الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ صِيَام يَوْم. قَوْله: (إفطار يَوْم) عطف عَلَيْهِ على الْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (واقرأ فِي كل سبع لَيَال مرّة) أَي: اختم فِي كل سبع لَيَال مرّة وَاحِدَة. قَوْله: (فَكَانَ يقْرَأ) هُوَ كَلَام مُجَاهِد يصف صَنِيع عبد الله بن عمر وَلما كبر، وَقد قع مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة هشيم. قَوْله: (كَبرت) بِكَسْر الْبَاء فِي السن، وَأما كَبرت بِالضَّمِّ فَفِي الْقُدْرَة. قَوْله: (وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ) أَي: وَالَّذِي أَرَادَ أَن يقرأه بِاللَّيْلِ يعرضه بِالنَّهَارِ. قَوْله: (وأحصي) أَي: عدم أَيَّام الْإِفْطَار. قَوْله: (كَرَاهِيَة) نصب على التَّعْلِيل، أَي: لأجل كَرَاهِيَة أَن يتْرك شَيْئا، وَكلمَة أَن يتْرك شَيْئا، وَكلمَة: أَن مَصْدَرِيَّة. فَإِن قلت: قد فَارق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صَوْم الدَّهْر وَقد ترك ذَلِك؟ قلت: غَرَضه أَنه مَا ترك السرد والتتابع فِي الْجُمْلَة، وَهُوَ الَّذِي فَارقه عَلَيْهِ.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم فِي ثَلَاث) أَي: قَالَ بعض الروَاة: قَرَأَ فِي كل ثَلَاث لَيَال مرّة وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى رِوَايَة شُعْبَة عَن مُغيرَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، فَقَالَ: اقْرَأ الْقُرْآن فِي كل شهر، قَالَ: إِنِّي أُطِيق أَكثر من ذَلِك، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: فِي ثَلَاث، وَرُوِيَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مصححا من طَرِيق يزِيد بن عبد الله بن الشخير عَن عبد الله بن عَمْرو مَرْفُوعا: لَا يفقه من قَرَأَ الْقُرْآن فِي أقل من ثَلَاث، وَهُوَ اخْتِيَار أَحْمد وَأبي عبيد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَآخَرُونَ. قَوْله: (وَفِي خمس) أَي: اقرأه فِي كل خمس لَيَال، وَرُوِيَ الدَّارمِيّ من طَرِيق أبي فَرْوَة عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! فِي كم أختم الْقُرْآن؟ قَالَ: أختمه فِي شهر. قلت: إِنِّي أُطِيق قَالَ أختمه فِي خَمْسَة وَعشْرين. قلت: إِنِّي أُطِيق قَالَ: أختمه فِي عشْرين. قلت) إِنِّي أُطِيق، قَالَ: اختمه فِي خمس عشرَة، قلت إِنِّي أُطِيق قَالَ اختمه فِي خمس. قبت إِنِّي إطيق. قَالَ: لَا وَأَبُو فَرْوَة بِالْفَاءِ عُرْوَة بن الْحَارِث الْجُهَنِيّ الْكُوفِي الثِّقَة. قَوْله: (وَأَكْثَرهم على سبع) أَي: أَكثر الروَاة عَن عبد الله بن عَمْرو: على سبع لَيَال، يَعْنِي: إقرأ فِي كل سبع لَيَال مرّة، وَرُوِيَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من ذريق وهب بن مُنَبّه عَن عبد الله بن عَمْرو أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِي كم يقْرَأ الْقُرْآن؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ قَالَ: فِي شهر، قَالَ: فِي عشْرين، ثمَّ قَالَ: فِي خمس عشرَة، ثمَّ قَالَ: فِي عشر، ثمَّ قَالَ: فِي سبع، ثمَّ لم ينزل عَن سبع فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين هَذَا وَبَين حَدِيث أبي فَرْوَة الْمَذْكُور؟ قلت: بِتَعَدُّد الْقِصَّة، فَلَا مَانع أَن يتَكَرَّر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن عَمْرو، وَلِأَن النَّهْي عَن الزِّيَادَة لَيْسَ للتَّحْرِيم كَمَا أَن الْأَمر فِي جَمِيع ذَلِك لَيْسَ للْوُجُوب.
3505 - حدَّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصِ حدَّثنا شَيْبانُ عنْ يَحْيى اعنْ مُحَمَّدِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ عبْدِ الله بنِ عمْرو قَالَ: قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَمْ تَقْرَأُ القُرْآنَ؟.
4505 - وحدَّثني إسْحاقُ أخبرنَا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنْ شَيْبانَ عنْ يَحْيى اعنْ مُحَمَّدٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ مَوْلَى زُهْرَةَ عنْ أبي سلَمَةَ، قَالَ: وأحْسبُنِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنا مِنْ أبي سَلَمَةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وَقَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْرَإ القُرْآنَ فِي شَهْرٍ. قُلْتُ: إنِّي أجِدُ قُوَّةً، حتَّى قَالَ: فاقرَأهُ فِي سَبْعِ وَلَا تَزِدْ علَى ذَلِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاقرأه فِي سبع) وَفِي قَوْله: (كم تقْرَأ الْقُرْآن؟) وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن سعد بن حَفْص أبي مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي يُقَال لَهُ الضخم عَن أبي مُعَاوِيَة شَيبَان النَّحْوِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن مولى بني زهرَة عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَالْآخر: عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبيد الله بن مُوسَى وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ، رُوِيَ عَنهُ بِوَاسِطَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّاء عَن عبيد الله بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (وأحسبني) قَائِل هَذَا هُوَ يحيى بن أبي كثير وأحسبني أَي: أَظن نَفسِي أَنِّي سَمِعت هَذَا(20/59)
من أبي سَلمَة. وَكَانَ يحيى يحدث بِهَذَا عَن أبي سَلمَة، ثمَّ توقف فِيهِ وتححق أَنه سَمعه بِوَاسِطَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، وَلَا يضر هَذَا لِأَن يحيى من رُوِيَ عَن أبي سَلمَة، وَقد تقدم فِي الصّيام من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى عَن أبي سَلمَة مُصَرحًا بِالسَّمَاعِ من غير توقف. قَوْله: (وَلَا تزد على ذَلِك) أَي: على سبع قَالَ الْكرْمَانِي. مُقْتَضى لَا تزد أَن لَا تجوز الزِّيَادَة. قلت: لَعَلَّ ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى الْمُخَاطب، خاطبه لضَعْفه وعجزه. أَو أَن النَّهْي لَيْسَ للتَّحْرِيم، وَكَانَ أبي بن كَعْب يختمه فِي ثَمَان. وَكَانَ الْأسود يختمه فِي سِتّ، وعلقمة فِي خمس، وَرُوِيَ عَن معَاذ بن جبل، وَكَانَت طَائِفَة تقْرَأ الْقُرْآن كُله فِي لَيْلَة أَو رَكْعَة. وَرُوِيَ ذَلِك عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَتَمِيم الدَّارِيّ. وَكَانَ سليم يختك الْقُرْآن فِي لَيْلَة ثَلَاث مَرَّات، ذكر ذَلِك أَبُو عبيد. وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: أَكثر مَا بلغنَا، قِرَاءَة ثَمَان ختمات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَقَالَ السّلمِيّ: سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول: ابْن الْكَاتِب يخْتم بِالنَّهَارِ أَربع ختمات وبالليل أَربع ختمات.
53 - (بابُ البُكاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ)
أَي: هَذَا بَاب ف بَيَان حسن الْبكاء عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن، لِأَنَّهُ صفة العارفين وشعار الصَّالِحين قَالَ الله تَعَالَى: {يخرون للأذقان يَبْكُونَ} (الْإِسْرَاء: 901) {خروا سجدا وبكيا} (مَرْيَم: 85) .
5505 - حدَّثنا صَدَقَةُ أخبرنَا يَحْياى عنْ سُفْيانَ عنْ سُلَيْمانَ عنْ إبْراهِيمَ عنْ عَبِيدَةَ عنْ عبْدِ الله قَالَ يَحْيى ا: بعْضُ الحَدِيثِ عنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ح وحدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيى عنْ سُفْيانَ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ وعَنْ عَبِيدَةَ عنْ عبْدِ الله قَالَ الأعْمَشُ؛ وبَعْضَ الحَدِيثِ حدَّثني عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ إبْرَاهِيمَ وعنْ أبِيهِ عنْ أبي الضُّحى عنْ عبْدِ الله قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْرَأُ علَيَّ. قَالَ: قُلْتُ آقْرَأُ علَيْكَ وعلَيْكَ أنزِل؟ قَالَ: إنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ منْ غَيْرِي قَالَ: فَقَرَأتُ النِّساءَ حتَّى إذَا بلَغْتُ { (4) ؟ 41} (النِّسَاء: 14) قَالَ لي: كُفَّ أوْ أمْسِكْ، فرَأيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قرأيت عَيْنَيْهِ نذرفان) . والْحَدِيث مربعين هَذَا الْإِسْنَاد فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء، كَمَا أخرجه هُنَا عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عُبَيْدَة، بِفَتْح الْعين: السَّلمَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود. أخرجه عَن قريب فِي بَاب قَول المقرىء للقارىء: حَسبك، عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَمر فِي الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَبَعض الحَدِيث) مَنْصُوب بقوله: حَدثنِي عَمْرو بن مرّة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. قَوْله: (وَعَن أَبِيه) عطف على قَوْله: (عَن سُلَيْمَان) . قَوْله: (وَعَن أَبِيه) أَي: عَن أبي سُفْيَان، واسْمه سعيد بن مَسْرُوق الثَّوْريّ وَالْحَاصِل أَن سُفْيَان الثَّوْريّ رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أَبِيه سعيد وَأَبوهُ رُوِيَ عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح الْكُوفِي عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَهُوَ مُنْقَطع لِأَن أَبَا الضُّحَى لم يدْرك ابْن مَسْعُود وَرِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن أبي عُبَيْدَة عَن ابْن مَسْعُود مُتَّصِلَة. قَوْله: (كف أَو أمسك) شكّ من الرَّاوِي، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: حَسبك، وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن فضَالة الظفري: أَن ذَلِك كَانَ وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بني ظفر أخرجه ابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَغَيرهمَا من طَرِيق يُونُس بن مُحَمَّد بن فضَالة عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُم فِي بني ظفر وَمَعَهُ ابْن مَسْعُود وناس من أَصْحَابه، فَأمر قَارِئًا فَقَرَأَ، فَأتى على هَذِه الْآيَة {فَكيف إِذا جِئْنَا من أكل أمة بِشَهِيد} (النِّسَاء: 14) فَبكى حَتَّى ضرب لحياه ووجنتاه، فَقَالَ: يارب هَذَا شهِدت على أَمن أَنا بَين ظهريه، فَكيف على من ألم أره؟ وَأخرج ابْن الْمُبَارك فِي الزّهْد من طَرِيق سعيد بن الْمسيب قَالَ: لَيْسَ من يَوْم إلاَّ يعرض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته غدْوَة وَعَشِيَّة فيعرفهم بِسِيمَاهُمْ وأعمالهم، فَلذَلِك يشْهد عَلَيْهِم فَفِي هَذَا الْمُرْسل مَا يرفع الْإِشْكَال الَّذِي تضمنه حَدِيث ابْن فضَالة.
5505 - حدَّثنا صَدَقَةُ أخبرنَا يَحْياى عنْ سُفْيانَ عنْ سُلَيْمانَ عنْ إبْراهِيمَ عنْ عَبِيدَةَ عنْ عبْدِ الله قَالَ يَحْيى ا: بعْضُ الحَدِيثِ عنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ، قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ح وحدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيى عنْ سُفْيانَ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ وعَنْ عَبِيدَةَ عنْ عبْدِ الله قَالَ الأعْمَشُ؛ وبَعْضَ الحَدِيثِ حدَّثني عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ إبْرَاهِيمَ وعنْ أبِيهِ عنْ أبي الضُّحى عنْ عبْدِ الله قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْرَأُ علَيَّ. قَالَ: قُلْتُ آقْرَأُ علَيْكَ وعلَيْكَ أنزِل؟ قَالَ: إنِّي أشْتَهِي أنْ أسْمَعَهُ منْ غَيْرِي قَالَ: فَقَرَأتُ النِّساءَ حتَّى إذَا بلَغْتُ { (4) ؟ 41} (النِّسَاء: 14) قَالَ لي: كُفَّ أوْ أمْسِكْ، فرَأيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قرأيت عَيْنَيْهِ نذرفان) . والْحَدِيث مربعين هَذَا الْإِسْنَاد فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء، كَمَا أخرجه هُنَا عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عُبَيْدَة، بِفَتْح الْعين: السَّلمَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود. أخرجه عَن قريب فِي بَاب قَول المقرىء للقارىء: حَسبك، عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَمر فِي الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَبَعض الحَدِيث) مَنْصُوب بقوله: حَدثنِي عَمْرو بن مرّة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. قَوْله: (وَعَن أَبِيه) عطف على قَوْله: (عَن سُلَيْمَان) . قَوْله: (وَعَن أَبِيه) أَي: عَن أبي سُفْيَان، واسْمه سعيد بن مَسْرُوق الثَّوْريّ وَالْحَاصِل أَن سُفْيَان الثَّوْريّ رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أَبِيه سعيد وَأَبوهُ رُوِيَ عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح الْكُوفِي عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَهُوَ مُنْقَطع لِأَن أَبَا الضُّحَى لم يدْرك ابْن مَسْعُود وَرِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن أبي عُبَيْدَة عَن ابْن مَسْعُود مُتَّصِلَة. قَوْله: (كف أَو أمسك) شكّ من الرَّاوِي، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: حَسبك، وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن فضَالة الظفري: أَن ذَلِك كَانَ وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بني ظفر أخرجه ابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَغَيرهمَا من طَرِيق يُونُس بن مُحَمَّد بن فضَالة عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُم فِي بني ظفر وَمَعَهُ ابْن مَسْعُود وناس من أَصْحَابه، فَأمر قَارِئًا فَقَرَأَ، فَأتى على هَذِه الْآيَة {فَكيف إِذا جِئْنَا من أكل أمة بِشَهِيد} (النِّسَاء: 14) فَبكى حَتَّى ضرب لحياه ووجنتاه، فَقَالَ: يارب هَذَا شهِدت على أَمن أَنا بَين ظهريه، فَكيف على من ألم أره؟ وَأخرج ابْن الْمُبَارك فِي الزّهْد من طَرِيق سعيد بن الْمسيب قَالَ: لَيْسَ من يَوْم إلاَّ يعرض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته غدْوَة وَعَشِيَّة فيعرفهم بِسِيمَاهُمْ وأعمالهم، فَلذَلِك يشْهد عَلَيْهِم فَفِي هَذَا الْمُرْسل مَا يرفع الْإِشْكَال الَّذِي تضمنه حَدِيث ابْن فضَالة.
6505 - حدَّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا عبْدُ الوَاحِدِ حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبِيدَةَ(20/60)
السلامنِيِّ عنْ عبْدِ الله، رضيَ الله عنهُ، قَالَ: قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْرَأُ علَيَّ. قُلْتُ أَقرَأ علَيْكَ وعلَيْكَ أُنْزِل قَالَ: إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرجه عَن قيس بن حَفْص بن الْقَعْقَاع أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ الدَّارمِيّ من أَفْرَاده عَن الْخَمْسَة، وَلَيْسَ فِي شُيُوخ السّنة من اسْمه: قيس، غَيره قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ يروي عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ إِلَى آخِره.
63 - (بابُ مَنْ رَايا بِقرَاءَتهِ القُرْآنِ أوْ تأكَّلَ بِه، أوْ فجَرَ بهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من رايا من المرايات، ويروي من: رأى، بِهَمْزَة وَفِي بعض النّسخ: بَاب إِثْم من رايا. قَوْله: (بقرَاءَته الْقُرْآن) بِنصب القرآنْ، ويروي: بِقِرَاءَة الْقُرْآن، بِالْجَرِّ على الْإِضَافَة. قَوْله: (أَو تَأْكُل) . من بَاب: تفعل، بِالتَّشْدِيدِ أَي: طلب الْأكل بِهِ، أَي: بِالْقُرْآنِ. قَوْله: (أَو فجر) بِالْجِيم فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من الْفُجُور، وَقَالَ ابْن التِّين فِي رِوَايَة: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من الفخرة.
7505 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرَنا سُفْيانُ حثنا الأعْمَشُ عنْ خَيْثَمَةَ عنْ سُوَيْدِ بن غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ علِيُّ، رَضِي الله عنهُ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: يأتِي ي آخِرِ الزَّمانِ قوْمٌ حُدَثاءُ الأسْنانِ سُفَهاءُ الأحْلاَمِ يَقُولونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ البَرِيّة، يَمْرُقُونَ منَ الأَسْلاَمِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ منَ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حنَاجِرَهُمْ، فأيْنَما لَقِيتُمُوهُمْ فإِنَّ قَتْلَهُمْ أجْرٌ لمَنْ قتَلَهُمْ يوْمَ القِيَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث وَهِي أَن الْقِرَاءَة إِذا كَانَت لغير الله فَهِيَ للرياء أَو للتأكل بِهِ أَو نَحْو ذَلِك.
وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أكل بِالْقُرْآنِ وَمَا تَأْكُل، وَفرق بَين الْأكل والتأكل أَو أَنه قَرَأَ لجِهَة الرّقية لَا لجِهَة الْقِرَاءَة.
وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن خَيْثَمَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي عَن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن غَفلَة، بالغين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء المفتوحتين، مر فِي كتاب اللّقطَة عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد.
قَوْله: (سفاء الأحلام) ، أَي: الْعُقُول. قَوْله: (يَقُولُونَ من قَول خير الْبَريَّة) ، قيل: صَوَابه: قَول خير الْبَريَّة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ من بَاب الْقلب أَو مَعْنَاهُ خير من قَول الْبَريَّة، أَي: من كَلَام الله، وَهُوَ الْمُنَاسب للتَّرْجَمَة أَو خير أَقْوَال الْخلق، أَي: قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يَمْرُقُونَ) ، أَي: يخرجُون. قَوْله: (الرَّمية) ، بِكَسْر الْمِيم الْخَفِيفَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، فعلية بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي: الصَّيْد المرمي مثلا. قَوْله: (حَنَاجِرهمْ) ، جمع حنجرة، وَهِي رَأس الغلصمة حَيْثُ ترَاهُ ناتئا من خَارج الْحلق. قَوْله: (فاقتلوهم) قَالَ مَالك: من قدر عَلَيْهِ مِنْهُم استتيب، فَإِن تَابَ وإلاَّ قتل. وَقَالَ سَحْنُون: من كَانَ يَدْعُو إِلَى بِدعَة قوتل حَتَّى يُؤْتى عَلَيْهِ أَو يرجع إِلَى الله. وَإِن لم يدع يضنع بِهِ مَا صنع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يسجن ويكرر عَلَيْهِ الضَّرْب حَتَّى يَمُوت. قَوْله: (يَوْم الْقِيَامَة) ظرف لِلْأجرِ لَا للْقَتْل.
8505 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ مُحَمَّدٍ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ الحَارِثِ التيْمِيِّ عَنْ أبي سَلمَةَ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، رَضِي الله عَنهُ، أنّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ قوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ معَ صَلاتِهِمْ وصِيامَكُمْ معَ صِيامِهِمْ وعَمَلَكُمْ معَ عمَلِهِمْ، ويَقْرأوْنَ القُرْآنَ لَا يُجاوِزُ حَناجرَهُمْ، يَمْرُقُونَ منَ الدِّين كَما(20/61)
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النّصْلِ فَلاَ يَرَى شَيْئا ويَنْظُرُ فِي القِدْحِ فَلا يَرَى شَيْئَا. ويَنظُرُ فِي الرِّيشِ فَلاَ يَرَى شَيْئا، ويَتَمارَى فِي الفُوقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة نَحْو مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي قبله. وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة مطولا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنذكر بعض شَيْء.
قَوْله: (وعملكم مَعَ عَمَلهم) من عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (ينظر) أَي: الرَّامِي: هَل فِيهِ شَيْء من أثر الصَّيْد من الدَّم وَنَحْوه، وَلَا يرى أثرا مِنْهُ، والنصل هُوَ حَدِيد السهْم، والقدح بِكَسْر الْقَاف السهْم قبل أَن يراش ويركب بنصله. قَوْله: (ويتمارى) أَي: يشك الرَّامِي (فِي الفوق) بِضَم الْفَاء وَهُوَ مدْخل الْوتر مِنْهُ هَل فِيهِ شَيْء من أثر الصَّيْد يَعْنِي: نفذ السهْم المرمي بِحَيْثُ لم يتَعَلَّق بِهِ شَيْء وَلم يظْهر أَثَره فِيهِ، فَكَذَلِك قراءتهم لاتحصل لَهُم مِنْهَا فَائِدَة قَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون ضمير: يتمارى، رَاجعا إِلَى الرَّاوِي، أَي: يشك الرَّاوِي فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر الفوق أم لَا، وَالله أعلم.
9505 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيى اعنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِك عنْ أبي مُوسَى عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: المُؤْمِنُ الَّذَي يَقْرَأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بِهِ كالأُتْرُجَّة، طَعْمُها طَيِّبٌ ورِيحُها طَيِّبٌ، والمُئْمِنُ الَّذِي: لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كالتمْرَةِ طَعْمُها طَيِّبٌ وَلَا ريحَ لَهَا، ومَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِييَقْرَأُ القُرْآنَ كالرَّيْحانَةِ رِيحُها طيِّبٌ وطَعْمُها مُر، ومَثَلُ المُنافِق الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كالحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أوْ خَبِيثٌ مُرٌّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن هدبة بن خَالِد عَن همام عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
قَوْله: (كالتمرة) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق لَا بِالْمُثَلثَةِ. قَوْله: (وَيعْمل بِهِ كالتمرة) عطف على قَوْله: (لَا يقْرَأ) لَا، على (يقْرَأ) .
73 - (بابٌ اقْرَؤُا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: اقرؤا الْقُرْآن مَا ائتلف أَي: اجْتمعت قُلُوبكُمْ عَلَيْهِ، وَفِي بعض النّسخ لفظ عَلَيْهِ مَوْجُود.
0605 - حدَّثنا أبُو النُّعْمان حدّثنا حَمَّادٌ عنْ أبي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ عنْ جُنْدَبِ بنِ عبْدِ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اقرؤوا القُرْآنَ مَا ائُتَلَفَتْ قُلُوبكمْ، فإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عنْهُ.
التَّرْجَمَة نصف الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي عَن حَمَّاد بن زيد عَن أبي عمرَان عبد الْملك بن حبيب الْجونِي، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وبالنون: نِسْبَة إِلَى أحد الأجداد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن عَمْرو بن عَليّ وَغَيره.
قَوْله: (اقْرَءُوا الْقُرْآن مَا ائتلف قُلُوبكُمْ) يَعْنِي: اقرءوه عل نشاط مِنْكُم وخواطركم مَجْمُوعَة، فَإِذا حصل لكم ملالة فاتركوه فَإِنَّهُ أعظم من أَن يقرأه أحد من غير حُضُور الْقلب، كَذَا فسره الطَّيِّبِيّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن المُرَاد اقْرَءُوا الْقُرْآن مَا دَامَ بَين أَصْحَاب الْقِرَاءَة ائتلاف، فَإِذا حصل اخْتِلَاف فَقومُوا عَنهُ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانَ اخْتِلَاف الصَّحَابَة يَقع فِي القراآت واللغات فَأمروا بِالْقيامِ عِنْد الِاخْتِلَاف لِئَلَّا يجْحَد أحدهم مَا يقرأه الآخر، فَيكون جاحدا لما أنزل الله عز وَجل.
1605 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حَدثنَا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ مَهْدِي حَدثنَا سَلاَّمُ بنُ مُطيعٍ عنْ أبي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ عنْ جُنْدَبٍ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقرَءوا القُرْآنَ مَا اتْلَفَتْ عَليْهِ قُلُوبُكمْ، فإِذا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا.(20/62)
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَسَلام، بتَشْديد اللَّام.
قَوْله: (مَا ائتلفت عَلَيْهِ) لفظ: فِي هَذِه الرِّوَايَة دون الرِّوَايَة السَّابِقَة.
تابَعَهُ الحارِثُ بنُ عُبَيْدٍ وَسعيدُ بنُ زَيْدِ عنْ أبي عِمْرَانَ
أَي: تَابع سَلام بن أبي مُطِيع الْحَارِث بن عبيد مصغر عبد أَبُو قدامَة الْإِيَادِي، بِكَسْر الْهمزَة الْبَصْرِيّ، وَتَابعه أَيْضا سعيد بن زيد هُوَ أَخُو حَمَّاد بن زيد، والمتابعة فِي رفع الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن جُنْدُب، أما مُتَابعَة الْحَارِث فرواها الدَّارمِيّ عَن أبي غَسَّان مَالك بن إِسْمَاعِيل عَنهُ، وَلَفظه مثل رِوَايَة حَمَّاد بن زيد الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث الْمَذْكُور أَولا، وَأما مُتَابعَة سعيد بن زيد فرواها الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْند من طَرِيق أبي هِشَام المَخْزُومِي عَنهُ، قَالَ: سَمِعت أَبَا عمر قَالَ: حَدثنَا جُنْدُب فَذكر الحَدِيث مَرْفُوعا فِي آخِره: فَإِذا اختلفتم فِيهِ فَقومُوا.
ولَمْ يَرْفَعْهُ حمَّادُ بنُ سلَمَةَ وأبانُ
أَي: وَلم يرفع الحَدِيث الْمَذْكُور حَمَّاد بن وَأَبَان: بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن يزِيد الْعَطَّار حَاصله رويا الحَدِيث الْمَذْكُور مَوْقُوفا على جُنْدُب، وَلَكِن مُسلما رُوِيَ حَدِيث أبان مَرْفُوعا، فَقَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن سعيد بن صَخْر الدَّارمِيّ حَدثنَا حسان حَدثنَا أبان حَدثنَا أَبُو عمرَان قَالَ: قَالَ لنا جُنْدُب وَنحن غلْمَان بِالْكُوفَةِ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْرَءُوا الْقُرْآن مَا ائتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ، فَإِذا اختلفتم فِيهِ فَقومُوا، وَلَعَلَّ البُخَارِيّ وَقعت لَهُ رِوَايَة أبان مَوْقُوفَة، فَلذَلِك قَالَ: وَلم يرفعهُ حَمَّاد وَأَبَان.
وَقَالَ غُنْدَرٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ أبي عمرَانَ سَمِعْتُ جُنْدَبا قَوْلَهُ
غنْدر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَقد تكَرر ذكره وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر. وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن غندرا روى هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور عَن شُعْبَة عَن أبي عمرَان الْجونِي يَقُول: (سَمِعت جندبا) قَوْله: يَعْنِي لم يرفعهُ. وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق بنْدَار، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون النُّون لقب مُحَمَّد بن بشار.
وَقَالَ ابْن عَوْن عنْ أبي عِمْرَانَ عنْ عَبْدِ الله بنِ الصَّامِتِ عنْ عْمَرَ قَوْلَهُ
أَي: قَالَ عبد الله بن عون الإِمَام الْمَشْهُور. وَهُوَ من أَقْرَان أبي عمرَان، يَعْنِي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي عمرَان عَن عبد الله بن الصَّامِت عَن عمر بن الْخطاب قَوْله: (يَعْنِي قَول عمر) وَوصل هَذِه الرِّوَايَة أَبُو عُبَيْدَة عَن معَاذ بن معَاذ عَن عبد الله بن عون وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْحَاق الْأَزْرَق عَن عبد الله بن عون بِهِ.
وجُنْدَبٌ أصَحُّ وأكْثَرُ
أَي: الرِّوَايَة عَن جُنْدُب أصح إِسْنَاد وَأكْثر من الرِّوَايَة عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَعْنِي: فِي هَذَا الحَدِيث، وَذَلِكَ أَن الجم الْغَفِير رَوَوْهُ عَن أبي عمرَان عَن جُنْدُب، إِلَّا أَنهم اخْتلفُوا عَلَيْهِ فِي رَفعه وَوَقفه، وَالَّذين رَفَعُوهُ ثِقَات حفاظ فَالْحكم لَهُم، وَأما رِوَايَة ابْن عون فشاذة وَلم يُتَابع عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي دَاوُد لم يخطأ ابْن عون قطّ إلاَّ فِي هَذَا، وَالصَّوَاب عَن جُنْدُب، قيل: يحْتَمل أَن يكون ابْن عون حفظه وَيكون لأبي عمرَان فِيهِ شيخ آخر، وَإِنَّمَا توارد الروَاة على طَرِيق جُنْدُب الْعلمَاء لعلوها وَالتَّصْرِيح برفعها.
2605 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ المَلِكِ بنِ مَيْسَرَةَ عنْ النَّزَّالِ بنِ سَبْرَةَ عنْ عبْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ رجُلاً يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خِلاَفَها. فأخَذْتُ بِيَدِهِ فانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: كِلاَكُما مُحْسِنٌ فَاقْرَآ. أكْثَرُ عِلْمِي قَالَ: فإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فأهْلَكَهُمْ.
(انْظُر الحَدِيث 0842 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. (والنزال) ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الزَّاي وباللام: ابْن سُبْرَة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء: الْهِلَالِي تَابِعِيّ كَبِير، وَقد قيل: إِن لَهُ صُحْبَة، وَذهل الْمزي فَجزم فِي الْأَطْرَاف بِأَن لَهُ صُحْبَة، وَجزم فِي التَّهْذِيب(20/63)
بِأَن لَهُ رِوَايَة عَن أبي بكر مُرْسلَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث قد مر فِي الْأَشْخَاص عَن أبي الْوَلِيد، فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن آدم.
قَوْله: (سمع رجلا) ، قيل: يحْتَمل أَن يكون هُوَ أبي بن كَعْب. قَوْله: (كلاكما محسن) ، أَي: فِي الْقِرَاءَة، وَقيل: الْإِحْسَان رَاجع إِلَى ذَلِك الرجل بقرَاءَته إِلَى ابْن مَسْعُود بِسَمَاعِهِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتحربه فِي الِاحْتِيَاط. قَوْله: (فاقرآ) ، أَمر للاثنين.
قَوْله: (أَكثر علمي) ، هَذَا الشَّك من شُعْبَة، وَأكْثر بالثاء الْمُثَلَّثَة، ويروي بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَي، غَالب ظَنِّي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَن من كَانَ قبلكُمْ اخْتلفُوا) . قَوْله: (فأهلكهم) ، أَي: الله، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (فأهلكوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. وَاعْلَم أَن الِاخْتِلَاف الْمنْهِي هُوَ الْخَارِج عَن اللُّغَات السَّبع. أَو مَا لَا يكون متواترا، وَأما غَيره فَهُوَ رَحْمَة لَا بَأْس بِهِ. وَذَلِكَ مثل الِاخْتِلَاف بِزِيَادَة الْوَاو ونقصانها فِي: {قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ} (الْبَقَرَة: 611) وبالجمع والإفراد {كطي السّجل للكتب} (الْأَنْبِيَاء: 401) وَالْكتاب والتأنيث نَحْو: {لتحصنكم من بأسكم} (الْأَنْبِيَاء: 08) وَالِاخْتِلَاف التصريفي كَقَوْلِه: كذابا بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، وَمن يقنط، بِالْفَتْح وَالْكَسْر، والنحوي نَحْو: {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} (البروج: 51) بِالرَّفْع والجر وَاخْتِلَاف الأدوات مثل: وَلَكِن الشَّيَاطِين، بتَشْديد النُّون وتخفيفها، وَاخْتِلَاف اللُّغَات كالإمالة والتفخيم، وَقد فسر بَعضهم: أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف، بِهَذِهِ الْوُجُوه من الِاخْتِلَاف، وَالله أعلم.
76 - (كِتابُ النِّكاحِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام النِّكَاح، قَالَ الْأَزْهَرِي: أصل النِّكَاح فِي كَلَام الْعَرَب، الْوَطْء، وَقيل للتزويج: نِكَاح لِأَنَّهُ سَبَب الْوَطْء، وَقَالَ الزجاجي: هُوَ فِي كَلَام الْعَرَب الْوَطْء وَالْعقد جَمِيعًا، وَفِي الْمغرب: وَقَوْلهمْ النِّكَاح الضَّم مجَاز، وَفِي المغيث: النِّكَاح التَّزْوِيج، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اشْتهر إِطْلَاقه على العقد، وَحَقِيقَته عِنْد الْفُقَهَاء على ثَلَاثَة أوجه حَكَاهَا القَاضِي حُسَيْن: أَصَحهَا: أَنه حَقِيقَة فِي العقد مجَاز فِي الوطىء. وَهُوَ الَّذِي صَححهُ أَبُو الطّيب وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَغَيره الثَّانِي: أَنه حَقِيقَة فيالوطء مجَاز فِي العقد وَبِه، قَالَ أَبُو حنيفَة. وَالثَّالِث: أَنه حَقِيقَة فيهمَا بالاشتراك. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: فرقت الْعَرَب بَينهمَا فرقا لطيفا، فَإِذا قَالُوا: نكح فُلَانَة أَو بنت فُلَانَة أَو أُخْته، أَرَادوا عقد عَلَيْهَا، وَإِذا قَالُوا: أنكح امْرَأَته أَو زَوجته لم يُرِيدُوا إلاَّ الْوَطْء، لِأَن بِذكر امْرَأَته أَو زَوجته يسْتَغْنى عَن ذكر العقد، وَقَالَ الْفراء: الْعَرَب تَقول: نكح الْمَرْأَة بِضَم النُّون بضعهَا، وَهِي كِنَايَة عَن الْفرج، فَإِذا قَالُوا: نَكَحَهَا أَرَادوا: أصَاب نَكَحَهَا، وَهُوَ فرجهَا. وَفِي الْمُحكم: النِّكَاح الْبضْع وَذَلِكَ فِي نوع الْإِنْسَان خَاصَّة، وَاسْتَعْملهُ ثَعْلَب فِي الذئاب، نَكَحَهَا ينْكِحهَا نكحا ونكاحا، وَلَيْسَ فِي الْكَلَام فعل يفعل مِمَّا لَام الْفِعْل مِنْهُ حاء إلاَّ ينْكح وينطح ويمنح وينضح وينبح ويرجح ويأنح ويأزح ويملح الْقدر، وَالِاسْم: النكح، والنكح ونكحها الَّذِي يَتَزَوَّجهَا وَهِي نكحته، وَامْرَأَة كح ذَات زوج وَقد جَاءَ فِي الشّعْر: ناكحة على الْفِعْل، واستنكحها كنكحها. قلت: هَذِه الْأَفْعَال الَّتِي قَالُوا إِنَّهَا جَاءَت على: يفعل، بِكَسْر الْعين يَعْنِي فِي الْمُضَارع قد جَاءَ مِنْهَا بِفَتْح الْعين أَيْضا فِي الْمُضَارع. قَالَ الْجَوْهَرِي: نطحه الْكَبْش يَنْطَحُهُ وينطحه بِكَسْر عين الْفِعْل وَفتحهَا، ومنحه يمنحه من الْمنح وَهُوَ الْعَطاء، وَيُقَال: نضحت الْقرْبَة بِالْفَتْح، قَالَه الْجَوْهَرِي، ونبح الْكَلْب ينبح بِالْفَتْح وينبح بِالْكَسْرِ نبحا ونبيحا ونباحا ونباحا بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، وَرجع الْمِيزَان يرجع بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح وَيرجع بِالضَّمِّ، وَيُقَال: أنح الرجل يأنح بِالْكَسْرِ أنحا وأنيحا وأنوحا: إِذا ضجر من ثقل يجده من مرض أَو بهر كَأَنَّهُ يتنخنخ وَلَا يبين، وأزح الرجل يأزح أزوحا بالزاي: إِذا تفيض، وملحت الْقدر يملحها بِالْفَتْح وَالْكَسْر ملحا بِالْفَتْح إِذا طرحت فِيهَا من الْملح بِقدر، وَإِذا قلت: أملحت الْقدر إِذا أكثرت فِيهَا الْملح حَتَّى فَسدتْ. وَفِي التَّوْضِيح؛ وللنكاح عدَّة أَسمَاء جمعهاأبو الْقَاسِم اللّغَوِيّ فبلغت ألف اسْم وَأَرْبَعين اسْما.
1 - (بابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكاح لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: { (4) فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي التَّرْغِيب فِي النِّكَاح: وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 3) زَاد الْأصيلِيّ وَأَبُو الْوَقْت الْآيَة. قَالَ بَعضهم: وَجه الِاسْتِدْلَال أَنَّهَا صِيغَة أَمر تَقْتَضِي الطّلب. وَأَقل درجاته النّدب فَيثبت التَّرْغِيب، انْتهى. قلت: لَا دلَالَة(20/64)
فِيهِ على التَّرْغِيب أصلا. لِأَن الْآيَة سيقت لبَيَان مَا يجوز الْجمع بَينه من أعداد النِّسَاء. وَقَوله: (يَقْتَضِي الطّلب) كَلَام من لم يذقْ شَيْئا من الْأُصُول، فَإِن الْأَمر إِبَاحَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} (الْمَائِدَة: 2) ، وَهل يُقَال: طلب الله مِنْهُ النِّكَاح، أَو طلب مِنْهُ الصَّيْد غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه أَبَاحَ النِّكَاح بِالْعدَدِ الْمَذْكُور، وأباح الصَّيْد بعد التَّحْلِيل من الْإِحْرَام، ثمَّ بنى هَذَا الْقَائِل على هَذَا الْكَلَام الواهي. قَوْله: وَأَقل دجاته النّدب، فَيثبت التَّرْغِيب.
3605 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ جعْفَرٍ أخبرنَا حُمَيْدُ بنُ الطَّوِيلُ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ، رَضِي الله عَنهُ، يَقُولُ: جاءَ ثلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَسألُونَ عنْ عِبَادَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلَمَّا أُخْبِرُوا كأنَّهُمْ تَقالُّوها، فقالُوا: وَأيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَدْ غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأخَّرَ. قَالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أَنا فإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبدا، وَقَالَ آخَرُ: أَنا أصومُ الدَّهْرَ وَلَا أَفْطِرُ، وَقَالَ أخَرُ: أَنا أعْتَزِلُ النِّساءَ فَلاَ أَتَزَوَّجَ أبَدا، فَجاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أنْتُمُ الَّذين قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟ أما وَالله إنِّي لَأخْشاكُمْ لِلَّهِ، وأتْقاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وأفْطِرُ وأصَلِّي وأرْقُدُ وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عنْ سُنَّتي فَليْسَ مِنِّي.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني) . قَوْله: (ثَلَاثَة رَهْط) وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث ثَابت عَن أنس: أَن نَفرا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَالْفرق بَين الرَّهْط والنفر أَن الرَّهْط من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفر من ثَلَاثَة إِلَى تِسْعَة، وكل مِنْهُمَا اسْم جمع لَا وَاحِد لَهُ، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا من حَيْثُ الْمَعْنى، وَوَقع فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب من رِوَايَة عب الرَّزَّاق: أَن الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين هم: عَليّ بن أبي طَالب. وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَعُثْمَان بن مَظْعُون. قَوْله: (يسْأَلُون عَن عبَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن عمله فِي السِّرّ، قَوْله: (فَلَمَّا أخبروا) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (تقالوها) بتَشْديد اللَّام المضمومة أَي: عدوها قَليلَة، وَأَصله: تقاللوا فأدغمت اللَّام فِي اللَّام لِاجْتِمَاع المثلين. قَوْله: (قد غفر لَهُ) على صِيغَة الْمَجْهُول. هَذَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: غفر الله لَهُ. قَوْله: (أما أَنا) بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْمِيم للتفصيل. قَوْله: (أبدا) ، قيد لِليْل لَا لقَوْله: أُصَلِّي. قَوْله: (وَلَا أفطر) ، أَي: بِالنَّهَارِ سوى أَيَّام الْعِيد والتشريق وَلِهَذَا لم يُقيد بالتأبيد. قَوْله: (فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَقَالَ: وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَال أَقوام قَالُوا كَذَا. . والتوفيق بَينهمَا بِأَنَّهُ منع من ذَلِك عُمُوما جَهرا مَعَ عدم تعيينهم، وخصوصا فِيمَا بَينه وَبينهمْ رفقا بهم، وسترا عَلَيْهِم. قَوْله: (أما وَالله) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم حرف تَنْبِيه. قَوْله: (إِنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ) يَعْنِي: أَكثر خشيَة وَأَشد تقوى، وَفِيه رد لما بنوا عَلَيْهِ أَمرهم من أَن المغفور لَا يحْتَاج إِلَى مزِيد فِي الْعِبَادَة، بِخِلَاف غَيره، فأعلمهم أَنه مَعَ كَونه يشدد فِي الْعِبَادَة غَايَة الشدَّة أخْشَى لله وَأتقى من الَّذين يشددون. قَوْله: (لكني) اسْتِدْرَاك من شَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره أَنا وَأَنْتُم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُبُودِيَّة سَوَاء، لَكِن أَنا أَصوم إِلَى آخِره. قَوْله: (فَمن رغب عَن سنتي) أَي: فَمن أعرض عَن طريقتي (فَلَيْسَ مني) أَي: لَيْسَ على طريقتي، وَلَفظ رغب إِذا اسْتعْمل بِكَلِمَة: عَن فَمَعْنَاه: أعرض. وَإِذا اسْتعْمل بِكَلِمَة: فِي، فَمَعْنَاه أقبل إِلَيْهِ، وَالْمرَاد بِالسنةِ الطَّرِيقَة وَهِي أَعم من الْفَرْض وَالنَّفْل، بل الْأَعْمَال والعقائد وَكلمَة: من فِي مني، اتصالية أَي: لَيْسَ مُتَّصِلا بِي قَرِيبا مني.
وَفِيه: أَن النِّكَاح من سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزعم الْمُهلب أَنه من سنَن الْإِسْلَام، وَأَنه لَا رَهْبَانِيَّة فِيهِ. وَأَن من تَركه رَاغِبًا عَن سنَنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهُوَ مَذْمُوم مُبْتَدع وَمن تَركه من أجل أَنه أرْفق لَهُ وأعون على الْعِبَادَة فَلَا ملامة عَلَيْهِ، وَزعم دَاوُد وَمن تبعه أَنه وَاجِب. وَأَن الْوَاجِب عِنْدهم العقد لَا الدُّخُول فَإِنَّهُ إِنَّمَا يجب عِنْدهم فِي الْعُمر مرّة، وَعند أَكثر الْعلمَاء هُوَ مَنْدُوب إِلَيْهِ وَعند أَحْمد فِي رِوَايَة: يلْزمه الزواج أَو التَّسَرِّي إِذا خَافَ الْعَنَت، وَغَيره لم يشْتَرط خوف الْعَنَت. فَإِن قلت: ظَاهر الْآيَة يدل على وُجُوبه؟ قلت: حصل الْجَواب عَنهُ بِمَا ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب، وَأَيْضًا فَإِن آخر الْآيَة وَهُوَ قَوْله: {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 3) وينافي الْوُجُوب، وَذَلِكَ لِأَن فِيهِ(20/65)
التَّخْيِير بَين النِّكَاح والتسري، فالتسري لَا يجب بالِاتِّفَاقِ، فكذالك النِّكَاح لِأَنَّهُ لَا يَصح التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَعند الشَّافِعِي: التخلي لِلْعِبَادَةِ أفضل لقَوْله عز وَجل فِي يحيى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاء مَعَ الْقُدْرَة على إتيانهن، فمدح الله بِهِ، وَلَو كَانَ النِّكَاح أفضل مَا مدح بِهِ وَالْجَوَاب عَنهُ أَن الشَّافِعِي لَا يرى شرع من قبلنَا شرعا لنا، فَكيف يحْتَج بِمَا لَا يرَاهُ؟ وَنحن نقُول: شرع لنا مَا لم ينص الله على إِنْكَاره. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن النِّكَاح مُعَاملَة فَلَا فضل لَهَا على الْعِبَادَة. قُلْنَا: هَذَا نظر إِلَى ظَاهره دون مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَن ينظر إِلَى الصُّور وَيتْرك الْمعَانِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ من أَصله ذَلِك، وَلَو كَانَ التخلي لِلْعِبَادَةِ خيرا من النِّكَاح نظرا إِلَى صورته مَا قطع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحكم الصُّورَة بِالسنةِ، وَلَيْسَ فِي مدح حَال يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا يدل على أَنه أفضل من النِّكَاح، فَإِن مدح الصّفة فِي ذَاتهَا لَا يَقْتَضِي ذمّ غَيرهَا ذَلِك أَن النِّكَاح لم يفضل على التخلي لِلْعِبَادَةِ بصورته، وَإِنَّمَا تميز عَنهُ بِمَعْنَاهُ فِي تحصين النَّفس، وَبَقَاء الْوَلَد الصَّالح وَتَحْقِيق الْمِنَّة فِي النّسَب والصهر، فقضاء الشَّهْوَة فِي النِّكَاح لَيْسَ مَقْصُودا فِي ذَاته، وَإِنَّمَا أكد النِّكَاح بِالْأَمر قولا، وأكده بِخلق الشَّهْوَة خلقَة حَتَّى يكون ذَلِك أدعى للوفاء بمصالحه، والتيسير بمقاصده، وَهَذَا أَمر تفطن لَهُ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَمن قَالَ بقوله: وَمن الثَّابِت برهانه على فَضِيلَة النِّكَاح أَنه يجوز مَعَ الْإِعْسَار، وَلَا ينْتَظر بِهِ حَالَة الثروة، بل هُوَ سَببهَا أَن كَانَا فقيرين. قَالَ الله تَعَالَى: {أَن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} (النُّور: 23) فندب إِلَيْهِ ووعد بِهِ الْغَنِيّ، وَقد سبق حَدِيث الرجل الَّذِي لم يجد خَاتمًا من حَدِيد يصدق بِهِ زَوجته، وَهُوَ نَص على نِكَاح من لَا يقدر على فطر لَيْلَة بنائِهِ بهَا، وَلَا شكّ أَن التَّرْجِيح يتبع الْمصَالح ومقاديرها مُخْتَلفَة، وَصَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم بِتِلْكَ الْمَقَادِير والمصالح.
4605 - حدَّثنا عَلِيٌّ سَمِعَ حَسَّانَ بنَ إبْرَاهِيمَ عنْ يُونُس بنِ يَزِيدَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبرَني عُرْوَةُ أنَّهُ سألَ عائشَةَ عنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} (النِّسَاء: 3) قالتْ: يَا ابْنِ أُخْتِي اليَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْر ولِيِّها فَيَرْغَبُ فِي مَالهَا وجَمالِها يُرِيدُ أنْ يَتَزَوَّجَها بأدنَى من سُنَّةِ صَدَاقِها، فَنُهُوا أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلاَّ أنْ يُقْسطُوا لَهُنَّ فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وأُمِرُوا بِنِكاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّساءِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فيرغب فِي مَالهَا وجمالها) وَلَكِن فرق بَين ترغيب وترغيب.
وَعلي هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَجزم بِهِ الْحَافِظ الْمزي تبعا لأبي مَسْعُود، وَحسان بن إِبْرَاهِيم الْعَنزي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالنُّون وبالزاي الْكرْمَانِي، كَانَ قَاضِي كرمان وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وَلَكِن لَهُ أَفْرَاد، وَقَالَ ابْن عدي: وَهُوَ من أهل الصدْق إلاَّ أَنه رُبمَا غلط، وَالْبُخَارِيّ أدْركهُ بِالسِّنِّ، وَلَكِن لم يلقه، مَاتَ سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ قبل أَن يرحل البُخَارِيّ، وَعُرْوَة بن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، وَعَائِشَة خَالَته، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي حجر) بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا. قَوْله: (بِأَدْنَى من سنة صَدَاقهَا) أَي: بِأَقَلّ من مهر مثلهَا.
2 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ لِأنّهُ أغضُّ للْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرَجِ، وهَلْ يَتَزَوَّجُ منْ لَا أرَبَ لِه فِي النِّكاحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اسْتَطَاعَ) : إِلَى آخِره، وَلم يَقع فِي بعض النّسخ لَفْظَة: مِنْكُم لِأَنَّهُ تصرف فِيهِ، وَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة. قَوْله: لِأَنَّهُ وَقع هَكَذَا فِي رِوَايَة السَّرخسِيّ، وَالْأولَى فَإِنَّهُ، لِأَنَّهُ لفظ الحَدِيث، وبقيته قَوْله: أَي لِأَن التَّزَوُّج دلّ عَلَيْهِ قَوْله: فليتزوج. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) أَي: الْعدْل. قَوْله: (وَهل يتَزَوَّج) إِلَى آخِره من التَّرْجَمَة، وَهُوَ عطف على قَوْله: (بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَالتَّقْدِير: وَبَاب هَل يتَزَوَّج. قَوْله: (لَا أرب لَهُ) بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء أَي: لَا حَاجَة(20/66)
لَهُ فِي النِّكَاح، وَكلمَة: هَل، للاستفهام، وَلم يذكر الْجَواب اعْتِمَادًا على مَا عرف فِي مَوْضِعه، وَهُوَ أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيمَن لَا يتوق إِلَى النِّكَاح هَل ينْدب لَهُ النِّكَاح أم لَا؟
5605 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حدَّثنا الأعْمَشُ، قَالَ: حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ معَ عبْدِ الله فَلقِيَهُ عُثْمانُ بِمِنى، فَقَالَ: يَا أَبَا عبْدِ الرَّحْمانِ {لِي إليْكَ حاجَةً فَخَليا، فَقَالَ عُثْمانَ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عبْدِ الرَّحْمانِ فِي أنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرا تُذَكّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فلَمَّا رأى عبْدُ الله أنْ ليْسَ لهُ حاجَةٌ إلاّ هاذا، أشارَ إلَيَّ، فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ} فانْتَهَيْتُ إليْهِ، وهْوَ يَقُولُ: أما لَئِنْ قُلْتُ ذالِكَ لقَدْ قَالَ لَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ {مِنَ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الْباءَةَ فلْيَتَزوَّجْ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ فإِنَّهُ لهُ وِجاءٌ.
(انْظُر الحَدِيث 5091 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَهَذَا السَّنَد بهؤلاء الرِّجَال قد ذكر غَيره مرّة، فَإِن عمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس عَن عبد الله بن مَسْعُود، هَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا ذكر أَنه أصح الْأَسَانِيد.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّوْم فِي بَاب الصَّوْم لمن خَافَ على نَفسه الْعُزُوبَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأخضر مِنْهُ عَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره.
قَوْله: (كنت مَعَ عبد الله) يَعْنِي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (بمنى) وَوَقع فِي رِوَايَة زيد بن أبي أنيسَة عَن الْأَعْمَش، عِنْد ابْن حبَان بِالْمَدِينَةِ، وَهِي شَاذَّة. قَوْله: (فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن) هِيَ كنية عبد الله بن مَسْعُود، قيل: الْمُخَاطب بذلك عبد الله بن عمر لِأَنَّهَا كنيته الْمَشْهُورَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: هَذَا يدل على أَن ابْن عَمه شدد على نَفسه فِي زمن الشَّبَاب لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمن عُثْمَان شَابًّا، وَهَذَا غيرصحيح، لِأَن ابْن عمر لَا مدْخل لَهُ فِي هَذِه الْقِصَّة، والْحَدِيث لِابْنِ مَسْعُود، وَقَوله: وَكَانَ فِي زمَان عُثْمَان شَابًّا فِيهِ نظر لِأَنَّهُ إِذْ ذَاك كَانَ جَاوز الثَّلَاثِينَ. قَوْله: (فحليا) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: فَخلوا، قَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ واوي من الْخلْوَة، مثل: دعوا، وَمَعْنَاهُ: دخلا فِي مَوضِع خَال. قَوْله: (تذكرك مَا كنت تعهد) ، يَعْنِي: من نشاطك وَقُوَّة شبابك، وَقيل: لَعَلَّ عُثْمَان رأى بِهِ قشفا ورثاثة هَيْئَة فَحمل ذَلِك على فَقده الزَّوْجَة الَّتِي ترفهه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: لَعَلَّهَا أَن تذكرك مَا مضى من زَمَانك، وَعِنْده فِي رِوَايَة أُخْرَى: لَعَلَّك ترجع إِلَيْك من نَفسك مَا كنت تعهد. وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان لَعَلَّهَا أَن تذكرك مَا فاتك. قَوْله: (فَلَمَّا رأى عبد الله) يرفع عبد الله أَن لَيْسَ لَهُ حَاجَة أَي: لعُثْمَان إلاَّ هَذَا، أَي: التَّرْغِيب فِي النِّكَاح، ويروي بِنصب عبد الله أَي: فَلَمَّا رأى عُثْمَان عبد الله أَن لَيْسَ لَهُ حَاجَة إِلَى هَذَا أَي: الزواج، وَهنا جَاءَت كلمة إلاَّ الَّتِي هِيَ أَدَاة الِاسْتِثْنَاء، وَكلمَة إِلَى الَّتِي هِيَ حرف الْجَرّ، فَالْمَعْنى فِي الْوَجْه الأول على كلمة إلاَّ، وَفِي الْوَجْه الثَّانِي على كلمة إِلَى قَوْله: (أَشَارَ) قَالَ الْكرْمَانِي، أَشَارَ عبد الله. قلت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَال أَن الَّذِي أَشَارَ هُوَ عُثْمَان. قَوْله: (إِلَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) جملَة حَالية. قَوْله: (ذَاك) ، إِشَارَة إِلَى قَوْله: (نُزَوِّجك) وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة حَدثنَا جرير عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة، قَالَ: إِنِّي لأمضي مَعَ عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بمنى إِذْ لقِيه عُثْمَان، فَقَالَ: هَلُمَّ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن. قَالَ: فاستخلاه، فَلَمَّا رأى عبد الله أَن لَيست لَهُ حَاجَة، قَالَ: تعال يَا عَلْقَمَة} قَالَ: فَجئْت. فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: أَلا نُزَوِّجك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن جَارِيَة بكرا لَعَلَّه يرجع إِلَيْك من نَفسك مَا كنت تعهد؟ فَقَالَ عبد الله لَئِن قلت ذَاك لقد قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث. قَوْله: (يَا مشْعر الشَّبَاب) ، المعشر هم الطَّائِفَة الَّذين يشملهم وصف. فالشباب معشر والشيوخ معشر، والشباب جمع شَاب وَيجمع أَيْضا على شببة وشبان بِضَم أَوله وَتَشْديد الْبَاء، وَذكر الْأَزْهَرِي أَنه لم يجمع فَاعل على فعلان غَيره، وَأَصله الْحَرَكَة والنشاط، وَقَالَ النَّوَوِيّ: والشاب عِنْد أَصْحَابنَا هُوَ من بلغ وَلم يُجَاوز ثلاثن سنة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُقَال لَهُ: حدث إِلَى سِتّ عشرَة سنة ثمَّ شَاب إِلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، ثمَّ كهل وَكَذَا ذكر الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَالَ ابْن شَاس الْمَالِكِي فِي الْجَوَاهِر إِلَى أَرْبَعِينَ، وَإِنَّمَا خص الشَّبَاب بِالْخِطَابِ لِأَن الْغَالِب وجود قُوَّة الدَّاعِي فيهم(20/67)
إِلَى النِّكَاح، بِخِلَاف الشُّيُوخ. قَوْله: (الْبَاءَة) قد مر تَفْسِير فِي كتاب الصَّوْم، وَلَكِن نذْكر مِنْهُ بعض شَيْء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهَا أَربع لُغَات: الْمَشْهُور بِالْمدِّ وَالْهَاء، وَالثَّانيَِة بِلَا مد، وَالثَّالِثَة بِالْمدِّ بِلَا هَاء، وَالرَّابِعَة بِلَا مد وَأَصلهَا لُغَة الْجِمَاع، ثمَّ قيل: لعقد النِّكَاح، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْبَاء مثل الباعة، لُغَة فِي الْبَاء، وَمِنْه سمي النِّكَاح بَاء وباه، لِأَن الرجل يتبوء من أَهله أَي يستمكن مِنْهَا كَمَا يتبوأ من دَاره. قَوْله: (وَجَاء) بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ رض الخصيتين، قيل: عَلَيْهِ إغراء غَائِب، وَهُوَ من النَّوَادِر، وَلَا تكَاد الْعَرَب تغري إلاَّ الْحَاضِر. تَقول عَلَيْك: زيدا، وَلَا تَقول عَلَيْهِ: زيدا، وَفِيه اسْتِحْبَاب عرض الصاحب هَذَا على صَاحبه، وَنِكَاح الشَّابَّة فَإِنَّهَا ألذ استمتاعا وَأطيب نكهة وَأحسن عشرَة وأفكه محادثة وأجمل منْظرًا، وألين ملمسا وَأقرب إِلَى أَن يعودها زَوجهَا الْأَخْلَاق الَّتِي يرتضيها واستحباب الْإِسْرَار بِمثلِهِ.
3 - (بابٌ: مَنْ لمْ يَسْتَطِع الْباءَةَ فَلْيَصُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نت لن يسْتَطع الْبَاءَة فليصم.
6605 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غياثٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ: حدّثني عُمارَةُ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ، قَالَ: دَخَلْتُ معَ عَلْقمَةَ والأسْوَدِ علَى عبْدِ الله، فَقَالَ عبْدُ الله: كُنّا مَعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَبابا لَا نجِدُ شَيْئا، فَقَالَ لَنا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ مَنِ اسْتَطاعَ الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ، فإِنّهُ أغضُّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَنْ لمْ يَسْتَطِعْ فعَلَيْهِ بالصَّوْمِ فإِنّهُ لَهُ وِجاءٌ.
(انْظُر الحَدِيث 5091 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن لم يسْتَطع) فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، أخرجه عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم وبالراء: ابْن عُمَيْر التَّيْمِيّ الْكُوفِي عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن قيس النَّخعِيّ، وعلقمة عَمه وَالْأسود أَخُوهُ يَعْنِي: دخلت مَعَ أخي وَعمي على عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (أَغضّ) بِمَعْنى الْفَاعِل لَا الْمَفْعُول أَي: أَشد غضا. قَوْله: (وَأحْصن) أَي: أَشد إحصانا لَهُ ومنعا من الْوُقُوع فِي الْفَاحِشَة. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي فَإِن الصَّوْم. قَوْله: (وَجَاء) جملَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية. وفال النَّوَوِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بِالْبَاءَةِ هُنَا على قَوْلَيْنِ: يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، أصَحهمَا: أَن المُرَاد مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ وَهُوَ الْجِمَاع، فتقدير من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْجِمَاع لقدرته على مؤونته وَهِي مُؤَن النِّكَاح فليتزوج، وَمن لم يسْتَطع الْجِمَاع لعَجزه عَن مؤنه فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ ليقطع شَهْوَته يقطع شَرّ منيه كَمَا يقطعهُ الوجاء، وعَلى هَذَا القَوْل وَقع الْخطاب مَعَ الشَّبَاب الَّذين هم مَظَنَّة شَهْوَة النِّسَاء وَلَا ينفكون عَنْهَا غَالِبا. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن المُرَاد هُنَا بِالْبَاءَةِ مُؤَن النِّكَاح، سَمِعت باسم مَا يلازمهما، وَتَقْدِيره: من اسْتَطَاعَ مِنْكُم مُؤَن النِّكَاح فليتزوج، وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ. قَالُوا: وَالْعَاجِز عَن الْجِمَاع لَا يحْتَاج إِلَى الصَّوْم لدفع الشَّهْوَة، فَوَجَبَ تَأْوِيل الْبَاءَة على الْمُؤَن، وانفصل الْقَائِلُونَ بِالْأولِ عَن ذَلِك بالتقدير الْمَذْكُور. انْتهى. قلت: مفعول (من لم يسْتَطع) مَحْذُوف فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ. وَمن لم يسْتَطع الْبَاءَة أَو من لم يسْتَطع التَّزَوُّج، وَقد وَقع كل مِنْهُمَا صَرِيحًا فَروِيَ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن شباب لَا نقدر على شَيْء فَقَالَ: يَا معشر الشَّبَاب عَلَيْكُم بِالْبَاءَةِ فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ وَأحْصن لِلْفَرجِ. فَمن لم يسْتَطع مِنْكُم الْبَاءَة فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِن الصَّوْم لَهُ وَجَاء، وَرُوِيَ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث الْأَعْمَش: من اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يتَزَوَّج فليتزوج، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة النَّسَائِيّ: من كَانَ ذَا طول فَلْيَنْكِح، وَالْحمل على الْمَعْنى الْأَعَمّ أولى بِأَن يُرَاد بِالْبَاءَةِ الْقُدْرَة على الْوَطْء ومؤن التَّزَوُّج. قَوْله: (وَجَاء) وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء، وَهُوَ الإخصاء وَهِي زِيَادَة مدرجة فِي الْخَبَر، وَتَفْسِير الوجاء بِالْإِخْصَاءِ فِيهِ نظر، فَإِن الوجاء: رض الانثيين، والإخصاء: قلعهما، وَإِطْلَاق الوجاء على الصّيام من مجَاز المشابهة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة قَالَ بَعضهم: وَجَاء، بِفَتْح الْوَاو مَقْصُور وَالْأول أَكثر، وَاسْتدلَّ بِهِ الْخطابِيّ على جَوَاز المعالجة لقطع شَهْوَة النِّكَاح بالأدوية، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي شرح السّنة وَيَنْبَغِي أَن يحمل على دَوَاء يسكن الشَّهْوَة دون مَا يقطعهَا أَصَالَة لِأَنَّهُ قد يقدر بعد فيندم لفَوَات ذَلِك فِي حَقه، وَقد صرح الشَّافِعِيَّة(20/68)
بِأَنَّهُ لَا يكسرها بالكافور وَنَحْوه، وَاسْتدلَّ بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة على تَحْرِيم الاستمناء، وَقد ذكر أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة أَنه يُبَاح عِنْد الْعَجز لأجل تسكين الشَّهْوَة.
4 - (بابُ كَثْرَةِ النِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَثْرَة النِّسَاء لمن قدر على الْعدْل بَينهُنَّ.
7605 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسى اأخبرَنا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ جُرَيْجٍ أخبرهُمْ قَالَ: أخبَرَني عَطاءٌ قَالَ: حضَرْنَا مَعَ ابنِ عَبّاس جَنازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابنُ عَبّاسٍ: هاذِهِ زَوْجَةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فإِذا رَفَعْتُمْ نَعْشَها فَلا تُزَعْزِعُوها وَلَا تُزَلْزِلُوها وَارْفُقُوا فإِنّهُ كانَ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعٌ كانَ يَقْسِمُ لِثَمانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تسع) هَذِه كَثْرَة النِّسَاء، وَلَكِن هَذَا الْعدَد فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي حق غَيره أَربع أَو ثَلَاث أَو ثِنْتَانِ، وَيُطلق عَلَيْهَا الْكَثْرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن يُوسُف وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن يُوسُف بن سعيد.
قَوْله: (مَيْمُونَة) هِيَ بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة سِتّ من الْهِجْرَة وَتوفيت بسرف، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالفاء: وَهُوَ مَكَان مَعْرُوف بِظَاهِر مَكَّة بَينهَا وَبَين مَكَّة اثْنَا عشر ميلًا، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنى بهَا فِيهَا، وَكَانَت وفاتها سنة إِحْدَى وَخمسين، وَقيل: ثَلَاث وَخمسين، وَقيل: سنة سِتّ وَسِتِّينَ، وَصلى عَلَيْهَا ابْن عَبَّاس، ونزول فِي قبرها، وَعبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد وَهِي خَالَة أَبِيه. قَوْله: (نعشها) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْعين وبالشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ السرير الَّذِي يوع عَلَيْهِ الْمَيِّت. قَوْله: (فَلَا تزعزعوها) من الزعزعة بزاءين معجمتين وعينين مهملتين، وَهِي تَحْرِيك الشَّيْء الَّذِي يرفع. قَوْله: (لَا تزلزلوها) من الزلزلة وَهِي الِاضْطِرَاب. قَوْله: (وارفقوا بهَا) من الرِّفْق. وَأَرَادَ بِهِ السّير الْوسط المعتدل. وَالْمَقْصُود مِنْهُ حُرْمَة الْمُؤمن بعد مَوته فَإِن حرمته بَاقِيَة كَمَا كَانَت فِي حَيَاته وَلَا سِيمَا هِيَ زَوْجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الشان (كَانَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تسع) أَي: تسع نسْوَة، أَي عِنْد مَوته، وَهن: سَوْدَة وَعَائِشَة وَحَفْصَة وَأم سَلمَة وَزَيْنَب بنت جحش وَأم حَبِيبَة وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة ومَيْمُونَة، هَذَا تَرْتِيب تَزْوِيجه، إياهن. وَمَات وَهن فِي عصمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كَانَ يقسم) من الْقسم، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون السِّين: مصدر قسمت الشَّيْء فانقسم، وبالكسر وَاحِد الْأَقْسَام وَبِمَعْنى النَّصِيب، يُقَال: كِلَاهُمَا بِمَعْنى النَّصِيب وَلَكِن الأول يسْتَعْمل فِي مَوضِع خَاص بِخِلَاف الثَّانِي، وَالْقسم بِفتْحَتَيْنِ الْيَمين قَوْله: (لثمان) أَي: لثمان نسْوَة (وَلَا يقسم لوَاحِدَة) أَي: لامْرَأَة وَاحِدَة، وَهِي: سَوْدَة بنت زَمعَة بن قيس القرشية العامرية، توفيت فِي آخر خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَت قد أَسِنَت عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم بِطَلَاقِهَا، فَقَالَت لَهُ: لَا تُطَلِّقنِي وَأَنت فِي حل من شأني، فَإِنَّمَا أريدأن أحْشر فِي أَزوَاجك، وَإِنِّي قد وهبت يومي لعَائِشَة، وَإِنِّي لَا أُرِيد مَا تُرِيدُ النِّسَاء؛ فَأَمْسكهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى توفّي عَنْهَا مَعَ سَائِر من توفّي عَنْهُن من أَزوَاجه. فَإِن قلت: رُوِيَ مُسلم الحَدِيث الْمَذْكُور من طَرِيق عَطاء، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: قَالَ عَطاء الَّتِي لَا يقسم لَهَا صَفِيَّة بنت حييّ بن أَخطب قلت: حكى عِيَاض عَن الطَّحَاوِيّ أَن هَذَا وهم وَصَوَابه سَوْدَة، وَإِنَّمَا غلط فِيهِ ابْن جريج راوية عَن عَطاء، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا وهم من ابْن جريج الرَّاوِي عَن عَطاء، وَإِنَّمَا الصَّوَاب سَوْدَة، كَمَا فِي الْأَحَادِيث فَإِن قلت: يحْتَمل أَن تكون رِوَايَة ابْن جريج صَحِيحَة وَيكون ذَلِك فِي آخر أمره حَيْثُ رُوِيَ الْجَمِيع، فَكَانَ يقسم لجميعهن إلاَّ لصفية. قلت: قد أخرج ابْن سعد من ثَلَاثَة طرق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقسم لصفية كَمَا يقسم لنسائه. فَإِن قلت: قد أخرج ابْن سعد هَذِه الطّرق كلهَا من رِوَايَة الْوَاقِدِيّ، وَهُوَ لَيْسَ بِحجَّة قلت: مَا لِلْوَاقِدِي وَقد رُوِيَ عَنهُ الشَّافِعِي وَأَبُو بكر بن أبي شيبَة وَأَبُو عبيد وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعَن مُصعب الزبيرِي ثِقَة مَأْمُون، وَكَذَا قَالَ الْمسَيبِي،(20/69)
وَقَالَ أَبُو عبيد: ثِقَة، وَعَن الداروردي: الْوَاقِدِيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، مَاتَ قَاضِيا بِبَغْدَاد سنة سبع وَمِائَتَيْنِ وَدفن فِي مَقَابِر الخيزران وَهُوَ ابْن ثَمَان وَسبعين سنة.
8605 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ قتادَةَ عنْ أنَس، رَضِي الله عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. كانَ يَطُوفُ علَى نِسائِهِ فِي لَيْلَةٍ واحِدَةٍ ولَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وَقَالَ لي خَلِيفَةُ: حَدثنَا يزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حَدثنَا سَعِيدٌ عنْ قَتادَةَ أنَّ أنَسا حدَّثَهُمْ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة واسْمه مهْرَان الْبَصْرِيّ. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْغسْل بأتم مِنْهُ. قَوْله: (وَقَالَ لي خَليفَة) هُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، إِنَّمَا قصد بذلك تَصْرِيح قَتَادَة بتحديث أنس لَهُ بذلك.
9605 - حدَّثنا علِيٌّ بنُ الحَكَمِ الأنْصاريُّ حَدثنَا أبُو عَوانَةَ عنْ رَقَبةَ عنْ طَلْحَةَ اليامِيِّ عنْ سعيدِ بنِجُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابنُ عَبّاسٍ: هلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَتَزَوَّجْ فإِنَّ خَيْرَ هاذِهِ الأُمَّةِ أكْثَرُها نِساءً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَكْثَرهَا نسَاء) وَعلي بن الحكم بِفتْحَتَيْنِ الْأنْصَارِيّ الْمروزِي من قَرْيَة من قرى مرو يَدعِي غزا مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَطَلْحَة هُوَ ابْن مصرف اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم، وَيُقَال الأيامي فِي هَمدَان ينْسب إِلَى أَيَّام بن أصبي بن رَافع بن مَالك بن جشم بن حاشد بن خيران بن نوف بن أوسلة وَهُوَ هَمدَان.
قَوْله: (فَإِن خير هَذِه الْأمة) المُرَاد بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أَكثر نسَاء من غَيره، وَالْأمة الْجَمَاعَة أَي: خير هَذِه الْجَمَاعَة الإسلامية وَهُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ أَكْثَرهم نسَاء لِأَن لَهُ تسعا، وَإِنَّمَا قيد بِهَذِهِ الْأمة لِأَن سليكان، عَلَيْهِ السَّلَام، أَكثر زَوْجَات من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قيل: كَانَت ألف امْرَأَة: ثَلَاثمِائَة حرائر وَسَبْعمائة إِمَاء، وأبلوه دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَت لَهُ تسع وَتسْعُونَ امرأةٍ، وَقيل: مَعْنَاهُ خير أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هُوَ أَكثر نسَاء من غَيره إِذا تساووا فِي الْفَضَائِل، وَقيل لَهُ: الْخَيْرِيَّة من هَذِه الْجِهَة لَا مُطلقًا، فَافْهَم.
5 - (بابٌ مَنْ هاجَرَ أوْ عَمِلَ خَيْرا لِتَزْوِيجِ امْرَأةٍ فلَهُ مَا نَوَى)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن من هَاجر إِلَى دَار الْإِسْلَام وَكَانَ قَصده تَزْوِيج امْرَأَة، أَو عمل خير من أَنْوَاع الْخَيْر ليتوسل بِهِ إِلَى تَزْوِيج امْرَأَة أَو يَجْعَلهَا زَوْجَة نَفسه، أَو التَّزْوِيج بِمَعْنى التَّزَوُّج، فَلهُ مَا نوى لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، على مَا يَجِيء الْآن.
0705 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ قَزَعَةَ حَدثنَا مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سعِيدٍ عنْ مُحَمَّدٍ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ لحَارِثِ عنْ علْقَمَةَ بن وقاصٍ عنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: العَمَلُ بالنِّيَّةِ، وإنَما لِامْرِىءٍ مَا نَوَى، فمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومَنْ كانتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأةٍ يَنْكِحُها فهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هاجَر إليْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى بن قزعة، بِالْقَافِ وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحات: الْحِجَازِي. والْحَدِيث قد مر فِي أول الْكتاب فَإِنَّهُ إخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
6 - (بابُ تَزْوِيجِ المُعْسِرِ الَّذِي مَعَهُ القُرْآنُ والإسْلاَمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَزْوِيج الْمُعسر أَي: الْفَقِير الَّذِي لَيْسَ مَعَه شَيْء وَمَعَهُ الْقُرْآن، يَعْنِي: يحفظ شَيْئا من الْقُرْآن. قَوْله: (وَالْإِسْلَام) قَالَ ابْن بطال: دلّ هَذَا على أَن الْكَفَاءَة إِنَّمَا هِيَ فِي الدّين لَا فِي المَال، وَقد نبه بِهَذِهِ التَّرْجَمَة(20/70)
على جَوَاز ذَلِك آخِذا بِمَا وَقع من حَال ذَلِك الرجل الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد، فَلم يجد، وزوجه بِمَا مَعَه من الْقُرْآن.
فِيهِ سَهْلٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْبَاب ورد حَدِيث سهل بن سعد الْأنْصَارِيّ السَّاعِدِيّ، وَقد مر حَدِيثه فِي: بَاب الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب، وَفِيه: مَاذَا مَعَك من الْقُرْآن؟ قَالَ: معي سُورَة كَذَا وَكَذَا، قَالَ: اتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن.
1705 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني قَيْسٌ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ رضيَ الله عنهُ، قَالَ: كُنا نَغْزُو مَع النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْسَ لَنا نِساءٌ، فَقُلْنا: يَا رَسُول الله ألاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهانا عنْ ذالِكَ.
(انْظُر الحَدِيث 5164 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تعلم بالدقة فِي النّظر، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نَهَاهُم عَن الاختصاء مَعَ احتياجهم إِلَى النِّسَاء وَمَعَ فَقرهمْ، كَمَا صرح بِهِ فِي هَذَا الْخَبَر على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَكَانَ مَعَ كل مِنْهُم شَيْء من الْقُرْآن كَأَنَّهُ أجَاز لَهُم التَّزْوِيج بِمَا مَعَهم من الْقُرْآن.
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد سعد البَجلِيّ الْكُوفِي، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم عَوْف الأحمسي البَجلِيّ. قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والْحَدِيث قد مر التَّفْسِير.
قَوْله: (عَن ذَلِك) أَي: عَن الاستخصاء، فَدلَّ على أَنه حرَام فِي الْآدَمِيّ صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، لِأَن فِيهِ تَغْيِير خلق الله تَعَالَى، وَلما فِيهِ من قطع النَّسْل وتعذيب الْحَيَوَان. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَكَذَا كل حَيَوَان لَا يُؤْكَل، وَأما الْمَأْكُول فَيجوز فِي صغره وَيحرم فِي كبره.
7 - (بابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِأخِيهِ: انْظُرْ أيَّ زَوْجَتَي شَئْتَ حتَّى أنْزِلَ لَكَ عنْها، رَواهُ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الرجل إِلَى آخِره، وَالَّذِي يظْهر لي أَنه إِنَّمَا وضع هَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ لفظ حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الَّذِي مضى فِي أول الْبيُوع، إِشَارَة إِلَى أَنه رَوَاهُ فِيهِ من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن نفس عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَالْآخر: عَن أنس من طَرِيق زُهَيْر عَن حميد عَنهُ يخبر عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهنا أَيْضا رَوَاهُ من حَدِيث سُفْيَان عَن حميد عَنهُ يخبر عَن عبد الرَّحْمَن. وَأخذ البُخَارِيّ فِيهِ هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة من نفس الحَدِيث ووضعها تَرْجَمَة تَنْبِيها على فَوَائِد كَثِيرَة: مِنْهَا: وضعة تراجم غَرِيبَة فِي مَوَاضِع كَثِيرَة فِي الْكتاب، وَمِنْهَا: الْإِشَارَة إِلَى اتساع رِوَايَته، وَمِنْهَا: بَيَان مَا فِيهِ من الِاخْتِلَاف فِي الْأَسَانِيد وَفِي الْمُتُون وَغير ذَلِك.
قَوْله: (حَتَّى أنزل لَك عَنْهَا) أَي: حَتَّى أطلقها وتنقضي عدتهَا ثمَّ تأخذها. قَوْله: (رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف) أَي: رُوِيَ هَذَا الْبَاب الَّذِي هُوَ التَّرْجَمَة فِي حَدِيثه، على مَا مر فِي أول الْبيُوع.
2705 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ عنْ سُفْيانَ عنْ حُمَيْدٍ الطَّويلِ قَالَ: سمَعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ: قَدِمَ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عوْفٍ فآخَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَهُ وبَيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ الأنْصارِيِّ، وعِنْدَ الأنْصاريِّ امْرَأتانِ، فعَرَضَ عَلَيْهِ أنْ يُناصِفَهُ أهْلَهُ ومالَهُ، فَقَالَ: بارَكَ لله لَكَ فِي أهْلِكَ ومالِكَ، دُلُّونِي علَى السُّوقِ. فأتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئا مِنْ أقَطٍ وشَيْئا مِنْ سَمْنٍ، فَرَآهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ أيَّامٍ وعلَيْهِ وضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَهْيَمْ يَا عبْدَالرَّحْمانِ؟ فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ أنْصارية. قَالَ: فَما سُقْتَ إليْها قَالَ: وزْنَ نَواةٍ مِنْ ذَهَبَ. قَالَ: أوْلِمْ ولَوْ بِشاةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَعند الْأنْصَارِيّ امْرَأَتَانِ فَعرض عَلَيْهِ أَن يناصفه أَهله) وَقد ذكرنَا أَنه مضى فِي أول الْبيُوع.
قَوْله: (وضر) بِفَتْح الْوَاو وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وبالراء أَي: وَهُوَ اللطخ من الخلوق وَمن كل طيب لَهُ لون. قَوْله: (مَهيم) بِفَتْح الْمِيم(20/71)
وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره مِيم: أَي: مَا حالك وَمَا شَأْنك؟ قَوْله: (فَمَا سقت) أَي: إِلَيْهَا، ويروي هَكَذَا. قَوْله: (وزن نواة من ذهب) وَهُوَ اسْم لخمسة دَرَاهِم، أَي: مِقْدَار خَمْسَة دَرَاهِم وزنا من الذَّهَب، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت هُنَاكَ.
8 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ والخِصاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من التبتل وَأَصله الِانْقِطَاع من قَوْلهم تبتلت الشَّيْء اتبتله من بَاب ضرب يضْرب إِذا قطعته، وَالْمرَاد بالتبتل الْمنْهِي عَنهُ فِي الحَدِيث الِانْقِطَاع عَن النِّسَاء وَترك التَّزْوِيج، وَأما معنى قَوْله تَعَالَى: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلاً} (المزمل: 8) فَالْمُرَاد بِهِ الِانْقِطَاع إِلَيْهِ والتعبد لَا ترك التَّزْوِيج فَإِنَّهُ لم يَأْمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل قَالَ ابْن عَبَّاس: خير هَذِه الْأمة أَكْثَرهَا نسَاء، وَيُرِيد بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (والخصاء) بِكَسْر الْخَاء وبالمد: مصدر خصيت الْفَحْل، إِذا سللت خصيتيه، وَالرجل خصي وَالْجمع خصيان وخصية.
3705 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حَدثنَا إبْرَاهِيم بنُ سَعْد أخبرنَا ابنُ شِهابٍ سَمِعَ بن سَعيدَ بن المُسَيِّبَ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ أبي وقَّاصٍ يَقُولُ: رَدَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علَى عُثْمانَ ابنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، ولوْ أذِنَ لهُ لاخْتَصَيْنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَبُو عبد الله التَّيْمِيّ الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد لرحمن بن عَوْف، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ الْحَلَال. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني.
قَوْله: (رد رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، على عُثْمَان بن مَظْعُون التبتل) أَي: لم يَأْذَن لَهُ فِيهِ حِين اسْتَأْذن فِي ذَلِك، وَيُقَال: معنى: رد، نهي عَن التبتل وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ الْآن. قَوْله: (وَلَو أذن لَهُ) أَي: لَو أذن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. لعُثْمَان بن مَظْعُون (لاختصينا) من اختصيت، إِذا فعلت ذَلِك بِنَفْسِك. وَكَانَ مناسبا أَن يَقُول: أذن لَهُ لتبتلنا، فَعدل إِلَى: اختصينا، إِرَادَة الْمُبَالغَة أَي: لَو أذن لَهُ لبالغنا فِي التبتل حَتَّى الاختصاء، وَكَانَ التبتل من شَرِيعَة النَّصَارَى فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته عَنهُ ليكْثر النَّسْل ويدوم الْجِهَاد.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ يُقَال: يلْزم من جَوَاز التبتل عَن النِّسَاء جَوَاز الخصاء، وَهُوَ قطع عضوين بهما قوام النَّسْل، وَفِيه ألم عَظِيم لِأَنَّهُ رُبمَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاك. وَهُوَ محرم بالِاتِّفَاقِ، ثمَّ أجَاب بِأَن ذَلِك لَازم من حَيْثُ إِن مُطلق التبتل يتضمنه، فَكَأَن هَذَا الْقَائِل ظن أَن التبتل الْحَقِيقِيّ الَّذِي يُؤمن مَعَه شَهْوَة النِّسَاء وَهُوَ الخصاء، وَأخذ بِأَكْثَرَ مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم، وَقَوله: فِيهِ ألم عَظِيم، مُسلم لَكِن يصغر فِي جنب صِيَانة الدّين، كَقطع الْيَد للأكلة والكي والبط وَنَحْوهَا. وَقَوله: رُبمَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاك، غير مُسلم لِأَن وُقُوع الْهَلَاك مِنْهُ نَادِر، وخصاء الْحَيَوَان يشْهد لذَلِك. وَأجَاب النَّوَوِيّ عَن ذَلِك بِأَن مَعْنَاهُ: لَو أذن فِي الِانْقِطَاع عَن النِّسَاء وغيرهن من ملاذ الدُّنْيَا لاختصينا لدفع شَهْوَة النِّسَاء لتمكننا من التبتل، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُول على أَنهم كَانُوا يظنون جَوَاز الاختصاء باجتهادهم وَلم يكن ظنهم هَذَا مُوَافقا، فَإِن الاختصاء فِي الْآدَمِيّ حرَام مُطلقًا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَفِي كل من جوابي الْقُرْطُبِيّ وَالنَّوَوِيّ نظر، بل الْجَواب الصَّحِيح أَنه: لَو وَقع إِذن من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سَأَلَهُ عَنهُ عُثْمَان بن مَظْعُون من التبتل لجَاز لَهُم الاختصاء، لِأَن اسْتِئْذَان عُثْمَان فِي التبتل كَانَت صورته استئذانا فِي الاختصاء كَمَا هُوَ مُبين فِي حَدِيث عَائِشَة بنت قدامَة بن مَظْعُون عَن أَبِيهَا عَن أَخِيه عُثْمَان بن مَظْعُون، أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله {إِنَّه ليشق علينا الْعزبَة فِي الْمَغَازِي، أفتأذن لي يَا رَسُول الله فِي الخصاء فأختصى؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا وَلَكِن عَلَيْك يَا ابْن مَظْعُون بالصيام فَإِنَّهُ مجفر) ذكره ابْن عبد الْبر فِي الِاسْتِيعَاب وَذكر أَيْضا أَن عُثْمَان بن مَظْعُون وعليا وَأَبا ذَر هموا أَن يختصوا ويبتلوا فنهاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ تَعَالَى وَسلم، عَن ذَلِك. وَنزلت فيهم: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعَلمُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} (الْمَائِدَة: 39) الْآيَة. وَأخرج الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن مَظْعُون نَفسه أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله} إِنِّي رجل يشق عَليّ الْعُزُوبَة فاذن لي فِي الخصاء، قَالَ: لَا وَلَكِن عَلَيْك بالصيام.(20/72)
4705 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِي قَالَ: أَخْبرنِي سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنهُ سَمِعَ سَعْدَ بنَ أبي وقَّاصٍ يَقُولُ: لقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى عُثْمانَ بن مَظْعُونٍ ولوْ أجازَ لهُ التَّبَتُّلَ لاخْتَصَيْنا.
(انْظُر الحَدِيث 3705) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ: إِلَى آخِره.
5705 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا جُرَيرٍ عنْ إسْماعِيلَ عنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله: كُنَّا نَغْزُو مَع رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولَيْسَ لَنا شَيّءٌ، فَقُلْنا: أَلا نَسْتحْصِي؟ فَناهانا عنْ ذالِكَ، ثُمَّ رخصَ لَنا أنَّ نَنْكحَ المَرْأَةَ بالثَّوْبِ، ثمَّ قَرأ علَيْنا ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُو اْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الْمَائِدَة: 78) .
(انْظُر الحَدِيث 5164 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد البَجلِيّ، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَقد مر هَذَا الحَدِيث عَن قريب إِلَى قَوْله: (فنهانا عَن ذَلِك) فَإِنَّهُ أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى عَن إِسْمَاعِيل إِلَى آخِره.
قَوْله: (ثمَّ رخص لنا أَن ننكح الْمَرْأَة بِالثَّوْبِ) هَذَا نِكَاح الْمُتْعَة، وَهَذَا يدل على أَن ابْن مَسْعُود يرى بِجَوَاز الْمُتْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَعَلَّه لم يكن حِينَئِذٍ بلغه النَّاسِخ ثمَّ بلغه فَرجع، وَيدل على ذَلِك مَا ذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنه وَقع فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن إِسْمَاعِيل ابْن أبي خَالِد: فَفَعَلْنَا، ثمَّ ترك ذَلِك. قَالَ: وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل، ثمَّ جَاءَ تَحْرِيمهَا بعد وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد: فَفَعَلْنَا، ثمَّ ترك ذَلِك. قَالَ: وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل، ثمَّ جَاءَ تَحْرِيمهَا بعد. وَفِي رِوَايَة معمر عَن إِسْمَاعِيل ثمَّ نسخ. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ علينا {يَا أيهاالذين آمنُوا لَا تحرموا} (الْمَائِدَة: 78) الْآيَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ثمَّ قَرَأَ علينا عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَرُوِيَ الواحدي فِي أَسبَاب النُّزُول من رِوَايَة عُثْمَان بن سعد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي إِذا أكلت من هَذَا اللَّحْم انتشرت إِلَى النِّسَاء، وَإِنِّي حرمت عَليّ اللَّحْم. فَنزلت: {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} (الْمَائِدَة: 78) فعلى هَذَا لَا يجوز لأحد من الْمُسلمين تَحْرِيم شَيْء مِمَّا أحل الله لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ على نَفسه من طَيّبَات المطاعم والملابس والمناكح بإحلال ذَلِك لَهَا بعض الْمَشَقَّة، أَو أَمنه، وَلَا فضل فِي ترك شَيْء مِمَّا أحله الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَالْفضل وَالْبر فِيمَا هُوَ فعل مَا ندب الله عباده إِلَيْهِ، وَعمل بِهِ رَسُوله وسنه لأمته وَتَبعهُ على هَذَا الْمِنْهَاج الْأَئِمَّة الراشدون، فَإِذا كَانَ ذَلِك تبين خطأ من آثر لِبَاس الشّعْر وَالصُّوف على لِبَاس الْقطن والكتان إِذا قدر على لبس ذَلِك من حلّه، وآثر أكل الفول والعدس على خبز الْبر وَالشعِير، وَترك أكل اللَّحْم والودك حذرا من عَارض الْحَاجة إِلَى النِّسَاء، وَالْأولَى بالأجسام إصلاحها لتعينه على طَاعَة ربه، وَلَا شَيْء أضرّ بالجسم من المطاعم الرَّديئَة لِأَنَّهُ مُفسد لعقله ومضغة لأدواته الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى سَببا إِلَى طَاعَته، وَمن ذَلِك التبتل وَالتَّرَهُّب لِأَنَّهُ دَاخل فِي معنى الْآيَة الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك من أجل أَنه مُكَاثِر رَبهم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة وَأَنه فِي الدُّنْيَا يُقَاتل بهم طوائف الْكفَّار، وَفِي آخر الزَّمَان يُقَاتلُون الدَّجَّال فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكثر النَّسْل، وَلَا الْتِفَات إِلَى مَا رُوِيَ خَيركُمْ بعد الْمِائَتَيْنِ الْخَفِيف الحاذ الَّذِي لَا أهل لَهُ وَلَا ولد، فَإِنَّهُ ضَعِيف بل مَوْضُوع، وَكَذَلِكَ قَول حُذَيْفَة: إِذا كَانَ سنة خمسين وَمِائَة فَلِأَن يُربي أحدكُم جرو كلب خير لَهُ من أَن يُربي ولدا.
6705 - حدَّثنا وَقَالَ أصْبَغُ: أَخْبرنِي ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونسَ بنِ يَزيدَ عنِ ابنِ شِهاب عنْ أبي سلَمَة عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رضيَ الله عَنهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله {إنِّي رجُلٌ شابَّ وَأَنا أخافُ علَى نَفْسِي العَنَتَ وَلَا أجِدُ مَا أتَزَوَّجُ بِهِ النِّساءَ، فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ: مِثْلَ ذالِكَ فَسَكَتَ غَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذالِكَ فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلك فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ} جَفَّ القَلَمُ بِما أنْتَ لاقٍ فاخْتَصِ علَى ذَلِكَ أوْ ذَرْ.
أَي قَالَ أصبغ بن الْفرج وراق عبد الله بن وهب، كَذَا وَقع فِي عَامَّة الْأُصُول: قَالَ أصبغ، وَكَذَا ذكره أَبُو مَسْعُود وَخلف(20/73)
وَخَالف ذَلِك الحافظان أَبُو نعيم والطرقي فَقَالَا: رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أصبغ، وَلَئِن سلمنَا صِحَة مَا وَقع فِي الْأُصُول وَأَنه رَوَاهُ عَنهُ مُعَلّقا فقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا ابْن الْهَاد حَدثنَا أصبغ أَخْبرنِي ابْن وهب، وَقد وَقع فِي كتاب الطرقي: رَوَاهُ البُخَارِيّ ابْن مُحَمَّد وَهُوَ غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ للْبُخَارِيّ شيخ اسْمه أصبغ بن مُحَمَّد، وَلَا فِي الْكتب السِّتَّة. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (إِنِّي رجل شَاب وَأَنا أَخَاف) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَإِنِّي أَخَاف، وَكَذَا فِي رِوَايَة حَرْمَلَة. قَوْله: (الْعَنَت) بِفَتْح النُّون وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ الْحمل على الْمَكْرُوه. وَقد عنت يعنت من بَاب علم يعلم، والعنت الْإِثْم، وَقد عنت اكْتسب إِثْمًا، والعنت الْفُجُور وَالزِّنَا وكل شاقٍ ذكره فِي الْمُنْتَهى وَفِي التَّهْذِيب: الإعنات تَكْلِيف غير الطَّاقَة، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أصل الْعَنَت التَّشْدِيد، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الزِّنَا. قَوْله: (جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لاقٍ) أَي: نفذ الْمُقدر بِمَا كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَبَقيَ الْقَلَم الَّذِي كتب بِهِ جافا لَا مداد فِيهِ لفراغ مَا كتب بِهِ. قَوْله: (فاختص) صورته صُورَة أَمر من الاختصاء، وَلَكِن هَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى: {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} (الْكَهْف: 92) وَلَيْسَ الْأَمر فِيهِ لطلب الْفِعْل بل هُوَ للتهديد، وَحَاصِل الْمَعْنى: إِن فعلت أَو لم تفعل فَلَا بُد من نُفُوذ الْقدر، وَوَقع فِي بعض الْأُصُول اقْتصر، مَوضِع اخْتصَّ. وَكَذَا وَقع فِي المصابيح فَإِن صحت فَلَا حَاجَة إِلَى تَأْوِيل الأول. قَوْله: (على ذَلِك) كلمة: على، مُتَعَلقَة بمقدر مَحْذُوف أَي: اخْتصَّ حَال استعلائك على الْعلم بِأَن الْكل بِتَقْدِير الله عز وَجل قَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: الْمَعْنى أَن الِاقْتِصَار على التَّقْدِير وَالتَّسْلِيم لَهُ وَتَركه الْإِعْرَاض عَنهُ سَوَاء. فَإِن مَا قدر لَك من خير أَو شَرّ فَهُوَ لَا محَالة يَأْتِيك، وَمَا لم يكْتب فَلَا طَرِيق لَك إِلَى حُصُوله. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي اقْتصر على مَا ذكرت لَك وَارْضَ بِقَضَاء الله تَعَالَى أَو ذَر مَا ذكرته وامضلشأنك واختص، فَيكون تهديدا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ قد سبق فِي قَضَاء الله تَعَالَى جَمِيع مَا يصدر عَنْك ويلاقيك فاقتصر على ذَلِك، فَإِن الْأُمُور مقدرَة أودعهُ فَلَا تخض فِيهِ. قَوْله: (أَو ذَر) ، أَي: أَو اترك، وَهُوَ أَمر من يذر، وَقَالَت: الصرفيون، أماتوا ماضي يذر ويدع. قلت: قد جَاءَ ماضي يدع فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك} (الضُّحَى: 3) قرىء بِالتَّخْفِيفِ فَإِن قيل: لم يُؤمر أَبُو هُرَيْرَة بالصيام لكسر شَهْوَته كم أَمر بِهِ غَيره، وَأجِيب بِأَن لغالب من حَال أبي هُرَيْرَة كَانَ الصَّوْم لِأَنَّهُ منأهل الصّفة وَكَانُوا مستمرين على الصَّوْم، وَقيل: وَقع ذَلِك فِي الْغَزْو كَمَا وَقع لِابْنِ مَسْعُود، وَكَانُوا فِي الْغَزْو يؤثرون الْفطر على الصّيام للتقوي على الْقِتَال فأداه اجْتِهَاده فِي حسم مَادَّة الشَّهْوَة بالاختصاء، كَمَا ظهر لعُثْمَان بن مَظْعُون فَمَنعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9 - (بابُ نِكاحِ الأبْكارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نِكَاح الْأَبْكَار، وَهُوَ جمع بكر، وَالْبكْر خلاف الثّيّب ويقعان على الرجل وَالْمَرْأَة. وَمِنْه: الْبكر بالبكر جلد مائَة وَنفي سنة.
وَقَالَ ابنُ أبي مُليْكَةَ، قَالَ ابنُ عبَّاسٍ لَعائِشَةَ: لَمْ يَنْكحِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكْرا غَيْرَكِ
ابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة. بِضَم الْمِيم واسْمه زُهَيْر بن عبد الله التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن الزبير، وَهَذَا الَّذِي قَالَه طرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النُّور.
7705 - حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني أخِي عنْ سُليْمانَ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله! أرَأيْتَ لوْ نَزَلْتَ وَادِيا وفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْها وَوجَدْتَ شَجَرا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْها فِي أيَّها كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: فِي الَّتي لَمْ يُرْتَعْ مِنْها، تَعْنِي أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَتَزَوَّجَ بكْرا غَيْرَها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لم يتَزَوَّج بكرا غَيرهَا) وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس بن أُخْت مَالك بن أنس وَأَخُوهُ عبد الحميد وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (وَفِيه شَجَرَة قد أكل مِنْهَا وَوجدت شَجرا لم يُؤْكَل مِنْهَا) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَوجدت شَجَرَة، وَذكره الْحميدِي بِلَفْظ: فِيهِ(20/74)
شجر قد أكل مِنْهَا، وَكَذَا أخرجه أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج بِلَفْظ الْجمع وَهُوَ أصوب لقَوْله بعد: (فِي أَيهَا كنت ترتع) أَي: فِي أَي الشّجر؟ وَلَو أَرَادَ الْمَوْضِعَيْنِ لقَالَ: فِي أَيهمَا. قَوْله: (ترتع) بِضَم أَوله من الإرتاع، يُقَال: ارتع بعيره، إِذا تَركه يرعيشيئا، ورتع الْبَعِير فِي المرعى إِذا أكل مَا شَاءَ، ورتعه الله أَي: أنبت لَهُ مَا يرعاه على سَعَة. قَوْله: (قَالَ: فِي الَّذِي لم يرتع مِنْهَا) وَالْأَصْل أَن يُقَال: فِي الَّتِي لم يُؤْكَل مِنْهَا وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي نعيم: قَالَ فِي الشَّجَرَة الَّتِي، وَهُوَ الأَصْل. قَوْله: (تَعْنِي) . أَي: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَزَاد أَبُو نعيم قبل هَذَا ناهيه، بِكَسْر الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْهَاء، وَهِي للسكت.
8705 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ حدّثنا أبُو أُسامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، قالَتْ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيتُكِ فِي المَنامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هاذِهِ امْرَأتُكَ، فأكْشِفُها فإِذَا هيَ أنْتِ، فأقُولُ: إنْ يَكُنْ هاذَا مِنْ عِنْدِ الله يُمْضِه..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج عَائِشَة وَهِي بكر بعد رُؤْيَته إِيَّاهَا فِي الْمَنَام الصَّادِق. وَعبيد اسْمه فِي الأَصْل عبد الله بن إِسْمَاعِيل يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَأَبُو أُسَامَة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن عبيد الْمَذْكُور وَأخرجه مُسلم فِي الفصائل عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة.
قَوْله: (أريتك) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْكَاف لِأَنَّهُ خطاب لعَائِشَة. قَوْله: (إِذا رجل يحملك) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَأَرَادَ بِالرجلِ ملكا فِي صُورَة رجل، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: أَن الْملك الَّذِي جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصورتها هُوَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي صَحِيح ابْن حبَان جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي خرقَة حَرِير فَقَالَ: هَذِه زَوجتك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: جَاءَنِي لَك الْملك، وَفِي طَبَقَات ابْن سعد عَنْهَا: جَاءَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِصُورَتي من السَّمَاء فِي حريرة وَأَصلهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: سره، أَي: جيد فعرب كَمَا عرب استبرق، وَقيل: هِيَ شقة من الْحَرِير الْأَبْيَض، وَادّعى الْمُهلب أَنه كالكلة والبرقع، وَهُوَ غَرِيب. قَوْله: (فأكشفها) أَي: فأكشف السّرقَة، قيل: إِنَّمَا رأى مِنْهَا مَا يجوز للخاطب أَن يرَاهُ. قَوْله: (فَإِذا هِيَ أَنْت) كلمة: إِذا، للمفاجأة وَهِي ترجع إِلَى الصُّورَة الَّتِي فِي السّرقَة. قَوْله: (إِن يكن من عِنْد الله) ، أَي: إِن يكن هَذَا الَّذِي رَأَيْته كَائِنا من عِنْد الله (يمضه) بِضَم الْيَاء من الْإِمْضَاء، وَهُوَ الإنفاذ، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: لم يشك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رأى فَإِن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحي وَإِنَّمَا احْتمل عِنْده أَن تكون الرُّؤْيَا اسْما. وَاحْتمل أَن تكون كنية. فَإِن للرؤيا اسْما وكنية. فسموها بأسمائها وكنوها بكناها، وَاسْمهَا أَن تخرج بِعَينهَا، وكنيتها أَن تخرج على مثالها، أَو هِيَ أُخْتهَا أَو قرينتها أَو جارتها أَو سميتها، وَذكر عِيَاض أَن هَذِه الرُّؤْيَا تحْتَمل أَن تكون قبل النُّبُوَّة فَقَالَ: تزَوجهَا فَإِنَّهَا امْرَأَتك. قَوْله: (فِي سَرقَة) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء. وَهِي قِطْعَة من حَرِير وَإِن كَانَت بعد النُّبُوَّة فلهَا ثَلَاثَة معانٍ: الأول: أَن تكون الرُّؤْيَا على وَجههَا فظاهرها لَا يحْتَاج إِلَى تَعْبِير وَتَفْسِير فيسمضه الله وينجزه، فالشك عَائِد إِلَى أَنَّهَا رُؤْيا على ظَاهرهَا أم تحْتَاج إِلَى تَعْبِير وَصرف عَن ظَاهرهَا. الثَّانِي: المُرَاد إِن كَانَت هَذِه الزَّوْجِيَّة فِي الدُّنْيَا يمضه الله، عز وَجل، فالشك أَنَّهَا هَل هِيَ زَوجته فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة. الثَّالِث: أَنه لم يشك، وَلَكِن أخبر على التَّحْقِيق وأتى بِصُورَة الشَّك، وَهَذَا نوع من البلاغة يُسمى: مزج الشَّك بِالْيَقِينِ.
01 - (بابُ تَزْوِيجِ الثَّيِّباتِ)
أَي: هَذَا فِي بَاب فِي بَيَان تَزْوِيج النِّسَاء الثيبات، وَهُوَ جمع ثيب. وَقَالَ بَعضهم: جمع ثيبة، وَلَيْسَ كَذَلِك بل جمع ثيب وَقَالَ المطرزي: الثّيّب بِالضَّمِّ فِي جمعهَا لَيْسَ من كَلَامهم. وَالثَّيِّب من لَيْسَ ببكر، وَقد ذكرنَا أَنه يُقَال: رجل ثيب وَامْرَأَة ثيب، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَيَقَع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَفِي الْمغرب وَالثَّيِّب من النِّسَاء الَّتِي قد تزوجت فَبَانَت بِوَجْه، وَعَن اللَّيْث: وَلَا يُقَال للرجل وَعَن الْكسَائي: رجل ثيب بامرأته، وَامْرَأَة ثيب إِذا دخل بهَا، كَمَا يُقَال: بكر وأيم، وَهُوَ فيعل من ثاب لمعاودتهما التَّزَوُّج(20/75)
فِي غَالب الْأُمُور، وَلِأَن الْخطاب يثاوبونها أَي: يعاودونها. وَقَوْلهمْ: ثيبت الْمَرْأَة تثييبا كعجزت النَّاقة وثيبت النَّاقة إطا صَارَت عجوزا.
وقالَتْ أمُّ حَبيبَةَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لاَ تَعْرِضْنَ علَيَّ بَناتِكُنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بناتكن) لِأَنَّهُ خطاب أَزوَاجه ونهاهن أَن يعرضن عَلَيْهِ ربائبه لحرمتهن وَهن ثيبات قطعا، وَهُوَ تَحْقِيق أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج الثّيّب ذَات الْبِنْت، وَقَالَ بَعضهم: استنبط المُصَنّف التَّرْجَمَة من قَوْله: (بناتكن) لِأَنَّهُ خطاب بذلك نِسَاءَهُ فَاقْتضى أَن لَهُنَّ بَنَات من غَيره، فيستلزم أَنَّهُنَّ ثيبات. انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله! مَا أبعد هَذَا الْكَلَام عَن الْمَقْصُود، وَالْمَقْصُود إِثْبَات الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة وَلَيْسَ فِيمَا قَالَه وَجه الْمُطَابقَة، لِأَن الَّذِي قَالَ: إِن لنسائه بَنَات من غَيره، وَأَنه يسْتَلْزم أَنَّهُنَّ ثيبات والترجمة فِي زويج الثيبات لَا فِي بَيَان أَن لَهُنَّ بَنَات، فَمن أَيْن يفهم من قَوْله هَذَا؟ وَقد أَخذ كَلَام النَّاس وأفسده، وَلَا يخفي ذَلِك على المتأمل وَأما تَعْلِيق أم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ رَملَة بنت أبي سُفْيَان الْأمَوِي، فَإِن البُخَارِيّ أسْندهُ عَن الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم حَبِيبَة، وَسَيَأْتِي بعد عشرَة أَبْوَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (لَا تعرضن) قَالَ ابْن التِّين: ضبط بِضَم الضَّاد وَلَا أعلم لَهُ وَجها لِأَنَّهُ إِمَّا خَاطب النِّسَاء أَو وَاحِدَة مِنْهُنَّ، فَإِن كَانَ خطابه لجَماعَة النِّسَاء فصوابه تسكينها لِأَنَّهُ دخل عَلَيْهِ النُّون الْمُشَدّدَة فيجتمع ثَلَاث نونات فيفصل بَينهمَا بِأَلف، فَيُقَال: لَا تعرضنان، وَلَا تدخل النُّون الْخَفِيفَة فِي جمَاعَة النِّسَاء، وَلَا فِي تثنيتهن، وَإِن كَانَ خطابه لأم حَبِيبَة خَاصَّة فَتكون الضَّاد مَكْسُورَة وَالنُّون مُشَدّدَة أَو نون خَفِيفَة. قلت: عِنْد يُونُس تدخل النُّون الْخَفِيفَة فِي جمَاعَة النِّسَاء وتثنيتهن، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
5705 - حدَّثنا أبُو النُّعْمانِ حَدثنَا هُشَيْمٌ حَدثنَا سَيَّارٌ عنِ الشُّعْبِيِّ عنْ جابِرِ بنِ عبْدِ الله قَالَ: قَفَلْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ علَى بَعيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَني راكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ يَعِيرِي بعَنَزَةٍ كانَتْ مَعَه، فانْطَلَقَ بَعِيرِي كأجْوَدِ مَا أنْتَ رَاءٍ مِنَ الإبِلِ، فإِذَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا يُعْجِلُكَ؟ قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُصٍ. قَالَ: أبِكْرا أمْ ثَيِّبا؟ قُلْتُ: ثَيِّبٌ. قَالَ: فَهَلاَّ جارِيَةً تُلاَعِبُها وتُلاَعِبُكَ؟ قَالَ: فلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُل، قَالَ: أمْلُهوا حتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً أيْ: عِشاءً لِكَي تَمْتَشِطَ الشَّعَثةُ، وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قلت: ثيب) وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وهشيم بن مصغر هشم بن بشير مصغر بشر وسيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن أبي سيار واسْمه وردان أَبُو الحكم الْعَنزي الوَاسِطِيّ، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل.
والْحَدِيث قد مر مطولا ومختصرا فِي الْبيُوع، والاستقراض وَالْجهَاد والشروط وَمر الْكَلَام فِيهِ فِي كل بَاب بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
قَوْله: (قَفَلْنَا) أَي: رَجعْنَا. قَوْله: (من غَزْوَة) وَهِي غَزْوَة تَبُوك. قَوْله: (قطوف) بِفَتْح الْقَاف أَي: بطيء. قَوْله: (بعنزة) وَهِي أقصر من الرمْح وأطول من الْعَصَا، وَفِي الْبيُوع: ضربه بمحجن وَهُوَ الصولجان، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ أحد طَرفَيْهِ معوجا وَالْآخر فِيهِ حَدِيد يصدق اللفظان عَلَيْهِ. قَوْله: (فَإِذا النَّبِي) أَي: فَإِذا هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مَا يعجلك) أَي: مَا سَبَب إسراعك؟ قَوْله: (حَدِيث عهد بعرس) أَي: قريب عهدبالدخول على الْمَرْأَة. قَوْله: (أبكرا) مَنْصُوب بمقدر أَي: أتزوجت بكرا؟ قَوْله: (ثيب) خبرمبتدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ تيب. قَوْله: (فَهَلا جَارِيَة) أَي: فَهَلا تزوجت جَارِيَة، وَكلمَة هلا، للتخصيص. قَوْله: (لَيْلًا أَي غشاء) قَالَ الْكرْمَانِي: إِنَّمَا فسر اللَّيْل بالعشاء لِئَلَّا يُنَافِي مَا تقدم فِي كتاب الْعمرَة فِي: بَاب لَا يطْرق أَهله، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يطْرق أَهله لَيْلًا. قلت: هَذَا غير مُخَالف لِأَن هَذَا قَالَه لمن يقدم بغنة من غير أَن يعلم أَهله بِهِ، وَأما هُنَا فَتقدم خبر مَجِيء الْجَيْش وَالْعلم بوصوله وَقت كَذَا وَكَذَا. قَوْله: (الشعثة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا ثاء مُثَلّثَة، لِأَن الَّتِي يغيب زَوجهَا فِي مَظَنَّة عدم التزين، وَقيل: الشعثة منتشرة الشّعْر مغبرة الرَّأْس. قَوْله: (وتستحد المغيبة) أَي: تسْتَعْمل الحديدة فِي إِزَالَة الشّعْر، والمغيبة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: من أغابت الْمَرْأَة إِذا غَابَ زَوجهَا فَهِيَ مغيبة.(20/76)
0805 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ حَدثنَا مُحارِبٌ قَالَ: سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عبْدِ الله، رَضِي الله عَنْهُمَا، يقُولُ: تَزَوَّجْتُ. فَقَالَ لِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَزَوَّجْتَ؟ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبا فَقَالَ: مالَكَ ولِلعَذَارَى ولِعابِها، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرُو بنِ دِينارٍ، فَقَالَ عَمْرُو: سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عبْدِ الله يَقُولُ: قَالَ لي رسولُ اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلاَّ جارِيَةً تُلاَعِبُها وتُلاَعِبُكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تزوجت ثَيِّبًا) وَقد ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة بِوُجُوه كَثِيرَة. ومحارب، بِكَسْر الرَّاء: ابْن دثار، بِكَسْر الدَّال السدُوسِي.
قَوْله: (مَالك والعذارى) جمع الْعَذْرَاء وَهِي الْبكر. قَوْله: (ولعابها) بِكَسْر اللَّام بِمَعْنى الملاعبة. قَوْله: (هلا جَارِيَة) أَي: هلا تزوجت جَارِيَة؟ قَوْله: (فَذكرت ذَلِك) الْقَائِل هُوَ محَارب، وَذَلِكَ: إِشَارَة إِلَى قَوْله: (مَالك وللعذارى ولعابها) .
11 - (بابُ تَزْويجِ الصِّغار مِنَ الكِبارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَزْوِيج الصغار من الْكِبَار فِي السن.
1805 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حَدثنَا الليْثُ عنْ يَزِيدَ عنْ عرَاكٍ عَن عُرْوَةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطَبَ عائِشةَ إِلَى أبِي بَكْرٍ، فَقال لهُ أبُو بَكْرٍ: إنَّما أَنا أخُوكَ. فَقَالَ: أنْتَ أخِي فِي دِينِ الله وكِتابِهِ، وهْيَ لِي حَلاَلٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج عَائِشَة وَهِي صَغِيرَة، وَكَانَ عمرها سِتّ سِنِين، وَاعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن صغر عَائِشَة من كبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْلُوم من غير هَذَا الْخَبَر. وَالْآخر: أَن هَذَا مُرْسل، فَإِن كَانَ مثل هَذَا يدْخل فِي الصَّحِيح فَيلْزمهُ فِي غَيره من الْمَرَاسِيل. وَأجَاب بَعضهم عَن الأول بقوله: يُمكن أَن يُؤْخَذ من قَول أبي بكر: (إِنَّمَا أَنا أَخُوك) فَإِن الْغَالِب فِي بنت الْأَخ أَن تكون أَصْغَر من عَمها. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن التَّرْجَمَة فِي تَزْوِيج الصغار من الْكِبَار، وَلَيْسَت فِي مُجَرّد بَيَان الصغار من الْكِبَار، وَالْجَوَاب الصَّحِيح الَّذِي ذكرته، وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي: وَإِن كَانَت صورته صُورَة الْإِرْسَال وَلَكِن الظَّاهِر أَن عُرْوَة حمله عَن عَائِشَة، يدل عَلَيْهِ أَن أَبَا الْعَبَّاس الطرقي فِي ذكره فِي كِتَابه مُسْندًا عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَغَيرهَا من نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مثل هَذَا يدْخل فِي الْمسند.
قَوْله: (خطب عَائِشَة إِلَى أبي بكر) قيل: كلمة: إِلَى، هُنَا بِمَعْنى من، وَالْأولَى أَن تكون على حَالهَا للغاية أَي: أنهى خطبَته إِلَى أبي بكر كَمَا فِي قَوْلهم: أَحْمد إِلَيْك الله أَي: أنهِي حَمده إِلَيْك. قَوْله: (إِنَّمَا أَنا أَخُوك) كَأَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أعتقد أَنه لَا يحل لَهُ أَن يتَزَوَّج ابْنَته للمؤاخاة والخلة الَّتِي كَانَت بَينهمَا، فاعلمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أخوة الْإِسْلَام لَيست كأخوة النّسَب والولادة فَقَالَ: إِنَّهَا لي حَلَال بِوَحْي الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، الَّذِي أَرَادَ أَن يَأْخُذ مِنْهُ زَوجته: هِيَ أُخْتِي، يَعْنِي فِي الْإِيمَان، لِأَنَّهُ لم يكن أحد مُؤمنا غَيرهمَا فِي ذَلِك الْوَقْت.
وَاعْترض صَاحب التَّلْوِيح هُنَا بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْخلَّة لأبي بكر إِنَّمَا كَانَت فِي الْمَدِينَة وَالْخطْبَة إِنَّمَا كَانَت بِمَكَّة، فَكيف يلتئم قَوْله. فِي هَذَا؟ وَالْآخر: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَاشر الْخطْبَة بِنَفسِهِ، كَمَا ذكر ابْن عَاصِم من حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل خَوْلَة بنت حَكِيم امْرَأَة عُثْمَان بن مَظْعُون يخطبها، فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَهل تصلح لَهُ؟ إِنَّمَا هِيَ ابْنة أَخِيه؟ فَرَجَعت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: إرجعي وَقَوْلِي لَهُ: أَنْت أخي فِي الْإِسْلَام، فابنتك تصلح لي. فَأَتَت أَبَا بكر فَذكرت لَهُ، فَقَالَ: ادعِي لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَهُ فأنكحه انْتهى. قلت: أما الْجَواب عَن الأول: فَهُوَ أَنه: لَا مَانع أَن الْخلَّة إِنَّمَا كَانَت فِي مَكَّة وَلَكِن مَا ظَهرت إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَأما الْجَواب عَن الثَّانِي: فَيحْتَمل أَنه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، لما جَاءَ إِلَى أبي بكر خطب بِنَفسِهِ أَيْضا، فَوَقع بَينهمَا مَا ذكر فِي الحَدِيث. ثمَّ إِنَّه لما علم حَقِيقَة الْأَمر أنْكحهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(20/77)
، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء أَنه يجوز للآباء تَزْوِيج الصغار من بناتهم وَإِن كن فِي المهد، إلاَّ أَنه لَا يجوز لِأَزْوَاجِهِنَّ الْبناء بِهن إلاَّ إِذا صلحن للْوَطْء واحتملن الرِّجَال، وأحوالهن فِي ذَلِك مُخْتَلف فِي قدر خَلقهنَّ وطاقتهن، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَزْوِيج غير الْآبَاء الْيَتِيمَة، فَقَالَ ابْن أبي ليلى وَمَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمَاجشون وَأَبُو ثَوْر: لَيْسَ لغير الْأَب أَن يُزَوّج الْيَتِيمَة الصَّغِيرَة، فَإِن فعل فَالنِّكَاح بَاطِل، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك أَنه قَالَ يُزَوّج القَاضِي الصَّغِيرَة دون الْأَوْلِيَاء ووصي الْأَب وَالْجد عِنْد الشَّافِعِي عِنْد عدم الْأَب كلأب، وَقَالَت طَائِفَة: إِذا زوج الصَّغِيرَة غير الْأَب من الْأَوْلِيَاء فلهَا الْخِيَار إِذا بلغت، يروي هَذَا عَن عَطاء وَالْحسن وطاووس. وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد، إلاَّ أَنَّهُمَا جعلا الْجد كَالْأَبِ لَا خِيَار فِي تَزْوِيجه. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَا خِيَار لَهَا فِي جَمِيع الْأَوْلِيَاء. وَقَالَ أَحْمد: لَا أرى للْوَلِيّ وَلَا للْقَاضِي أَن يُزَوّج الْيَتِيمَة حَتَّى تبلغ تسع سِنِين، فَإِذا بلغت ورضيت فَلَا خِيَار لَهَا.
21 - (بابٌ إِلَى مَنْ يَنكِحُ؟ وأيُّ النِّساءُ خَيْرٌ؟ وَمَا يُتَحَبُّ أنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطْفِهِ مِنْ غَيْرِ إيجابٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من إِذا أَرَادَ أَن يتَزَوَّج يَنْتَهِي أمره إِلَى من يتَزَوَّج من النِّسَاء، أَو إِلَى من يعْقد، وَقد ذكرنَا أَن النِّكَاح يَأْتِي بِمَعْنى التَّزْوِيج وَبِمَعْنى العقد، وَقد اشْتَمَلت هَذِه التَّرْجَمَة على ثَلَاثَة أَنْوَاع، وَحَدِيث الْبَاب وَاحِد. الأول: قَوْله: (إِلَى من ينْكح) وَالثَّانِي: قَوْله: (وَأي النِّسَاء خير) وَالثَّالِث: وَمَا يسْتَحبّ أَن يتَخَيَّر لنطفه. وَمن الحَدِيث تُؤْخَذ الْمُطَابقَة للْأولِ وَالثَّانِي ظَاهرا أَو الثَّالِث لَا تُؤْخَذ إلاَّ بطرِيق اللُّزُوم، بَيَانه أَن الَّذِي يُرِيد النِّكَاح يَنْبَغِي أَن يتَزَوَّج من قُرَيْش لِأَن نساءهن خير النِّسَاء، وَهَذَا نَوْعَانِ ظَاهر إِن فِي الْمُطَابقَة، وَأما النَّوْع الثَّالِث فَهُوَ أَنه لما ثَبت أَن نسَاء قُرَيْش خير النِّسَاء، وَأَن الَّذِي تزوج مِنْهُنَّ قد تخير لنطفه لأجل أَوْلَاده، وَهَذَا لَا يفهم من الحَدِيث صَرِيحًا، وَلَكِن بطرِيق اللُّزُوم، على أَنا نقُول: يحْتَمل أَنه أَشَارَ إِلَى حَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعا: تخَيرُوا لنُطَفِكُمْ وَأنْكحُوا الْأَكفاء، وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا وَصَححهُ. فَإِن قلت: كَيفَ يكون نسَاء قُرَيْش أفضل من مَرْيَم أم عِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَلَا سِيمَا على قَول من يَقُول: إِنَّهَا نبيه؟ قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن فِي الحَدِيث: خير نسَاء ركبن الْإِبِل، وَمَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام، وَلم تركب بعيررا. قلت: هَذَا جَوَاب لَا يجدى. وَقد أطنب هَذَا الْقَائِل هُنَا وَكله غير كَاف، وَيُمكن أَن يُجَاب عَن هَذَا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيد بقوله: صالحو نسَاء قُرَيْش، وَمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام، لَيست من قُرَيْش، وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى خير أَي: من خير، كَمَا يُقَال: أحْسنهم كَذَا، أَي: من أحْسنهم أَي: أحسن من هُنَالك، وَقد يُقَال: إِن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خير نسَاء ركبن الْإِبِل صالحو نسَاء قُرَيْش، يَعْنِي فِي زمانهن. قَوْله: (من غير إِيجَاب) أَرَادَ بِهِ أَن الَّذِي ذكره فِي هَذِه التَّرْجَمَة من الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة لَيْسَ من بَاب الْإِيجَاب، بل هُوَ من بَاب الِاسْتِحْبَاب.
2805 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرنا شُعَيْبٌ حَدثنَا أَبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خيْرُ نِسَاءَ رَكِبْنَ الإبِلَ صَالِحُو نِساءِ قُرَيْشٍ: أحْناهُ علَى ولَدٍ فِي صِغَرِهِ، وأرْعاهُ علَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِه.
(انْظُر الحَدِيث 4343 وطرفه) .
قد مر بَيَان وَجه الْمُطَابقَة الْآن، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَين هَؤُلَاءِ الروَاة قد مر غير مرّة.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث مر فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي بَاب قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم} (آل عمرَان: 24 و 54) بأتم مِنْهُ، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (صالحو) أَصله: صَالِحُونَ، سَقَطت النُّون للإضافة ويروى: صَالح نسَاء قُرَيْش، بِالْإِفْرَادِ، ويروى: صلح نسَاء قُرَيْش، بِضَم الصَّاد وَتَشْديد اللَّام، جمع: صَالح، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني وَالْمرَاد بالإصلاح هُنَا صَلَاح الدّين وَصَلَاح المخالطة للزَّوْج وَغَيره. قَوْله: (أحناه) من الحنو وَهُوَ الشَّفَقَة، والحانية هِيَ الَّتِي تقوم على وَلَدهَا بعد يتمه فَلَا تتَزَوَّج، فَإِن تزوجت فَلَيْسَتْ بحانية، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: أحناهن، وَأَن يُقَال: صَالِحَة نسَاء قُرَيْش، وَلَكِن ذكره بِاعْتِبَار لفظ الْخَبَر أَو بِاعْتِبَار الشَّخْص أَو هُوَ من بَاب ذِي كَذَا، وَأما الْإِفْرَاد فَهُوَ بِالنّظرِ(20/78)
إِلَى لفظ الصَّالح، وَأما بِقصد الْجِنْس. قَوْله: (على وَلَده) فِي رِوَايَة الْكشميهني على ولد بِلَا ضمير، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: على يَتِيم، وَفِي أُخْرَى على طِفْل. قَوْله: (وأرعاه على زوج) أَي: أحفظه وأصون لما لَهُ بالأمانة فِيهِ والصيانة، لَهُ وَترك التبذير فِي الْإِنْفَاق. قَوْله: (فِي ذَات يَده) أَي: فِي مَاله الْمُضَاف إِلَيْهِ.
21 - (بابُ اتِّخاذِ السَّرَارِيِّ ومَنْ أعْتَقَ جارِيَتَهُ ثُمَّ تَزَوجَها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتخاد السراري أَي: اقتنائها، والسراري، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها: جمع سَرِيَّة بِضَم السِّين وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة ثمَّ الْيَاء آخرالحروف الْمُشَدّدَة، وَقد تكسر السِّين، وَهُوَ من تسررت من السِّرّ، وَهُوَ النِّكَاح أَو من السرُور، فأبدلت إِحْدَى الراآت يَاء، وَقيل: إِن أَصْلهَا الْيَاء من الشَّيْء السّري النفيس، وَفِي الْمغرب: السّريَّة فعلية من السِّرّ، الْجِمَاع، أَو مفعولة من التسرِّ السِّيَادَة وَالْأول أشهر، وَقد ورد الْأَمر باقتناء السراري فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء. مَرْفُوعا: عَلَيْكُم بالسراري. فَإِنَّهُنَّ مباركات الْأَرْحَام. أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد واهٍ قَوْله: (وَمن أعتق جَارِيَته) عطف هَذَا الحكم على اتِّخَاذ السراري لِأَنَّهُ قد يَقع بعد التَّسَرِّي، وَقد يَقع قبله.
3805 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا عبْدُ الوَاحِدِ حَدثنَا صالحُ الهَمْدَانِيُّ حَدثنَا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: حدّثني أبُو بُرْدةَ عنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيُّما رجُلٍ كانَتْ عِنْدَهُ ولِيدَةٌ فَعَلَّمَها فأحْسَنَ تَعْلِيمَها وأدَّبها فأحْسَنَ تأدِيبَها ثُمَّ أعْتقَها وتَزَوَّجهَا فَلَهُ أجْرَانِ، وأيُّما رجُلٍ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِي فَلَهُ أجْرَانِ، وأيّما مَمْلُوكٍ أدَّى حقَّ مَوَالِيهِ وحَقَّ ربِّهِ فَلَهُ أجْرَانِ..
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَصَالح بن صَالح مُسلم الثَّوْريّ الْهَمدَانِي، بِسُكُون الْمِيم وبالدال الْمُهْملَة بالنُّون: الْكُوفِي، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل، وَأَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء اسْمه عَامر، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم الرجل أمته، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن الْمحَاربي عَن صَالح بن حَيَّان عَن عَامر الشّعبِيّ: حَدثنِي أَبُو بردة عَن أَبِيه الحَدِيث فَإِن قلت: هَذَا صَالح بن حَيَّان الَّذِي يروي عَن الشّعبِيّ فِي كتاب الْعلم هُوَ صَالح بن صَالح الَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث أم غَيره. قلت نعم: هُوَ إِيَّاه وَلكنه نسبه فِي كتاب الْعلم إِلَى جد أَبِيه لِأَنَّهُ صَالح بن صَالح بن مُسلم بن حَيَّان، وَهنا نسبه إِلَى أَبِيه، وَلَيْسَ هُوَ صَالح بن حَيَّان الْقرشِي الْكُوفِي الَّذِي يحدث عَن أبي وَائِل بردة ويروي عَنهُ يعلى بن عبيد ومروان بن مُعَاوِيَة. فَافْهَم.
قَوْله: (وليدة) أَي: أمة وَأَصلهَا: مَا ولد من الْإِمَاء فِي ملك الرجل ثمَّ أطلق على كل أمة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: خُذْها بِغَيْرِ شَيْء، قَدْ كانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيما دُونَها إِلَى المَدِينَةِ
أَي: قَالَ عَامر الشّعبِيّ لصالح الْمَذْكُور الَّذِي رُوِيَ الحَدِيث الْمَذْكُور عَنهُ، هَذَا بِحَسب ظَاهر الْكَلَام، وَبِه جزم الْكرْمَانِي، وَالرَّدّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْموضع كالرد عَلَيْهِ فِي كتاب الْعلم: بِأَن الْخطاب فِي قَول الشّعبِيّ: خُذْهَا، لرجل من أهل خُرَاسَان فَلْينْظر فِيهِ هُنَاكَ من يُرِيد تحريره. قَوْله: (خُذْهَا) أَي: خُذ هَذِه الْمَسْأَلَة أَو هَذِه الْمقَالة. (بِغَيْر شَيْء) يَعْنِي: مجَّانا بِدُونِ أَخذهَا مِنْك على جِهَة الْأُجْرَة عَلَيْهِ، وإلاَّ فَلَا شَيْء أعظم من الْأجر الأخروي الَّذِي هُوَ ثَوَاب التَّبْلِيغ والتعليم. قَوْله: (قد كَانَ الرجل) إِلَى آخِره مَعْنَاهُ أَنِّي أعطيّك هَذِه الْمَسْأَلَة بِغَيْر شَيْء، وَقد كَانَ الرجل يرحل أَي: يُسَافر دونهَا أَي: فِيمَا دون الْمَسْأَلَة إِلَى الْمَدِينَة، أَي: مَدِينَة النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، اللَّام فِيهَا للْعهد، وَلَفظه فِي كتاب الْعلم: قَالَ عَامر: أعطيناكها بِغَيْر شَيْء، قد كَانَ يركب فِيمَا دونهَا إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَالَ أبُو بَكْرِ عنْ أبي حَصِينٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعْتَقَها ثُمَّ أصْدَقَها(20/79)
أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: القارىء، قيل: اسْمه شُعْبَة، وَقيل: سَالم يروي عَن أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: عُثْمَان بن عَاصِم عَن أبي بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: عَامر عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس، وَهَذَا وَقع مسلسلاً بالكنى وَكلهمْ كوفيون. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة عَن أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى، وَهُوَ سَهْو. قلت: غلط ظَاهر، هَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر الْخياط، فَذكره بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظ: إِذا أعتق الرجل أمته أمهرها مهْرا جَدِيدا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ. وَأَبُو بكر الْخياط هُوَ أَبُو بكر بن عَيَّاش الْمَذْكُور، فَكَأَنَّهُ كَانَ يتعاطى الْخياطَة وَقت، وَهُوَ أحد الْحفاظ الْمَشْهُورين فِي الحَدِيث والقراء الْمَذْكُورين فِي القراآت. قَوْله: (أعتقَها ثمَّ أصدَقها) أَرَادَ أَن أَبَا بكر بن عَيَّاش رُوِيَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بِلَفْظ: (أعْتقهَا ثمَّ أصدقهَا) مَوضِع قَوْله فِيهِ: ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا، ومعناهما وَاحِد.
4805 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ تلَيد قَالَ: أخْبَرنِي ابنُ وهَبٍ قَالَ: أخْبَرَنِي جَرِيرُ بنُ حازمٍ عَن أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وحدّثنا سُلَيْمانُ عنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ عنْ أيوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ: لمْ يَكذِبْ إبْرَاهِيمُ إلاّ ثَلاَثَ كَذَباتٍ بَيْنَمَا: إبْرَاهِيمُ مرَّ بجَبَّار ومَعَهُ سارَة فَذَكَرَ الحَديثَ، فأعْطاها هاجَرَ، قالَتْ: كَفَّ الله يَدَ الكافِرِ وأخْدَمَنِي آجَرَ. قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ. فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي ماءِ السَّماءِ..
قيل: مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَاجر كَانَت مَمْلُوكَة وَإِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، أولدها بعد أَن ملكهَا، فَهِيَ سَرِيَّة. وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بِأَنَّهُ إِن أَرَادَ أَن ذَلِك وَقع صَرِيحًا فِي الصَّحِيح، فَلَيْسَ بِصَحِيح، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيح أَن سارة ملكتها وَأَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، أولدها إِسْمَاعِيل. عَلَيْهِ السَّلَام. انْتهى. قلت: اعتراضه عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِلَى آخِره غير موجه، لِأَن من قَالَ: إِنَّه أَرَادَ ذَلِك وَإِنَّمَا حَاصِل كَلَامه فِي أصل الحَدِيث اتِّخَاذ إِبْرَاهِيم هَاجر سَرِيَّة بعد أَن ملكهَا، فيطابق التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفي، وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ مثل ذَلِك فِي أَمْثَال ذَلِك
وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن سعيد بن تليد، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر اللَّام وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ سعيد بن عِيسَى بن تليد أَبُو عُثْمَان الرعيني الْمصْرِيّ، يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن جرير بن حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن أَيُّوب عَن مُجَاهِد. وَهُوَ خطأ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْأول أَكثر وَأَصَح. قلت: قَوْله يدل على الصِّحَّة مَعَ الْقلَّة، وَلَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ خطأ مَحْض.
قَوْله: (عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَذَا وَقع مَرْفُوعا فِي أَكثر الْأُصُول. وَذكر أَبُو مَسْعُود وَخلف أَنه مَوْقُوف، وأبى ذَلِك الطرقي وَغَيره. وَوَقع أَيْضا مَوْقُوفا فِي رِوَايَة أبي كَرِيمَة والنسفي، وَكَذَا ذكر أَبُو نعيم أَنه وَقع هُنَا للْبُخَارِيّ مَوْقُوفا. وَبِذَلِك جزم الْحميدِي، وسَاق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا مُخْتَصرا وَسَاقه فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) بأتم مِنْهُ. قَوْله: (بجبار) ، أَي: ملك حَران، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ غَيره: ملك مصر. قَوْله: (آجر) أَي: هَاجر بِالْهَمْزَةِ بدل الْهَاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً. قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَتلك أمكُم) ، أَي: هَاجر أمكُم يَا بني مَاء السَّمَاء، أَرَادَ بِهِ الْعَرَب، لِأَن هَاجر أم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْعرب من نَسْله وَسموا بِهِ لأَنهم سكان الْبَوَادِي وَأكْثر مِيَاههمْ من الْمَطَر.
5805 - حدَّثنا قتَيْبَةُ حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ، رَضِي الله عنهُ، قَالَ: أقامع النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَيْنَ خَيْبَرَ والمَدِينَةِ ثَلاَثا يُبْنَى علَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَدَعَوْتُ المُسْلِمينَ إِلَى ولِيمَتِهِ، فَما كانَ فِيها مِنْ خُبْزٍ ولاَ لَحْمٍ أُمِرَ بالأنْطاعِ فألْقَى فِيها منَ التَّمْرِ والأقِطِ والسَّمْنِ، فكانَتْ ولِيمَتَهُ(20/80)
فَقَالَ المُسْلِمُونَ: إحْدَى المُؤْمِنِينَ، أوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فقالُوا: إنْ حَجَبَها فَهْيَ مِنْ أمهاتِ المُؤْمِنِينَ، وإنْ لَمْ يَحْجُبْها فَهْيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينَهُ. فلَمَّا ارْتَحَلَ وطَأ لَها خَلْفَهُ ومَدَّ الحِجابَ بَيْنَها وبَيْنَ النَّاسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّحَابَة تردد فِي أَن صَفِيَّة: هَل هِيَ زَوجته أَو سريته؟ فيطابق الْجُزْء الأول من التَّرْجَمَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَة خَيْبَر، وَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَحمد بن سَلام فرقهما.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح وَفِي الْوَلِيمَة عَن عَليّ بن حجر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (يُبنى عَلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْبناء وَهُوَ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الرجل، إِذا تزوج امْرَأَة بني عَلَيْهَا قبَّة ليدْخل بهَا فِيهَا، فَيُقَال: بنى الرجل على أَهله، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَلَا يُقَال بني بأَهْله. قَوْله: (إِحْدَى) الْهمزَة الاستفهامية مقدرَة أَي: أإحدى إِلَيّ آخِره. قَوْله: (وطَّأها خَلفه) أَي: هيأ لصفيه شَيْئا تقعد عَلَيْهِ خَلفه على النَّاقة.
31 - (بابُ مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأمَةِ صَدَاقَها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من جعل عتق الْأمة صَدَاقهَا، مَعْنَاهُ: أَن يعْتق أمة على أَن يتَزَوَّج بهَا وَيكون عتقهَا صَدَاقهَا، وَلم يذكر فِي التَّرْجَمَة حكم هَذَا، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر الشّعبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وطاووس وَالْحسن بن حييّ وَأحمد وَإِسْحَاق: جَازَ ذَلِك، فَإِذا عقد عَلَيْهَا لَا تسْتَحقّ عَلَيْهِ مهْرا غير ذَلِك الْعتاق وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل: سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو يُوسُف صَاحب أبي حنيفَة، وَذكر التِّرْمِذِيّ أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: فَإِن أعْتقهَا على هَذَا الشَّرْط فقلبت عتقت وَلَا يلْزمهَا أَن تتزوجه بل لَهُ عَلَيْهَا قيمتهَا لِأَنَّهُ لم يرض بِعتْقِهَا مجَّانا. فَإِن رضيت وَتَزَوجهَا على مهر يتفقان عَلَيْهِ فَلهُ عَلَيْهَا الْقيمَة وَلها عَلَيْهِ الْمهْر الْمُسَمّى من قَلِيل أَو كثير، وَإِن تزَوجهَا على قيمتهَا فَإِن كَانَت قيمتهَا مَعْلُومَة أَولهَا صَحَّ الصَدَاق وَلَا يبْقى لَهُ عَلَيْهَا قيمَة وَلَا لَهَا عَلَيْهِ صدَاق، وَإِن كَانَت مَجْهُولَة فَفِيهِ وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا: أَحدهمَا: يَصح الصَدَاق، وأصحهما، وَبِه قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا: لَا يَصح الصَدَاق بل يَصح النِّكَاح وَيجب لَهَا مهر الْمثل، انْتهى. وَقَالَ اللَّيْث بن سعد وَابْن شبْرمَة وَجَابِر بن زيد وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر وَمَالك: لَا يجوز ذَلِك، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ لأحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل هَذَا فَيتم لَهُ النِّكَاح بِغَيْر صدَاق سوى الْعتاق، إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الله، عز وَجل، جعل لَهُ أَن يتَزَوَّج بِغَيْر صدَاق، وَيكون لَهُ التَّزَوُّج على الْعتاق الَّذِي لَيْسَ بِصَدَاق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن فعل ذَلِك رجل وَقع الْعتاق وَلها عَلَيْهِ مهر الْمثل، فَإِن أَن تتزوجه تسْعَى لَهُ فِي قيمتهَا، وَقَالَ مَالك وَزفر: لَا شَيْء لَهُ عَلَيْهَا.
6805 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ ثابِتٍ وشُعَيْبٍ بنِ الْحَبحَابِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتَقَ صَفِيَّةَ وجعَلَ عِتْقَها صَدَاقَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وثابت هُوَ ابْن أسلم الْبنانِيّ، بِضَم الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى، وَشُعَيْب بن الحبحاب، بِفَتْح الحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي غَزْوَة خَيْبَر.
واحتجت الطَّائِفَة الأولى أَعنِي: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمن مَعَهُمَا بِهَذَا الحَدِيث فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وأجابت الطَّائِفَة الثَّانِيَة بأجوبة مِنْهَا أَنهم قَالُوا: هَذَا من قَول أنس لِأَنَّهُ لم يسْندهُ فَلَعَلَّهُ تَأْوِيل مِنْهُ إِذْ لم لَهَا صدَاق، وَمِنْهَا مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِنَّه مَخْصُوص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لغيره أَن يفعل ذَلِك، وَمِنْهَا أَن الطَّحَاوِيّ رُوِيَ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فعل فِي جوَيْرِية بنت الْحَارِث مِثْلَمَا فعله فِي صَفِيَّة، ثمَّ قَالَ ابْن عمر: بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذَا الحكم أَنه يجدد لَهَا صَدَاقا، فَدلَّ هَذَا أَن الحكم فِي ذَلِك بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غير مَا كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك سَمَاعا سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون دله على هَذَا خصوصيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ تقوم الْحجَّة لأهل الْمقَالة الثَّانِيَة قلت: وَمِمَّا يُؤَيّد كَلَام ابْن(20/81)
عمر مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث القواريري: حَدَّثتنَا عليلة بنت الْكُمَيْت عَن أمهَا أُمَيْمَة بنت رزينة عَن أمهَا رزينة، قَالَت: لما كَانَ يَوْم قُرَيْظَة وَالنضير جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصفية يَقُودهَا سبية حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ وذراعها فِي يَده، فَأعْتقهَا وخطبها وَتَزَوجهَا وَأَمْهَرهَا رزينة. قلت: رزينة، بِضَم الرَّاء وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: خادمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن المرابط: قَول أنس: أصدقهَا نَفسهَا، أَنه من رَأْيه وظنه، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك مدافعة للسائر. أَلا تَرى أَنه قَالَ: فَقَالَ الْمُسلمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟ فَكيف علم أنس أَنه أصدقهَا نَفسهَا قبل ذَلِك؟ وَقد صَحَّ عَنهُ أَنه يعلم أَنَّهَا زَوجته إلاَّ بالحجاب، فَدلَّ أَن قَوْله هَذَا لم يشهده على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غَيره، وَإِنَّمَا ظَنّه أنس وَالنَّاس مَعَه ظنا، مَعَ أَن كتاب الله أَحَق أَن يتبع قَالَ: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} (الْأَحْزَاب: 05) الْآيَة فَهَذَا يدل على أَنه أعْتقهَا وَخَيرهَا فِي نَفسهَا فاختارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنكحها بِمَا خصّه الله تَعَالَى بِغَيْر صدَاق، وَأما وَجه النّظر فِيهِ أَنا إِذا جعلنَا الْعتْق صَدَاقا. فإمَّا أَن يَتَقَرَّر الْعتْق حَالَة الرّقّ وَهُوَ محَال لتناقضهما، أَو حَالَة الْحُرِّيَّة فَيلْزم سبقيته على العقد، فَيلْزم وجود الْعتْق فرض عَدمه وَهُوَ محَال، لِأَن الصَدَاق لَا بُد أَن يتَقَدَّم تقرره على الزَّوْج إِمَّا نصا وَإِمَّا حكما حَتَّى تملك الزَّوْجَة طلبه، وَإِن لم يتَعَيَّن لَهَا حَالَة العقد شَيْء، لَكِنَّهَا تملك الْمُطَالبَة، فَثَبت أَنه ثَابت لَهَا حَالَة العقد شَيْء يُطَالب بِهِ الزَّوْج، وَلَا يَتَأَتَّى مثل ذَلِك فِي الْعتْق، فاستحال أَن يكون صَدَاقا، فَافْهَم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: ثَوَاب الْعتْق عَظِيم، فَكيف فَوته حَيْثُ جعله مهْرا وَكَانَ يُمكن جعل الْمهْر غَيره؟ فَالْجَوَاب أَن صَفِيَّة بنت مَالك وَمثلهَا لَا يقنع فِي الْمهْر إلاَّ بالكثير وَلم يكن عِنْده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ ذَاك مَا يرضيها بِهِ، وَلم ير أَن يقصر بهَا فَجعل صَدَاقهَا نَفسهَا، وَذَلِكَ عِنْدهَا أشرف من المَال الْكثير.
41 - (بَاب تَزْويجِ المُعْسِرِ لقَوْلهِ تَعالى { (24) إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} (النُّور: 23)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز تَزْوِيج الْمُعسر، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} (النُّور: 23) ، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الأعسار فِي الْحَال لَا يمْنَع التَّزْوِيج لاحْتِمَال حُصُول المَال فِي الْمَآل.
7805 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي حازمٍ عنْ أبيهِ عنْ سَهْل بن سَعدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: جاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقالَتْ: يَا رسولَ الله {جِئْتُ أهَبُ لَكَ نفسِي. قَالَ: فنَظَرَ إليْها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وصَوَّبَهُ ثُمَّ طأطأ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأْسَهُ، فلَمَّا رأتِ المَرْأَةُ أنّهُ لَمْ يقْضِ فِيهَا شَيئا جلَسَتْ، فقامَ رجُلٌ منْ أصْحابهِ فَقَالَ: يَا رسولُ الله} إنْ لَمْ يكُنْ لَكَ بِها حاجَةٌ فزَوَّجْنِيها، فَقَالَ: وهَلْ عِنْدَكَ منْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ الله، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى أهْلِكَ فانظُرْ هَلْ تجِدُ شَيْئا، فذَهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: لَا وَالله مَا وجدت شَيْئا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنظر لَو خَاتمًا من جديث. فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَالله يَا رسولَ الله، وَلَا خَاتمًا منْ حَدِيدٍ ولاكنْ هاذا إزَارِي، قَالَ: سهْلٌ: مالَهُ رِدَاءٌ فلَها نِصْفُهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَصْنَ بإِزَارِك إنْ لبِسْتَهُ لَمْ يكُنْ عَلَيْها مِنْهُ شَيءٌ، وإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ علَيْكَ شَيْءٌ؟ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا طالَ مَجْلِسُهُ قامَ، فرَآهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَلِّيا، فأمَرَ بهِ فدُعِيَ، فلَمَّا جاءَ قَالَ: ماذَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سورَةُ كَذَا وسورَةُ كَذا، عَدَّدَها، فَقَالَ: تَقْرَؤُهُنَّ عنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إذْهَبْ فقَدْ ملَّكْتكَها بمَا معَكَ مِنَ القرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار، وَهَذِه التَّرْجَمَة ذكرهَا البُخَارِيّ فِيمَا قبل فِي كتاب النِّكَاح بقوله: بَاب تَزْوِيج الْمُعسر الَّذِي مَعَه الْقُرْآن وَالْإِسْلَام، وَقَالَ فِيهِ: سهل عَن(20/82)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْفرق بَين الترجمتين أَن تِلْكَ أخص من هَذِه، وَأورد حَدِيث سهل هَذَا فِيمَا قبل فِي: بَاب الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب، أخرجه بِتَمَامِهِ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد، وَأعَاد هُنَا بِهَذِهِ التَّرْجَمَة عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه عَن سهل إِلَى آخِره، بِنَحْوِ ذَاك الْمَتْن بِعَيْنِه، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفِي.
قَوْله: (فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا) أَي: رفع نظره إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَة. قَوْله: (وَصَوَّبَهُ) أَي: خفض نظره. قَوْله: (عَن ظهر قَلْبك) ، لفظ: الظّهْر، مقحم، أَو مَعْنَاهُ على استظهار قَلْبك.
51 - (بابُ الأكْفاءِ فِي الدِّينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْأَكفاء الَّاتِي بِالْإِجْمَاع هِيَ أَن يكون فِي الدّين فَلَا يحل للمسلمة أَن تتَزَوَّج بالكافر، ولأكفاء جمع كُفْء بِضَم الْكَاف وَسُكُون الْفَاء بعْدهَا همزَة، وَهُوَ الْمثل والنظير.
وقوْلِهِ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الْفرْقَان: 45)
وَقَوله: بِالْجَرِّ عطف على الْأَكفاء أَي: وَفِي بَيَان قَوْله عز وَجل فِي الْقُرْآن: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء} (الْفرْقَان: 45) الْآيَة، وغرضه من إِيرَاد هَذِه الْآيَة الْإِشَارَة إِلَى أَن النّسَب والصهر مِمَّا يتَعَلَّق بهما حكم الْكَفَاءَة، وَعَن ابْن سِيرِين: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، زوج، عَلَيْهِ السَّلَام، فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عليا وَهُوَ ابْن عَمه وَزوج ابْنَته فَكَانَ نسبا وَكَانَ صهرا. قَوْله: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء} (الْفرْقَان: 45) أَي: من النُّطْفَة بشرا، فَجعل الْبشر على قسمَيْنِ: نسبا ذَوي نسب أَي ذُكُورا ينْسب إِلَيْهِم، فَيُقَال: فلَان ابْن فلَان وفلانة بنت فلَان. وصهرا ذَوَات صهر أَي: إِنَاثًا يصاهر بِهن، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: النّسَب مَا لَا يحل نِكَاحه، والصهر مَا يحل نِكَاحه، وَقَالَ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَمُقَاتِل: النّسَب سَبْعَة والصهر خَمْسَة. واقرؤا قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} (النِّسَاء: 32) إِلَى آخر الْآيَة.
8805 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبَرَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا: أنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بنَ عُتْبَةَ بنِ ربِيعَةَ بنِ عبْدِ شَمْسٍ، وكانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرا معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تبَنَّى سالِما وأنْكَحَهُ بنْتُ أخيهِ هِنْدَ بنْتَ الوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ وهْوَ مَوْلى لِامْرَأةٍ مِنَ الأنْصارِ، كَما تبَنَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْدا، وكانَ منْ تبَنَّى رَجُلاً فِي الجَاهِليَّةِ دَعاهُ النَّاسُ إليْهِ ووَرثَ مِنْ مِيرَاثِه حتَّى أنْزَلَ الله مِن} إِلَى قوْلِهِ { (5) ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 5) فَرُدُّوا إِلَى آبائِهِمْ فمَنْ لَم يُعْلَمْ لَهُ أبٌ كانَ مَوْلىً وأخا فِي الدِّينِ، فَجاءَتْ سَهْلةُ بنْتُ سُهَيْلٍ بنِ عَمْرو القُرَشِيِّ ثُمَّ العامِرِيِّ، وهْيَ امْرَأةُ أبي حُذَيْفَةَ بنِ عُتْبَةَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رَسُول الله! إنّا كُنّا نَرَى سالِما ولَدا، وقَدْ أنْزَلَ الله فِيهِ مَا قَدْ علِمْتَ فذَكَرَ الحَدِيثَ.
(انْظُر الحَدِيث 0004) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من تَزْوِيج أبي حُذَيْفَة بنت أَخِيه هندا سَالم الَّذِي تبناه. وَهُوَ مولى لامْرَأَته من الْأَنْصَار، وَلم يعْتَبر فِيهِ الْكَفَاءَة إلاَّ فِي الدّين.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عمرَان بن بكار عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ.
قَوْله: (أَن أَبَا حُذَيْفَة) ، اسْمه: مهشم، على الْمَشْهُور وَقيل: هَاشم، وَقيل: هشيم، وَقيل غير ذَلِك، وَهُوَ خَال مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (ابْن عتبَة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن ربيعَة بِفَتْح الرَّاء ابْن عبد شمس الْقرشِي العبشمي، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، صلى الْقبْلَتَيْنِ وَهَاجَر الهجرتين وَشهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا وَهُوَ ابْن ثَلَاث أَو أَربع وَخمسين سنة. قَوْله: (تبنى سالما) أَي: اتَّخذهُ ابْنا، وَسَالم هُوَ ابْن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف، وَفِي(20/83)
آخِره لَام، يكنى أَبَا عبد الله، وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ من أهل فَارس من اصطخر، وَقيل: إِنَّه من عجم الْفرس من كرمد، وَكَانَ من فضلاء الموَالِي وَمن خِيَار الصَّحَابَة وكبارهم، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُهَاجِرين وَفِي الْأَنْصَار أَيْضا لعتق مولاته الْأَنْصَارِيَّة، فَقَالَ أَبُو عمر: شهد سَالم بَدْرًا وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا هُوَ ومولاه أَبُو حُذَيْفَة فَوجدَ رَأس أَحدهمَا عِنْد رجْلي الآخر، وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة من الْهِجْرَة. قَوْله: (وأنكحه بنت أَخِيه هِنْد) أَي: زوجه بنت أَخِيه. فَقَوله: (هِنْد) يجوز فِيهِ الصّرْف وَمنعه، أما مَنعه فللعلمية والتأنيث، وَأما صرفه فَلِأَن سُكُون أوسطه يُقَاوم أحد السببين، وَهُوَ هُنَا فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ عطف بَيَان عَن بنت، وَوَقع عِنْد مَالك: وأنكحه بنت أَخِيه فَاطِمَة، وَلَا كَلَام فِيهِ لِأَنَّهَا رُبمَا كَانَت تسمى باسمين، والوليد بن عتبَة قتل ببدر كَافِرًا، وَقَالَ ابْن التِّين: وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات: بنت أُخْته، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ غلط. قَوْله: (وَهُوَ مولى) أَي: سَالم الْمَذْكُور مولى لامْرَأَة من الْأَنْصَار وَاسْمهَا ثبيتة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَإِسْكَان الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: بنت يعار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف رَاء: ابْن زيد بن عبيد بن مَالك بن عَمْرو بن عَوْف الْأَنْصَارِيَّة، كَانَت من الْمُهَاجِرَات الأول وَمن فضلاء نسَاء الصَّحَابَة، وَهِي زوج أبي حُذَيْفَة الْمَذْكُور، وَهِي مولاة سَالم بن معقل الْمَذْكُور، وَيُقَال لَهُ: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة، أَعتَقته ثبيتة فوالى سَالم أَبَا حُذَيْفَة، فَلذَلِك يُقَال: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة. وَقَالَ أَبُو طوالة: اسْم هَذِه الْمَرْأَة من الْأَنْصَار عمْرَة بنت يعار الْأَنْصَارِيَّة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْمهَا سلمى بنت يعار. قَوْله: (كَمَا تبنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: كَمَا اتخذ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، زيد بن حَارِثَة ابْنا لَهُ، حَتَّى يُقَال: ابْن مُحَمَّد. قَوْله: (وَكَانَ من تبنى) كلمة: من اسْم كَانَ. قَوْله: (دَعَاهُ النَّاس إِلَيْهِ) خَبره أَي: كَانُوا يَقُولُونَ للَّذي تبناه: هَذَا ابْن فلَان، وَكَانَ يَرث من مِيرَاثه أَيْضا كَمَا يَرث ابْنه من النّسَب حَتَّى أنزل الله تَعَالَى {أدعوهم لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) وَقبل الْآيَة {وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل أدعوهم لأبائهم هُوَ أقسط عِنْد الله فَإِن لم تعلمُوا أباءهم فإخوانكم فِي الدّين ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 4 5) قَوْله {وَمَا جعل أدعياءكم} (الْأَحْزَاب: 4) يَعْنِي: من سميتموهم أبناءكم، نزلت فِي زيد بن حَارِثَة الْكَلْبِيّ من بني عبدو كَانَ عبدا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْتقهُ وتبناه قبل الْوَحْي وآخى بَينه وَبَين حَمْزَة بن عبد الْمطلب فِي الْإِسْلَام، فَجعل الْفُقَرَاء أَخا للغني ليعود عَلَيْهِ، فَلَمَّا تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش الْأَسدي، وَكَانَت تَحت زيد بن حَارِثَة، قَالَ الْيَهُود والمنافقون: تزوج مُحَمَّد امْرَأَة ابْنه وَنهى النَّاس عَنْهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {ذَلِكُم قَوْلكُم} (الْأَحْزَاب: 4) وَلَا حَقِيقَة لَهُ يَعْنِي: قَوْلهم: زيد بن مُحَمَّد بن عبد الله {وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل} (الْأَحْزَاب: 4) أَي: سَبِيل الْحق ثمَّ قَالَ: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) الَّذين ولدوهم، وبيَّن أَن دعاءهم لِآبَائِهِمْ هُوَ أَدخل الْأَمريْنِ فِي الْقسْط وَالْعدْل عِنْد الله، فَإِن لم تعلمُوا لَهُم آبَاء تنسبونهم إِلَيْهِم فإخوانكم أَي: فَهُوَ إخْوَانكُمْ فِي الدّين مواليكم إِن كَانُوا محرريكم. قَوْله: (فَردُّوا) على صِيغَة الْمَجْهُول (إِلَى آبَائِهِم) الَّذين ولدهم. قَوْله: (فَمن لم يعلم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله: (أَب) مَرْفُوع بِهِ كَانَ مولى وأخا فِي الدّين قَوْله: (فَجَاءَت سهلة) وَهِي الَّتِي رَوَت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّخْصَة فِي رضَاع الْكَبِير، روى عَنْهَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد. قَوْله: (وَهِي امْرَأَة أبي حُذَيْفَة) وَهِي ضرَّة مُعتقة سَالم، هَذِه قرشية وَتلك أنصارية. قَوْله: (النَّبِي) بِالنّصب بقوله: (فَجَاءَت سهلة) قَوْله: (إِنَّا كُنَّا نرى) بِفَتْح النُّون بِمَعْنى نعتقد. قَوْله: (مَا قد علمت) أَرَادَت بِهِ قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) وَقَوله: قَوْله: (وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم) (الْأَحْزَاب: 4) قَوْله: (فَذكر الحَدِيث) أَي: فَذكر أَبُو الْيَمَان الحَدِيث، قَالَه البُخَارِيّ وَلم يذكرهُ وَهُوَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة، وَقَالَ الْحميدِي فِي الْجمع: أخرجه البرقاني فِي كِتَابه بِطُولِهِ من حَدِيث أبي الْيَمَان بِسَنَدِهِ بِزِيَادَة: فَكيف ترى يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: أرضعيه، فأرضعته خمس رَضعَات، فَكَانَ بِمَنْزِلَة وَلَدهَا من الرضَاعَة، فبذلك كَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَأمر بَنَات أَخِيهَا وَأُخْتهَا أَن يرضعن من أحبت عَائِشَة أَن يَرَاهَا وَيدخل عَلَيْهَا وَإِن كَانَ كَبِيرا خمس رَضعَات فَيدْخل عَلَيْهَا، وأبت أم سَلمَة وَسَائِر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُدخلن عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرضَاعَة أحدا من النَّاس، ويروى أَن سهلة قَالَت: يَا رَسُول الله! إِن سالا بلغ مبلغ الرِّجَال وَإنَّهُ يدْخل علينا، وَإِنِّي أَظن من نفس أبي حُذَيْفَة من ذَلِك شَيْئا. فَقَالَ: أرضعيه تحرمي عَلَيْهِ وَيذْهب مَا فِي نَفسه، فأرضعته فَذهب الَّذِي فِي نَفسه. وَفِي مُسلم من حَدِيث الْقَاسِم عَن عَائِشَة: جَاءَت سهلة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت:(20/84)
يَا رَسُول الله! إِنِّي أرى فِي وَجه أبي حُذَيْفَة من دُخُول سَالم، فَقَالَ: أرضعيه وَهُوَ رجل كَبِير؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: قد علمت أَنه رجل كَبِير، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي مليكَة: أرضعيه تحرمي عَلَيْهِ وَيذْهب الَّذِي فِي وَجه أبي ذيفة، فَرَجَعت وَقَالَت: قد أَرْضَعَتْه، فَذهب الَّذِي فِي نفس أبي حُذَيْفَة. وَقَالَ القَاضِي: لَعَلَّهَا حلبته ثمَّ شربه من غير أَن يمس ثديها وَلَا الْتَقت بشرتاهما. هَذَا الَّذِي قَالَه حسن، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَنه عُفيَ عَن مَسّه للْحَاجة كَمَا خص بالرضاعة مَعَ الْكبر، وَبِهَذَا قَالَت عَائِشَة وَدَاوُد، وَتثبت حُرْمَة الرَّضَاع برضاع الْبَالِغ كَمَا تثبت برضاع الطِّفْل، وَعند جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وعلماء الْأَمْصَار: إِلَى الْآن لَا تثبت إلاَّ برضاع من لَهُ دون سنتَيْن، وَعند أبي حنيفَة: بِسنتَيْنِ وَنصف، وَعند زفر: بِثَلَاث سِنِين، وَعَن مَالك: بِسنتَيْنِ وَأَيَّام، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بقوله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 332) وبأحاديث كَثِيرَة مَشْهُورَة، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث سهلة على أَنه مُخْتَصّ بهَا وبسالم، وَقيل: إِنَّه مَنْسُوخ، وَالله أعلم.
9805 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا أَبُو أسامَةَ عَنْ هِشامٍ عَنْ أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قالَتْ: دَخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى ضُباعَة بنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَها: لعَلَّكِ أرَدْتِ الحَجَّ؟ وقالَتْ: وَالله لَا أجِدُني إلاَّ وَجعَةً. فَقَالَ لَها: حُجِّي واشْتَرِطي، قُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حيْثُ حَبَسْتْنِي، وكانَتْ تَحْتَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَكَانَت) أَي: ضباعة (تَحت الْمِقْدَاد بن الْأسود) بَيَانه أَن الْمِقْدَاد هُوَ ابْن عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن مَالك الْكِنْدِيّ، وَقد نسب إِلَى الْأسود بن عبد يَغُوث بن وهب بن عبد منَاف بن زهرَة الزُّهْرِيّ لِأَنَّهُ كَانَ تبناه، وَخَالفهُ فِي الْجَاهِلِيَّة فَقيل: الْمِقْدَاد بن الْأسود، وَقَالَ أَبُو عمر: قد قيل: إِنَّه كَانَ عبدا حَبَشِيًّا للأسود بن عبد يَغُوث فَتَبَنَّاهُ، وَالْأول أصح، وَتزَوج ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب الهاشمية بنت عَم النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو كَانَت الْكَفَاءَة مُعْتَبرَة فِي النّسَب لما جَازَ لِلْمِقْدَادِ أَن يتَزَوَّج ضباعة وَهِي فَوْقه فِي النّسَب، فَوَافَقَ الحَدِيث التَّرْجَمَة فِي أَن اعْتِبَار اكفاءة فِي الدّين، وَسَنذكر الْخلاف فِيهِ، وَكَانَ الْمِقْدَاد من الْفُضَلَاء النجباء الْكِبَار الْخِيَار من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله تَعَالَى ليه وَسلم، وَعَن ابْن مَسْعُود: أَن أول من أظهر الْإِسْلَام سَبْعَة، فَذكر مِنْهُم الْمِقْدَاد، وَشهد الْمِقْدَاد فتح مصر وَمَات فِي أرضه بالجرف فَحمل إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بهَا وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة ثَلَاث وَعبيد بن إِسْمَاعِيل اسْمه فِي الأَصْل: عبد الله بن إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، مَاتَ فِي ربيع الأول يَوْم الْجُمُعَة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، رُوِيَ عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج. قَوْله: (لَا أجدني) أَي: لَا أجد نَفسِي، وَكَون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميرين لشَيْء وَاحِد من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب. قَوْله: (واشترطي) أَي: إِنَّك حَيْثُ عجزت عَن الْإِتْيَان بالمناسك وانحبست عَنْهَا بِسَبَب قُوَّة الْمَرَض تحللت، وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ مَكَان تحللي عَن الْإِحْرَام مَكَان حبستني فِيهِ عَن النّسك بعلة الْمَرَض.
وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الِاشْتِرَاط، فَأَجَازَهُ عمر وَعُثْمَان وَعلي ابْن مَسْعُود وعمار وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَعَطَاء وعلقمة وَشُرَيْح، وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر. وَمنعه طَائِفَة وَقَالُوا: هُوَ بَاطِل، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَعَائِشَة، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحكم وطاووس، وَسَعِيد بن جُبَير، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة، وَقَالُوا: لَا يَنْفَعهُ اشْتِرَاط ويمضي على إِحْرَامه حَتَّى يتم، وَكَانَ ابْن عمر يُنكر ذَلِك وَيَقُول: أَلَيْسَ حسبكم سنة رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم؟ فَإِنَّهُ لم يشْتَرط، فَإِن حبس أحدكُم بحابس عَن الْحَج فليأت الْبَيْت فليطف بِهِ وَبَين الصَّفَا والمروة ويحلق أَو يقصر، وَقد حل من كل شَيْء حَتَّى يحجّ قَابلا وَيهْدِي أَو يَصُوم إِن لم يجد هَديا، وَأنكر ذَلِك طَاوُوس وَسَعِيد بن جُبَير وهما رويا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس، وَأنْكرهُ الزُّهْرِيّ وَهُوَ رُوَاة عَن عُرْوَة، فَهَذَا كُله مِمَّا يوهن الِاشْتِرَاط. وَزعم ابْن المرابط أَن عدم ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْحَج دلَالَة على أَن الِاشْتِرَاط عِنْده لَا يَصح.
قلت فِيهِ نظر لَا يخفي.
قَوْله: (وَجَعه) بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْجِيم وَهُوَ من الصِّفَات المشبهة أَي: إِنِّي ذَات وجع أَي: مرض. قَوْله: (محلي) أَي: مَوضِع تحللي من الْإِحْرَام.
وَفِيه: أَن الْمحصر يحل حَيْثُ يحبس وينحر هَدْيه هُنَاكَ حلا كَانَ أَو حَرَامًا، وَفِيه خلاف.(20/85)
0905 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثَنا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ الله قَالَ: حَدثنِي سعِيدُ بنُ أبي سعِيدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عنهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: تُنْكَحُ المَرْأةُ لِأرْبَعٍ: لِمَالِها ولِحَسَبِها وجَمَالِها ولِدِينِها، فأظْفَرْ بذَاتِ الطِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ولدينها) وَلَا سِيمَا أَمر فِيهِ بِطَلَب ذَات الدّين ودعا لَهُ أَو عَلَيْهِ بقوله (تربت يداك) إِذا ظفر بِذَات الدّين وَطلب غَيرهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَهُ أَو عَلَيْهِ، لاستعمال تربت يداك فِي النَّوْعَيْنِ على مَا نذْكر الْآن.
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ، وَسَعِيد بن أبي سعيد المَقْبُري يروي عَن أَبِيه أبي سعيد واسْمه كيسَان عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح أَيْضا عَن مُحَمَّد وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن يحيى بن حَكِيم.
قَوْله: (تنْكح الْمَرْأَة) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمَرْأَة مَرْفُوع بِهِ. قَوْله: (لأَرْبَع) أَي: لأَرْبَع خِصَال. قَوْله: (لمالها) لِأَنَّهَا إِذا كَانَت صَاحِبَة مَال لَا تلْزم زَوجهَا بِمَا لَا يُطيق وَلَا تكلفه فِي الْإِنْفَاق وَغَيره، وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا دَال على أَن للزَّوْج الِاسْتِمْتَاع بمالها فَإِنَّهُ يقْصد لذَلِك فَإِن طابت بِهِ نفسا فَهُوَ لَهُ حَلَال، وَإِن منعته فَإِنَّمَا لَهُ من ذَلِك بِقدر مَا بذل من الصَدَاق. وَاخْتلفُوا إِذا أصدقهَا وامتنعت أَن تشتري شَيْئا من الجهاز؟ فَقَالَ مَالك: لَيْسَ لَهَا أَن تقضي بِهِ دينهَا، وَأَن تنْفق مِنْهُ مَا يصلحها فِي عرسها، إلاَّ أَن يكون الصَدَاق شَيْئا كثيرا فتنفق مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا فِي دينهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: لَا تجبر على شِرَاء مَا لَا تُرِيدُ، وَالْمهْر لَهَا تفعل فِيهِ مَا شَاءَت. قَوْله: (ولحسبها) هُوَ إخْبَاره عَن عَادَة النَّاس فِي ذَلِك، والحسب مَا يعده النَّاس من مفاخر الْآبَاء، وَيُقَال: الْحسب فِي الأَصْل الشّرف بِالْآبَاءِ وبالأقارب، مَأْخُوذ من الْحساب لأَنهم كَانُوا إِذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبَائِهِم وقومهم وحسبوها، فَيحكم لمن زَاد عدده على غَيره، وَقيل: المُرَاد بالحسب هُنَا الفعال الْحَسَنَة، وَقيل: المَال، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن المَال ذكر قبله. قَوْله: (وجمالها) لِأَن الْجمال مَطْلُوب فِي كل شَيْء وَلَا سِيمَا فِي الْمَرْأَة الَّتِي تكون قرينته وضجيعته. قَوْله: (ولدينها) لِأَنَّهُ بِهِ يحصل خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، واللائق بأرباب الديانَات وَذَوي المروآت أَن يكون الدّين مطمح نظرهم فِي كل شَيْء، وَلَا سِيمَا فِيمَا يَدُوم أمره، وَلذَلِك اخْتَارَهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآكدوجه وأبلغه، فَأمر بالظفر الَّذِي هُوَ غَايَة البغية، فَلذَلِك قَالَ: (فاظفر بِذَات الدّين) فَإِن بهَا تكتسب مَنَافِع الدَّاريْنِ (تريت يداك) إِن لم تفعل مَا أمرت بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فاظفر) جَزَاء شَرط مَحْذُوف أَي: إِذا تحققت تفصيلها فاظفر أَيهَا المسترشد بهَا.
وَاخْتلفُوا فِي معنى (تربت يداك) . فَقيل: هُوَ دُعَاء فِي الأَصْل، إلاَّ أَن الْعَرَب تستعملها للإنكار والتعجب والتعظيم والحث على الشَّيْء، وَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهِ هَهُنَا، وَفِيه التَّرْغِيب فِي صُحْبَة أهل الدّين فِي كل شَيْء، لِأَن من صَاحبهمْ يَسْتَفِيد من أَخْلَاقهم ويأمن الْمفْسدَة من جهتهم. وَقَالَ مُحي السّنة: هِيَ كلمة جَارِيَة على ألسنتهم كَقَوْلِهِم: لَا أَب لَك، وَلم يُرِيدُوا وُقُوع الْأَمر، وَقيل: قَصده بهَا وُقُوعه لتعدية ذَوَات الدّين إِلَى ذَوَات المَال وَنَحْوه، أَي: تربت يداك إِن لم تفعل مَا قلت لَك من الظفر بِذَات الدّين، وَقيل: معنى تربت يداك أَي لصقت بِالتُّرَابِ، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْفقر. وَحكي ابْن الْعَرَبِيّ أَن مَعْنَاهُ. استغنت يداك، ورد بِأَن الْمَعْرُوف: أترب إِذا اسْتغنى، وترب إِذا افْتقر، وَقيل: مَعْنَاهُ ضعف عقلك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: معنى الحَدِيث أَن هَذِه الْخِصَال الْأَرْبَع هِيَ الَّتِي ترغب فِي نِكَاح الْمَرْأَة لَا أَنه وَقع الْأَمر بذلك، بل ظَاهره إِبَاحَة النِّكَاح لقصد كل من ذَلِك، لَكِن قصد الدّين أولى. قَالَ: وَلَا يظنّ أَن هَذِه الْأَرْبَع تُؤْخَذ مِنْهَا الْكَفَاءَة؟ أَي: تَنْحَصِر فِيهَا. فَإِن ذَلِك لم يقل بِهِ أحد وَإِن كَانُوا اخْتلفُوا فِي الْكَفَاءَة مَا هِيَ؟ انْتهى. وَقَالَ الْمُهلب: الْأَكفاء فِي الدّين هم المتشاكلون وَإِن كَانَ فِي النّسَب تفاضل بَين النَّاس، وَقد نسخ الله مَا كَانَت تحكم بِهِ الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة من شرف الْأَنْسَاب بشرف الصّلاح فِي الدّين، فَقَالَ: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} (الحجرات: 31) وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي الْأَكفاء مِنْهُم فَقَالَ مَالك: فِي الدّين دون غَيره والمسلمون أكفاء بَعضهم لبَعض، فَيجوز أَن يتَزَوَّج الْعَرَبِيّ والمولي القرشية، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَابْن سِيرِين، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} (الحجرات: 31) وَبِحَدِيث سَالم وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَلَيْك بِذَات الدّين، وعزم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يُزَوّج ابْنَته من سلمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا بني بياضة أنكحوا أَبَا هِنْد) فَقَالُوا يَا رَسُول الله!(20/86)
أنزوج بناتنا من موالينا؟ فَنزلت: {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى} (الحجرات: 31) الْآيَة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِذا خطب إِلَيْكُم من ترْضونَ دينه وخلقه فَزَوجُوهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو اللَّيْث عَن ابْن عجلَان عَن أبي هُرَيْرَة مُرْسلا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: قُرَيْش كلهم أكفاء بَعضهم لبَعض وَلَا يكون أحد من الْعَرَب كُفؤًا لقرشي، وَلَا أحد من الموَالِي كُفؤًا للْعَرَب، وَلَا يكون كُفؤًا من لَا يجد الْمهْر وَالنَّفقَة. وَفِي التَّلْوِيح: احْتج لَهُ بِمَا رَوَاهُ نَافِع عَن مَوْلَاهُ مَرْفُوعا: قُرَيْش بَعْضهَا لبَعض أكفا. إلاَّ حائك أَو حجام، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث مُنكر، وَرَوَاهُ هِشَام الرَّازِيّ فَزَاد فِيهِ، أودباغ. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم: حَدثنَا الْأَصَم الصَّنْعَانِيّ حَدثنَا شُجَاع بن الْوَلِيد حَدثنَا بعض إِخْوَاننَا عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْعَرَب بَعضهم أكفاء لبَعض قَبيلَة بقبيلة وَرجل بِرَجُل، والموالي بَعضهم أكفاء لبَعض قَبيلَة بقبيلة وَرجل بِرَجُل، إلاَّ حائك أَو حجام. وَقَالَ صَاحب التَّنْقِيح: هَذَا مُنْقَطع إِذْ لم يسم شُجَاع بن الْوَلِيد بعض إخوانه، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي مُسْنده من حَدِيث بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن زرْعَة بن عبد الله، والزبيدي عَن عمرَان بن أبي الْفضل الْأَيْلِي عَن نَافِع عَن ابْن عمر نَحوه سَوَاء، قَالَ ابْن عبد الْبر. هَذَا حَدِيث مُنكر مَوْضُوع، وَقد رُوِيَ ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عمر مَرْفُوعا مثله، وَلَا يَصح عَن ابْن جريج. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي كتاب الضُّعَفَاء وَأعله بعمران بن أبي الْفضل وَقَالَ: إِنَّه يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات لَا يحل كتب حَدِيثه، وَقَالُوا فِي اعْتِبَار الْكَفَاءَة أَحَادِيث لَا تقوم بأكثرها الْحجَّة وأمثلها حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب. رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا عبد الله بن وهب عَن سعيد بن عبد الله الْجُهَنِيّ عَن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ عَن أَبِيه عَليّ بن أبي طَالب: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: يَا عَليّ! ثَلَاث لَا تؤخرها: الصَّلَاة إِذا أَتَت، والجنازة إِذا حضرت، والأيم إِذا وجدت كُفؤًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: غَرِيب وَمَا أرى إِسْنَاده مُتَّصِلا، وَأخرجه الْحَاكِم كَذَلِك، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
1905 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثَنا ابنُ أبي حازِمٍ عَنْ أبيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: مَرَّ رجُلٌ علَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هاذا؟ قالُوا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ وإنْ قَالَ أنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فمَرَّ رجلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هاذا؟ قالُوا: حَرِيُّ إنْ خَطَبَ أنْ لَا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لَا يُشَفَّعَ، وإنْ قَالَ أنْ لَا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هاذا خيْرٌ مِنْ ملْءِ الأرْضِ مِثْلَ هاذا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (هَذَا خير) إِلَى آخِره، لِأَن فِيهِ تَفْضِيل الْفَقِير على الْغَنِيّ مُطلقًا فِي الدّين فَيكون كُفؤًا لمن يريدها من النِّسَاء مُطلقًا، وَأخرجه إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة أبي إِسْحَاق الزبيرِي الْأَسدي الْمَدِينِيّ عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَفِي التَّلْوِيح: وَحَدِيث سهل بن سعد ذكره الْحميدِي وَأَبُو مَسْعُود وَابْن الْجَوْزِيّ فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ وأبى ذَلِك الطرقي وَخلف فَذَكَرَاهُ فِي البُخَارِيّ فَقَط. قلت: وَكَذَا ذكره الْمزي فِي الْأَطْرَاف وَاقْتصر على البُخَارِيّ.
قَوْله: (مر رجل) لم بدر اسْمه. قَوْله: (حري) بِفَتْح الْحَاء وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: حقيق وجدير، قَوْله: (أَن ينْكح) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لِأَن ينْكح. قَوْله: (أَن يشفع) بِضَم أَوله وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لِأَن تقبل شَفَاعَته. قَوْله: (أَن يستمع) أَي: يستمع، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (وَمر رجل من فُقَرَاء الْمُسلمين) قيل: إِنَّه جعيل بن سراقَة، وَقَالَ أَبُو عمر: جِعَال بن سراقَة، وَيُقَال: جعيل بن سراقَة الضمرِي، وَيُقَال الثَّعْلَبِيّ، وَكَانَ من فُقَرَاء الْمُسلمين وَكَانَ رجلا صَالحا دميما قبيحا أسلم قَدِيما وَشهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا. قَوْله: (هَذَا) أَي: هَذَا الْفَقِير من فُقَرَاء الْمُسلمين (خير من ملْء الأَرْض) بِكَسْر الْمِيم وبالهمزة فِي آخِره. قَوْله: (مثل هَذَا) أَي: مثل هَذَا الْغَنِيّ، وَيجوز فِي مثل،(20/87)
الْجَرّ وَالنّصب، وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ ذَلِك؟ قلت: إِن كَانَ الأول كَافِرًا فوجهه ظَاهر. وإلاَّ فَيكون ذَلِك مَعْلُوما لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَحْي، وَقَالَ بَعضهم: يعرف المُرَاد من الطَّرِيق الْأُخْرَى الَّتِي ستأتي فِي الرقَاق بِلَفْظ: قَالَ رجل من أَشْرَاف النَّاس: هَذَا وَالله حري إِلَخ قلت: فِي كل من كلاميهما نظر، أما كَلَام الْكرْمَانِي فَقَوله: بِالْوَحْي، لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ: مر رجل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد شَاهده وعرفه أَنه مُسلم أَو كَافِر، وَالظَّاهِر أَنه مُسلم كَانَ شريفا بَين قومه وَلَكِن المارّ الثَّانِي إِن كَانَ كَمَا قيل: إِنَّه جعيل بن سراقَة، وَهُوَ من أَصْحَابه من خِيَار عباد الله الصَّالِحين، وَأما قَول بَعضهم: فَأنْزل، من كَلَام الْكرْمَانِي على مَا لَا يخفي على المتأمل.
61 - (بابُ الأكْفاءِ فِي المَالِ وتزْويجِ المُقِلِّ المُثْرِيَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَكفاء فِي المَال فَهَذَا بَاب مُخْتَلف فِيهِ عِنْد من يشْتَرط الْكَفَاءَة، وَالْأَشْهر عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه لَا يعْتَبر. وَنقل صَاحب الإفصاح عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: الْكَفَاءَة فِي الدّين وَالْمَال وَالنّسب، وَجزم بِاعْتِبَارِهِ أَبُو الطّيب والصيمري وَجَمَاعَة واعتبره الْمَاوَرْدِيّ فِي أهل الْأَمْصَار، وَخص الْخلاف بِأَهْل الْبَوَادِي والقرى المتفاخرين بِالنّسَبِ دون المَال. قَوْله: (وتزويج) أَي: وَفِي بَيَان تَزْوِيج (الْمقل) بِضَم الْمِيم وَكسر الْقَاف وَتَشْديد اللَّام وَهُوَ الْفَقِير المفتقر، وَلَفظ تَزْوِيج مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله وَقَوله: (المثرية) بِالنّصب مَفْعُوله، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الْمَرْأَة الَّتِي لَهَا ثراة بِفَتْح أَوله وبالمد، وَهُوَ الْغنى، وحاصلة تَزْوِيج الْفَقِير الغنية.
2905 - حدَّثني يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أخبرَني عُرْوَةُ أنّهُ سألَ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، { (4) وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) قالَتْ: يَا ابْنَ أخْتي: هاذِهِ اليَتِيمَةُ تكُونُ فِي حَجْرِ ولِيِّها فيَرْغبُ فِي جَمَالِها ومالِها ويُرِيدُ أنْ يَنْتَقِصَ صَدَاقَها، فنُهُوا عَنْ نِكاحِهِنَّ إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا فِي إكمالِ الصَّدَاقِ، وأُمِرُوا بنِكاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ. قالَتْ: واسْتَفْتَى النَّاسُ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَعْدَ ذالِكَ فأنْزَلَ الله: { (4) ويستفتونك فِي النِّسَاء} (النِّسَاء: 721) إِلَى { (4) وترغبون أَن تنكحوهن} (النِّسَاء: 721) فأنْزَلَ الله لهُمْ. أنَّ اليَتِيمَةَ إذَا كانَتْ ذاتَ جَمالٍ ومالٍ رَغِبُوا فِي نِكاحِها ونَسَبِها فِي إكْمال الصَّدَاقِ، وَإِذا كانَتْ مَرْغُوبَةً عنْها فِي قِلَّةِ المَالِ والجَمالِ ترَكُوها وأخذُوا غيْرَها منَ النِّساءِ، قالَتْ: فكَما تَتْرُكُونَها حِينَ يرْغَبُونَ عنْها فلَيْسَ لَهمْ أنْ يَنْكِحُوها إِذا رَغِبُوا فِيها إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا لَها ويُعْطُوها حقَها الأوْفَى فِي الصَّدَاقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل إِذا كَانَ ولي الْيَتِيمَة الغنية وَهُوَ فَقير يجوز لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا إِذا أقسط فِي صَدَاقهَا وَعدل، فصح أَن اكفاءة مُعْتَبرَة فِي المَال. والْحَدِيث قد مر فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(وَالْحجر) بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَرغب فِيهَا: إِذا مَال إِلَيْهَا، وَرغب عَنْهَا: إِذا أعرض عَنْهَا وَلم يردهَا.
71 - (بابُ مَا يُتَّقَى منْ شُؤْمِ المَرْأَةِ وقَوْلهِ تَعَالَى: { (64) إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم} (التغابن: 41)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَتَّقِي، أَي: مَا يحْتَسب من شُؤْم الْمَرْأَة، وَالْوَاو فِيهِ فِي الأَصْل همزَة وَلَكِن هجر الأَصْل حَتَّى لم ينْطق بهَا مَهْمُوزَة، يُقَال: تشاءمت بالشَّيْء وشأمت بِهِ شؤما وَهُوَ ضد الْيمن، وشؤم الْمَرْأَة أت لَا تَلد، وَيُقَال: شُؤْم المرألا عقرهَا وَغَلَاء مهرهَا وَسُوء خلقهَا. قَوْله: (وَقَوله تَعَالَى) إِلَخ ذكره إِشَارَة إِلَى أَن اخْتِصَاص الشؤم بِبَعْض النِّسَاء دون بعض دلّ عَلَيْهِ كلمة: من فِي قَوْله: {إِن من أزواجكم} (التغابن: 41) لِأَن من هُنَا، للتَّبْعِيض.
3905 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ حَمْزَةَ وسالِمٍ ابْنَيْ عبْدِ الله بنِ(20/88)
عُمَرَ عنْ عَبْدَ الله بنِ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ والدَّارِ والفَرَسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس عبد الله ابْن أُخْت مَالك بن أنس والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجِهَاد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ فِي: بَاب مَا يذكر من شُؤْم الْفرس عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله: أَن عبد الله بن عمر قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِنَّمَا الشؤم فِي ثَلَاثَة: الْفرس وَالْمَرْأَة وَالدَّار، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وشؤم الدَّار ضيقها وَسُوء جارها، وشؤم الْفرس أَن لَا يُغزى عَلَيْهَا وجماحها وَنَحْوه.
4905 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا يزِيدُ بنُ زخرَيْعٍ حَدثنَا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ العَسْقَلانِيُّ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنْ كانَ الشُّؤمُ فِي شَيْء ففِي الدَّارِ والمَرْأَةِ والفَرَسِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن منهال الْبَصْرِيّ عَن يزِيد بن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي، عَن عمر بن مُحَمَّد الْعَسْقَلَانِي عَن أَبِيه مُحَمَّد بن زيد عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
5905 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرنا مالِكُ عنْ أبي حازِم عنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِنْ كانَ فِي شَيْء ففِي الفَرَسِ والمَرْأةِ والمَسْكَنِ.
(انْظُر الحَدِيث 9582) .
أَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الطِّبّ عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطِّبّ عَن القعْنبِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن عبد السَّلَام عَن عَاصِم.
قَوْله: (إِن كَانَ فِي شَيْء) أَي: إِن كَانَ الشؤم فِي شَيْء، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِن كَانَ فَفِي الْمَرْأَة وَالْفرس والمسكن، يَعْنِي: الشؤم، وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن كَانَ فِي شَيْء فَفِي الرّبع وَالْخَادِم وَالْفرس، وَرُوِيَ أَحْمد وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من حَدِيث سعد مَرْفُوعا: من سَعَادَة ابْن آدم ثَلَاثَة: الْمَرْأَة الصَّالِحَة والمسكن الصَّالح والمركب الصَّالح، وَمن شقاوة ابْن آدم ثَلَاثَة: الْمَرْأَة السوء والمسكن السوء والمركب السوء وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: الْمركب الهني والمسكن الْوَاسِع، وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: وَثَلَاث من الشَّقَاء: الْمَرْأَة ترَاهَا وتسوؤك وَتحمل لسانها عَلَيْك، وَالدَّابَّة تكون قطوفا فَإِن ضربتها أتعبتك وَإِن تركتهَا لم تلْحق أَصْحَابك، وَالدَّار تكون ضيقَة قَليلَة الْمرَافِق. وَرُوِيَ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء: أَن من شقاء الْمَرْء فِي الدُّنْيَا: سوء الدَّار وَالْمَرْأَة وَالدَّابَّة، وَفِيه: سوء الدَّار ضيق ساحتها وخبث جِيرَانهَا، وَسُوء الدَّابَّة منعهَا ظهرهَا وَسُوء ضلعها، وَسُوء الْمَرْأَة عقم رَحمهَا وَسُوء خلقهَا.
6905 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمانَ النَّهْدِي عنْ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ، رَضِي الله عَنْهَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا ترَكْتُ بعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الشؤم أَشد مِنْهُنَّ. وَلِهَذَا ذكره بعد حَدِيثي ابْن عَمْرو سهل بن سعد، وفتنتهن أَشد الْفِتَن وَأَعْظَمهَا، وَيشْهد لَهُ قَوْله عز وَجل: {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء} (آل عمرَان: 41) فقدمهن على جَمِيع الشَّهَوَات لِأَن المحنة بِهن أعظم المحن على قدر الْفِتْنَة بِهن، وَقد أخبر الله عز وَجل أَن مِنْهُنَّ لنا أَعدَاء فَقَالَ: {إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم} (التغابن: 41) ويروي، أَن الله عز وَجل لما خلق الْمَرْأَة فَرح الشَّيْطَان فَرحا شَدِيدا، وَقَالَ: هَذِه حبالتي الَّتِي لَا تكَاد يخطيني من نصبتها لَهُ، وَجَاء فِي الحَدِيث النِّسَاء حبائل الشَّيْطَان، وَرُوِيَ: استعيذوا من شرار النِّسَاء وَكُونُوا من خيارهن على حذر، وَقَالَ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: أوثق سلَاح إِبْلِيس النِّسَاء.
وَسليمَان التَّيْمِيّ هُوَ سُلَيْمَان بن طرخان أَبُو الْمُعْتَمِر التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء. وبالدال الْمُهْملَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الدَّعْوَات عَن سعيد بن مَنْصُور وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.(20/89)
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن بشر بن هِلَال.
قَوْله: (أضرّ) وَذَلِكَ أَن الْمَرْأَة نَاقِصَة الْعقل وَالدّين، وغالبا ترغب زَوجهَا عَن طلب الدّين، وَأي فَسَاد أضرّ من ذَلِك؟ وَرُوِيَ عَنهُ، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَمَا فتنتهن؟ قَالَ: إِذا لبس ربط الشَّام وحلل الْعرَاق وَعصب الْيمن وملن كَمَا تميل أسنمة البخت، فَإِذا فعلن ذَلِك كلفن الْغَيْر مَا لَيْسَ عِنْده. وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث أبي سعيد فِي إثناء حَدِيث: وَاتَّقوا النِّسَاء فَإِن أول فتْنَة بني إِسْرَائِيل كَانَت من النِّسَاء.
81 - (بابُ الحُرَّةِ تَحْتَ العَبْدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَون الْمَرْأَة الْحرَّة تَحت العَبْد، يَعْنِي: تَحت عقده، وَالْمعْنَى: بَاب فِي بَيَان جَوَاز نِكَاح العَبْد الْحرَّة، إِذا رضيت بِهِ.
7905 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِك عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ عنِ القاسمِ ابنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ عُتِقَتْ فخُيِّرَتْ، وَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ، ودَخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبُرْمَةٌ علَى النَّارِ فقُرِّبَ إلَيْهِ خُبْز وأُدْمِ البَيْتِ؟ فَقَالَ: ألَمْ أرَ البُرْمَةَ؟ فَقيلَ: لحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ علَى بَرِيرة وأنْتَ لَا تأكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: هُوَ عليْها صدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن زوجٍ بَرِيرَة كَانَ عبدا. وَفِي التَّلْوِيح: وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِكَوْن زَوجهَا عبدا وَلَا غَيره، وَقد تجاذبت فِيهِ الرِّوَايَات، فَقَائِل: كَانَ حرا وَقَائِل: كَانَ عبدا، فَلَا يتمحض للْبُخَارِيّ استدلاله وَلم يَأْتِ فِي حَدِيثه بِشَيْء من ذَلِك. وَلَا يُقَال: ترجح عِنْده كَونه عبدا لِأَن أَبَا حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْجَانِب الآخر يرجح كَونه حرا عِنْده، وَلَيْسَ قَول أَحدهمَا بِأولى من الآخر إلاَّ بترجيح نقلي من خَارج انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَا يدْفع وَجه الْمُطَابقَة لِأَنَّهُ وضع هَذِه التَّرْجَمَة وسَاق لَهَا الحَدِيث الْمَذْكُور بِنَاء على ترجح عِنْده، وَأما تَرْجِيح أحد الْقَوْلَيْنِ على الآخر بِالنَّقْلِ من خَارج فَلَا دخل لَهُ هَهُنَا فِي وَجه الْمُطَابقَة. فَافْهَم.
وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، وَاسم أبي عبد الرَّحْمَن فروخ مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَفِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة وَفِي الْعتْق عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
قَوْله: (فِي بَرِيرَة) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى. اسْم جَارِيَة اشترتها عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فأعتقتها وَكَانَت مولاة لبَعض بني هِلَال فكاتبوهم باعوها لعَائِشَة. قَوْله: (ثَلَاث سِنِين) أَي: ثَلَاث طرق أحكاما شَرْعِيَّة، بَعْضهَا مر فِي كتاب الْكِتَابَة. قَوْله: (عتقت) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أعتقتها عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (فخيرت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَيْضا أَي: خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا أول السّنَن الثَّلَاث وَهُوَ أَن الْأمة الَّتِي تَحت العَبْد إِذا أعتقت لَهَا الْخِيَار فِي فسخ نِكَاحهَا، وَرُوِيَ ابْن سعد فِي الطَّبَقَات: أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عَامر الشّعبِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لبريرة لما أعتقت: قد عتق بضعك مَعَك فاختاري، وَهَذَا مُرْسل.
وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَ الشّعبِيّ والنخي وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن سِيرِين وطاووس وَمُجاهد وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْحسن بن مُسلم وَأَبُو قلَابَة وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأَبُو ثَوْر: الْأمة إِذا أعتقت لَهَا الْخِيَار فِي نَفسهَا سَوَاء كَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا، وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر أَيْضا. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق إِن كَانَ زَوجهَا عبدا فلهَا الْخِيَار، وَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا.
وَاخْتلفُوا فِي زوج بَرِيرَة: هَل كَانَ حرا أَو عبدا فَروِيَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، من(20/90)
حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة أَنه كَانَ حرا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَرُوِيَ الطَّحَاوِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنه كَانَ عبدا، وَرُوِيَ مُسلم أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنه كَانَ عبدا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَرُوِيَ البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: إِن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا يُقَال لَهُ: مغيث، كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يطوف خلفهَا يبكي ودموعه تسيل على لحيته والْحَدِيث، وَهَذِه أَحَادِيث متعارضة قد أَكثر النَّاس فِي معانيهاوتخريج وجوهها، فلمحمد بن جرير الطَّبَرِيّ: فِي ذَلِك كتاب، ولمحمد بن خُزَيْمَة كتاب، ولجماعة فِي ذَلِك أَبْوَاب أَكْثَرهَا تكلّف واستخراجات مُحْتَملَة وتأويلات مُمكنَة لَا يقطع بِصِحَّتِهَا، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن يحمل على وَجه لَا يكون فِيهِ تضَاد، وَالْحريَّة تعقب الرّقّ وَلَا ينعكس، فَثَبت أَنه كَانَ حرا عِنْدَمَا خيرت بَرِيرَة، وعبدا قبله، وَمن أخبر بعبوديته لم يعلم بحريَّته قبل ذَلِك، وَلم يخيرها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ عبدا وَلَا لِأَنَّهُ كَانَ حرا، وَإِنَّمَا خَيرهَا لِأَنَّهَا أعتقت، فَوَجَبَ تَخْيِير كل مُعتقة. وَرُوِيَ فِي بعض الْآثَار أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: ملكت نَفسك فاختاري، كَذَا فِي التَّمْهِيد فَكل من ملكت نَفسهَا تخْتَار سَوَاء كَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا.
قَوْله: (وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لمن أعتق) هَذَا ثَانِي السّنَن الثَّلَاث، وَقد مر فِي كتاب الْعتْق. قَوْله: (وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، ثَالِث السّنَن الثَّلَاث وَذكر الثَّلَاث لَا يَنْفِي الزَّائِد. قَوْله: (وبرمة على النَّار) ، وبرمة مُبْتَدأ وَهِي نكرَة، وَلَكِن اعتمادها على وَاو الْحَال جوز ذَلِك، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن مَالك، والبرمة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: الْقدر المتخذة من الْحجر الْمَعْرُوف بالحجاز واليمن، وَالْفرق بَين الصَّدَقَة والهدية أَن الصَّدَقَة إِعْطَاء لثواب الآخر، والهدية إِعْطَاء لإكرام الْمَنْقُول إِلَيْهِ، وَالصَّدَََقَة تكون ملكا للقابض فلهَا حكم سَائِر المملوكات، وَبَطل عَنْهَا حكم الصَّدَقَة.
91 - (بابٌ لَا يتَزَوَّجُ أكْثَرَ مِنْ أرْبعٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه لَا يتَزَوَّج الرجل أَكثر من أَربع نسْوَة، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بِالْإِجْمَاع، وَلَا يتلفت إِلَى قَول الروافض بِأَنَّهُ يتَزَوَّج إِلَى تسع نسْوَة.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { (4) مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . وَقَالَ عليُّ بنُ الحُسَيْنِ، علَيْهما السّلامُ. يعْنِي مثْنى أوْ ثُلاَثَ أوْ رُباعَ، وقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ { (35) أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (فاطر: 1) يَعْنِي: مَثْنى أوْ ثُلاَث أوْ رُباعَ
أَي: لأجل قَوْله تَعَالَى، ذكره فِي معرض الِاسْتِدْلَال على أَن الْأَكْثَر من الْأَرْبَع لَا يجوز بَيَانه أم المُرَاد بِهِ التَّخْيِير بَين الْأَعْدَاد الثَّلَاثَة لَا الْجمع، لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ الْجمع بَين تسع لم يعدل عَن لفظ الِاخْتِصَار، ولقال: فانحكوا تسعا، وَالْعرب لَا تدع أَن تَقول: تِسْعَة، وَتقول: اثْنَان وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، فَلَمَّا قَالَ: مثنى وَثَلَاث وَربَاع، صَار التَّقْدِير مثنى مثنى وَثَلَاث وَثَلَاث وَربَاع وَربَاع، فَيُفِيد التَّخْيِير، وَقد علم أَن مثنى معدول عَن اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاث عَن ثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَربَاع عَن أَرْبَعَة أَرْبَعَة. قَوْله: (وَقَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن) ، وَهُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْوَاو هُنَا بِمَعْنى: أَو الَّتِي هِيَ للتنويع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي ذكر صفة أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة: {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (فاطر: 1) أَرَادَ: مثنى أَو ثَلَاث أَو رباع، واستدلاله بقول عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من أحسن الْأَدِلَّة فِي الرَّد على الروافض لكَونه من أئمتهم الَّذين يرجعُونَ إِلَى قَوْلهم وَيدعونَ أَنهم معصومون، فَإِن قَالُوا: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ عَن تسع، وَلنَا بِهِ أُسْوَة، قُلْنَا: إِن ذَاك من خَصَائِصه، كَمَا خص أَن ينْكح بِغَيْر صدَاق، وَأَن أَزوَاجه لَا ينكحن بعده، وَغَيره ذَلِك من خَصَائِصه، وَمَوته عَن تسع كَانَ اتِّفَاقًا، وَصَحَّ أَن غيلَان بن سَلمَة أسلم وَتَحْته عشر نسْوَة، فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إختر مِنْهُنَّ أَرْبعا وَفَارق سائرهن) .
8905 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرنَا عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أَبِيه عنْ عائِشَة: { (4) وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) قالَت اليتيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُل وهْوَ وليُّها فَيَتَزَوَّجُها علَى مَا لَهَا ويُسِيءُ صُحْبَتَها وَلَا يَعْدِلُ فِي(20/91)
مالِها، فَلْيَتَزَوَّجْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ النِّساءِ سِوَاها مَثْنَى وثلاَثَ ورُباعَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام البُخَارِيّ البيكندي، وَعَبدَة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ ابْن سُلَيْمَان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) قَوْله: (أَن لَا تقسطوا) . أَي: أَن لَا تعدلوا. قَوْله: (قَالَت) ، أَي: عَائِشَة فِي تَفْسِير قَوْله: {وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا} ويروي: قَالَ، بالتذكير، فَإِن صحت فوجهها أَن يُقَال: قَالَ عُرْوَة رَاوِيا عَن عَائِشَة. قَوْله: (ويسيء) ، بِضَم الْيَاء من الْإِسَاءَة. قَوْله: (فليتزوج) ، جَوَاب الشَّرْط.
02 - (بابٌ { (4) وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} (النِّسَاء: 32)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ حكم الرَّضَاع لقَوْله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} (النِّسَاء: 32) وَهُوَ عطف على قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} (النِّسَاء: 32) أَي: وَحرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم اللَّاتِي أرضعنكم.
ويَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عَائِشَة أخرجه الْجَمَاعَة عَنْهَا إلاَّ ابْن مَاجَه، وَاللَّفْظ لمُسلم: أَن عَمها من الرَّضَاع يُسمى أَفْلح، اسْتَأْذن عَلَيْهَا فَحَجَبَتْهُ، فَأخْبرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهَا: (لَا تَحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من النّسَب) ، وَفِي لفظ البَاقِينَ: (مَا يحرم من الْولادَة) ، وَفِي لفظ: (مَا تحرم الْولادَة) ، وَإِنَّمَا ذكره البُخَارِيّ لبَيَان بعض مَا يحرم بالرضاعة) .
9905 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بكْرٍ عنْ عُمْرَةَ بِنْتِ عبْدِ الرحْمانِ أنَّ عائِشَةَ زوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخْبَرَتْها: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كانَ عِنْدَها وأنَّها سَمِعَتْ صَوْتَ رجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتٍ حَفْصَةَ، قالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله هاذَا رجُلٌ يَسْتأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرَاهُ فُلاَنا، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضاعَةِ، قالَتْ عائِشةُ: لوْ كانَ فُلاَنٌ حَيّا لِعَمِّها مِنَ الرَّضاعَةِ دَخَلَ علَيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ الرَّضاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلادَةُ..
مطابقته للشق الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَعبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أخْبرتهَا) أَي: أخْبرت عَائِشَة عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (صَوت رجل) لم يدر اسْمه. قَوْله: (أرَاهُ) بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ. قَوْله: (لعم حَفْصَة) قَالَ بَعضهم: اللَّام بِمَعْنى: عَن، أَي: قَالَ ذَلِك عَن عَم حَفْصَة. قلت: اللَّام بِمَعْنى عَن ذكره ابْن الْحَاجِب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} (مَرْيَم: 37، وَالْعَنْكَبُوت: 21، وَيس: 74، والأحقاف: 11) وَقَالَ ابْن مَالك وَغَيره: هِيَ لَام التَّعْلِيل، وَهنا أَيْضا كَذَلِك، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لأجل عَم حَفْصَة، وَلم يدر اسْمه. قَوْله: (لَو كَانَ فلَان) لم يدر اسْمه، وَقيل: هُوَ أَفْلح أَخُو أبي القعيس، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ وهم، لِأَن أَبَا القعيس وَالِد عَائِشَة من الرضَاعَة، وَأما أَفْلح فَهُوَ أَخُوهُ وَهُوَ عَمها من الرضَاعَة، وَأما قَوْلهَا: لَو كَانَ حَيا، يدل على أَنه مَاتَ. انْتهى. قلت: يحْتَمل أَن يكون أَخا آخر لَهَا، وَيحْتَمل أَنَّهَا ظنت أَنه مَاتَ لبعد عهدها بِهِ ثمَّ قدم بعد ذَلِك فَاسْتَأْذن. قَوْله: (الرضَاعَة تحرم مَا تحرم الْولادَة) وَهَذَا إِجْمَاع لَا خلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة، فَإِذا حرمت الْأُم فَكَذَا زَوجهَا لِأَنَّهُ وَالِده لِأَن اللَّبن مِنْهُمَا جَمِيعًا، وانتشرت الْحُرْمَة إِلَى أَوْلَاده: فأخو صَاحب اللَّبن عَم، وأخوها خَاله من الرَّضَاع فَيحرم من الرَّضَاع: العمات والخالات والأعمام وَالْأَخَوَات وبناتهن كالنسب.
0015 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ جابِرِ بنِ زَيْدٍ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا تَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: إنَّها ابْنَةُ أخي مِنَ الرِّضاعَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 5462) .
مطابقته للشق الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَجَابِر بن زيد هُوَ أَبُو الشعْثَاء الْبَصْرِيّ مَشْهُور بكنيته، وَأما(20/92)
جَابر بن يزيدبالياء آخر الْحُرُوف فِي أول اسْم أَبِيه فَهُوَ الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح شَيْء.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْقَائِل لَهُ هُوَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَذَا قَالَه بَعضهم، ثمَّ قَالَ: كَمَا أخرجه مُسلم من حَدِيثه، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله {مَالك تتوق فِي قُرَيْش وَتَدعنَا؟ قَالَ: وعندكم شَيْء؟ قلت: نعم ابْنة حَمْزَة الحَدِيث. قلت: أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقول: قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْن أَنْت يَا رَسُول الله عَن ابْنة حَمْزَة؟ الحَدِيث، فَمن أَيْن تعين فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْقَائِل فِيهِ هُوَ عَليّ حَتَّى جزم هَذَا الْقَائِل: إِن الْقَائِل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ عَليّ بن أبي طَالب؟ فَلم لَا يجوز أَن تكون أم سَلمَة أَو غَيرهَا؟ قَوْله: (أَلا تزوج) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْوَاو وَضم الْجِيم، أَصله: تتَزَوَّج، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَرُوِيَ أَيْضا بِلَا حذف التَّاء. قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن بنت حَمْزَة بنت أخي من الرضَاعَة، لِأَن ثويبة أرضعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَمَا كَانَت أرضعت حَمْزَة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ حَمْزَة أسن من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِأَرْبَع، وثوبية بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة مصغر ثوبة وَكَانَت مولاة لأبي لَهب بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْتقهَا، وَاخْتلف فِي إسْلَامهَا، وَذكرهَا ابْن مندة فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو نعيم: وَلَا أعلم أحدا أثبت إسْلَامهَا غير ابْن مندة وَكَانَ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يكرمها، وَكَانَت تدخل عَلَيْهِ بعدأن تزوج خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ويصلها من الْمَدِينَة حَتَّى مَاتَت بعد فتح خَيْبَر وَكَانَت خَدِيجَة تكرمها. قَوْله: (تتوق) فِي رِوَايَة مُسلم ضبط بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: تتوق بتاءين أولاهما مَفْتُوحَة وَالْأُخْرَى مَضْمُومَة من التوق وَهُوَ الْميل مَعَ الاشتهاء. وَالثَّانِي: تنوق، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح النُّون وَتَشْديد الْوَاو، وَمَعْنَاهُ: تخْتَار من النيقة، بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهِي الْخِيَار من الشَّيْء، فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا تزوج ابْنة حَمْزَة وَهُوَ يعلم حكم الرَّضَاع؟ قلت. قيل: لم يعلم بذلك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا بعيد أَن يُقَال فِي حق عَليّ، لم يعلم بذلك، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِنَّه لم يعلم بِأَن حَمْزَة رَضِيع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو جوز الخصوصية، أَو كَانَ ذَلِك قبل تَقْرِير الحكم.
وَقَالَ بِشْرُ بنُ عُمَرَ: حَدثنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتادَةَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ زَيْدٍ مِثْلَهُ
بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن عمر الزهْرَانِي، وَهَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ مُسلم عَن مُحَمَّد بن يحيى الْقطعِي عَنهُ، وَفَائِدَته عِنْد البُخَارِيّ لبَيَان سَماع قَتَادَة من جَابر بن زيد لِأَنَّهُ مُدَلّس.
1015 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نافِعٍ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخبرَني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أبي سلَمةَ أخبَرَتْهُ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أبي سُفْيان أخبَرَتْها أَنَّهَا قالَتْ: يَا رسولُ الله} انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أبي سُفْيانَ. فَقَالَ: أوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وأحَبُّ منْ شاركَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لي. قُلْتُ: فإِنَّا نُحَدَّثُ أنكَ تُرِيدُ أنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أبي سلَمَةَ؟ قَالَ: بِنْتَ أُمِّ سلَمة؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّها لابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ، أرْضَعَتْنِي وَأَبا سلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضَن عَلَيَّ بنَاتِكنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ.
قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبي لَهبٍ، كانَ أبُو لَهبٍ أعْتَقَها فأرْضَعَتِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلَمَّا ماتَ أبُو لَهبٍ أُرَيَةُ بَعْضُ أهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لهُ: ماذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أبُو لَهبٍ: لَمْ ألْقِ بَعْدكُمْ، غَيْرَ أنِّي سُقِيتُ فِي هاذِهِ بِعتَاقَتي ثُوَيْبَةَ.(20/93)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الشق الثَّانِي وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة بن عبد الْأسد المَخْزُومِي ربيبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمّهَا أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ اسْم زَيْنَب برة فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب، ولدتها أمهَا بِأَرْض الْحَبَشَة وقدمت بهَا وحفظت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت زَيْنَب عِنْد عبد الله بن زَمعَة بن الْأسود، فَولدت لَهُ، وَأَبُو سَلمَة اسْمه عبد الله بن عبد الْأسد وَأمة برة بنت عبد الْمطلب، وَهَاجَر الهجرتين وَشهد بَدْرًا وَخرج يَوْم أحد فَمَاتَ مِنْهُ. وَذَلِكَ لثلاث مضين لجمادى الْآخِرَة سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْمهَا مِلَّة بِلَا خلاف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن يحيى بن بكير وَفِي النِّكَاح أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث بِهِ، وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي كريب وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَغَيره وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أنكح أُخْتِي) : أَي: تزوج، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (أنكح أُخْتِي عزة بنت أبي سُفْيَان) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ قَالَت: يَا رَسُول الله هَل لَك فِي أُخْتِي حمْنَة بنت أبي سُفْيَان، وَعند أبي مُوسَى فِي الذيل مَدَرَة بنت أبي سُفْيَان بِضَم الدَّال الْمُهْملَة، وَحكى عِيَاض عَن بعض رُوَاة مُسلم أَنه ضَبطهَا بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ تَصْحِيف. قَوْله: (أَو تحبين ذَلِك؟) هَذَا اسْتِفْهَام تعجب مَعَ مَا طبع عَلَيْهِ النِّسَاء من الْغيرَة. قَوْله: (بمخيلة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام اسْم فَاعل من الإخلاء مُتَعَدِّيا ولازما من أخليت بِمَعْنى خلوت من الضرة، وَالْمعْنَى: لست بمنفردة عَنْك وَلَا خَالِيَة من ضرَّة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: مَعْنَاهُ لم أجد خَالِيا من الزَّوْجَات، وَلَيْسَ هُوَ من قَوْلهم: امْرَأَة مخلية، أَي: خَالِيَة من الْأزْوَاج، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات بِلَفْظ الْمَفْعُول. قَوْله: (وَأحب) مُبْتَدأ مُضَاف إِلَى: من. قَوْله: (أُخْتِي) ، خَبره. قَوْله: (فِي خبر) كَذَا بِالتَّنْوِينِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَي: أَي خبر كَانَ؟ وَفِي رِوَايَة هِشَام: وَأحب من شركني فِيك أُخْتِي، وَعرف أَن المُرَاد بالخيرذاته، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن ذَلِك لَا يحل لي) . لِأَنَّهُ جمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَهَذَا كَانَ قبل علم أم حَبِيبَة بِالْحُرْمَةِ، أَو ظنت أَن جَوَازه من خَصَائِص النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن أَكثر حكم نِكَاحه يُخَالف أَحْكَام أنكحة الْأمة. قَوْله: (فَإنَّا نُحدث) ، بِضَم النُّون وَفتح الْحَاء وَالدَّال الْمُشَدّدَة على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة هِشَام: وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فوَاللَّه لقد أخْبرت) . قَوْله: (إِنَّك تُرِيدُ أَن تنْكح) ، وَفِي رِوَايَة هِشَام: بَلغنِي أَنَّك تخْطب. قَوْله: (فَقَالَ: إِنَّهَا) أَي: بنت أبي سَلمَة. قَوْله: (فِي حجري) ، خرج مخرج الْغَالِب، وإلاَّ فالربيبة حرَام مُطلقًا سَوَاء كَانَت فِي حجر زوج أمهَا أم لَا. قَوْله: (لابنَة أخي) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن حرمتهَا عَلَيْهِ بسببين وهما: كَونهَا ربيبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَونهَا بنت أَخِيه من الرَّضَاع. وَالْحكم يثبت بعلل شَتَّى. قَوْله: (وَأَبا سَلمَة) ، أَي: وأرضعت أَبَا سَلمَة، وَقدم الْمَفْعُول على الْفَاعِل، وَالْفَاعِل هُوَ ثويبة، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا عَن قريب. قَوْله: (فَلَا تعرضن) ، بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْعين وَكسر الرَّاء وبالنون الْخَفِيفَة: خطاب لجَماعَة النِّسَاء، ويروي (وَلَا تعرضن) ، بالنُّون الْمُشَدّدَة، خطاب لأم حَبِيبَة. قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (أريه) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: رأى أَبَا لَهب بعض أَهله فِي الْمَنَام. قَوْله: (بشر حيبة) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: على أسوء حَالَة، يُقَال: بَات الرجل بحيبة سوء أَي: بِحَالَة رَدِيئَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الحيبة والحوبة الْهم والحزن، وَوَقع فِي شرح السّنة لِلْبَغوِيِّ. بِفَتْح الْحَاء، ووقه عِنْد الْمُسْتَمْلِي بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة، أَي: فِي حَالَة خائبة من كل خير، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ تَصْحِيف. قلت: هَذَا أقرب من جِهَة الْمَعْنى وَلِهَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يروي بِالْمُعْجَمَةِ، وَحكى فِي الْمَشَارِق بِالْجِيم فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَلَا أَظُنهُ إلاَّ تصحيفا. قَوْله: (مَاذَا لقِيت) أَي: قَالَ الرَّائِي لأبي لَهب: مَاذَا لقِيت بعد موتك؟ قَوْله: (لم ألق بعدكم) كَذَا فِي الْأُصُول بِحَذْف الْمَفْعُول، وَعند عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ: لم ألق بعدكم رَاحَة، وَقَالَ ابْن بطال: سقط الْمَفْعُول من رِوَايَة البُخَارِيّ، وَلَا يَسْتَقِيم الْكَلَام إلاَّ بِهِ. قَوْله: (سقيت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي هَذِه) كلمة: هَذِه إِشَارَة. وَلم يبين الْمشَار إِلَيْهِ وَبَينه عبد الرَّزَّاق فِي رِوَايَته بِالْإِشَارَةِ إِلَى النقرة الَّتِي بَين الْإِبْهَام والمسبحة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَأَشَارَ إِلَى النقرة الَّتِي بَين الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا من الْأَصَابِع، وَحَاصِل الْمَعْنى إِشَارَة إِلَى حقارة مَا سقى من المَاء، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: سقِِي نقطة من مَاء فِي جَهَنَّم بِسَبَب ذَلِك، قَالَ: وَذَلِكَ أَنه جَاءَ فِي الصَّحِيح أَنه رثي فِي(20/94)
النّوم فَقيل لَهُ: مَا فعل رَبك هُنَاكَ؟ فَقَالَ: سقيت مثل هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى ظفر إبهامه. قَوْله: (بعتاقتي) أَي: بِسَبَب عتاقتي ثوبية، وعتاقة بِفَتْح الْعين، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: بعتقي، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ أوجه، وَالْوَجْه أَن يَقُول: بإعتاقي لِأَن المُرَاد التَّخَلُّص من الرّقّ. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قلت: مَعْنَاهُ التَّخَلُّص من الرّقية، فَالصَّحِيح أَن يُقَال: بإعتاقي. قلت: كل من النَّاقِل وَالْمَنْقُول مِنْهُ لم يحرر كَلَامه، فَإِن الْعتْق والعتاقة وَالْعتاق كلهَا مصَادر من عتق العَبْد، وَقَول النَّاقِل: وَهُوَ أوجه، غير موجه، لِأَن الْعتْق والعتاقة وَاحِد فِي الْمَعْنى، فَكيف يَقُول الْعتْق أوجه؟ ثمَّ قَوْله: وَالْأَوْجه أَن يَقُول: بإعتاقي لِأَن المُرَاد التَّخَلُّص من الرّقّ، كَلَام من لَيْسَ لَهُ وقُوف على كَلَام الْقَوْم، فَإِن صَاحب الْمغرب قَالَ: الْعتْق الْخُرُوج من المملوكية وَهُوَ التَّخَلُّص من الرّقية، وَقد يقوم الْعتْق مقَام الْإِعْتَاق الَّذِي هُوَ مصدر أعْتقهُ مَوْلَاهُ. وَفِي التَّوْضِيح: وَفِيه أَي: وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن الْكَافِر قد يعْطى عوضا من أَعماله الَّتِي يكون مِنْهَا قربَة لأهل الْإِيمَان بِاللَّه، كَمَا فِي حق أبي طَالب. غير أَن التَّخْفِيف عَن أبي لَهب أقل من التَّخْفِيف عَن أبي طَالب، وَذَلِكَ لنصرة أبي طَالب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياطته لَهُ وعداوة أبي لَهب لَهُ. وَقَالَ ابْن بطال: وَصَحَّ قَول من تَأَول فِي معنى الحَدِيث الَّذِي جَاءَ عَن الله تَعَالَى: إِن رَحمته سبقت غَضَبه، إِن رَحمته لاتنقطع عَن أهل النَّار المخلدين فِيهَا، إِذْ فِي قدرته أَن يخلق لَهُم عذَابا يكون عَذَاب النَّار لأَهْلهَا رَحْمَة وتخفيفا بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك الْعَذَاب وَمذهب الْمُحَقِّقين أَن الْكَافِر لَا يُخَفف عَنهُ الْعَذَاب بِسَبَب حَسَنَاته فِي الدُّنْيَا، بل يُوسع عَلَيْهِ بهَا فِي دُنْيَاهُ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن الْكفَّار لَا تنفعهم أَعْمَالهم وَلَا يثابون عَلَيْهَا بنعيم وَلَا تَخْفيف عَذَاب، وَلَكِن بَعضهم أَشد عذَابا بِحَسب جرائمهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا ينفع الْكَافِر الْعَمَل الصَّالح. إِذْ الرُّؤْيَا لَيست بِدَلِيل، وَعلي تَقْدِير التَّسْلِيم يحْتَمل أَن يكون الْعَمَل الصَّالح وَالْخَيْر الَّذِي يتَعَلَّق لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا، كَمَا أَن أَبَا طَالب أَيْضا ينْتَفع بتَخْفِيف الْعَذَاب. وَذكر السُّهيْلي أَن الْعَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لما مَاتَ أَبُو لَهب رَأَيْته فِي مَنَامِي بعد حول فِي شَرّ حَال، فَقَالَ: مَا لقِيت بعدكم رَاحَة إلاَّ أَن الْعَذَاب يُخَفف عني كل يَوْم اثْنَيْنِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد يَوْم الِاثْنَيْنِ وَكَانَت ثويبة بشرت أَبَا لَهب بمولده فَأعْتقهَا. وَيُقَال: إِن قَول عُرْوَة لما مَاتَ أَبُو لَهب: أريه بعض أَهله إِلَى آخِره خبر مُرْسل أرْسلهُ عُرْوَة وَلم يذكر من حَدثهُ بِهِ، وعَلى تَقْدِير أَن يكون مَوْصُولا فَالَّذِي فِي الْخَبَر رُؤْيا مَنَام فَلَا حجَّة فِيهِ، وَلَعَلَّ الَّذِي رَآهَا لم يكن إِذْ ذَاك أسلم بعد، فَلَا يحْتَج بِهِ. وَأجِيب ثَانِيًا: على تَقْدِير الْقبُول، يحْتَمل أَن يكون مَا يتَعَلَّق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا من ذَلِك بِدَلِيل قصَّة أبي طَالب حَيْثُ خفف عَنهُ. فَنقل من الغمرات إِلَى الضحضاح، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا التَّخْفِيف خَاص بِهَذَا وبمن ورد النَّص فِيهِ، وَالله أعلم. وَمن جملَة مَا يشْتَمل هَذَا على حُرْمَة الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بِلَا خلاف، وَاخْتلف فِي الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين، وكافة الْعلمَاء على التَّحْرِيم أَيْضا خلافًا لأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان: حرمتهما آيَة وأحلتهما آيَة، وَالْآيَة الْمحلة لَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأحل لكم ماوراء ذَلِكُم} (النِّسَاء: 42) وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد رُوِيَ الْمَنْع عَن عَمْرو عَليّ أَيْضا وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وعمار وَابْن عمر وَعَائِشَة وَابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمِمَّا يشْتَمل هَذَا أَيْضا على ثُبُوت حُرْمَة الرَّضَاع بَين الرَّضِيع والمرضعة، فَإِنَّهَا تصير بِمَنْزِلَة أمه من الْولادَة، وَيحرم عَلَيْهِ نِكَاحهَا أبدا وَيحل لَهُ النّظر إِلَيْهَا وَالْخلْوَة بهَا والمسافرة مَعهَا، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الأمومة من كل وَجه، فَلَا توارث وَلَا نَفَقَة وَلَا عتق بذلك بِالْملكِ وَلَا ترد شَهَادَته لَهَا وَلَا يعقل عَنْهَا وَلَا يسْقط عَنْهُمَا الْقصاص بِقَتْلِهِمَا، وَمن ذَلِك انتشار الْحُرْمَة بَين الْمُرضعَة وَأَوْلَاد الرَّضِيع وَبَين الرَّضِيع وَأَوْلَاد الْمُرضعَة وَحُرْمَة الرَّضَاع بَين الرَّضِيع وَزوج الْمُرضعَة وَيصير الرَّضِيع ولدا لَهُ وَأَوْلَاد الرجل إخْوَة الرَّضِيع، وإخوة الرجل أعمام الرَّضِيع وأخواته عماته وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَاد الرجل، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلاَّ أهل الظَّاهِر وَابْن علية فَإِنَّهُم قَالُوا بِحرْمَة الرَّضَاع بَين الرجل الرَّضِيع، كَذَا نَقله الْخطابِيّ وعياض عَنْهُمَا، وَزَاد الْخطابِيّ، ابْن الْمسيب.
12 - (بابُ مَنْ قل لَا رَضاعَ بعْدَ حَوْلَينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ: لَا رضَاع بعد سنتَيْن، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك عَامر الشّعبِيّ وَابْن شبْرمَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ(20/95)
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَهُوَ قَول مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى قَول الحنيفة: إِن أقْصَى مُدَّة الرَّضَاع ثَلَاثُونَ شهرا قلت: سُبْحَانَ الله! هَذَا نتيجة فكر صَاحبه نَائِم، وَمَا وَجه الْإِشَارَة فِي هَذَا إِلَى قَول الْحَنَفِيَّة؟ والترجمة مَا وضعت إلاَّ لبَيَان من قَالَ: لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ مُطلقًا، وَهُوَ أَعم من أَن يكون بعد الْحَوْلَيْنِ قَول الْحَنَفِيَّة أَو غَيرهم، وَتَخْصِيص الْحَنَفِيَّة بِالْجمعِ أَيْضا غير صَحِيح، لِأَن أَبَا يُوسُف ومحمدا للَّذين هما من أكبر أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة لم يَقُولَا بِالرّضَاعِ بعد الْحَوْلَيْنِ، وَالْإِمَام مَالك الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة رُوِيَ الْوَلِيد بن مُسلم عَنهُ: مَا كَانَ بعد الْحَوْلَيْنِ بِشَهْر أَو شَهْرَيْن يحرم، وَزفر الَّذِي هُوَ من أَعْيَان أَصْحَاب أبي حنيفَة قَالَ: مَا كَانَ يجتزىء بِاللَّبنِ وَلم يطعم، وَإِن أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاث سِنِين فَهُوَ رضَاع، وَالْأَوْزَاعِيّ، إِمَام أهل الشَّام، قَالَ: إِن فطم وَله عَام وَاحِد وَاسْتمرّ فطامه ثمَّ رضع فِي الْحَوْلَيْنِ لم يحرم هَذَا الرَّضَاع الثَّانِي شَيْئا وَإِن تَمَادى رضاعه.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { (2) حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 332)
ذكر هَذَا فِي معرض الِاحْتِجَاج لمن قَالَ: لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ، وَقَوله: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) وَأَقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فَبَقيَ للفطام حولان وَأَبُو حنيفَة يسْتَدلّ فيقوله: إِن مُدَّة الرَّضَاع ثَلَاثُونَ شهرا بقوله تَعَالَى: {فَإِن أَرَادَ فصالاً عَن تراضٍ مِنْهُمَا وتشاور} (الْبَقَرَة: 332) بعد قَوْله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} (الْبَقَرَة: 332) فَثَبت أَن بعد الْحَوْلَيْنِ رضَاع، فَلَا يُمكن قطع الْوَلَد عَن اللَّبن دفْعَة وَاحِدَة، فَلَا بُد من زِيَادَة مُدَّة يعْتَاد فِيهَا الصَّبِي مَعَ اللَّبن الْفِطَام، فَيكون غذاؤه اللَّبن تَارَة وَالطَّعَام أُخْرَى إِلَى أَن ينسى اللَّبن، وَأَقل مُدَّة تنْتَقل بِالْعَادَةِ سِتَّة أشهر اعْتِبَارا بِمدَّة الْحَبل فَإِن قلت: رُوِيَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْهَيْثَم بن جميل عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا رضَاع إلاَّ مَا كَانَ من حَوْلَيْنِ قلت: لم يسْندهُ عَن ابْن عُيَيْنَة غير الْهَيْثَم بن جميل، قَالَ ابْن عدي: يغلط على الثِّقَات وَأَرْجُو أَنه لَا يتَعَمَّد الْكَذِب، وَغَيره يوفقه على ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن بطال الرَّاوِي عَن الْهَيْثَم أَبُو الْوَلِيد بن برد الْأَنْطَاكِي وَهُوَ لَا يعرف، وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْهَيْثَم بن جميل وَثَّقَهُ الإِمَام أَحْمد وَالْعجلِي وَغير وَاحِد، وَكَانَ من الْحفاظ إلاَّ أَنه وهم فِي رفع هَذَا الحَدِيث، وَالصَّحِيح وَقفه على ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق. أخبرنَا معمر عَن عَمْرو عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ مَوْقُوفا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا على ابْن مَسْعُود عَليّ بن أبي طَالب، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ مَوْقُوفا على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا رضَاع إلاَّ فِي الْحَوْلَيْنِ فِي الصَّغِير.
وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَليلِ الرِّضاعِ وكَثِيرهِ
(وَمَا يحرم) عطف على قَوْله: من قَالَ أَي: فِي بَيَان مَا يحرم من التَّحْرِيم، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه مِمَّن يرى أَن قَلِيل الرَّضَاع وَكَثِيره سَوَاء فِي الْحُرْمَة، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول وطاووس وَالْحكم وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري لإِطْلَاق الْآيَة، وَهُوَ الْمَشْهُور عَن أَحْمد. وَقَالَت طَائِفَة: إِن الَّذِي يحرم مَا زَاد على الرضعة. ثمَّ اخْتلفُوا، فَعَن عَائِشَة: عشر رَضعَات، وعنها سبع رَضعَات، وعنها: خمس رَضعَات. وروى مُسلم عَنْهَا: كَانَ فِيمَا نزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات، ثمَّ نسخن بِخمْس رَضعَات مُحرمَات، فَتوفي رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهن مِمَّا يقْرَأ، وَإِلَى هَذَا ذهب الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَذهب أَحْمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد وَأَتْبَاعه إِلَّا ابْن حزم إِلَى أَن الَّذِي يحرم ثَلَاث رَضعَات، وَمذهب الْجُمْهُور أقوى لِأَن الْأَخْبَار اخْتلفت فِي الْعدَد فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَى أقل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم، وَقَول عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم لَا ينتهض حجَّة لِأَن الْقُرْآن لَا يثبت إلاَّ بالتواتر، والراوي رُوِيَ هَذَا على أَنه قُرْآن لَا خبر، فَلم يثبت كَونه قُرْآنًا، وَلَا ذكر الرَّاوِي أَنه خبر ليقبل قَوْله فِيهِ.
2015 - حدَّثنا أبُو اوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الأشْعَثِ عنْ أبِيهِ عنْ مَسْرُوق عنْ عائِشَةَ رضيَ(20/96)
الله عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ علَيْها وعِنْدَها رجُلٌ، فَكأنّهُ تَغَيَّرَ وجْهُهُ كأنّهُ كَرِهَ ذالِكَ، فقالَتْ: إنّهُ أخي، فَقَالَ: انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فإِنّما الرَّضاعَةُ مِنَ المَجاعَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 7462) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة) لِأَن التَّرْجَمَة فِي ذكر الرَّضَاع، وَحَدِيث الْبَاب يبين أَن الرضَاعَة تكون من المجاعة أَي الْجُوع.
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، والأشعث هُوَ ابْن أبي الشعْثَاء واسْمه سليم بن الْأسود الْمحَاربي الْكُوفِي، ومسروق بن الأجدع.
والْحَدِيث مر فِي الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن كثير، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رجل) لم يدر اسْمه، وَقيل بالتخمين: هُوَ ابْن أبي القعيس، وَمن قَالَ: هُوَ عبد الله بن يزِيد، فقد غلط لِأَنَّهُ تَابِعِيّ بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، وَكَانَت أمه أرضعت عَائِشَة، عاشت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فولدته فَلذَلِك قيل لَهُ: رَضِيع عَائِشَة قَوْله: (فَكَأَنَّهُ تغير وَجهه كَأَنَّهُ كره ذَلِك) وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَن أبي الْأَشْعَث: وَعِنْدِي رجل قَاعد، فَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِ وَرَأَيْت الْغَضَب فِي وَجهه، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة. فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَتغَير وَجهه. قَوْله: (إِنَّه أخي) وَفِي رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة: إِنَّه أخي من الرضَاعَة. قَوْله: (انظرن من إخوانكن) هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مَا إخوانكن، وَالْأول أوجه، مَعْنَاهُ: تحققن صِحَة الرضَاعَة ووقتهاد فَإِنَّمَا تثبت الْحُرْمَة إِذا وَقعت على شَرطهَا وَفِي وَقتهَا. قَوْله: (فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة) أَي: الْجُوع، يَعْنِي: الرضَاعَة الَّتِي تثبت بهَا الْحُرْمَة مَا تكون فِي الصغر حِين يكون الرَّضِيع طفْلا يسد اللَّبن جوعته، لِأَن معدته ضَعِيفَة يكفيها اللَّبن وينبت لَحْمه بذلك فَيصير كجزء من الْمُرضعَة، فَيكون كَسَائِر أَوْلَادهَا، وَهَذَا أَعم من أَن يكون قَلِيلا أَو كثيرا وَفِي رِوَايَة: فَإِنَّمَا الرضَاعَة عَن المجاعة، ويروي: أَو الْمطعم من المجاعة وَيُقَال: كَأَنَّهُ قَالَ: لَا رضاعة مُعْتَبرَة إلاَّ الْمُغنيَة عَن الْجُوع أَو المطعمة عَنهُ، وَمن شواهده حَدِيث ابْن مَسْعُود: لَا رضَاع إلاَّ مَا شدّ الْعظم وَأنْبت اللَّحْم، أخرجه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا مَوْقُوفا، وَحَدِيث أم سَلمَة: لَا يحرم من الرَّضَاع مَا فتق الأمعاء، أخرجه الرمذي وَصَححهُ وَيُمكن أَن يسْتَدلّ على أَن الرضعة الْوَاحِدَة لَا تحرم لِأَنَّهَا لَا تغني من جوع، فَإِذن يحْتَاج إِلَى تَقْدِير، فَأولى مَا يُؤْخَذ بِهِ مَا قدرته الشَّرِيعَة وَهُوَ خمس رَضعَات، قُلْنَا: هَذَا كُله زِيَادَة على مُطلق النَّص، لِأَن النَّص غير مُقَيّد بِالْعدَدِ وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ فَلَا يجوز، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن كل حَدِيث فِيهِ عدد مثل حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تحرم المصة وَلَا المصتان، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَنْهَا: لَا تحرم الْخَطفَة والخطفتان، وَقَالَ ابْن بطال: أَحَادِيث عَائِشَة كلهَا مضطربة فَوَجَبَ تَركهَا ولارجوع إِلَى كتاب الله تَعَالَى. وَرُوِيَ أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: قَوْلهَا: لَا تحرم الرضعة والرضعتان، كَانَ فَأَما الْيَوْم فالرضعة الْوَاحِدَة تحرم فَجعله مَنْسُوخا، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَوْلهَا: لَا تحرم الإملاجة وَلَا الإملاجتان.
22 - (بابُ لَبَنِ الفَحْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان لبن الْفَحْل، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْهَاء الْمُهْملَة أَي: الرجل، وَنسبَة اللَّبن إِلَيْهِ مجَاز لكَونه سَببا فِيهِ. وَاخْتلف فِيهِ فَقَالَ قوم: لبن الْفَحْل يحرم. وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس فِيمَا ذكره التِّرْمِذِيّ، وَقَول عَائِشَة فِيمَا ذكره ابْن عبد الْبر، وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وطاووس وَعَطَاء وَابْن شهَاب وَمُجاهد وَأَبُو الشعْثَاء وَجَابِر بن زيد وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَسَالم وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَهِشَام بن عُرْوَة على خلاف فِيهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر. وَقَالَ قوم: لَيْسَ لبن الْفَحْل بِمحرم، رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عمر وَجَابِر وَعَائِشَة على اخْتِلَاف عَنْهَا وَرَافِع بن خديج وَعبد الله بن الزبير، وَمن التَّابِعين قَول سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار وأخيه عَطاء بن يسَار وَمَكْحُول وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأبي قلَابَة وَإيَاس بن مُعَاوِيَة وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم وَالشعْبِيّ على خلاف عَنهُ، وَكَذَا الْحسن وَإِبْرَاهِيم بن علية وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد، وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد خِلَافه، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لم يقل أحد من أَئِمَّة الْفُقَهَاء وَأهل الْفَتْوَى بِإِسْقَاط حُرْمَة لبن الْفَحْل إلاَّ أهل الظَّاهِر وَابْن علية، وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد مُوَافقَة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. قلت: معنى لبن الْفَحْل يحرم أَنه يثبت حُرْمَة الرَّضَاع بَينه وَبَين الرَّضِيع(20/97)
وَيصير ولدا لَهُ، وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَاد الرجل، خلافًا لمن قَالَ: لبن الرجل لَا يحرم.
3015 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ: أنَّ أفْلَحَ أَخا أبي القُعَيْسِ جاءَ يَسْتأذِنُ علَيْها وهْوَ عَمّتُها مِنَ الرَّضاعَةِ بَعْدَ أنْ نَزَلَ الحِجابُ فأبَيْتُ أنْ آذَنَ لهُ، فلمّا جاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرْتُهُ بالّذي صَنَعْتُ، فأمَرَني أنْ آذَنَ لهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ثُبُوت الْحُرْمَة بَين عَائِشَة وَبَين أَفْلح الْمَذْكُور الَّذِي هُوَ عَمها من الرَّضَاع، فَلذَلِك أذن لَهَا بِدُخُول أَفْلح عَلَيْهَا، وَقَالَ إِنَّه عمك، لما قَالَت: إِنَّمَا أرضعتني الْمَرْأَة وَلم يرضعني الرجل، كَذَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، فَدلَّ على أَن مَاء الرجل يحرم.
والْحَدِيث مُضِيّ فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونذكره هَهُنَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ وأوضح.
فَقَوله: (إِن أَفْلح أَخا أبي القعيس) ، كَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَفْلح بن أبي القعيس، وَفِي رِوَايَة لَهُ وللنسائي قَالَت: اسْتَأْذن وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: قَالَ اسْتَأْذن عَلَيْهَا أَبُو القعيس، وَفِي رِوَايَة لَهُ وللنسائي، قَالَت: اسْتَأْذن عَليّ عمي من الرضَاعَة أَبُو الجعيد، فرددته، قَالَ هِشَام: إِنَّمَا هُوَ أَبُو القعيس. وَالصَّوَاب أَنه أَفْلح وكنيته أَبُو الجعيد، وَهُوَ أَخُو أبي القعيس، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهم: هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَمَا سوى ذَلِك وهم من بعض الروَاة، وَلَا يعرف لأبي القعيس وَلَا لِأَخِيهِ أَفْلح ذكر إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث، وَيُقَال: إنَّهُمَا من الْأَشْعَرِيين، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، قَالَت: جَاءَ عمي من الرضَاعَة، ذكرته مُبْهما، وأفلح، بِفَتْح الْهمزَة وَاللَّام وَسُكُون الْفَاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَأَبُو القعيس، بِضَم الْقَاف وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة. قَوْله: (وَهُوَ عَمها من الرضَاعَة) فِيهِ الْتِفَات، وَكَانَ الْقيَاس يقتضى أَن تَقول: وَهُوَ عمي، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة ثوبت العمومة لأفلح هَذَا فَزعم بَعضهم مِمَّن رأى أَن لبن الْفَحْل لَا يحرم أَن أَفْلح هَذَا رضع مَعَ أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَانَ عَمَّا لعَائِشَة من الرضَاعَة. وَهَذَا خطأ يردهُ مَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن عَائِشَة، قَالَت: إِنَّمَا أرضعتني الْمَرْأَة وَلم يرضعني الرجل، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالصَّوَاب أَن عَائِشَة ارتضعت من امْرَأَة أبي القعيس، وأفلح أَخُوهُ فَصَارَ عَمها من الرضَاعَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: جَاءَ أَفْلح أَخُو أبي القعيس يسْتَأْذن عَلَيْهَا وَكَانَ أَبُو القعيس أَبَا عَائِشَة من الرضَاعَة وَفِي رِوَايَة لَهُ: وَكَانَ أَبُو القعيس زوج الْمَرْأَة الَّتِي أرضعت عَائِشَة. قَوْله: (جَاءَ يسْتَأْذن عَلَيْهَا) فِيهِ دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة الاسْتِئْذَان. وَلَو فِي حق الْمحرم، لجَوَاز أَن تكون الْمَرْأَة على حَال لَا يحل للْمحرمِ أَن يَرَاهَا عَلَيْهِ. قَوْله: (بعد أَن نزل الْحجاب) فِيهِ أَنه يجوز للْمَرْأَة أَن تَأذن للرجل الَّذِي لَيْسَ بِمحرم لَهَا فِي الدُّخُول عَلَيْهَا، وَيجب عَلَيْهَا الاحتجاب مِنْهُ بِالْإِجْمَاع، وَمَا ورد من بروز النِّسَاء فَإِنَّمَا كَانَ قبل نزُول الْحجاب، وَكنت قصَّة أَفْلح مَعَ عَائِشَة بعد نزُول الْحجاب، كَمَا صرح بِهِ هُنَا. قَوْله: (فأبيت) أَي: امْتنعت، فِيهِ دَلِيل على أَن الْأَمر المتردد فِيهِ التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة لَيْسَ لمن لم يتَرَجَّح عِنْده أحد الطَّرفَيْنِ الْإِقْدَام عَلَيْهِ، خُصُوصا بعد نزُول الْحجاب، وَتردد عَائِشَة فِيهِ هَل هُوَ محرم فتأذن لَهُ؟ أَو لَيْسَ بِمحرم فتمنعه؟ فامتنعت تَغْلِيبًا للتَّحْرِيم على الْإِبَاحَة. قَوْله: (فَأمرنِي أَن آذن لَهُ) وَفِي رِوَايَة شُعَيْب الْمَاضِيَة فِي الشَّهَادَات: إئذني لَهُ فَإِنَّهُ عمك تربت يَمِينك، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: يداك أَو يَمِينك، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة: إِنَّه عمك فليلج عَلَيْك، وَفِي رِوَايَة الحكم: صدق أَفْلح إئذني لَهُ.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على أَن من ادّعى الرَّضَاع وَصدقه الرَّضِيع يثبت حكم الرَّضَاع بَينهمَا فَلَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة لِأَن أَفْلح ادَّعَاهُ وصدقته عَائِشَة وَأذن الشَّارِع بِمُجَرَّد ذَلِك، ورد هَذَا بِاحْتِمَال أَن الشَّارِع اطلع على ذَلِك من غير دَعْوَى أَفْلح وَتَسْلِيم عَائِشَة، وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على أَن قَلِيل الرَّضَاع يحرم كَمَا يحرم كَثِيره. وَقَالَ بَعضهم: وألزم بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث الْحَنَفِيَّة الْقَائِلين: إِن الصَّحَابِيّ إِذا رُوِيَ حَدِيثا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَحَّ عَنهُ، ثمَّ صَحَّ عَنهُ الْعَمَل بِخِلَافِهِ، أَن الْعَمَل بِمَا رأى لَا بِمَا روى، لِأَن عَائِشَة صَحَّ عَنْهَا أَن الِاعْتِبَار بِلَبن الْفَحْل، وَأخذ الْجُمْهُور مِنْهُم الْحَنَفِيَّة بِخِلَاف ذَلِك وَعمِلُوا بروايتها فِي قصَّة أخي أبي القعيس وحرموا بِلَبن الْفَحْل، وَكَانَ يلْزمهُم على قاعدتهم أَن يتبعوا عَائِشَة ويعرضوا عَن رِوَايَتهَا، وَهَذَا إِلْزَام قوي انْتهى. قلت: لَو علم هَذَا الْقَائِل مدرك مَا قالته الْحَنَفِيَّة فِي ذَلِك لما صدر مِنْهُ(20/98)
هَذَا الْكَلَام، وَلَكِن عدم الْفَهم وأريحية العصبية يحْملَانِ الرجل على أَن أخبط من هَذَا، وَقَاعِدَة أَصْحَابنَا فِيمَا قَالُوهُ لَيست على الْإِطْلَاق بل هِيَ لَا يَخْلُو الصَّحَابِيّ فِي عمله بِمَا رأى لَا بِمَا رُوِيَ أَنه إِن كَانَ عمله أَو فتواه قبل الرِّوَايَة أَو قبل بُلُوغه إِلَيْهِ كَانَ الحَدِيث حجَّة، وَإِن كَانَ بعد ذَلِك لم يكن حجَّة، لِأَنَّهُ ثَبت عِنْده أَنه مَنْسُوخ، فَلذَلِك عمل بِمَا رَآهُ لَا بِمَا رَوَاهُ، على أَن ابْن عبد الْبر قد ذكر أَن عَائِشَة أَيْضا كَانَت مِمَّن حرم لبن الْفَحْل.
32 - (بابُ شَهادَةِ المُرْضِعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَهَادَة الْمُرضعَة بِالرّضَاعِ وَحدهَا، وَفِيه خلاف، فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وطاووس جَوَاز شَهَادَة وَاحِدَة فِيهِ إِذا كَانَت مُرْضِعَة، وتستحلف مَعَ شهادتها، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ، وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ: إِنَّه أجَاز شَهَادَة امْرَأَة وَاحِدَة فِي ذَلِك إِذا شهِدت قبل أَن تتزوجه، فَأَما بعده فَلَا وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه: لَا يقبل فِي ذَلِك إِلَّا شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَقَالَ مَالك: تقبل شَهَادَة امْرَأتَيْنِ دون رجل، وَبِه قَالَ الحكم، وَقَالَت طَائِفَة: لَا يقبل فِي ذَلِك أقل من أَربع نسْوَة، رُوِيَ ذَلِك عَن عَطاء وَالشعْبِيّ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
4015 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ أخبرنَا أيُّوبُ عنْ عَبْدِ الله بن أبي مُلَيْكَةَ قَالَ: حدّثني عُبَيْدُ بنُ أبي مَرْيَمَ عنْ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ قَالَ: وقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ لكنِّي لِحَديثِ عُبَيْدٍ أحْفَظُ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأةً فَجَاءَتْنا امْرَأَةً فجاءَتْنَا امْرَأَةً سَوْدَاءٌ، فقالَتْ: أرْضَعْتُكُما فأتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ بِنْتُ فُلاَنٍ فجاءَتْنَا امْرَأةً سَوْداءٌ فقالَتْ لِي: إنِّي قدْ أرْضَعْتُكُما، وهْيَ كاذِبَةٌ، فأعْرَضَ عَنِّي فأتَيْتُهُ مِنْ قَبْلِ وجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كاذِبَة. قَالَ: كَيْفَ بِها وقَدْ زَعَكَتْ أَنَّهَا قَدْ أرْضَعْتُكُما؟ دَعْها عَنْكَ. وأشَارَ إسْماعِيلُ بإِصْبَعيْهِ السَّبَابَةِ والوُسْطَى يَحْكِي أيُّوبَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (كَيفَ بهَا) ؟ إِلَى آخِره، وَبِه أَخذ اللَّيْث وَقَالَ يجواز شَهَادَة الْمُرضعَة.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، وَهِي أمه وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ وَعبيد بن أبي مَرْيَم الْمَكِّيّ مَاله فِي الصَّحِيح غير هَذَا الحَدِيث، وَذكره ابْن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين، وَعقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف ابْن الْحَارِث الْقرشِي الْمَكِّيّ الصَّحَابِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي بَاب الرحلة وَفِي كتاب الشَّهَادَات أَيْضا فِي: بَاب شَهَادَة الْإِمَاء وَالْعَبِيد.
قَوْله: (قَالَ: وَقد سمعته) أَي: قَالَ عبد الله بن أبي مليكَة: سَمِعت هَذَا الحَدِيث من عقبَة بن الْحَارِث، والاعتماد على سَمَاعه مِنْهُ. قَوْله: (تزوجت امْرَأَة) وَهِي أم يحيى بنت أبي إهَاب، بِكَسْر الْهمزَة، التَّمِيمِي. قَوْله: (امْرَأَة سَوْدَاء) وَلم يدر اسْمهَا. قَوْله: (فَأَعْرض عني) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فَأَعْرض عَنهُ، بطرِيق الِالْتِفَات. قَوْله: (من قبل وَجهه) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (كَيفَ بهَا) استبعاد مِنْهُ أَي: وَكَيف تَجْتَمِع بهَا بعد أَن قيل هَذَا. قَوْله: (دعها) أَي: اتركها وَهُوَ أَمر من يدع أمره بِالتّرْكِ وَالْأَخْذ بالورع وَالِاحْتِيَاط لَا على الْإِيجَاب، وَرُوِيَ ابْن مهْدي بِإِسْنَادِهِ عَن رجل من بني عبس، قَالَ: سَأَلت عليا وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن رجل تزوج امْرَأَة فَجَاءَت امْرَأَة فَزَعَمت أَنَّهَا أرضعتهما، فَقَالَا: ينزه عَنْهَا فَهُوَ خير، وَإِمَّا أَن يحرمها عَلَيْهِ أحد فَلَا، وَقد قَالَ زيد بن أسلم: إِن عمر بن الْخطاب لم يجز شَهَادَة امْرَأَة وَاحِدَة فِي الرَّضَاع. قَوْله: (وَأَشَارَ إِسْمَاعِيل) هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الرَّاوِي، قَوْله: (بِأُصْبُعَيْهِ) يَعْنِي أَشَارَ بهما حِكَايَة عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ فِي إِشَارَته إِلَى الزَّوْجَيْنِ.
42 - (بابُ مَا يَحلُّ مِنَ النِّساءِ وَمَا يَحْرُمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحل نِكَاحه من النِّسَاء وَمَا لَا يحل.(20/99)
وقَوْلِهِ تَعَالَى: { (4) حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم. . وأخواتكم وعماتكم وخلاتكم وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت} (النِّسَاء: 32) الْآيَة إِلَى قوْلِهِ { (4) إِن الله كَانَ عليما حكميا} (النِّسَاء: 42)
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: مَا يحل، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة كريمه، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} (النِّسَاء: 32) الْآيَة إِلَى {عليما حكيما} (النِّسَاء: 42) قَوْله: الْآيَة، وَفِي بعض النّسخ: الْآيَتَيْنِ، لِأَن من قَوْله {حرمت} (النِّسَاء: 32) إِلَى قَوْله: {عليما حكيما} (النِّسَاء: 42) آيَتَيْنِ الأولى من {حرمت عَلَيْكُم} (النِّسَاء: 32) إِلَى قَوْله {إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} (النِّسَاء: 32) وَالثَّانيَِة من قَوْله {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} إِلَى قَوْله {إِن الله كَانَ عليما حكيما} (النِّسَاء: 42) وَقد بَين الله تَعَالَى هُنَا الْمُحرمَات من النِّسَاء وَهن أَربع عشرَة امْرَأَة: سبع من نسب وَسبع بِسَبَب، فالسبع الَّتِي من نسب هِيَ قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} إِلَى قَوْله {وَبَنَات الْأُخْت} (النِّسَاء: 32) الأولى: الْأُمَّهَات وَالْمرَاد بهَا الوالدات وَمن فوقهن من الْجدَّات من قبل الْأُمَّهَات والآباء، الثَّانِيَة: الْبَنَات وَالْمرَاد بهَا بَنَات الأصلاب وَمن أَسْفَل مِنْهُنَّ من بَنَات الْأَبْنَاء وَالْبَنَات، وَإِن سفلن الثَّالِثَة: الْأَخَوَات وَالْمرَاد الشقيقات وغيرهن من الْآبَاء والأمهات. الرَّابِعَة: العمان وَالْمرَاد أَخَوَات الْآبَاء وأخوات الأجداد وَإِن علون. الْخَامِسَة: الخالات وَهِي أَخَوَات الْأُمَّهَات الوالدات لآبائهن وأمهاتهن. السَّادِسَة: بَنَات الْأَخ من الْأَب وَالأُم أَو من الْأَب أَو من الْأُم. وَبَنَات بناتهن وَإِن سفلن. السَّابِعَة: بَنَات الْأُخْت، كَذَلِك من أَي جِهَة كن، وَأَوْلَاد أَوْلَادهنَّ وَإِن سفلن. وَإِمَّا السَّبع الَّتِي من جِهَة السَّبَب فَهِيَ من قَوْله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} (النِّسَاء: 42) إِلَى آخر الْآيَة، وَالْمرَاد الْأُم الْمُرضعَة وَمن فَوْقهَا من أمهاتهاوإن بعدن وَقَامَ ذَلِك مقَام الوالدة ومقام أمهاتها وَالْأُخْت من الرَّضَاع الَّتِي أرضعتها أمك بلبان أَبِيك سَوَاء أرضعتها مَعَك أَو مَعَ ولد قبلك، أَو بعْدك. وَالْأُخْت من الْأَب دون الْأُم وَهِي الَّتِي أرضعتها زَوْجَة أَبِيك بلبان أَبِيك، وَالْأُخْت من الْأُم دون الْأَب وَهِي الَّتِي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر، وَأم الْمَرْأَة حرَام عَلَيْهِ دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا، وَهُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء، وَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُجاهد وَعِكْرِمَة: لَهُ أَن يتَزَوَّج قبل الدُّخُول بهَا، والربيبة وَهِي بنت امْرَأَة الرجل من غَيره، وَإِنَّمَا تحرم بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ، وَلَا تحرم بِمُجَرَّد العقد، وَذكر الْحجر بطرِيق الْأَغْلَب لَا على الشَّرْط، وحليلة الابْن أَي: زَوجته، وَإِنَّمَا قَالَ من أصلابكم تَحَرُّزًا عَن زَوْجَات المتبني، وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حرتين كَانَت أَو أمتين وطئتا فِي عقد وَاحِد فِي حَال الْحَيَاة، وَحكي عَن دَاوُد أَنه جوز ذَلِك بِملك الْيَمين، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
وَقَالَ أنَسٌ { (4) وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} ذَوَات الْأزْوَاج الْحَرَائِر حرَام { (4) إلاَّ مَا ملَكَتْ أيْمانُكُمْ} (النِّسَاء: 42) لَا يَرَى بَأْسا أنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ جارِيتَهُ منْ عَبْدِهِ
أَي: قَالَ أنس بن مَالك فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات} أَي: النِّسَاء الْمُحْصنَات اللَّاتِي لَهُنَّ أَزوَاج حرَام إلاَّ بعد طَلَاق أَزوَاجهنَّ وانقضاء الْعدة مِنْهُنَّ، وَقيل: الْمُحْصنَات أَي العفائف حرَام إلاَّ بعد النِّكَاح، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: أصبْنَا سَبَايَا يَوْم أَوْطَاس لَهُنَّ أَزوَاج، فكرهنا أَن نقع عَلَيْهِنَّ، فسألنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَوْله: (إِلَّا مَا ملكت) يعي إلاَّ الْأمة الْمُزَوجَة بِعَبْد، فَإِن لسَيِّده أَن يَنْزِعهَا من تَحت نِكَاح زَوجهَا. قَوْله: (وَلَا يرى بهَا) أَي: فِيهَا (بَأْسا) أَي: حرجا (أَن ينْزع الرجل جَارِيَته من عِنْده) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: جَارِيَة من عَبده.
وَقَالَ { (2) وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122)
أَي: قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) أَي: لَا تتزوجوهن حَتَّى يُؤمن بِاللَّه، وقرىء بِضَم التَّاء أَي: وَلَا تزوجوهن، وَالْمرَاد بالمشركات الحربيات، وَالْآيَة ثَابِتَة، وَقيل: المشركات الكتابيات والحربيات أهل الْكتاب من أهل الشّرك لقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} (التَّوْبَة: 03) وَهِي مَنْسُوخَة بقوله: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} (الْمَائِدَة: 5) .
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ، مَا زَادَ علَى أرْبَعٍ فهْوَ حرامٌ كأُمِّهِ وابْنَتِه وأُخْتِه(20/100)
أَي: مَا زَاد على أَربع نسْوَة، وَهَذَا وَصله إِسْمَاعِيل بن زِيَاد فِي تَفْسِيره عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك مِنْهُ.
5015 - وَقَالَ لَنا أحْمَدُ بنُ حنْبلٍ: حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ سُفْيانَ حدّثني حَبِيبُ عَن سَعِيدٍ عَن ابْن عبّاسٍ: حَرُمَ مِنَ النَّسَب سبْعٌ ومِنَ الصِّهْرِ سبْعٌ، ثُمَّ قرَأ { (4) حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} (النِّسَاء: 32) الْآيَة.
قَوْله: (قَالَ لنا أَحْمد بن حَنْبَل) وَهُوَ الإِمَام الْمَشْهُور، وَأخذ البُخَارِيّ عَنهُ هُنَا مذاكرة. وَلم يقل: حَدثنَا وَلَا أخبرنَا، وَرُوِيَ عَن أَحْمد بن الْحسن التِّرْمِذِيّ عَنهُ حَدِيثا وَاحِدًا فِي آخر الْمَغَازِي فِي مُسْند بُرَيْدَة قَوْله: إِنَّه غزا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتّ عشرَة غَزْوَة، وَقَالَ فِي كتاب الصَّدقَات: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ حَدثنَا أبي حَدثنَا ثُمَامَة: الحَدِيث، ثمَّ قَالَ عقيبة: وَزَادَنِي أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ هُنَا: قَالَ أَحْمد، رُوِيَ عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن سعيد بن جُبَير.
قَوْله: (حرم) ، أَي: حرم من النّسَب سبع نسْوَة وَمن الصهر كَذَلِك والصهر وَاحِد الأصهار وهم أهل بَيت الْمَرْأَة، وَمن الْعَرَب من يَجْعَل الصهر من الأحماء والأختان جَمِيعًا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْأخْتَان من قبل الْمَرْأَة، والأحماء من قبل الرجل: والصهر يجمعهما وخان الرجل إِذا تزوج إِلَيْهِ قيل: الْآيَة لَا تدل على السَّبع الصهري. وَأجِيب بِأَنَّهُ اقْتصر على ذكر الْأُمَّهَات وَالْبَنَات لِأَنَّهُمَا كالأساس مِنْهُنَّ. وَهَذَا بترتيب مَا فِي الْقُرْآن من النّسَب. وَقيل: مَا فَائِدَة ذكر الْأُخْتَيْنِ بعْدهَا؟ وَأجِيب: الْإِشْعَار بِأَن حرمتهما لَيست مُطلقًا ودائما كالأصل وَالْفرع، عِنْد الْجمع. وَلم يذكر الْأَرْبَعَة الْأُخْرَى لِأَن حكمهن يعلم من الْأُخْتَيْنِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِمَا لِأَن عِلّة حرمتهما الْجمع الْمُوجب لقطيعة الرَّحِم، وَذَلِكَ حَاصِل فيهمَا.
وقَدْ جَمَعَ عبْدُ الله بنُ جعفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عليٍّ وامْرَأةِ علِيٍّ
أَي: قد جمع عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب بَين ابْنة عَليّ بن أبي طَالب وَامْرَأَته ليلى بنت مَسْعُود، فكانتا عِنْده جَمِيعًا. وَفِي حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنِي غير وَاحِد أَن عبد الله بن جَعْفَر جمع بَين امْرَأَة عَليّ وَابْنَته، ثمَّ مَاتَت بنت عَليّ فَتزَوج عَلَيْهَا بِنْتا لَهُ أُخْرَى قَالَ: وَحدثنَا قبيصَة عَن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مهْرَان، قَالَ: جمع ابْن جَعْفَر بن أبي طَالب بَين بنت عَليّ وَامْرَأَته فِي لَيْلَة، وَعند ابْن سعد من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن مهْرَان أَن ابْن جَعْفَر تزوج زَيْنَب بنت عَليّ وَتزَوج مَعهَا امْرَأَته ليلى بنت مَسْعُود، وَقَالَ ابْن سعد: فَلَمَّا توفيت زَيْنَب تزوج بعْدهَا أم كُلْثُوم بنت عَليّ بنت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَقَالَ ابنُ سِيرِين: لَا بأْسَ بهِ وكَرهَهُ الحَسَنُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: لَا بأْسَ بهِ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَا بَأْس بِهَذَا الْجمع، وَقَالَ الْقَاسِم بن سَلام: حَدثنَا أسماعيل بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ لَا يرى بذلك بَأْسا، وَقَالَ الْقَاسِم، وَكَذَلِكَ قَول سُفْيَان. وَأهل الْعرَاق لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا، وَلَا أَحْسبهُ إلاَّ قَول أهل الْحجاز وَكَذَلِكَ هُوَ عندنَا، وَلَا أعلم أحدا كرهه إلاَّ شَيْئا يروي عَن الْحسن ثمَّ رَجَعَ عَنهُ. قلت: أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ بقوله: (وَكَرِهَهُ الْحسن مرّة ثمَّ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ) وَقَالَ ابْن بطال قَالَ ابْن أبي ليلى: لَا يجوز هَذَا النِّكَاح، وَكَرِهَهُ عِكْرِمَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت رُجُوع الْحسن عَنهُ وَأَجَازَهُ أَكثر أهل الْعلم. وَفعل ذَلِك صَفْوَان بن أُميَّة، وأباحه بن سِيرِين وَسليمَان بن يسَار وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق والكوفيون وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ مَالك: لَا أعلم ذَلِك حَرَامًا، وَبِه نقُول، وَفِي الْإِسْنَاد إِلَى عِكْرِمَة فِي كَرَاهَته مقَال.
وجَمَعَ الحَسَنُ بنُ الحَسنِ بنِ علِيٍّ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍ فِي لَيْلةٍ
أَي: جمع الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو عبيد بن سَلام فِي كتاب النِّكَاح تأليفه: عَن حجاج عَن ابْن جريج أَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار أَن الْحسن بن مُحَمَّد أخبرهُ: أَن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بني فِي لَيْلَة وَاحِدَة(20/101)
ببنت مُحَمَّد بن عَليّ وببنت عمر بن عَليّ، فَجمع بَينهمَا، يَعْنِي: بَين ابْنَتي الْعم، وَأَن مُحَمَّد بن عَليّ قَالَ: هُوَ أحب إِلَيْنَا مِنْهُمَا، مَا يَعْنِي ابْن الْحَنَفِيَّة، قَالَ ابْن بطال: وَكَرِهَهُ مَالك وَلَيْسَ بِحرَام، إِنَّمَا هُوَ لأجل القطيعة، قَالَ: وَهُوَ قَول عَطاء وَجَابِر بن زيد، وَفِي المُصَنّف: عَن عَطاء يكره الْجمع بَينهمَا لفساد بَينهمَا. وَكَذَا ذكره عَن الْحسن، وَحدثنَا ابْن نمير عَن سُفْيَان حَدثنِي خَالِد الفأفاء عَن عِيسَى بن طَلْحَة، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينْكح الْمَرْأَة على قرابتها مَخَافَة القطيعة.
وكَرِهَهُ جابِرُ بنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ، ولَيْسَ فِيهِ تحْرِيمٌ لقَوْلِهِ تَعَالَى: { (4) وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} (النِّسَاء: 42)
أَي: كره هَذَا النِّكَاح الْمَذْكُور جَابر بن زيد أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ اليحمدي الجوفي بِالْجِيم نَاحيَة عمان الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. قَوْله: (للقطعية) أَي: لوُقُوع التنافس بَينهمَا فِي الحظوة عِنْد الزَّوْج، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى قطيعة الرَّحِم. قَوْله: (وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيم) من كَلَام البُخَارِيّ، وَقد صرح بِهِ قَتَادَة قبله.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَباسٍ: إِذا زَنَى بأُخْتِ امْرَأتِه لَمْ تَحْرُمْ علَيْهِ امْرَأتُهُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن هِشَام عَن قيس بن سعد عَن عَطاء، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا حرم الله الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بِالنِّكَاحِ خَاصَّة لَا بِالزِّنَا، أَلا ترى أَنه يجوز نِكَاح وَاحِدَة بهد أُخْرَى من الْأُخْتَيْنِ وَلَا يجوز ذَلِك فِي الْمَرْأَة وابنتها من غَيره، والكوفيون على أَنه إِذا زنى بِالْأُمِّ حرم عَلَيْهِ بنتهَا، وَكَذَا عَكسه وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: إِنَّه يحرم عَلَيْهِ ابْنَتهَا وَأمّهَا. وَهِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة وَخَالف فِيهِ ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَرَبِيعَة وَاللَّيْث، فَقَالُوا: الْحَرَام لَا يحرم حَلَالا. وَهُوَ قَوْله: فِي (الْمُوَطَّأ) ، ويه قَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر.
ويُرْوَى عنْ يَحْيَى الكِنْديِّ عنِ الشَّعْبِيِّ وَأبي جعْفَرٍ فِيمَنْ يلْعبُ بالصَّبِيِّ إِنْ أدخلَهُ فِيه فَلا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ، ويَحْيَى هاذا غيْرُ مَعْرُوفٍ لَمْ يُتابَعْ علَيْهِ
يحيى هَذَا هُوَ ابْن قيس الْكِنْدِيّ، رُوِيَ عَن شُرَيْح وَرُوِيَ عَنهُ أَبُو عوَانَة وَشريك الثَّوْريّ، وَقَول البُخَارِيّ: وَيحيى هَذَا غير مَعْرُوف أَي غير مَعْرُوف الْعَدَالَة وإلاَّ فاسم الْجَهَالَة ارْتَفع عَنهُ بِرِوَايَة هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَابْن أبي حَاتِم وَلم يذكرَا فِيهِ جرحا، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات على عَادَته فِيمَن لم يجرح. قَوْله: (عَن الشّعبِيّ) هُوَ عَامر بن شرَاحِيل. قَوْله: (وَأبي جَعْفَر) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي: وَابْن جَعْفَر. وَالْأول هُوَ الْمُعْتَمد، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن الْمهْدي عَن الْمُسْتَمْلِي كالجماعة. وَهَكَذَا وَصله وَكِيع عَن سُفْيَان عَن يحيى. قَوْله: (فِيمَن يلْعَب بِالصَّبِيِّ إِن أدخلهُ فِيهِ) أَرَادَ بِهِ إِذا لَاطَ بِهِ فَلَا يتزوجن أمه، يَعْنِي: تحرم عَلَيْهِ، الْحَاصِل أَنه يثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة. وَقَالَ ابْن بطال: أما تَحْرِيم النِّكَاح باللواطة فأصحاب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ لَا يحرمُونَ بِهِ شَيْئا، وَقَالَ الثَّوْريّ: إِذا لعب بِالصَّبِيِّ خرمت عَلَيْهِ أمه. وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل، قَالَ: إِذا تلوط بِابْن امْرَأَته أَو أَبِيهَا أَو أُخْتهَا حرمت عَلَيْهِ امْرَأَته، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِذا لَاطَ غُلَام بِغُلَام وَولد للمفجور بِهِ بنت لم يجز لِلْفَاجِرِ أَن يتَزَوَّج بهَا لِأَنَّهَا بنت من قد دخل هُوَ بِهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبّاسٍ: إِذَا زَنَى بِها لاَ تَحْرُمْ علَيْهِ امْرَأتُهُ
أَي: قَالَ عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس عَن مَوْلَاهُ ابْن عَبَّاس: إِذا زنى رجل بِأم امْرَأَته لَا تحرم عَلَيْهِ امْرَأَته، وَوَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة بِلَفْظ: فِي رجل غشي أم امْرَأَته لَا تحرم عَلَيْهِ امْرَأَته.
ويُذْكَرُ عنْ أبي نَصْرٍ أنَّ ابنَ عبّاسٍ حَرَّمَهُ، وأبُو نَصْرٍ هاذا لمْ يُعْرَفْ سمَاعهُ مِنِ ابنِ عبَّاسٍ
أَبُو نصر هَذَا بِسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة يذكر عَنهُ أَن ابْن عَبَّاس حرمه أَي: حرم العقد الَّذِي بَينه وَبَين امْرَأَته بِوَطْء أمهَا، وَوَصله الثَّوْريّ فِي جَامعه من طَرِيقه وَلَفظه: أَن رجلا قَالَ إِنَّه أصَاب أم امْرَأَته، فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: حرمت عَلَيْك امْرَأَتك،(20/102)
وَذَلِكَ بعد أَن ولدت مِنْهُ سَبْعَة أَوْلَاد كُلهنَّ بلغ مبلغ الرِّجَال. قَوْله: (وَأَبُو نصر) هَذَا لم يعرف سَمَاعه عَن ابْن عَبَّاس، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن الْمهْدي عَن الْمُسْتَمْلِي: لَا يعرف بِسَمَاعِهِ، وَعدم الْمعرفَة بِسَمَاعِهِ عَن ابْن عَبَّاس هُوَ قَول البُخَارِيّ، وعرفه أَبُو زرْعَة بِأَن أسدي وَأَنه ثِقَة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سَأَلَهُ عَن قَوْله عز وَجل: {وَالْفَجْر وليال عشر} (الْفجْر: 1 2) انْتهى. فَإِن كَانَت الطَّرِيق إِلَيْهِ صَحِيحَة فَهُوَ يرد قَول البُخَارِيّ، وَلَا شكّ أَن عدم معرفَة البُخَارِيّ بِسَمَاعِهِ من ابْن عَبَّاس لَا تَسْتَلْزِم نفي معرفَة غَيره بِهِ عل أَن الْإِثْبَات أولى من النَّفْي.
ويُرْوَى عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْن وجابِر بنِ زَيْدٍ والحَسَنِ وبَعْضِ أهْلِ العِراقِ، وَقَالَ: تَحْرُمُ علَيْهِ
عمرَان بن الْحصين: بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، وَجَابِر بن زيد التَّابِعِيّ، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَبَعض أهل الْعرَاق مثل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، فكلهم يَقُولُونَ: إِن من وطىء أم امْرَأَته تحرم عَلَيْهِ امْرَأَته، أما قَول عمرَان بن حُصَيْن فوصله عبد الرَّزَّاق من طَرِيق الْحسن الْبَصْرِيّ عَنهُ، قَالَ: من فجر بِأم امْرَأَته حرمتا عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَأما قَول جَابر بن زيد وَالْحسن فوصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق قَتَادَة عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ جَابر بن زيد وَالْحسن يكرهان أَن يمس الرجل أم امْرَأَته يَعْنِي فِي الرجل يَقع على أم امْرَأَته، وَأما قَول بعض أهل الْعرَاق فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم وعامر فِي رجل وَقع على ابْنة امْرَأَته، قَالَا: حرمتا عَلَيْهِ كلتاهما، وَرُوِيَ عَن جرير عَن حجاج عَن ابْن هانىء الْخَولَانِيّ، قَالَ رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم: من نظر إِلَى فرج امْرَأَة لم تحل لَهُ أمهَا وَلَا بنتهَا.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَحْرُمُ حتَّى يُلْزِقَ بالأرْضَ، يَعْنِي: يُجامِعَ
أَي: لَا تحرم الْبِنْت إِذا وطىء أمهَا، وَبِالْعَكْسِ أَيْضا. قَوْله: (حَتَّى يلزق) ، قَالَ ابْن التِّين بِفَتْح أَوله وَضَبطه غَيره بِالضَّمِّ، وَهُوَ أوجه، فسره البُخَارِيّ بقوله: (يَعْنِي بِجَامِع) وَكَأَنَّهُ أحترز بِهِ عَمَّا إِذا لمسها أَو قبلهَا من غير جماع لاتحرم.
وجَوَّزَهُ ابنُ المُسَيَّبِ وعِرْوَةُ والزُّهْرِيُّ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عليٌّ: لَا تَحْرُمُ
أَي: جوز سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ النِّكَاح بَينه وَبَين امْرَأَة قد وطىء أمهَا، وَقد رُوِيَ عبد الرَّزَّاق من طَرِيق الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: سَأَلت سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير عَن الرجل يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ: هَل تحل لَهُ بنتهَا؟ فَقَالَا لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال، وَرُوِيَ عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ مثله. قَوْله: (وَقَالَ الزُّهْرِيّ: قَالَ عَليّ) أَي: عَليّ بن أبي طَالب: لَا يحرم، وَوَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يحيى بن أَيُّوب عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ أَنه سُئِلَ عَن رجل وطىء أم امْرَأَته، فَقَالَ: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ: لَا يحرم الْحَرَام الْحَلَال.
وهاذا مُرْسَلٌ
أَي: هَذَا الَّذِي رَوَاهُ الزُّهْرِيّ مُرْسل، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَهُوَ مُرْسل أَي: مُنْقَطع، وَأطلق الْمُرْسل على الْمُنْقَطع وَهَذَا أَمر سهل.
52 - (بابٌ { (4) وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} (النِّسَاء: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله عز وَجل: {وربائبكم} (النِّسَاء: 32) وَهُوَ جمع: ريبية، وَهِي بنت امْرَأَة الرجل من غَيره، فعيلة بِمَعْنى مفعولة، سميت بهَا لِأَنَّهَا يُرَبِّيهَا زوج أمهَا غَالِبا. قَوْله: (فِي حجوركم) ، جمع حجر، بِفَتْح الحاى وَكسرهَا، يُقَال: فلَان فِي حجر فلَان أَي: فِي كنفه ومنعته، وَهِي من الْمُحرمَات بِشَرْط دُخُول الرجل على أَن الريبية: وَأَجْمعُوا على أَن الرجل إِذا تزوج امْرَأَة ثمَّ طَلقهَا أَو مَاتَت قبل أَن يدْخل بهَا حل لَهُ تَزْوِيج ابْنَتهَا، وَهُوَ قَول الحنيفة وَالثَّوْري وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَمن قَالَ بقوله من أهل الشَّام وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَرُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله وَعمْرَان بن حُصَيْن أَنَّهُمَا قَالَا: إِذا طَلقهَا قبل أَن يدْخل بهَا يتَزَوَّج ابْنَتهَا.
وَاخْتلفُوا فِي معنى الدُّخُول الَّذِي يَقع بِهِ تَحْرِيم الربائب، فَقَالَت طَائِفَة: الدُّخُول الْجِمَاع، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ طَاوُوس وَعَمْرو بن دِينَار. وَهُوَ الْأَصَح من قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْخلْوَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد، وَهنا قَول آخر وَهُوَ: أَن يحرم ذَلِك التفقيس والعقود بَين الرجلَيْن، هَكَذَا قَالَ عَطاء(20/103)
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ إِن دخل بِالْأُمِّ فعراها ولمسها بِيَدِهِ أَو أغلق بَابا أَو أرْخى سترا فَلَا يحل لَهُ نِكَاح ابْنَتهَا. وَاخْتلفُوا فِي النّظر، فَقَالَ مَالك: إِذا نظر إِلَى شعرهَا أَو صدرها أَو شَيْء من محاسنها بلذة حرمت عَلَيْهِ أمهَا وبنتها. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذا نظر إِلَى فرجهَا بِشَهْوَة كَانَ بِمَنْزِلَة اللَّمْس بِشَهْوَة، وَقَالَ ابْن أبي ليلى: لَا تحرم بِالنّظرِ حَتَّى يلمس. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقد رُوِيَ التَّحْرِيم بِالنّظرِ عَن مَسْرُوق وَالتَّحْرِيم باللمس عَن النَّخعِيّ وَالقَاسِم وَمُجاهد.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ: الدُّخُولُ والمَسِيسُ واللِّماسُ: هُوَ الجِماعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى هَذِه الْأَلْفَاظ الْجِمَاع، ذكرهَا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن، وَرُوِيَ عبد الرَّزَّاق من طَرِيق بكر بن أبي عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: الدُّخُول والعشي والإفضاء والمباشرة والرفث: الْجِمَاع، إلاَّ أَن الله تَعَالَى حَيّ كريم يكني بِمَا شَاءَ عَمَّن شَاءَ.
ومَنْ قَالَ: بَناتُ وَلدِها مِنْ بَناتِه فِي التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. لأُمِّ حبِيبَةَ: لَا تعْرِضْنَ علَيَّ بَناتِكُنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ
يَعْنِي الَّذِي قَالَ: حكم بَنَات ولد الْمَرْأَة كَحكم بَنَات الْمَرْأَة فِي التَّحْرِيم على الرجل محتجا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأم حَبِيبَة: (لَا تعرضن عَليّ بناتكن) وَوجه دلَالَة الحَدِيث عَلَيْهِ أَن لفظ الْبَنَات متناول لبنات الْبَنَات، وَإِن لم يكن فِي حجره يَعْنِي: الربيبة مُطلقًا. وَحَدِيث أم حَبِيبَة قد تقدم عَن قريب.
قَوْله: (وَمن قَالَ) إِلَى قَوْله: حَدثنَا الْحميدِي، لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ.
وكَذلِكَ ولَدُ الأبْنَاءِ هُنَّ حلائلُ الأبْناء
أَي: كَذَلِك فِي الترحيم ولد الْأَبْنَاء هن حلائل الْأَبْنَاء أَي: أَزوَاجهم، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ.
وهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ وَإنْ لم تَكُمْ فِي حَجْرِهِ
إِنَّمَا ذكره بالاستفهام لِأَن فِيهِ خلافًا. وَهُوَ أَن التَّقْيِيد بِالْحجرِ شَرط أم لَا؟ وَعند الْجُمْهُور: لَيْسَ بِشَرْط، وَذكر لفظ الْحجر بِالنّظرِ إِلَى الْغَالِب وَلَا اعْتِبَار لمَفْهُوم الْمُخَالفَة إِذا كَانَ الْكَلَام خَارِجا على الْأَغْلَب وَالْعَادَة، وَعند الظَّاهِرِيَّة. لَا تَحْرِيم إلاَّ إِذا كَانَت فِي حجره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
ودَفَعَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَبِيبَةٍ لهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُها
ذكر هَذَا فِي معرض الِاحْتِجَاج على كَون الربيبة فِي الْحجر لَيْسَ بِشَرْط، كَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل الظَّاهِر، وَوَجهه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفع ربيبة لَهُ إِلَى من يكلفها. قَوْله: (دفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) طرف من حَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار وَالْحَاكِم من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن فَرْوَة بن نَوْفَل الْأَشْجَعِيّ عَن أَبِيه، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفع إِلَيْهِ زَيْنَب بنت أم سَلمَة، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْت ظئري. قَالَ: فَذهب بهَا ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: مَا فعلت الجويرية؟ قَالَ: عِنْد أمهَا يَعْنِي من الرضَاعَة، وَجئْت لتعلمني، فَذكر حَدِيثا فِيمَا يقْرَأ عِنْد النّوم. قلت: نَوْفَل الْأَشْجَعِيّ لَهُ صُحْبَة نزل الْكُوفَة، قَالَ أَبُو عمر: لم يرو عَنهُ غير بنيه: فَرْوَة وَعبد الرَّحْمَن وسحيم بَنو نَوْفَل، حَدِيثه فِي {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) مُخْتَلف فِيهِ مُضْطَرب الْإِسْنَاد قلت: حَدِيثه فِي سنَن أبي دَاوُد رَحمَه الله تَعَالَى، فَأن قلت: احْتج أهل الظَّاهِر بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو لم يكن ربيبتي فِي حجري، فَشرط الْحجر. قلت: هَذَا أخرجه صَالح بن أَحْمد عَن أَبِيه. وَأخرجه أَبُو عبيد أَيْضا، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر والطَّحَاوِي أَنه غير ثَابت عَنهُ، فِيهِ إِبْرَاهِيم بن عبيد بن رِفَاعَة لَا يعرف، وَأكْثر أهل الْعلم تلقوهُ بِالدفع وَالْخلاف وَاحْتَجُّوا فِي دَفعه بقوله لأم حَبِيبَة: فَلَا تعرضن عَليّ بناتكن وَلَا أخواتكن، فَدلَّ ذَلِك على انتفائه، ووهاه أَبُو عبيد أَيْضا.
وسمَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابنَ ابْنَتهِ إبْنا(20/104)
ذكر هَذَا أَيْضا فِي معرض الِاحْتِجَاج لقَوْله: وَمن قَالَ بَنَات وَلَدهَا، وَقَوله: وَكَذَلِكَ ولد الْأَبْنَاء، وَوَجهه أَنه قَالَه فِي حَدِيث أبي بكر الَّذِي مضى فِي المناقب: إِن ابْني هَذَا سيد، يَعْنِي الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
43 - (حَدثنَا الْحميدِي حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه عَن زَيْنَب عَن أم حَبِيبَة قَالَت قلت يَا رَسُول الله هَل لَك فِي بنت أبي سُفْيَان قَالَ فأفعل مَاذَا قلت تنْكح قَالَ أتحبين قلت لست لَك بمخلية وَأحب من شركني فِيك أُخْتِي قَالَ إِنَّهَا لَا تحل لي قلت بَلغنِي أَنَّك تخْطب قَالَ ابْنة أم سَلمَة قلت نعم قَالَ لَو لم تكن ربيبتي مَا حلت لي أرضعتني وأباها ثويبة فَلَا تعرضن عَليّ بناتكن وَلَا أخواتكن) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحميدِي عبد الله بن الزبير مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده حميد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة ربيبة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي بَاب وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وَمر الْكَلَام فِيهِ قَوْله فأفعل مَاذَا فَإِن مَا قلت مَاذَا لَهُ صدر الْكَلَام قلت تَقْدِيره فَمَاذَا أفعل مَاذَا قَوْله بمخلية من بَاب الْأَفْعَال أَي لست خَالِيَة عَن الضرة قَوْله وأباها أَي أَبَا ابْنة أبي سَلمَة
(وَقَالَ اللَّيْث حَدثنَا هِشَام درة بنت أبي سَلمَة) يَعْنِي روى اللَّيْث بن سعد عَن هِشَام بن عُرْوَة فَسمى بنت أبي سَلمَة درة بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِي بَاب وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم -
62 - (بابٌ { (4) وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف} (النِّسَاء: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله عز وَجل: {وَأَن تجمعُوا} (النِّسَاء: 32) الْآيَة، وَقد مر فِيهَا أَن الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حرَام بِالْعقدِ.
7015 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عَن ابنِ شِهابٍ أنَّ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُ أنَّ زَيْنَب ابْنَةَ أبي سلَمَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قالَتْ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله {أنْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أبي سُفْيانَ. قَالَ: وتُحبِّينَ؟ قُلْتُ: نعَمْ لَسْتُ بِمُخَلَيةٍ وأحَبُّ من شارَكَنِي فِي خَيْر أُخْتي. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّ ذالِكَ لَا يَحِلُّ لِي قُلْتُ: يَا رسولَ الله} فَوَالله إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أنَّكَ تُريدُ أنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بنْتَ أبي سلَمَةَ. قَالَ: بنْتُ أُمِّ سلَمَةَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَوَالله لوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّها لاَبْنَة أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ، أرْضَعَتْنِي وَأَبا سلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَناتِكُنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، فَفِي كل مَوضِع وضع تَرْجَمَة مُطَابقَة لموْضِع فِي الحَدِيث، وَهنا مَوضِع التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (فَلَا تعرضن) إِلَخ.
72 - (بابٌ: لَا تُنْكَحُ المَرْأةُ على عَمَّتِها)
أَي: هَذَا ابا فِي بَيَان عدم جَوَاز إنكاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، يَعْنِي: لَا يجوز الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها بِنِكَاح.
45 - (حَدثنَا عَبْدَانِ أخبرنَا عبد الله أخبرنَا عَاصِم عَن الشّعبِيّ سمع جَابِرا رَضِي الله عَنهُ قَالَ نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا أَو خَالَتهَا) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَاقْتصر فِيهَا على لفظ الْعمة لكَون الْخَالَة مثلهَا وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي(20/105)
وَعبيد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن آدم وَغَيره قَوْله أَو خَالَتهَا أَي أَو لَا تنْكح على خَالَتهَا وَكلمَة أَو لَيست للشَّكّ لِأَن حكمهمَا وَاحِد وَظَاهر الحَدِيث تَخْصِيص الْمَنْع مِمَّا إِذا تزوج إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى وَيُؤْخَذ مِنْهُ منع تزويجهما مَعًا فَإِن جمع بَينهمَا بِعقد بطلا أَو مُرَتبا بَطل الثَّانِي وَقَالَ الْخطابِيّ وَفِي معنى خَالَتهَا وعمتها خَالَة أَبِيهَا وَعَمَّته وعَلى هَذَا الْقيَاس كل امْرَأتَيْنِ لَو كَانَت إِحْدَاهمَا رجلا لم تحل لَهُ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا نهى عَن الْجمع بَينهمَا لِئَلَّا يَقع التنافس فِي الحظوة من الزَّوْج فيفضي إِلَى قطع الْأَرْحَام وَعند ابْن حبَان نهى أَن تزوج الْمَرْأَة على الْعمة وَالْخَالَة وَقَالَ إنكن إِذا فعلتن ذَلِك قطعتن أرحامكن
(وَقَالَ دَاوُد وَابْن عون عَن الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة) دَاوُد هُوَ ابْن أبي هِنْد واسْمه دِينَار الْقشيرِي وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالنون الْبَصْرِيّ قَوْله " عَن الشّعبِيّ " أَي رويا كِلَاهُمَا عَن عَامر الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَذكر روايتهما معلقَة أما رِوَايَة دَاوُد فوصلها أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ والدارمي فَلفظ أبي دَاوُد لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا وَلَفظ التِّرْمِذِيّ نهى أَن تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا أَو الْعمة على ابْنة أُخْتهَا وَالْمَرْأَة على خَالَتهَا أَو الْخَالَة على ابْنة أُخْتهَا وَلَا تنْكح الصُّغْرَى على الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى على الصُّغْرَى وَلَفظ الدَّارمِيّ نَحوه وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأخرج حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا هَكَذَا قَالَ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة حَدِيث صَحِيح قَالَ وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَابْن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَأبي سعيد وَأبي أُمَامَة وَجَابِر وَعَائِشَة وَأبي مُوسَى وَسمرَة بن جُنْدُب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين حَدِيث عَليّ رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَحَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه وَفِيه جَعْفَر بن برْقَان فالجمهور على تَضْعِيفه وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو رَوَاهُ أَحْمد وَابْن أبي شيبَة وَلَفظه أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْم فتح مَكَّة لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا وَحَدِيث أبي سعيد أخرجه ابْن مَاجَه وَلَفظه سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن نِكَاحَيْنِ أَن يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَبَين الْمَرْأَة وخالتها وأخلى شَيخنَا موضعا لحَدِيث أبي أُمَامَة وَحَدِيث جَابر عِنْد البُخَارِيّ وَحَدِيث عَائِشَة أخلى مَوْضِعه أَيْضا وَحَدِيث أبي مُوسَى أخرجه ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد ضَعِيف وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَأخرج شَيخنَا عَن عتاب بن أسيد عَن الطَّبَرَانِيّ فِيهِ مُوسَى بن عُبَيْدَة وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهم وَبَقِي الْكَلَام فِي موضِعين الأول أَن أَبَا عمر ذكر فِي التَّمْهِيد عَن بعض أهل الحَدِيث أَنه كَانَ يزْعم أَن هَذَا الحَدِيث لم يسْندهُ أحد غير أبي هُرَيْرَة وَلم يسم قَائِل ذَلِك من أهل الحَدِيث قَالَ شَيخنَا أَظُنهُ أَرَادَ بِهِ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِن كَانَ أَرَادَهُ فَهُوَ لم يقل لم يروه وَإِنَّمَا قَالَ لم يثبت وَقد روى كَلَامه الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن والمعرفة أَيْضا فَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح إِلَيْهِ أَنه قَالَ وَلم يرو من جِهَة يُثبتهُ أهل الحَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قد روى من حَدِيث لَا يُثبتهُ أهل الحَدِيث من وَجه آخر قلت اعْترض صَاحب الْجَوْهَر النقي على الْبَيْهَقِيّ بِأَن قَالَ وَقد أثْبته أهل الحَدِيث من رِوَايَة اثْنَيْنِ غير أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِنَّهُ أخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر فَيحمل على أَن الشّعبِيّ سَمعه مِنْهُمَا أَعنِي أَبَا هُرَيْرَة وجابرا وَهَذَا أولى من تخطئة أحد الطَّرفَيْنِ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لم يُخرجهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح وَقَالَ شَيخنَا سَماع الشّعبِيّ مِنْهُمَا صرح بِهِ حَمَّاد بن سَلمَة فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن عَاصِم عَن الشّعبِيّ عَن جَابر وَأبي هُرَيْرَة وَكَذَلِكَ ذكره الْحَافِظ الْمزي فِي الْأَطْرَاف إِلَّا أَن الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة حكى عَن الْحفاظ أَن رِوَايَة عَاصِم خطأ وَذَلِكَ أَن حَدِيث جَابر وَإِن أخرجه البُخَارِيّ فَإِنَّهُ عقبه بِذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ فَقَالَ بعد أَن رَوَاهُ من رِوَايَة عَاصِم عَن الشّعبِيّ عَن جَابر وَرَوَاهُ دَاوُد وَابْن عون عَن الشّعبِيّ عَن جَابر وَرَوَاهُ دَاوُد وَابْن عون عَن الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة وَإِذا تبين لَك الِاخْتِلَاف الَّذِي وَقع فِيهِ فقد أحالك على التَّرْجِيح فَنَظَرْنَا بَين عَاصِم الْأَحول وَبَين دَاوُد وَابْن عون وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَو انْفَرد كَانَ أول مَا يُؤْخَذ بقوله دون عَاصِم لِأَنَّهُمَا مجمع على عدالتهما وَلم يتَكَلَّم أحد فيهمَا وَتكلم فِي عَاصِم غير وَاحِد عُمُوما وخصوصا أما عُمُوما فَقَالَ ابْن علية(20/106)
كل من اسْمه عَاصِم فِي حفظه شَيْء وَأما خُصُوصا فقد قَالَ يحيى بن معِين كَانَ يحيى بن سعيد الْقطَّان لَا يحدث عَن عَاصِم الْأَحول يستضعفه وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم لَيْسَ بِالْحَافِظِ عِنْدهم وَلم يحمل عَنهُ ابْن إِدْرِيس لسوء مَا فِي سيرته وَقَالَ بَعضهم نصْرَة للْبُخَارِيّ أَن هَذَا الِاخْتِلَاف لَا يقْدَح عِنْد البُخَارِيّ لِأَن الشّعبِيّ أشهر بجابر مِنْهُ بِأبي هُرَيْرَة وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق آخر عَن جَابر بِشَرْط الصَّحِيح أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر والْحَدِيث أَيْضا مَحْفُوظ من أوجه عَن أبي هُرَيْرَة فَلِكُل من الطَّرِيقَيْنِ مَا يعضده انْتهى قلت قَوْله وَلِلْحَدِيثِ طَرِيق آخر إِلَى آخِره غير صَحِيح لِأَن رِوَايَة أبي الزبير لَا يحْتَج بهَا لِأَنَّهُ مُدَلّس وَقد قَالَ الشَّافِعِي لَا نقبل رِوَايَة المدلس حَتَّى يَقُول حَدثنَا وَقَالَ غير الشَّافِعِي أَيْضا وَمَعَ ذَلِك قَالَ الشَّافِعِي لَا يحْتَج بروايات أبي الزبير الْموضع الثَّانِي مُشْتَمل على أَحْكَام. الأول احْتج بِهِ على تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ وَلَكِن فِيهِ خلاف فعندنا يجوز بالأحاديث الْمَشْهُورَة قَالَ صَاحب الْهِدَايَة هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة الَّتِي يجوز بِمِثْلِهَا الزِّيَادَة على الْكتاب وَعند الشَّافِعِي وَآخَرين يجوز تَخْصِيص عُمُوم الْقُرْآن بِخَبَر الْآحَاد. الثَّانِي أجمع الْعلمَاء على القَوْل بِهَذَا الحَدِيث فَلَا يجوز عِنْد جَمِيعهم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَإِن علت وَلَا على ابْنة أَخِيهَا وَإِن سفلت وَلَا على خَالَتهَا وَإِن علت وَلَا على ابْنة أَخِيهَا وَإِن سفلت وَقَالَ ابْن الْمُنْذر لَا أعلم فِي ذَلِك خلافًا إِلَّا عَن فرقة من الْخَوَارِج وَلَا يلْتَفت إِلَى خلافهم مَعَ الْإِجْمَاع وَالسّنة وَذكر ابْن حزم أَن عُثْمَان البتي أَبَاحَهُ وَذكر الإسفرايني أَنه قَول طَائِفَة من الشِّيعَة محتجين بقوله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} قَالَ أَبُو عبيد فَيُقَال لَهُم لم يقل الله تَعَالَى إِنِّي لست أحرم عَلَيْكُم بعد وَقد فرض الله تَعَالَى طَاعَة رَسُوله على الْعباد فِي الْأَمر وَالنَّهْي فَكَانَ مِمَّا نهى عَن ذَلِك وَهِي سنة بِإِجْمَاع الْمُسلمين عَلَيْهَا. الثَّالِث يدْخل فِي معنى هَذَا الحَدِيث تَحْرِيم نِكَاح الرجل الْمَرْأَة على عَمَّتهَا من الرضَاعَة وخالتها مِنْهَا لِأَنَّهُ يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب. الرَّابِع كَمَا يحرم الْجمع بَين من ذكر فِي الحَدِيث بِالنِّكَاحِ يحرم الْجمع بَينهمَا بِملك الْيَمين أَيْضا فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا وَالْحكم للنِّكَاح الْمُتَقَدّم أما إِذا كَانَ أَحدهمَا بِالنِّكَاحِ وَالْأُخْرَى بِملك الْيَمين فَالْحكم للنِّكَاح وَإِن تَأَخّر لِأَنَّهُ أقوى كَمَا إِذا وطىء أمته بِملك الْيَمين ثمَّ تزوج عَمَّتهَا أَو خَالَتهَا أَو بنت أَخِيهَا فَإِن النِّكَاح صَحِيح وَتحرم عَلَيْهِ الْمَوْطُوءَة بِملك الْيَمين حَتَّى تبين مِنْهُ الَّتِي تزَوجهَا آخرا. الْخَامِس إِنَّمَا يحرم ذَلِك بِسَبَب الْقَرَابَة وَالرّضَاع فَقَط أما بِسَبَب الْمُصَاهَرَة فَلَا على الصَّحِيح وَذَلِكَ كالجمع بَين الْمَرْأَة وَزَوْجَة أَبِيهَا أَو بَينهَا وَبَين أم زَوجهَا فَإِنَّهُ لَو قدر إِحْدَاهمَا ذكر أحرم عَلَيْهِ نِكَاح الْأُخْرَى وَمَعَ ذَلِك فَلَا يحرم الْجمع بَينهمَا لِأَن هَذَا بالمصاهرة وَذَاكَ بِالْقَرَابَةِ وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم وَحكى ابْن عبد الْبر عَن قوم من السّلف أَنه يحرم الْجمع أَيْضا على هَذِه الصُّورَة. السَّادِس أَن عِنْد أبي حنيفَة وَأحمد أَنه إِذا طلق الْعمة أَو الْخَالَة أَو ابْنة الْأَخ أَو ابْنة الْأُخْت طَلَاقا بَائِنا فَلَا يحل لَهُ نِكَاح الْأُخْرَى مادام فِي زمن الْعدة وَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه يُبَاح لَهُ الْأُخْرَى بِمُجَرَّد الْبَيْنُونَة وَإِن لم تنقض الْعدة لانْقِطَاع الزَّوْجِيَّة حِينَئِذٍ وَلَيْسَ فِيهِ الْجمع بَينهمَا -
9015 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعرَج عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمتِها وَلَا بَيْنَ المَرْأةِ وخالَتها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن أبي هُرَيْرَة.
0115 - حدَّثنا عبْدَانُ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ: أَخْبرنِي يُونُسُ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدّثني قَبِيصَةُ بن ذُؤَيْبٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُنْكحَ المَرْأةُ علَى عَمَّتِها والمرْأةُ وخالَتُها، فَنرَى خالَةَ أبِيها بِتِلْكَ المَنْزلة. لأنَّ عُرْوَةَ حدّثني عنْ عائشَةَ قالَتْ: حَرِّمُوا منَ الرَّضاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ.
.(20/107)
عَبْدَانِ لقب عبد الله بن عُثْمَان امروزي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَقبيصَة، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالصاد الْمُهْملَة: ابْن ذُؤَيْب مصغر ذِئْب الْحَيَوَان الْمَشْهُور الْخُزَاعِيّ، مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ.
قَوْله: (فنرى) إِلَى آخِره، من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَهُوَ بِفَتْح النُّون وَضمّهَا، فالبفتح بِمَعْنى نعتقد، وبالضم بِمَعْنى نظن خَالَة أَبِيهَا مثل خَالَتهَا فِي الْحُرْمَة، ويروي: فَيرى، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: اسْتِدْلَال الزُّهْرِيّ غير صَحِيح لِأَنَّهُ اسْتدلَّ على تَحْرِيم من حرمت بِالنّسَبِ، فَلَا حَاجَة إِلَى تشبيهها من الرَّضَاع.
82 - (بابُ الشِّغارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّغَار، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ فِي اللُّغَة الرّفْع، من قَوْلهم: شغر الْكَلْب بِرجلِهِ إِذا رَفعهَا ليبول، فَكَأَن المتناكحين ورفعا الْمهْر بَينهمَا. وَقَالَ أَبُو زيد: رفع رجله بَال أَو لم يبل، وَعبارَة صَاحب الْعين: رفع إِحْدَى رجلَيْهِ ليبول، وَقَالَ أَبُو زيد: شغرت الْمَرْأَة شغورا إِذا رفعت رِجْلَيْهَا عِنْد الْجِمَاع، وَقيل لِأَنَّهُ رفع العقد من الأَصْل فارتفع النِّكَاح، وَقيل: من شغر الْمَكَان إِذا خلا لخلوه عَن الصَدَاق أَو عَن الشَّرَائِط، وَيَجِيء الْآن مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ.
2115 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَهَى عنِ الشِّغارِ، وَالشِّغارُ أنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتهُ علَى أنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُما صَدَاقٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا من لفظ الحَدِيث.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله عَن معن بن عِيسَى وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن سُوَيْد بن سعيد، ستتهم عَن مَالك بِهِ.
قَوْله: (نهى عَن الشّغَار) وَلَفظ مُسلم: لَا شغار فِي الْإِسْلَام. قَوْله: (والشغار) إِلَخ. تَفْسِير الشّغَار من حَيْثُ الشَّرْع، وَقَالَ الْخَطِيب: تَفْسِير الشّغَار لَيْسَ من كَلَام سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول مَالك وصل بِالْمَتْنِ الْمَرْفُوع، بيَّن ذَلِك القعْنبِي وَابْن مهْدي ومحرز فِي روايتهم عَن مَالك، وَلما رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث مُحرز بن عون ومعن بن عِيسَى عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الشّغَار، قَالَ: قَالَ مُحرز: قَالَ مَالك: والشغار أَن يُزَوّج الرجل ابْنَته الحَدِيث. وَقَالَ الشَّافِعِي، فِيمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ بعد رِوَايَته الحَدِيث عَن مَالك: لَا أَدْرِي تَفْسِير الشّغَار فِي الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من ابْن عمر أَو من نَافِع أَو من مَالك. وَقَالَ شَيخنَا فِي صَحِيح مُسلم من غير طَرِيق مَالك: أَن تَفْسِير الشّغَار من قَول نَافِع، رَوَاهُ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، وَفِيه: أَن فِي حَدِيث عبيد الله قَالَ: قلت لنافع: مَا الشّغَار؟ وَفِي كتاب الموطآت للدارقطني: حَدثنَا أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان حَدثنَا بنْدَار عَن ابْن مهْدي عَن مَالك: نهى عَن الشغارة، قَالَ بنْدَار: الشّغَار أَن يَقُول: زَوجنِي ابْنَتك أزَوجك ابْنَتي.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صُورَة نِكَاح الشّغَار الْمنْهِي عَنهُ، فَعَن مَالك: هُوَ أَن الرجل يُزَوّج أُخْته أَو وليته من رجل آخر على أَن يُزَوّج ذَلِك الرجل مِنْهُ ابْنَته أَيْضا أَو وليته، وَيكون بضع كل وَاحِد مِنْهُمَا صَدَاقا لِلْأُخْرَى دون صدَاق، وَكَذَا ذكره خَلِيل بن أَحْمد فِي كِتَابه، وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط: صورته الْكَامِلَة أَن يَقُول: زَوجتك ابْنَتي على أَن تزَوجنِي ابْنَتك، على أَن يكون بضع كل وَاحِدَة مِنْهُمَا صَدَاقا لِلْأُخْرَى، وَمهما انْعَقَد نِكَاح ابْنَتي انْعَقَد نِكَاح ابْنَتك. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: هَذَا فِيهِ تَعْلِيق وَشرط عقد فِي عقد وتشريك فِي الْبضْع، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: ينبغني أَن يُزَاد فِي هَذِه الصُّورَة. وَأَن لَا يكون مَعَ الْبضْع صدَاق آخر حَتَّى يكون مجمعا على تَحْرِيمه، فَإِنَّهُ إِذا ذكر فِيهِ الصَدَاق فِيهِ الْخلاف. قلت: هَذَا على مَذْهَبهم، وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة فالشغار هُوَ أَن يشاغر الرجل الرجل، يَعْنِي يُزَوّج ابْنَته أَو أُخْته على أَن يُزَوجهُ الآخر ابْنَته أَو أُخْته أَو أمته ليَكُون أحد الْعقْدَيْنِ عوضا عَن الآخر، فَالْعقد الصَّحِيح، وَيجب مهر الْمثل.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَاخْتلفُوا فِي تزوج الرجل ابْنَته على أَن يُزَوجهُ الآخر ابْنَته وَيكون مهر كل وَاحِدَة مِنْهُمَا نِكَاح الْأُخْرَى؛ فَقَالَت طَائِفَة: النِّكَاح جَائِز وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا صدَاق مثلهَا، هَذَا قَول عَطاء وَعَمْرو بن(20/108)
دِينَار وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول وَالثَّوْري والكوفيين، وَإِن طَلقهَا قبل الدُّخُول بهَا فلهَا الْمُتْعَة فِي قَول النُّعْمَان وَيَعْقُوب، وَقَالَت طَائِفَة: عقد النِّكَاح على الشّغَار بَاطِل وَهُوَ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِد فِي كل أَحْكَامه، هَذَا قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَانَ مَالك وَأَبُو عبيد يَقُولَانِ: نِكَاح الشّغَار مَنْسُوخ على كل حَال، وَفِيه قَول ثَالِث وَهُوَ: أَنَّهُمَا إِن كَانَا لم يدخلا بهما فسخ وَيسْتَقْبل النِّكَاح بِالْبَيِّنَةِ وَالْمهْر، وَإِن كَانَا قد خلا بهما فَلَهُمَا مهر مثلهمَا. وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ: وَأجَاب أَصْحَابنَا عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ ورد، وَلَا خلاية عَن تَسْمِيَة الْمهْر واكتفائه بذلك من غيرأن يجب فِيهِ شَيْء آخر من المَال على مَا كَانَت عَلَيْهِ عَادَتهم فِي الْجَاهِلِيَّة، أَو هُوَ مَحْمُول على الْكَرَاهَة.
92 - (بابٌ: هَلْ لِلْمَرْأةِ أنْ تَهَبَ نَفْسَها لأحَدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: هَل يحل للْمَرْأَة أَن تهب نَفسهَا لأحد من الرِّجَال؟ وَصورته أَن يَقع العقد بِلَفْظ الْهِبَة بِأَن تَقول الْمَرْأَة: وهبت نَفسِي لَك، وَالرِّجَال يَقُول: قبلت، وَلم يذكر الْمهْر، فَإِن جمَاعَة ذَهَبُوا إِلَى بطلَان النِّكَاح، يَعْنِي: لَا ينْعَقد النِّكَاح بِهَذَا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول الْمُغيرَة وَابْن دِينَار وَأبي ثَوْر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري: ينْعَقد بِهِ العقد وَلها صدَاق الْمثل، وَكَذَا ينْعَقد بِلَفْظ الصَّدَقَة بِلَفْظ البيع بِدُونِ لفظ النِّكَاح أَو التَّزْوِيج أَنه يَصح، وَعند الشَّافِعِي: لَا يَصح إلاَّ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ.
49 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام حَدثنَا ابْن فُضَيْل حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه قَالَ كَانَت خَوْلَة بنت حَكِيم من اللائي وهبْنَ أَنْفسهنَّ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت عَائِشَة أما تَسْتَحي الْمَرْأَة أَن تهب نَفسهَا للرجل فَلَمَّا نزلت {ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ} قلت يَا رَسُول الله مَا أرى رَبك إِلَّا يُسَارع فِي هَوَاك) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من أول الحَدِيث وَابْن فُضَيْل هُوَ مُحَمَّد بن فُضَيْل مصغر فضل وَهِشَام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير والْحَدِيث قد مر فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب وَخَوْلَة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة بنت حَكِيم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَيُقَال خُوَيْلَة بِالتَّصْغِيرِ بنت حَكِيم بن أُميَّة كَانَت امْرَأَة عُثْمَان بن مَظْعُون وَكَانَت امْرَأَة صَالِحَة وَقَالَ أَبُو عمر تكنى أم شريك وَهِي الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَول بَعضهم وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِيهِ فِي سُورَة الْأَحْزَاب قَوْله " إِلَّا يُسَارع فِي هَوَاك " أَي فِي الَّذِي تحبه يَعْنِي مَا أرى إِلَّا أَن الله تَعَالَى موجد لمرادك بِلَا تَأْخِير منزلا لما تحبه وترضى وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا قَول أبرزه الدَّلال والغيرة وَهُوَ من نوع قَوْلهَا مَا أحمدكما وَمَا أَحْمد إِلَّا الله وَإِلَّا فإضافة الْهوى إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يحمل على ظَاهره لِأَنَّهُ لَا ينْطق عَن الْهوى وَلَا يفعل بالهوى وَلَو قَالَت إِلَى مرضاتك لَكَانَ أليق وَلَكِن الْغيرَة تغتفر لأَجلهَا إِطْلَاق مثل ذَلِك قلت الَّذِي ذكرته أحسن من هَذَا على مَا لَا يخفى
(رَوَاهُ أَبُو سعيد الْمُؤَدب وَمُحَمّد بن بشر وَعَبدَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة يزِيد بَعضهم على بعض) أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور أَبُو سعيد واسْمه مُحَمَّد بن مُسلم بن أبي الوضاح الْجَزرِي وَهُوَ من رجال مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَكَانَ مؤدب مُوسَى بن الْهَادِي وَمَات بِبَغْدَاد فِي خِلَافَته وَيُقَال أَن اسْم أبي الوضاح الْمثنى وَرَوَاهُ أَيْضا مُحَمَّد بن بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة الْعَبْدي الْكُوفِي وَرَوَاهُ أَيْضا عَبدة بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن سُلَيْمَان كلهم رووا عَن هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة قَوْله " يزِيد بَعضهم " أَي يزِيد بَعضهم فِي رِوَايَته على بعض أما رِوَايَة أبي سعيد فوصلها ابْن مرْدَوَيْه فِي التَّفْسِير وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق مَنْصُور بن أبي مُزَاحم عَنهُ مُخْتَصرا قَالَت الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَوْلَة بن حَكِيم وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن بشر فوصلها الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ حَدثنَا الْقَاسِم حدّثنَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة حَدثنَا مُحَمَّد بن بشر عَن هِشَام وَأما حَدِيث عَبدة فوصله مُسلم وَقَالَ حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة قَالَ حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تَقول أما تَسْتَحي الْمَرْأَة تهب نَفسهَا لرجل حَتَّى أنزل الله تَعَالَى {ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء} فَقلت إِن رَبك ليسارع لَك فِي هَوَاك(20/109)
03 - (بابُ نِكاحِ المُحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نِكَاح الْمحرم هَل يَصح أم لَا. قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ يمِيل إِلَى الْجَوَاز لِأَنَّهُ لم يذكر فِي الْبَاب إلاَّ حَدِيث ابْن عَبَّاس لَيْسَ إلاَّ، وَلم يخرج حَدِيث الْمَنْع كَأَنَّهُ لم يَصح عِنْده. قلت: الظَّاهِر أَن مذْهبه جَوَاز نِكَاح الْمحرم. قَوْله: وَلم يخرج حَدِيث الْمَنْع إِلَى آخِره، فِيهِ تَأمل، لِأَن عدم تَخْرِيجه حَدِيث الْمَنْع لَا يسْتَلْزم عدم صِحَّته عِنْده، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَلَا مَانع أَن يَصح عِنْد غَيره وَيعْمل بِهِ.
4115 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ أخبرَنا ابنُ عَيَيْنَةَ أخبرنَا عَمْرُو حَدثنَا جابِرُ بنُ زَيْدٍ، قَالَ: أنْبأنا ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، تَزَوَّجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ مُحْرِمٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بيَّن الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة وَمَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد النَّهْدِيّ الْكُوفِي، وَقَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن زيد أبي الشعْثَاء أَنه قَالَ: أَنبأَنَا ابْن عَبَّاس أَي: أخبرنَا: تزوج النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَالْحَال أَنه محرم.
والْحَدِيث مضى فِي الْحَج فِي: بَاب تَزْوِيج الْمحرم، وَفِيه ذكر الَّتِي تزَوجهَا. وَأخرجه عَن أبي الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفِي، ولنذكر بعض شَيْء فَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة يَصح نِكَاح الْمحرم لقصة مَيْمُونَة، وَهُوَ رِوَايَة ابْن عَبَّاس. فَأُجِيب عَنهُ بِأَن مَيْمُونَة نَفسهَا رَوَت أَنه تزَوجهَا حَلَالا وَهِي أعرف بالقضية من ابْن عَبَّاس لتعلقها بهَا، وَبِأَن المُرَاد بالمحرم أَنه فِي الْحرم، وَيُقَال لمن هُوَ فِي الْحرم: محرم، وَإِن كَانَ حَلَالا قَالَ الشَّاعِر:
قتلوا ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما
أَي: فِي حرم الْمَدِينَة، وَبِأَن فعله معَارض بقوله: لَا ينْكح الْمحرم، وَإِذا تَعَارضا يرجح القَوْل، وَبِأَن ذَلِك من خَصَائِصه، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى.
قلت: أجَاب عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس بأَرْبعَة أجوبة نصْرَة لمَذْهَب إِمَامه، وَالْكل مَا يجدي شَيْئا. فَالْجَوَاب عَن الأول: كَيفَ يحكم بِأَن مَيْمُونَة أعرف بالقضية من ابْن عَبَّاس وَلَا تلْحق مَيْمُونَة ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْقَضِيَّة وفير غَيرهَا؟ وَمَعَ هَذَا رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مَا يُوَافق فِي ذَلِك رِوَايَة ابْن عَبَّاس، وَهُوَ عبد الله بن مَسْعُود وَأنس بن مَالك وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة ومعاذ وَأَبُو عبد الله بن مَسْعُود، أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: حَدثنَا وَكِيع عَن جرير بن حَازِم عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله أَنه لم يكن يرى بتزويج الْمحرم بَأْسا، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد بن خُزَيْمَة عَن حجاج عَن جرير بن حَازِم عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم: أَن ابْن مَسْعُود كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يتَزَوَّج الْمحرم. وَأثر أنس بن مَالك أخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا روح بن الْفرج حَدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا ابْن أبي فديك حَدثنِي عبد الله ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر، قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن نِكَاح الْمحرم، قَالَ: وَمَا بَأْس بِهِ، هَل هُوَ إلاَّ كَالْبيع؟ وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب حَدثنَا خَالِد بن عبد الرَّحْمَن حَدثنَا كَامِل أَبُو الْعَلَاء عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: تزوج رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ محرم، وَكَذَلِكَ أخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة حَدثنَا مُعلى بن أَسد نَا أَبُو عوَانَة عَن مُغيرَة عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة قَالَت: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض نِسَائِهِ وَهُوَ محرم. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عَليّ بن عبد الْعَزِيز: حَدثنَا مُعلى بن أَسد إِلَى آخِره نَحوه. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ويروي من مُسَدّد عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة، فَقَالَ: عَن إِبْرَاهِيم، بدل: أبي الضُّحَى؟ قَالَ أَبُو عَليّ النَّيْسَابُورِي: كِلَاهُمَا خطأ، وَالْمَحْفُوظ عَن مُغيرَة عَن سباك عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق مُرْسلا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَا رَوَاهُ جرير عَن مُغيرَة قلت: لَا نسلم أَنه خطأ، بل هُوَ مَحْفُوظ أخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه أَنا الْحسن بن سُفْيَان حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن الْمُغيرَة عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض نِسَائِهِ وَهُوَ محرم، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ محرم، وَأما معَاذ فَذكره ابْن حزم مَعَهم. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَالَّذين رووا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ محرم أهل علم، وَثَبت أَصْحَاب ابْن عَبَّاس سعيد بن جُبَير وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَطَاوُس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة(20/110)
وَجَابِر بن زيد، وَهَؤُلَاء كلهم فُقَهَاء يحْتَج برواياتهم وآرائهم، وَالَّذين نقلوا مِنْهُم فَكَذَلِك أَيْضا مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَعبد الله بن أبي نجيح فَهَؤُلَاءِ أَيْضا أَئِمَّة يقْتَدى برواياتهم. وَحَدِيث مَيْمُونَة الَّذِي أخرجه مُسلم فِيهِ زيد بن الْأَصَم، وَقد ضعفه عَمْرو بن دِينَار فِي خطابه لِلزهْرِيِّ وَترك الزُّهْرِيّ الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَأخرجه من أهل الْعلم وَجعله أَعْرَابِيًا بوالاً على عقيبة، وَكَيف يكون طعن أَكثر من ذَلِك؟ وقصده من هَذَا الْكَلَام نسبته إِلَى الْجَهْل بِالسنةِ. فَأن قلت: الزُّهْرِيّ احْتج بِهِ قلت احتجابه لَا يَنْفِي طعن عَمْرو بن دِينَار فِيهِ، فَإِن عَمْرو بن دِينَار فِي نَفسه حجَّة ثَبت وَلَا ينقص عَن الزُّهْرِيّ، على أَن بَعضهم قد رجحوه على مثل عَطاء وَمُجاهد وطاووس، وَالَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مَيْمُونَة، فِي إِسْنَاده مطر الْوراق، قَالَ الطَّحَاوِيّ: ومطر عِنْدهم مِمَّن يحْتَج بحَديثه، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مطر بن طهْمَان الْوراق لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَعَن أَحْمد: كَانَ فِي حفظه سوء، وَلَئِن سلمنَا أَنه مجمع عَلَيْهِ فِي توثيقه وَضَبطه وَلكنه لَيْسَ كرواة حَدِيث ابْن عَبَّاس وَلَا قَرِيبا مِنْهُم، فَافْهَم.
وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي: وَهُوَ قَوْله: (المُرَاد بالمحرم أَنه فِي الْحرم) إِلَى قَوْله: وَبَان فعله أَن الْجَوْهَرِي ذكر مَا يُخَالف ذَلِك، فَإِنَّهُ قَالَ: أحرم الرجل إِذا دخل فِي الشَّهْر الْحَرَام، وَأنْشد الْبَيْت الْمَذْكُور على ذَلِك، وَأَيْضًا فَلفظ البُخَارِيّ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ محرم وَبني بهَا وَهُوَ حَلَال، يدْفع هَذَا التَّفْسِير ويبعده.
وَالْجَوَاب عَن الثَّالِث: وَهُوَ قَوْله بِأَن فعله معَارض إِلَى قَوْله: يرجح القَوْل، أَنه لَيْسَ مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ الأصوليون، فَإِن فِيهِ خلافًا.
وَالْجَوَاب عَن الرَّابِع: إِنَّه دَعْوَى فَيحْتَاج إِلَى برهَان. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الصَّوَاب من القَوْل عندنَا أَن نِكَاح الْمحرم فَاسد لحَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما قصَّة مَيْمُونَة فتعارضت الْأَخْبَار فِيهَا. انْتهى
قلت: أَيْن ذهب حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس؟ وَأما حَدِيث عُثْمَان الَّذِي أخرجه مُسلم عَنهُ أَنه قَالَ: الْمحرم لَا ينْكح وَلَا يخْطب فَفِي إِسْنَاده نبيه بن وهب وَلَيْسَ كعمرو بن دِينَار وَلَا كجابر بن دِينَار وَلَا لَهُ مَوضِع فِي الْعلم كموضع عَمْرو وَجَابِر، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: ضعف البُخَارِيّ حَدِيث عُثْمَان وَصحح حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَلَو علم أَن رُوَاة حَدِيث عُثْمَان يساوون رَوَاهُ حَدِيث ابْن عَبَّاس لصحح كلا الْحَدِيثين، وَلَئِن سلمنَا أَنهم متساوون، فَنَقُول: معنى لَا ينْكح الْمحرم وَلَا يطَأ، وَهُوَ مَحْمُول على الْوَطْء أَو الْكَرَاهَة لكَونه سَببا للوقوع فِي الرَّفَث لَا إِن عقده لنَفسِهِ أَو لغيره، كَمَا مر مُمْتَنع، وَلِهَذَا قرنه بِالْخطْبَةِ، وَلَا خلاف فِي حوازها، وَإِن كَانَت مَكْرُوهَة فَكَذَا النِّكَاح والإنكاح وَصَارَ كَالْبيع وَقت النداء.
13 - (بابُ نَهْيِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ نِكاحِ المُتْعَةِ آخِرا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن نِكَاح الْمُتْعَة. قَوْله: (آخرا) ، يُشِير إِلَى أَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة أَولا. فَإِن قيل: ذكر فِي هَذَا الْبَاب عدَّة أَحَادِيث وَلَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيح بذلك.
أُجِيب: بِأَنَّهُ قَالَ فِي آخر الْبَاب: إِن عليا بيَّن أَنه مَنْسُوخ، وَقد وَردت جملَة أَحَادِيث صَحِيحَة تَصْرِيح بِالنَّهْي عَنْهَا بعد الْإِذْن فِيهَا.
5115 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ أنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيِّ يَقُولُ: أخبرَني الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ وأخُوهُ عبْدُ الله عنْ أبِيهِما: أنَّ عَليّا رَضِي الله عَنهُ، قَالَ لابنِ عَبَّاسٍ: إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُتْعَةِ وعنْ لُحومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّة زَمَنَ خَيْبَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمَالك بن إِسْمَاعِيل مر عَن قريب، يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن الْحسن بن مُحَمَّد وأخيه عبد الله بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا يرويانعن أَبِيهِمَا مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب أَن عليا قَالَ لعبد الله بن عَبَّاس إِلَى آخِره، وَمُحَمّد هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنَفِيَّة.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَة خَيْبَر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن قزعة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب إِلَى آخه وَمضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَته.
6115 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حَدثنَا غُنْدَرٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبي جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عبَّاسٍ سُئِلَ عنْ مُتْعَةِ النِّساءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لهُ مَوْلى: إنَّما ذَلِكَ فِي الحالِ الشَّدِيد وَفِي النِّساءِ قِلةٌ أوْ نَحْوَهُ، فَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: نَعَمْ.(20/111)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يتَضَمَّن النَّهْي عَن الترخيص الْمُطلق، فَافْهَم.
وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو جَمْرَة بِالْجِيم وَالرَّاء واسْمه نصر بن عمرَان الضبعِي الْبَصْرِيّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (سُئِلَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَرخص) ، أَي فِي الْمُتْعَة. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ مولى لَهُ) ، قيل بِالظَّنِّ إِنَّه عِكْرِمَة. قَوْله: (إِنَّمَا ذَلِك) أَي: الترخيص فِي الْحَال الشَّديد نَحْو الْعزبَة الشَّدِيدَة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي الْجِهَاد وَالنِّسَاء قَلَائِل. قَوْله: (نعم) يَعْنِي: الْأَمر كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: صدق، وَرُوِيَ الْخطابِيّ من حَدِيث سعيد بن جُبَير، قَالَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس: لقد سَارَتْ بفتياك الركْبَان، وَقَالَ فِيهَا الشُّعَرَاء، يَعْنِي فِي الْمُتْعَة، فَقَالَ: وَالله مَا بِهَذَا أَفْتيت، وَمَا هِيَ إلاَّ كالميتة لَا تحل إلاَّ للْمُضْطَر.
7115 - حدَّثنا عَلِيٌّ حَدثنَا سُفْيانُ قَالَ، عَمْرٌ وعنِ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ جابِر بنِ عبْدِ الله وسلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ قَالَا: كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أنْ تَسْتَمْتِعُوا فاسْتَمْتِعُوا.
لَيْسَ فِي النَّهْي عَن الْمُتْعَة، فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة، إِلَّا أَن يُقَال بالتعسف إِن فِيهِ ذكر الِاسْتِمْتَاع، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن فِي آخر حَدِيث حابر فِي رِوَايَة مُسلم: حَتَّى نهى عَنْهَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد جرت عَادَته أَنه يُشِير إِلَى مَا يُطَابق التَّرْجَمَة من غير أَن يُصَرح بِهِ، وَهُوَ الْمُتْعَة.
وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَالْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن بنْدَار عَن غنْدر وَغَيره.
قَوْله: (كُنَّا فِي جَيش) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون لاياء آخر الْحُرُوف وبالشبن الْمُعْجَمَة هَكَذَا هُوَ عَامر الرِّوَايَات، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض الرِّوَايَات: حنين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالنونين. وَهُوَ الْموضع الَّذِي كَانَت فِيهِ الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة. قَوْله: (رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قيل بِالظَّنِّ: يشبه أَن يكون بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (أَن تستمتعوا) أَي: بِأَن تستمتعوا، وَكلمَة. أَن مَصْدَرِيَّة أَي: بالاستمتاع قَوْله: (فاستمتعوا) يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون على صُورَة الْمَاضِي، وَالْآخر: أَن يكون على صِيغَة الْأَمر، وَالْمعْنَى: جامعوهن بِالْوَقْتِ الْمعِين.
9115 - وَقَالَ ابْن أبي ذِئْب حَدثنِي إِيَاس بن سَلمَة بن الْأَكْوَع عَن أَبِيه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا رجل وَامْرَأَة توفقا فعشرة مَا بَينهمَا ثَلَاث لَيَال، فَإِن أحبا أَن يتزايدا أَو يشاركا تشاركاً فَمَا أَدْرِي أَشَيْء (كَانَ لنا خَاصَّة) أم للنَّاس عَامَّة.
ابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور، وَاسم أبي ذِئْب: هِشَام بن سعد، وَإيَاس بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف يرْوى عَن أَبِيه سَلمَة بن الْأَكْوَع.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن نَاجِية: حَدثنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى لَفظه وَبُنْدَار وَحميد بن زَنْجوَيْه قَالُوا: حَدثنَا أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن إِيَاس، بِلَفْظ: أَيّمَا رجل وَامْرَأَة أَيَّام الْحَج تَرَاضيا فعشرة مَا بَينهمَا ثَلَاثَة أَيَّام.
قَوْله: (توافقا) أَي: فِي النِّكَاح بَينهمَا مُطلقًا من غير ذكر أجل. قَوْله: (فعشرة) ، بِكَسْر الْعين أَي: فمعاشرة مَا بَينهمَا ثَلَاث لَيَال، أَرَادَ أَن الْإِطْلَاق مَحْمُول على ثَلَاثَة أَيَّام بلياليهن. قَوْله: (فعشرة) بِالْفَاءِ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ كَمَا مر، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بِعشْرَة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَالْأول أوجه. قَوْله: (فَإِن أحبا) أَي: الرجل وَالْمَرْأَة الْمَذْكُورَان إِن أحبا (أَن يتزايدا) يَعْنِي: على ثَلَاث لَيَال، وَجَوَاب: إِن، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَإِن أحبا أَن يتزايدا تزايدا، وَوَقع فِي تَخْرِيج أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: فَإِن أحبا أَن يتناقصا تناقصا وَإِن أحبا أَن يتزايدا فِي الْأَجَل تزايدا. قَوْله: (أَو يتتاركا) الْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا قبله، أَي: وَإِن أَرَادَا أَن يتتاركا أَي: أَن يتركا التوافق يَعْنِي: إِن أَرَادَا الْمُفَارقَة. قَوْله: (تتاركا) ، جَوَاب: إِن أَي: تفارقا، وَهُوَ من بَاب التفاعل من التّرْك، أَي: ترك مَا توافقا وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ التناقص من الْمدَّة، كَمَا فِي رِوَايَة أبي نعيم. قَوْله: (فَمَا أَدْرِي؟) أَي: فَمَا أعلم؟ الْقَائِل سَلمَة(20/112)
بن الْأَكْوَع رَاوِي الحَدِيث أَي: لَا أعلم جَوَازه كَانَ خَاصّا بالصحابة أَو كَانَ عَاما للْأمة؟ وَوَقع فِي حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، التَّصْرِيح بالاختصاص، أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، قَالَ: إِنَّمَا أحلّت لنا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتْعَة النِّسَاء ثَلَاث أَيَّام ثمَّ نهى عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَ أبُو عبْدِ الله: وبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ مَنْسُوخٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ هَذَا، أَي: وَقد بَين عَليّ بالتصريح بِالنَّهْي عَنْهَا بعد الْإِذْن فِيهَا، وَرُوِيَ عبد الرَّزَّاق عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من وَجه آخر: نسخ رَمَضَان كل صَوْم، وَنسخ الْمُتْعَة الطَّلَاق وَالْعدة وَالْمِيرَاث.
23 - (بابُ عَرْضِ المَرْأَةِ نَفسَها علَى الرَّجُلِ الصَّالحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز عرض الْمَرْأَة نَفسهَا على الرجل الصَّالح رَغْبَة لصلاحه، قيل: لما علم البُخَارِيّ الخصوصية فِي قصَّة الواهبة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استنبط من الحَدِيث مَا لَا خُصُوصِيَّة فِيهِ، وَهُوَ جَوَاز عرض الْمَرْأَة نَفسهَا للرجل الصَّالح. انْتهى. قلت: لما علم فِي قصَّة الواهبة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوص بِهَذَا، كَيفَ يستنبط مِنْهَا مَا لَا خُصُوصِيَّة فِيهِ؟ فَفِي مَا قَالَه لَا خُصُوصِيَّة لأح، فَإِن قيل: الْعرض غير الْهِبَة. أُجِيب: فِي حَدِيث سهل بن سعد مَا جَاءَ إلاَّ بِلَفْظ الْعرض، وَهُوَ عبارَة عَن الْهِبَة أَو هُوَ مُقَدّمَة الْهِبَة، فَلَا طائل تَحت قَوْله.
0215 - حدَّثنا عَلِيٌّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا مَرْحُومٌ قَالَ: سَمِعْتُ ثابِتا البُنانِيَّ قَالَ: كُنْتُ عِنْد أنَسٍ وعِنْدَهُ ابْنَةٌ لهُ، قَالَ أنَسٌ: جاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَعْرِضُ علَيْهِ نَفْسَها، قالَتْ: يَا رسولَ الله! ألكَ بِي حاجةٌ؟ فقالتْ بنْتُ أنسٍ: مَا أقَلَّ حَياءَها، واسَوْأتاه واسَوْأتاه. قَالَ: هيَ خيْرٌ مِنْكَ، رَغِبَتْ فِي النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَرَضَتْ علَيْهِ نَفْسَها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تعرض عَلَيْهِ نَفسهَا) وَفِي قَوْله: (فعرضت عَلَيْهِ نَفسهَا) وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، ومرحوم، على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من الرَّحْمَة: ابْن عبد الْعَزِيز بن مهْرَان الْبَصْرِيّ مولى آل أبي سُفْيَان ثِقَة، مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَأورد الحَدِيث أَيْضا فِي الْأَدَب بِهَذَا الْإِسْنَاد، وثابت الْبنانِيّ بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح عَن ابْن الْمثنى وَغَيره، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بكر بن خلف وَغَيره.
قَوْله: (حَدثنَا مَرْحُوم) كَذَا فِي رِوَايَة الأكثين مَذْكُور بِغَيْر نِسْبَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز بن مهْرَان. قَوْله: (وَعِنْده ابْنة لَهُ) أَي: ابْنة لأنس وَلم يدر اسْمهَا، وَقيل بِالظَّنِّ، لَعَلَّهَا أمينة بِالتَّصْغِيرِ. قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة) لم يدر اسْمهَا، وَقَالَ بَعضهم: وأشبه من رَأَيْت بِقِصَّتِهَا مِمَّن تقدم ذكر اسمهن فِي الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم. قلت: هَذَا حَدِيث أنس وَهُوَ غير حَدِيث سهل بن سعد، فَتخلف صَاحِبَة الْقِصَّة. قَوْله: (واسوأتاه) الْوَاو فِيهِ للنداء، وَلَكِن هِيَ الْوَاو الَّتِي تخْتَص بالندبة وَالْألف فِيهِ للندبة وَالْهَاء للسكت نَحْو: أزيداه، والسوأة بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا همزَة وَهِي الفعلة الْفَاحِشَة والفضيحة، وَيُطلق على الْفرج أَيْضا، وَالْمرَاد هُنَا لأوّل، وَهِي هُنَا مكررة. قَوْله: (هِيَ خير مِنْك) فِيهِ دَلِيل على جَوَاز عرض الْمَرْأَة نَفسهَا على الرجل الصَّالح وتعرف رغبتها فِيهِ لصلاحه وفضله، أَو لعلمه وشرفه، أَو لخصلة من خِصَال الدّين، وَأَنه لَا عَار عَلَيْهَا فِي ذَلِك، بل ذَلِك يدل على فَضلهَا، وَبنت أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، نظرت إِلَى ظَاهر الصُّورَة وَلم تدْرك هَذَا الْمَعْنى حَتَّى قَالَ أنس: هِيَ خير مِنْك، وَأما الَّتِي تعرض نَفسهَا على الرجل لأجل غَرَض من الْأَغْرَاض الدنياوية فأقبح مَا يكون من الْأَمر وأفضحه.
1215 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حَدثنَا أبُو غَسَّانَ قَالَ: حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْل(20/113)
ٍ أنَّ امْرَأةً عَرَضَتْ نَفْسَها علَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لهُ رجلٌ: يَا رسُولَ الله! وَزَوِّجْنِيها. فَقَالَ مَا عِنْدَك؟ قَالَ: مَا عنْدِي شيءٌ. قَالَ: اذْهَبْ فالْتَمِسْ ولوْ خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: لَا وَالله مَا وَجَدْتُ شَيئا وَلَا خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، ولاكنْ هاذَا إزَارِي ولَها نِصْفُهُ قَالَ سَهْلٌ: وَمَا لَهُ رِدَاءٌ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا تَصْنعُ بإِزَارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ علَيْها مِنْهُ شَيْءٌ؟ وإنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حتَّى إذَا طالَ مَجْلِسُهُ قامَ فَرَآهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَعاهُ، أوْ دُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لهُ: ماذَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَعي سورَةُ كَذَا وسورَةُ كَذَا؟ لِسُوَرٍ يُعَدِّدُها، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمْلَكْناها لَكَ بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن امْرَأَة عرضت نَفسهَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَسَعِيد هُوَ ابْن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة: مُحَمَّد بن مطرف، بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة: اللَّيْثِيّ الْمدنِي وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد الْأنْصَارِيّ. والْحَدِيث قد مر فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي: بَاب خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أملكناها لَك) ويروى: أملكناكها.
33 - (بابُ عَرْضِ الأَنْسانِ ابْنَتَهُ أوْ أُخْتَهُ علَى أهْلِ الخَيْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز عرض الرجل ابْنَته أَو أُخْته على أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح، وَلَا نقص فِيهِ.
2215 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْد الله حَدثنَا إبْراهيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحِ بنِ كَيْسانَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أخبرَني سالِمُ بنُ عبْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ عبْدَ الله بنَ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، يُحَدِّثُ أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ حينَ تأيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وكانَ مِنْ أصْحابِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فتُوُفِّيَ بالمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: أتَيْتُ عُثْمانَ بنَ عَفانَ فَعَرَضْتُ علَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سأنْظُرُ فِي أمْرِي، فلَبِثْتُ لَيالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ: قَدْ بَدَا لي أنْ لَا أتَزَوَّجَ يَوْمِي هاذَا. قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍّ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إنْ شِئْتَ زَوجْتُكَ حَفْصَةَ بِنتَ عُمَرَ، فَصَمتَ أبُو بَكْر فلَمْ يَرْجِعْ إليَّ شَيْئا، وكُنْتُ أوْجَدَ علَيْهِ مِنِّي علَى عُثْمانَ، فَلَبِثْتُ لَيالِيَ ثُمَّ خَطَبَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأنْكَحْتُها إيَّاهُ فَلقِيَني أبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَ وجَدْتَ عليَّ حِينَ عرضت عَليّ حَفْصَة فَلم أرجع إِلَيْك شَيْئا قَالَ عمر، قلت نعم قَالَ أَبُو بكر فَإِنَّهُ لم يَمْنعنِي أَن أرجع إلَيْكَ فِيما عَرَضْتَ علَيَّ إلاَّ أنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ ذَكرَها فَلَم أكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولَوْ تَرَكَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبِلْتُها..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الْقرشِي العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمَدِينِيّ، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب شُهُود الْمَلَائِكَة بَدْرًا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَذكر الْحميدِي وَأَبُو مَسْعُود هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي بكر، وَذكره خلف وَابْن عَسَاكِر فِي مُسْند عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (تأيمت حَفْصَة) يُقَال: تأيمت الْمَرْأَة وآمت إِذا أَقَامَت لَا تتَزَوَّج، وَالْعرب تَقول: كل امْرَأَة لَا زوج لَهَا وكل رجل لَا امْرَأَة لَهُ: أيم، وَمعنى: (تأيمت حَفْصَة)(20/114)
مَاتَ زَوجهَا خُنَيْس بن حذافة فَصَارَت أَيّمَا، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن تأيم حَفْصَة من ابْن حذافة أَنه طَلقهَا، وَقَالَ أَبُو عمر وَغَيره: إِنَّه توفّي عَنْهَا من جِرَاحَة أَصَابَته بِأحد، وعَلى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ يحمل قَول من قَالَ: تزوج حَفْصَة بعد ثَلَاثِينَ شهرا من الْهِجْرَة، وَرِوَايَة من رُوِيَ سنتَيْن فِي عقب بدر، وَرِوَايَة من رُوِيَ: توفّي زَوجهَا بعد خَمْسَة وَعشْرين شهرا، وَقَالَ أَبُو عمر: تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أَكْثَرهم فِي سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تزَوجهَا سنة ثِنْتَيْنِ من التَّارِيخ، وَمَاتَتْ حَفْصَة حِين بَايع الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لمعاوية، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَقيل: فِي خمس وَأَرْبَعين. قَوْله: (من خُنَيْس) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ سين مُهْملَة: ابْن حذافة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة ابْن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الْقرشِي السَّهْمِي، وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين شهد بَدْرًا بعد هجرته إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ شهد أحدا ونالته ثَمَّ جِرَاحَة مَاتَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْن طَاهِر: قَالَ يُونُس عَن الزُّهْرِيّ: خُنَيْس، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر النُّون، وكل معمر بن رَاشد يَقُول: حُبَيْش، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ شين مُعْجمَة. وَقَالَ الجياني: رُوِيَ أَن معمرا كَانَ يصحف فِي هَذَا الِاسْم، فَيَقُول: حُبَيْش، وَرُوِيَ ابْن الْمَدِينِيّ عَن هِشَام بن يُوسُف قَالَ: قَالَ معمر فِي حَدِيث: تأيمت حَفْصَة، فَقَالَ: مَن حُبَيْش بن حذافة؟ فَرد عَلَيْهِ: خُنَيْس فَقَالَ: لَا بل هُوَ حُبَيْش. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَقد اخْتلف على عبد الرَّزَّاق عَن معمر فروى عَنهُ خُنَيْس، بِالسِّين الْمُهْملَة على الصَّوَاب، وَرُوِيَ عَنهُ: خُنَيْس أَو حُبَيْش على الشَّك، وَذكره البُخَارِيّ ومُوسَى بن عقبَة وَيُونُس وَابْن أخي الزُّهْرِيّ على الصَّوَاب بخاء مُعْجمَة بعْدهَا نون. قَوْله: (فعرضت عَلَيْهِ حَفْصَة) ، فِيهِ: عرض الرجل وليته إِذا كَانَ على كُفْء لَيْسَ بمنقصة عَلَيْهِ. قَوْله: (سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي) أَي: أتفكر، وَيسْتَعْمل النّظر أَيْضا بِمَعْنى الرأفة، لَكِن تعديته بِاللَّامِ، وَبِمَعْنى الروية وَهُوَ الأَصْل وبعدي بإلى، وَقد يَأْتِي بِغَيْر صلَة بِمَعْنى الِانْتِظَار. قَوْله: (فَصمت أَبُو بكر) ، أَي: سكت وزنا وَمعنى. قَوْله: (وَلم يرجع) ، بِفَتْح الْيَاء، وَهَذَا تَأْكِيد لرفع الْمجَاز لاحْتِمَال أَنه صمت زَمَانا ثمَّ تكلم. قَوْله: (وَكنت أوجد عَلَيْهِ) ، أَي: أَشد على أبي بكر موجدة أَي غَضبا (مني على عُثْمَان) وَذَلِكَ لأمرين: أَحدهمَا: مَا كَانَ بَينهمَا من محبَّة أكيدة. وَالثَّانِي: أَن عُثْمَان أَن أَجَابَهُ أَولا ثمَّ اعتذر لَهُ ثَانِيًا، وَلكَون أبي بكر لم يعد عَلَيْهِ جَوَابا. وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي قَوْله: وَكنت أوجد عَلَيْهِ نَفسه هُوَ الْمفضل والمفضل عَلَيْهِ، لَكِن الأول بِاعْتِبَار أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَالثَّانِي بِاعْتِبَار عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَوْله: (لَعَلَّك وجدت عَليّ) هَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لقد وجدت عَليّ وَالْأول هُوَ الأجه. قَوْله: (فَلم أرجع) بِكَسْر الْجِيم أَي: لم أعد عَلَيْك الْجَواب. قَوْله: (لأفشي) بِضَم الْهمزَة من الإفشاء وَهُوَ الْإِظْهَار، وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ إسرار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَزْوِيج حَفْصَة لأبي بكرعلى سَبِيل المشورة، أَو لِأَنَّهُ علم قُوَّة إِيمَان أبي بكر، وَأَنه لَا يتَغَيَّر لذَلِك لكَون ابْنَته عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكتمان أبي بكر لذَلِك خشيَة أَن يَبْدُو للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نِكَاحهَا أَمر فَيَقَع فِي قلب عمر مَا وَقع فِي قلبه لأبي بكر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد.
فِيهِ: أَن من عرض عَلَيْهِ مَا فِيهِ الرَّغْبَة فَلهُ النّظر وَالِاخْتِيَار وَعَلِيهِ أَن يخبر بعد ذَلِك بِمَا عِنْده لِئَلَّا يمْنَعهَا من غَيره، لقَوْل عُثْمَان بعد لَيَال: قد بدا ليأن لَا أَتزوّج. وَفِيه: الِاعْتِذَار اقْتِدَاء بعثمان فِي مقَالَته هَذِه وَفِيه: كتمان السِّرّ، فَإِن أظهره الله أَو أظهره صَاحبه جَازَ للَّذي أسر إِلَيْهِ إِظْهَاره. وَفِيه: أَنه يجوز للرجل أَن يذكر لأَصْحَابه وَلمن يَثِق بِهِ أَنه يخْطب امْرَأَة قبل أَن يظْهر خطبتها وَفِيه: الرُّخْصَة فِي تَجْوِيز من عرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا بِخطْبَة أَو أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا أَلا ترى إِلَى قَول الصدّيق: لَو تَركهَا تَزَوَّجتهَا؟ وَقد جَاءَ فِي خبر آخر الرُّخْصَة فِي نِكَاح من عقد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا النِّكَاح وَلم يدْخل بهَا. وَأَن الصّديق كرهه وَرخّص فِيهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرُوِيَ دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة من كِنْدَة يُقَال لَهَا: قيلة، فَمَاتَ وَلم يدْخل بهَا وَلَا حجبها، فتزوجتها عِكْرِمَة بن أبي جهل فَغَضب أَبُو بكر وَقَالَ: تزوجت امْرَأَة من نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ عمر: مَا هِيَ من نِسَائِهِ، مَا دخل بهَا وَلَا حجبها، وَلَقَد ارْتَدَّت مَعَ من ارْتَدَّ فَسكت. وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح وَفِيه: فَسَاد قَول من قَالَ: إِن للْمَرْأَة الْبَالِغَة المالكة أمرهَا تَزْوِيج نَفسهَا وَعقد النِّكَاح عَلَيْهَا دون وَليهَا انْتهى. قلت: نِسْبَة هَذَا القَوْل إِلَى الْفساد من الْفساد، لِأَن من قَالَ هَذَا لم يقل من عِنْده، وَإِنَّمَا اعْتمد على حجَّة قَوِيَّة، وَهِي مَا رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة(20/115)
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تنْكح الأيم حَتَّى تستأمر، وَلَا تنْكح الْبكر حَتَّى تُستأذن. قَالُوا يَا رَسُول الله! كَيفَ إِذْنهَا؟ قَالَ: أَن تسكت وَرُوِيَ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا وإذنها صمانها. فَإِن قلت: المُرَاد بالأيم فِي الحَدِيث الثّيّب دون غَيرهَا، ذكره الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي؟ قلت: هَذَا لفظ عَام يتَنَاوَل الْبكر وَالثَّيِّب والمطلقة والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا وَيجب الْعَمَل بِعُمُوم الْعَام، وَأَنه يُوجب الحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا، وتخصيصه بِالثَّيِّبِ هُنَا إِخْرَاج للْكَلَام عَن عُمُومه. فَإِن قلت: جَاءَت الرِّوَايَة: الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا، وَهَذِه تفسر تِلْكَ الرِّوَايَة. قلت: لَا إِجْمَال فِيهَا فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير، بل يعْمل بِكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا، فَيعْمل بِرِوَايَة الأيم على عمومها، وبرواية الثّيّب على خصوصها وَلَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَتَيْنِ، على أَن أَبَا حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رجح الْعَمَل بِالْعَام على الْخَاص، كَمَا رجح قَوْله: مَا أخرجته الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر، على الْخَاص الْوَارِد فِيهِ، وَهُوَ قَوْله: لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: قد احْتج بِهِ أَي: بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض النَّاس: الأيم أَحَق بِنَفسِهَا.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي، وَهَكَذَا أفتى بِهِ بعد النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي. قلت: هَذَا عجب عَظِيم من التِّرْمِذِيّ يَقُول بِمَا لَا يَلِيق بِحَالهِ، لِأَن حَدِيث ابْن عَبَّاس: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي مَتى يُسَاوِي هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الْمجمع على صِحَّته؟
وَقد تكلمُوا فِي حَدِيث: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي، فَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ يَصح فِي هَذَا شَيْء إلاَّ حَدِيث سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن عَائِشَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ. قلت: سُلَيْمَان بن مُوسَى مُتكلم فِيهِ. قَالَ ابْن جريج وَالْبُخَارِيّ: عِنْده مَنَاكِير، وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: مطعون عَلَيْهِ، وَقَالَ الْعقيلِيّ: خولط قبل مَوته بِيَسِير، وَلَئِن سلمنَا صِحَة: لَا نِكَاح إلاَّ بوليّ، فِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس، فَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف، فَمَتَى يداني أَو يقرب هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الْمَرْفُوع الثَّابِت عِنْد أهل النَّقْل؟ وَلِهَذَا تجنب البُخَارِيّ وَمُسلم فِي تَخْرِيجه عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَقَالَ الْخطابِيّ: قَوْله: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي، فِيهِ ثُبُوت النِّكَاح على عُمُومه وخصوصه بولِي، وتأوله بَعضهم على نفي الْفَضِيلَة والكمال، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَن الْعُمُوم يَأْتِي على أَصله جَوَازًا وكمالاً، وَالنَّفْي فِي الْمُعَامَلَات يُوجب الْفساد. قلت: سلمنَا أَنه على عُمُومه وَلَكِن مَعْنَاهُ مَحْمُول على الْكَمَال، كَمَا فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاَّ فِي الْمَسْجِد، وَجعله النِّكَاح من الْمُعَامَلَات فَاسد لِأَنَّهُ من الْعِبَادَات حَتَّى إِنَّه أفضل من الصَّلَاة النَّافِلَة فَيكون لَهُ جهتان من جَوَاز: نَاقص وكامل، فَإِن قلت: رُوِيَ: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي، عَن أبي هُرَيْرَة وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأنس بن مَالك وَجَابِر بن عبد الله وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم؟ قلت: حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد بن عدي، وَحَدِيث عمرَان عِنْد حَمْزَة السَّهْمِي فِي تَارِيخ جرجان وَعند الدَّارَقُطْنِيّ، وَحَدِيث أنس عِنْد الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك، وَحَدِيث جَابر عِنْد أبي يعلى الْموصِلِي، وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَحَدِيث ابْن عمر عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، وَحَدِيث معَاذ عِنْد ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْعِلَل المتناهية. أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَفِي إِسْنَاده الْمُغيرَة بن مُوسَى قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث وَقَالَ ابْن حبَان: يَأْتِي عَن الثِّقَات بِمَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات، فَبَطل الِاحْتِجَاج بِهِ. وَأما حَدِيث عمرَان فَفِي إِسْنَاده عبد الله بن عَمْرو الوافقي، قَالَ عَليّ: كَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كَانَ يكذب. وَأما حَدِيث أنس ... وَأما حَدِيث جَابر فَمَحْمُول على نفي الْكَمَال، وَأما حَدِيث أبي سعيد فَفِي إِسْنَاده ربيعَة بن عُثْمَان. قَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث، وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَفِي إِسْنَاده ثَابت بن زُهَيْر، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَأما حَدِيث معَاذ فَفِي إِسْنَاده أَبُو عصمَة نوح، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانَ يتهم بِالْوَضْعِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ. مَتْرُوك.
3215 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يَزِيدَ بنِ أبي حَبِيبٍ عنْ عِرَاكٍ بن مالِكٍ أنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أبِي سلَمَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قالَتْ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّا قَدْ تَحَدَّثْنا أنَّكَ(20/116)
ناكِحٌ دُرَّةَ بِنْتِ أبي سلَمَةَ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلَى أُمِّ سلَمَةَ؟ لَوْ لَمْ أنْكِحْ أُمِّ سلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي إنَّ أَبَاهَا أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذَا الحَدِيث طرف من الحَدِيث الَّذِي مضى قَرِيبا فِي: بَاب: {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} (النِّسَاء: 32) وَفِيه: قَالَت أم حَبِيبَة يَا رَسُول الله! أنكح أُخْتِي بنت أبي سُفْيَان الحَدِيث، وَهَذَا عرض أُخْتهَا على أهل الْخَيْر. قَوْله: (درة) بِضَم الدَّال الْمُهْملَة. قَوْله: (أَعلَى أم سَلمَة) أَي: أَتزوّج على أمهَا؟ يَعْنِي: كَيفَ أَتزوّج درة وَهِي ربيبتي، وَلَو لم تكن ربيبتي لما حلت لي أَيْضا لِأَنَّهَا بنت أخي؟ أَبَا سَلمَة، لِأَن ثوبية أرضعت أَبَا سَلمَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيعًا.
43 - (بابُ قَوْلِ الله جَلَّ وعَزَّ { (2) وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء أَو أكننتم أَنفسكُم علم الله} (الْبَقَرَة: 532) الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ { (2) غَفُور حَلِيم} (الْبَقَرَة: 532)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم} (الْبَقَرَة: 532) إِلَى آخر مَا ذكره، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَحذف مَا بعد: {أكننتم} من رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي شرح ابْن بطال سِيَاق الْآيَة وَالَّتِي بعْدهَا إِلَى قَوْله {أَجله} الْآيَة. وَقَالَ ابْن التِّين: تَضَمَّنت الْآيَة أَرْبَعَة أَحْكَام: إثنان مباحان: التَّعْرِيض والإكنان، وإثنان ممنوعان: النِّكَاح فِي الْعدة والمواعدة فِيهَا.
أكْننْتُمْ: أضْمَرْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ، وكلُّ صُنْتَهُ أوْ أضْمَرْتَهُ فَهْوَ مَكْنونٌ
قَوْله: (أكننتم) من الإكنان وَهُوَ الْإِضْمَار فِي النَّفس، وَأَشَارَ بقوله: (فَهُوَ مَكْنُون) إِلَى أَن ثلاثي أكننتم من: كنَّ يكن فَهُوَ مَكْنُون أَي: مَسْتُور ومحفوظ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: كننته أكنه كُنَّا، والإسم: يَعْنِي الْمصدر بِالْفَتْح والإسم بِالْكَسْرِ، وَفِي التَّفْسِير: يَعْنِي أضمرتم فِي قُلُوبكُمْ وَلم تذكروه بألسنتكم، وَهَذَا خطْبَة النِّسَاء، وَقد نفي الله الْجنَاح فِي التَّعْرِيض فِي خطْبَة النِّسَاء، وَقد نفى الله الْجنَاح فِي التَّعْرِيض فِي خطْبَة النِّسَاء وهنّ فِي الْعدة، وَذكر أَولا التَّعْرِيض بقوله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء} (الْبَقَرَة: 532) والتعريض أَن يَقُول: إِنَّك لجميلة، أَو صَالِحَة وَمن غرضي أَن أَتزوّج، وَعَسَى الله أَن ييسر لي امْرَأَة صَالِحَة، وَنَحْو ذَلِك من الْكَلَام الموهم أَنه يُرِيد نِكَاحهَا حَتَّى تحبس نَفسهَا عَلَيْهِ إِن رغبت فِيهِ، وَلَا يُصَرح بِالنِّكَاحِ فَلَا يَقُول: إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك أَو أتزوجك أَو أخطبك، وَالْفرق بَين التَّعْرِيض وَالْكِنَايَة أَن التَّعْرِيض أَن تذكر شَيْئا يدل على شَيْء لم تذكره، كَمَا يَقُول الْمُحْتَاج للمحتاج إِلَيْهِ: جئْتُك لأسلم عَلَيْك ولأنظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم، وَالْكِنَايَة أَن يذكر الشَّيْء بِغَيْر لَفظه الْمَوْضُوع لَهُ، كَقَوْلِك: طَوِيل النجاد لطول الْقَامَة، وَكثير الرماد للمضياف. ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى: {علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن} (الْبَقَرَة: 532) يَعْنِي: لَا تصبرون عَن النُّطْق برغبتكم فِيهِنَّ، وَفِيه نوع توبيخ. ثمَّ قَالَ: {وَلَكِن لَا تواعدوهن} (الْبَقَرَة: 532) فِيهِ حذف تَقْدِيره: فاذكروهن وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا، وَهُوَ كِنَايَة عَن النِّكَاح الَّذِي هُوَ الْوَطْء. ثمَّ عبر بالسر عَن النِّكَاح الَّذِي هُوَ الْمُقدر بقوله: {إلاَّ أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا} (الْبَقَرَة: 532) وَهُوَ أَن تعرضوا وَلَا تصرحوا، ثمَّ قَالَ: {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح} (الْبَقَرَة: 532) أَي: لَا تقصدوها {حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله} (الْبَقَرَة: 532) يَعْنِي: مَا كتب وَفرض من الْعدة.
4215 - وَقَالَ لي طَلْقٌ: حدَّثنا زائدَةُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجاهدٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ { (2) فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء} (الْبَقَرَة: 532) يَقُولُ: إنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَلودَدْتُ أنَّهُ تَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صالِحَة.
طلق بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون اللَّام: ابْن غَنَّام. بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: ابْن طلق بن مُعَاوِيَة أَبُو مُحَمَّد النَّخعِيّ الْكُوفِي أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ. وَقَالَ ابْن سعد: مَاتَ فِي رَجَب سنة: إِحْدَى عشر وَمِائَتَيْنِ. وزائدة بن قدامَة، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، فَظن صَاحب التَّوْضِيح أَن هَذَا مُعَلّق وَلَيْسَ بتعليق لِأَن قَوْله: (قَالَ لي) يدل على أَنه سَمعه من طلق، ثمَّ قَالَ: أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بِلَفْظ: إِنِّي فِيك لراغب وَإِنِّي أُرِيد امْرَأَة أمرهَا كَذَا وَكَذَا، ويعرض لَهَا بالْقَوْل. قَوْله: (وَلَو ددت) أَي: ولأحببت. قَوْله: (أَنه) أَي: أَن الشَّأْن. قَوْله: (تيَسّر لي) بِفَتْح التَّاء(20/117)
الْمُثَنَّاة من فَوق الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَشْديد السِّين وَضم الرَّاء، وَأَصله تتيسر. بتاءين مثناتين من فَوق فحذفت إِحْدَاهمَا للتَّخْفِيف، وَضَبطه بَعضهم بقوله: ييسر، بِضَم التَّحْتَانِيَّة وَفتح أُخْرَى مثلهَا بعْدهَا وَفتح السِّين الْمُهْملَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مثل مَا ضَبطنَا فياليته يَقُول: بِضَم الفوقانية وَفتح التَّحْتَانِيَّة، وَلَكِن الْقُصُور عَن فن يُؤَدِّي إِلَى أَكثر من هَذَا إِثْم قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَفِي رواي الْكشميهني: يسر لي بتحتانية وَاحِدَة وَكسر الْمُهْملَة، وَلم أدر مَا وَجهه فياليته قَالَ: بِضَم تَحْتَانِيَّة وَتَشْديد السِّين الْمَكْسُورَة على صِيغَة مَجْهُولَة للماضي من التَّيْسِير.
وَقَالَ القاسِمُ: يَقُولُ: إنَّكِ عَليَّ كَرِيمَةٌ وإنِّي فِيكِ لَرَاغِب، وإنَّ الله لَسائِقٌ إليْكَ خَيْرا، أوْ نَحْوَ هاذَا
الْقَاسِم هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن يزِيد بن هَارُون عَن يحيى بن سعيد عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه فِي الْمَرْأَة يتوفي عَنْهَا زَوجهَا وَيُرِيد الرجل خطبتها وكلامها، قَالَ: يَقُول: إِنِّي بك لمعجب، وَإِنِّي عَلَيْك لحريض، وَإِنِّي فِيك لراغب، وَأَشْبَاه ذَلِك. قَوْله: (أَو نَحْو هَذَا) مثل أَن يَقُول: إِنِّي حَرِيص عَلَيْك، أَو أسأَل الله تَعَالَى أَن يَرْزُقنِي امْرَأَة صَالِحَة وأمثال هَذَا كَثِيرَة.
وَقَالَ عَطاءٌ: يُعَرِّضُ وَلَا يبُوحُ يَقُولُ: إنَّ لي حاجَةً، وأبْشِري، وأنْتِ بحَمْدِ الله نافِقَةٌ، وتَقُولُ هِيَ: قَدْ أسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَلَا تَعِدُ شَيْئا وَلَا يُوَاعِدُ ولِيُّها بِغَيْرِ عِلْمِها، وإنْ واعَدَتْ رجُلاً فِي عِدَّتْها ثُمَّ نكَحَها بَعْدُ لَمْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُما
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: (يعرض) بتَشْديد الرَّاء من التَّعْرِيض (وَلَا يبوح) أَي: وَلَا يُصَرح من باح بالشَّيْء يبوح بِهِ إِذا أعلنه قَوْله: (نافقة) بالنُّون وَالْفَاء، وَالْقَاف أَي: رائجة بِالْجِيم. قَوْله: (وَتقول هِيَ) الْمَرْأَة. قَوْله: (وَلَا تعِدُ) من الْوَعْد أَي: الْمَرْأَة لَا تعد لَهُ بِالْعقدِ وَأَنَّهَا تتَزَوَّج بِهِ، وَلَا تَقول شَيْئا غير قَوْلهَا: (اسْمَع مَا تَقول) . قَوْله: (وَلَا يواعد) أَي: الرجل (وَليهَا) أَي الَّذِي بلي أمرهَا بِغَيْر علمهَا، وَإِن وَاعَدت هِيَ رجلا فِي حَالَة الْعدة ثمَّ نكحا بعدُ بِضَم الدَّال أَي: بعد المواعدة وَبعد انْقِضَاء الْعدة، لم يفرق بَينهمَا لصِحَّة العقد وَعدم الْمَانِع، وَإِن صرح بِالْخطْبَةِ فِي الْعدة لَكِن لم يعْقد إلاَّ بعد انْقِضَاء الْعدة صَحَّ العقد عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَكِن ارْتكب الْمنْهِي. وَقَالَ مَالك: يفارقها، دخل بهَا أَو لم يدْخل، وَلَو وَقع العقد فِي الْعدة وَدخل بهَا يفرق بَينهمَا بِلَا خلاف بَين الْأَئِمَّة. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا يحل لَهُ بعد ذَلِك نِكَاحهَا، وَقَالَ الْبَاقُونَ: يحل لَهُ إِذا انْقَضتْ الْعدة أَن يَتَزَوَّجهَا إِن شَاءَ.
وَقَالَ الحَسَنُ { (2) لَا توعدوهن سرا} (الْبَقَرَة: 532) الزِّنا
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي تَفْسِير السِّرّ فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا} (الْبَقَرَة: 532) أَنه الزِّنَا، وَوَصله عبد بن حميد من طَرِيق عمرَان بن جدير عَن الْحسن بِلَفْظِهِ: فَإِن قلت: أَيْن الْمُسْتَدْرك بقوله: {وَلَكِن لَا تواعدوهن} (الْبَقَرَة: 532) قلت: هُوَ مَحْذُوف لدلَالَة: {ستذكرونهن} (الْبَقَرَة: 532) عَلَيْهِ تَقْدِيره {علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن فاذكروهن وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا} (الْبَقَرَة: 532) والسر وَقع كِنَايَة عَن النِّكَاح الَّذِي هُوَ الْوَطْء لِأَنَّهُ مِمَّا يسر. قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَالَ الشّعبِيّ: هُوَ أَن يَأْخُذ عَلَيْهَا عهدا أَن لَا تتَزَوَّج غَيره، وَقَالَ مُجَاهدًا: سرا يخطبها فِي عدتهَا، وَقَالَ ابْن سِيرِين: يلقِي الْوَلِيّ فيذكر عَنهُ رَغْبَة وحرصا. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ الْجِمَاع وَهُوَ التَّصْرِيح بِمَا لَا يحل لَهُ فِي حَالَته، وَقد قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو الشعْثَاء مثل مَا قَالَ الْحسن، وَلَكِن فِيهِ تَأمل، لِأَن الزِّنَا لَا يجوز المواعدة بِهِ سرا وَلَا جَهرا.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: { (2) الْكتاب أَجله} (الْبَقَرَة: 532) : تَنْقَضِي العِدَّةُ
أَي: يذكر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله} (الْبَقَرَة: 532) حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَطاء الْخُرَاسَانِي عَنهُ بِهِ، وَقد حرم الله تَعَالَى عقد النِّكَاح فِي الْعدة بقوله: {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله} (الْبَقَرَة: 532) وَهَذَا(20/118)
من الْمُحكم الْمُجْتَمع على تَأْوِيله أَن بُلُوغ أَجله انْقِضَاء الْعدة وأباح التَّعْرِيض فِي الْعدة وَذكر ابْن أبي شيبَة جَوَاز التَّعْرِيض عَن مُجَاهِد وَالْحسن وَعبيدَة السَّلمَانِي وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَأبي الضُّحَى، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: لَا بَأْس بالهدية فِي تَعْرِيض النِّكَاح، وَقَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله: الْعدة الَّتِي أذن الله تَعَالَى بالتعريض فِيهَا هِيَ الْعدة من وَفَاة الزَّوْج، وَلَا أحب ذَلِك فِي الْعدة من الطَّلَاق الْبَائِن احْتِيَاطًا، وَأما الَّتِي لزَوجهَا عَلَيْهَا رُجُوع فَلَا يجوز لأحد أَن يعرض لَهَا بِالْخطْبَةِ فِيهَا.
53 - (بابُ النَّظَرِ إِلَى المَرْأةِ قَبْلَ التَّزْويجِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز النّظر إِلَى الْمَرْأَة قبل أَن يَتَزَوَّجهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: قبل التَّزَوُّج، لِأَن النّظر فِيهِ لَا فِي التَّزْوِيج، وَالظَّاهِر أَن هَذَا من النَّاسِخ. وَهَذَا الْبَاب اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فَقَالَ طَاوُوس وَالزهْرِيّ وَالْحسن والبصري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَآخَرُونَ: يُبَاح النّظر إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي يُرِيد نِكَاحهَا. وَقَالَ عِيَاض: وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: ينظر إِلَيْهَا ويجتهد وَينظر مِنْهَا مَوَاضِع اللَّحْم. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَسَوَاء: بِإِذْنِهَا أَو بِغَيْر إِذْنهَا إِذا كَانَت مستترة، وَحكى بعض شُيُوخنَا، تَأْوِيلا على قَول مَالك: إِنَّه لَا ينظر إِلَيْهَا إلاَّ بِإِذْنِهَا لِأَنَّهُ حق لَهَا، وَلَا يجوز عِنْد هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين أَن ينظر إِلَى عورتها وَلَا وَهِي حَاسِرَة، وَعَن دَاوُد ينظر إِلَى جَمِيعهَا حَتَّى قَالَ ابْن حزم: يجوز النّظر إِلَى فرجهَا. وَقَالَت الْعلمَاء: لَا ينظر إِلَى فرجهَا. وَقَالَت الْعلمَاء: لَا ينظر إِلَيْهَا نظر تلذة وشهوة وَلَا لريبة، وَقَالَ أَحْمد: ينظر إِلَى الْوَجْه على غير طَرِيق لَذَّة، وَله أَن يردد النّظر إِلَيْهَا متأملاً محاسنها، وَإِذا لم يُمكنهُ النّظر اسْتحبَّ أَن يبْعَث امْرَأَة يَثِق بهَا تنظر إِلَيْهَا وَتُخْبِرهُ، لما رُوِيَ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ثَابت عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة فَبعث بِامْرَأَة لتنظر إِلَيْهَا، فَقَالَ: (شمي عوارضها وانظري إِلَى عرقوبيها) الحَدِيث. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ شَيخنَا فِي الْمُسْتَدْرك، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل مُخْتَصرا. قلت: الْعَوَارِض الْأَسْنَان الَّتِي فِي عرض الْفَم، وَهِي مَا بَين الثنايا والأضراس، واحدتها عَارض، وَذَلِكَ لاختبار النكهة. قَالَت ظائفة، مِنْهُم يُونُس بن عبيد، وَإِسْمَاعِيل بن علية وَقوم من أهل الحَدِيث. لَا يجوز النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة مُطلقًا إلاَّ لزَوجهَا أَو ذِي رحم محمرم مِنْهَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَا عَليّ! إِن لَك فِي الْجنَّة كنزا وَإنَّك ذُو قرنيها، فَلَا تتبع النظرة النظرة فَإِن لَك الأولى) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار. وَمعنى: لَا تتبع النظرة النظرة أَي: لَا تجْعَل نظرتك إِلَى الْأَجْنَبِيَّة تَابِعَة لنظرتك الأولى الَّتِي تقع بَغْتَة، وَلَيْسَت لَك النظرة الْآخِرَة، لِأَنَّهَا تكون عَن قصد وَاخْتِيَار فتأثم بهَا أَو تعاقب، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جرير بن عبد الله، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نظر الْفجأَة فَأمرنِي أَن أصرف بَصرِي. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَت النظرة الثَّانِيَة حَرَامًا لِأَنَّهَا عَن اخْتِيَار خُولِفَ بَين حكمهَا وَحكم مَا قبلهَا إِذا كَانَت بِغَيْر اخْتِيَار، دلّ ذَلِك على أَنه لَيْسَ لأحد أَن ينظر إِلَى وَجه امْرَأَة إلاَّ أَن يكون بَينهَا وَبَينه من النِّكَاح أَو الْحُرْمَة.
واحتجت الطَّائِفَة الألى بِحَدِيث مُحَمَّد بن مسلمة: سَمِعت رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، يَقُول: (إِذا ألْقى فِي قلب امرىء خطْبَة امْرَأَة فَلَا بَأْس أَن ينظر إِلَيْهَا) ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ، وَبِحَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ، وَقد كَانَ رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا خطب أحدكُم امْرَأَة فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن ينظر إِلَيْهَا إِذا كَانَ إِنَّمَا ينظر إِلَيْهَا للخطبة، وَإِن كَانَت لَا تعلم) ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأحمد وَالْبَزَّار، وَبِحَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا خطب أحدكُم الْمَرْأَة فَقدر على أَن يرى مِنْهَا مَا يُعجبهُ فَلْيفْعَل) ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد، وَبِحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رجلا أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة من الْأَنْصَار، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (انْظُر إِلَيْهَا فَإِن فِي أعين نسَاء الْأَنْصَار شَيْئا) ، يَعْنِي: الصغر، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأخرجه مُسلم وَلَيْسَ فِي رِوَايَته: يَعْنِي الصغر، وَبِحَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنه أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (انْظُر إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا) وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَقَالَ: معنى قَوْله: (أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا) أَي: أَحْرَى أَن تدوم الْمَوَدَّة بَيْنكُمَا؛ وَأَجَابُوا عَن حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَن النّظر فِيهِ لغير الْخطْبَة، فَذَلِك حرَام، وَأما إِذا كَانَ للخطبة فَلَا يمْنَع مِنْهُ لِأَنَّهُ للْحَاجة، أَلا يرى كَيفَ جوز بِهِ فِي الْإِشْهَاد عَلَيْهَا وَلها؟ فَكَذَلِك النّظر للخطبة. وَالله أعلم.
5215 - حدَّثنا مُسَدّدٌ حَدثنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا،(20/119)
قالَتْ: قَالَ لي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رأيْتُكِ فِي المَنامِ تجيءُ بِكِ المَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لي: هاذِه امْرَأتُكَ، فكَشَفْتُ عنْ وجهِكِ الثَّوْبَ فإِذَا أنْتِ هيَ فقُلْتُ: إنْ يَكُ هاذا مِنْ عنْدِ الله يُمْضِهِ..
هَذَا الحَدِيث مُضِيّ فِي أَوَائِل كتاب النِّكَاح فِي: بَاب نِكَاح الْأَبْكَار، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة إِلَى آخِره وَفِيه: أريتك، على صِيغَة الْمَجْهُول مرَّتَيْنِ، وَهنا رَأَيْتُك، وَهُنَاكَ: إِذا رجل يحملك فِي سَرقَة من حَرِير، وَهُنَاكَ: فأكشفها، وَهنا: فَكشفت وَهُنَاكَ: فَإِذا هِيَ أَنْت، وَهنا: فَإِذا أَنْت هِيَ، وَهَذَا: مثل: زيد أَخُوك، وأخوك زيد، وَوجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة من حَيْثُ الِاسْتِئْنَاس بِهِ فِي جَوَاز النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة للخطبة، وَذَلِكَ لِأَن مَنَام الْأَنْبِيَاء وَحي، على أَن ظَاهر قَوْله: (يَجِيء بك الْملك) يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاهد حَقِيقَة صُورَة عَائِشَة، وَكَانَت هِيَ فِي سَرقَة من حَرِير، وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت هُنَاكَ.
6215 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا يعْقُوبُ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أنَّ امْرَأةً جاءَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رسولَ الله {جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إليْها رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إليْها وصوَّبَهُ، ثُمَّ طأْطأْ رَأْسَهُ فلَمَّا رأتِ المَرْأةُ أنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيها شَيْئا جلَسَتْ، فقامَ رجُلٌ مِنْ أصْحابهِ، فقالَ: أيْ رسولَ الله} إنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ حاجَةٌ فَزَوِّجْنِيها. فقالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْء؟ قَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ الله، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى أهْلِكَ فانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئَا؟ فذهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ الله، مَا وجَدْتُ شَيْئَا. قَالَ: انْظُرْ ولَوْ خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، فذهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: وَلَا وَالله يَا رسولَ الله، وَلَا خَاتِما مِنْ حَدِيدٍ، ولاكِنْ هذَا إزَارِي. قَالَ سَهْلٌ: مالَهُ رِدَاءٌ فَلَها نصْفُهُ. فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَهُ لمْ يَكُنْ علَيْها منْهُ شيْءٌ، وإنْ لَبِسَتْهُ لمْ يَكُنْ علَيْكَ شيْءٌ، فجَلَسَ الرَّجُلُ حتَّى طالَ مجْلِسُهُ، ثُمَّ قامَ، فرَآهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَلِّيا فأمَرَ بهِ فدُعِيَ، فلَمَّا جاءَ قَالَ: ماذَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: معِي سُورَةُ كَذا وسورَةُ كَذا وسورَةُ كَذا، عَدَّدَها قَالَ: أتَقْرَؤُهُنَّ عنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إذْهَبْ فقَدْ مَّلكْتُكَها بِما معَكَ منَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَنظر إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. والْحَدِيث قد مر فِيمَا قبله عَن قريب فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب تَزْوِيج الْمُعسر، وَفِيمَا قبله فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي: بَاب الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب.
وَأخرجه فِي هَذَا الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة عَن قُتَيْبَة بن سعيد، لَكِن هُنَا وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، وَفِي: بَاب تَزْوِيج الْمُعسر، عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه سَلمَة بن دِينَار.
قَوْله: (عَددهَا) ، ويروي: عادها، وَمد الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
63 - (بابُ منْ قالَ: لَا نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان (من قَالَ: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي) ، هَذَا لفظ الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَإِنَّمَا ترْجم بِهَذَا وَلم يُخرجهُ لكَونه لَيْسَ على شَرطه، وَكَذَلِكَ لم يُخرجهُ مُسلم وَفِيه كَلَام كَثِيرَة قد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَلَكِن لما كَانَ ميله إِلَى من قَالَ: لَا نِكَاح إلاّ بولِي، احْتج بِثَلَاث آيَات ذكر هُنَا فِي كل آيَة قِطْعَة وَهِي قَوْله.
لِقَوْلِ الله تَعالى { (2) فَلَا تعضلوهن} (الْبَقَرَة: 232)
وَفِي بعض النّسخ لقَوْله تَعَالَى: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعلضلوهن} (الْبَقَرَة: 232) وَجه الاستدل بِهِ أَن الله تَعَالَى نهى(20/120)
الْأَوْلِيَاء عَن عضلهن أَي: مَنعهنَّ من التَّزْوِيج، فَلَو كَانَ العقد إلَيْهِنَّ لم يكنَّ ممنوعات. قلت: لَا يتم الاستدل بِهِ لِأَن ظَاهر الْكَلَام أَن الْخطاب للأزواج الَّذين يعاقون نِسَاءَهُمْ ثمَّ يعضلونها بعد انْقِضَاء الْعدة تأثما. ولحميَّة الْجَاهِلِيَّة لَا يتركونهن يتزوجهن من شئن من الْأزْوَاج. فَإِن قلت: هَذِه الْآيَة نزلت فِي قصَّة معقل بن يسَار، على مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي عَن قريب، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْكُبْرَى من رِوَايَة الْحسن عَن مقعل بن يسَار، قَالَ: كَانَت لي أُخْت تخْطب فأمنعها الحَدِيث، وَفِيه: فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا تعضلوهن} (الْبَقَرَة: 232) فَقَالَ: من قَالَ: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي: أَمر الله تَعَالَى بترك عضلهن، فَدلَّ ذَلِك أَن إِلَيْهِم عقد نِكَاحهنَّ. قلت: هَذَا الحَدِيث رُوِيَ من وُجُوه كَثِيرَة مُخْتَلفَة، وَكَذَلِكَ ذكرت وُجُوه فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، فَمنهمْ من قَالَ: الْخطاب فِيهِ للأولياء، وَمِنْهُم من قَالَ الْخطاب: للأزواج الذيم طلقوا، وَمِنْهُم من قَالَ: الْخطاب لسَائِر النَّاس، فعلى هَذَا الأيتم بِهِ الِاسْتِدْلَال على مَا ذكرنَا. وَأَيْضًا يحْتَمل أَن يكون عضل معقل بن يسَار لأجل تزهيده وترغيبه أُخْته فِي الْمُرَاجَعَة، فتقف عِنْد ذَلِك، فَأمر بترك ذَلِك. وَقَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص، بعد أَن رُوِيَ حَدِيث معقل من رِوَايَة سماك عَن ابْن أخي معقل عَن معقل بن يسَار: إِن هَذَا الحَدِيث غير ثَابت على مَذْهَب أهل النَّقْل لِأَن فِي سَنَده رجلا مَجْهُولا، وَأما حَدِيث الْحسن الْبَصْرِيّ فمرسل، وَأما الْآيَة فَالظَّاهِر أَنَّهَا خطاب للأزواج، كَمَا ذكرنَا.
فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وكَذَلِكَ البِكْرُ
أَي: فَدخل فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَا تعضلوهن} (الْبَقَرَة: 232) الثّيّب وَالْبكْر لعُمُوم لفظ النِّسَاء، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبد الله: فَدخلت فِيهِ الثّيّب وَالْبكْر، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
وَقَالَ: { (2) وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} (الْبَقَرَة: 122)
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن الله خَاطب الْأَوْلِيَاء ونهاهم عَن إنكاح الْمُشْركين مولياتهم المسلمات. قلت: الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} (الْمَائِدَة: 5) وَالْخطاب أَعم من أَن يكون للأولياء أَو غَيرهم، فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ.
وَقَالَ: { (24) وَانْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} (النُّور: 23)
لَا وَجه للاستدلال بِهِ لمن قَالَ: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي، لِأَن الْمُفَسّرين قَالُوا: مَعْنَاهُ أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ زوجوا من لَا زوج لَهُ من أَحْرَار رجالكم ونسائكم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ، وَمن كَانَ فِيهِ صَلَاح من غِلْمَانكُمْ وجواربكم، والأيامى جمع أيم وَهُوَ أَعم من الْمَرْأَة كَمَا ذكرنَا لتنَاوله الرجل، فَلَا يَصح أَن يُرَاد بالمخاطبين الْأَوْلِيَاء وإلاَّ كَانَ للرجل ولي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: خرج الرجل مِنْهُ بِالْإِجْمَاع فَبَقيَ الحكم فِي الْمَرْأَة بِحَالهِ. قلت: هَذِه عوى تحْتَاج إِلَى الْبُرْهَان.
7215 - قَالَ يَحْيَى بنُ سُلَيْمانَ: حَدثنَا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ. يحيى بن سُلَيْمَان بن يحيى بن سعيد بن مُسلم بن عبيد بن مُسلم أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي المقرىء، قَالَ الْمُنْذِرِيّ: قدم يحيى بن سُلَيْمَان مصر وَحدث بهَا، وَتُوفِّي بهَا سنة ثَمَان، وَيُقَال: سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، يروي عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب، وَالْبُخَارِيّ يحْكى عَن يحيى بطرِيق النَّقْل عَنهُ بِدُونِ: حَدثنَا أَو أخبرنَا، وَلَكِن يروي عَن أَحْمد بن صَالح، وَهُوَ قَوْله:
حدَّثنا أحْمَدُ بنُ صالِحٍ حَدثنَا عَنْبَسَةُ حَدثنَا يُونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أخبرَني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرَتْهُ أنَّ النكاحَ فِي الجَاهِليَّةِ كانَ علَى أرْبَعَةٍ أنْحاء: فينكاحُ مِنْها نِكاحُ النَّاسِ اليَوْمَ، يخْطُبُ الرَّجُلُ ولِيَّتَهُ أَو ابْنَتَهُ فيُصْدِقُها ثُمَّ يَنْكِحُها، ونِكاحُ الآخَرِ: كانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأتِهِ إِذا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِها: أرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فاسْتَبْضِعي منْهُ ويَعْتَزلُها زَوْجُها وَلَا يَمَسُّها أبَدا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذالِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ منْهُ، فإِذَا تَبَيَّنَ حمْلُها أَصَابَهَا زَوْجُها إِذا أحَبَّ، وإِنَّما يَفْعَلُ ذالِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةٍ الوَلَد، فَكانَ هاذا النِّكاحُ نِكاحَ(20/121)
الاسْتِبْضاعِ، ونِكاحُ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهطُ مَا دُونَ العَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ علَى المَرْأةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُها فإِذا حَمَلَتْ ووَضَعَتْ ومَرَّ علَيْها لَيالي بعْدَ أنْ تَضَعَ حَمْلَها، أرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فلَمْ يَسْتَطعْ رجُلٌ منْهُم أنْ يَمْتَنِعَ حتَّى يجتَمِعُوا عِنْدَها، تقُولُ لَهُمْ: قَدْ عرَفْتُمُ الَّذِي كانَ مِنْ أمْرِكُمُ، وقَدْ ولَدْتُ فهوَ ابْنُكَ يَا فلانَ، تُسَمِّي منْ أحَبَّتْ باسْمِهِ، فيَلْحَقُ بِهِ ولدُها لَا يَسْتَطيعُ أنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ. ونِكاحُ الرَّابِعِ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ علَى المَرْأةِ لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جاءَها، وهُنّ البغَايا، كُنَّ يَنْصِبْنَ علَى أبْوابِهِنَّ راياتٍ تكُونُ عَلما، فمَنْ أرادَهُنَّ دخَلَ علَيْهِنَّ، فإِذَا حَمَلَتْ إحْدَاهُنَّ ووَضَعَتْ حَمْلَها جُمِعُوا لهَا ودَعَوْا لَهُمُ الْقافَةَ، ثُمَّ ألْحقُوا ولَدَها بالَّذِي يَرَوْنَ، فالْتاطَ بهِ ودُعِيَ ابْنَهُ لَا يمْتَنعُ مِنْ ذالِكَ، فلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحَقِّ هَدَمَ نِكاحَ الجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إلاَّ نِكاحَ النَّاسِ اليَوْمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (مِنْهَا نِكَاح النَّاس الْيَوْم) إِلَى قَوْله: (وَنِكَاح آخر) .
وَأحمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ، وعنبسة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة: ابْن خَالِد بن أخي يُونُس.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي النِّكَاح عَن أَحْمد بن صَالح بِهِ.
قَوْله: (على أَرْبَعَة أنحاء) أَي: أَرْبَعَة أَنْوَاع، وَهُوَ جمع نَحْو، يَأْتِي لمعان بِمَعْنى الْجِهَة وَالنَّوْع والمثل وَالْعلم الْمَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة. قَوْله: (وَابْنَته) كلمة: أَو، للتنويع لَا للشَّكّ. قَوْله: (فيصدقها) بِضَم الْيَاء وَسُكُون الصَّاد، أَي: يَجْعَل لَهَا صَدَاقا معينا. قَوْله: (وَنِكَاح الآخر) هُوَ النَّوْع الثَّانِي، وَهُوَ بِالْإِضَافَة فِي رِوَايَة، أَي: نِكَاح الصِّنْف الآخر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: وَنِكَاح آخر، بِالتَّنْوِينِ: وَآخر، بِدُونِ الْألف وَاللَّام صفته. قَوْله: (إِذا طهرت) بِلَفْظ الغائبة. قَوْله: (من طمثها) بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة أَي: من حَيْضهَا. قَوْله: (فاستبضعي) أَي: اطلبي مِنْهُ المباضعة أَي المجامعة، وَهِي مُشْتَقَّة من الْبضْع وَهُوَ الْفرج، وَوَقع فِي رِوَايَة إصبغ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ: استرضعي، بالراء بدل الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ: رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصَّاغَانِي الأول هُوَ الصَّوَاب يَعْنِي: الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (وَلَا يَمَسهَا) أَي: وَلَا يُجَامِعهَا. قَوْله: (تستبضع مِنْهُ) أَي: من الرجل الَّذِي تستبضع الْمَرْأَة مِنْهُ أَي تطلب مِنْهُ الْجِمَاع. قَوْله: (أَصَابَهَا) أَي: جَامعهَا زَوجهَا. قَوْله: (وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك) أَي: الاستبضاع من فلَان قَوْله: (رَغْبَة) أَي: لأجل رَغْبَة (فِي نجابة الْوَلَد) من نجب ينجب إِذا كَانَ فَاضلا نفيسا فِي نَوعه، وَكَانُوا يطْلبُونَ ذَلِك اكتسابا من مَاء الْفَحْل وَكَانُوا يطلبونه من أَشْرَافهم وَرُؤَسَائِهِمْ وأكابرهم. قَوْله: (نِكَاح الاستبضاع) بِالنّصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ، وَيجوز بِالرَّفْع على تَقْدِير: هُوَ نِكَاح الاستبضاع. قَوْله: (وَنِكَاح آخر) هُوَ النَّوْع الثَّالِث من الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة قَوْله: (يجْتَمع الرَّهْط) وَقد مر غير مرّة أَن الرَّهْط اسْم لما دون الْعشْرَة، وَلَا يكون فيهم امْرَأَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَيجمع على أرهط وأرهاط وأراهط جمع الْجمع، وَإِنَّمَا قَالَ: مَا دون الْعشْرَة، احْتِرَازًا عَن قَول الْبَعْض: إِن الرَّهْط إِلَى الْأَرْبَعين. قَوْله: (كلهم يُصِيبهَا) أَي: كلهم يجامعونها وَذَلِكَ بِرِضَاهَا وبالتواطؤ بَينهم. قَوْله: (وَمر عَلَيْهَا لَيَال) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَمر لَيَال، بِدُونِ لفظ: عَلَيْهَا. قَوْله: (قد عَرَفْتُمْ) خطاب لأولئك الرِّجَال، وَفِي رِوَايَة فالتاطته وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: قد عرفت، بِصِيغَة الْخطاب للْوَاحِد مِنْهُم. قَوْله: (وَقد ولدت) بِضَم التَّاء لِأَنَّهُ كَلَامهَا. قَوْله: (فَهُوَ ابْنك) الظَّاهِر أَنه إِذا كَانَ ذكرا تَقول: هُوَ ابْنك، وَيحْتَمل أَنه إِذا كَانَ بِنْتا لَا تَقول: هَذِه بنتك، لأَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الْبَنَات، حَتَّى إِن مِنْهُم من كَانَ يقتل بنته الْحَقِيقِيَّة وَهِي الموؤدة. قَوْله: (فَيلْحق بِهِ وَلَدهَا) هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: فيلتحق بِهِ وَلَدهَا وَيلْحق أَن قرىء بِفَتْح الْيَاء يكون قَوْله وَلَدهَا مَرْفُوعا بِهِ وَإِن كَانَ بِضَم الْيَاء من الالحاق يكون فِيهِ الضَّمِير يرجع إِلَى الْمَرْأَة وَيكون وَلَدهَا مَنْصُوبًا. قَوْله: (لَا يَسْتَطِيع أَن يمْتَنع بِهِ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مِنْهُ قَوْله: (وَنِكَاح الرَّابِع) بِالْإِضَافَة وقطعها، وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ عِنْد قَوْله: (وَنِكَاح الآخر) . قَوْله: (لَا تمْتَنع) أَي: الْمَرْأَة مِمَّن جاءها، ويروي: لَا تمنع من جاءها. قَوْله: (البغايا) جمع بغي، وَهِي الزَّانِيَة يُقَال: بَغت الْمَرْأَة تبغي بغيا بِالْكَسْرِ: إِذا زنت فَهِيَ بغي. قَوْله: (رايات) جمع راية. قَوْله: (تكون علما) أَي:(20/122)
عَلامَة لمن أرادهن. قَوْله: (أرادهن) هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره، فَمن أَرَادَ، فَقَط. قَوْله: (الْقَافة) ، وَهُوَ جمع قائف وَهُوَ الَّذِي يلْحق الْوَلَد بالوالد بالآثار الْخفية. قَوْله: (فالتاط بِهِ) أَي: فالتصق بِهِ، يُقَال: هَذَا لَا يلتاط بِهِ أَي: لَا يلتصق بِهِ، واستلاطوه أَي: استلحقوه، وأصل اللوط بِالْفَتْح اللصوق، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فالتاطه، بِغَيْر التَّاء الْمُثَنَّاة يَعْنِي: اسْتَلْحقهُ. قَوْله: (نِكَاح الْجَاهِلِيَّة) وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: نِكَاح الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (كُله) أَي: كل مَا ذكرت عَائِشَة من أَنْوَاع الْأَنْكِحَة الثَّلَاثَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: ذكرت عَائِشَة أَرْبَعَة أنكحة وَبَقِي عَلَيْهَا أنحاء لم تذكرها. الأول: نِكَاح الخدن، وَهِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا متخذات أخدان} (النِّسَاء: 52) كَانُوا يَقُولُونَ: مَا استتر فَلَا بَأْس بِهِ وَمَا ظهر فَهُوَ لوم الثَّانِي: نِكَاح الْمُتْعَة. الثَّالِث: نِكَاح الْبَدَل، وَقد أخرج الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: كَانَ الْبَدَل فِي الْجَاهِلِيَّة أَن يَقُول الرجل للرجل: إنزل لي عَن امْرَأَتك، وَأنزل لَك عَن امْرَأَتي وَأَزِيدك، وَإِسْنَاده ضَعِيف جدا.
9215 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّد حَدثنَا هِشامٌ أخْبرنا مَعْمَرٌ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبرنِي سالِمٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ أخْبرَهُ أنَّ عُمَرَ حينَ تأيمَتْ حَفْصَةُ بنْتُ عُمَرَ منِ ابنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وكانَ مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ أهْلِ بَدْرٍ، تُوُفِّيَ بالمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لقِيتُ عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ فعَرَضْتُ علَيْهِ، فَقُلْتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. فَقَالَ: سأنْظُرُ فِي أمْرِي، فلَبِثْتُ لَيالِي ثُمَّ لَقِيَني فَقَالَ: بَدَا لي أنْ لَا أتَزَوَّجَ يوْمِي هاذا، قَالَ عُمَرُ: فلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فقُلْتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة كمطابقة الحَدِيث السَّابِق وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد.
والْحَدِيث قد مر بأتم مِنْهُ عَن قريب فِي: بَاب عرض الْإِنْسَان ابْنَته أَو أُخْته، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي) النّظر إِذا اسْتعْمل بِكَلِمَة: فِي، يكون بِمَعْنى التفكر، وَإِذا اسْتعْمل بِاللَّامِ يكون بِمَعْنى الرأفة، وَإِذا اسْتعْمل بِكَلِمَة: إِلَى، يكون بِمَعْنى الرُّؤْيَة، وَإِذا اسْتعْمل بِدُونِ الصِّلَة يكون بِمَعْنى الِانْتِظَار، نَحْو: انظرونا نقتبس من نوركم.
0315 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ أبي عَمْرو قَالَ: حدَّثنِي أبي قَالَ: حَدثنِي إبْرَاهِيمُ عنْ يُونُسَ عنِ الحَسنِ: { (4) فَلَا تعضلوهن} (النِّسَاء: 52) قَالَ: حدّثني مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ أنَّها نزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتا لي مِنْ رجُلٍ فطَلَّقها، حتَّى إِذا انْقَضَتْ عدَّتُها جاءَ يَخْطُبُها، فقُلْتُ لهُ: زَوَّجْتُكَ وفرَشْتُكَ وأكْرَمْتُكَ فطَلَّقْتَها، ثمَّ(20/123)
جِئْتُ تَخْطَبُها؟ وَوَاللَّه لَا تَعُودُ إليْكَ أبَدَا وكانَ رجُلاً لَا بأْسَ بهِ وكانَتِ المَرْأةُ تُرِيدُ أنْ ترْجعَ إليْه، فأنْزلَ الله هاذِهِ الآيةَ: { (2) فَلَا تعضلوهن} (الْبَقَرَة: 232) فَقُلتُ: الآنَ أفْعلُ يَا رسُولَ الله، قَالَ: فزَوَّجَها إيَّاهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة عِنْد من لَا يرى النِّكَاح إلاَّ بولِي، وَلمن يجوز لَهَا أَن نزوج نَفسهَا بِنَفسِهَا أَن يَقُول: هَذَا الحَدِيث لَا يدل على مَا تذهبون إِلَيْهِ لِأَن قَوْله: (زوجت أُخْتا لي) لَا يدل على أَنه زَوجهَا بِغَيْر رِضَاهَا.
قَوْله: (لَا تعود إِلَيْك أبدا) خَارج مخرج الْعَادة فِي الْكَلَام الرِّجَال فِيمَن يتَعَلَّق بهم من النِّسَاء، وَأما قَوْله: {فَلَا تعضلوهن} (الْبَقَرَة: 232) فَيدل عَليّ أَن الْولَايَة لَهَا مَا لَا يخفي.
وَأحمد بن أبي عَمْرو هُوَ النَّيْسَابُورِي قاضيها يكنى أَبَا عَليّ، وَقد مر فِي الْحَج وَهُوَ يرْوى عَن أَبِيه أبي عَمْرو اسْمه حَفْص بن عبد الله بن رَاشد النَّيْسَابُورِي وَهُوَ من أَفْرَاده يروي عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن يوسن بن عبيد بن دِينَار الْبَصْرِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَمَعْقِل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف: ابْن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة: ابْن عبد الله الْمُزنِيّ، سكن الْبَصْرَة وابتنى بهَا دَارا وَإِلَيْهِ ينْسب نهر معقل بِالْبَصْرَةِ، شهد بيعَة الْحُدَيْبِيَة وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة، وَقد قيل: إِنَّه توفّي فِي أَيَّام يزِيد بن مُعَاوِيَة.
وَمر الحَدِيث فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة مُعَلّقا، وَمر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مفصلا.
قَوْله: (زوجت أُخْتا لي) اسْمهَا جميل بِالْجِيم مُصَغرًا بنت يسَار، وَقيل بِغَيْر تَصْغِير حكى الْبَيْهَقِيّ، أَن اسْمهَا ليلى، وَتَبعهُ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ، وَوَقع عِنْد ابْن إِسْحَاق أَن اسْمهَا فَاطِمَة، وَاسم الرجل الَّذِي تَحْتَهُ جميل أَبُو البداح بن عَاصِم بن عدي الْقُضَاعِي حَلِيف الْأَنْصَار، وَقيل: أَبُو البداح لقب غلب عَلَيْهِ وكنيته أَبُو عَمْرو، وَقيل: أَبُو بكر، وَالْأول أَكثر، وَقد اخْتلف فِي صحبته فَقيل: الصُّحْبَة لِأَبِيهِ وَهُوَ من التَّابِعين، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: هَذَا الحَدِيث يصحح صحبته، والبداح بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة. قَوْله: (يخطبها) من الْأَحْوَال الْمقدرَة. قَوْله: (وفرشتك) أَي: جَعلتهَا لَك فراشا، يُقَال: فرشت الرجل إِذا فرشت لَهُ. قَوْله: (وَكَانَ رجلا لَا بَأْس بِهِ) أَي: كَانَ جيدا.
73 - (بابٌ إذَا كانَ الوَلِيُّ هُوَ الخَاطِبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا إِذا كَانَ الْوَلِيّ فِي النِّكَاح هُوَ الْخَاطِب، وَقَالَ بَعضهم: أَي هَل يُزَوّج نَفسه أم يحْتَاج إِلَى ولي آخر؟ قلت: هَذِه التَّرْجَمَة قطّ لَا تَقْتَضِي مَا قَالَه، بل الَّذِي يفهم مِنْهَا أَن الْوَلِيّ إِذا كَانَ الْخَاطِب هَل يجوز أم لَا؟ فأبهم وَلَكِن الْآثَار الَّتِي ذكرهَا تدل على الْجَوَاز أما أثر عَطاء فَإِنَّهُ يدل صَرِيحًا على أَنه يجوز، وَأما بَقِيَّة الْآثَار، فَإِن كَانَ فِيهَا أَمر الْوَلِيّ غَيره بِأَن تزَوجه فَلَيْسَ فِيهَا مَا يدل على الْمَنْع صَرِيحًا من تَزْوِيجه نَفسه، فَافْهَم.
وخَطَبَ المغِيرَةُ بنُ شُعْبَة امْرَأةً هُوَ أوْلى النّاسِ بِها، فأمَرَ رَجُلاً فَزَوَّجَهُ
هَذَا الْأَثر وَصله وَكِيع فِي مُصَنفه، وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن الثَّوْريّ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر أَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة وَهُوَ وَليهَا، فَجعل أمرهَا إِلَى رجل، والمغيرة أولى مِنْهُ فَزَوجهُ. وَأخرجه سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق الشّعبِيّ وَلَفظه: أَن الْمُغيرَة خطب بنت عَمه عُرْوَة بن مَسْعُود فَأرْسل إِلَى عبد الله بن أبي عقيل، فَقَالَ: زوجنيها، فَقَالَ: مَا كنت لأَفْعَل، أَنْت أَمِير الْبَلَد وَابْن عَمها، فَأرْسل الْمُغيرَة إِلَى عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَزَوجهَا مِنْهُ، وَقد أوضح فِيهِ اسْم الرجل الميهم فِي الْأَثر الْمَذْكُور.
وَقَالَ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ لِأمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ قارِظٍ: أتَجْعَلِينَ أمْرَك إلَيَّ؟ قالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ
هَذَا الْأَثر وَصله ابْن سعد من طَرِيق ابْن أبي ذئي عَن سعيد بن خَالِد أَن أم حَكِيم بنت قارظ قَالَت لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف: إِنَّه قد خطبني غير وَاحِد فَزَوجنِي أَيهمْ رَأَيْت، فَقَالَ: وتجعلين ذَلِك إِلَيّ؟ فَقَالَت: نعم. قَالَ: قد تَزَوَّجتك. قَالَ ابْن أَب ذِئْب: فَجَاز نِكَاحه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَإِدْخَال البُخَارِيّ هَذِه الصُّورَة فِي هَذِه التَّرْجَمَة مشعرة بِأَن عبد الرَّحْمَن كَانَ وَليهَا يُوَجه من وُجُوه الولايات. انْتهى. قلت: قَوْله: (أتجعلين أَمرك إِلَيّ) تَفْوِيض مِنْهَا، وَهُوَ الْوكَالَة وَلَا يفهم مِنْهُ إلاَّ أَنه وَكيل، وَلَا يفهم أَنه وَليهَا.(20/124)
غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه يفهم مِنْهُ جَوَاز هَذَا الحكم لَيْسَ إلاَّ، وَقد ذكر ابْن سعد أم حَكِيم فِي النِّسَاء اللواتي لم يدركن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروين عَن أَزوَاجه.
وَقَالَ عطاءٌ: لِيُشْهِدْ أنِّي قَدْ نَكَحْتُكْ، أوْ لِيأْمُرْ رَجُلاً مِنْ عَشِيرَتِها
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: ليشهد الْمَرْأَة أَن فلَانا خطبهَا وَأشْهد أَنِّي نكحتك، يُخَاطب بِهِ رجلا. قَالَ ابْن جريج لعطاء: امْرَأَة خطبهَا رجل، فَقَالَ عَطاء: ليشهد أبي قد نكحتك أَو لتأمر رجلا من عشيرتها، أَي: من قبيلتها وأوضح هَذَا عبد الرَّزَّاق رُوِيَ عَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: امْرَأَة خطبهَا ابْن عَم لَهَا لَا رجلَ لَهَا غَيره، قَالَ: فليشهد أَن فلَانا خطبهَا وَإِنِّي أشهدكم أَنِّي قد نكحتها، أَو لتأمر رجلا من عشيرتها. وَقَالَ الْكرْمَانِي. قَوْله: عشيرتها، يَعْنِي: تفوض الْأَمر إِلَى الْوَلِيّ الْأَبْعَد، أَو تحكّم رجلا من أقربائها، أَو يَكْتَفِي بالإشهادة، وللمجتهدين فِي مثله مَذَاهِب، وَلَيْسَ قَول بَعضهم حجَّة على الآخر. انْتهى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي الْوَجْه الأول لَيْسَ من معنى قَول عَطاء، وَلَيْسَ يُنَاسب مَعْنَاهُ إلاَّ فِي الْإِشْهَاد أَو التَّحْكِيم.
وَقَالَ سَهْلٌ: قالَتِ امْرَأةً لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أهَبُ لَكَ نَفْسي. فَقَالَ رجُلٌ: يَا رسولَ الله {إِن لَمْ تَكُنْ لَكَ بِها حاجةٌ فَزَوِّجْنِيها
أَي: قَالَ سهل بن سعد، هَذَا طرف من حَدِيث الواهبة، وَقد مضى مَوْصُولا فِي: بَاب تَزْوِيج الْمُعسر، وَفِي: بَاب النّظر إِلَى الْمَرْأَة قبل التَّزْوِيج وَغَيرهمَا، وَوَصله فِي هَذَا الْبَاب بِلَفْظ آخر، وَأقر بهَا إِلَى هَذَا التَّعْلِيق رِوَايَة يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: أَي أَن امْرَأَة جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله جِئْت لأهب لَك نَفسِي إِلَى قَوْله) فَقَامَ رجل من أَصْحَابه فَقَالَ) أَي رَسُول الله} إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها الحَدِيث. وَوجه دُخُوله فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما طلب الرجل وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، ثمَّ زَوجهَا مِنْهُ كَأَنَّهُ خطبهَا لَهُ، وَالْحَال أَنه وَليهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولي كل من لَا ولي لَهُ.
1315 - حدَّثنا ابنُ سَلاَمٍ أخبرَنا أبُو مُعاوِيَةَ حَدثنَا هِشامٌ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رضيَ الله عَنْهَا فِي قَوْلِه: { (4) ويستفتونك فِي النِّسَاء قل الله يفتيكم فِيهِنَّ} (النِّسَاء: 721) إِلَى آخِرِ الآيةَ، قالَتْ: هِيَ اليَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْر الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَاله فَيَرْغَبُ عَنْها أنْ يَتَزَوَّجَها ويَكْرَهُ أنْ يُزَوِّجَها غَيْرَهُ فَيَدْخُلَ علَيْهِ فِي مالهِ فَيَحْبِسُها، فَنَهاهُمُ الله عنْ ذَلِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فيرغب عَنْهَا أَن يَتَزَوَّجهَا) لِأَنَّهُ أَعم من أَن يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ، أَو يَأْمر غَيره فيزوجه، وَبِه احْتج مُحَمَّد بن الْحسن على الْجَوَاز، لِأَن الله عَاتب الْأَوْلِيَاء فِي تَزْوِيج من كَانَت من أهل المَال وَالْجمال بِدُونِ سنتها من الصَدَاق، وعاتبهم على ترك تَزْوِيج من كَانَت قَليلَة المَال وَالْجمال، دلّ على أَن الْوَلِيّ يَصح مِنْهُ تَزْوِيجهَا من نَفسه، إِذْ لَا يُعَاتب أحد على ترك مَا هُوَ حرَام عَلَيْهِ.
وَابْن سَلام هُوَ مُحَمَّد بن سَلام بتَشْديد اللَّام وتخفيفها، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير، وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
2315 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ حدّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمانَ حَدثنَا أبُو حازِمِ حَدثنَا سَهْلُ بنُ سَعْدٍ قالَ: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جُلُوسا، فَجاءَتْهُ امْرَأةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَخَفَّضَ فِيها النظَرَ ورفَعَهُ فلَمْ يُرِدْها، فَقَالَ رجُلٌ منْ أصْحابِهِ: زَوِّجْنِيها يَا رسولَ الله. قَالَ: أعِنْدَكَ مِنْ شَيء؟ قَالَ: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْء. قَالَ: وَلَا خَاتما مِنْ حَدِيدٍ؟ قَالَ: وَلَا خَاتمًا مِنْ حَدِيدٍ، ولاكِنْ أشُقُّ بُرْدَنِي هاذِهِ(20/125)
فاعْطِيها النِّصْفَ وآخُذُ النِّصْفَ، قَالَ: لَا! هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَها بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فَوق حَدِيث عَائِشَة فِي حَدِيث سهل، وَأحمد بن الْمِقْدَام، بِكَسْر الْمِيم: الْعجلِيّ الْبَصْرِيّ، وفضيل مصغر فضل بن سُلَيْمَان النميري الْبَصْرِيّ، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار.
وَهَذَا الحَدِيث قد مضى مكررا بطرق مُخْتَلفَة ومتون بِزِيَادَة ونقصان.
قَوْله: (فَجَاءَتْهُ) ويروي: فَجَاءَت. قَوْله: (فخفض فِيهَا النّظر) ويروي: الْبَصَر. قَوْله: (أعندك؟) ويروي: هَل عنْدك؟ قَوْله: (فَلم يردهَا) بِضَم الْيَاء من الْإِرَادَة، وَقَالَ بَعضهم: وَحكى بعض الشُّرَّاح بِفَتْح أَوله وَتَشْديد الدَّال، وَهُوَ مُحْتَمل. قلت: هُوَ الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ هُوَ الحاكي بذلك. قَوْله: وَهُوَ مُحْتَمل، يدل على أَنه مَا يَأْخُذ كَلَامه بِالْقبُولِ.
83 - (بابُ إنْكاحِ الرَّجُلِ ولدَهُ الصِّغارَ)
أَي: هَذَا فِي بَاب فِي بَيَان جَوَاز إنكاح الرجل وَلَده الصغار، بِضَم الْوَاو وَسُكُون اللَّام جمع ولد، ويروي بِفَتْح الْوَاو وَالدَّال وَهُوَ اسْم جنس يتَنَاوَل الذُّكُور وَالْإِنَاث.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { (65) واللائِي لم يحضن} (الطَّلَاق: 4) فَجَعَلَ عِدَّتَها ثَلاَثَةَ أشْهُرٍ قبْلَ البُلُوغِ
ذكره قَوْله تَعَالَى: {اللائي لم يحضن} (الطَّلَاق: 4) إِلَى آخِره فِي معرض الِاحْتِجَاج فِي جَوَاز تَزْوِيج الرجل وَلَده الصَّغِير، بَيَانه أَن الله تَعَالَى لما جعل عدتهَا ثَلَاثَة أشهر قبل الْبلُوغ دلّ ذَلِك على جَوَاز تَزْوِيجهَا قبله، قيل لَيْسَ فِي الْآيَة تَخْصِيص ذَلِك بِالْآبَاءِ وَلَا بالبكر فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال. وَأجِيب: بِأَن الأَصْل فِي الإيضاع التَّحْرِيم إلاَّ مَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل. وَقد ورد فِي حَدِيث عَائِشَة أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، زوَّجها وَهِي دون الْبلُوغ، فَبَقيَ مَا عداهُ على الأَصْل، ولهذه النُّكْتَة أورد حَدِيث عَائِشَة فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح: وَكَأن البُخَارِيّ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على ابْن شبْرمَة، فَإِن الطَّحَاوِيّ حكى عَنهُ أَن تَزْوِيج الْآبَاء الصغار لَا يجوز، ولهن الْخِيَار إِذا بلغن. قَالَ: وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد غَيره. وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ لشذوذه ومخالفته دَلِيل الْكتاب وَالسّنة. وَقَالَ الْمُهلب: أجمعواعلى أَنه يجوز للْأَب تَزْوِيج اينته الصَّغِيرَة الَّتِي لَا يُوطأ مثلهَا الْعُمُوم قَوْله: {واللائي لم يحضن} (الطَّلَاق: 4) فَيجوز نِكَاح من لم يخضن من أول مَا يخلقن. وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي غير الْآبَاء، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يجوز للْأَب وَلَا لغيره إنكاح الصَّغِير الذّكر حَتَّى يبلغ، فَإِن فعل فَهُوَ مفسوخ أبدا، وَاخْتَارَهُ قوم. وَفِيه دَلِيل على جَوَاز نِكَاح لَا وَطْء فِيهِ لعِلَّة بِأحد الزَّوْجَيْنِ لصِغَر أَو آفَة أَو غير إرب فِي الْجِمَاع، بل لحسن الْعشْرَة والتعاون على الدَّهْر وكفاية الْمُؤْنَة والخدمة، خلافًا لمن يَقُول: لَا يجوز نِكَاح لَا وَطْء فِيهِ، يُؤَيّدهُ حَدِيث سَوْدَة، وَقَوْلها: مَا لي فِي الرِّجَال من أرب.
3315 - حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ هِشامِ عنْ أبيهِ عنْ عائشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَزَوَّجَها بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وأُدْخِلَتْ علَيْهِ وهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ ومَكثَتْ عِنْدَهُ تِسْعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، زوّج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنته عَائِشَة وَهِي صَغِيرَة.
وَمُحَمّد بن يُوسُف البيكندي البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (وأدخلت) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي. قَوْله: (وَمَكَثت عِنْده) أَي: عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تسع سِنِين) . وَمَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعمرها ثَمَانِيَة عشرَة سنة. وَتوفيت عَائِشَة سنة سبع وَخمسين من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة.
وَاخْتلف على هِشَام بن عُرْوَة فِي سنّ عَائِشَة حِين العقد، فَروِيَ عَنهُ سُفْيَان بن سعيد وَعلي بن مسْهر، وَأَبُو أُسَامَة وَأَبُو مُعَاوِيَة وَعباد بن عباد وَعَبدَة: سِتّ سِنِين لَا غير، وَرَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنهُ وَحَمَّاد بن زيد وجعفر بن سُلَيْمَان، فَقَالُوا: سبع سِنِين، وَطَرِيق الْجمع بَينهمَا أَنه كَانَت لَهَا سِنِين وَكسر، فَفِي رِوَايَة أسقط الْكسر وَفِي أُخْرَى أثْبته لدخولها فِي السَّبع أَو أَنَّهَا قالته تَقْديرا لَا تَحْقِيقا وَيُؤَيّد قَول من قَالَ: سبع سِنِين، مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَائِشَة وَهِي بنت سبع سِنِين.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْوَقْت الَّذِي تدخل فِيهِ الْمَرْأَة على زَوجهَا إِذا اخْتلف الزَّوْج وَأهل الْمَرْأَة، فَقَالَت(20/126)
طَائِفَة، مِنْهُم أَحْمد وَأَبُو عبيد: يدْخل وَهِي بنت تسع اتبَاعا لحَدِيث عَائِشَة، وَعَن أبي حنيفَة: نَأْخُذ بِالتسْعِ غير أَنا نقُول: إِن بلغت التسع وَلم تقدر على الْجِمَاع كَانَ لأَهْلهَا منعهَا، وَإِن لم تبلغ التسع وقويت على الرِّجَال لم يكن لَهُم منعهَا من زَوجهَا، وَكَانَ مَالك يَقُول: لَا نَفَقَة لصغيرة حَتَّى تدْرك أَو تطِيق الرِّجَال، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا قاربت الْبلُوغ وَكَانَت جسيمة تحْتَمل الْجِمَاع فلزوجها أَن يدْخل بهَا وإلاَّ منعهَا أَهلهَا حَتَّى تحتمله أَي: الْجِمَاع.
93 - (بابُ تَزْوِيجِ الأبِ ابْنَتَهُ مِنَ الإمامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَزْوِيج ابْنَته من الإِمَام أَي: الإِمَام الْأَعْظَم.
وَقَالَ عُمَرُ: خَطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَيَّ حَفْصَةَ، فأنْكَحْتُهُ
هَذَا طرف من حَدِيث عمر الَّذِي تقدم مَوْصُولا قَرِيبا. قَوْله: (إِلَيّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (فأنكحته) أَي: أنكحت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَفْصَة.
4315 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حَدثنَا وُهَيْبٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ: أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَزَوَّجَها وهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وبَنى بِها وهْيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنينَ، قَالَ هِشامٌ: وأُنْبِئْتُ أنَّها كانَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ..
طابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَن أَبَا بكر أَبَا عَائِشَة زَوجهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الإِمَام.
وَمعلى، بتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن أَسد الْعمي الْبَصْرِيّ، ووهيب بن خَالِد الْبَصْرِيّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (وَهِي) الْوَاو فِيهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ للْحَال. قَوْله: (وأنبئت) على صِيغَة الْمَجْهُول من الإنباء وَهُوَ الْإِخْبَار، وَلم يسم من أنبأه. قيل: يشبه أَن يكون حمله على امْرَأَته فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن جدَّتهَا أَسمَاء، وَقَالَ ابْن بطال: دلّ حَدِيث الْبَاب عَليّ أَن الْأَب أولى فِي تَزْوِيج ابْنَته من الإِمَام، وَأَن السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ، وَأَن الْوَلِيّ من شُرُوط النِّكَاح، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ دلَالَة فِيهِ على اشْتِرَاط شَيْء من ذَلِك. قلت: هَكَذَا هُوَ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَار عَمَّا ذكر فِيهِ لَيْسَ إلاَّ.
04 - (بابٌ السُّلْطَانُ وَلِيٌّ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زَوَّجْناكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ: أَن السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن السطان ولي من لَا ولي لَهُ، وَأَجْمعُوا على أَن لَهُ أَن يُزَوّجهَا إِذا دعت إِلَى كُفْء وَامْتنع الْوَلِيّ أَن يُزَوّجهَا. وَاخْتلفُوا إِذا غَابَ عَن الْبكر أَبوهَا وَعمي خَبره، وَضربت فِيهِ الْآجَال من يُزَوّجهَا؟ فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يُزَوّجهَا أَخُوهَا بِإِذْنِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: يُزَوّجهَا السُّلْطَان دون بَاقِي الْأَوْلِيَاء، وَكَذَلِكَ الثّيّب إِذا غَابَ أقرب أوليائها. وَاخْتلفُوا فِي الْوَلِيّ من هُوَ؟ فَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: هُوَ الْعصبَة الَّذِي يَرث وَلَيْسَ الْخَال وَلَا الْجد لأم وَلَا الْأُخوة للْأُم أَوْلِيَاء عِنْد مَالك فِي النِّكَاح، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: كل من لزمَه اسْم ولي فَهُوَ ولي يعْقد النِّكَاح وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر. وَاخْتلفُوا فِيمَن أولى بِالنِّكَاحِ الْوَلِيّ أَو الْوَصِيّ؟ فَقَالَ بيعَة وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: الْوَصِيّ أولى، وَقَالَ الشَّافِعِي: الْوَلِيّ أولى وَلَا ولَايَة للْوَصِيّ على الصَّغِير، وَقَالَ ابْن حزم: وَلَا إِذن للْوَصِيّ فِي إنكاح أصلا لَا لرجل وَلَا لامْرَأَة صغيرين كَانَا أَو كبيرين. قَوْله: (لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ذكرع فِي معرض الِاحْتِجَاج على أَن السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ، ويروي: بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْبَاء الْمُوَحدَة مَوضِع اللَّام، قَوْله: (زَوَّجْنَاكهَا) بنُون الْجمع للتعظيم، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: زوجتكها، بِالْإِفْرَادِ.
5315 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكٌ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سهْلٍ سَعْدٍ قَالَ: جاءَتِ امْرَأةٌ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ: إنِّي وهَبْتُ منْ نَفْسِي، فَقامَتْ طَوِيلاً، فَقَالَ رجُلٌ: زَوِّجْنِيها إنْ لَمْ تَكُنْ بِها حاجَةٌ. قَالَ: هلْ عِنْدكَ مِنْ شَيْءٌ تُصْدِقُها؟ قَالَ: مَا عِنْدِي إلاَّ إزَارِي. فَقَالَ: إنْ أعْطَيْتَها إيَّاهُ(20/127)
جلسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ فالْتَمِسْ شَيْئا. فَقَالَ: مَا أجِدُ شَيْئا. فَقَالَ: الْتَمِسْ ولوْ خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، فَلَمْ يجدْ، فَقَالَ: أمَعكَ مِن القُرْآنِ شَيءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ سورَةُ كَذَا وسورَةُ كَذَا لِسْوَرٍ سَمَّاها. فَقَالَ: زَوَّجْناكَها بِمَا مَعَك مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث قد مر غير مرّة، وَمر الْكَلَام فِيهِ قَرِيبا وبعيدا.
قَوْله: (إِنِّي وهبت من نَفسِي) كلمة: من، زَائِدَة، وَجوز الْكُوفِيُّونَ زيادتها فِي الْمُثبت وَقِيَاسه: وهبت لَك، ويروي: وهبت مِنْك نَفسِي. قَالَ النَّوَوِيّ: وَكَذَلِكَ: من، هُنَا زَائِدَة.
14 - (بابٌ لاَ يُنْكِحُ الأبُ وغَيْرُهُ البِكْرَ والثَّيِّبُ إلاَّ يرضاها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَنه لَا ينْكح الْأَب إِلَى آخِره، وينكح بِضَم الْيَاء من الْإِنْكَاح، وَالْأَب بِالرَّفْع فَاعله، وَغَيره عطف عَلَيْهِ أَي: وَغير الْأَب من الْأَوْلِيَاء. قَوْله: الْبكر، مَنْصُوب على المفعولية، وَالثَّيِّب عطف عَلَيْهِ.
6315 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضالَة حَدثنَا هِشامٌ عنْ يَحْيَى اعنْ أبي سلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حدَّثُهُمْ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتّى تُسْتَأْمَر، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حتّى تُسْتأذنَ. قَالُوا: يَا رسُولَ الله {وكيْفَ إِذْنُها؟ قَالَ: أنْ تَسْكُتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومعاذ، بِضَم الْمِيم وبالعين الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ترك الْحِيَل عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن القواريري. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (لَا تنْكح) على صِيغَة الْمَجْهُول. والأيم قد مر تَفْسِير. قَوْله: (حَتَّى تستأمر) من الاستئمار، وَهُوَ طلب الْأَمر، وَقيل: الْمُشَاورَة. قَوْله: (حَتَّى تستأذن) أَي: حَتَّى يطْلب مِنْهَا الْإِذْن. قَوْله: (لَا تنْكح الأيم) المُرَاد بِهِ الثّيّب هُنَا بِقَرِينَة قَوْله: (وَلَا تنْكح الْبكر) وَإِن كَانَ الأيم يتَنَاوَل الثّيّب وَالْبكْر، وَبِهَذَا احْتج أَبُو حنيفَة على أَن الْوَلِيّ لَا يجْبر الثّيّب وَلَا الْبكر على النِّكَاح فالثيب تستأمر وَالْبكْر تستأذن، وَالْمَرْأَة الْبَالِغَة الْعَاقِلَة، إِذا زوجت نَفسهَا من غير ولي ينفذ نِكَاحهَا عِنْده، وَعند أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد يتَوَقَّف على إجَازَة الْوَلِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: لَا ينْعَقد بِعِبَارَة النِّسَاء أصلا لقَوْله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي. والْحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة عَلَيْهِم، وَمر الْكَلَام فِي حَدِيث: لَا نِكَاح إلاَّ بولِي، مُسْتَوفى، خلاصته أَنه: لَيْسَ بمتفق عَلَيْهِ فَلَا يُعَارض مَا اتّفق عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيّ وَيحيى بن معِين: لم يَصح فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث، يَعْنِي فِي اشْتِرَاط الْوَلِيّ. فَإِن قلت: رُوِيَ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل، فنكاحها بَاطِل. الحَدِيث. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: قد تكلم بعض أهل الحَدِيث فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ. قَالَ ابْن جريج: ثمَّ لقِيت الزُّهْرِيّ فَسَأَلته فَأنْكر. وضعفوا هَذَا الحَدِيث من أجل هَذَا. فَإِن قلت: قَالَ الرمذي هَذَا حَدِيث حسن. قلت: من أَيْن لَهُ الْحسن وَقد أنكرهُ الزُّهْرِيّ؟ فَإِن قلت: إِنْكَاره لَا يعين التَّكْذِيب بل يحْتَمل أَنه رَوَاهُ فنسيه إِذْ كل مُحدث لَا يحفظ مَا رَوَاهُ. قلت: إِذا احْتمل التَّكْذِيب وَالنِّسْيَان فَلَا يبْقى حجَّة، وَيلْزم المحتج بِهِ أَن يَقُول بِمَفْهُوم الْخطاب وَمَفْهُوم هَذَا يَقْتَضِي صِحَة النِّكَاح بِإِذن الْوَلِيّ فَلَا تَقول بِهِ.
7315 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ الرَّبِيعِ بن طارقٍ قَالَ: أخبرنَا الليْثُ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ أبي عَمْرو مَوْلَى عائِشةَ عَن عَائِشَة أنَّها قالَتْ: يَا رسولَ الله} إنَّ البِكْرَ تَسْتَحَي؟ قَالَ: رِضَاها صَمْتُها.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: وَلَا تنْكح الْبكر حَتَّى تستأذن. قَالُوا: يَا رَسُول الله إِن الْبكر تَسْتَحي؟ قَالَ: رِضَاهَا(20/128)
صمتها، وَلم يجوز الْإِجْبَار عَلَيْهَا، والضحك رضَا دلَالَة، فَإِنَّهُ عَلامَة السرُور والفرح بِمَا سَمِعت. وَقيل: إِذا ضحِكت كالمستهزئة لم رضَا بِخِلَاف مَا إِذا بَكت فَإِنَّهُ دَلِيل السخط والكراهية.
وَعَمْرو بن الرّبيع بن طَارق الْهِلَالِي الْمصْرِيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة زُهَيْر الْمَكِّيّ الْأَحول القَاضِي على عبد بن الزبير، وَأَبُو عَمْرو مولى عَائِشَة، وخادمها واسْمه ذكْوَان، قد دَبرته وَكَانَ من أفْصح الْقُرَّاء.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور.
قَوْله: (إِن الْبكر تَسْتَحي) بِخِلَاف الثّيّب لِأَن كَمَال حيائها قد زَالَ بممارسة الرِّجَال. قَوْله: (رِضَاهَا صمتها) أَي: سكُوتهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: قَالَ: سكُوتهَا إِذْنهَا، وَفِي لفظ لَهُ قَالَ: إِذْنهَا صماتها، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن جريج أَيْضا قَالَ: فَكَذَلِك إِذْنهَا إِذا هِيَ سكتت.
24 - (بابٌ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وهْيَ كارهَةٌ فَنِكاحُهَا مَرْدُودٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا زوج ابْنَته وَالْحَال أَنَّهَا كارهة فنكاحها مَرْدُود، وَقَوله: ابْنَته، يَشْمَل الْبكر وَالثَّيِّب. قيل: هَذِه التَّرْجَمَة مُخَالفَة للتَّرْجَمَة السَّابِقَة حَيْثُ قَالَ: بَاب نِكَاح الرجل وَلَده الصغار، وَأجِيب بِأَن المُرَاد بنته الْبَالِغَة، يدل عَلَيْهِ قَوْله: وَهِي كارهة، لِأَن هَذِه الصّفة للبالغات.
8315 - حدَّثنا إسْمااعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عَن عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القاسمِ عَن أبيهِ عَن عَبْدِ الرَّحْمنِ ومُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بنِ جاريَةَ عَن خَنْساءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصارِيَّةِ: أنَّ أبَاهَا زَوَّجَها وهْيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأتَتْ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَدَّ نِكاحَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك، وَمَالك يروي عَن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ يروي عَن أَبِيه الْقَاسِم وَالقَاسِم يروي عَن عبد الرَّحْمَن وأخيه مجمع، بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم وَكسر الْمِيم فِي آخِره عين مُهْملَة، وهما ابْنا يزِيد بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف ابْن جَارِيَة بِالْجِيم ابْن عَامر بن العطاف الْأنْصَارِيّ الأوسي من بني عَمْرو بن عَوْف، وَهُوَ ابْن أخي مجمع بن جَارِيَة الصَّحَابِيّ الَّذِي جمع الْقُرْآن فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْه قيل: إِن الْمجمع بن يزِيد صُحْبَة، وَلَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا الصُّحْبَة لِعَمِّهِ مجمع بن جَارِيَة، وَلَيْسَ لمجمع بن يزِيد فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَقد قرنه فِيهِ بأَخيه عبد الرَّحْمَن بن يزِيد وَعبد الرَّحْمَن ولد فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ذكره العسكري وَغَيره، وَهُوَ أَخُو عَاصِم بن عمر بن الْخطاب لأمه، وَقَالَ ابْن سعد: ولي الْقَضَاء لعمر بن عبد الْعَزِيز لما كَانَ أَمِير الْمَدِينَة، وَمَات سنة ثَلَاث وَتِسْعين، وَقيل: سنة ثَمَان، وَوَثَّقَهُ جمَاعَة، وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث.
قَوْله: (عَن خنساء) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وبالسين الْمُهْملَة وَالْمدّ: (بنت خذام) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقيل: اسْم أَبِيه وَدِيعَة، وَالصَّحِيح أَن اسْم أَبِيه خَالِد، ووديعة اسْم جده، وَقَالَ أَبُو عمر: خنساء بنت خذام بن وَدِيعَة الْأَنْصَارِيَّة من الْأَوْس، وَفِي التَّوْضِيح: خنساء اسْمهَا زَيْنَب بنت خذام، وَفِي رِوَايَة لأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه: اسْمهَا ربعَة بدل خنساء وَاسْتَغْرَبَهُ، وَفِي رِوَايَة أم ربعَة، ولعلها كنيتها، وَكَانَ خذام من أهل مَسْجِد الضرار وَمن دَاره أخرج، وَوَقع فِي طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق: خناس، بِضَم الْخَاء وَتَخْفِيف النُّون على وزن فلَان، وَهُوَ مُشْتَقّ من خنساء كَمَا يُقَال زناب فِي زَيْنَب. قَوْله: (أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي ثيب) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الثَّوْريّ: (أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي بكر) ، وَقَالَ أَبُو عمر: وَذكر ابْن الْمُبَارك عَن الثَّوْريّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن عبد الله بن يزِيد بن وَدِيعَة عَن خنساء بنت خذام أَنَّهَا كَانَت يَوْمئِذٍ بكرا، وَالصَّحِيح نقل مَالك فِي ذَلِك، وَرُوِيَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجحشي عَن أبي بكر بن مُحَمَّد: أَن رجلا من الْأَنْصَار تزوج خنساء بنت خذام فقُتل عَنْهَا يَوْم أحد فَأَنْكحهَا أَبوهَا رجلا، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِن أبي أنكحني وَإِن عَم وَلَدي أحب إِلَيّ، فَهَذَا يدل على أَنَّهَا ولدت من زَوجهَا الأول، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ واسْمه بن قَتَادَة وَقيل اسْمه، وَأَنه اسْتشْهد ببدر وروى الدارقذني والذبراني من طَرِيق هشيم عَن عَمْرو بن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة: أَن خنساء بنت خذام زَوجهَا أَبوهَا وَهِي كارهة فَأَتَت النَّبِي(20/129)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرد نِكَاحهَا، وَلم يقل فِيهِ: بكرا وَلَا ثَيِّبًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَبُو عوَانَة عَن عمر مُرْسلا، وَلم يذكر أَبَا هُرَيْرَة.
وَقد جَاءَت أَحَادِيث بِمثل حَدِيث خنساء، مِنْهَا: حَدِيث عَطاء عَن جَابر أَن رجلا زوج ابْنَته بكرا وَلم يستأذنها، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفرق بَينهمَا، وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَقَالَ: الصَّحِيح إرْسَاله، وَالْأول وهم. وَمِنْهَا: أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، تزوج ابْنة خَاله وَأَن عَمها هُوَ الَّذِي زَوجهَا الحَدِيث، وَفِيه: فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرد نِكَاحهَا، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن جَارِيَة بكرا أنْكحهَا أَبوهَا وَهِي كارهة، فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ على شَرط الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَالصَّحِيح مُرْسل. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: رَفعه خطأ، وَقَالَ ابْن حزم: صَحِيح فِي غَايَة الصِّحَّة. وَلَا معَارض لَهُ وَابْن الْقطَّان صَححهُ، وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِحَدِيث الْبَاب وبهذه الْأَحَادِيث على أَنه لَيْسَ للْوَلِيّ إِجْبَار الْبكر الْبَالِغَة على النِّكَاح. وَفِي التَّوْضِيح: إتفق أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار على أَن الْأَب إِذا زوج ابْنَته الثّيّب بِغَيْر رِضَاهَا أَنه لَا يجوز وَيرد احتجاجا بِحَدِيث خنساء وَغَيره، وشذا الْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ فخالفا الْجَمَاعَة، فَقَالَ الْحسن: نِكَاح الْأَب جَائِز على ابْنَته بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا كرهت أَو لم تكره، وَقَالَ النَّخعِيّ: إِن كَانَت الْبِنْت فِي عِيَاله زوّجها وَلم يستأمرها، وَإِن لم تكن فِي عِيَاله أَو كَانَت نائية عَنهُ استأمرها، وَلم يتلفت أحد من الْأَئِمَّة إِلَى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ لمخالفتهما السّنة الثَّابِتَة فِي خنساء وَغَيرهَا.
وَاخْتلف الْأَئِمَّة الْقَائِلُونَ بِحَدِيث خنساء بِغَيْر إِذْنهَا ثمَّ بلغَهَا فأجازت، فَقَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: أصل قَول مَالك: إِنَّه لَا يجوز وَإِن أجازته إلاَّ أَن يكون بِالْقربِ كَأَنَّهُ فِي فَور، وَيبْطل إِذا بعد لِأَن عقده بِغَيْر أمرهَا لَيْسَ بِعقد وَلَا يَقع فِيهِ طَلَاق. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذا أجازته جَازَ إِذا أبطلته بَطل. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: إِذا زَوجهَا بِغَيْر إِذْنهَا فَالنِّكَاح بَاطِل وَإِن رضيته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد نِكَاح خنساء وَلم يقل: إلاَّ أَن تحيزه، وَاسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على إبِْطَال النِّكَاح الْمَوْقُوف على إجَازَة من لَهُ الْإِجَازَة، وَهُوَ أحد قولي مَالك، وَاسْتدلَّ بِهِ الْخطابِيّ على أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله: لَا يُزَوّج الْبكر الْبَالِغ إلاَّ بِرِضَاهَا، وَذَلِكَ أَن الثيوبة إِنَّمَا ذكرت هُنَا ليعلم أَنَّهَا عِلّة الحكم. قلت سُبْحَانَ الله! مَقْصُوده هَؤُلَاءِ وَمُجَرَّد الْحَط على أبي حنيفَة، وَذَلِكَ أَن الثيوبة إِذا كَانَت عِلّة فَلم لَا يجوز أَن تكون الْبكارَة أَيْضا عِلّة؟ وَالْحَال أَنَّهَا ذكرت أَيْضا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَجَاء أَيْضا بِدُونِ هذَيْن القيدين، كَمَا ذكرنَا، وَلَا نسلم أَيْضا أَن الْعلَّة فِي الرَّد هِيَ الثيوبة أَو الْبكارَة، وَالظَّاهِر أَن الْعلَّة هِيَ كَرَاهَة الْمَنْكُوحَة.
9315 - حدَّثنا إسْحاقُ أخبرنَا بَزِيدُ أخبرَنا يحْياى أنَّ القاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ حدَّثهُ أنَّ عبْدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدَ ومُجَمِّعَ بن يَزِيدَ حدَّثاهُ: أنَّ رجُلاً يُدْعَى خِذَاما أنْكَح ابْنَةً لهُ: نَحْوَهُ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن إِسْحَاق، قَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَقيل: ابْن مَنْصُور نسبه صَاحب التَّوْضِيح إِلَى اليجاني، وَيزِيد بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف هُوَ ابْن هَارُون، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَأخرجه أَحْمد عَن يزِيد بن هَارُون بِهَذَا الْإِسْنَاد: أَن رجلا مِنْهُم يدعى خذاما أنكح ابته فَكرِهت نِكَاح أَبِيهَا، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَرد عَنْهَا نِكَاح أَبِيهَا فَتزوّجت أَبَا لبَابَة بن عبد الْمُنْذر. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور.
34 - (بابُ تَزْوِيجِ اليَتِيمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَزْوِيج الْيَتِيمَة.
{ (4) وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا} (النِّسَاء: 3) .
فِي أَكثر النّسخ لقَوْله عز وَجل: {وَإِن خِفْتُمْ} (النِّسَاء: 3) ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجه لِأَنَّهُ ذكر هَذِه الْقطعَة من الْآيَة فِي معرض الِاحْتِجَاج، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء.
وإذَا قَالَ لِلْوَليِّ: زَوَّجْنِي فُلانَةَ، فَمَكُثَ ساعَةً أوْ قَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: مَعِي كَذَا وكذَا، أوْ لَبِثا ثُمَّ قَالَ: زَوَّجْتُكَها، فَهْوَ جائِزٌ(20/130)
يَعْنِي: إِذا قَالَ رجل لوَلِيّ من لَهُ عَلَيْهَا الْولَايَة: إِلَى آخِره، وَهَذِه ثَلَاث صور: الأولى: أَن يَقُول زَوجنِي فُلَانَة ثمَّ مكث الْوَلِيّ سَاعَة. الثَّانِيَة: أَن يَقُول لَهُ: زوجنى فُلَانَة، وَقَالَ الْوَلِيّ: مَا مَعَك حَتَّى تصدق؟ فَقَالَ: معي كَذَا وَكَذَا، وَذكر شَيْئا مِمَّا يصدق بِهِ. الثَّالِثَة: أَن يلبث كِلَاهُمَا بعد هَذَا القَوْل، ثمَّ قَالَ الْوَلِيّ: زوجتكها، فَهُوَ جَائِز فِي الصُّور الْمَذْكُورَة، وَالْحَاصِل أَنه التَّفْرِيق إِذا كَانَ بَين الْإِيجَاب وَالْقَبُول فِي الْمجْلس لَا يضر وَإِن تخَلّل بَينهمَا، كَلَام، وَإِذا حصل الْإِيجَاب فِي مجْلِس وَالْقَبُول فِي آخر لَا يجوز العقد قيل: أَخذ هَذَا من حَدِيث الْبَاب فِيهِ نظر، لِأَن قصَّته وَاقعَة عين فيطرقها احْتِمَال أَن يكون قبل عقيب الْإِيجَاب.
فِيهِ سَهْلٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث سهل بن سعد، وَفِيه قَالَ رجل: زوجنيها إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِي آخِره: ملكتكها أَو زوجتكها، وَجرى بَين قَوْله: زوجينها وَبَين قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: زوجتكها، أَشْيَاء كَثِيرَة كَمَا ذكرهَا فِي الحَدِيث وَلم يضر ذَلِك لِاتِّحَاد الْمجْلس.
0415 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ اللَيْث: حدّثني عُقَيْلٌ عنِ ابْن شِهابٍ أخْبَرني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَأَلَ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ لَها يَا أُمَّتاهْ: { (4) وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} إِلَى { (4) مَا ملكت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 3) قالَتْ عائِشَةُ: يَا ابنَ أُخْتِي! هذِهِ اليَتِمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ ولِيِّها فَيَرْغَبُ فِي جمَالِها ومالِها ويُرِيدُ أنْ يَنْتَقصَ مِنْ صَدَاقِها، فَنُهُوا عنْ نِكاحِهِنَّ إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إكمالِ الصَّدَاقِ، وأُمِرُوا بِنِكاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّساءِ، قالَتْ: عائِشَةُ: اسْتَفْتَى النَّاسُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَعْدَ ذلِكَ فأنْزَلَ الله: { (4) ويستفتونك فِي النِّسَاء} إِلَى { (4) وترغبون} (النِّسَاء: 721) فأنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ لَهُمْ فِي هاذِهِ الآيَةِ: أنَّ اليَتِيمَةَ إذَا كانَتْ ذَاتَ مالٍ وجَمالِ رغِبُوا فِي نِكاحِها ونَسَبِها، والصَّدَاقِ، وإذَا كانَتْ مَرْغُوبا عَنْها فِي قِلَّةِ المالِ والجَمالِ تَرَكُوها وأخذُوا غَيْرَها مِنَ النِّساءِ، قالَتْ: فَكَما يَتْرُكُونَها حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْها فَليْسَ لَهُمْ أنْ يَنْكِحُوها إِذا رَغبُوا فِيها إلاَّ أَن يُقْسِطُوا لَها ويُعْطُوها حَقَّها الأوْفَى مِنَ الصَّدَاقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ أَن حكم الْيَتِيمَة فِي التَّزَوُّج بهَا مَا ذكره فِيهِ.
وَأخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة إِلَخ، وَقد مر هَذَا الحَدِيث مكررا فِي سُورَة النِّسَاء وَغَيرهَا فِي كتاب النِّكَاح، وَتقدم طَرِيق اللَّيْث مَوْصُولا فِي: بَاب الْأَكفاء فِي المَال، وسَاق الْمَتْن هُنَاكَ على لَفظه وَهنا على لفظ شُعَيْب، وَقد أفرده بِالذكر فِي كتاب الْوَصَايَا.
44 - (بابٌ إذَا قَالَ الخاطِبُ لِلْولِيِّ: زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بكَذَا وكذَا، جازَ النِّكاحُ وإنْ لَمْ يَقُلْ لِلزَّوْج: أرَضِيت أوْ قَبِلْتَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا إِذا قَالَ الْخَاطِب لوَلِيّ الْمَرْأَة إِلَخ. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إِذا قَالَ الْخَاطِب: زَوجنِي، بِدُونِ لفظ للْوَلِيّ. قَوْله: (وَإِن لم يقل) أَي: الْوَلِيّ للزَّوْج أَي: الْخَاطِب، وَقَالَ الْمُهلب: توقف الْخَاطِب على الرِّضَا لَيْسَ فِي كل نِكَاح، بل يسْأَل أرضي بِالصَّدَاقِ وَالشّرط أم لَا؟ إلاَّ أَن يكون مثل هَذَا الْمُعسر الرَّاغِب فِي النِّكَاح فَلَا يحْتَاج إِلَى توقفه على الرِّضَا لعلمهم بِهِ.
1415 - حدَّثنا أَبُو النُّعْمانِ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلٍ بنِ سَعْدٍ، رَضِي(20/131)
الله عَنهُ، أنَّ امْرَأَةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَرَضَتْ عَليْهِ نَفْسَها، فَقَالَ: مالِي اليَوْمَ فِي النِّساءِ منْ حاجَةٍ، فَقَالَ رجلٌ يَا رسولَ الله! زَوِّجْنيها. قَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: مَا عِنْدي شَيْءٌ. قَالَ: أعْطِها ولوْ خَاتمًا منْ حَدِيدٍ. قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: فَما عِنْدَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: كَذَا وكَذَا، قَالَ: فَقَدْ مَلَّكْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ رجل) إِلَخ، وَلَا يخفي ذَلِك على الفطن.
وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار، وَقد مر حَدِيث سهل بن سعد مرَارًا عديدة، وَلَكِن فِي هَذِه الرِّوَايَة فَقَالَ: (مَالِي الْيَوْم فِي النِّسَاء من حَاجَة) قيل: فِيهِ إِشْكَال من جِهَة أَن فِيهِ: سعد النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، فَهَذَا دَلِيل على أَنه كَانَت لَو حَاجَة، وَأجِيب بِاحْتِمَال أَن جَوَاز النّظر من خَصَائِصه وَإِن لم يرد التَّزَوُّج.
54 - (بابٌ لَا يَخْطُبُ علَى خِطْبَةِ أخِيهِ حَتَّى يَنْكحَ أوْ يَدَعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان لَا يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه، والخطية بِكَسْر الْخَاء من خطبت الْمَرْأَة خطْبَة، وبالضم فِي الْوَعْظ وَغَيره. قَوْله: (أَو يدع) أَي: أَو يتْرك، وَذكره فِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: وَيتْرك، على مَا يَأْتِي. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عقبَة بن عَامر: حَتَّى يذر، وَهُوَ بِمَعْنى: يتْرك، أَيْضا.
2415 - حدَّثنا مَكِيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نافِعا يُحَدِّثُ أنَّ ابنَ عُمَرَ، رضيَ الله عَنْهُمَا، كانَ يقُولُ: نهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنْ يَبِيعَ بعْضُكُمْ علَى بيْعِ بعْضٍ وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ علَى خِطْبَةِ أخِيهِ حتَّى يَتْرُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ أوْ يأذنَ لهُ الخَاطِبُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي شقة الثَّانِي، ومكي بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد، وَيُقَال: ابْن فرقد بن بشير البرجمي التَّمِيمِي الْحَنْظَلِي الْبَلْخِي، يكنى أَبَا السكن، قَالَ البُخَارِيّ: توفّي سنة أَربع عشرَة أَو خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ومكي بِلَفْظ الْمَنْسُوب إِلَى مَكَّة المشرفة. قلت: ظَنّه مَنْسُوبا وَلم يدر أَنه اسْمه، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، والشطر الأول من الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب لَا بيع على بيع أَخِيه من حَدِيث ابْن عمر مُخْتَصرا أَو مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَمر فِيهِ بِكَمَالِهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَوْله وَلَا يخْطب بِالنّصب وَلَا زَائِدَة وبالرفع نفيا وبالكسر نهيا بِتَقْدِير قَالَ مُقَدرا عطفا على نهي أَي نهى وَقَالَ لَا يخْطب قَوْله أَخِيه يتَنَاوَل الْأَخ النسبي والرضاعي والديني قَوْله أَو يَأْذَن لَهُ الْخَاطِب أَي حَتَّى يَأْذَن الأول للثَّانِي وَقيل هَذَا النَّهْي مَنْسُوخ بِخطْبَة الشَّارِع لأسامة فَاطِمَة بنت قيس على خطْبَة مُعَاوِيَة وَأبي جهم وفقهاء الْأَمْصَار على عدم النّسخ وَأَنه بَاقٍ وخطبة الشَّارِع كَانَت قبل النَّهْي وَأغْرب أَبُو سُلَيْمَان فَقَالَ إِن هَذَا النَّهْي للتأديب لَا للتَّحْرِيم وَنقل عَن أَكثر الْعلمَاء أَنه لَا يبطل وَعند دَاوُد بطلَان نِكَاح الثَّانِي وَالْأَحَادِيث دَالَّة على إِطْلَاق التَّحْرِيم وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث عقبَة بن عَامر أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يحل لمُؤْمِن أَن يخْطب على خطْبَة أَخِيه حَتَّى يذر وَلَا يحل لَهُ أَن يبْتَاع على بيع أَخِيه حَتَّى يذر وَهُوَ قَول ابْن عمر وَعقبَة بن عَامر وَابْن هُرْمُز وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اخْتلف عُلَمَاؤُنَا هَل الْحق فِيهِ لله عز وَجل أَو للخاطب فَقيل بِالْأولِ فيتحلل فَإِن لم يفعل فَارقهَا قَالَه ابْن وهب وَقيل أَن النَّهْي فِي حَال رضَا الْمَرْأَة بِهِ وركونها إِلَيْهِ وَبِه فسر فِي الْمُوَطَّأ دون مَا إِذا لم يركن وَلم يتَّفقَا على صدَاق وَقَالَ أَبُو عبيد هُوَ وَجه الحَدِيث وَبِه يَقُول أهل الْمَدِينَة وَأهل الْعرَاق وَاسْتثنى ابْن الْقَاسِم من النَّهْي مَا إِذا كَانَ الْخَاطِب فَاسِقًا وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ وَاسْتثنى ابْن الْمُنْذر فِيمَا إِذا كَانَ الأول كَافِرًا وَهُوَ خلاف قَول الْجُمْهُور والْحَدِيث خرج على الْغَالِب وَلَا مَفْهُوم لَهُ وَقَالَ ابْن نَافِع يخْطب وَإِن رضيت بِالْأولِ حَتَّى يتَّفقَا على صدَاق وَخَطأَهُ ابْن حبيب وَقَالَت الشَّافِعِيَّة والحنابلة مَحل التَّحْرِيم مَا إِذا صرحت المخطوبة أَو وَليهَا الَّذِي أَذِنت لَهُ حَيْثُ يكون إِذْنهَا مُعْتَبرا بالإجابة فَلَو وَقع التَّصْرِيح بِالرَّدِّ فَلَا تَحْرِيم وَلم يعلم الثَّانِي بِالْحَال فَيجوز الهجوم على الْخطْبَة لِأَن الأَصْل الْإِبَاحَة وَعند الْحَنَابِلَة فِي ذَلِك رِوَايَتَانِ وَإِن وَقعت الْإِجَابَة بالتعريض كقولها لَا رَغْبَة عَنْك فَقَوْلَانِ عِنْد الشَّافِعِيَّة الْأَصَح وَهُوَ قَول الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة لَا يحرم أَيْضا وَإِذا لم ترد وَلم تقبل فَيجوز -(20/132)
3415 - حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا الليْثُ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةِ عنِ الأعْرَجِ قَالَ: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ يأثُرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إيّاكُمْ والظَّنَّ فإنَّ الظنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَباغَضُوا وكُونُوا عبادَ الله إخْوَانا. وَلَا يخْطُبُ الرَّجُلُ علَى خِطْبَةِ أخيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أوْ يَتْرُكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يخْطب) إِلَى آخِره. والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (يأثر أَي) يروي من أثرت الحَدِيث آثره بِالْمدِّ أثرا بِفَتْح أَوله وَسُكُون الثَّانِي إِذا ذكرته عَن غَيْرك. قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالظَّن) تحذير مِنْهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: التحذير عَن الظَّن إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يجب فِيهِ الْقطع والتحديث مَعَ الِاسْتِغْنَاء عَنهُ، وَقَالَ ابْن التِّين: يُرِيد بِهِ أَن تحقق الظَّن قد يُوقع بِهِ فِي الْإِثْم، قيل: (وَإِيَّاكُم وَالظَّن) تحذير مِنْهُ وَالْحَال أَنه يجب على الْمُجْتَهد مُتَابعَة ظَنّه، وَكَذَا على مقلده. وَأجِيب بِأَن ذَلِك من أَحْكَام الشَّرِيعَة، وَقيل: إِحْسَان الظَّن بِاللَّه عز وَجل وبالمسلمين وَاجِب، وَأجِيب بِأَن هَذَا تحذير من ظن السوء بهم، وَقيل: الْجَزْم سوء الظَّن وَهُوَ ممدوح، وَأجِيب بِأَن ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَال نَفسه وَمَا يتَعَلَّق بخاصته، وَحَاصِله أَن الْمَدْح للِاحْتِيَاط فِيمَا هُوَ ملتبس بِهِ قَوْله: (فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث) يَعْنِي أَن الظَّن أَكثر كذبا من الْكَلَام. وَقيل: إِن إِثْم هَذَا الْكَذِب أزيدمن إِثْم الحَدِيث أَو من سَائِر الأكاذيب، وَإِنَّمَا كَانَ إثمه أَكثر لِأَنَّهُ أَمر قلبِي وَالِاعْتِبَار بِهِ كالإيمان وَنَحْوه، وَقيل: الظَّن لَيْسَ كذبا، وَشرط أفعل أَن يكون مُضَافا إِلَى جنسه، وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا يلْزم أَن يكون الْكَذِب صفة لِلْقَوْلِ بل هُوَ صَادِق أَيْضا على كل اعْتِقَاد وَظن وَنَحْوهمَا إِذا كَانَ مُخَالفا للْوَاقِع، أَو الظَّن كَلَام نفساني، وأفعل قد يُضَاف إِلَى غير جنسه، أَو بِمَعْنى: أَن الظَّن أَكْثَره كذب، أَو المظنونات يَقع فِيهَا الْكَذِب أَكثر من المجزومات. وَقَالَ الْخطابِيّ: تَحْقِيق الظَّن دون مَا يهجس فِي النَّفس فَإِن ذَلِك لَا يملك أَي: الْمحرم من الظَّن مَا يصر صَاحبه عَلَيْهِ وَيسْتَمر فِي قلبه دون مَا يعرض وَلَا يسْتَقرّ، وَالْمَقْصُود أَن الظَّن يهجم صَاحبه على الْكَذِب إِذا قَالَ على ظَنّه مَا لم يتيقنه فَيَقَع الْخَبَر عَنهُ حِينَئِذٍ كذبا. أَي: أَن الظَّن منشأ أَكثر الْكَذِب. قَوْله: (وَلَا تجسسوا وَلَا تحسسوا) الأول بِالْجِيم وَالثَّانِي بِالْحَاء الْمُهْملَة، ويروى بِالْعَكْسِ،، وَاخْتلفُوا فيهمَا: التحسس بِالْحَاء الِاسْتِمَاع لحَدِيث الْقَوْم، بِالْجِيم الْبَحْث عَن العورات، وَقيل: بِالْحَاء هُوَ أَن تطلبه لغيرك، وَقيل: هما بِمَعْنى، وَهُوَ طلب معرفَة الْأَخْبَار الغائبة وَالْأَحْوَال، قَالَه الْحَرْبِيّ، وَقيل: بِالْحَاء فِي الْخَيْر وبالجيم فِي الشَّرّ. وَقَالَ ابْن حبيب: بِالْحَاء أَن تسمع مَا يَقُول أَخُوك فِيك، وبالجيم أَن ترسل من يسْأَل لَك عَمَّا يُقَال لَك فِي أَخِيك من السوء. قَوْله: (وَلَا تباغضوا) من بَاب التفاعل الَّذِي هُوَ اشْتِرَاك الْجَمَاعَة، وَهُوَ من البغض ضد الْحبّ. قَوْله: (وَكُونُوا إخْوَانًا) كإخوان فِي جلب نفع وَدفع مضرَّة. قَوْله: (حَتَّى ينْكح) قيل: كَيفَ يَصح هُوَ غَايَة لقَوْله: لَا يخْطب؟ وَأجِيب بِأَن بعد النِّكَاح لَا يُمكن الْخطْبَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يخْطب على الْخطْبَة أصلا كَقَوْلِه عز وَجل: {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} (الْأَعْرَاف: 04) .
64 - (بابُ تفْسِيرِ تَرْكِ الخِطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير ترك الْخطْبَة. وَهُوَ أَن يكون صَرِيحًا كَمَا تقدم فِي الحَدِيث الَّذِي سبق، وَهُوَ قَوْله فِي آخر الحَدِيث حَتَّى ينْكح أَو يتْرك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: تَفْسِير ترك الْخطْبَة أَي: الِاعْتِذَار عَن تَركهَا.
5415 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: أخبَرَنِي سالِمُ بنُ عبْدِ الله أنّهُ سمِعَ عبْدَ الله بنَ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ حِين تأيَّمَتْ حَفْصَةُ، قَالَ عُمَرُ: لقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فقُلْتُ: إنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فلَبِثْتُ لَيالِي ثُمَّ خطَبَها رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلَقيَنِي أبُو بَكْرٍ فَقَالَ: إنّهُ لعمْ يَمْنَعْني أنْ أرْجِعَ إليْكَ فِيما عرَضْتَ إلاَّأنِّي قَدْ علمْتُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ ذَكرَها، فلَمْ أكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولَوْ ترَكَها لقَبِلْتُها.(20/133)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فلقيني أَبُو بكر) إِلَى آخِره، فَإِن فِيهِ اعتذار أبي بكر لعمر عَن ترك خطبَته وإجابته لعمر نعلمهُ بِأَن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيد خطبتها، وَهَذَا تَفْسِير من أبي بكر لترك الْخطْبَة. والْحَدِيث قد مضى عَن قريب فِي: بَاب عرض الْإِنْسَان ابْنَته أَو أُخْته على أهل الْخَيْر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
تابَعَهُ يُونُسُ ومُوسى بنُ عُقْبَةَ وابنُ عَتيقٍ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع شعيبَ بن أبي حَمْزَة يُونُس بن يزِيد ومُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف، وَابْن أبي عَتيق وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي عَتيق، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: الصديقي التَّمِيمِي الْقرشِي، ومتابعة يُونُس وَصلهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل من طَرِيق إصبغ عَن ابْن وهب عَن يُونُس، ومتابعة مُوسَى ابْن أبي عَتيق وَصلهَا الذهلي فِي الزهريات من طَرِيق سُلَيْمَان بن بِلَال عَنْهُمَا، وَسبق هَذَا الحَدِيث للْبُخَارِيّ من رِوَايَة معمر، وَمن رِوَايَة صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ.
74 - (بابُ الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخطْبَة، بِضَم الْخَاء عِنْد العقد.
6415 - حدَّثنا قَبِيصَةُ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ قَالَ: سمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يقُولُ: جاءَ رجُلاَنٍ مِنَ المَشْرقِ فخَطَبَا، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنّ مِنَ البَيانِ سحْرا.
قيل: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث فِي كتاب النِّكَاح لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعه. وَقد أطنب الشُّرَّاح هُنَا فِي الرَّد على قَائِل هَذَا القَوْل بِمَا لَا يجدي، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن خطْبَة الرجلَيْن الْمَذْكُورين عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تخل عَن قصد حَاجَة مَا، وَالْخطْبَة عِنْد الْحَاجة من الْأَمر الْقَدِيم الْمَعْمُول بِهِ لأجل استمالة الْقُلُوب وَالرَّغْبَة فِي الْإِجَابَة، فَمن ذَلِك الْخطْبَة عِنْد النِّكَاح لذَلِك الْمَعْنى.
وَقد ورد فِي تَفْسِير خطْبَة النِّكَاح أَحَادِيث أشهرها مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: علمنَا رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة وَالتَّشَهُّد فِي الْحَاجة ... الحَدِيث، وَفِيه التَّشَهُّد فِي الْحَاجة: إِن الْحَمد لله نستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ إِلَى آخِره، وَهَذَا اللَّفْظ التِّرْمِذِيّ، وَلما ذكره قَالَ: حَدِيث حسن، وَترْجم لَهُ بقوله: بَاب مَا جَاءَ فِي خطْبَة النِّكَاح. وَأخرجه أَبُو عوَانَة وَابْن حبَان وصححاه. وَمن ذَلِك اسْتحبَّ الْعلمَاء الْخطْبَة عِنْد النِّكَاح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِن النِّكَاح جَائِز بِغَيْر خطْبَة، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثورى وَغَيره من أهل الْعلم. قلت: وأوجبها أهل الظَّاهِر فرضا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب عِنْد تزوج فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وأفعاله على الْوُجُوب، وَاسْتدلَّ الْفُقَهَاء على عدم وُجُوبهَا بقوله فِي حَدِيث سهل بن سعد: قد زوجتها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، وَلم يخْطب ثمَّ إِنَّه خرج الحَدِيث الْمَذْكُور عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، ويروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَلَا قدح بِهَذَا لِأَنَّهُمَا بِشَرْط البُخَارِيّ.
وَزيد بن أسلم مولى عمر بن الْخطاب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (حاء رحلان) وهما: الزبْرِقَان بن بدر التَّمِيمِي وَعَمْرو بن الْأَهْتَم التَّمِيمِي، وَفْدًا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وُجُوه قومهماوساداتهم وأسلما، وَكَانَ فِي سنة تسع من الْهِجْرَة. قَوْله: (من الْمشرق) أَرَادَ بِهِ مشرق الْمَدِينَة، وَهُوَ طرف نجد. قَوْله: (فخطبا) ، فَقَالَ الزبْرِقَان: يَا رَسُول الله! أَنا سيد تَمِيم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظُّلم وآخذ لَهُم بحقوقهم، وَهَذَا يعلم ذَلِك. يَعْنِي عمرا فَقَالَ عَمْرو: إِنَّه لشديد الْمُعَارضَة مَانع لجانبه مُطَاع فِي أدانيه، فَقَالَ الزبْرِقَان: وَالله يَا رَسُول الله، لقد علم مني غير مَا قَالَ: وَمَا مَنعه أَن يتَكَلَّم إلاَّ الْحَسَد، فَقَالَ عَمْرو: أَنا أحسدك؟ فوَاللَّه يَا رَسُول الله إِنَّه للئيم الْحَال حَدِيث المَال أمق الْوَلَد مضيع فِي الْعَشِيرَة، وَالله يَا رَسُول الله لقد صدقت فِي الأولى وَمَا كذبت فِي الْأُخْرَى، وَلَكِنِّي رجل إِذا رضيت قلت أحسن مَا علمت، وَإِذا غضِبت قلت أقبح مَا وجدت. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من الْبَيَان سحرًا إِن من الْبَيَان سحرًا) . قَوْله: (إِن من الْبَيَان سحرًا) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة(20/134)
غَيره: (إِن من الْبَيَان لسحرا) بِاللَّامِ الَّتِي هِيَ للتَّأْكِيد، وَالْبَيَان على نَوْعَيْنِ: بَيَان تقع بِهِ الْإِبَانَة عَن المُرَاد بِأَيّ وَجه كَانَ، وَبَيَان بلاغة وَهُوَ الَّذِي دَخلته الصَّنْعَة بِحَيْثُ يروق السامعين ويستميل بِهِ قُلُوبهم، وَهُوَ الَّذِي يشبه بِالسحرِ إِذا جلب الْقُلُوب وَغلب على النُّفُوس، وَفِي الْحَقِيقَة هُوَ تصنع فِي الْكَلَام وتكلف لتحسينه وَصرف الشَّيْء عَن ظَاهِرَة كالسحر الَّذِي هُوَ تخييل لَا حَقِيقَة لَهُ، والمذموم من هَذَا الْفَصْل أَن يقْصد بِهِ الْبَاطِل واللبس فيوهمك الْمُنكر مَعْرُوفا وَهَذَا مَذْمُوم، وَهُوَ أَيْضا مشبه بِالسحرِ لِأَن السحر صرف الشَّيْء عَن حَقِيقَته. وَحكى يُونُس أَن الْعَرَب تَقول، مَا سحرك عَن وَجه كَذَا؟ أَي: صرفك، وَرُوِيَ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب من حَدِيث صَخْر بن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عبد الله بن بُرَيْدَة يرفعهُ: (إِن من الْبَيَان سحرًا وَإِن من الْعلم جهلا وَإِن من الشّعْر حكما وَإِن من القَوْل عيالاً) . فَقَالَ صعصعة بن صوحان الْعَبْدي: صدق نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أما قَوْله: إِن من الْبَيَان سحرًا فالرجل يكون عَلَيْهِ الْحق وَهُوَ أَلحن بالحجج من صَاحب الْحق فيسحر الْقَوْم ببيانه فَيذْهب بِالْحَقِّ. وَأما قَوْله: (إِن من الْعلم جهلا) ، فَهُوَ أَن يتَكَلَّف الْعَالم إِلَى علمه مَا لم يعلم فيجهل لذَلِك، وَأما قَوْله: (إِن من الشّعْر حكما) ، فَهِيَ هَذِه المواعظ والأمثال الَّتِي يتعظ بهَا النَّاس، وَلما قَوْله: (إِن من القَوْل عيالاً) ، فعرضك كلامك على من لَيْسَ من شَأْنه وَلَا يُريدهُ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَن من القَوْل عيلاً، ثمَّ فسره بِمَا ذكرنَا، ثمَّ قَالَ: علت الضَّالة أعيل عيلاً إِذا لم تدر أَي جِهَة تبغيها، كَأَنَّهُ لم يهتد لمن يطْلب فعرضه على من لَا يُريدهُ.
84 - (بابُ ضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ والوَلِيمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة ضرف الدُّف فِي النِّكَاح، والأفصح فِي الدُّف ضم ادال وَقد تفتح، وَهُوَ الَّذِي بِوَجْه وَاحِد، وَقد اخْتلف فِي الضَّرْب بِالْوَجْهِ من الْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (والوليمة) أَي: ضرب الدُّف فِي الْوَلِيمَة، وَهُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، قيل: يحْتَمل أَن يُرِيد وَلِيمَة النِّكَاح خَاصَّة، وَأَن ضرب الدُّف يشرع فِي النِّكَاح عِنْد العقد وَعند الخول مثلاٍ وَعند الْوَلِيمَة كَذَلِك، وَالْأول أقرب.
7415 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ حَدثنَا خالِدُ بنُ ذَكْوانَ قَالَ: قالَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بنِ غَفْرَاءَ: جاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَخَلَ حِينَ بُنْيَ علَيَّ، فَجَلسَ علَى فِرَاشِس كمَجْلَسِكَ مِنِّي، فَجَعَلتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنا يَضْرِبْنَ بالدُّفِّ ويَنْذُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبائِي يَوْمَ بَدْرٍ إذْ قالَتْ إحْدَاهُنَّ: وَفينَا نَبيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ: دَعي هاذِهِ وقُولِي بالَّذِي كُنْتِ نَقُولِينَ.
(انْظُر الحَدِيث 1004) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل من التَّفْضِيل على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول ابْن لَاحق الْبَصْرِيّ، وخَالِد بن ذكْوَان أَبُو الْحسن الْمدنِي، وَالربيع، بِضَم الرَّاء، مصغر الرّبيع. ضد الخريف: بنت معوذ بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التعويذ بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة، والعفراء مؤنث الأعفر بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالْفَاء وَالرَّاء من العفرة، وَهُوَ بَيَاض لَيْسَ بالناصع.
والْحَدِيث قد مر فِي الْمَغَازِي فِي بَاب مُجَرّد بعد: بَاب شهودالملائكة بَدْرًا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ عَن بشر بن الْمفضل إِلَى آخِره.
قَوْله: (حِين بني عَليّ) أَرَادَت بِهِ لَيْلَة دخل عَلَيْهَا زَوجهَا وَبني، على صِيغَة الْمَجْهُول: وعليَّ بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (كمجلسك) بِفَتْح اللَّام مصدر ميمي أَي: كجلوسك، ويروي بِكَسْر اللَّام. قَوْله: (يندبن) بِضَم الدَّال من النّدب وَهُوَ تعديد محَاسِن الْمَيِّت والبكاء عَلَيْهِ. قَوْله: (من آبَائِي) وَفِي رِوَايَة مرت فِي الْمَغَازِي: وَفِي آبائهن. قَوْله: (إِذْ قَالَت إِحْدَاهُنَّ) أَي: إِحْدَى الجويريات، وَهُوَ جمع جوَيْرِية مصغر جَارِيَة. قَوْله: (قَالَ: دعِي) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتِلْك الْجَارِيَة الَّتِي قَالَت: وَفينَا نَبِي يعلم ام فِي غَد، دعِي أَي: اتركي هَذَا القَوْل، لِأَن مفاتح الْغَيْب عِنْد الله لَا يعلمهَا إلاَّ هُوَ. قَوْله: (وَقَوْلِي بِالَّذِي كنت تَقُولِينَ) يَعْنِي: اشتغلي بالأشعار الَّتِي تتَعَلَّق بالمغازي والشجاعة وَنَحْوهَا.
وَفِي الحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: تشريف الرّبيع بِدُخُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا وجلوسه أمامها حَيْثُ يجلس الرَّأْس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ صَحَّ هَذَا؟ قلت: أما أَنه جلس من وَرَاء الْحجاب أَو كَانَ قبل نزُول آيَة الْحجاب أَو جَازَ النّظر لحَاجَة أَو عِنْد الْأَمْن من الْفِتْنَة، وَاسْتحْسن بَعضهم الْجَواب الْأَخير(20/135)
قلت: كل هَذَا دوران لطلب شَيْء لَا يظفر بِهِ، وَالْجَوَاب الصَّحِيح أَن من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَاز الْخلْوَة بالأجنبية وَالنَّظَر إِلَيْهَا كَمَا ذكرنَا فِي قصَّة أم حرَام بنت ملْحَان. فِي دُخُوله عَلَيْهَا، ونومه عِنْدهَا وتفليها رَأسه وَلم يكن بَينهمَا محرمية وَلَا زوجية. وَمِنْهَا: الضَّرْب بالدف فِي الْعرس بِحَضْرَة شَارِع الْملَّة ومبين الْحل من الْحُرْمَة وإعلان النِّكَاح بالدف والغناء الْمُبَاح، فرقا بَينه وَبَين مَا يسْتَتر بِهِ من السفاح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا هشيم حَدثنَا أَبُو بلج عَن مُحَمَّد بن حَاطِب الجُمَحِي قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فصل مَا بَين الْحَلَال وَالْحرَام الدُّف وَالصَّوْت، وَقَالَ: حَدِيث حسن وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَقَالَ ابْن طَاهِر: ألزم الدَّارَقُطْنِيّ مُسلما إِخْرَاجه: قَالَ وَهُوَ صَحِيح، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو بلج: اسْمه يحيى بن أبي سليم وَيُقَال: ابْن سليم أَيْضا. وَمُحَمّد بن حَاطِب قد رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غُلَام صَغِير. قلت: هَذَا أخرجه النَّسَائِيّ عَن مُجَاهِد بن مُوسَى، وَابْن مَاجَه عَن عَمْرو بن رَافع كِلَاهُمَا عَن هشيم وَأَبُو بلج هَذَا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وبالجيم، وَقَالَ شيحنا زين الدّين: وَثَّقَهُ يحيى بن معِين وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَأما البُخَارِيّ فَقَالَ: فِيهِ نظر، وَقَالَ شَيخنَا: أَبُو بلج هَذَا هُوَ الْكَبِير، وَأما أَبُو بلج الصَّغِير فاسمه جَارِيَة بن بلج الوَاسِطِيّ، وَذكر ابْن مَاكُولَا ثَالِثا وَهُوَ: أَبُو بلج مولى عُثْمَان بن عَفَّان، رُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرُوِيَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم: أعْلنُوا هَذَا النِّكَاح واجعلوه فِي الْمَسَاجِد واضربوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَأخرجه ابْن مَاجَه وَلَيْسَ فِي لَفظه: واجعلوه فِي الْمَسَاجِد، وَقَالَ: واضربوا عَلَيْهِ بالغربال، وَرُوِيَ النَّسَائِيّ من حَدِيث عَامر بن سعد عَن قرظة بن كَعْب وَأبي مَسْعُود، قَالَا: رخص لنا فِي اللَّهْو عِنْد الْعرس، وَرُوِيَ الطَّبَرَانِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد: لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جواري يغنين وَيَقُلْنَ: حيونا نحييكم، قَالَ: لَا تَقولُوا هَكَذَا، وَلَكِن قُولُوا: حيانا وحياكم، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله ترخص للنَّاس فِي هَذَا {قَالَ: نعم} إِنَّه نِكَاح لَا سفاح. وَرُوِيَ ابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة أَنَّهَا أنكحت ذَات قربَة لَهَا من الْأَنْصَار، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أهديتم الفتاة؟ قَالُوا: نعم قَالَ: أرسلتم مَعهَا من يُغني؟ قَالَت: قلت: لَا فَقَالَ: إِن الْأَنْصَار قوم فيهم غزل، فَلَو بعثتم مَعهَا من يَقُول: أَتَيْنَاكُم أَتَيْنَاكُم فحيانا وحياكم هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَقَالَ أَحْمد: حَدِيث مُنكر، وَمِنْهَا: إقبال الإِمَام والعالم إِلَى الْعرس، وَإِن كَانَ لَهو وَلعب مُبَاح فَإِنَّهُ يُورث الألفة والانشراح، وَلَيْسَ الِامْتِنَاع من ذَلِك من الْحيَاء الممدوح، بل فعله هُوَ الممدوح الْمَشْرُوع. وَمِنْهَا: جَوَاز مدح الرجل فِي وَجهه بِمَا فِيهِ، وَالْمَكْرُوه من ذَلِك مدحه بِمَا لَيْسَ فِيهِ.
94 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { (4) وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} (النِّسَاء: 4) وكَثْرَةِ المَهْرِ وأدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ وقَوْلهِ تَعَالَى: { (4) وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} (النِّسَاء: 02) وقَوْلهِ جَلَّ ذِكْرُهُ { (2) أَو تفرضوا لَهُنَّ} (الْبَقَرَة: 632)
وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ولوْ خاتَما مِنْ حَدِيدٍ.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يدل عَلَيْهِ قَوْله الله: {وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} (النِّسَاء: 4) أَي: أعْطوا النِّسَاء مهورهن وَكَأن البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذَا وَبِمَا ذكر بعده أَن الْمهْر لَا يقدر أَقَله، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ مفصلا. وَالصَّدقَات جمع صَدَقَة بِفَتْح الصَّاد وَضم الدَّال. وَهُوَ مهر الْمَرْأَة، وقرىء: صدقاتهن، بِفَتْح الصَّاد وَسُكُون الدَّال وصدقاتهن بِضَم الصَّاد وَسُكُون الدَّال وصدقاتهن بِضَم الصَّاد وَضم الدَّال قَوْله: {نحلة} (النِّسَاء: 4) مَنْصُوب على الْمصدر لِأَن النحلة والإيتاء بِمَعْنى الْإِعْطَاء؛ وَالتَّقْدِير: نحلوهن مهورهن نحلة، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على الْحَال من المخاطبين أَي: آتوهن مهورهن ناحلين طيبي النُّفُوس بالإعطاء، وَيجوز أَن يكون حَالا من الصَّدقَات، وَيكون معنى: نحلة، مِلَّة يُقَال: نحلة الْإِسْلَام خير النَّحْل، وَيكون التَّقْدِير: وآتو النِّسَاء صدقاتهن منحولة معطاة، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على التَّعْلِيل أَي: آتوهن صدقاتهن للنحلة والديانة. قَوْله: (وَكَثْرَة الْمهْر) بِالْجَرِّ عطفا على: قَول الله تَعَالَى، أَي: فِي بَيَان كَثْرَة الْمهْر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى جَوَاز كَثْرَة الْمهْر فلأجل ذَلِك ذكر قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُم(20/136)
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (النِّسَاء: 02) وَالْقِنْطَار المَال الْعَظِيم من قنطرت الشَّيْء إِذا رفعته، وَمِنْه القنطرة.
قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ: وَاخْتلفُوا فِيهِ: هَل هُوَ مَحْدُود أم لَا؟ فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ وزن لَا يحد، وَقيل: هُوَ مَحْدُود، ثمَّ اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: هُوَ ألف وَمِائَتَا أُوقِيَّة، رَوَاهُ أبي بن كَعْب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِه قَالَ معَاذ بن جبل وَابْن عمر، وَقيل: إثنا عشر ألف أُوقِيَّة، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَقيل: ألف وَمِائَتَا دِينَار، رَوَاهُ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: سَبْعُونَ ألف دِينَار، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وَمُجاهد، وَقيل: ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم أَو مائَة رَطْل من الذَّهَب، وَقيل: سَبْعَة آلَاف دِينَار، وَقيل: ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار، وَقيل: ألف مِثْقَال ذهب أَو فضَّة، وَقيل: ملْء مسك ثَوْر ذَهَبا، وكل ذَلِك تحكّم، إلاَّ مَا رُوِيَ عَن خبر، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة: وَإِن كرهت امْرَأَتك وَأَرَدْت أَن تطلقها وتتزوج غَيرهَا فَلَا تَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا من مهرهَا وَلَو كَانَ قِنْطَارًا من الذَّهَب.
قَوْله: {أَو تفرضوا لَهُنَّ} (الْبَقَرَة: 632) وَزَاد أَبُو ذَر: فَرِيضَة. قَوْله: وَقَالَ سهل بن سعد فِي حَدِيث الواهبة نَفسهَا: وَلَو خَاتمًا من حَدِيد، وَقد مضى حَدِيث سهل مرَارًا عديدة، وَذكر هُنَا طرفا مِنْهُ، وَأَشَارَ بِهِ البُخَارِيّ أَيْضا إِلَى أَن الْمهْر لَا يقدر بِشَيْء.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَكثر الصَدَاق وَأقله. فَزعم الْمُهلب أَنه لَا حدَّ لأكثره قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (النِّسَاء: 02) وَذكر عبد الرَّزَّاق عَن قيس بن الرّبيع عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، قَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تغَالوا فِي صدقَات النِّسَاء، فَقَالَت امْرَأَة: لَيْسَ ذَلِك يَا عمر، إِن الله عز وَجل قَالَ: {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (النِّسَاء: 02) فَقَالَ: إِن امْرَأَة خَاصَمت عمر فَخَصمته، وَذكر أَبُو الْفرج الْأمَوِي وَغَيره: أَن عمر صدق أم كُلْثُوم ابْنة عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَرْبَعِينَ ألفا، وَأَن الْحسن بن عَليّ تزوج امْرَأَة فَأرْسل إِلَيْهَا مائَة جَارِيَة وَمِائَة ألف دِرْهَم، وَتزَوج معصب بن الزبير عَائِشَة بنت طَلْحَة فَأرْسل إِلَيْهَا ألف دِرْهَم، فَقيل فِي ذَلِك:
(بضع الفتاة بِأَلف ألف كاملٍ ... وتبيت سَادَات الجيوش شياعا)
وأصدق النَّجَاشِيّ أم حَبِيبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ذكرهه أَبُو دَاوُد أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَكتب بذلك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: وَقيل: أصدقهَا أَرْبَعمِائَة دِينَار، وَقيل: مِائَتي دِينَار. وَفِي مُسلم: قَالَت عَائِشَة: كَانَ صدَاق رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، ثِنْتَيْ عشرَة أُوقِيَّة ونشا فَذَلِك خَمْسمِائَة دِرْهَم. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: أصدق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوْدَة بَيْتا وَرثهُ، وَعَائِشَة على مَتَاع بَيت قِيمَته خَمْسُونَ درهما، رَوَاهُ عَطِيَّة عَن أبي سعيد، وأصدق زَيْنَب بنت خُزَيْمَة ثِنْتَيْ عشرَة أُوقِيَّة ونشا، وَأم سَلمَة على مَتَاع قِيمَته عشرَة دَرَاهِم، وَقيل: كَانَ جرتين ورحى ووسادة حشوها لِيف، وَعند أبي الشَّيْخ: عَليّ جرار خضر ورحى يَد، وَعند التِّرْمِذِيّ: على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، وَفِي مُسلم: لما قَالَ الْأنْصَارِيّ وَقد تزوج: بكم تَزَوَّجتهَا؟ قَالَ: على أَربع أَوَاقٍ، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَربع أَوَاقٍ؟ كأنكم تنحتون الْفضة من عرض هَذَا الْجَبَل) . وَعند ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: كَانَ صداقنا إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرَة أَوَاقٍ، زَاد أَبُو الشَّيْخ فِي كتاب النِّكَاح، فطبق يَده. وَذَاكَ أَرْبَعمِائَة دِرْهَم. وَعَن عدي بن حَاتِم: سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو صدَاق بَنَاته أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، وَبِسَنَد لَا بَأْس بِهِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوج ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ امْرَأَة من الْأَنْصَار على وزن نواة من ذهب، وَرُوِيَ عَن أنس: قيمَة النواة خَمْسَة دءاهم. وَفِي رِوَايَة: ثَلَاثَة دَرَاهِم وَثلث دِرْهَم، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد بن حَنْبَل، وَعَن بعض الْمَالِكِيَّة: النواة ربع دِينَار. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لم يكن هُنَاكَ ذهب إِنَّمَا هِيَ خَمْسَة دَرَاهِم تسمى نواة كَمَا تسمى الْأَرْبَعُونَ أُوقِيَّة، وَبِسَنَد جيد عَن أبي الشَّيْخ عَن جَابر: إِن كُنَّا لننكح الْمَرْأَة على الحفنة أَو الحفنتين من الدَّقِيق، وَلما ذكره المرزباني استغربه، وَعند الْبَيْهَقِيّ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو أَن رجلا تزوج امْرَأَة على ملْء كَفه من طَعَام لَكَانَ ذَلِك صَدَاقا) . وَفِي لفظ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَة ملْء الحفنة سويقا أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ ابْن جريج فَقَالَ فِيهِ: كُنَّا نستمتع بالقبضة، وَابْن جريج أحفظ، وَفِي كتاب أبي دَاوُد: عَن يزِيد عَن مُوسَى عَن مُسلم بن رُومَان عَن أبي الزبير عَن جَابر، يرفعهُ: (من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَة ملْء كفيه سويقا أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ) . وَقَالَ ابْن الْقطَّان: ومُوسَى لَا يعرف. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: لَا يعول عَلَيْهِ، وَرُوِيَ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَامر بن ربيعَة عَن أَبِيه أَن امْرَأَة من بني فَزَارَة تزوجت على نَعْلَيْنِ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أرضيت من نَفسك وَمَالك بنعلين؟ قَالَت: نعم. فَأَجَازَهُ) . وَرُوِيَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السَّلمَانِي عَن أَبِيه عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(20/137)
قَالَ: (أَدّوا العلائق. قَالُوا: يَا رَسُول الله {مَا العلائق؟ قَالَ: مَا تراضي عَلَيْهِ الأهلون وَلَو قَضِيبًا من أَرَاك) . قلت: هُوَ مَعْلُول بِمُحَمد بن عبد الرَّحْمَن السَّلمَانِي، قَالَ ابْن الْقطَّان: قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو تزَوجهَا بِدِرْهَمَيْنِ ثمَّ طَلقهَا قبل الدُّخُول لم يرجع إلاَّ بدرهم، وَعَن الثَّوْريّ: إِذا تراضوا على دِرْهَم فِي الْمهْر فَهُوَ جَائِز، وَرُوِيَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: النِّكَاح جَائِز على جوزة إِذا هِيَ رضيت، وَذهب ابْن حزم إِلَى جَوَازه بِكُل مَاله نصف قل أَو أَكثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعيرَة وشبههما، وَسُئِلَ ربيعَة عَمَّا يجوز من النِّكَاح، فَقَالَ: دِرْهَم قيل: فَأَقل؟ قَالَ: وَنصف. قيل: فَأَقل، قَالَ: حَبَّة حِنْطَة أَو قَبْضَة حِنْطَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: سَأَلت الدَّرَاورْدِي: هَل قَالَ أحد بِالْمَدِينَةِ: لَا يكون صدَاق أقل من ربع دِينَار؟ فَقَالَ: لَا وَالله مَا عملت أحدا قَالَه قبل مَالك. قَالَ الدَّرَاورْدِي: أَخذه عَن أبي حنيفَة يَعْنِي فِي اعْتِبَار مَا يقطع بِهِ الْيَد، قَالَ الشَّافِعِي: رُوِيَ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة فِي ذَلِك عَن عَليّ فَلَا يثبت مثله لَو لم يُخَالِفهُ غَيره أَنه لَا يكون مهْرا أقل من عشرَة دَرَاهِم. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: أقل الْمهْر عشرَة دَرَاهِم سَوَاء كَانَت مَضْرُوبَة أَو غَيرهَا حَتَّى يجوز وزن عشرَة تبرا وَإِن كَانَت قِيمَته أقل بِخِلَاف السّرقَة لما رُوِيَ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تنْكِحُوا النِّسَاء إلاَّ للأكفاء وَلَا يزوجهن إِلَّا الْأَوْلِيَاء وَلَا مهر دون عشرَة دَرَاهِم) . فَإِن قلت: فِيهِ مُبشر بن عبيد مَتْرُوك الحَدِيث أَحَادِيثه لَا يُتَابع عَلَيْهَا، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: أَحَادِيث بشر بن عبيد مَوْضُوعَة كذب قلت: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طرق، والضعيف إِذا رُوِيَ من طَرِيق يصير حسنا فيحتج بِهِ، ذكره النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ: أقل مَا يَسْتَحِيل بِهِ الْمَرْأَة عشرَة دَرَاهِم، ذكره الْبَيْهَقِيّ أَبُو عمر بن عبد الْبر.
8415 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ عبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهيْبٍ عنْ أنسٍ أنَّ عبْدِ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ تَزَوَّج امرَأةً عَلى وزْنِ نَواةٍ فَرَأي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَشاشَةَ العُرْسِ، فَسألَهُ، فَقَالَ: إنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأةً عَلى وزْنِ نَوَاةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمع من عبد الرَّحْمَن مَا قَالَه سكت، فَيدل على أَن المهرة غير مُقَدّر، وَأَنه على التَّرَاضِي بَين الزَّوْجَيْنِ، والنواة زنة خَمْسَة دَرَاهِم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن قدامَة.
قَوْله: (بشاشة الْعرس) ، وَهِي الْفَرح الَّذِي حصل مِنْهُ، وبشاشة اللِّقَاء الْفَرح بِالْمَرْءِ والانبساط إِلَيْهِ والأنس بِهِ، ويروي: فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا يشبه الْعرس. قَالَ ابْن قرقول: كَذَا فِي كتاب الْأصيلِيّ والقابسي والنسفي وَبَعض رُوَاة البُخَارِيّ وَهُوَ تَصْحِيف، وَصَوَابه: بشاشة الْعرس، كالأبى ذَر وَابْن السكن، ويروي الْعَرُوس، وَفِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي بشاشة الْعرس، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أنس بن مَالك: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى على عبد الرَّحْمَن أثر صفرَة، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُول الله} تزوجت امْرَأَة على وزن نواة من ذهب. قَالَ: (فَبَارك الله لَك أَو لم وَلَو بِشَاة) .
وعنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ أَن عبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ تَزَوجَ امْرأعةً علَى وزْنِ نَوَاةٍ منْ ذَهَبٍ
هُوَ عطوف على قَوْله: عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، وَهِي رِوَايَة شُعْبَة عَنْهُمَا، فبيَّن أَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب أطلق عَن أنس النواة، وَقَتَادَة زَاد أَنَّهَا من ذهب، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: وَعَن قَتَادَة مُعَلّقا.
05 - (بابُ التَّزْويجِ علَى القُرْآنِ وبِغَيْرِ صداقٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّزْوِيج على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَالتَّزْوِيج بِغَيْر صدَاق أَي: بِغَيْر ذكر صدَاق مَالِي.
9415 - حدَّثنا عَلِيٌّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ سَمِعْتُ أَبَا حازِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَهْلَ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: إنِّي لَفِي القَوْمِ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ قامتِ امْرَأةٌ فقالتْ: يَا رسولَ الله! إِنَّهَا قَدْ وهَبْتَ(20/138)
نَفْسَها لَكَ فَرَ فِيهَا رأيَكَ. فلَمْ يُجِبْها شَيْئا، ثُمَّ قامَتْ فقالَتْ: يَا رسولَ الله {إنَّها قَدْ وهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيها رَأْيَكَ، فَلمْ قامتِ الثالِثَةَ فقالَتْ: إِنَّهَا قدْ وهَبَتْ نَفْسَها لَكَ فَرَ فِيها رأيَكَ. فقامَ رجُلٌ فَقَالَ: يَا رسولُ الله} أنْكِحْنِيها. قَالَ: هَلْ عِنْدكَ مِنْ شَيْء؟ قَالَ: لَا. قَالَ: إذْهَبْفاطْلُبْ ولوْ خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ فَطَلَبَ ثُمَّ جاءَ فَقَالَ: مَا وجَدْتُ شَيْئا وَلَا خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وسورةُ كَذَا. قَالَ: إذْهَبْ فَقَدْ أنْكَحْتُكَها بِما معَكَ مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فَإِن فِيهِ التَّزْوِيج على الْقُرْآن من غير ذكر صدَاق. وَعلي بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار. والْحَدِيث قد مر بطرق كَثِيرَة ومتون مُخْتَلفَة وَقد ذكرنَا أَن الشَّافِعِي ذهب إِلَى هَذِه الْأَحَادِيث وَإِلَى أَن آخذ الْأجر على تَعْلِيم الْقُرْآن جَائِز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَاللَّيْث والمزني. لَا يكون تَعْلِيم الْقُرْآن مهْرا، زَاد أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه: فَإِن تزوج على ذَلِك فَالنِّكَاح جَائِز، وَهُوَ فِي حكم من لم يسم لَهَا مهْرا فلهَا مهر مثلهَا إِن دخل بهَا، وَإِن لم يدْخل بهَا فلهَا الْمُتْعَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَوْله: أنكحتكها أَو زوجتكها أَو أملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن خَاص بسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجوز لغيره، لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ ملك الْبضْع بِغَيْر صدَاق، وَلم يَجْعَل ذَلِك لغيره، بقوله: خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ، فَكَانَ لَهُ خصّه الله تَعَالَى أَن ملَّك غَيره مَا كَانَ لَهُ ملكه صدَاق، وَيكون ذَلِك خَاصّا بِهِ. وَقَالَ اللَّيْث: لَا يجوز لأحد أَن يتَزَوَّج بِالْقُرْآنِ، وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك أَنَّهَا قَالَت: قد وهبت لَك نَفسِي، فَقَامَ رجل فَقَالَ: إِن لم تكن حَاجَة لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها، وَلم يذكر فِي الحَدِيث أَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاورها فِي نَفسهَا، وَلَا أَنَّهَا قَالَت: زَوجنِي مِنْهُ، فَدلَّ على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ أَن يَهَبهَا بِالْهبةِ الَّتِي جَازَ لَهُ نِكَاحهَا. فَإِن قلت: يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَهَا أَن يُزَوّجهَا مِنْهُ وَلم ينْقل؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون جعل لَهَا مهْرا غير السُّور وَلم ينْقل، لَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر. فَإِن قلت: قد رُوِيَ أَنه استأذنها وَأَنه قَالَ: لَهُ عوضهَا إِذا زوقك الله. قلت: قد ذكرنَا خصوصيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يحْتَاج إِلَى شَيْء آخر. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع عُلَمَاء الْمُسلمين على أَنه لَا يجوز لأحد أَن يطَأ فرجا وهب لَهُ دون رقبته، وَأَنه لَا يجوز وَطْء فِي نِكَاح بِغَيْر صدَاق مُسَمّى دينا أَو نَقْدا، وَأَن الْمُفَوض إِلَيْهِ لَا يدْخل حَتَّى يُسَمِّي صَدَاقا مُسَمّى. انْتهى وَيحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَوجهَا بِمَا مَعَه من الْقُرْآن لِحُرْمَتِهِ، وعَلى وَجه التَّعْظِيم لِلْقُرْآنِ وَأَهله لَا على أَنه مهر، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) تَعْجِيل شَيْء يقدمهُ من الصَدَاق وَإِن كَانَ قَلِيلا، فَيدل على ذَلِك أَنه كَانَ يجوز أَن يُزَوجهُ على مهر فِي ذمَّته، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: ذكر خَاتم الْحَدِيد كَانَ قبل النَّهْي عَنهُ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه حلية أهل النَّار، فنسخ النَّهْي جَوَازه وَطَلَبه لَهُ. قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: لَعَلَّ الْخَاتم كَانَ يُسَاوِي ربع دِينَار فَصَاعِدا لقلَّة الصناع يَوْمئِذٍ عِنْدهم. قلت: للحنفي أَيْضا أَن يَقُول: لَعَلَّه كَانَ يُسَاوِي عشرَة فَمَا فَوْقهَا.
قَوْله: (إِذْ قَامَت امْرَأَة) كلمة: إِذْ للمفاجأة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ لِأَن هَذَا الحَدِيث قد ذكر إِلَى هُنَا فِي كتاب النِّكَاح ثَمَان مَرَّات مطولا وَلَا مُخْتَصرا. قَوْله: (فَقَالَت: يَا رَسُول الله! إِنَّهَا قد وهبت نَفسهَا) فِيهِ الْتِفَات. وَكَذَا فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد، لَكِن قَالَ: إِنَّهَا وهبت نَفسهَا لله وَلِرَسُولِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة مَالك: إِنِّي وهبت نَفسِي لَك، هَذَا على مَا يَقْتَضِيهِ سِيَاق الْكَلَام. قَوْله: (فَرَ) الْفَاء للْعَطْف و: ر، وَحدهَا أَمر من: رأى يرأى على وزن: ف، لِأَن عين الْفِعْل ولامه محذوفان، لِأَن أَصله: أرأى، على وزن: افْعَل، حذفت لَام الْفِعْل للجزم لِأَن الْأَمر مجزوم ثمَّ نقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى الرَّاء للتَّخْفِيف فاستغنيت عَن همزَة الْوَصْل فحذفت فَبَقيَ: ر، على وزن: ف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِهَمْزَة بعد الرَّاء. قلت: الْقَاعِدَة فِي مثل هَذَا الْبَاب نَحْو: ر، و: ق، و: ع، وَغَيرهَا أَن يلْحقهَا هَذِه السكت، فَيُقَال: ره، وقه، وعه. لِأَن الِابْتِدَاء بِكَلِمَة الْوُقُوف عَلَيْهَا وَهِي حرف وَاحِد فِيهِ بعض تعسر واستثقال، وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ قد مرت بالتكرار.
15 - (بابُ المَهْرِ بالعُرُوضِ وخاتَم مِنْ حَدِيدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمهْر الَّذِي يَجْعَل بالعروض، بِضَم الْعين جمع عرض بِفَتْح أَوله وَسُكُون ثَانِيه، وَهُوَ مَا يُقَابل النَّقْد، وَقيل:(20/139)
هُوَ مَتَاع لَا نقد فِيهِ، وَالْعرض بِالضَّمِّ النَّاحِيَة وبالكسر مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان. قَوْله: وَخَاتم من حَدِيد، من عطف الْخَاص على الْعَام، والترجمة مَأْخُوذَة من حَدِيث الْبَاب: الْخَاتم، بالتنصيص وَالْعرُوض بالإلحاق.
0515 - حدَّثنا يَحْيى احدثنا وكيعٌ عنْ سُفْيانَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْد: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِرَجُلِ: تَزَوَّجْ ولَوْ بِخاتَمِ مِنْ حَدِيدٍ..
هَذَا الطَّرِيق إِلَى هُنَا هُوَ الطَّرِيق التَّاسِع الَّذِي ذكره فِي حَدِيث سهل. وَيحيى، إِمَّا ابْن جَعْفَر البيكندي البُخَارِيّ، وَإِمَّا ابم مُوسَى بن عبد ربه الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت. وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار.
وَأخرجه مُخْتَصرا من الحَدِيث الَّذِي سبق فِي الْبَاب قبله، وَمر الْكَلَام فِيهِ غير مرّة.
25 - (بابُ الشُروطِ فِي النِّكاحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشُّرُوط الَّتِي تشْتَرط فِي عقد النِّكَاح، وَهِي على أَنْوَاع: مِنْهَا: مَا يجب الْوَفَاء بِهِ كحسن الشعرة. وَمِنْهَا: مَا لَا يلْزم كسؤال طَلَاق أُخْتهَا. وَمِنْهَا: هُوَ مُخْتَلف فِيهِ مثل أَن لَا يتَزَوَّج عَلَيْهَا.
وَقَالَ عُمَرُ: مَقاطِعُ الحُقُوقِ عِنْدَ الشُّروطِ
هَذَا التَّعْلِيق قد مر فِي كتاب الشُّرُوط فِي: بَاب مَا لَا يجوز من الشُّرُوط فِي النِّكَاح، وَفِيه زِيَادَة وَهِي قَوْله: وَلَك مَا شرطت وَأخرج هَذَا التَّعْلِيق أَبُو عبيد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يزِيد بن يزِيد بن جَابر عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم قَالَ: شهِدت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قضى فِي رجل شَرط لامْرَأَته دارها، فَقَالَ: لَهَا شَرطهَا. فَقَالَ رجل: إِذا يطلقهَا؟ فَقَالَ: إِن مقاطع الْحُقُوق عِنْد الشُّرُوط، والمقاطع جمع مقطع، أَرَادَ أَن الْمَوَاضِع الَّتِي تقطع الْحُقُوق فِيهَا عِنْد وجود الشُّرُوط، وَأَرَادَ بِهِ الشُّرُوط الْوَاجِبَة فَإِنَّهَا يجب الْوَفَاء بهَا.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الرجل يتَزَوَّج الْمَرْأَة وَيشْتَرط لَهَا أَن لَا يُخرجهَا من دارها أَو لَا يتزوجا عَلَيْهَا أَو لَا يتسرى أَو نَحْو ذَلِك من الشُّرُوط الْمُبَاحَة على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يلْزمه الْوَفَاء بذلك، ذكر عبد الرَّزَّاق وَابْن عبد الْمُنْذر عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رجلا شَرط لزوجته أَن لَا يُخرجهَا، فَقَالَ عمر: لَهَا شَرطهَا. ثمَّ ذكرا عَنهُ مَا ذكره البُخَارِيّ، وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: أرى أَن يَفِي لَهَا شُرُوطهَا، وَرُوِيَ مثلهَا عَن طَاوُوس وَجَابِر بن زيد، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَحَكَاهُ ابْن التِّين عَن ابْن مَسْعُود وَالزهْرِيّ، وَاسْتَحْسنهُ بعض الْمُتَأَخِّرين. وَالثَّانِي: أَن يُؤمر الزَّوْج بتقوى الله وَالْوَفَاء بِالشُّرُوطِ وَلَا يحكم عَلَيْهِ بذلك حكما، فَإِن أَبى إلاَّ الْخُرُوج لَهَا كَانَ أَحَق النَّاس بأَهْله إِلَيْهِ ذهب عَطاء وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَبُو الزِّنَاد وَقَتَادَة، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ عَطاء: إِذا شرطت أَنَّك لَا تنْكح وَلَا تتسري وَلَا تذْهب وَلَا تخرج بهَا، بهَا بَطل الشَّرْط إِذا نَكَحَهَا. فَإِن قلت: رُوِيَ ابْن وهب عَن اللَّيْث عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن كثير بن فرقد عَن ابْن السباق: أَن رجلا تزوج امْرَأَة على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَشرط لَهَا أَن لَا يُخرجهَا من دارها. فَوضع عَنهُ عمر بن الْخطاب الشَّرْط، وَقَالَ: الْمَرْأَة مَعَ زَوجهَا. زَاد أَبُو عبيد: وَلم يلْزمهَا الشَّرْط، وَعَن عَليّ مثله، وَقَالَ: شَرط الله قبل شروطهم. قلت: قَالَ أَبُو عبيد: تضادت الرِّوَايَة عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاخْتلف فِيهِ التابعون فَمن بعدهمْ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: نَأْخُذ بالْقَوْل الأول ونرى أَن لَهَا شَرطهَا. وَقَالَ اللَّيْث بالْقَوْل الآخر وَوَافَقَهُ مَالك وسُفْيَان بن سعيد.
وَقَالَ المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَكَرَ صِهْرَا لهُ فأثْنَى علَيْهِ فِي مُصاهَرَتِهِ فأحْسَنَ، قَالَ: حدّثني فَصَدَقَنِي ووَعَدَنِي فَوَقانِي
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثنى على صهره لأجل وفائه بِمَا شَرط لَهُ.
والمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: ابْن نَوْفَل الْقرشِي الزُّهْرِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن، ولد بِمَكَّة بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ وَقدم بِهِ الْمَدِينَة فِي عقب ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان، وَقبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعمره ثَمَان سِنِين، وَسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحفظ(20/140)
عَنهُ وَبَقِي فِي الْمَدِينَة إِلَى أَن قتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ انحدر إِلَى مَكَّة فَلم يزل بهَا حَتَّى قدم الْحصين بن نمير مَكَّة لقِتَال ابْن الزبير وحاصر مَكَّة، وَفِي محاصرته أهل مَكَّة أَصَابَهُ حجر من حِجَارَة المنجنيق وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحجر، فَقتله، وَذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَصلى عَلَيْهِ ابْن الزبير بالحجون.
وَمر هَذَا التَّعْلِيق فِي المناقب فِي: بَاب ذكر أَصْهَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع، وَأخرجه هُنَاكَ مطولا عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ. وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (ذكر صهرا لَهُ) هُوَ أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع بن عبد الْعُزَّى بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصى الْقرشِي العبشمي صهر رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، زوج ابْنَته زَيْنَب أكبر بَنَاته، وَاخْتلف فِي اسْمه فَقيل: لَقِيط، وَقيل: مهشم، وَقيل: هشيم: وَالْأَكْثَر: لَقِيط، وَأمه هَالة بنت خويلد بن أَسد أُخْت خَدِيجَة لأَبِيهَا وَأمّهَا، وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ فِيمَن شهد بَدْرًا مَعَ كفار قُرَيْش وَأسر يَوْم بدر مَعَ من أسر، فَلَمَّا بعث أهل مَكَّة فِي فدَاء أساراهم قدم فِي فدائه أَخُوهُ عَمْرو بن الرّبيع بِمَال دَفعته زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقصته مَشْهُورَة، وَكَانَ مواخيا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مصافيا، وَكَانَ أَبى أَن يُطلق زَيْنَب إِذْ مَشى إِلَيْهِ مشركو قُرَيْش فِي ذَلِك فَشكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مصاهرته وَأثْنى عَلَيْهِ بذلك خيرا، وَهَاجَرت زَيْنَب مسلمة وَتركته على شركَة، ثمَّ بعد ذَلِك جرى عَلَيْهِ مَا جرى حَتَّى أسلم بعد قدومه على النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، ورد رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، ابْنَته إِلَيْهِ. وَاخْتلف: هَل ردهَا بعقدجديد أَو على عقده الأول؟ وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَي عشرَة. قَوْله: (فَأحْسن) أَي: فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ. قَوْله: (فصدقني) من صدق الحَدِيث بتَخْفِيف الدَّال، وَيُقَال أَيْضا: صدق فِي الحَدِيث، من الصدْق خلاف الْكَذِب، وصدقني بتَشْديد الدَّال الَّذِي يصدقك فِي حَدِيثك. قَوْله: (فوفاني) من وفى الشَّيْء وأوفى ووفّى بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنى،، ووفى الشَّيْء إِذا تمّ، وأصل الْوَفَاء التَّمام، ويروي: فوفى لي.
1515 - حدَّثنا أَبُو الولِيد هِشامُ بنُ عبْدِ المَلِك حَدثنَا لَ يْثٌ عنْ يَزِيدَ بنِ أبي حبِيب عنْ أبي الخَيْر عنْ عُقْبَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أحَقُّ ماأ وفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ.
(انْظُر الحَدِيث 1272) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ وَهُوَ وُقُوع الشَّرْط فِي النِّكَاح.
وَلَيْث هُوَ اللَّيْث بن سعد، وَفِي أَكثر النّسخ اللَّيْث، بِالْألف وَاللَّام، وَيزِيد بن أبي حبيب أبي رَجَاء الْمصْرِيّ، وَاسم أبي حبيب سُوَيْد، وَأَبُو الْخَيْر مرْثَد عبد الله الْيَزنِي، وَعقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الشُّرُوط فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْمهْر عِنْد عقدَة النِّكَاح، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَحَق مَا أوفيتم من الشُّرُوط) أَحَق، مُبْتَدأ مُضَاف وَخَبره قَوْله: (أَن توفوا) و: أَن مَصْدَرِيَّة أَي: بِأَن توفوا أَي: بإيفاء مَا استحللتم أَي بِالشّرطِ. قَوْله: (الْفروج) بِالنّصب مفعول: استحللتم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِن أَحَق الشُّرُوط أَن يُوفي بِهِ) ، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَحَق الشُّرُوط بِالْوَفَاءِ شُرُوط النِّكَاح، لِأَن امْرَأَة أحوط وبابه أضيق. وَفِي التَّوْضِيح: معنى أَحَق الشُّرُوط إِلَى آخِره، يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ الْمَشْهُور الَّذِي أجمع أهل الْعلم عَلَيْهِ، على أَن على الزَّوْج الْوَفَاء بهَا يحْتَمل أَن يكون مَا شَرط على الناكح فِي عقدَة النِّكَاح مِمَّا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من إِمْسَاكه بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان، فَإِذا احْتمل الحَدِيث مَعَاني كَانَ مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة أولى، وَقد أبطل الشَّارِع كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: قَوْله: أَحَق الشُّرُوط، هَل المُرَاد بِهِ أَحَق الْحُقُوق اللَّازِمَة أَو هُوَ من بَاب الأولويه؟ قَالَ صَاحب الْإِكْمَال: أَحَق هُنَا بِمَعْنى أولى لَا بِمَعْنى الْإِلْزَام عِنْد كَافَّة الْعلمَاء. قَالَ: وَحمله بَعضهم على الْوُجُوب، وَقَالَ ابْن بطال: فَإِن كَانَ فِي هَذِه الشُّرُوط مَا لَيْسَ بِطَلَاق أَو عتق وَجب ذَلِك عَلَيْهِ وَلَزِمَه عِنْد مَالك والكوفيين، عِنْد كل من يرى الطَّلَاق قبل النِّكَاح بِشَرْط الطَّلَاق لَازِما، وَكَذَلِكَ الْعتْق، وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالْجُمْهُور. قَالَ النَّخعِيّ: كل شَرط فِي النِّكَاح فَالنِّكَاح يهدمه إلاَّ الطَّلَاق وَلَا يلْزمه شَيْء من هَذِه الْأَيْمَان عِنْد الشَّافِعِي لِأَنَّهُ لَا يرى الطَّلَاق قبل النِّكَاح لَازِما وَلَا الْعتْق قبل الْملك، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَنه إِذا شَرط الْوَلِيّ لنَفسِهِ شَيْئا غير الصَدَاق أَنه يجب على الزَّوْج الْقيام بِهِ، لِأَنَّهُ من الشُّرُوط الَّتِي اسْتحلَّ بِهِ فرج الْمَنْكُوحَة.
لَكِن اخْتلف الْعلمَاء: هَل يكون ذَلِك للْوَلِيّ أَو للْمَرْأَة؟ فَذهب عَطاء وَطَاوُس وَالزهْرِيّ إِلَى أَنه للْمَرْأَة، وَبِه قضى عمر بن عبد الْعَزِيز، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي عبيد. وَذهب عَليّ بن الْحسن ومسروق(20/141)
إِلَى أَنه للْوَلِيّ. وَقَالَ عِكْرِمَة: إِن كَانَ الَّذِي هُوَ ينْكح فَهُوَ لَهُ، وَخص بَعضهم ذَلِك بِالْأَبِ، حَكَاهُ صَاحب الْمُفْهم فَقَالَ: وَقيل: هَذَا مَقْصُور على الْأَب خَاصَّة لتبسطه فِي مَال الْوَلَد، وَذهب سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير إِلَى التَّفْرِقَة بَين أَن يشْتَرط ذَلِك قبل عقدَة النِّكَاح أَو بعْدهَا، فَقَالَا: أَيّمَا امْرَأَة نكحت على صدَاق أَو عدَّة لأَهْلهَا، فَإِن كَانَ قبل عصمَة النِّكَاح فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ من حباء أَهلهَا فَهُوَ لَهُم. وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ هَذَا الِاشْتِرَاط فِي حَال العقد فَهُوَ للْمَرْأَة، وَإِن كَانَ بعده فَهُوَ لمن وهب لَهُ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، فِي الْقَدِيم، وَنَصّ عَلَيْهِ الْإِمْلَاء، وَقَالَ فِي كتاب الصَدَاق: الصَدَاق فَاسد، وَلها مهر مثلهَا. وَهَذَا الَّذِي صَححهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الظَّاهِر من الْخلاف القَوْل بِالْفَسَادِ وَوُجُوب مهر الْمثل، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الْمَذْهَب.
35 - (بابُ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي النِّكاحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشُّرُوط الَّتِي لَا يحل لَهَا اشْتِرَاطهَا فِي النِّكَاح.
وَقَالَ ابنُ مَسْعودٍ: لاَ تَشْتَرِطَ المَرْأةُ طَلاَقَ أُخْتِها
أَي: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: لَا تشْتَرط الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا، وَهَذَا مَوْقُوف عَلَيْهِ أوردهُ مُعَلّقا، وَوَقع بِهَذَا اللَّفْظ مَرْفُوعا فِي بعض طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (لَا تشْتَرط الْمَرْأَة) وَفِي حَدِيث الْبَاب: لَا يحل لامْرَأَة تسْأَل طَلَاق أُخْتهَا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث نهى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَن تسْأَل رجلا طَلَاق زَوجته ليُطَلِّقهَا ويتزوج بهَا. قَوْله: (أُخْتهَا) ، قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بأختها غَيرهَا سَوَاء كَانَت أُخْتهَا من النّسَب أَو الرَّضَاع أَو الدّين، وَيلْحق بذلك الْكَافِرَة فِي الحكم وَإِن لم تكن أُخْتا فِي الدّين إِمَّا لِأَن المُرَاد الْغَالِب أَو أَنَّهَا أُخْتهَا فِي الْجِنْس الْآدَمِيّ. وَقَالَ أَبُو عمر: الْأُخْت هُنَا الضرة، فَقَالَ: الْفِقْه فِيهِ أَنه لَا يَنْبَغِي أَن تسْأَل الْمَرْأَة زَوجهَا أَن يُطلق ضَرَّتهَا لتنفرد. قيل: هَذَا يُمكن فِي الرِّوَايَة الَّتِي وَقعت: لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا، وَأما الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا لفظ الشَّرْط فظاهرها أَنَّهَا فِي الْأَجْنَبِيَّة، وَالْمرَاد بالأخت هُنَا الْأُخْت فِي الدّين، يُوضح هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق أبي كثير عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا لتستفرغ صحفتها فَإِن الْمسلمَة أُخْت المسملة.
2515 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنْ زَكَرِيَّاءَ هُو ابنُ أبي زَائِدَةَ عنْ سَعْدٍ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تَسْألُ طَلاَقَ أُخْتِها لَتَسْتَفحرِغَ صَحْفَتَها، فإنَّما لَها مَا قُدِّرَ لَهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يحل لامْرَأَة تسْأَل طَلَاق أُخْتهَا) .
وَعبيد الله بن مُوسَى بن باذام الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَاسم أبي زَائِدَة خَالِد وَقيل: هُبَيْرَة، وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن. والْحَدِيث من أَفْرَاده من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (لَا يحل) ، ظَاهره التَّحْرِيم لكنه مَحْمُول على مَا إِذا لم يكن هُنَاكَ سَبَب يجوز ذَلِك: كريبة فِي الْمَرْأَة لَا يَنْبَغِي مَعهَا أَن تستمر فِي عصمَة الزَّوْج، وَيكون ذَلِك ذَلِك على سَبِيل النَّصِيحَة المحصنة أَو لضَرَر يحصل لَهَا من الزَّوْج، أَو للزَّوْج مِنْهَا، أَو يكون سؤالها ذَلِك بعوض وَللزَّوْج رَغْبَة فِي ذَلِك فَيكون كالخلع مَعَ الْأَجْنَبِيّ، إِلَى غير ذَلِك من الْمَقَاصِد الْمُخْتَلفَة. وَقَالَ ابْن حبيب: حمل الْعلمَاء هَذَا النَّهْي على النّدب، فَلَو فعل ذَلِك لم يَنْفَسِخ النِّكَاح، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن بطال بِأَن نفي الْحل تَحْرِيم صَرِيح، وَلَكِن لَا يلْزم مِنْهُ فسخ النِّكَاح وَإِنَّمَا فِيهِ التَّغْلِيظ على الْمَرْأَة أَن تسْأَل طَلَاق الْأُخْرَى، ولترض، بِمَا قسم الله لَهَا، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي الْمُسْتَخْرج من طَرِيق ابْن الْجُنَيْد عَن عبيد الله بن مُوسَى شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور بِلَفْظ: (لَا يصلح لامْرَأَة أَن تشْتَرط طَلَاق أُخْتهَا لتكتفىء إناءها) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ وَلَفظه: (لَا يَنْبَغِي) بدل لَا يصلح، وَقَالَ لتكفأ. وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا لتكتفىء بِمَا فِي إناءها. قَوْله: (لتكتفىء) ، من كفات الْإِنَاء إِذا أملته، وَقَالَ الْكسَائي: أكفأت الْإِنَاء كببته وكفأته وأكفأته: أملته قَوْله: (لتستفرغ صحفتها) أَي: لتقلب مَا فِي إنائها وَأَصله من أفرغت الْإِنَاء إفراغا، وفرغته، إِذا قبلت مَا فِيهِ، لَكِن هُوَ مجَاز عَمَّا كَانَ للَّتِي(20/142)
يطلقهَا من النَّفَقَة وَالْمَعْرُوف والمعاشرة، وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالصحفة مَا كَانَ يحصل من الزَّوْج قلت: هَذَا غلط فَاحش، وَقَالَ ابْن الْأَثِير، فِي هَذَا الحَدِيث: الصحفة إِنَاء كالقصعة المبسوطة وَنَحْوهَا وَجَمعهَا صحاف، وَيُقَال: الصحفة الْقَصعَة الَّتِي تشبع الْخَمْسَة، قَالَ: وَهَذَا مثل تُرِيدُ الاستئثار عَلَيْهَا بحظها، فَيكون كمن استفرغ صَحْفَة غَيره وقلب مَا فِي إنائه إِلَى إِنَاء نَفسه، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هَذِه اسْتِعَارَة مستملحة تمثيلية، شبه النَّصِيب وَالْبخْت بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بِمَا يوضع فِي الصحفة من الْأَطْعِمَة اللذيذة، وَشبه الِافْتِرَاق الْمُسَبّب عَن الطَّلَاق باستفراغ الصحفة عَن تِلْكَ الْأَطْعِمَة، ثمَّ أَدخل الْمُشبه فِي جنس الْمُشبه بِهِ، وَاسْتعْمل فِي الْمُشبه مَا كَانَ مُسْتَعْملا فِي الْمُشبه بِهِ من الْأَلْفَاظ. قَوْله: (فَإِنَّمَا لَهَا) أَي: للْمَرْأَة الَّتِي تسْأَل طَلَاق أُخْتهَا مَا قدر لَهَا فِي الْأَزَل، وَإِن سَأَلت ذَلِك وألحت فِيهِ واشترطته فَإِنَّهُ لَا يَقع من ذَلِك إلاَّما قدره الله تَعَالَى. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: أجَاز مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ أَن يتَزَوَّج الْمَرْأَة على أَن يُطلق زَوجته، فَإِن تزَوجهَا على ألف أَن يُطلق زَوجته فَعِنْدَ الْكُوفِيّين: النِّكَاح جَائِز وَلكنه إِن وفى بِمَا قَالَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ غير الْألف، وَإِن لم يوف أكمل لَهَا مثل مهرهَا. وَقَالَ ربيعَة وَمَالك وَالثَّوْري: لَهَا مَا سمي لَهَا وَفى أَو لم يوفِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهَا مهر الْمثل وفى أَو لم يوفِ فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث التَّحْرِيم فَإِذا وَقع فَهُوَ غير لَازم؟ .
قلت: النَّهْي فِيهِ للتغليظ عَلَيْهَا أَن لَا تسْأَل طَلَاق أُخْتهَا، وَلَيْسَ التَّحْرِيم فِي حَقّهَا يُوجب أَن الطَّلَاق إِذا وَقع أَن يكون غير لَازم. وَالله أعلم.
45 - (بابُ الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الصُّفْرَة للمتزوج، وَهِي أَن يتخلق بِشَيْء من الزَّعْفَرَان وَنَحْوه.
ورَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْف عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: رُوِيَ حَدِيث الصُّفْرَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الحَدِيث الَّذِي مُضر مَوْصُولا مطولا فِي أول كتاب الْبيُوع، وَفِيه: جَاءَ عبد الرَّحْمَن وَعَلِيهِ أثر صفرَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: مَا فَائِدَة هَذَا القَوْل وَقد رُوِيَ الحَدِيث مُسْندًا عَن عبد الرَّحْمَن بِمَا يدل عَلَيْهِ؟ قلت: الحَدِيث من مرويات أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا فِيهِ عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فبينهما تفاوُتٌ.
3515 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ حُمَيْدٍ الطَّويلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ، رضيَ الله عنهُ: أنَّ عبدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ جاءَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبِهِ أثَرُ صُفْرَةٍ، فَسألَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَهُ أنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأةً مِنَ الأنْصارِ، قَالَ: كَمْ سُقْتَ إلَيْها؟ قَالَ: زَنةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أوْلمْ وَلَو بِشاة..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَبِه أثر صفرَة) والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن سَلمَة. قَوْله: (وَبِه أثر صفرَة) الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَفِي لفظ: رأى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَبِه ردع زعفران، أَي: ملطخ مِنْهُ، وثوب رديع أَي مصبوغ بالزعفران، وَفِي رِوَايَة: وضر صفرَة، أَي: لطخ من طيب، وَفِي رِوَايَة: فَرَأى عَلَيْهِ بشاشة الْعَرُوس، وَرِوَايَة: ردع من زعفران، تدل على أَنه مِمَّا الْتَصق بجسمه من الثِّيَاب المزعفرة الَّتِي يلبسهَا الْعَرُوس، وَقيل: إِن من كَانَ ينْكح فِي الْإِسْلَام يلبس ثوبا مصبوغاً بصفرة عَلامَة الْعَرُوس وَالسُّرُور، أَلا ترى إِلَى قَوْله: وَعلي بشاشة الْعَرُوس، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ يلبسهَا ليعينه النَّاس على وليمته ومؤونته. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أحسن الألوان كلهَا الصُّفْرَة لقَوْله تَعَالَى: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين} (الْبَقَرَة: 96) فقرن السرُور بالصفر، فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الصُّفْرَة. أَلا ترى إِلَى قَول ابْن عَبَّاس، حِين سُئِلَ عَن صبغه بهَا، فَقَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بالصفرة؟ فَأَنا أصبغ بهَا وأحبها. وَنقل ابْن عبد الْبر عَن الزُّهْرِيّ: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يتخلقون وَلَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا، وَقَالَ ابْن سُفْيَان: هَذَا جَائِز عِنْد أَصْحَابنَا فِي الثِّيَاب دون لجسد، وَكره أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما أَن يصْبغ الرجل ثِيَابه أَو لحيته بالزعفران لحَدِيث أنس: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتزعفر الرجل. قَوْله: (تزوج امْرَأَة من الْأَنْصَار) ذكر الزبيز أَنَّهَا ابْنة أبي الْحسن واسْمه أنس بن رَافع. قَوْله: (كم سقت إِلَيْهَا؟) أَي: كم أَعْطَيْت صَدَاقهَا؟ قَوْله: (زنة نواة) ، أَي: وزن نواة، والزنة أَصله: وزن،(20/143)
حذفت الْوَاو مِنْهُ وَعوض عَنْهَا التَّاء، والنواة وزن خَمْسَة دَرَاهِم، وَكلمَة: من فِي الذَّهَب للْبَيَان. قَوْله: (أولم وَلَو بِشَاة) كلمة: أولم، أَمر من أولم يولم والوليمة اسْم للطعام الَّذِي يصنع عِنْد الْعرس. وَقَالَ ابْن سَيّده: هِيَ طَعَام الْعرس والأملاك، وَقيل: هِيَ كل طَعَام يصنع لعرس غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ مُشْتَقَّة من الولم وَهُوَ الْجمع لِأَن الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أَصْلهَا تَمام الشَّيْء واجتماعه وَالْفِعْل مِنْهَا أولم، وَقَالَ أَبُو مَنْصُور: النقيعة طَعَام الإملاك قَالَه النَّضر، قَالَ: وَرُبمَا تقعوا عَن عدَّة من الْإِبِل، أَي: نحروه، وَقَالَ: إِذا زوج الرجل فأطعم عيلته قُلْنَا: نقع لَهُم، وَعَن الْأَصْمَعِي: النقيعة مَا نحر من النهب، خَاصَّة قبل الْقسم، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: ومأخذها عِنْدِي من النَّقْع وَهُوَ النَّحْر أَو الْقَتْل.
وَفِي الْمُخَصّص: النَّقْع طَعَام المأتم، والعذير والعذيرة والأعذار مَا عمل من الطَّعَام لحَدث كالختان، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْإِعْذَار الطَّعَام الَّذِي يطعم فِي الْخِتَان، وَفِي الأَصْل: الْإِعْذَار الْخِتَان، يُقَال عذرته وأعذرت فَهُوَ مَعْذُور ومعذر، وَالْفرع طَعَام يصنع عِنْد نتاج الْإِبِل، وَالسّفر طَعَام الْمُسَافِر، والسمعة مَا سمع بِهِ من طَعَام وَغَيره، والعلقة والعلاق الطَّعَام يتبلغ بِهِ إِلَى وَقت الْغذَاء، والعجالة مَا استعجل بِهِ من طَعَام، وَقيل: هُوَ مَا يتزوده الرَّاكِب مِمَّا لَا يتعبه أكله نَحْو التَّمْر والسويق، والركاث مَا يستعجل بِهِ الْغذَاء، والكرزمة أكل نصف النَّهَار، والعوافة مَا يَأْكُل الْأسد بِاللَّيْلِ، والقفي مَا يكرم بِهِ الرجل من الطَّعَام، والعنادة مَا يرفع من المرق للْإنْسَان، والعوادة مَا أُعِيد على الرجل من الطَّعَام بَعْدَمَا يفرغ الْقَوْم يخْتَص بِهِ، والعقيقة يَوْم سَابِع الْمَوْلُود، والمأدبة كل طَعَام صنع لدَعْوَة، والوضيمة قَالَ ابْن سَيّده: طَعَام المأتم، والحذاق طَعَام حذق الصَّبِي لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم، يَعْنِي: يَوْم خَتمه، والخبيرة الدعْوَة على عقيقة الْغُلَام. قَالَه العسكري، والخديقة على وزن الهريسة طَعَام الْعَرَب، والسندخية طَعَام الْأَمْلَاك، قَالَه ابْن دُرَيْد، والقرى طَعَام الضَّيْف، والتحفة طَعَام الزائر وَطَعَام المتعلل قبل الْغَدَاء، والسلفة واللهنة طَعَام المستعجل قبل إِدْرَاك الْغَدَاء، والخرسة الطَّعَام الَّذِي تَأْكُله الْمَرْأَة النُّفَسَاء وَحدهَا.
قَوْله: (أولم) احْتج بِهِ الظَّاهِرِيَّة وَقَالُوا فرض على كل من تزوج أَن يولم بِمَا قل أَو كثر، وَبِه قَالَ أَبُو سُلَيْمَان، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي ومشهور مَذْهَب مَالك، وَقَالَ ابْن التِّين وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَفِيه نظر لِأَن ابْن قدامَة قَالَ فِي الْمُغنِي: وَيسْتَحب لمن تزوج أَن يولم وَلَو بِشَاة لَا خلاف بَين أهل الْعلم فِي أَن الْوَلِيمَة فِي الْعرس سنة مَشْرُوعَة، وَلَيْسَت بواجبة فِي قَول أَكثر أهل الْعلم، وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: هِيَ وَاجِبَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بهَا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ ابْن قدامَة: هُوَ طَعَام سرُور حَادث فَأشبه سَائِر الْأَطْعِمَة، وَالْخَبَر على الِاسْتِحْبَاب لقَوْله: (وَلَو بِشَاة) وَلَا خلاف فِي أَنَّهَا لَا تجب، وَقَالَ عِيَاض. لَا خلاف أَنه لَا حد لقَلِيل الْوَلِيمَة وَلَا لكثيرها، وَقَالَ الْمُهلب: فعل سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الولائم الْمُخْتَلفَة إِنَّمَا تجب على قدر الْيَسَار فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَيْسَ فِي قَوْله لعبد الرَّحْمَن: أولم وَلَو بِشَاة منعا لما دون ذَلِك، وَإِنَّمَا جعل الشَّاة غَايَة فِي التقليل ليساره وغناه، وَقيل: يحْتَمل أَنه قَالَ لَهُ ذَلِك لعسر الصَّحَابَة حِين هجرتهم، فَلَمَّا توسعوا بِفَتْح خَيْبَر وَشبه ذَلِك أولم سيدنَا الحيس وَشبهه، وَقد اخْتلف السّلف فِي وَقتهَا: هَل هُوَ عِنْد العقد أَو عقيبة؟ أَو عِنْد الدُّخُول أَو عَقِيبه؟ أَو موسع من ابْتِدَاء العقد إِلَى انْتِهَاء الدُّخُول؟ على أَقْوَال. قَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا، فَقَالَ عِيَاض: إِن الْأَصَح عِنْد الْمَالِكِيَّة اسْتِحْبَابه بعد الدُّخُول، وَعَن جمَاعَة مِنْهُم: أَنَّهَا عِنْد العقد، وَعند ابْن حبيب: عِنْد العقد وَبعد الدُّخُول، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يجوز قبل الدُّخُول وَبعده، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: عِنْد الدُّخُول، وَحَدِيث أنس: فَأصْبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عروسا بِزَيْنَب فدعي الْقَوْم، صَرِيح أَنَّهَا بعد الدُّخُول، وَاسْتحبَّ بعض الْمَالِكِيَّة أَن تكون عِنْد الْبناء وَيَقَع الدُّخُول عقيبها، وَعَلِيهِ عمل النَّاس.
55 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ كالفصل لما قبله وَلَيْسَ بمعرب، إلاَّ بعد التَّرْكِيب، وَلم يذكر لفظ: بَاب، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَكَذَا فِي شرح ابْن بطال.
4515 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ قَالَ: أوْلَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِزَيْنَبَ فأوْسَعَ المُسْلمِينَ خُبْزا، فَخَرَجَ كَما يَصْنَعُ إذَا تَزَوَّجَ، فأتَى حُجَرَ أُمَّهاتِ المُؤْمِنينَ يَدْعُو ويَدْعُونَ لهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَرَأى رَجُلَيْنِ فَرَجَعَ، لَا أدْرِي أخْبَرْتُهُ أَو أخبر بِخُرُوجِهِما.
.(20/144)
قيل لَا وَجه لذكر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الصُّفْرَة للمتزوج. وَأجِيب بِثُبُوت لفظ: بَاب، فِي أَكثر الرِّوَايَات، ورد بِأَن لفظ: بَاب، كَمَا ذكرنَا كالفصل لما قبله، وَهُوَ دَاخل فِيهِ.
وَقَالَ بَعضهم: مناسبته للتَّرْجَمَة من جِهَة أَنه لم يَقع فِي قصَّة تَزْوِيج زَيْنَب بنت جحش ذكر للصفرة، فَكَأَنَّهُ يَقُول: الصُّفْرَة للمتزوج من الْجَائِز لَا من الشُّرُوط لكل متزوج. انْتهى قلت: هَذَا كَلَام واهٍ جدا لِأَن التَّرْجَمَة فِي الصُّفْرَة للمتزوج، والْحَدِيث لَيْسَ فِيهِ ذكر الصُّفْرَة مُطلقًا، فَكيف تقع الْمُطَابقَة؟ وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن الْمُطَابقَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالوليمة فِي الحَدِيث السَّابِق، وَفِي هَذَا الحَدِيث: أولم هُوَ وَبَين أمره بِشَيْء وَفعله إِيَّاه اتِّحَاد فَلَا مُطَابقَة أتم من هَذَا، وَقد ذكرنَا أَن ذكر: بَاب، مُجَرّد كالفصل، وَأَنه دَاخل فِيهِ على أَن لفظ: بَاب، سَاقِط فِي عَامَّة الرِّوَايَات.
وَيحيى هُوَ الْقطَّان. والْحَدِيث قد مضى بأتم مِنْهُ فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (خبْزًا) بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالزَّاي، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة فِي سُورَة الْأَحْزَاب: فاشبع النَّاس خبْزًا وَلَحْمًا. قَوْله: (كَمَا يصنع) أَي: خرج كَمَا هُوَ عَادَته إِذا تزوج بجديدة يَأْتِي الحجرات وَيَدْعُو لَهُنَّ. قَوْله: (وَيدعونَ) أَي: أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَهَذِه اللَّفْظَة مُشْتَركَة بَين جمع الْمُذكر وَجمع الْمُؤَنَّث، وَالْفرق يحصل بالتقدير، فوزن الْجمع الْمُذكر: يفعون، وَوزن الْجمع الْمُؤَنَّث: يفعلن. قَوْله: (لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسلم عَلَيْهِنَّ وَاحِدَة وَاحِدَة وَهن يرددن عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَام، وَيدعونَ بِالْبركَةِ وَالْخَيْر. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف) أَي: من حجرات أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (فَرَأى رجلَيْنِ) يَعْنِي: من النَّاس الَّذين حَضَرُوا الْوَلِيمَة. وَكَانُوا قد خَرجُوا من بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَن فرغوا من الْأكل، وَكَانَ هَذَانِ الرّجلَانِ تأخرا فِي الْبَيْت يتحدثان، وَذَلِكَ قبل نزُول الْحجاب، وَلما رَجَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بيُوت أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ رآهما فِي الْبَيْت فَرجع، وَقَالَ أنس: لما رَأيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وثبا مُسْرِعين، فَمَا أَدْرِي أَنا أخْبرته بخروجهما من الْبَيْت، أَو أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخروجهما فَرجع حتّى دخل الْبَيْت وأرخى الستربيني وَبَينه؟ فأنزلت آيَة الْحجاب. وَرِوَايَات أنس الَّتِي تقدّمت فِي سُورَة الْأَحْزَاب تفسر هَذَا الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَنهُ هَهُنَا، وَذَلِكَ أَن الْأَحَادِيث الَّتِي تروي فِي قَضِيَّة وَاحِدَة يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
65 - (بابٌ كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزوِّجِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة الدُّعَاء للَّذي يتَزَوَّج؟ قَالَ ابْن بطال: أَرَادَ بِهَذَا الْبَاب رد قَول الْعَامَّة عِنْد الْعرس بقَوْلهمْ: بالرفاء والبنين فَإِن قلت: رُوِيَ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من حَدِيث معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهد أَمْلَاك رجل من الْأَنْصَار فَخَطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنكح الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ: على الألفة وَالْخَيْر وَالْبركَة والطائر الميمون وَالسعَة فِي الرزق وَأخرجه أَبُو عمر النوقاني فِي كتاب (معاشرة الأهلين) من حَدِيث أنس، وَزَاد فِيهِ: والرفاء والبنين؟ قلت: الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير ضَعِيف، وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَوْسَط بِسَنَد أَضْعَف مِنْهُ، وَفِي حَدِيث النوقاني أبان الْعَبْدي وَهُوَ ضَعِيف، وَأخرج التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة أَنا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا رفأ الْإِنْسَان إِذا تزوج، قَالَ: (بَارك الله لَك وَبَارك عَلَيْك وَجمع بَيْنكُمَا فِي خير) . وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَالنَّسَائِيّ فِي الْكَبِير وَالْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عبد الرَّحْمَن بن عبيد، وَابْن مَاجَه عَن سُوَيْد بن سعيد. قَوْله: (إِذا رفأ) ، قَالَ شَيخنَا: هُوَ بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْفَاء مَهْمُوز، وَهُوَ الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة مَأْخُوذ من الالتئام والاجتماع، وَمِنْه رفو الثَّوْب، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الرفاء بِالْمدِّ الالتئام والاتفاق، يُقَال للمتزوج: بالرفاء والبنين، وَرَوَاهُ بَعضهم: رفى، مَقْصُورا بِغَيْر همزَة، وَرَوَاهُ بَعضهم: رفح، بِالْحَاء الْمُهْملَة مَوضِع الْهمزَة، وَمعنى الأول أَعنِي الْمَقْصُور القَوْل بالرفاء والاتفاق، وَمعنى الثَّانِي على أَنه رفاء بِالْهَمْزَةِ وَلكنه أبدل الْهمزَة حاء، وَأخرج النَّسَائِيّ من رِوَايَة أَشْعَث عَن الْحسن عَن عقيل بن أبي طَالب أَنه تزوج امكرأة من بني حبشم فَقَالُوا: بالرفاء والبنين، فَقَالَ: لَا تَقولُوا هَكَذَا، وَلَكِن قُولُوا، كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ بَارك لَهُم وَبَارك عَلَيْهِم، وَهُوَ مُرْسل.
5515 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا حَمَّادٌ هُوَ ابنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عنهُ، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى علَى عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْف أثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: مَا هاذا؟ قَالَ: إنِّي تَزَوَّجْتُ(20/145)
امْرَأةً علَى وزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: باركَ الله لَكَ، أوْلِمْ ولوْ بِشاةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بَارك الله لَك) يُوضح معنى قَوْله: كَيفَ يدعى للمتزوج. وَحَدِيث أنس هَذَا مُخْتَصر من حَدِيث حميد عَن أنس الَّذِي مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الْمُجَرّد، وَفِيه زِيَادَة على ذَلِك، وَهُوَ قَوْله: (بَارك الله لَك) وَهَذِه اللَّفْظَة ترد القَوْل: بالرفاء والبنين، لِأَنَّهُ من أَقْوَال الْجَاهِلِيَّة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره ذَلِك لموافقتهم فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَة فِي النَّهْي، وَقيل: لِأَنَّهُ لَا حمد فِيهِ وَلَا ثَنَاء، وَلَا ذكر لله عز وَجل، وَقيل: لما فِيهِ من الْإِشَارَة إِلَى بغض الْبَنَات لتخصيص الْبَنِينَ بِالذكر. قلت: فعلى هَذَا إِذا قيل: بالرفاء وَالْأَوْلَاد لَا يَنْبَغِي أَن لَا يكره. فَإِن قلت: رُوِيَ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عمر بن قيس الماصر قَالَ: شهِدت شريحا وَأَتَاهُ رجل من أهل الشَّام، فَقَالَ: إِنِّي تزوجت امْرَأَة، فَقَالَ: بالرفاء والبنين: قلت: هَذَا مَحْمُول على أَن شريحا لم يبلغهُ النَّهْي عَن ذَلِك.
75 - (بابُ الدُّعاءِ لِلنِّساءِ الَّلاتِي يَهْدِينَ العَرُوسَ ولِلْعَرُوسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء للنِّسَاء إِلَى آخِره. قَوْله: للنِّسَاء، رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: للنسوة. قَوْله: (يهدين) بِفَتْح الْيَاء من هديت الطَّرِيق، ويروي بِضَم الْيَاء من الإهداء، (والعروس) على وزن فعول قَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال للرجل عروس كَمَا يُقَال للْمَرْأَة. وَهُوَ اسْم لَهما عِنْد دُخُول أَحدهمَا بِالْآخرِ. قَوْله: (وللعروس) أَي وَالدُّعَاء أَيْضا للعروس، هَذَا ظَاهر الْمَعْنى، وَسَيَجِيءُ أَيْضا مَا قيل فِيهِ.
6515 - حدَّثنا فَرْوَةَ حَدثنَا عَليٌّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رضيَ الله عَنْهَا: تَزَوَّجَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأتَتْنِي أُمِّي فأدْخَلَتْنِي الدَّارَ فإِذَا نِسْوَةٌ منَ الأنْصارِ فِي البَيْتِ فَقُلْنَ: علَى الخَيْرِ والبَرَكةِ، وعلَى خَيْرٍ طائرٍ..
قيل: ظَاهر الحَدِيث مُخَالف للتَّرْجَمَة لِأَن النسْوَة فِي الحَدِيث هن الداعيات، وَفِي التَّرْجَمَة: هن الْمَدْعُو لَهُنَّ، وَأجَاب صَاحب التَّوْضِيح بقوله: لَعَلَّه أَرَادَ صفة دعائهن للعروس، لِأَنَّهُ قَالَ: (فَقُلْنَ على الْخَيْر) إِلَى آخِره. قلت: نقل هَذَا عَن ابْن التِّين وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن ظَاهر اللَّفْظ يُخَالِفهُ وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأُم هِيَ الهادية للعروس المجهزة لأمرها فهن دعون لَهَا وَلمن مَعهَا، وللعروس حَيْثُ (قُلْنَ: على الْخَيْر) ، أَي: جئتن عَلَيْهِ أَو قدمتن، وَنَحْو هَذَا. فَإِن قلت: لِمَ لَا تكون اللَّام للنسوة للاختصاص. يَعْنِي: الدُّعَاء الْمُخْتَص بالنسوة والهاديات للْغَيْر؟ قلت: يلْزم الْمُخَالفَة بَين اللامين اللَّام الَّتِي فِي الْعَرُوس لِأَنَّهَا بِمَعْنى الْمَدْعُو لَهَا، وَالَّتِي فِي النسْوَة لِأَنَّهَا بِمَعْنى الداعية، وَفِي جَوَاز مثله خلاف. انْتهى كَلَامه. وَنقل بَعضهم كَلَام الْكرْمَانِي هَذَا برمتِهِ مَعَ تَغْيِير عِبَارَته، ثمَّ قَالَ: وَالْجَوَاب الأول أحسن مَا يُوَجه بِهِ التَّرْجَمَة، ثمَّ قَالَ: وَحَاصِله أَن مُرَاد البُخَارِيّ بالنسوة من يهدي الْعَرُوس سَوَاء كن قَلِيلا أَو كثيرا وَأَن من حضر ذَلِك يَدْعُو لمن أحضر الْعَرُوس، وَلم يرد الدُّعَاء للنسوة الحاضرات فِي الْبَيْت قبل أَن يَأْتِي الْعَرُوس، وَيحْتَمل أَن تكون اللَّام بِمَعْنى الْبَاء على حذف، أَي: الْمُخْتَص بالنسوة وَيحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى: من، أَي: الدُّعَاء الصَّادِر من النسْوَة. انْتهى كَلَامه. قلت: هَذَا كُله تعسفات فِي تصرفهم، وَأكْثر كَلَامهم خَارج عَن القانون، فالترجمة مَوْضُوعَة على الصِّحَّة وَبَينهَا وَبَين الحَدِيث مُطَابقَة لِأَن الْألف وَاللَّام فِي قَوْله: بَاب الدُّعَاء، بدل من الْمُضَاف إِلَيْهِ فتقديره: بَاب دُعَاء النسْوَة الداعيات للنسوة اللَّاتِي يهدين الْعَرُوس، فَالْمُرَاد بالنسوة الداعيات هِيَ النسْوَة من الْأَنْصَار اللَّاتِي كن فِي بَيت النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قبل مَجِيء الْعَرُوس، وَالْمرَاد بالنسوة الهاديات هِيَ أم عَائِشَة وَمن مَعهَا من النِّسَاء، لِأَن الْعَادة أَن أم الْعَرُوس إِذا أَتَت بالعروس إِلَى بَيت زَوجهَا يكون مَعهَا نسَاء قليلات كن أَو كثيرات، فَأم عَائِشَة وَمن مَعهَا والعروس هن مدعُو لَهُنَّ، والنسوة من الْأَنْصَار اللَّاتِي كن فِي الْبَيْت هن الداعيات، لقَوْله فِيهِ: (فَقُلْنَ: على الْخَيْر) إِلَى آخِره. وَقَول بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون اللَّام بِمَعْنى الْبَاء أَو بِمَعْنى من غير صَحِيح، لأَنهم ذكرُوا أَن اللَّام الجارة تَأتي لاثْنَيْنِ وَعشْرين معنى. وَلَيْسَ فِيهَا مجيئها بِمَعْنى الْبَاء وَلَا بِمَعْنى من، نعم ذكرُوا أَنَّهَا تَجِيء بِمَعْنى: عَن ونسبوه لِابْنِ الْحَاجِب، ورد عَلَيْهِ ابْن مَالك وَغَيره.
ثمَّ الْكَلَام فِي الحَدِيث، فَنَقُول: فَرْوَة، بِفَتْح(20/146)
الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو: ابْن أبي المغراء، بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالراء وبالمد: أَبُو الْقَاسِم الْكِنْدِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَعلي بن مسْهر بِضَم الْمِيم على وزن اسْم الْفَاعِل من الإسهار أَبُو الْحسن الْقرشِي الْكُوفِي، تولى قَضَاء نواحي الْموصل، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَهَذَا مُخْتَصر من حَدِيث مطول مضى بِتَمَامِهِ بِهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه فِي: بَاب تَزْوِيج عَائِشَة، قيل أَبْوَاب الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة.
قَوْله: (فأتتني أُمِّي) وَهِي أم رُومَان بنت عَامر بن عُوَيْمِر بن عبد شمس. قَوْله: (فَإِذا نسْوَة) قد ذكرنَا أَن كلمة: إِذا، للمفاجأة، ونسوة، بِكَسْر النُّون وَبِفَتْحِهَا أَيْضا جمع نسَاء تَقْدِيره: نسْوَة كائنة من نسَاء الْأَنْصَار. قَوْله: (فَقُلْنَ: على الْخَيْر) قد مر تَفْسِيره عَن قريب قَوْله: (وعَلى خير طَائِر) كِنَايَة عَن الفأل، وطائر الْإِنْسَان عمله الَّذِي قلدوه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: طَائِر الْإِنْسَان مَا حصل لَهُ فِي علم الله عز وَجل مِمَّا قدر لَهُ، وَقيل: الطَّائِر الْحَظ.
85 - (بابُ منْ أحَبَّ البِناءَ قَبْلَ الغَزْوِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحب الْبناء أَي: الدُّخُول على امْرَأَته وَلم يدْخل بهَا، يُقَال: فلَان بني عَليّ أَهله أَي: زفها، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الدَّاخِل بأَهْله يضْرب عَلَيْهَا قبَّة لَيْلَة الدُّخُول، فَقيل لكل دَاخل بأَهْله: بَان. قَوْله: (قبل الْغَزْو) يَعْنِي: إِذا حضر الْجِهَاد وَكَانَ قد تزوج امْرَأَة وَلم يدْخل عَلَيْهَا وَأحب أَن يدْخل عَلَيْهَا قبل الْغَزْو ليَكُون فكره مجتمعا.
7515 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العلاءِ حَدثنَا عبْدُ الله بنُ المُبارَكِ عنْ مَعْمَرِ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، عنِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: غَزَا نَبي منَ الأنْبِياءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأةٍ وهْوَ يُرِيدُ أنْ يَبْنِيَ بِها ولَمْ يَبْنِ بِها.
(انْظُر الحَدِيث 4213) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن كَلَام هَذَا النَّبِي يشْعر بِأَن الْبناء يَنْبَغِي أَن يكون قبل حُضُوره الْغَزْو وَلما ذكرنَا من الْمَعْنى، وَلَيْسَ ذَلِك يَقْتَضِي الْوُجُوب.
وَابْن الْمُبَارك هُوَ عبد الله بن الْمُبَارك المروز، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد، وهما على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ هُوَ ابْن مُنَبّه.
والْحَدِيث قد مر فِي الْجِهَاد فِي: بَاب من اخْتَار الْغَزْو على الْبناء، فِيهِ أَبُو هُرَيْرَة وَذكر أَيْضا: بَاب من غزا وَهُوَ حَدِيث عهد بعرسه، فِيهِ جَابر مَعَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر فِي الْخمس فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أحلّت لكم الْغَنَائِم. وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء إِلَى آخِره مطولا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَالَ الْكرْمَانِي: ذكر فِي بعض النّسخ تَمام الحَدِيث؟ قلت: الَّذِي فِي النّسخ الْمُعْتَبرَة هَذَا الْمِقْدَار الَّذِي ذكره مُخْتَصرا. قَوْله: (غزا نَبِي) قيل: هُوَ يُوشَع، وَقيل: دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام.
95 - (بابُ مَنْ بني بامْرَأةٍ وهْيَ بِنْتُ تِسْعٍ سِنينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من بني إِلَى آخر. قيل: لَا فَائِدَة فِي هَذِه التَّرْجَمَة. قلت: بلَى فِيهَا فَائِدَة وَهِي بَيَان أَن من تزوج صَغِيرَة يَنْبَغِي أَن لَا يَبْنِي إلاَّ وَقد تمّ عمرها تسع سِنِين، لِأَن النَّبِي الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، بني بعائشة وعمرها تسع سِنِين، وَهُوَ الْأَصَح وَإِن كَانَ عِنْد الْفُقَهَاء الِاعْتِبَار للطاقة، فَإِن لم تطلق لَا يبْنى بهَا وَلَو كَانَ عمر تسع سِنِين، وَإِن أطاقت بِأَن كَانَت عبلة وعمرها ثَمَان سِنِين يَبْنِي بهَا.
8515 - حدَّثنا قَبِيصةُ بنُ عُقْبَةَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ عُرْوَةَ: تَزَوَّجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائِشَةَ وهْيَ ابْنَةُ ستٍّ، وبَنى بِها وَهِي ابْنَةُ تِسْعٍ، ومَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَعُرْوَة تَابِعِيّ. والْحَدِيث مُرْسل، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب إنكاح الرجل وَلَده الصغار، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان إِلَى آخِره.
06 - (بابُ البِناءِ فِي السفَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دُخُول الرجل على امْرَأَته فِي حَالَة السّفر، وَفِي بعض النّسخ: بَاب بِنَاء الْعَرُوس فِي السّفر.
9515 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخْبرَنا إسْماعِيلُ بنُ جعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ قَالَ: أَقَامَ النبيّ(20/147)
ُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ خَيْبَرَ والمَدِينَةِ ثلاَثا يُبْنَى علَيْهِ بِصَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ، فدَعَوْتُ المُسْلِمينَ إِلَى وليمَتِهِ فَما كانَ فِيها منْ خُزِ وَلَا لَحْمٍ، أمرَ بالأنطاعِ فأُلْقِيَ فِيها منَ التَّمْرِ والأقِطِ والسمْنِ، فكانَتْ ولَيمَتَهُ. فَقَالَ المُسْلَمُونَ: إحْدَى أُمَّهاتِ المُؤْمِنينَ أوْ مِمَّا ملَكَتْ يَمِينُهُ؟ فقالُوا: إنْ حجبَها فهْي مِنْ أمهاتِ المُؤْمِنينَ، وإنْ لَمْ يحْجُبْها فهْيَ مِمَّا ملَكَتْ يَمِينُهُ، فَلمّا ارْتخَلَ خَلْفَهُ ومَدَّ الحِجابِ بيْنَها وبَيْنَ النّاس..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ بِنَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صَفِيَّة، وَهُوَ فِي السّفر بَين خَيْبَر وَالْمَدينَة.
وَقد مر الحَدِيث فِي غَزْوَة خَيْبَر من وُجُوه، وَفِي النِّكَاح أَيْضا فِي: بَاب اتِّخَاذ السراري، فَإِنَّهُ أخرجه فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر إِلَى آخِره نَحوه، وَمر الْكَلَام فِيهِ، وراجع إِلَيْهِ والمسافة قريبَة.
16 - (بابُ البِناءِ بالنَّهارِ بغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلَا نِيرانٍ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول الرجل على امْرَأَته بِالنَّهَارِ، وَلَا يخْتَص بِاللَّيْلِ. قَوْله: (بِغَيْر مركب) أَي: بِغَيْر ركُوب نَاس للإعلان، ويروي: بِغَيْرِهِ موكب بِالْوَاو وَبدل الرَّاء وَهُوَ الْقَوْم الرّكُوب على الْإِبِل المزينة. قَوْله: (وَلَا نيران) أَي: وَلَا نيران توقد بَين يَدي الْعَرُوس، وَحَاصِله أَن زِيَادَة الإعلان بركوب الْقَوْم بَين يَدي الْعَرُوس أَو بإيقاد النيرَان مَكْرُوه، وَقد رُوِيَ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عُرْوَة بن رُوَيْم أَن عبد الله بن قرظ الثمالِي، وَكَانَ عَامل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على حمص، فمرت بِهِ عروس وهم يوقدون النيرَان بَين يَديهَا، فضربهم بدرته حَتَّى تفَرقُوا عَن عروسهم، ثمَّ خطب فَقَالَ: إِن عروسكم أوقدوا النيرَان وتشبهوا بالكفرة، وَالله مطفىء نارهم.
0615 - حدَّثنا فَرْوَةُ بنُ أبي المَغْرَاءُ حدَّثنا عليٌّ بنُ مُسْهرٍ عنْ هِشَامٍ عنْ أبيهِ عنَ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: تزوَّجَني النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأتتني أُمِّي فأدْخَلَتْنِي الدَّار، فلَمْ يَرُعْني إلاّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضُحىً..
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا السندبعينه قد مضى قبله بِثَلَاثَة أَبْوَاب، غير أَن ذَاك مُرْسل وَهَذَا مُسْند وَأَن فِي ذَاك الزِّيَادَة وَهِي قَوْله: (فإذانسوة من الإنصار) إِلَخ، وَهنا الزِّيَادَة هِيَ قَوْله: (فَلم يرعني إلاَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى) ، فلأجل هَذِه اللَّفْظَة عقد التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، غير أَنه ذكر فِيهَا: بِغَيْر مركب وَلَا نيران، وَلم يذكر لأَجلهَا شَيْئا.
قَوْله: (فَلم يرعني) أَي: فَلم يفجأني وَلم يخوفني. قَوْله: (ضحى) بِالضَّمِّ وَالْقصر فَوق الضحوة، وَهُوَ ارْتِفَاع أول النَّهَار، وَمعنى: ضحى، أَي: وَقت الضُّحَى أَرَادَت أَن دُخُوله عَلَيْهَا كَانَ وَقت الضُّحَى، فَلذَلِك عقد التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا.
26 - (بابُ الأنْماطِ ونحْوِها لِلنِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اتِّخَاذ الأنماط وَنَحْوهَا للنِّسَاء، وَفِي تَرْجَمَة مُسلم: بَاب جَوَاز اتِّخَاذ الأنماط، وَالْأَنْمَاط بِفَتْح الْهمزَة جمع نمط بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ ظهارة الْفراش، وَقيل ظهر الْفراش وَقيل: ضرب من الْبسط لَهُ خمل رَقِيق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يَجْعَل على الهودج، وَقد يَجْعَل سترا. قلت: النمط يَأْتِي بِمَعْنى الطَّرِيق من الطرائق وَالضَّرْب من الضروب، يُقَال: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك النمط أَي: من ذَلِك الضَّرْب، وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: خير هَذِه الْأمة النمط الْأَوْسَط، ويروي: الْوسط، كره على الغلو وَالتَّقْصِير فِي الدّين، والنمط الْجَمَاعَة من النَّاس أَمرهم وَاحِد. قَوْله: (وَنَحْوهَا) ، مثل الكلل والأستار والفرش.
1615 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِر عنْ جَابرِ بنه عبْدِ الله، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلِ اتّخَذْتُمْ أنْماطا؟ قُلْتُ: يَا رسولَ الله! وأتَّى لَنا أنْماطٌ؟ قَالَ: إنَّها سَتَكُونُ.
(انْظُر الحَدِيث 1363) .(20/148)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن عمر وَابْن عَبَّاس عَن ابْن مهْدي عَن جَابر، إِلَخ وَلَفظه: (هَل لكم من أنماط؟) وسُفْيَان فِيهِ هُوَ الثَّوْريّ.
قَوْله: (وأنى لنا) بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد النُّون أَي: وَمن أَيْن لنا الأنماط، قَوْله: سَتَكُون، أَي الأنماط، وَهِي تَامَّة بِمَعْنى ستوجد. وَفِيه إخْبَاره بهَا وَهِي معْجزَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا كَانَت كَمَا أخبر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: جَوَاز اتِّخَاذ الأنماط إِذا لم تكن من حَرِير. قلت: أما جَوَاز اتخاذها فَيُؤْخَذ من قَوْله: (إِنَّهَا سَتَكُون) وَفِي حَدِيث مُسلم بعد قَوْله: (إِنَّهَا سَتَكُون) ، قَالَ جَابر: وَعند امْرَأَتي نمط فَأَنا أَقُول: نحيه، وَتقول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّهَا سَتَكُون) . وَفِي حَدِيث عَائِشَة ذكره مُسلم فِي: بَاب الصُّور، قَالَت: فَأخذت نمطا فنشرته على الْبَاب. وَأما عدم اسْتِعْمَالهَا من الْحَرِير فبأحاديث أخر. وَفِي التَّوْضِيح، وَفِيه: اتِّخَاذ شورة الْبيُوت للنِّسَاء. وَفِيه: دَلِيل أَن الشورة للْمَرْأَة دون الزَّوْج، وَأَنَّهَا عَلَيْهَا فِي الْمَعْرُوف من أَمر النَّاس الْقَدِيم، وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَابِر لِأَن أَبَاهُ ترك تسع بَنَات، فَقَامَ عَلَيْهِنَّ جَابر وشورهن وزوجهن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
36 - (بابُ النِّسْوَةِ الّلاتِي يُهْدِينَ المَرْأةَ إِلَى زَوْجِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر النسْوَة اللَّاتِي يهدين بِضَم الْيَاء من الإهداء. قَوْله: (اللَّاتِي) هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني بصغة الْجمع، وَفِي رِوَايَة غَيره بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَالْأولَى أولى، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بعد قَوْله: (إِلَى زَوجهَا) : ودعائهن بِالْبركَةِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَلَا مَحل لذكره. وَقَالَ بَعضهم: لَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق حَدِيث عَائِشَة، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ فِي كتاب النِّكَاح من طَرِيق بهية عَن عَائِشَة: أَنَّهَا زوجت يتيمة كَانَت فِي حجرها رجلا من الْأَنْصَار، قَالَت: وَكنت فِيمَن أهداها إِلَى زَوجهَا، فَلَمَّا رَجعْنَا قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَة؟ قَالَت: قلت: سلمنَا ودعونا الله بِالْبركَةِ ثمَّ انصرفنا) . قلت: هَذَا بعيد جدا لأَنا لَا نسلم أَنه وقف على هَذَا الحَدِيث، وَلَئِن سلمنَا فَكيف يضع تَرْجَمَة بِعقد بَاب وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيث مُطَابق لَهَا.
2615 - حدَّثنا الفَضلُ بنُ يعْقُوبَ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ سابِقٍ حَدثنَا إسْرَائِيلُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ: أنّها زَفَّتِ امْرَأةً إِلَى رجُلٍ مِنَ الأنصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عائِشَةُ! مَا كانَ معكُمْ لَهْوٌ؟ فإِنَّ الأنصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللهْوُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (زفت امْرَأَة) لِأَنَّهُ من زففت الْعَرُوس أزفها إِذا أَهْدَيْتهَا إِلَى زَوجهَا.
وَالْفضل بن يَعْقُوب الْبَغْدَادِيّ مَاتَ فِي أول جُمَادَى الأولي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. قَالَه الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ. وَمُحَمّد بن سَابق أَبُو جَعْفَر التَّمِيمِي الْبَغْدَادِيّ الْبَزَّار أَصله فَارسي كَانَ بِالْكُوفَةِ أحد مشاريخ البُخَارِيّ رُوِيَ عَنهُ هُنَا بالواسطة وَرُوِيَ عَنهُ بِلَا وَاسِطَة فِي كتاب الْوَصَايَا فَقَط، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَابق أَو الْفضل بن يَعْقُوب عَنهُ، وَرُوِيَ مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن سَابق، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (زفت امْرَأَة) معنى: زفت مر الْآن وَقد تقدم فِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ أَن الْمَرْأَة كَانَت يتيمة فِي حجر عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكر ابْن الْأَثِير أَن اسْم هَذِه الْيَتِيمَة: فارغة بنت أسعد بن زُرَارَة، وَأَن اسْم زَوجهَا نبيط بن جَابر الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: الفارغة بنت أبي أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة الْأنْصَارِيّ، كَانَ أَبُو لبَابَة أوصى بهَا وبأختيها حَبِيبَة وكبشة بَنَات أبي أُمَامَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلمنبيط بن جَابر من بني مَالك بن النجار، وحبيبة تزَوجهَا سهل بن حنيف فَولدت لَهُ أَبَا أُمَامَة، وَرُوِيَ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أنكحت عَائِشَة قرَابَة لَهَا، وَرُوِيَ أَبُو الشَّيْخ من حَدِيث جَابر: أَن عَائِشَة زوجت بنت أُخْتهَا، أَو ذَات قرَابَة مِنْهَا، وَفِي أمالي الْمحَامِلِي من وَجه آخر عَن جَابر: نكح بعض أهل الْأَنْصَار بعض أهل عَائِشَة فأهدتها إِلَى قبَاء، وَالْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات بِالْحملِ على التَّعَدُّد. قَوْله: (مَا كَانَ مَعكُمْ لَهو؟) وَفِي رِوَايَة شريك: فَقَالَ: فَهَل بعثتم جَارِيَة تضرب بالدف وتغني؟ الحَدِيث. قَوْله: (فَإِن الْأَنْصَار يعجبهم اللَّهْو) ، فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَجَابِر: قوم فيهم غزل، وَفِي حَدِيث جَابر عِنْد الْمحَامِلِي: أدركيها يَا زَيْنَب، امْرَأَة كَانَت تغني بِالْمَدِينَةِ. وَفِي التَّوْضِيح: اتّفق الْعلمَاء على جَوَاز اللَّهْو فِي وَلِيمَة النِّكَاح كضرب الدُّف وَشبهه، وخصت(20/149)
الْوَلِيمَة بذلك ليظْهر النِّكَاح وينتشر، فَتثبت حُقُوقه وحرمته، وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس بالدف وَالْكبر فِي الْوَلِيمَة لِأَنِّي أرَاهُ خَفِيفا، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِك فِي غير الْعرس، وَسُئِلَ مَالك عَن اللَّهْو يكون فِيهِ البوق؟ فَقَالَ: إِن كَانَ كَبِيرا مشتهرا، فَإِنِّي أكرهه، وَإِن كَانَ خَفِيفا فَلَا بَأْس بذلك، وَقَالَ إصبغ: وَلَا يجوز الْغناء فِي الْعرس وَلَا فِي غَيره إلاَّ مثل مَا يَقُول نسَاء الْأَنْصَار، أَو رجز خَفِيف. وَأخرج النَّسَائِيّ من طَرِيق عَامر بن سعد عَن قرظة بن كَعْب وَأبي مَسْعُود الأنصاريين، قَالَا: إِنَّه رخص لنا فِي اللَّهْو عِنْد الْعرس ... الحَدِيث، وَصَححهُ الْحَاكِم. قلت: الْكبر، بِفتْحَتَيْنِ الطبل ذُو الرأسين، وَقيل: الطِّبّ الَّذِي لَهُ وَجه وَأحد، والبوق بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره قَاف: آلَة ينْفخ فِيهَا وَيجمع على بيقان وبوقان، كَذَا قَالَ فِي الْمغرب قلت الْقيَاس: أبواق، وَسُئِلَ أَبُو يُوسُف عَن الدُّف أتكرهه فِي غير الْعرس مثل الْمَرْأَة فِي منزلهَا وَالصَّبِيّ؟ قَالَ: فَلَا أكرهه، فأنما الَّذِي يَجِيء مِنْهُ اللّعب الْفَاحِش والغناء فَإِنِّي أكرهه.
46 - (بابُ الهَدِيّةِ لِلْعَرُوسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إهداء الْهَدِيَّة للعروس صَبِيحَة لَيْلَة الدُّخُول.
3615 - وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: عنْ أبي عُثْمانَ واسْمُهُ الجَعْدُ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ: مَرَّ بِنَا فِي مَسْجَدِ بَنْي رفاعَةَ فَسمِعْتُهُ يَقُولُ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إذَا مَرَّ بِجَنَباتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دخلَ عَليْها فَسَلَّمَ علَيْها، ثُمَّ قَالَ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَرُوسا بِزَيْنَبَ فقالَتْ لي أمُّ سلَيْمٍ: لَوْ أهْدَيْنا لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَدِيَّةً؟ فَقُلْتُ لَهَا: إفْعَلِي، فَعَمَدَتْ إِلَيّ تَمْرٍ وسَمْنٍ وأقِطٍ فاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فأرْسلَتْ بِها مَعِي إلَيْهِ، فانْطَلقْتُ بِها إلَيْهِ فَقَالَ لي: ضَعْهَا، ثُمَّ أمَرَنِي فَقَالَ: ادْعُ لي رِجالاً سَمَّاهُمْ وادْعُ لي مَنْ لَقِيتَ، قَالَ: فَفَعَلْتُ الَّذِي أمَرَنِي فَرَجَعْتُ فإِذَا البَيْتُ غاصٌّ بأهْلِهِ، فَرأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وضَعَ يَدَيْهِ علَى تِلْكَ الحَيْسَةِ وتَكَلَّم بِها مَا شاءَ الله، ثُمَّ جعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يأكُلُونَ مِنْهُ، ويَقُولُ لهُمْ: اذْكُرُوا اسْمَ الله ولْيَأْكُلْ كلُّ رجُلٍ مِمَّا يَليهِ، قَالَ: حتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْها، فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: وجَعَلْتُ أغْتَمَّ، ثُمَّ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحْو الحُجُرَاتِ وخَرَجْتُ فِي إثْرِهِ فَقُلْتُ: إنَّهُمْ قَدْ ذَهِبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ البَيْتَ وأرْخَى السِّتْرَ وإنِّي لَفِي الحُجْرَةِ، وهْوَ يَقُولُ: { (33) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا. تدْخلُوا بيُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن يُؤذن لكم إِلَّا طَعَام غير ناظرين إناه، وَلَكِن إِذا دعيتم فأدخلوا فَإِذا ذعمتم فَانْتَشرُوا. وَلَا مستأنسين لحَدِيث إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيستحي مِنْكُم وَالله لَا يستحي من الْحق} .
قَالَ أبُو عُثْمانَ: قَالَ أنَسٌ: إنَّهُ خَدَمَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشْرَ سِنِينَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو أهدينا) إِلَى قَوْله: (فَانْطَلَقت بهَا إِلَيْهِ) .
وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء: الْهَرَوِيّ أَبُو سعيد، سكن نيسابور ثمَّ سكن مَكَّة، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة، وَأَبُو عُثْمَان اسْمه الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: ابْن دِينَار الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي.
كَذَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا غير مُتَّصِل، وَوَصله مرّة بقوله: حَدثنَا الصَّلْت بن مُحَمَّد حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن الْجَعْد أبي عُثْمَان وَعَن هِشَام عَن مُحَمَّد وَسنَان بن ربيعَة عَن أنس. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن الْجَعْد وَعَن غَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِإِسْنَادِهِ نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح والوليمة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح: وَالتَّعْلِيق عَن إِبْرَاهِيم رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أبي عُثْمَان بِهِ، وَقَالَ بعض من لقيناه من الشُّرَّاح: زعم أَن النَّسَائِيّ أخرجه عَن أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله بن رَاشد عَن أَبِيه عَنهُ، وَلم أَقف على(20/150)
ذَلِك. قلت: إِن كَانَ مُرَاده بقوله: من لقيناه من الشُّرَّاح، صَاحب التَّلْوِيح فَإِنَّهُ لم يلقه لِأَنَّهُ مَاتَ فِي سنة اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة وَهُوَ فِي ذَلِك الْوَقْت لم يكن مولودا، وَإِن كَانَ مُرَاده صَاحب التَّوْضِيح فَهُوَ تبع فِي ذَلِك شَيْخه صَاحب التَّلْوِيح وَإِن كَانَ مُرَاده الْكرْمَانِي، وَهُوَ لم يدْخل الديار المصرية أصلا وَلَا هَذَا الْقَائِل رَحل إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد، وَمَعَ هَذَا لم يذكر الْكرْمَانِي ذَلِك. وَقَوله: لم أَقف على ذَلِك، لَا يسْتَلْزم نفي وقُوف غَيره.
قَوْله: (قَالَ: مر بِنَا) أَي قَالَ أَبُو عُثْمَان الْجَعْد: (مر بِنَا أنس فِي مَسْجِد بني رِفَاعَة) بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء وبالعين الْمُهْملَة، وَبَنُو رِفَاعَة بن الْحَرْث بن بهثة بن سليم، قَبيلَة نزلُوا الْكُوفَة وَالْبَصْرَة وبنوا مَسَاجِد وَغَيرهَا، وَالْمرَاد بِمَسْجِد بني رِفَاعَة هُنَا الْمَسْجِد الَّذِي بنوه ببصرة. قَوْله: (فَسَمعته يَقُول) أَي: فَسمِعت أنسا يَقُول: قَوْله: (بجنبات أم سليم) وَهِي جمع جنبة بِالْجِيم وَالنُّون وَهِي النَّاحِيَة، وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون مأخوذا من الجناب وَهُوَ الفناء، فَكَأَنَّهُ يَقُول: إِذا مر بفنائها، وَأم سليم بِضَم السِّين وَهِي أم أنس بن مَالك، وَهِي بنت ملْحَان بن خَالِد. وَاخْتلف فِي اسْمهَا، فَقيل: سهلة، وَقيل: رميلة، وَقيل: رمية، وَقيل: غير ذَلِك. قَوْله: (عروسا بِزَيْنَب) وَقد مر غير مرّة أَن الْعَرُوس يَشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى، وَزَيْنَب بنت جحش الأَسدِية أم الْمُؤمنِينَ، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة ثَلَاث، قَالَه خَليفَة، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سنة خمس وَكَانَت قبله عِنْد زيد بن حَارِثَة مولى رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، مَاتَت سنة عشْرين من الْهِجْرَة، وَصلى عَلَيْهَا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (حيسة) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَهُوَ الطَّعَام الْمُتَّخذ من التَّمْر والأقط وَالسمن، وَيدخل عوض الأقط الدَّقِيق أَو الفتيت. قَوْله: (فِي برمة) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: البرمة الْقدر مُطلقًا، وَهِي فِي الأَصْل المتخذة من الْحجر الْمَعْرُوف بالحجاز واليمن. قَوْله: (فَأرْسلت بهَا معي إِلَيْهِ) أَي: أرْسلت أم سليم بالهدية معي إِلَى رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَإِذا الْبَيْت) كلمة: إِذا، للمفاجأة وَالْبَيْت مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، (وغاص) خَبره، أَي: ممتلىء، ومادته: غين مُعْجمَة وصاد مُهْملَة، وَأَصله من: غصصت بِالْمَاءِ أغص غصصا فَأَنا غاص وغصان إِذا امْتَلَأَ حلقك بِالْمَاءِ وشرقت بِهِ. قَوْله: (حَتَّى تصدعوا) أَي: حَتَّى تفَرقُوا. قَوْله: (وَبَقِي نفر) النَّفر من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَفِي رِوَايَة أَنهم ثَلَاثَة، وَفِي أُخْرَى وَفِي التِّرْمِذِيّ: وَجلسَ طوائف يتحدثون فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (أغتم) ، من الاغتمام بالغين الْمُعْجَمَة أَي: أَحْزَن من عدم خُرُوجهمْ، وَتَفْسِير الْآيَة قد مر فِي سُورَة الْأَحْزَاب. قَوْله: (غير ناظرين أناه) أَي: إِدْرَاكه ونضجه، وَفِيه التفاف، وَمَات رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ابْن عشْرين سنة وَمَات أنس سنة ثَلَاث أَو اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين، وَقد نَيف على الْمِائَة بِزِيَادَة سنتَيْن أَو ثَلَاث.
وَفِيه فَوَائِد: الأولى: كَونه أصلا فِي هَدِيَّة الْعَرُوس. وَكَانَ الإهداء، قَدِيما فأقرها الْإِسْلَام. الثَّانِيَة: كَونهَا قَليلَة فالمودة إِذا صحت سقط التَّكَلُّف فحال أم سليم كَانَ أقل. الثَّالِثَة: اتِّخَاذ الْوَلِيمَة فِي الْعرس قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ بعد الدُّخُول، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَانَ دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد هَذِه الْوَلِيمَة. الرَّابِعَة: دُعَاء النَّاس إِلَى الْوَلِيمَة بِغَيْر تَسْمِيَة وَلَا تكلّف وَهِي السّنة. الْخَامِسَة: فِيهِ معْجزَة عظمى دعى الْجمع الْكثير إِلَى شَيْء قَلِيل، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أَنهم كَانُوا زهاء ثَلَاثمِائَة. السَّادِس: لطفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياؤه الغريز حَيْثُ كَانَ يدْخل وَيخرج وَلَا يَقُول لمن كَانَ جَالِسا: أخرج. السَّابِعَة: فِيهِ الصَّبْر على أَذَى الصّديق الثَّامِنَة من سنة الْعرس إِذا فضل عِنْده طَعَام أَن يَدْعُو لَهُ من خف عَلَيْهِ من إخوانه، فَيكون زِيَادَة إعلان بِالنِّكَاحِ. التَّاسِعَة: فِيهِ التَّسْمِيَة على الْأكل. الْعَاشِرَة: السّنة الْأكل مِمَّا يَلِيهِ.
56 - (بابُ اسْتِعارَةِ الثَّيابِ لِلْعَرُوسِ وغَيْرِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعَارَة الثِّيَاب لأجل الْعَرُوس. قَوْله: (وَغَيرهَا) أَي: واستعارة غير الثِّيَاب مِمَّا يتجمل بِهِ الْعَرُوس من الْحلِيّ.
4615 - حدَّثني عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ حدَّثنا أبُو أُسامَةَ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، أَنَّهَا اسْتَعارَتْ مِنْ أسْماءَ قِلاَدَةً فَهلَكَتْ، فأرْسَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاسا مِنْ أصْحابِه(20/151)
ِ فِي طَلَبِها، فأدْركَتْهُمُ الصَّلاَةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فلَمَّا أتَوُا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَكَوْا ذالِكَ إلَيْهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ: جَزَاكِ الله خَيْرا، فَوَالله مَا نَزل بك أمْرٌ قَطُّ إلاّ جَعَلَ الله لَكِ مِنْهُ مَخْرَجا وجُعلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيه بَرَكَةٌ..
قيل لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة لِأَنَّهَا اسْتِعَارَة الثِّيَاب للعروس، واستعارة عَائِشَة من أَسمَاء قلادة وَلَيْسَت بِثَوْب، وَأجِيب بِأَنَّهُ قَالَ: وَغَيرهَا، وَهُوَ يتَنَاوَل القلادة وَغَيرهَا، كَمَا ذكرنَا الْآن، وردَّ بِأَن التَّرْجَمَة فِي اسْتِعَارَة الثِّيَاب وَغَيرهَا للعروس، وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين استعارتها لم تكن عروسا، وَقَالَ بَعضهم فِي وَجه الْمُطَابقَة: القلادة وَغَيرهَا من أَنْوَاع الملبوس الَّذِي يتزين بِهِ المزوج أَعم من أَن يكون عِنْد الْعرس أَو بعده. قلت: بَين مَا قَالَه وَبَين مَا يفهم من التَّرْجَمَة بُعد عَظِيم، وَالرَّدّ الَّذِي ذكرنَا رد أَيْضا لهَذَا، وَلَكِن إِذا أعدنا الضَّمِير فِي غَيرهَا: إِلَى الْعَرُوس، تتأتى الْمُطَابقَة على مَا لَا يخفى.
وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عرو بن الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب التَّيَمُّم فِي: بَاب إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن زَكَرِيَّاء بن يحيى عَن عبد الله بن نمير عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة إِلَى آخِره نَحوه وَمر الْكَلَام فِيهِ قَوْله فوَاللَّه مَا نزل بك أَمر إِلَى آخِره وَهُنَاكَ هَكَذَا فوَاللَّه نزل بك أَمر تكرهينه إِلَّا جعل الله لَك وللمسلمين فِيهِ خيرا.
66 - (بابُ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إذَا أتَى أهْلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَقُول الرجل إِذا أَتَى أَهله يَعْنِي إِذا أَرَادَ الْجِمَاع.
5615 - حدَّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا شَيْبانُ عنْ مَنْصُورُ عنْ سالِم بن أبي الجِعْدِ عنْ كُرَيْب عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأما لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ يَقُولِ حِينَ يأتِي أهْلَهُ: باسْمِ الله، أللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطانَ مَا رزَقْتَنا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُما فِي ذالِكَ أوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطانٌ أبَدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي، يُقَال: لَهُ الضخم، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وكريب مصغر كرب مولى ابْن عَبَّاس.
وَمضى الحَدِيث فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب التَّسْمِيَة على كل حَال. وَمضى أَيْضا فِي بَدْء الْخلق فِي: بَاب صفة إِبْلِيس وَجُنُوده، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أما) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم حرف استفتاح بِمَنْزِلَة: أَلاَ. قَوْله: (لَو أَن أحدكُم) كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني. وَفِي رِوَايَة غَيره بِحَذْف: أَن وَفِي الَّذِي تقدم فِي: بده الْخلق، بِحَذْف أما لَو أَن أحدكُم إِذا أَتَى أَهله. قَالَ: وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَغَيره: لَو أَن أحدكُم إِذا أَرَادَ أَن يَأْتِي أَهله، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أما أَن أحدكُم، أَو يَقُول: حِين يُجَامع مَعَ أَهله، وَفِي رِوَايَة لَهُ: لَو أَن أحدهم إِذا جَامع امْرَأَته ذكر الله. قَوْله: (بِسم الله اللَّهُمَّ جنبني) وَفِي رِوَايَة روح: ذكر الله قَالَ: اللَّهُمَّ جنبني، وجنبني بِالْإِفْرَادِ أَيْضا فِي: بَدْء الْخلق، وَفِي رِوَايَة همام: جنبنا بِالْجمعِ. قَوْله: (أَو قضي) كَذَا بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور: فَإِن قضى الله بَينهمَا ولدا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيقه، فَإِنَّهُ إِن يقدر بَينهمَا ولد فِي ذَلِك، وَفِي رِوَايَة جرير: ثمَّ قدر أَن يكون، وَالْبَاقِي مثله: وَفِي رِوَايَة همام: ثمَّ رزقا ولدا وَالْفرق بَين الْقَضَاء وَالْقدر من حَيْثُ اللُّغَة، وَأما من حَيْثُ الِاصْطِلَاح فالقضاء هُوَ الْأَمر الْكُلِّي الإجمالي الَّذِي فِي الْأَزَل، وَالْقدر هُوَ جزئيات ذَلِك الْكُلِّي وتفاصيل ذَلِك الْمُجْمل الْوَاقِعَة فِي مَا لَا يزَال، وَفِي الْقُرْآن إِشَارَة إِلَيْهِ {وَإِن من شَيْء إِلَّا عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم} (الْحجر: 12) . قَوْله: (لم يضرّهُ) بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا. قَوْله: (شَيْطَان) كَذَا بالتنكير، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأحمد لم يُسَلط عَلَيْهِ الشَّيْطَان، أَو: لم يضرّهُ الشَّيْطَان، مَعْنَاهُ: لم يُسَلط عَلَيْهِ بِحَيْثُ لم يكن لَهُ الْعَمَل الصَّالح، وَقَالَ القَاضِي: لم يحملهُ أحد على الْعُمُوم فِي جَمِيع الضَّرَر والوساوس فَقيل المُرَاد إِنَّه لَا يصرعه شَيْطَان، وَقيل: لَا يطعن فِي بَطْنه عِنْد وِلَادَته، وَفِيه نظر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا من مَوْلُود إلاَّ يمسهُ الشَّيْطَان حِين يُولد فَيَسْتَهِل صَارِخًا من مس الشَّيْطَان غير مَرْيَم وَابْنهَا، وَقيل: لم يُسَلط عَلَيْهِ من أجل بركَة التَّسْمِيَة، بل يكون من جملَة الْعباد الَّذين قيل فيهم: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} (الْحجر: 24) وَقيل: لم يضر فِي بدنه، وَقيل: لم يضرّهُ بمشاركة أَبِيه فِي جماع أمه(20/152)
كَمَا جَاءَ عَن مُجَاهِد: إِن الَّذِي يُجَامع وَلَا يُسمى يلتف الشَّيْطَان على أحليله فيجامع مَعَه.
76 - (بابٌ الوَلِيمَةُ حَقٌّ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته الْوَلِيمَة حق، وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظ حَدِيث الْبَاب لفظ: حق وَإِنَّمَا جَاءَ لفظ: حق، فِي حَدِيث أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن أنس مَرْفُوعا: الْوَلِيمَة فِي أول يَوْم حق، وَفِي الثَّانِي معروص، وَفِي الثَّالِث رِيَاء وَسُمْعَة. ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيْسَ بِقَوي، فِيهِ بكر بن خُنَيْس تكلمُوا فِيهِ. قلت: قَالَ الْعجلِيّ: كُوفِي ثِقَة وَأخرج الْحَاكِم حَدِيثه، وحسَّن التِّرْمِذِيّ حَدِيثه، وَجَاء لفظ: حق، أَيْضا فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ من حَدِيث مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: الْوَلِيمَة حق وَسنة الحَدِيث، وَجَاء أَيْضا فِي حَدِيث أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث وَحشِي بن حَرْب رَفعه: الْوَلِيمَة حق، وَالثَّانيَِة مَعْرُوف، وَالثَّالِثَة فَخر. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: شَرّ الطَّعَام الْوَلِيمَة، يَدعِي الْغَنِيّ وَيتْرك الْمِسْكِين، وَهِي أَحَق، أَي: ثَابت فِي الشَّرْع، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الْوُجُوب، خلافًا لأهل الظَّاهِر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَعَ الْخلاف فِيهِ فِي: بَاب الصُّفْرَة للمتزوج.
وَقَالَ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ: قَالَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أوْلِمْ ولوْ بِشاةٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ مطولا فِي أَو كتاب الْبيُوع، وَالْأَمر فِيهِ للاستحباب. وَعند الظَّاهِرِيَّة للْوُجُوب، وَبِه قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة لظَاهِر الْأَمر، وَفِي التَّوْضِيح للشَّافِعِيّ قَول آخر: إِنَّهَا وَاجِبَة أَي: الْوَلِيمَة، وَكَذَا رُوِيَ عَن أَحْمد، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك قَالَه الْقُرْطُبِيّ.
6615 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ عنْ عقيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أخْبرَنِي أنَسُ بنُ مالِكٍ، رَضِي الله عَنهُ، أنّهُ كانَ ابنَ عَشْرَ سِنِينَ مَقْدَمَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ فَكانَ أُمَّهاتِي يُوَاظِبْنَنِي علَى خِدْمَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخَدَمْتُهُ عشْرَ سِنِينَ وتُوفِّيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا ابنُ عِشْرينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الحِجاب حِينَ أُنْزِلَ، وكانَ أوَّل مَا أُنْزِلَ فِي مُبتَنيَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، أصْبَحَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بهَا عروسا، فَدَعَا الْقَوْم فَأَصَابُوا من الطَّعَام ثمَّ خَرجُوا، وَبَقِي رَهْط مِنْهُم عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأطالُوا المُكْثَ فقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَرَج وخَرَجْتُ مَعَهُ لِكَيْ يَخْرُجُوا فَمشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومشيت حَتَّى جَاءَ عتبَة حجرَة عَائِشَة ثمَّ ظن أَنهم خَرجُوا فَرَجَعَ ورجَعْتُ مَعَهُ حتَّى إِذا دَخَلَ علَى زَيْنَبَ فإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَقُومُوا، فَرَجَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَجَعْتُ مَعَهُ حتَّى إذَا بلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عائِشَةَ وظَنَّ أنَّهُمْ خَرَجُوا فَضَرَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَبْني وَبيْنَهُ وأُنْزِلَ الحِجابُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَدَعَا الْقَوْم فَأَصَابُوا من الطَّعَام) كَانَ للوليمة وَلَكِن الْمُطَابقَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة فَقَط لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر لفظ: حق، كَمَا ذكرنَا. والْحَدِيث عَن أنس قد مضى فِي: بَاب الْهَدِيَّة للعروس عَن قريب.
قَوْله: (مقدم رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم) ، بِالنّصب على الظّرْف، أَي: زمَان قدومه. قَوْله: (فَكَانَ أمهاتي) ، ويروى: كَانَ أمهاتي، من قبيل: أكلموني البراغيث، وَالْأَصْل: وَكَانَت أمهاتي، وَأَرَادَ أمه وَأَخَوَاتهَا يَعْنِي: خالات أنس. قَوْله: (يواظبني) من الْمُوَاظبَة على الشَّيْء وَهُوَ الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يواظئنني، من المواطأة بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَهِي: وطأت نَفسِي على الشَّيْء إِذا رَعيته وحرصت عَلَيْهِ. قَوْله: (فِي مبتني) أَي: زمَان ابتناه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَيْنَب بنت جحش، وَوقت دُخُوله عَلَيْهَا. قَوْله: (وَبَقِي رَهْط) ، وَفِي رِوَايَة: بَاب الْهَدِيَّة للعروس: نفر، بدل: رَهْط، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النَّفر رَهْط الْإِنْسَان وعشيرته، وَهُوَ اسْم جمع يَقع على جمَاعَة الرِّجَال خَاصَّة مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الشعرة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَقَالَ: الرَّهْط عشيرة(20/153)
الرجل وَأَهله، من الرِّجَال مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى الْأَرْبَعين وَلَا يكون فيهم امْرَأَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفْظَة. قَوْله: (وَأنزل الْحجاب) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي} (الْأَحْزَاب: 35) الْآيَة.
86 - (بابُ الوَلِيمَةِ ولوْ بِشاةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ الْوَلِيمَة حق وَلَو عملت بِشَاة، وَقد ذكرنَا أَن معنى: معنى ثَابت فِي الشَّرْع، وَقَالَ ابْن بطال: يَعْنِي أَن الزَّوْج ينْدب إِلَيْهَا، وَيجب عَلَيْهِ وجوب سنة وفضيلة، وَهِي على قدر الْإِمْكَان الْوُجُوب لإعلان النِّكَاح.
7615 - حدَّثنا عَليٌّ حَدثنَا سُفْيانُ قَالَ: حدّثني حُمَيْدٌ أنَّهُ سَمِعَ أنَسا، رَضِي الله عنهُ، قَالَ: سألَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عبدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ وتَزَوَّجَ امْرَأةً مِنَ الأنْصارِ: كَمْ أصْدَقْتَها؟ قَالَ: وزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَب.
وعنْ حُمَيْدٍ: سَمِعْتُ أنَسا قَالَ: لمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ نَزَلَ المُهاجرُونَ علَى الأنْصارِ، فَنَزَلَ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ علَى سَعْدِ بنِ الربِيعِ فَقَالَ: أقاسِمُكَ مالِي وأنْزِلُ لَكَ عنْ إحْدَى امْرَأتَيَّ. قَالَ: بارَكَ الله لَكَ فِي أهْلِكَ ومالِكَ، فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَباعَ واشْتَرَى فأصابَ شَيْئا مِنْ أقِطٍ وسَمْنٍ، فَتَزَوَّج فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أوْلِمْ ولوْ بِشاةٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أولم وَلَو بِشَاة) . وَعلي هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (وَتزَوج امْرَأَة من الْأَنْصَار) جملَة حَالية أَي: وَقد تزوج امْرَأَة وَهِي بنت أبي الحيسر بن رَافع بن امرىء الْقَيْس، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء، واسْمه أنس بن رَافع الأوسي. قَوْله: (وزن نواة) ، بِنصب النُّون من وزن على المفعولية، أَي: أصدقت وزن نواة، وَيجوز الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: الَّذِي أَصدقتهَا وزن نواة.
قَوْله: (وَعَن حميد سَمِعت أنسا) عطوف على الأول قيل: وَيحْتَمل أَن يكون مُعَلّقا، والعمدة على الأول، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني أَنه سمع أنسا مثل الَّذِي قبله، وَصرح فِي الْكل بِسَمَاع حميد من أنس فَحصل الْأَمْن من التَّدْلِيس. وَأخرجه الْحميدِي فِي مُسْنده وَمن طَرِيقه أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج عَن سُفْيَان بِالْحَدِيثِ كُله مفرقا، وَقَالَ فِي كل مِنْهُمَا: أَنا حميد أَنه سمع أنسا، وَأخرجه ابْن أبي عمر فِي مُسْنده عَن سُفْيَان وَمن طَرِيقه الْإِسْمَاعِيلِيّ، فَقَالَ: عَن حميد عَن أنس وسق الْجَمِيع حَدِيثا وَاحِدًا، وَقدم الْقِصَّة الثَّانِيَة على الأولى كَمَا فِي رِوَايَة غير سُفْيَان، وَالْبُخَارِيّ فرقه حديثين: فَذكر فِي الأول: سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن عَن قدر الصَدَاق، وَفِي الثَّانِي: أول الْقِصَّة، قَالَ: لما قدمُوا الْمَدِينَة إِلَخ، وَرُوِيَ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي أَوَائِل النِّكَاح فِي: بَاب قَول الرجل: أنظر أَي زَوْجَتي شِئْت؟ من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي: بَاب الصُّفْرَة للمتزوج من رِوَايَة مَالك، وَفِي فضل الْأَنْصَار من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَفِي أول الْبيُوع من رِوَايَة زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَب من رِوَايَة يحيى الْقطَّان، كلهم عَن حميد عَن أنس، وَمضى فِي: بَاب مَا يدعى للمتزوج من رِوَايَة ثَابت، وَفِي: بَاب {وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن} (النِّسَاء: 4) عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب وَقَتَادَة كلهم عَن أنس.
قَوْله: (على سعد بن الرّبيع) وَالربيع هُوَ ابْن عَمْرو بن أبي زُهَيْر الْأنْصَارِيّ الخزرجي عَقبي بَدْرِي نقيب، كَانَ أحد نقباء الْأَنْصَار، وَكَانَ كَاتبا فِي الْجَاهِلِيَّة وَشهد الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة وَشهد بَدْرًا وَقتل يَوْم أحد شَهِيدا، وَكَانَ ذَا غنى. قَوْله: (إِحْدَى امْرَأَتي) بِفَتْح التَّاء ويشديد الْيَاء، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: ولي امْرَأَتَانِ فَانْظُر أعجبهما إِلَيْك أطلقها، فَإِذا حلت تَزَوَّجتهَا. وَفِي حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. فأقسم لَك نصف مَالِي وَانْظُر أَي زوجتيّ هويت فَأنْزل لَك عَنْهَا، فَإِذا حلت تَزَوَّجتهَا. وَنَحْوه. وَفِي رِوَايَة يحيى بن سعيد، وَفِي لفظ: فَانْظُر أعجبهما إِلَيْك فسمها لي أطلقها، فَإِذا انْقَضتْ عدتهَا فَتَزَوجهَا، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أَحْمد. فَقَالَ لَهُ سعد: أَي أخي إِنَّا أَكثر أهل الْمَدِينَة مَالا فَانْظُر شطر مَالِي فَخذه، وتحتى امْرَأَتَانِ فَانْظُر أَيهمَا أعجب إِلَيْك حَتَّى أطلقها. وَقيل: اسْم إِحْدَى امرأتيه عمْرَة بنت حزم الْأَنْصَارِيَّة، وَاسم الْأُخْرَى: حَبِيبَة بنت زيد ابْن أبي زُهَيْر. قَوْله: (أولم وَلَو بِشَاة) قَالَ بَعضهم: كلمة: لَو، هُنَا لِلتَّمَنِّي. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هِيَ للتقليل نَحْو: تصدقوا وَلَو بظلف محرقة.(20/154)
8615 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ قَالَ: مَا أوْلَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى شَيْء مِنْ نِسائِهِ مَا أوْلَمَ علَى زَيْنَبَ، أوْلَمَ بِشاةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. حَمَّاد هُوَ ابْن زيد.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل وقتيبة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة ومسدد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن أَحْمد بن عَبدة.
قَوْله: (مَا أولم على زَيْنَب) أَي: زَيْنَب بنت جحش. قَوْله: (أولم بِشَاة) هَذَا لَيْسَ للتحديد، وَإِنَّمَا وَقع اتِّفَاقًا. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الْإِجْمَاع على أَنه لأحد لأكثرها، وَقَالَ بَعضهم: وَقد يُؤْخَذ من عبارَة صَاحب التَّنْبِيه من الشَّافِعِيَّة: أَن الشَّاة حد لأكْثر الْوَلِيمَة لِأَنَّهُ قَالَ: وأكملها شَاة. قلت: لَم لَا يجوز أَن يكون معنى: أكملها بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّمْر والأقط وَالسمن الْمَذْكُورَة فِي ولائم النَّبِي الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم؟ أَو يكون مَعْنَاهُ. أفضلهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة.
9615 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ عبْدِ الوَارِثِ عنْ شُعَيْبٍ عنْ أنَسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْتَقَ صَفِيَّةَ وتَزَوَّجَها وجَعَلَ عِتْقَها صَدَاقَها، وَأوْلَمَ علَيْها بِحَيْسٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد الْبَصْرِيّ، وَشُعَيْب بن الحبحاب بالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى، أَبُو صَالح الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور وَغَيره، وَقد مر وُجُوه فِي جعل الْعتْق الصَدَاق، وأصحها أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتقهَا تَبَرعا ثمَّ تزَوجهَا بِرِضَاهَا بِلَا صدَاق. قَوْله: (بحيس) قد مر تَفْسِيره عَن قريب، فَإِن قلت: قد مضى فِي: بَاب اتِّخَاذ السراري من طَرِيق حميد عَن أنس: أَنه أَمر بالأنطاع فألقي فِيهَا من الأقط وَالتَّمْر وَالسمن، فَكَانَت وَلِيمَة قلت: لَا مُخَالفَة بَينهمَا لِأَن هَذِه من أَجزَاء الحيس.
07615 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا زُهَيْرٌ عنْ بَيانٍ قَالَ: سَمِعْتُ أنْسَا يَقُولُ: نَبي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بامْرَأةٍ فأرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجالاٍ إِلَى الطَّعامِ..
هَذَا وَجه آخر عَن أنس بن مَالك. وَهُوَ الحَدِيث الْخَامِس كُله عَنهُ.
وَزُهَيْر مصغر زهر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، وَبَيَان، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون: هُوَ ابْن بشر الأحمسي.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عمر بن إِسْمَاعِيل وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن حَاتِم.
قَوْله: (بني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من الْبناء وَهُوَ الدُّخُول بِزَوْجَتِهِ، وَقد ذكر غير مرّة. قَوْله: (بِامْرَأَة) هِيَ زَيْنَب بنت جحش، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هُوَ كَذَلِك، وقط ظهر ذَلِك من رِوَايَة التِّرْمِذِيّ لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ نزُول. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي} (الْأَحْزَاب: 35) الْآيَة، وَهَذَا فِي قصَّة زَيْنَب لَا محَالة، وَمضى شرحها فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
96 - (بابُ مَنْ أوْلَمَ علَى بَعْضِ نِسائِهِ أكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أولم على بعض نِسَائِهِ أَكثر من بعض.
1715 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ قَالَ: ذُكِرَ تَزْوِيجُ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ عِنْدَ أنَسٍ، فَقَالَ: مَا رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْلَمَ علَى أحَدٍ مِنْ نِسائِهِ مَا أوْلَمَ علَيْها! أوْلَمَ بِشاةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ السِّرّ فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولم على زَيْنَب أَكثر كَانَ شكرا لنعمة الله عز وَجل، لِأَنَّهُ زوجه، إِيَّاهَا بِالْوَحْي إِذا قَالَ تَعَالَى: قَوْله: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} (الْأَحْزَاب: 73) قَالَ ابْن بطال: لم يَقع ذَلِك قصدا لتفضيل بعض النِّسَاء على بعض، بل بِاعْتِبَار مَا اتّفق، وَأَنه لَو وجد الشَّاة فِي كل مِنْهُنَّ لأولم بهَا. لِأَنَّهُ كَانَ أَجود النَّاس، وَلَكِن كَانَ لَا يُبَالغ فِي أُمُور الدُّنْيَا كالتأنق، وَقيل: كَانَ ذَلِك لبَيَان الْجَوَاز، وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: لَا شكّ أَن من زَاد فِي وليمته فَهُوَ أفضل لِأَن ذَلِك زِيَادَة فِي الإعلان واستزادة من الدُّعَاء بِالْبركَةِ فِي الْأَهْل وَالْمَال. قلت: الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي هُوَ أحسن(20/155)
الْوُجُوه. فَإِن قلت: قد نفي أنس أَن يكون أولم على غير زَيْنَب بِأَكْثَرَ مِمَّا أولم عَلَيْهَا، وَقد أولم على مَيْمُونَة بنت الْحَارِث لما تزَوجهَا فِي عمْرَة الْقَضِيَّة بِمَكَّة بِأَكْثَرَ من شَاة. قلت: فَفِيهِ مَحْمُول على مَا انْتهى إِلَيْهِ علمه، أَو لما وَقع من الْبركَة فِي وليمتها حَيْثُ أشْبع الْمُسلمين خبْزًا وَلَحْمًا من الشَّاة الْوَاحِدَة. وَلِأَن قَضِيَّة مَيْمُونَة كَانَت بعد فتح خَيْبَر، وَكَانَت التَّوسعَة مَوْجُودَة فِي ذَلِك الْوَقْت بالتوسعة الْحَاصِلَة من فتح خَيْبَر.
07 - (بابُ منْ أوْلَمَ بأقَلَّ مِنْ شاةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أولم بِأَقَلّ من شَاة، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا للتنصيص الَّذِي وَقع فِيهِ وَإِن كَانَ هَذَا مستفادا من الْأَحَادِيث الَّتِي قبلهَا.
2715 - حدَّثنا مُحَمدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورِ بنِ صَفِيَّةَ عنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قالَتْ: أوْلَمَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علَى بَعْضِ نِسائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ كَمَا جزم بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم فِي مستخرجيهما وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا ملخصه: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة لِأَن كلا من المحمدين رُوِيَ عَن السفيانين، وَلَا قدح فِي الْإِسْنَاد بِهَذَا الالتباس لِأَن كلّا مِنْهُمَا بِشَرْط البُخَارِيّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن طَلْحَة بن الْحَارِث بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّار بن قصي بن كلاب الْعَبدَرِي الحَجبي الْمَكِّيّ، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث، وَكَانَ خَاشِعًا بكَّاء، قتل جده الْحَارِث كَافِرًا يَوْم أحد، قَتله قزمان، وَصفِيَّة بنت شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة مُخْتَلف فِي صحبتهَا وَكَانَت أحاديثها مُرْسلَة، وَقَالَ الْحَافِظ الدمياطي: وَالصَّحِيح فِي رِوَايَة صَفِيَّة عَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَبُو الْحسن رَحمَه الله: انْفَرد البُخَارِيّ بِالْإِخْرَاجِ عَن صَفِيَّة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي من الْأَحَادِيث الَّتِي تعد فِيمَا أخرج من الْمَرَاسِيل. وَقد اخْتلف فِي رؤيتها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ البرقاني: وَصفِيَّة هَذِه لَيست بصحابية فحديثها مُرْسل. وَقَالَ البرقاني: وَمن الروَاة من غلط فِيهِ فَقَالَ: عَن مَنْصُور بن صَفِيَّة عَن صَفِيَّة بنت حييّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي كِتَابه قَالَ: هَذَا غلط لَا شكّ فِيهِ، وَقَالَ البرقاني: روى هَذَا الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ووكيع بن الْيَمَان عَن الثَّوْريّ فجعلوه من رِوَايَة صَفِيَّة بنت شيبَة، وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمد الزبيرِي ومؤمل بن إِسْمَاعِيل وَيحيى بن الْيَمَان، عَن الثَّوْريّ فَقَالُوا فِيهِ: عَن صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة، قَالَ: وَالْأول أصح فَإِن قلت: ذكر الْمزي فِي الْأَطْرَاف أَن البُخَارِيّ أخرج فِي كتاب الْحَج، عقيب حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس فِي تَحْرِيم مَكَّة، قَالَ: وَقَالَ أبان بن صَالح: عَن الْحسن بن مُسلم عَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... مثله، قَالَ: وَوَصله ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه قلت: قَالَ الْمزي أَيْضا: لَو صحَّ هَذَا لَكَانَ صَرِيحًا فِي صحبتهَا، لَكِن أبان بن صَالح ضَعِيف، وَكَذَا ضعفه ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد قلت يحيى بن معِين وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَآخَرُونَ وثقوه، وَذكر الْمزي أَيْضا حَدِيث صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت: طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بعير يسْتَلم الرُّكْن بمحجن وَأَنا أنظر إِلَيْهِ أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَقَالَ الْمزي: وَهَذَا يضعف قَول من أنكر أَن يكون لَهَا رُؤْيَة فَإِن إِسْنَاده حسن، قيل: إِذا ثَبت رؤيتها فَمَا الْمَانِع أَن تسمع خطبَته. وَلَو كَانَت صَغِيرَة.
قَوْله: (على بعض نِسَائِهِ) ، لم يدر تَعْيِينهَا صَرِيحًا، قيل: أقرب مَا يُفَسر بِهِ أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فقد أخرج ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ بِسَنَد لَهُ إِلَى أم سَلمَة، قَالَت: لما خطبني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر قصَّة تَزْوِيجه بهَا، قَالَت أم سَلمَة: فَأَدْخلنِي بَيت زَيْنَب بنت خُزَيْمَة فَإِذا جرة فِيهَا شَيْء من شعير، فَأَخَذته فطحتنه ثمَّ عصدته فِي البرمة وَأخذت شَيْئا من إهالة فأدمته، فَكَانَ ذَلِك طَعَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بمدين من شعير) ، وهما نصف صَاع لِأَن الْمَدِين تَثْنِيَة مد. وَالْمدّ ربع الصَّاع.
وَفِيه: أَن الْوَلِيمَة تكون على قدر الْمَوْجُود واليسار وَلَيْسَ فِيهَا أحد لَا يجوز الِاقْتِصَار على دونه.
17 - (بابُ إجابَةِ الوَلِيمَةِ والدَّعْوَةِ ومَنْ أوْلَمَ سَبْعَةَ أيَّامٍ ونَحْوَهُ ولَمْ يُوَقِّتِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْما وَلَا يَوْمَيْنِ)(20/156)
أَي: هَذَا فِي بَاب بَيَان إِجَابَة الْوَلِيمَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب حق إِجَابَة الْوَلِيمَة، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى عَن قريب أَن الْوَلِيمَة طَعَام الْعرس والأملاك، وَقيل: طَعَام الْعرس خَاصَّة، وَقَالَ أَبُو عمر: أَجمعُوا على وجوب الْإِتْيَان إِلَى الْوَلِيمَة فِي الْعرس، وَاخْتلفُوا فِيمَا سوى ذَلِك.
قَوْله: (والدعوة) ، بِفَتْح الدَّال وَبِضَمِّهَا فِي الْحَرْب، وبكسرها فِي النّسَب، وَعطف الدعْوَة على الْوَلِيمَة من عطف الْعَام على الْخَاص لِأَن الْوَلِيمَة مُخْتَصَّة بِطَعَام الْعرس، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي إِجَابَة الدعْوَة. مِنْهَا: حَدِيث أبي مُوسَى الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَكَذَا حَدِيث الْبَراء فِيهِ. قَوْله: (وَمن أولم سَبْعَة أَيَّام) ، عطف على قَوْله: إِجَابَة الدعْوَة، أَي: وَفِي بَيَان من أولم سَبْعَة أَيَّام وَنَحْوهَا ... أَي: نَحْو سَبْعَة أَيَّام، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: نَحْوهَا، قيل: إِن البُخَارِيّ ترْجم على جَوَاز الْوَلِيمَة سَبْعَة أَيَّام وَلم يَأْتِ فِيهِ بِحَدِيث، فاستدل على جَوَاز سَبْعَة أَيَّام وَنَحْوهَا بِإِطْلَاق الْأَمر بإجابة الدَّاعِي من غير تَقْيِيد، فاندرج فِيهِ السَّبْعَة الْمُدَّعِي أَنَّهَا مَمْنُوعَة. وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح كَأَن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَرَادَ بقوله: (وَمن أولم سَبْعَة أَيَّام) مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث وهيب عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد: حَدَّثتنِي حَفْصَة أَن سِيرِين عرس بِالْمَدِينَةِ فأولم، فَدَعَا النَّاس سبعا، فَكَانَ فِيمَن دعى أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ صَائِم فَدَعَا لَهُم بِخَير وَانْصَرف، وَكَذَا ذكره حَمَّاد بن زيد إلاَّ أَنه لم يذكر حَفْصَة فِي إِسْنَاده وَقَالَ معمر عَن أَيُّوب: ثَمَانِيَة أَيَّام، وَالْأول أصح، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا من طَرِيق حَفْصَة بنت سِيرِين، قَالَت: لما تزوج أبي دَعَا الصَّحَابَة سَبْعَة أَيَّام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَنْصَار دَعَا أبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وَغَيرهمَا فَكَانَ أبي صَائِما فَلَمَّا طعموا دَعَا أبي وَأثْنى. قَوْله: (وَلم يُوَقت) أَي: لم يعين النَّبِي الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، للوليمة يَوْمًا لَا يَوْمَيْنِ للْإِيجَاب أَو للاستحباب، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِطْلَاق وَيمْنَع التَّحْدِيد إلاَّ بِحجَّة يجب التَّسْلِيم لَهَا. فَإِن قلت: رُوِيَ أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن عبد الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ عَن رجل أَعور من بني ثَقِيف، كَانَ يُقَال لَهُ زُهَيْر مَعْرُوف أَي: يُثنى عَلَيْهِ خيرا، وَإِن لم يكن اسْمه زُهَيْر بن عُثْمَان فَلَا أَدْرِي مَا اسْمه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْوَلِيمَة أول يَوْم حق، وَالثَّانِي مَعْرُوف، وَالْيَوْم الثَّالِث رِيَاء وسَمعه. انْتهى. فَكيف يَقُول البُخَارِيّ: وَلم يُوَقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا لَا يَوْمَيْنِ؟ قلت: قَالُوا إِنَّه لم يَصح عِنْده وَقَالَ فِي تَارِيخه الْكَبِير: لَا يَصح إِسْنَاده وَلَا يعرف لَهُ صُحْبَة، وَلما ذكره أَبُو عمر تبع البُخَارِيّ فَقَالَ: فِي إِسْنَاده نظر، يُقَال: إِن حَدِيثه مُرْسل وَلَيْسَ لَهُ غَيره. وَلَكِن قَالَ غَيره: هَذَا حَدِيث صَحِيح سَنَده حسن مَتنه، وَإِذا لم يعرفهُ هُوَ فقد عرفه غَيره، وَقَالَ ابْن حبَان فِي كتاب الصَّحَابَة: لَهُ صُحْبَة، وَذكره فِي جُمْلَتهمْ من غير تردد جمَاعَة كَثِيرَة مِنْهُم ابْن أبي خَيْثَمَة فِي تَارِيخه الْأَوْسَط وَأَبُو أَحْمد العسكري وَالتِّرْمِذِيّ فِي تَارِيخه وَابْن السكن وَابْن قَانِع وَأَبُو عَمْرو الفلاس وَأَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ فِي كِتَابه المخزون والبغويان أَحْمد فِي مُسْنده الْكَبِير وَابْن بنته، وَقَالَ: لَا أعلم لزهير غير هَذَا: وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَأَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه الأصبهانيان وَمُحَمّد بن سعد كَاتب الْوَاقِدِيّ وَذكر غير وَاحِد أَن الْحسن رُوِيَ عَنهُ فَإِن قلت: دخل بَينهمَا عبد الله بن عُثْمَان قلت: لَا يضر ذَلِك لِأَنَّهُ مَعْدُود أَيْضا فِي جملَة الصَّحَابَة عِنْد أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الدِّمَشْقِي: أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتشْهدَ باليرموك. فَإِن قلت: رُوِيَ النَّسَائِيّ عَن الْحسن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا. قلت: لَا يضر ذَلِك الحَدِيث لِأَن الْحسن صَاحب فَتْوَى وَفقه، فَرُبمَا يسْأَل عَن شَيْء يكون مُسْندًا فيذكره بِغَيْر سَنَد، وَرُبمَا ينشط فيذكر سَنَده، وَهَذِه عَاده أشباهه من أَصْحَاب الْفَتْوَى، وَلَئِن سلمنَا للْبُخَارِيّ فِي إرْسَاله فالاصطلاح الحديثي: أَن الْمُرْسل إِذا جَاءَ نَحوه مُسْندًا من وَجه آخر قوى حَتَّى لَو عَارضه حَدِيث صَحِيح لَكَانَ الرُّجُوع إِلَيْهِمَا أولى، وَقد مر أَن لمتنه أصلا فَلذَلِك حكمُوا على الْمَتْن بالْحسنِ، من ذَلِك مَا رَوَاهُ عبد الله بن مَسْعُود أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، قَالَ: طَعَام أول يَوْم حق، وَطَعَام يَوْم الثَّانِي سنة، وَطَعَام يَوْم الثَّالِث سمعة وَمن سمع سمع الله بِهِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَانْفَرَدَ بِهِ، وَقَالَ: لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من حَدِيث زِيَاد بن عبد الله وَهُوَ كثير الغرائب والمناكير، وَمِنْه مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْوَلِيمَة أول يَوْم حق، وَالثَّانِي مَعْرُوف، وَالثَّالِث رِيَاء وَسُمْعَة، وَفِي سَنَده عبد الْملك بن حُسَيْن النَّخعِيّ الوَاسِطِيّ تكلم فِيهِ غير وَاحِد، وَمِنْه مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أنس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْوَلِيمَة أول يَوْم حق، وَالثَّانِي مَعْرُوف، وَالثَّالِث رِيَاء وَسُمْعَة، وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح: سَنَده صَحِيح فَإِن قلت: قد قَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَيْسَ هَذَا الحَدِيث بقوى وَفِيه بكير بن خُنَيْس تكلمُوا فِيهِ. قلت: أثنى عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد بن صَالح(20/157)
الْعجلِيّ، قَالَ: كُوفِي ثِقَة، وَقَالَ البرقي عَن يحيى بن معِين: لَا بَأْس بِهِ، وَخرج الْحَاكِم حَدِيثه فِي الْمُسْتَدْرك.
3715 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عُمَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إِلَى الوَلِيمَةِ فَلْيأتها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن القعْنبِي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن أبي قدامَة عبيد الله بن سعيد. قَوْله: (فليأتها) أَي: فليحضرها. وَقيل: فليأت مكاتبها. أَي: مَكَان الْوَلِيمَة، وَاخْتلف فِي هَذَا الْأَمر فَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالأَصَح أَنه إِيجَاب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى عَن قريب.
4715 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ سُفْيانَ قَالَ: حدّثني مَنْصُورٌ عَن أبي وائِلٍ عنْ أبي مُوسَى عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فُكُّوا العانِيَ وأجِيبُوا الدَّاعِيَ وعُودُوا المَريضَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأجيبوا الدَّاعِي) وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي الْجِهَاد فِي: بَاب فكاك الْأَسير.
قَوْله: (العاني) أَي: الْأَسير وَقَالَ ابْن التِّين: (وأجيبوا الدَّاعِي) يُرِيد إِلَى وَلِيمَة الْعرس. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الدَّاعِي أَعم من أَن يكون إِلَى وَلِيمَة الْعرس أَو إِلَى غَيرهَا. وَلكنه خص بإجابة صَاحب الْوَلِيمَة لما فِيهِ من الإعلان بِالنِّكَاحِ وَإِظْهَار أمره. فَإِن قلت: فَالْأَمْر مُسْتَعْمل بِإِطْلَاق وَاحِد فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب وَذَلِكَ مَمْنُوع عِنْد الْأُصُولِيِّينَ. قلت: جوزه الشَّافِعِي وَأما عِنْد غَيره فَيحمل على عُمُوم الْمجَاز. قَوْله: (وعودوا الْمَرِيض) ويروى: وعوداو المرضى بِالْجمعِ.
5715 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ الرَّبِيعِ حدَّثنا أبُو الأحْوَصِ عنِ الأشْعَثِ عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: قَالَ البَرَاءُ بنُ عازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أمَرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبْعٍ ونَهانا عنْ سَبْعٍ: أمَرَنا بِعيادَةِ المَرِيضِ واتِّباعِ الجَنازَةِ وتَشْمِيتِ العاطسِ وإبْرارِ القَسَمِ ونَصْرِ المَظْلُومِ وإفْشاءِ السَّلاَمِ وإجابَةِ الدَّاعِي، ونَهانا عنْ خَواتِيمِ الذَّهَب وعنْ آنِيَةِ الفِضَّةِ وَعَن المَياثِرِ والقَسِّيَّةِ الإسْتَبْرَقِ والدِّيباجِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإجَابَة الدَّاعِي) . وَأَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم الْحَنَفِيّ مولى بني حنيفَة، والأشعث هُوَ ابْن أبي الشعْثَاء بِالْمُثَلثَةِ فِيهَا وَاسم أبي الشعْثَاء سليم الْمحَاربي، وَمُعَاوِيَة بن سُوَيْد بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو.
وَرِجَال السَّنَد كلهم كوفيون، والبراء أَيْضا نزل الْكُوفَة.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز.
قَوْله: (وتشميت الْعَاطِس) بالشين الْمُعْجَمَة وبالمهملة أَيْضا، وَالْأول أفْصح اللغتين وَهُوَ الدُّعَاء بِالْخَيرِ وَالْبركَة. قَوْله: (وإبرار الْقسم) هُوَ تَصْدِيق من أقسم عَلَيْك، وَهُوَ أَن تفعل مَا سَأَلَهُ، يُقَال: أبر الْقسم إِذا صدقه وَقيل: المُرَاد أَنه لَو حلف أحد على أَمر مُسْتَقْبل وَأَنت تقدر على تَصْدِيق يَمِينه كَمَا لَو أقسم. أَن لَا يفارقك حَتَّى تفعل كَذَا وَأَنت تَسْتَطِيع فعله فافعله لِئَلَّا يَحْنَث، ويروى: وإبراز الْمقسم على صيفه اسْم الْفَاعِل من أقسم قَوْله: (وَإجَابَة الدَّاعِي) وَرُوِيَ أَبُو الشَّيْخ من حَدِيث إِسْرَائِيل عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَقبلُوا الْهَدِيَّة وأجيبوا الدَّاعِي، وَعند مُسلم عَن جَابر يرفعهُ: إِذا دعِي أحدكُم فليجب فَإِن كَانَ صَائِما فَليصل، وَإِن كَانَ مُفطرا فليطعم. وَفِي لفظ: إِن شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك، وَعند أَحْمد عَن أنس: أَن يَهُودِيّا دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خبز شعير وإهالة سنخة فَأَجَابَهُ، وَعِنْده أيضال من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن الْأَعْرَج عَنهُ: شَرّ الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة تدعى لَهَا الْأَغْنِيَاء وتترك الْفُقَرَاء، وَمن ترك الدعْوَة فقد عصى الله وَرَسُوله. قَوْله: (وَعَن المياثر) . جمع الميثرة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء: وَهِي فرَاش صَغِير من الْحَرِير محشو بالقطن يَجعله الرَّاكِب تَحْتَهُ. قَوْله: (والقسية) بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر(20/158)
الْحُرُوف: ضرب من ثِيَاب كتَّان مخلوط بحرير ينْسب إِلَى قَرْيَة بالديار المصرية. قلت: القسي، بَلْدَة كَانَت على سَاحل الْبَحْر بِالْقربِ من دمياط ركب عَلَيْهَا الْبَحْر فاندرست وَكَانَ ينسج فِيهَا القماش من الْحَرِير وَلَا يُوجد لَهُ نَظِير من حسنه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: هُوَ القز وَهُوَ الرَّدِيء من الْحَرِير أبدلت الزَّاي سينا. قَوْله: (والاستبرق) وَهُوَ مَا غلظ من الْحَرِير. وَهِي لَفْظَة أَعْجَمِيَّة معربة لأصلها باستبره (والديباج) الثِّيَاب المتخذة من الإبر يسم، فَارسي مُعرب وَقد يفتح أَوله وَيجمع على ديابيح وديابيج بِالْيَاءِ وَالْبَاء لِأَن أَصله دباج بِالتَّشْدِيدِ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمنْهِي عَنْهَا سِتّ لَا سبع؟ قلت: السَّابِع هُوَ الْحَرِير، وَسَيَجِيءُ صَرِيحًا فِي كتاب اللبَاس.
تابَعَهُ أبُو عَوَانَةَ والشَّيْبَانِيُّ عنْ أشْعَثَ فِي إفْشاءِ السّلاَمِ
أَي: تَابع أَبَا الْأَحْوَص سَلام بن سليم المذكورأبو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي فِي رواي عَن أَشْعَث الْمَذْكُور فِي إفشاء السَّلَام، يَعْنِي فِي رِوَايَة بِلَفْظ: إفشاء السَّلَام. لِأَن غَيره رُوِيَ رد السَّلَام وَهُوَ رِوَايَة شُعْبَة عَن أَشْعَث كَمَا مر فِي الْجَنَائِز فَإِن فِيهَا ورد السَّلَام، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الْأَشْرِبَة فِي: بَاب آنِية الْفضة حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن الْأَشْعَث إِلَى آخِره، وَلَفظه: وإفشاء السَّلَام. قَوْله: (والشيباني) أَي: تَابع أَبَا الْأَحْوَص أَيْضا أَبُو إِسْحَاق سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ، فِي رِوَايَة عَن أَشْعَث بِلَفْظ: إفشاء السَّلَام، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة عَن جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن أَشْعَث إِلَى آخِره: وإفشاء السَّلَام.
6715 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي حازِمٍ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: دَعا أبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عُرْسِهِ، وكَانَتِ امْرَأتُهُ يَوْمَئِذٍ خادِمَهُمْ وهْيَ العَرُوسُ قَالَ سَهْلٌ: تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أنْقَعتْ لهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فلَمَّا أكلَ سَقَتْهُ إيَّاهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فَإِن فِيهِ دَعْوَة أبي أسيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإجَابَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه، وَاسم أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار يروي عَن سهل بن سعد ويروي عَنهُ ابْنه عبد الْعَزِيز. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروي عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن سهل وَهُوَ سَهْو إِذْ لَا بُد أَن يكون بَينهمَا أَبوهُ أَو رجل آخر.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن الصَّباح.
قَوْله: (أَبُو أسيد) بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين: مصغر أَسد، وَقيل بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين، وَالصَّوَاب الأول واسْمه مَالك بن ربيعَة السَّاعِدِيّ، وَقيل: إِنَّه آخر من مَاتَ من الْبَدْرِيِّينَ سنة سِتِّينَ أَو خمس وَسِتِّينَ، لَهُ عقب بِالْمَدِينَةِ وبغداد. قَوْله: (وَكَانَت امْرَأَته) أَي: امْرَأَة أبي أسيد، وَاسْمهَا سَلامَة ابْنة وهب بن سَلامَة بن أُميَّة. قَوْله: (خادمهم) لفظ الْخَادِم يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَكَانَ ذَلِك قبل نزُول الْحجاب. قَوْله: (وَهِي الْعَرُوس) أَي: وَكَانَت خادمهم امْرَأَة أبي أسيد هِيَ الْعَرُوس. وَقد مر أَن الْعَرُوس يُطلق على كل من الزَّوْجَيْنِ، قَالَ صَاحب الْعين: رجل عروس فِي رجال عرس وَامْرَأَة عروس فِي نسَاء عرس، قَالَ: والعروس نعت اسْتَوَى فِيهِ الْمُذكر والمؤنث مَا داما فِي تعريسهما، أما إِذا عرس أَحدهمَا بِالْآخرِ فَالْأَحْسَن أَي يُقَال للرجل: معرس لِأَنَّهُ قد أعرس أَي: اتخذ عروسا. قَوْله: (تَدْرُونَ) همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة أَي: أَتَدْرُونَ؟ قَوْله: (مَا سقت) أَي: امْرَأَة أبي أسيد الْعَرُوس. قَوْله: (أنقعت) على لفظ الغائبة من الْمَاضِي من أنقعت الشَّيْء فِي المَاء، وَيُقَال: طَال إنقاع المَاء واستنقاعه ومادته نون وقاف وَعين مُهْملَة. قَوْله: (فَلَمَّا أكل) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الطَّعَام سقته إِيَّاه) أَي: سقت نَقِيع النَّبِي الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: إِجَابَة الدعْوَة وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِيهِ إِذا كَانَت لغير الْعرس من الدَّعْوَات، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَمَالك: يجب إتْيَان وَلِيمَة الْعرس وَلَا يجب إتْيَان غَيرهَا من الدَّعْوَات، وَمن شَرط الْإِجَابَة أَن لَا يكون هُنَاكَ مُنكر، وَقد رَجَعَ ابْن مَسْعُود وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. لما رَأيا تصاوير ذَات الْأَرْوَاح.
27 - (بابُ مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى الله ورسولَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من ترك الدعْوَة أَي: إِجَابَة الدعْوَة، وَظَاهره يَقْتَضِي أَن يكون الْمَعْنى من ترك دَعْوَة النَّاس وَلم يدع(20/159)
أحدا، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْعِصْيَان عِنْد ترك الْإِجَابَة لدلَالَة الحَدِيث عَلَيْهِ. فَإِن قلت: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلِيمَة حق، يَقْتَضِي الْعِصْيَان عِنْد ترك الدعْوَة. قلت: قد ذكرنَا أَن معنى: حق، غير بَاطِل وَلَا خلاف أَن الْوَلِيمَة فِي الْعرس سنة مَشْرُوعَة وَلَيْسَت بواجبة وَمَا ورد فِيهِ من الْأَمر فَمَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب.
7715 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رضيَ الله عَنهُ، أنَّهُ كانَ يَقُولُ: شَرُّ الطَّعامِ طَعامُ الوَلِيمةِ يُدْعَى لَهَا الأغْنِياءُ ويُتْرَكُ الفُقَرَاءُ، ومَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَضَى الله ورسولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الزُّهْرِيّ يروي عَن الرجلَيْن كِلَاهُمَا أعرج واسمهما عبد الرَّحْمَن: أَحدهمَا: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْهَاشِمِي. وَالثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن سعد المَخْزُومِي، وَالظَّاهِر أَن هَذَا هُوَ الأول لَا الثَّانِي. وَفِي رجال البُخَارِيّ: أعرج آخر ثَالِث يروي عَن أبي هُرَيْرَة اسْمه ثَابت بن عِيَاض الْقرشِي، وَيُقَال لَهُ: الْأَحْنَف. قلت: كَأَن الْكرْمَانِي: يستغرب هذاحتى ذكره، وَمثل هَذَا الَّذِي تتفق أَسمَاؤُهُم وَأَسْمَاء آبَائِهِم فِي الروَاة كثير، فَيحصل التَّمْيِيز بَينهم بالقرائن.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي وَهَذَا مَوْقُوف على أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ أَبُو عمرَان: رجل رُوَاة مَالك لم يصرحوا بِرَفْعِهِ، وَقَالَ فِيهِ روح بن الْقَاسِم عَن مَالك بِسَنَدِهِ. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَكَذَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي غرائب مَالك من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن مسلمة بن قعنب عَن مَالك، وَقَالَ ابْن بطال: أول هَذَا الحَدِيث مَوْقُوف وَآخره يَقْتَضِي رَفعه لِأَن مثله لَا يكون رَأيا.
قَوْله: (شَرّ الطَّعَام) ، قَالَ الْكرْمَانِي: مَا معنى قَوْله: شَرّ مُطلقًا، وَقد يكون بعض الْأَطْعِمَة شرا مِنْهَا، ثمَّ أجَاب بِأَن المُرَاد شَرّ أَطْعِمَة الولائم طَعَام وَلِيمَة يدعى لَهَا الْأَغْنِيَاء وَيتْرك الْفُقَرَاء، وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: أَي من شَرّ الطَّعَام، كَمَا يُقَال: شَرّ النَّاس من أكل وَحده، أَي: من شرهم، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ شرا لما ذكر عَقِيبه فَكَأَنَّهُ قَالَ: شَرّ الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة الت شَأْنهَا ذَلِك، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: شيخ شَيْخي التَّعْرِيف فِي الْوَلِيمَة للْعهد الْخَارِجِي إِذْ كَانَ من عَادَتهم دَعْوَة الْأَغْنِيَاء وَترك الْفُقَرَاء. قَوْله: (يَدعِي) إِلَى آخِره اسْتِئْنَاف بَيَان لكَونهَا شَرّ الطَّعَام فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير: من لِأَن الرِّيَاء شرك خَفِي. قَوْله: (وَمن ترك الدعْوَة) ، حَال وَالْعَامِل يدعى يَعْنِي: يدعى الْأَغْنِيَاء. لَهَا وَالْحَال أَن الْإِجَابَة وَاجِبَة فيجيب الْمَدْعُو وَيَأْكُل شَرّ الطَّعَام، وَوَقع فِي لفظ مُسلم: بئس الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة، وَفِي لفظ لَهُ مثل لفظ البُخَارِيّ. قَوْله: (وَيتْرك الْفُقَرَاء) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق معن بن عِيسَى بن مَالك: الْمَسَاكِين، بدل: الْفُقَرَاء. قَوْله: (وَمن ترك الدعْوَة) ، وَفِي لفظ مُسلم: فَمن لم يَأْتِ الدعْوَة، وَفِي لفظ: (وَمن لم يجب الدعْوَة) . قَوْله: (يَدعِي لَهَا) ، ويروي: يَدعِي إِلَيْهَا، وَالْجُمْلَة حَالية، وَفِي رِوَايَة ثَابت الْأَعْرَج: يمْنَعهَا من يَأْتِيهَا وَيَدعِي إِلَيْهَا من يأباها، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: بئس الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة يَدعِي إِلَيْهِ الشبعان وَيحبس عَنهُ الجيعان. قَوْله: (وَمن ترك الدعْوَة) أَي: إِجَابَة الدعْوَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي التَّرْجَمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة لِابْنِ عمر: (من دعى إِلَى وَلِيمَة فَلم يأتها فقد عصى الله وَرَسُوله) . فَهَذَا دَلِيل وجوب الْإِجَابَة لِأَن الْعِصْيَان لَا يُطلق إلاَّ على ترك الْوَاجِب، وَقَالَ ابْن بطال: لَا خلاف بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي وجوب الْإِجَابَة إِلَى دَعْوَة الْوَلِيمَة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: (نهينَا أَن نجيب دَعْوَة من يَدْعُو الْأَغْنِيَاء وَيتْرك الْفُقَرَاء) . وَقد دَعَا ابْن عمر فِي دَعوته الْأَغْنِيَاء والفقراء، فَجَاءَت قُرَيْش وَالْمَسَاكِين مَعَهم، فَقَالَ ابْن عمر للْمَسَاكِين: هَهُنَا اجلسوا لَا تفسدوا عَلَيْهِم ثِيَابهمْ فَإنَّا سنطعمكم مِمَّا يَأْكُلُون. وَقَالَ ابْن حبيب: وَمن فَارق السّنة فِي وَلِيمَة فَلَا دَعْوَة لَهُ وَلَا مَعْصِيّة فِي ترك إجَابَته، وَقد حَدثنِي ابْن الْمُغيرَة أَنه سمع سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: إِنَّمَا تَفْسِير إِجَابَة الدعْوَة إِذا دعَاك من لَا يفْسد عَلَيْك دينك وَلَا قَلْبك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَوله أَي: أول الحَدِيث مرغب عَن حُضُور الْوَلِيمَة بل محرم وَآخره مرغب فِيهِ، بل مُوجب. قلت: الْإِجَابَة(20/160)
لَا تَسْتَلْزِم الْأكل فيحضر وَلَا يَأْكُل، فالترغيب فِي الْإِجَابَة والتحذير عَن الْأكل انْتهى. قلت: الْمحرم فعل صَاحب الطَّعَام وَلَيْسَ يحرم الطَّعَام لدَعْوَة الْأَغْنِيَاء وَترك الْفُقَرَاء. وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يَقُول: أَنْتُم العاصون فِي الدعْوَة، تدعون من لَا يَأْتِي وتَدَعون من يأتيكم وَقَوله: والتحذير عَن الْأكل فِيهِ نظر لِأَن الْأكل مَأْمُور بِهِ إلاَّ إِذا كَانَ صَائِما لحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه مُسلم: إِذا دعِي أحدكُم فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فليطعم، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل أَي: فَليدع، وَفعله ابْن عمر وَمد يَده وَقَالَ: بِسم الله، كلوا. فَلَمَّا مد الْقَوْم أَيْديهم، قَالَ: كلوا فَإِنِّي صَائِم. وَقَالَ قوم: ترك الْأكل مُبَاح وَإِن لم يصم إِذا أجَاب الدعْوَة، وَقد أجَاب عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يَأْكُل. قلت: إِبَاحَة ترك الْأكل على زعم هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يسْتَلْزم التحذير عَنهُ كَمَا قَالَه الْكرْمَانِي فِيمَا مضى الْآن، وَالتَّرْغِيب عَن الْأكل. وَيُمكن أَن عليا ترك الْأكل لكَونه صَائِما، وَهَذَا ابْن عمر صرح بِأَنَّهُ صَائِم وَتَركه الْأكل كَانَ لكَونه صَائِما لوُجُوب التحذير عَنهُ.
37 - (بابُ مَنْ أجابَ إِلَى كُرَاعٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أجَاب إِلَى دَعْوَة فِيهَا كرَاع، وَفِي بعض النّسخ: بَاب من دعِي إِلَى كرَاع، والكراع، بِضَم الْكَاف وَتَخْفِيف الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة: مستدق السَّاق من الرجل وَمن حد الرسغ من الْيَد وَهُوَ من الْبَقر وَالْغنم بِمَنْزِلَة الوظيف من الْفرس وَالْبَعِير. وَقيل: الكراع مَا دون الكعب من الدَّوَابّ، وَقَالَ ابْن فَارس: كرَاع كل شَيْء طرفه.
8715 - حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبي حَمْزَةَ عنِ الأعْمشِ عنْ أبي حازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأجَبْتُ ولَوْ أهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ.
(انْظُر الحَدِيث 8652) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة، وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي الْمروزِي، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَأَبُو حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ، جَالس أَبَا هُرَيْرَة خمس سِنِين وَتُوفِّي فِي حُدُود الْمِائَة.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي كتاب الْهِبَة فِي: بَاب الْقَلِيل من الْهِبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن بشر بن خَالِد العسكري.
قَوْله: (لَو دعيت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (إِلَى كرَاع) المُرَاد بِهِ كرَاع الشَّاة، وَقد مر تَفْسِير الكراع آنِفا، وَقَالَ بَعضهم: وَزعم بعض الشُّرَّاح أَن المُرَاد بِالْكُرَاعِ فِي هَذَا الحَدِيث الْمَكَان الْمَعْرُوف بكراع الغميم بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَزعم أَنه أطلق ذَلِك على سَبِيل الْمُبَالغَة فِي الْإِجَابَة، وَلَو بعد الْمَكَان. انْتهى. قلت: هَذَا نفلة الْكرْمَانِي فِي شَرحه حَيْثُ قَالَ: فِي كرَاع، المُرَاد عِنْد الْجُمْهُور كرَاع الشَّاة، وَقيل: هُوَ كرَاع الغميم بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَوضِع على مراحل من الْمَدِينَة من جِهَة مَكَّة، هَذَا كَلَامه فِي شَرحه وَهُوَ نقل هَذَا بقوله، وَقيل: وَمَا زعم وَهُوَ بذلك فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: وَزعم بعض الشُّرَّاح؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَنقل بعض الشُّرَّاح كَذَا وَكَذَا. قَوْله: (لَو أهدي) على صِيغَة الْمَجْهُول من الإهداء وَاللَّام فِي (لَأَجَبْت) وَفِي (لقبلت) للتَّأْكِيد، وَصرح الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء بِأَنَّهُ كرَاع الغميم حَيْثُ قَالَ: وَلَو دعيت إِلَى كرَاع الغميم، وَكَانَ يَنْبَغِي لهَذَا الْقَائِل أَن يناقشه فِي هَذِه الزِّيَادَة، زِيَادَة على قَوْله، وَلَا أصل لهَذِهِ الزِّيَادَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: دَلِيل على حسن خلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتواضعه وجبره لقلوب النَّاس، وعَلى قبُول الْهَدِيَّة وَإِن كَانَت قَليلَة، وَإجَابَة من يَدْعُو الرجل إِلَى منزله، وَلَو أعلم أَن الَّذِي يَدعُوهُ إِلَيْهِ قَلِيل، وَقَالَ الْمُهلب: لَا باعث على الدعْوَة إِلَى الطَّعَام إلاَّ صدق الْمحبَّة وسرور الدَّاعِي بِأَكْل الْمَدْعُو من طَعَامه والتحبب إِلَيْهِ بالمواكلة وتوكيد الذمام مَعَه بهَا، فَلذَلِك حض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِجَابَة وَلَو كَانَ الْمَدْعُو إِلَيْهِ نزرا.
47 - (بابُ إجابَةِ الدَّاعِي فِي العُرْسِ وغَيْرِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِجَابَة الدَّاعِي، أَي: فِي إِجَابَة الْمَدْعُو الدَّاعِي. والمصدر مُضَاف إِلَى مَفْعُوله، وطوى ذكر الْفَاعِل. قَوْله: (فِي الْعرس) بِضَم الرَّاء وسكونهاوهو طَعَام الْوَلِيمَة، وَهُوَ الَّذِي يعْمل عِنْد الْعرس يُسمى عرسا باسم سَببه. قَوْله: (وَغَيره) أَي: وَغير الْعرس أَي: وَإجَابَة الدَّاعِي فِي غير الْعرس نَحْو طَعَام الْخِتَان وَطَعَام قدوم الْمُسَافِر وَنَحْو ذَلِك، وَرُوِيَ مُسلم من حَدِيث الزبيدِيّ عَن نَافِع(20/161)
عَن عبد الله بن عر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من دعِي إِلَى عرس وَنَحْوه فليجب.
9715 - حدَّثنا عَليُّ بنُ عبْدِ الله بنِ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا الحَجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: أخبرَني مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عبْدَ الله بنَ عُمَرَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أجِيبُوا هاذِهِ الدَّعْوَة إذَا دُعِيتُمْ لَها، قَالَ: وكانَ عبْدُ الله يأْتي الدَّعْوَةَ فِي العُرْسِ وغَيْرِ العُرْسِ وهْوَ صائِمٌ.
(انْظُر الحَدِيث 3715) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فيقوله: (وَكَانَ عبد الله) إِلَى آخِره. وَعلي بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْبَغْدَادِيّ أخرج البُخَارِيّ عَنهُ هُنَا فَقَط، وَسُئِلَ البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: متقن، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح: حَدثنِي هَارُون بن عبد الله حَدثنَا حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج قَالَ: أَخْبرنِي مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر إِلَى آخِره نَحوه، وَفِي آخِره: ويأتيها وَهُوَ صَائِم.
قَوْله: (هَذِه الدعْوَة) أَي: دَعْوَة الْوَلِيمَة. قَوْله: (قَالَ) الْقَائِل هُوَ نَافِع قَوْله: (وَهُوَ صَائِم) الْوَاو فِيهِ لحَال، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الصَّوْم لَيْسَ بِعُذْر فِي ترك الْإِجَابَة، وَفَائِدَة حُضُوره إِرَادَة صَاحب الْوَلِيمَة التَّبَرُّك بِهِ والتجمل بِهِ وَالِانْتِفَاع بدعائه وَنَحْو ذَلِك.
وَهل يسْتَمر على صَوْمه أَو يسْتَحبّ لَهُ أَن يفْطر إِن كَانَ صَوْمه تَطَوّعا فَعِنْدَ أَكثر الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَابِلَة: إِن كَانَ يشق على صَاحب الدعْوَة صَوْمه فَالْأَفْضَل الْفطر وإلاَّ فالصوم، وَأطلق الرَّوْيَانِيّ اسْتِحْبَاب الْفطر، وَقَالَ أَصْحَابنَا: يَنْبَغِي للرجل أَن يُجيب دَعْوَة الْوَلِيمَة وَإِن لم يفعل فَهُوَ آثم. وَإِن كَانَ صَائِما أجَاب ودعا، وَإِن كَانَ غير صَائِم أكل.
57 - (بابُ ذَهابِ النِّساءِ والصِّبْيانِ إِلَى العُرْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز ذهَاب النِّسَاء وَالصبيان إِلَى وَلِيمَة الْعرس، وَعقد هَذِه التَّرْجَمَة لِئَلَّا يتخيل عدم جَوَاز ذَلِك.
0815 - حدَّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ المُبَارَكِ حَدثنَا عبد الْوَارِث حَدثنَا عبدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ بنِ مالِكٍ، رَضِي الله عنهِ، قَالَ: أبْصَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِساءً وصِبْيانا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فقامَ مُمْتَنّا فَقَالَ: اللهُمَّ! أنْتُمْ مِنْ أحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ.
(انْظُر الحَدِيث 5873) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك بن عبد الله العيشي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: يكنى أَبَا مُحَمَّد، وَقيل: أَبَا بكر، مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد.
وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم بصريون.
والْحَدِيث مضى فِي فَضَائِل الْأَنْصَار فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْأَنْصَار: أَنْتُم أحب النَّاس إِلَى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث إِلَى آخِره.
قَوْله: (أبْصر) وَفِي فَضَائِل الْأَنْصَار: رأى، مَوضِع: أبْصر، قَوْله: (مُقْبِلين) نصب على الْحَال. قَوْله: (فَقَامَ ممتنا) بِضَم الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة الْمُثَنَّاة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون أَي: قَامَ قيَاما قَوِيا مَأْخُوذ من المتنة بِضَم الْمِيم وَهُوَ الْقُوَّة، وَحَاصِل الْمَعْنى: قَامَ قيَاما مسرعا مشتدا فِي ذَلِك فَرحا بهم، وَيُقَال: ممتنا من الامتنان أَي: منعما متفضلاً مكرما لَهُم، هَكَذَا فسره أَبُو مَرْوَان بن سراج وَمَال إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَقَالَ: لِأَن من قَامَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأكرمه بذلك فقد امتن عَلَيْهِ بِشَيْء لَا أعظم مِنْهُ، وَنقل ابْن بطال عَن الْقَابِسِيّ، قَالَ: قَوْله: (ممتنا) يَعْنِي: متفضلاً عَلَيْهِم بذلك فَكَأَنَّهُ قَالَ: يمتن عَلَيْهِم بمحبته، ويروي متينا، على وزن كريم أَي: قَامَ قيَاما مستويا منتصبا طَويلا وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن: فَقَامَ يمشي، قَالَ عِيَاض: وَهُوَ تَصْحِيف، وَوَقع فِي رِوَايَة فَضَائِل الْأَنْصَار: فَقَامَ ممثلاً بِضَم الْمِيم الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة الْمَكْسُورَة أَي: منتصبا قَائِما متكلفا نَفسه، وَضَبطه أَيْضا: ممثلاً بِضَم الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَقد تفتح. وَقَالَ ابْن التِّين: وَأَصله فِي اللُّغَة من: مثل يمثل من بَاب كرم يكرم، وَمثل يمثل من بَاب نصر ينصر مثولاً، فَهُوَ مائل إِذا انتصب قَائِما وَوَقع فِي رِوَايَة الأسماعيلي: مثيلا، على وزن كريم فعيل بِمَعْنى فَاعل. قَوْله: (اللَّهُمَّ) ذكره تبركا، وَكَأَنَّهُ اسْتشْهد بِاللَّه فِي ذَلِك تَأْكِيدًا لصدقه.
وَفِي التَّوْضِيح وَفِيه: اسْتِحْسَان شُهُود النِّسَاء وَالصبيان للأعراس لِأَنَّهَا شَهَادَة لَهُم علينا ومبالغة فِي الإعلان بِالنِّكَاحِ.(20/162)
67 - (بابٌ هَلْ يَرْجِعُ إذَا رأى مُنْكَرا فِي الدَّعْوَةِ؟)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ هَل يرجع الْمَدْعُو إِذا رأى شَيْئا مُنْكرا فِي مجْلِس الدعْوَة؟ وَإِنَّمَا ذكره بالاستفهام لمَكَان الْخلاف فِيهِ، وَلم يشر فِي الْبَاب إِلَى ذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور فِي الْبَاب أَنه إِذا رأى مُنْكرا يرجع. قلت: قَالَ صَاحب الْهِدَايَة: إِجَابَة الدعْوَة سنة فَلَا يَتْرُكهَا لما اقْترن بهَا من الْبِدْعَة من غَيرهَا، يَعْنِي: لَا يتْرك السّنة لأجل حرَام اقْترن بهَا، وَهِي فِي غَيرهَا كَصَلَاة الْجِنَازَة وَاجِب الْإِقَامَة وَإِن حضرتها نياحة يَعْنِي: لَا يَتْرُكهَا لأجل النِّيَاحَة الَّتِي فِي غَيرهَا، فَإِن قدر على الْمَنْع مَنعهم، يَعْنِي: إِذا كَانَ صَاحب شَوْكَة أَو كَانَ ذَا جاه أَو كَانَ عَالما مقتدي مسموع الْكَلِمَة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْمَنْع، وَإِن لم يقدر يصبر وَلَا يخرج لما قُلْنَا، وَإِن كَانَ المنكرعلى الْمَائِدَة لَا يقْعد وَإِن لم يكن مقتدى، وَهَذَا كُله بعد الْحُضُور، وَلَو علم قبل الْحُضُور لَا يحضر لِأَن إِجَابَة الدعْوَة إِنَّمَا تلْزم إِذا كَانَت على وَجه السّنة.
وَرَأى ابنُ مَسْعُودٍ صُورَةٍ فِي البَيْتِ فَرَجَعَ
عبد الله بن مَسْعُود، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والأصيلي والقابسي وعبدوس، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: وَالْأول تَصْحِيف فِيمَا أَظن، فَإِنِّي لم أَرَ الْأَثر الْمُعَلق إلاَّ عَن أبي مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو. قلت: إِن بعض الظَّن إِثْم وَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته الْأَثر الْمَذْكُور إلاَّ عَن أبي مَسْعُود أَن لَا يكون أَيْضا لعبد الله بن مَسْعُود، مَعَ أَن هَذَا الْقَائِل قَالَ: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَقع لعبد الله بن مَسْعُود، فَإِذا كَانَ الِاحْتِمَال مَوْجُودا كَيفَ يحكم بالتصحيف بِالظَّنِّ؟
ودَعا ابنُ عُمَرَ أَبَا أيُّوبَ فَرأى فِي البَيْتِ سِتْرا علَى الجِدَارِ، فَقَالَ ابْن عُمَرَ: غَلَبَنا علَيْهِ النِّساءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أخْشَى علَيْهِ فلَمْ أكُنْ أخْشَى علَيْكَ، وَالله لَا أطْعَمُ لَكُمْ طَعَاما، فَرَجَعَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ويوضح هَذَا الْأَثر أَن معنى: هَل يرجع؟ بالاستفهام جَانب الْإِثْبَات أَي: دَعَا عبد الله بن عمر أَبَا أَيُّوب خَالِد بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَكَانَت دَعوته فِي عرس ابْنه سَالم بن عبد الله، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو أَيُّوب إِلَى بَيت عبد الله رأى فِي جِدَار الْبَيْت ستارة، فَأنْكر على عبد الله، فَقَالَ ابْن عمر: غلبنا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول: وَالنِّسَاء بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: فَقَالَ: (من كنت) إِلَى آخِره أَي: إِن كنت أخْشَى على أحد يعْمل فِي بَيته مثل هَذَا الْمُنكر مَا كنت أخْشَى عَلَيْك. وَهَذَا الْأَثر الْمُعَلق وَصله أَحْمد فِي كتاب الْوَرع ومسدد فِي مُسْنده، وَمن طَرِيقه الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: أعرست فِي عهد أبي، فَأذن أبي النَّاس فَكَانَ أَبُو أَيُّوب فِيمَن أذنا، وَقد ستروا بَيْتِي ببجاد أَخْضَر، فَأقبل أَبُو أَيُّوب فَاطلع فَرَآهُ، فَقَالَ: با عبد الله أتسترون الْجِدَار؟ فَقَالَ أبي واستحيى: غلبنا عَلَيْهِ النِّسَاء يَا أَبَا أَيُّوب. فَقَالَ: من خشيك أَن يغلبه النِّسَاء، فَذكره والبجاد، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم: الكساء.
1815 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنَّها أخْبَرَتْهُ: أنَّها اشْتَرَتْ نُمْرَقَةً فِيها تَصاوِيرُ، فلَمَّا رَآهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قامَ علَى البابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول الله! أتُوبُ إِلَى الله وَإِلَى رسُولهِ ماذَا أذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا بالُ هاذِهِ النمْرُقَةِ؟ قالَتْ: فقُلْتُ: اشْتَرَيْتُها لَكَ لِتَقْعَدُ علَيْها وتَوَسدَها، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ أصْحابَ هاذِهِ الصُّور يُعَذَّبُونَ يَوْم القِيَامَةِ، ويُقالُ لَهُمْ: أحْيُوا ماخَلقْتُمْ، وَقَالَ: إنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ المَلاَئِكَةُ..
قيل لَا مُطَابقَة فِيهِ، لِأَن امْتنَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الدُّخُول فِي بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لم يكن لأجل الْمُنكر فِي الدعْوَة، وَإِنَّمَا كَانَ لأجل الصُّورَة، والترجمة فِيمَا إِذا رأى مُنْكرا هَل لَهُ أَن يرجع؟ وَقَالَ بَعضهم: مَوضِع التَّرْجَمَة(20/163)
مِنْهُ قَوْلهَا: (قَامَ على الْبَاب وَلم يدْخل) قلت: هَذَا مثل الأول وَلَيْسَ فِيهِ مَا يجدي فِي وَجه الْمُطَابقَة، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: لما كَانَ من جملَة الْمُنْكَرَات الَّتِي تَقْتَضِي جَوَاز ترك إِجَابَة الدعْوَة وجود الصُّورَة فِيهَا، احْتَاجَ إِلَى بَيَان كَون الصُّورَة من جملَة الْمَوَانِع عَن حُضُور الدعْوَة، فَذكر هَذَا الحَدِيث الَّذِي فِيهِ مَا يَقْتَضِي منع الْحُضُور فِي الْمَكَان الَّذِي فِيهِ الصُّورَة، سَوَاء كَانَ فِيهِ دَعْوَة أَو لَا.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث هُنَا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن نَافِع مولى ابْن عمر عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق عَن عمته عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه فِي الْمَلَائِكَة فِي: بَاب إِذا قَالَ أحدكُم: آمين، عَن مُحَمَّد بن مخلد عَن ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن نَافِع إِلَخ وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (نمرقة) بِضَم النُّون، وَهُوَ الوسادة الصَّغِيرَة وبالكسر لُغَة، والتصاوير التماثيل، كَذَا قَالَه فِي الْمغرب قَوْله: (وتوسدها) أَي: وتتوسدها فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَاللَّام فِيهِ مقدرَة أَي: لتوسدها، قَوْله: (أحيوا) الْأَمر فِيهِ للتعجيز.
77 - (بابُ قِيامِ المَرْأةِ علَى الرِّجالِ فِي العُرْسِ وخِدْمَتِهِمْ بالنَّفْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قيام الْمَرْأَة على الرِّجَال من: قَامَ فلَان على الشَّيْء إِذا ثَبت عَلَيْهِ، وَتمسك بِهِ. قَوْله: (وَخدمَتهمْ) أَي: وعَلى خدمتهم. قَوْله: (بِالنَّفسِ) أَي: بِنَفسِهَا.
2815 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حَدثنَا أبُو غَسَّانَ قَالَ: حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلٍ قَالَ: لمّا عَرَّسَ أبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحابَهُ فَما صَنَعَ طَعاما وَلَا قَرَّبَهُ إلَيْهِمْ إلاَّ امْرَأتهُ أُمُّ أُسَيْدٍ، بَلَّتْ تَمْرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، فلَمَّا فَرَغَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الطّعامِ أَمَاثَتْهُ لهُ فَسَقَتْهُ تُنْحِنُهُ بِذَلِكَ.
. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (إلاَّ امْرَأَته أم سيد بلت تمرات من تور) وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: مُحَمَّد بن مطرف، بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، وَسَهل ين سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن مُحَمَّد بن سهل بن عَسْكَر عَن ابْن أبي مَرْيَم.
قَوْله: (لما عرس) أَي: اتخذ عروسا. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: أعرس وَلَا يُقَال: عرس، وَهَذَا حجَّة عَلَيْهِ. قَوْله: (أَبُو أسيد) ، بِضَم الْهمزَة على الْأَصَح واسْمه مَالك بن ربيعَة. قَوْله: (أم أسيد) بِضَم الْهمزَة وَهِي مِمَّن وَافَقت كنيتها كنية تزَوجهَا، وَاسْمهَا سَلامَة بنت وهيب. قَوْله: (بلت) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد اللَّام من البلل وَوَقع فِي شرح ابْن التِّين (ثَلَاث تمرات) قيل: إِنَّه تَصْحِيف. قَوْله: (فِي تور) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره رَاء، قَالَ الدَّاودِيّ: التور قدح من أَي شَيْء كَانَ، وَيُقَال: إِنَاء يكون من نُحَاس وَغَيره، وَقد بيَّن هُنَا أَنه من حِجَارَة. قَوْله: (من اللَّيْل) يتَعَلَّق بقوله: بلت. قَوْله: (أماثته) . بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقع هَكَذَا رباعيا، وَأهل اللُّغَة يَقُولُونَ: ثلاثيا عاثنه بِغَيْر ألف أَي: مرسته بِيَدِهَا، يُقَال: ماثه يموثه ويميثه بِالْوَاو وبالياء، وَقَالَ الْخَلِيل: مثت الْملح فِي المَاء مثا أذبته، وَقد أنماث، وَعَن الْهَرَوِيّ: أماثه لُغَتَانِ بِالْألف وبدونها قَوْله: (لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي (فسقته) وَفِي (تتحفه) يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمعنى: تتحفه من الإتحاف تقدم لَهُ تحفة، والتحفة فِي الأَصْل طرفَة الْفَاكِهَة، ثمَّ اسْتعْمل فِي غير الْفَاكِهَة من الألطاف. هَذَا هَكَذَا رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: تحفة بذلك على وزن لقْمَة، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي هَدِيَّة، وَعَن الْأصيلِيّ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَة مثل رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي أُخْرَى: تحفة، بِفَتْح التَّاء وَضم الْحَاء وَالْفَاء الْمُشَدّدَة: أَي تخدمه وَتعطف عَلَيْهِ بذلك، أَي: بِالَّذِي بلته أم أسيد، وَفِي الْمثل: من حفنا أَو رقنا فليقتصد أَي: من خدمنا وَتعطف علينا، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن: فسقته تخصه بذلك، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة. فَإِن قلت: كَيفَ إعرابه فِي هَذِه الْوُجُوه الْمَذْكُورَة؟ قلت: فِي رِوَايَة: تحفه وحفه وتخصه، محلهَا الصب على الْحَال من الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي قَوْله: فسقته، وَيجوز إِن يكون مَنْصُوبًا بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره: فسقته وأرادت تحفته بذك، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على الْحَال على معنى: فسقته حَال كَونهَا متحفة بذلك.
وَفِيه: جَوَاز خدمَة الْمَرْأَة زَوجهَا وَمن يَدعُوهُ عِنْد الْأَمْن(20/164)
من الْفِتْنَة، وَجَوَاز الشّرْب بِمَا لَا يسكر فِي الْوَلِيمَة، وَجَوَاز، إِيثَار كَبِير الْقَوْم فِي الْوَلِيمَة بِشَيْء دون الْقَوْم.
87 - (بابُ النَّقِيعِ والشَّرَابِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فِي العُرْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتِّخَاذ النقيع، وَهُوَ التَّمْر الَّذِي ينقع فِي المَاء ليخرج حلاوته، وَكَذَلِكَ الزَّبِيب. قَوْله: (وَالشرَاب) ، من عطف الْعَام على الْخَاص لِأَنَّهُ أَعم من نَقِيع التَّمْر وَغَيره. قَوْله: (الَّذِي لَا يسكر) صفة الشَّرَاب، قيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا أسكر لَا يجوز شربه، وَهُوَ أَيْضا قيد فِي النقيع.
3815 - حدَّثنا يحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثَنا يَعْقُوبُ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ القارِيُّ عنْ أبي حازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ: أنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِديَّ دَعا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِعُرْصِهِ فَكانَتِ امْرَأتُهُ خادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وهْي العُروسُ، فقالَتْ: أوْ قَالَ: أتَدْرُونَ مَا أنْقَعَتْ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أنْقَعَتْ لهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث سهل الَّذِي مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله. والقارىء، بِالْقَافِ وَالرَّاء وَتَشْديد الْيَاء نِسْبَة إِلَى قارة بنوا لهون بن خُزَيْمَة بن مدركة بن الياس بن مُضر.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ: أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة أَيْضا. قَوْله: (لعرسه) ، أَي: لأجل عرسه. قَوْله: (خادمهم) الْخَادِم يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (وَهِي الْعَرُوس) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فَقَالَت أَو قَالَ) بِالشَّكِّ. فِي غير رِوَايَة الْكشميهني، وللكشميهني: فَقَالَت: أَتَدْرُونَ، بِلَا شكّ، وعَلى رِوَايَة غَيره مَعْنَاهُ: فَقَالَت امْرَأَة أَو قَالَ سهل: وَتقدم فِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة، قَالَ سهل: وَهِي الرِّوَايَة الْمُعْتَمدَة لِأَن الحَدِيث من رِوَايَة سهل وَلَيْسَ لامْرَأَته أم أسيد فِيهِ رِوَايَة، فعلى هَذَا قَوْله: (أنقعت) فِي الْمَوْضِعَيْنِ على صِيغَة الْمَاضِي للغائبة، وعَلى قَول الْكشميهني على صِيغَة الْمُتَكَلّم، يَعْنِي بِضَم التَّاء، فَافْهَم.
97 - (بابُ المُدَارَاةِ مَعَ النِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مداراة النِّسَاء، من داريت زيدا أَي: جاملته ولاينته. وَهِي بِغَيْر همز، وَأما الْهَمْز فَمَعْنَاه: دافعته وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا، إلاَّ الْمَعْنى الأول، وَقد سوى أَبُو عُبَيْدَة بَينهمَا فِي: بَاب مَا يهمز، والمداراة أصل الألفة واستمالة الْقُلُوب من أجل مَا جبل الله عَلَيْهِ وطبعهم من اخْتِلَاف الْأَخْلَاق، وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مداراة النَّاس صَدَقَة.
وقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّما المَرْأةُ كالضِّلَعِ
وَقَول: بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: المداراة، أَي: وَفِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا الْمَرْأَة كالضلع) هَذَا تَعْلِيق، وَوَصله البُخَارِيّ بِحَدِيث الْبَاب الَّذِي رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة، والضلع بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وَقد تسكن اللَّام، إِنَّمَا قَالَ: كالضلع لِأَنَّهَا عوجاه كالضلع. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّمَا قَالَ: كالضلع، لِأَنَّهَا خلقت من ضلع آدم. وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن حَوَّاء خلقت من ضلع آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الأقصر الْأَيْسَر وَهُوَ نَائِم. وَيُقَال: نَام آدم نومَة فاستل الْملك ضلعه فحلقت مِنْهُ حواه فَاسْتَيْقَظَ وَهِي جالسة عِنْده فَضمهَا إِلَيْهِ.
4815 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: المَرْأةُ كالضِّلَعِ إنْ أقَمْتَها كَسَرْتَها وإنِ اسْتَمْتَعْتَ بِها اسْتَمْتَعْتَ بِها وفِيها عِوَجٌ.
(انْظُر الحَدِيث 1333 وطرفه) .
مطابقته للشطر الثَّانِي من التَّرْجَمَة وَلَكِن فِي التَّرْجَمَة بِلَفْظ: إِنَّمَا، وَفِي حَدِيث الْبَاب بِدُونِ لفظ: إِنَّمَا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من الْوَجْه الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ بِلَفْظ: إِنَّمَا فِي أَوله كَمَا فِي التَّرْجَمَة.
وَقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق خَالِد بن مخلد بِلَفْظ: إِن الْمَرْأَة، وَكَذَا أخرجه مُسلم من رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج بِلَفْظ: إِن الْمَرْأَة خلقت من ضلع لن تستقيم لَك(20/165)
على طَريقَة، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (الْمَرْأَة) مُبْتَدأ و (كالضلع) خَبره وَقَوله: (إِن أقمتها) إِلَى آخِره بَيَان لقَوْله: كالضلع، وَمعنى: إِن أقمنها إِن أردْت إِقَامَتهَا كسرتها. قَوْله: (وفيهَا عوج) الْوَاو فِيهِ للْحَال وَهُوَ بِكَسْر الْعين وَفتح الْوَاو، وَقَالَ ابْن السّكيت: هُوَ بِفَتْح الْعين فِيمَا كَانَ منتصبا كالحائط وَالْعود مَا كَانَ فِي بِسَاط أَو دين أَو معاش فَهُوَ بِكَسْر الْعين، يُقَال فِي دينه عوج، قَالَ الله عز وَجل: {لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا} (طه: 701) وَقَالَ: هُوَ بِالْفَتْح فِي كل شَيْء مرئي وبالكسر فِيمَا لَيْسَ بمرئي كالرأي وَالْكَلَام، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: هُوَ بِالْكَسْرِ فيهمَا جَمِيعًا ومصدرهما بِالْفَتْح مَعًا، حَكَاهُ ثَعْلَب عَنهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ بِالْفَتْح مصدر قَوْلك: عوج، بِالْكَسْرِ فَهُوَ أعرج وَالِاسْم العوج بِكَسْر الْعين.
08 - (بابُ الوَصاةِ بالنِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فب بَيَان الوصاة، بِفَتْح الْوَاو وَالصَّاد الْمُهْملَة وَهُوَ بِمَعْنى: الْوَصِيَّة، وَقيل: هُوَ لُغَة فِي الْوَصِيَّة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الْوِصَايَة.
5815 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ نَصرٍ حَدثنَا الحُسَيْنُ الجُعْفِيُّ عنْ زَائِدَةَ عنْ مَيْسَرَةَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّه واليَوْمِ الآخِر فَلا يُؤْذِي جارَه. واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرا فإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شَيْء فِي الضِّلَع أعْلاَهُ فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرا.
(انْظُر الحَدِيث 1333 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اسْتَوْصُوا بِالنسَاء خيرا) . وَإِسْحَاق ين نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، كَانَ ينزل بِالْمَدِينَةِ بِبَاب بني سعد، وَالْحُسَيْن بِضَم الْحَاء هُوَ ابْن عَليّ بن الْوَلِيد الْجعْفِيّ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالفاء، قَالَ الرشاطي: الْجعْفِيّ فِي مذْحج ينْسب إِلَى جعفي بن سعد الْعَشِيرَة بن مَالك، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج وزائدة هُوَ ابْن قدامَة، وميسرة ضد الميمنة ابْن عمار الْأَشْجَعِيّ، وَأَبُو حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ مرلى عزة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُشَدّدَة.
والْحَدِيث قد مضى فِي بَدْء الْخلق فِي: بَاب قَول الله عز وَجل {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة} (الْبَقَرَة: 03، وَالْحجر: 82، وص: 17) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي كريب ومُوسَى بن حزَام كِلَاهُمَا عَن حُسَيْن بن عَليّ عَن زَائِدَة عَن ميسرَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) أَي: من كَانَ يُؤمن بالمبدأ والمعاد (فَلَا يُؤْذِي جَاره) وَمَفْهُومه من آذاه لَا يكون مُؤمنا، وَلَكِن الْمَعْنى لَا يكون كَامِلا فِي الْإِيمَان.
قَوْله: (وَاسْتَوْصُوا) قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الاستئصاء قبُول الْوَصِيَّة وَالْمعْنَى: أوصيكم بِهن خيرا فاقبلوا وصيتي فِيهِنَّ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ من ضلع، واستعير الضلع للعوج أَي: خُلِقْنَ خلقا فِيهِ اعوجاج فكأنهن خُلِقْنَ من أصل معوج فَلَا يتهيأ الِانْتِفَاع بِهن إلاَّ بمداراتهن وَالصَّبْر على اعوجاجهن. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْأَظْهر أَن السِّين للطلب مُبَالغَة أَي: اطْلُبُوا الْوَصِيَّة من أَنفسكُم فِي حقهن بِخَير، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: السِّين للْمُبَالَغَة أَي: يسْأَلُون أنفسهم الْفَتْح عَلَيْهِم، كالسين فِي استعجبت، وَيجوز أَن يكون من الْخطاب الْعَام أَي: يستوصي بَعْضكُم من بعض فِي حقهن.
وَفِيه: الْحَث على الرِّفْق وَأَنه لَا مطمع فِي استقامتهن. قَوْله: (وَإِن أَعْوَج شَيْء فِي الضلع أَعْلَاهُ) ذكر هَذَا لتأكيد معنى الْكسر لِأَن الْإِقَامَة أظهر فِي الْجِهَة الْأَعْلَى أَو بَيَان أَنَّهَا خلقت من أَعْوَج أَجزَاء الضلع، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خُلِقْنَ من أَعلَى الضلع وَهُوَ أعوجاجه، وَإِنَّمَا قَالَ: أَعْلَاهُ، وَلم يقل: أَعْلَاهَا، مَعَ أَن الضلع مُؤَنّثَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لم يزل أَعْوَج) وَلم يقل: عوجاه، لِأَن تأنيثه لَيْسَ بحقيقي، فَإِن قيل: العوج من الْعُيُوب فَكيف يَصح مِنْهُ أفعل التَّفْضِيل؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ أفعل الصّفة أَو أَنه شَاذ، أَو الِامْتِنَاع عِنْد الالتباس بِالصّفةِ، فَحَيْثُ يُمَيّز عَنهُ بِالْقَرِينَةِ جَازَ الْبناء عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة مُسلم: لن تستقيم لَك على طَريقَة فَإِن استمتعت بهَا استمتعت بهَا وَبهَا عوج، وَإِن ذهبت تقيمها كسرتها وَكسرهَا طَلاقهَا. وَفِيه: إِشْعَار باستحالة تقويمها، أَي: إِن كَا لَا بُد من الْكسر فَكَسرهَا طَلاقهَا. قَالَ:
(هِيَ الضلع العوجاء لست تقيمها ... أَلاَ إنَّ تَقْوِيم الضلوع انكسارها)(20/166)
(أتجمع ضعفا واقتدارا على الْهوى ... أَلَيْسَ عجيبا ضعفها واقتدارها)
7815 - حدَّثنا أبُو نعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عبْدِ الله بنِ دِينارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: كُنّا نَتَّقِي الكَلاَمَ والإنْبِساطَ إِلَى نِسائِنا علَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَيْبَةَ أنْ يَنْزِلَ فِينا شَيْءٌ، فلَمّا تُوُفِّيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَكَلْمنا وانْبَسَطْنا.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين هَذَا الحَدِيث لِأَن فِيهِ الْأَخْبَار بِأَنَّهُم كَانُوا يَتَّقُونَ الْخَوْض فِي الْكَلَام والانبساط إِلَى النِّسَاء فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يتَعَلَّق بالترجمة. قلت: يُمكن أَن تُؤْخَذ الْمُطَابقَة من قَوْله: (وانبسطنا) لِأَن الانبساط إلَيْهِنَّ من جملَة الْوِصَايَة بِهن.
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب ذكره وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (كُنَّا نتقي) أَي: نجتنب الْكَلَام الَّذِي يخْشَى مِنْهُ سوء الْعَاقِبَة. قَوْله: (والانبساط) أَي: ونتقي أَيْضا الانبساط إِلَى نسائنا، وَأَرَادَ بِهِ التَّقْصِير فِي حقهن وَترك الرِّفْق بِهن. قَوْله: (هَيْبَة) مفعول لَهُ. لقَوْله: (تتقي) أَي: نتقي لخوف (أَن ينزل فِينَا) أَي فِي شَأْننَا شَيْء من الْوَحْي، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: خوف النُّزُول. قَوْله: (تكلمنا وانبسطنا) يُرِيد بِهِ تغبير شَأْنهمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور من حَدِيث أبي بن كَعْب، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا وجهنا وَاحِد، قبض نَظرنَا هَكَذَا وَهَكَذَا، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أنس بن مَالك، قَالَ: لما كُنَّا الْيَوْم الَّذِي دخل فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة أَضَاء مِنْهَا كل شَيْء، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ أظلم مِنْهَا كل شَيْء، وَمَا نفضنا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا فلوبنا.
18 - (بابٌ {قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارَا} (التَّحْرِيم: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم} (التَّحْرِيم: 6) يَعْنِي: احْفَظُوا أَنفسكُم بترك الْمعاصِي وَفعل الْخيرَات والطاعات، وقو أَمر من: وقى يقي، أَصله: أوقيوا، لِأَنَّك تَقول: أوقِ أوقيا أوقيوا، واستثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد سلب حركتها فحذفت فَصَارَ: أوقوا، وحذفت الْوَاو تبعا لفعله الَّذِي أَخذ مِنْهُ أَعنِي: يقي، لِأَن أَصله: يوقي، فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة واستغنت عَن الْهمزَة فَصَارَ، قوا، على وزن: عوا، لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ، فَاء الْفِعْل ولامه، فَافْهَم. قَوْله: {وأهليكم نَارا} (التَّحْرِيم: 6) يَعْنِي: مُرُوهُمْ بِالْخَيرِ وانهوهم عَن الشَّرّ وعلموهم وأدبوهم، وَقيل: وأهليكم بِأَن تأخذوهم بِمَا تأخذون بِهِ أَنفسكُم تقوهم بذلك {نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} (التَّحْرِيم: 6) .
8815 - حدَّثنا أبُو النُّعْمانِ حَدثنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ عنْ عبدِ الله قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ، فالإمامُ راعٍ وهْوَ مَسْؤُولٌ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِهِ وهْوَ مَسْؤُولٌ، والمَرْأةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها وهْيَ مَسْؤُولَةُ، والعَبْدُ راعٍ علَى مَال سَيِّدِهِ وهْوَ مَسْؤُولٌ ألاَ فكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالرجل رَاع على أَهله) لِأَن أهل الرجل من جملَة رَعيته، وَقَالَ زيد بن أسلم: لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالُوا: يَا رَسُول الله {هَذَا وقينا أَنْفُسنَا، فَكيف بأهلينا؟ قَالَ: تأمرونهم بِطَاعَة الله تَعَالَى وتنهونهم عَن معاصي الله. وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَيُطلق الْأَهْل على زَوْجَة الرجل كَقَوْل أُسَامَة فِي حَدِيث الْإِفْك: أهلك يَا رَسُول الله} والأهل إنم يُطلق على تلْزمهُ نَفَقَته شرعا كَقَوْل نوح (إِن ابْني من أَهلِي) وَكَقَوْلِه فِي قصَّة أَيُّوب (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله) وَكَانُوا زَوجته وَولده والأهل يُطلق على العَبْد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سلمَان منا أهل الْبَيْت.
وَأخرج الحَدِيث أَولا فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن عَن بشر بن مُحَمَّد، وَأخرجه أَيْضا فِي الاستقراض وَالْعِتْق وَغَيرهَا، وَهَهُنَا أخرجه عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع بن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ غير(20/167)
مرّة.
قَوْله: (كلكُمْ رَاع) أَصله: راعي، لِأَنَّهُ من: رعى يرْعَى رِعَايَة، استثقلت الضمة على الْيَاء فحذفت فَالتقى ساكنان فحذفت الْيَاء فَصَارَ: رَاع، على وزن: فاع، لِأَن الْمَحْذُوف لَام الْفِعْل، وَالرِّعَايَة الْحِفْظ وَالْأَمَانَة، يُقَال: عاك الله، أَي: حفظك، وراعي الْغنم أَي الْحَافِظ لَهَا والأمين، وَإِذا لم يكن للرجل رعية يكون رَاعيا على أَعْضَائِهِ وجوارحه وَقُوَّة حواسه.
28 - (بابُ حُسْنِ المُعَاشَرَةِ مَعَ الأهْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حسن معاشرة الرجل مَعَ أَهله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: المعاشرة من الْعشْرَة بِالْكَسْرِ وَهِي الصُّحْبَة وَهِي من بَاب المفاعلة الْمَوْضُوعَة لمشاركة اثْنَيْنِ أَحدهمَا مُتَعَلق بِالْآخرِ على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
9815 - حدَّثنا سُليْمانُ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ وعَلِيُّ بنُ حُجْرٍ قَالَا: أخبرنَا عِيسَى بنُ يُونُسَ حَدثنَا هِشامُ بنُ عُرْوةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ، قالَتْ: جَلَسَ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأةً فَتَعاهَدْنَ وتَعاقَدْنَ أنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أخْبارِ أزْوَاجِهِنَّ شَيْئا: قالَتِ الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ علَى رأْسِ جبَلٍ، لَا سهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ، قالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَا أبُثُّ خبَرَهُ، إنِّي أخافُ أنَّ لَا أذَرَهُ إنْ أذكُرْهُ أذْكُرْ عُجَرَهُ وبُجَرَهُ. قالتِ الثّالثَةُ: زَوْجِي العشَنَّقُ، إنْ أنْطِقْ أُطلَّقْ وإنْ أسْكُتْ أُعَلَّقْ؛ قالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَليلِ تِهامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سآمَةَ. قالَتِ الخامِسَةُ: زَوْجِي إنْ دَخَلَ فَهِدَ وإنْ خَرَجَ أَسد وَلَا يَسألُ عَمَّا عَهِدَ. قالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إنْ أكَلَ لَفَّ وإنْ شَرِبَ اشْتَفَّ وإنِ اضْطَجَعَ التَفَّ وَلَا يُولِجُ الكَف لِيَعْلَمَ البثَّ؛ قالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَياياءُ أوْ عَياياءُ طَباقاءُ كلُّ داءَ لهُ داءٌ شَجَّكِ أوْ فَلّكِ أوْ جَمَعَ كُلّا لَكِ؛ قالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي المَسُّ مَسُّ أرْنَبٍ والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ. قالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ العِمادِ طَوِيلُ النِّجادِ عَظِيمُ الرَّمادِ قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النّادِ؛ قالَتِ العاشِرَةُ: زَوْجِي مالِكٌ وَمَا مالِكٌ مالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذالِكِ، لهُ إِبلٌ كَثِيرَاتُ المَباركِ قَلِيلاَتُ المَسارحِ، وإذَا سَمِعْنَ صَوْتَ المِزْهَرِ أيْقَنَّ أنَّهُنَّ هَوَالِكُ؛ قالَتِ الحَادِيَةُ عَشْرَةَ: زَوْجِي أبُو زَرْعِ. فَما أبُو زَرْعٍ؟ أناسَ مِنْ حُلِيٍّ أذنَيَّ ومَلأ مِنْ شَحْمِ عَضدَيَّ وبَجَّحَني فَبَجَحَتْ إليَّ نَفْسِي وجدَنِي فِي أهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أهْلِ صَهِيلٍ وأطِيطٍ ودَائِسٍ ومُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ، وأرْقُدُ فأتَصَبَّحُ، وأشْرَبُ فأتَقَمَّحُ، أمُّ أبي زَرْعٍ، فَمَا أمُّ أبي زَرْعٍ؟ عُكومُها رَدَاحٌ، وبَيْتُها فَساحٌ. ابنُ أبي زَرْعٍ، فَما ابنُ أبي زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطَبةٍ، ويُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ. بِنْتُ أبي زَرْعٍ، فَما بِنْتُ أبي زَرْعٍ؟ طَوْعُ أبِيها وطَوْعُ أُمِّها وملءُ كِسائِها وغَيْظُ جارَتِها جارِيَةُ أبي زَرْعٍ، فَمَا جارِيَةُ أبي زَرْعٍ؟ لَا تَبُثُّ حَديثَنا تَبْثَيثا، ولاَ تُنَقِّثُ ميرتَنَا تَنْقيثا، وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنا تَعْشِيشا. قالَتْ: خَرَجَ أبُو زَرْعٍ والأوطابُ تُمْخَضُ فَلَقِيَ امْرَأةً مَعَها ولَدَان لَها كالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِها بِرُمَّانَتيْنِ، فَطَلَّقَنِي ونَكَحَها، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رجُلاً سَرِيّا ركب عشريا وأخَذَ خَطِّيا وأرَاحَ عَليَّ نَعَما ثَرِيّا وأعْطانِي مِنْ كلِّ رائِحَةٍ زَوْجا، وَقَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ ومِيرِي أهْلَكِ. قالَتْ: فَلَوْ جمَعْتُ كلَّ شَيْء أعْطانِيهِ مَا بَلغَ أصْغَرَ آنِيَةِ أبي زَرْعٍ. قالَتْ عائِشَةُ، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ رسولُ الله(20/168)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُنْتُ لكِ كَأبي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْإِحْسَان فِي معاشرة الْأَهْل على مَالا يخفي من الحَدِيث.
وَسليمَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِابْن بنت شُرَحْبِيل الدِّمَشْقِي، ولد سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة وَتُوفِّي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَعلي بن حجر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وبالراء: السَّعْدِيّ، وَعِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَوَقع كَذَا مَنْسُوبا عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَعبد الله بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة، ويروي عَنهُ أَخُوهُ هِشَام بن عُرْوَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث عباد بن مَنْصُور عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَالْمَحْفُوظ حَدِيث هِشَام عَن أَخِيه، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عَليّ بن حجر وَعَن أَحْمد بن جناب، بِفَتْح الْجِيم وَالنُّون: كِلَاهُمَا عَن عِيسَى بن يُونُس عَن هِشَام: أَخْبرنِي أخي عبد الله بن عُرْوَة. وأخره التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي عشرَة النِّسَاء جَمِيعًا عَن عَليّ بن حجر، وَهَذَا من نَوَادِر مَا وَقع لهشام بن عُرْوَة فِي حَدِيث أَبِيه حَيْثُ أَدخل بَينهمَا أَخا لَهُ وَاسِطَة. وَقَالَ أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى: اخْتلف فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث وَرَفعه مَعَ أَنه لَا اخْتِلَاف فِي صِحَّته وَأَن الْأَئِمَّة قبلوه وَلَا مخرج لَهُ فِيمَا انْتهى إِلَيّ إلاَّ من رِوَايَة عُرْوَة عَن عَائِشَة، فَروِيَ من غير طَرِيق: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة من قَول سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُله، هَكَذَا رَوَاهُ عباد بن مَنْصُور والدراوردي وَعبد الله بن مُصعب الزبيرِي وَيُونُس بن أبي إِسْحَاق كلهم عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا رَفعه جمَاعَة آخَرُونَ، وَقَالَ عِيَاض: لَا خلاف فِي رفع قَوْله. فِي هَذَا الحَدِيث: (كنت ل كَأَنِّي زرع لأم زرع) وَإِنَّمَا الْخلاف فِي بَقِيَّته. وَقَالَ الْخَطِيب: الْمَرْفُوع من هَذَا الحَدِيث قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كنت لم كَأبي زرع لأم زرع) وَمَا عداهُ، فَمن كَلَام عَائِشَة.
قَوْله: (حَدثنَا سُلَيْمَان) فِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنِي سُلَيْمَان. قَوْله: (جلس إِحْدَى عشرَة امْرَأَة) ، قَالَ ابْن التِّين: التَّقْدِير: جلس جمَاعَة إِحْدَى عشرَة، وَمثل هَذَا {وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة} (يُوسُف: 03) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: النسْوَة اسْم مُفْرد لجمع الْمَرْأَة وتأنيثه غير حَقِيقِيّ كتأنيث اللمة، وَلذَلِك لم يلحقفعله تَاء التَّأْنِيث. انْتهى قلت: كَذَلِك هُنَا (إِحْدَى عشرَة امْرَأَة) نسْوَة، فَلذَلِك ذكَّر الْفِعْل، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة: جَلَست، وَفِي رِوَايَة أبي عبيد: اجْتمعت، وَفِي رِوَايَة أبي يعلى: اجْتَمعْنَ، على لُغَة أكلوني البراغيث. قَالَ عِيَاض: إِن فِي بعض الرِّوَايَات إِحْدَى عشرَة نسْوَة، قَالَ: فَإِن كَانَ بِالنّصب احْتَاجَ إِلَى إِضْمَار، أَعنِي: أَو بِالرَّفْع فَهُوَ بدل من إِحْدَى عشرَة، وَمِنْه قَوْله عز وَجل: {وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا} (الْأَعْرَاف: 061) وَقَالَ الْفَارِسِي: هِيَ بدل من قطعناهم وَلَيْسَ بتمييز، وَكَانَ اجتماعهن وجلوسهن بقرية من قرى الْيمن، كَذَا وَقع رِوَايَة الزبير بن بكار، ووقَع فِي رِوَايَة الْهَيْثَم: أَنَّهُنَّ كن بِمَكَّة. وَقَالَ عِيَاض: إنَّهُنَّ كن من خثعم، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي أويس عَن أَبِيه: أَنَّهُنَّ كن فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَذَا عِنْد النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة. قَوْله: (فتعاهدن وتعاقدن) ، أَي: ألزمن أَنْفسهنَّ عهدا وعقدن على الصدْق من ضمائرهن عقدا. قَوْله: (أَن لَا يكتمن) أَي: بِأَن لَا يكتمن، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي أويس: (أَن يتصادقن بَينهُنَّ وَلَا يكتمن) ، وَفِي رِوَايَة سعيد بن سَلمَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (أَن ينعتن أَزوَاجهنَّ ويصدقن) ، وَفِي رِوَايَة الزبير: (فتبايعن على ذَلِك) .
قَوْله: (قَالَت الأولى) ، أَي: الْمَرْأَة الأولى، وَلم أَقف على اسْمهَا. قَوْله: (غث) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ: الهزيل الَّذِي يستغيث من هزاله، مَأْخُوذ من قَوْلهم: غث الْجرْح غثا وغثيثا إِذا سَأَلَ مِنْهُ الْقَيْح، واستغثه صَاحبه، وَمِنْه: أغث الحَدِيث، وَمِنْه: غث فلَان فِي حلقه، وَكَذَا اسْتِعْمَاله فِي مُقَابلَة السمين، فَيُقَال للْحَدِيث الْمُخْتَلط فِيهِ: الغث والسمين، والغث الْفَاسِد من الطَّعَام. قَوْله: (على رَأس جبل) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تصف قلَّة خَيره وَبعده مَعَ الْقلَّة كالشيء فِي قبَّة الْحَبل الصعب لَا ينَال إلاَّ بالمشقة، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (على رَأس جبل وعر) ، وَفِي رِوَايَة الزبير بن بكار: وغث. وَهِي أوفق للسجع. قَوْله: (وعر) ، أَي: كثير الصخر شَدِيد الغلطة يعصب الرقي إِلَيْهِ، والوعث، بالثاء الْمُثَلَّثَة: الصعب المرتقي بِحَيْثُ توحل فِيهِ الْأَقْدَام فَلَا يتَخَلَّص ويشق فِيهِ المشيء، وَمِنْه: وعثاء السّفر. قَوْله: (لَا سهل فيرتقي) ، يجوز فِيهِ أوجه ثَلَاثَة: الأول: بِالْفَتْح بِلَا تَنْوِين، الثَّانِي: الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: لَا هُوَ سهل. الثَّالِث: الْجَرّ على أَنه صفة جبل، وَكَذَلِكَ الْأَوْجه الثَّلَاثَة فِي قَوْله: (وَلَا سمين) وَوَقع فِي رِوَايَة عِنْد النَّسَائِيّ بِالنّصب منونا، فيهمَا: (لَا سهلاً وَلَا سمينا) ، وَفِي أُخْرَى عِنْده: (لَا بالسهل وَلَا بالسمين) ، وَقَالَ عِيَاض: أحسن الْوُجُوه الرّفْع فيهمَا. قَوْله: (فيرتقي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: فَإِن يُرتقى أَي يصعد. قَوْله: (فَينْتَقل) ، بِالْفَتْح أَي: فَإِن ينْتَقل، والانتقال هَهُنَا بِمَعْنى النَّقْل أَي: لَا يَأْتِي إِلَيْهِ أحدا لصعوبة المسلك، وَلَا يُؤْتى بِهِ إِلَى(20/169)
أحد، أَي: لَا تنقله النَّاس إِلَى بُيُوتهم لرداءته، وَفِي رِوَايَة أبي عبيد: (فينتقى) ، من النقى بِكَسْر النُّون وَهُوَ المخ، أَي: يسْتَخْرج نقيه، وَحَاصِله: أَنه قَلِيل الْخَيْر من جِهَة أَنه لحم جمل لَا لحم غنم، وَأَنه مهزول رَدِيء وَأَنه صَعب التَّنَاوُل لَا يُوصل إِلَيْهِ إلاَّ بِمَشَقَّة شَدِيدَة أَي: خَيره قَلِيل ذاتا وَصفَة. وَقَالَ أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي: لَيْسَ شَيْء أَخبث غثاثة بَين الْأَنْعَام من الْجمل لِأَنَّهُ يجمع خبث الرّيح وخبث الطّعْم حَتَّى ضرب بِهِ الْمثل، وصفت زَوجهَا بالبخل وَقلة الخيروبعده من أَن ينَال خَيره مَعَ قلته كَاللَّحْمِ الهزيل المنتن الَّذِي يزهد فِيهِ فَلَا يطْلب، فَكيف إِذا كَانَ فِي رَأس جبل صَعب وعر لَا ينَال إلاَّ بِمَشَقَّة، وَذهب الْخطابِيّ إِلَى أَن تمثيلها بِالْجَبَلِ الوعر هُنَا إِشَارَة إِلَى سوء خلقه، والذهاب بِنَفسِهِ وترفعه تيها وكبرا، تُرِيدُ أَنه: مَعَ قلَّة خَيره يتكبر على عشيرته فَيجمع إِلَى الْبُخْل سوء الْخلق، وَهُوَ تَشْبِيه الْجَلِيّ بالخفي، والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير.
قَوْله: (وَقَالَت الثَّانِيَة) أَي: الْمَرْأَة الثَّانِيَة، وَهِي عمْرَة بنت عَمْرو التَّمِيمِي. قَوْله: (لَا أبث) من البث بِالْبَاء الْمُوَحدَة والثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الْإِظْهَار والإشاعة، وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا عِيَاض: (لَا أنثه) . بالنُّون بدل الْبَاء أَي: لَا أنشره وَلَا أشيعه، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (لَا أنم) ، بالنُّون وَالْمِيم من النميمة. قَوْله: (إِنِّي أَخَاف أَن لَا أذره) فِيهِ تَأْوِيلَانِ لِأَن الْهَاء إِمَّا عَائِدَة إِلَى الْخَبَر أَي: خَبره طَوِيل إِن شرعت فِي تَفْصِيله لَا أقدر على إِتْمَامه لكثرته أَو إِلَى الزَّوْج وَتَكون: لَا، زَائِدَة أَي: أَخَاف أَن يُطلقنِي فأذره، أَي: فأتركه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: التَّأْوِيل الثَّالِث أَن يُقَال: إِن مَعْنَاهُ أَخَاف أَن أبث خَبره، إِذْ عدم التّرْك وَهُوَ الإبثاث والتبيين، وَوَقع فِي رِوَايَة الزبير: زَوجي من لَا أذكرهُ وَلَا أبث خَبره. قَوْله: (أذكر عُجَره وبجره) جَوَاب: إِن، والعجر، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم، والبجر بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم، وَالْمرَاد بهما: عيوبه، وَالْمَشْهُور فِي الِاسْتِعْمَال أَن يُرَاد بِهِ الْأُمُور كلهَا، وَقيل: العجرة نفخة فِي الظّهْر والبجرة نفخة فِي السُّرَّة، وَيُقَال: العجر معقد الْعُرُوق والعصب فِي الْجَسَد حَتَّى ترَاهَا ناتئة فِي الْجَسَد، والبجر كَذَلِك إلاَّ أَنَّهَا مُخْتَصَّة بالبطن فِيمَا ذكره الْأَصْمَعِي، وأحدها بجرة، وَمِنْه قيل: رجل أبجر إِذا كَانَ عَظِيم الْبَطن، وَامْرَأَة بجراء، وَيُقَال الفلان بجرة إِذا كَانَ ناتىء السُّرَّة عظيمها، وَقَالَ الْأَخْفَش: العجر العقد تكون فِي سَائِر الْبدن، والبجر تكون فِي الْقلب، وَقَالَ أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي: لم يَأْتِ أَبُو عُبَيْدَة بِالْمَعْنَى فِي هَذَا، وَإِنَّمَا عنت أَن زَوجهَا كثير الْعُيُوب فِي أخلاقه مُنْعَقد النَّفس عَن المكارم، وَقَالَ ابْن فَارس: يُقَال فِي الْمثل: أفضيت إِلَيْهِ بعجري وبجري أَي: بأَمْري كُله وَعَن الْأَصْمَعِي: يستعلمل ذَلِك فِي المعائب، أَي: ذكر عيوبه، وَقَالَ يَعْقُوب: أسراره، وَعبارَة غَيره: عيوبه الْبَاطِنَة وأسراره الكامنة، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي وقْعَة الْجمل: (إِلَى الله أَشْكُو عجري وبجري) أَي: همومي وأحزاني، وَقيل: العجر ظَاهرهَا والبجر بَاطِنهَا. قَالَ الشَّاعِر:
(لم يبْق عِنْدِي مَا يُبَاع بدرهم ... يَكْفِيك عجر حالتي عَن بجري)
(إلاَّ بقايا مَاء وَجه صنته ... لأبيعه، فَعَسَى تكون المُشْتَرِي)
قَوْله: (قَالَت الثَّالِثَة) ، أَي: الْمَرْأَة الثَّالِثَة وَهِي: حييّ بنت كَعْب الْيَمَانِيّ. قَوْله: (العشنق) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة والمعجمة وَفتح النُّون الْمُشَدّدَة، وبالقاف، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَجَمَاعَة: هُوَ الطَّوِيل، وَزَاد الثعالبي: المذموم الطول، وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ طَوِيل الْعُنُق وَقَالَ ابْن حبيب: هُوَ الْمِقْدَام على مَا يُرِيد الشرس فِي أُمُوره، وَقيل: السيىء الْخلق، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أَرَادَت أَنه لَيْسَ عِنْده أَكثر من طوله بِلَا نفع، وَيجمع على: عشانقة، وَالْمَرْأَة عشنقة، وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِير: الصَّحِيح أَن العشنق الطَّوِيل النجيب الَّذِي يملك أَمر نَفسه وَلَا يحكم النِّسَاء فِيهِ، بل يحكم فِيهِنَّ بِمَا شَاءَ، فزوجته تهابة أَن تنطق بِحَضْرَتِهِ فَهِيَ تسكن على مضض. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَهِي الشكاية البليغة. قَوْله: (إِن أنطق أطلق) يَعْنِي: إِن ذكرت عيوبه يُطلقنِي (وَإِن أسكت أعلق) يَعْنِي: إِن أسكت عَنهُ أعلق يَعْنِي يتركني لَا عزبا وَلَا مُزَوّجَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فتذروها كالمعلقة} (النِّسَاء: 921) فَكَأَنَّهَا قَالَت: أَنا عِنْده لَا ذَات زوج فَانْتَفع بِهِ وَلَا مُطلقَة فأتفرغ لغيره. فَهِيَ كالمعلقة بَين الْعُلُوّ والسفل لَا تَسْتَقِر بِأَحَدِهِمَا، وكل وَاحِد من قَوْلهَا: (أطلق) و (أعلق) على صِيغَة الْمَجْهُول مجزومان لِأَنَّهُمَا جَوَاب الشَّرْط.
قَوْله: (قَالَت الرَّابِعَة) ، وَهِي: مهدد، بِفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْهَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة الأولى، وَيُقَال: مهرَة بالراء بنت أبي هرومة بالراء المضمومة، وَيُقَال: أرومة. قَوْله: (كليل تهَامَة) شبهت زَوجهَا بلَيْل تهَامَة، وتمدحه أَي: كليل أهل مَكَّة أَصْحَاب الْأَمْن، أَو كليل ركدت الرِّيَاح فِيهِ، أَو كليل الرّبيع وَقت تغير الْهَوَاء من الْبُرُودَة إِلَى الْحَرَارَة وَظُهُور اعتداله،(20/170)
وَلَيْسَ فِيهِ أَذَى بل فِيهِ رَاحَة ولذاذة عَيْش، كليل تهَامَة لذيذ معتدل لَيْسَ فِيهِ حر مفرط وَلَا برد، وَلَا أَخَاف لَهُ غائلة لكرم أخلاقه، وَلَا يسامني وَلَا يستثقل بِي فيمل صحبتي، وتهامة، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ اسْم لكل مَا نزل عَن نجد من بِلَاد الْحجاز، وَهُوَ من الْمُتَّهم، بِفَتْح التَّاء وَالْهَاء: وَهُوَ ركود الرّيح، وَيُقَال: تهتم الدّهن، إِذا تغير قَوْله: (وَلَا قر) بِالضَّمِّ وَهُوَ الْبرد. قَوْله: (وَلَا سآمة) أَي: وَلَا ملالة، وكل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة بني بِغَيْر تَنْوِين، وَجَاء الرّفْع مَعَ التَّنْوِين، وَهِي رِوَايَة أبي عبيد كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة} (الْبَقَرَة: 452) وَوَقع فِي رِوَايَة عمر بن عبد الله عِنْد النَّسَائِيّ: وَلَا برد، بدل: وَلَا قر، وَزَاد فِي رِوَايَة الْهَيْثَم بن عدي، وَلَا وخامة، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: لَا ثقل عِنْده تصف زَوجهَا بذلك، أَنه لين الْجَانِب خَفِيف الْوَطْأَة على الصاحب، وَفِي رِوَايَة الزبير بن بكار: والغيث، غيث غمامة، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أَرَادَت بقولِهَا: وَلَا مَخَافَة أَن أهل تهَامَة لَا يخَافُونَ لتحصنهم بجبالها، أَو أَرَادَت أَن زَوجهَا حامي الذمار مَانع لداره وجاره وَلَا مَخَافَة عِنْد من يأوي إِلَيْهِ، ثمَّ وَصفته بالجود.
قَوْله: (قَالَت الْخَامِسَة) أَي: الْمَرْأَة الْخَامِسَة وَهِي كَبْشَة. قَوْله: (إِن دخل فَهد) ، أَي: إِن دخل الْبَيْت فَهد بِكَسْر الْهَاء أَي: فعل فعل الفهد، شبهته بالفهد فِي كَثْرَة نَومه، يَعْنِي إِذا دخل الْبَيْت يكون فِي الاسْتِرَاحَة معرضًا عَمَّا تلف من أَمْوَاله وَمَا بَقِي مِنْهَا. وَقيل: معنى فَهد أَنه إِذا دخل الْبَيْت وثب على وثوب الفهد، كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمُبَادرَة إِلَى الْجِمَاع. قَوْله: (وَإِن خرج أَسد) أَي: وَإِن خرج من الْبَيْت أَسد بِكَسْر السِّين يَعْنِي: فعل فعل الْأسد تصفه بالشجاعة يَعْنِي: إِذا صَار بَين النَّاس كَانَ الْأسد، يَعْنِي: سهل مَعَ الأحباء صَعب على الْأَعْدَاء كَقَوْلِه تَعَالَى: {أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} (الْفَتْح: 92) وَقَالَ ابْن السّكيت: تصفه بالنشاط فِي الْغَزْو، وَقَالَ عِيَاض: فِيهِ مُطَابقَة لفظية بَين دخل وَخرج، وَبَين أَسد وفهد مُطَابقَة معنوية، وَتسَمى أَيْضا الْمُقَابلَة. قَوْله: (وَلَا يسْأَل عَمَّا عهد) أَي: لَا يتفقد مَا ذهب من مَاله وَلَا يلْتَفت إِلَى معائب الْبَيْت وَمَا فِيهِ كَأَنَّهُ ساهٍ عَن ذَلِك. وَقَالَ عِيَاض: وَهَذَا يَقْتَضِي تفسيرين: لعهد عهد قبل فَهُوَ يرجع إِلَى تفقد المَال وعهد الْآن فَهُوَ بِمَعْنى الإغضاء عَن المعائب والاختلال.
قَوْله: (قَالَ السَّادِسَة) : أَي الْمَرْأَة السَّادِسَة، وَاسْمهَا هِنْد قَوْله: (إِن أكل لف) بِاللَّامِ وَالْفَاء الْمُشَدّدَة فعل مَاض من اللف وَهُوَ الْإِكْثَار من الطَّعَام مَعَ التَّخْلِيط من صنوفه حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْئا. قَالَ عِيَاض: حُكيَ رف، بالراء بدل اللَّام قَالَ: وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. قَوْله: (وَإِن شرب اشتف) من الاشتفاف بالفاءين، وَهُوَ أَن يستوعب جَمِيع مَا فِي الْإِنَاء مَأْخُوذ من الشفافة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَهِي اسْم مَا بَقِي فِي الْإِنَاء من المَال، فَإِذا شربه قيل: اشتفه، ويروى: استف، بِالسِّين الْمُهْملَة وَهِي بمعناها. وَقَالَ عِيَاض: رُوِيَ بِالْقَافِ بدل الشين. قَالَ الْخَلِيل: قفاف كل شَيْء جمَاعَة واستيعابه، وَمِنْه سميت الفقة لجمعها مَا وضع فِيهَا. قَوْله: (وَإِن اضْطجع التّلف) من الالتفاف، يَعْنِي: إِذا نَام التّلف فِي ثِيَابه فِي نَاحيَة، وَفِي رِوَايَة للنسائي: إِذا نَام بدل اضْطجع، وَزَاد: وَإِذا ذبح اغتث أَي: تحرى الغث وَهُوَ الهزيل كَمَا مضى. قَوْله: (وَلَا يولج الْكَفّ) أَي: لَا يدْخل كَفه مَعْنَاهُ لَا يمد يَده ليعلم مَا هِيَ عَلَيْهِ من الْحزن، وَهُوَ معنى قَوْله: (ليعلم البث) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد يَد الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الْحزن وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: وَلَا يدْخل، بدل وَلَا يولج، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَالطَّبَرَانِيّ: فَيعلم، بِالْفَاءِ بدل اللَّام، وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنه يتلفف منتبذا عَنْهَا وَلَا يقرب مِنْهَا فيولج كَفه دَاخل ثوبها فَيكون مِنْهُ إِلَيْهَا مَا يكون من الرجل لامْرَأَته، وَمعنى البث مَا تضمر من الْحزن على عدم الحظوة مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو عبيد: أحسبها كَانَ بجسدها عيب أَو دَاء يحزن بِهِ، وَكَأَنَّهُ لَا يدْخل يَده فِي ثوبها لِئَلَّا يلمس ذَلِك فَيشق عَلَيْهَا، فوصفته بالمروءة وكرم الْخلق، ورد عَلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة بِأَنَّهَا قد ذمَّته فِي صدر الْكَلَام فَكيف تمدحه فِي آخِره؟ فَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الرَّد مَرْدُود، لِأَن النسْوَة تعاقدن لَا يكتمن شَيْئا مدحا أَو ذما، فمنهن من كَانَت أَوْصَاف زَوجهَا كلهَا حَسَنَة فوصفته بهَا، ومنهن بِالْعَكْسِ، ومنهن من كَانَت أَوْصَافه مختلطة مِنْهُمَا فذكرتهما كليهمَا.
قَوْله: (قَالَت السَّابِعَة) أَي: الْمَرْأَة السَّابِعَة وَاسْمهَا حيى بنت عَلْقَمَة قَوْله: (زَوجي عياياء) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف يَاء أُخْرَى وبالمد وَهُوَ الَّذِي عي بِالْأَمر والمنطق وجمل عياياء إِذا لم يهتد إِلَى الضراب. قَوْله: (أَو غياياء) شكّ من الرَّاوِي وَهُوَ عِيسَى بن يُونُس فَإِنَّهُ شكّ هَل هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ أَو بِالْمُعْجَمَةِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو تنويع من الزَّوْجَة القائلة، وَالْأَكْثَرُونَ لم يشكوا، وَقَالُوا بِالْمُهْمَلَةِ وَأما غياياء، بالغين الْمُعْجَمَة فَمَعْنَاه لَا يَهْتَدِي إِلَى مَسْلَك أَو إِنَّه كالظل(20/171)
المتكاثف المظلم الَّذِي لَا إشراق فِيهِ. أَو أَنه غطى عَلَيْهِ أُمُوره، أَو أَنه منهمك فِي الشَّرّ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوف يلقون غيا} (مَرْيَم: 95) وَقَالَ عِيَاض: قَالَ أَبُو عبيد إِن الغياياء، بالغين الْمُعْجَمَة لَيْسَ بِشَيْء. وَلم يفسره وَتَابعه على ذَلِك سَائِر الشُّرَّاح، فقد ظهر لي فِيهِ معنى صَحِيح فَذكر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَذكر أَيْضا أَنه مَأْخُوذ من الغياية. وَهِي كل مَا أظلك فَوق رَأسك من سَحَاب وَغَيره، وَمِنْه سميت الرَّايَة غَايَة، فَكَأَنَّهُ غطى عَلَيْهِ من جَهله وسترت مصالحة. قَوْله: (طباقاء) بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالقاف ممدودة. وَهُوَ المطبقة عَلَيْهِ الْأُمُور حمقا، وَقيل: الَّذِي يعجز عَن الْكَلَام، وَقَالَ ابْن حبَان: الطباق من الرِّجَال الَّذِي فِيهِ رعونة وحمق كالمطبق عَلَيْهِ فِي حمقه ورعونته، وَقيل: الطباق من الرِّجَال الثقيل الصَّدْر الَّذِي لَا يطبق صَدره على صدر الْمَرْأَة. قَوْله: (كل دَاء لَهُ دَوَاء) أَي: كل شَيْء من أدواء النَّاس فِيهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تَعْنِي كل دَاء تفرق فِي النَّاس فَهُوَ فِيهِ، وَمن أدوائه أَنه قد اجْتمعت فِيهِ المعائب. قَوْله: (شجك أَو فلّك) كلمة: أَو للتنويع وَمعنى شجك: جرحك فِي رَأسك وجراحات الرَّأْس تسمى شجا بالشين الْمُعْجَمَة بالشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْجِيم، وَمعنى: فلك بِالْفَاءِ وَتَشْديد اللَّام: جرحك فِي جَمِيع الْجَسَد وَقيل: الفل الطعْن، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: فلك كسرك، وَيُقَال: ذهب بِمَالك، وَيُقَال: كسرك بخصومته، وَصفته بالحمق والتناهي فِي جَمِيع النقائص والعيوب وَسُوء الْعشْرَة مَعَ الْأَهْل وعجزه عَن حَاجَتهَا مَعَ ضربهَا وأذاه لَهَا وَإِذا حدثته سبها وَإِذا مازحته شجها وَإِذا غضب إِمَّا أَن يشجها فِي رَأسهَا أَو يكسر عضوا من أعضائها. وَزَاد ابْن السّكيت فِي رِوَايَته: بجك، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْجِيم: أَي طعنك فِي جراحتك فَشَقهَا، والبج شقّ القرحة، وَقيل: هُوَ الطعنة. قَوْله: (أَو جمع كلا لَك) أَي: أَو جمع كل هَذِه الْأَشْيَاء وَهِي: الضَّرْب وَالْجرْح وَكسر الْأَعْضَاء وَالْكَسْر بِالْخُصُومَةِ وَالْكَلَام الموجع وَأخذ مَالهَا.
قَوْله: (قَالَت الثَّامِنَة) أَي: الْمَرْأَة الثَّامِنَة وأسمها يَاسر بنت أَوْس بن عبد. قَوْله: (الْمس مس أرنب وَالرِّيح ريح زرنب) وَصفته بِحسن الْخلق ولين الْجَانِب كمس الأرنب إِذا وضعت يدك على ظَهره، لِأَن وبره ناعم جدا، والزرنب بِوَزْن الأرنب لَكِن أَوله زَاي، وَهُوَ نبت طيب الرّيح، وَقيل: هِيَ شَجَرَة عَظِيمَة بِالشَّام على جبل لبنان لَا تثمر وَلها ورق بَين الخضرة والصفرة، وَكَذَا ذكره عِيَاض، ورده أَصْحَاب الْمُفْردَات. وَقيل: هِيَ حشيشة طيبَة الرَّائِحَة رقيقَة، وَقيل: هُوَ الزَّعْفَرَان وَلَيْسَ بِشَيْء، وَقيل: وَهُوَ مسك، وَالْألف وَاللَّام فِي الْمس نائبة عَن الضَّمِير لِأَن أَصله زَوجي مَسّه. وَكَذَا فِي الرّيح أَي: رِيحه وَفِيهِمَا حذف تَقْدِيره: زَوجي الْمس مِنْهُ كَمَا فِي السّمن. منوان بدرهم، أَي مِنْهُ، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا من التَّشْبِيه بِغَيْر أَدَاة، وَفِيه حسن الْمُنَاسبَة والموازنة والتسجيع، وَفِي رِوَايَة الزبير وَالنَّسَائِيّ فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْلهَا. وَأَنا أغلبه وَالنَّاس يغلب، فِي رِوَايَة للنسائي وَالطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: ونغلبه، بنُون الْجمع وَفِيه نوع من البديع يُسمى التتميم لِأَنَّهَا لَو اقتصرت على قَوْلهَا: وَأَنا أغلبه لظن أَنه جبان ضَعِيف، فَلَمَّا قَالَت: وَالنَّاس يغلب، دلّ على أَن غلبتها إِيَّاه إِنَّمَا هُوَ من بَاب كرم سجاياه فتممت بِهَذِهِ الْكَلِمَة الْمُبَالغَة فِي حسن أَوْصَافه.
قَوْله: (قَالَت التَّاسِعَة) أَي: الْمَرْأَة التَّاسِعَة: وَلم أَقف على اسْمهَا عِنْد أحد قَوْله: (رفيع الْعِمَاد) كِنَايَة عَن وَصفه بالشرف فِي نسبه وسؤدده فِي قومه فَهُوَ رفيع فيهم. والعماد فِي الأَصْل عماد الْبَيْت وَهُوَ العمود الَّذِي يدعم بِهِ الْبَيْت، تَعْنِي: أَن بَيته فِي حَسبه رفيع فِي قومه، وَيحْتَمل أَنَّهَا أَرَادَت أَن بَيته عالٍ لحشمته وسعادته لَا كبيوت غَيره من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، يَجعله مرتفعا ليراه أَرْبَاب الْحَوَائِج والأضياف فيأتونه. وَهَذِه صفة بيُوت الأجواد. قَوْله: (طَوِيل النجاد) . بِكَسْر النُّون كِنَايَة عَن طول الْقَامَة لِأَن النجاد حمائل السَّيْف، فَمن كَانَ طَوِيل الْقَامَة كَانَت حمائل سَيْفه طَوِيلَة، فوصفته بالطول والجود. قَوْله: (عَظِيم الرماد) . كِنَايَة عَن المضافية، لِأَن كَثْرَة الرماد تَسْتَلْزِم كَثْرَة النَّار وَكَثْرَة النَّار تَسْتَلْزِم كَثْرَة الطَّبْخ وَكَثْرَة الطَّبْخ تَسْتَلْزِم كَثْرَة الأضياف، وَقيل: إِن ناره لَا تطفأ فِي اللَّيْل ليهتدي بهَا الضيفان، والأجواد يعظمون النيرَان فِي ظلام اللَّيْل ويوقدونها على التلال لاهتداء الضَّيْف بهَا قَوْله: (قريب الْبَيْت من الناد) كِنَايَة عَن الْكَرم والسؤدد، لِأَن النادي مجْلِس الْقَوْم وَلَا يقرب مِنْهُ إلاَّ من هَذِه صفته، لِأَن الضيفان يقصدون النادي، يَعْنِي: ينزل بَين ظهراني النَّاس ليعلموا مَكَانَهُ وينزلوا عِنْده، واللئام يتباعدون مِنْهُ فِرَارًا من نزُول الضَّيْف. وَقَالَ(20/172)
صَاحب (التَّلْوِيح) فِي قَوْلهَا: (قريب الْبَيْت من النادي) كَذَا هُوَ فِي النّسخ: النادي، بِالْيَاءِ هُوَ الفصيح فِي الْعَرَبيَّة. وَلَكِن الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة خذفها الْيُتْم السجع، وَفِي رِوَايَة الزبير بن بكار بعد قَوْله: (قريب الْبَيْت من الناد) لَا يشْبع لَيْلَة يُضَاف، وَلَا ينَام لَيْلَة يخَاف.
قَوْله: (وَقَالَت الْعَاشِرَة) أَي: الْمَرْأَة الْعَاشِرَة وَاسْمهَا: كَبْشَة، مثل الْخَامِسَة بنت الأرقم بالراء وَالْقَاف. قَوْله: (زَوجي مَالك، وَمَا مَالك؟ مَالك خير من ذَلِك) . أردْت بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ تَعْظِيم زَوجهَا لِأَن كلمة: مَا استفهامية وفيهَا معنى التَّعْظِيم والتهويل، وَحَقِيقَة: مَا مَالك، أَي: مَا هُوَ، أَي: أَي شَيْء هُوَ مَا أعظمه وأكبره وأكرمه مثل قَوْله عز وَجل: {الحاقة مَا الحاقة} (الحاقة: 1) {القارعة مَا القارعة} (القارعة: 1) أَي: أَي شَيْء هُوَ مَا أعطم أمرهَا وأهولها. وَقَوْلها: (مَالك خير من ذَلِك) زِيَادَة فِي التَّعْظِيم وَتَفْسِير لبَعض الْإِبْهَام وَأَنه خير مِمَّا أُشير إِلَيْهِ من ثَنَاء وَطيب ذكرا وَفَوق مَا أعتقده فِيهِ من سؤدد وفخر قَوْلهَا: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى: مَالك، أَي: خير من كل مَالك، والتعميم يُسْتَفَاد من الْمقَام أَو هُوَ نَحْو: تَمْرَة خير من جرادةٍ أَي كل تَمْرَة خير من كل جَرَادَة، أَو هُوَ إِشَارَة إِلَى مَا فِي ذهن الْمُخَاطب، أَي: مَالك خير مِمَّا فِي ذهنك من مَالك الْأَمْوَال. قَوْله: (لَهُ إبل) أَي: لزوجي إبل (كثيرات الْمُبَارك) وَهُوَ جمع مبرك وَهُوَ مَوضِع البروك أَرَادَت أَنه يبركها فِي مُعظم أَوْقَاتهَا بِفنَاء دَاره لَا يوجهها تسرح إِلَّا قَلِيلا قدر الضَّرُورَة حَتَّى إِذا نزل بِهِ الضَّيْف كَانَت الْإِبِل حَاضِرَة فيقريه من أَلْبَانهَا ولحومها، ويروى: عظيمات الْمُبَارك، وَهُوَ كِنَايَة عَن سمنها وَعظم جسومها فيعظم مباركها لذَلِك. قَوْله: (قليلات المسارح) ، وَهُوَ جمع مسرح وَهُوَ الْموضع الَّذِي تسرح إِلَيْهِ الْمَاشِيَة بِالْغَدَاةِ المرعى، يُقَال: سرحت الْمَاشِيَة تسرح فَهِيَ سارحة. وسرحتها يَأْتِي لَازِما ومتعديا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: نصفه بِكَثْرَة الْإِطْعَام وَسقي الألبان أَي: أَن إبِله على كثرتها لَا تغيب عَن الْحَيّ وَلَا تسرح إِلَى المراعي الْبَعِيدَة وَلكنهَا تبرك بفنائه ليقري الضيفان من لَبنهَا ولحمها خوفًا من أَن ينزل بِهِ ضيف وَهِي بعيدَة عازبة، وَقيل: إِن مَعْنَاهُ أَن إبِله كَثِيرَة فِي حَال بروكها، فَإِذا سرحت كَانَت قَليلَة لِكَثْرَة مَا تحرمنها فِي مباركها للأضياف. وَفِي رِوَايَة الْهَيْثَم عَن هِشَام فِي آخر هَذَا الْكَلَام: وَهُوَ إِمَام الْقَوْم فِي المهالك. قَوْله: (وَإِذا سمعن صَوت المزهر أَيقَن أَنَّهُنَّ هوالك) ، أَي: إِذا سَمِعت الْإِبِل صَوت المزهر، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ: الْعود الَّذِي يضْرب بِهِ أَي: إِن زَوجهَا عود الْإِبِل إِذا نزل بِهِ الضيفان أَتَاهُم بالعيدان وَالْمَعَازِف وآلات الطّرف ونحولهم مِنْهَا، فَإِذا سَمِعت الْإِبِل صَوت المزهر علمت يَقِينا أَنه قد جَاءَ الضيفان وأنهن منحورات هوالك، وَقَالَ أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي: لم تكن تعرف الْعَرَب الْعود إلاَّ الَّذين خالطوا الْحَضَر، وَالَّذِي يذهب إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ المزهر، يَعْنِي: بِضَم الْمِيم وَكسر الْهَاء وَهُوَ الَّذِي يزهر النَّار للأضياف، فَإِذا سمعن صَوت ذَلِك ومعمعان النَّار أيقنت بالعقر. وَقَالَ عِيَاض: لَا تعرف أحدا رَوَاهُ المزهر، كَمَا قَالَ النَّيْسَابُورِي: وَالَّذِي رَوَاهُ النَّاس كلهم المزهر، يَعْنِي بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الصَّوَاب. وَالضَّمِير فِي سمعهن وأيقن برجع إِلَى الْإِبِل كَمَا ذَكرْنَاهُ، والهوالك جمع هالكة.
قَوْله: (قَالَت الْحَادِيَة عشرَة) أَي: الْمَرْأَة الْحَادِيَة عشرَة، قَالَ النَّوَوِيّ: وَفِي بعض النسح: الْحَادِي عشرَة، وَفِي بَعْضهَا: الْحَادِيَة عشر، وَالصَّحِيح الأول، وَهِي: أم زرع بنت أكيمل بن سَاعِدَة اليمنية، وَهَذَا الحَدِيث مَشْهُور: بِحَدِيث أم زرع. قَوْله: (زَوجي أَبُو زرع! فَمَا أَبُو زرع؟) هُوَ كَقَوْل الْعَاشِرَة: مَالك وَمَا مَالك؟ أخْبرت أَولا أَن زَوجهَا أَبُو زرع، ثمَّ عظمت شَأْنه بقولِهَا: فَمَا أَبُو زرع؟ يَعْنِي: إنكن لَا تعرفنه لأنكن لم تعهدن مثله. قَوْله: (أَبُو زرع) . فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: نكحت أَبَا زرع. قَوْله: (فَمَا أَبُو زرع؟) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَمَا أَبُو رزع، بِالْوَاو وَهُوَ الْمَحْفُوظ للأكثرين، وَزَاد الطَّبَرَانِيّ فِي رِوَايَة: صَاحب نعم وَزرع. قَوْله: (أنَاس من حلي أُذُنِي) أنَاس فعل مَاض من النوس وَهُوَ الْحَرَكَة من كل شَيْء معتدل يُقَال: نَاس ينوس نوسا، وأناسه غَيره إناسة، والحلي بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء جمع: حلي، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون اللَّام وَتَخْفِيف الْيَاء، وَهُوَ اسْم لكل مَا يتزين بِهِ من مصاغ الذَّهَب وَالْفِضَّة، (وأذني) بتَشْديد الْيَاء، تَثْنِيَة أذن أَرَادَت: حلاني قرطة وشنوفا يَعْنِي مَلأ أُذُنِي بِمَا جرت بِهِ عَادَة النِّسَاء من التحلي بِهِ فِي الْأذن من القرط وَهُوَ الْحلق من ذهب وَفِضة ولؤلؤ وَنَحْو ذَلِك، وَقَالَ ابْن السّكيت: معني أنَاس: أثقل أُذُنِي حَتَّى تدلى واضطرب قَوْله: (وملأ من شَحم عضدي) بتَشْديد الْيَاء تَثْنِيَة عضد. وَقَالَ أَبُو عبيد: لم ترد الْعظم وَحده وَإِنَّمَا أَرَادَت الْجَسَد كُله. لِأَن العضف إِذا سمنت سمن سَائِر الْجَسَد، وخصت الْعَضُد لِأَنَّهَا أقرب مَا يَلِي بصر الْإِنْسَان من جسده. قَوْله: (وبجحني) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ بتَشْديد الْجِيم من التبجيح وَهُوَ التفريح، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ عظمني، وَقَالَ ابْن أبي أويس: وسع(20/173)
عَليّ وترفني قَوْله: (فبجحت) بِسُكُون التَّاء (وَنَفْسِي) فَاعله وإلي بتَشْديد الْيَاء وَفَائِدَة ذكر إِلَى التَّأْكِيد، إِذْ فِيهِ التَّجْرِيد وَبَيَان الِانْتِهَاء، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فتبجحت من: بَاب التفعل، وَفِي رِوَايَة للنسائي: وبجح نَفسِي فتبجحت إِلَيّ، بِالتَّشْدِيدِ وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: فبجحت، بِضَم التَّاء على صِيغَة نفس الْمُتَكَلّم من الْمَاضِي، وإلي، بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (غنيمَة) مصغر: غنم. قَوْله: (بشق) ، بالشين الْمُعْجَمَة وَالْقَاف: وَأهل الحَدِيث يَرْوُونَهُ بِكَسْر الشين، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَهُوَ بِالْفَتْح وَهُوَ اسْم مَوضِع. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ اسْم مَوضِع بِالْفَتْح وَالْكَسْر، وَقَالَ ابْن أبي أويس وَابْن حبيب: بشق جبل لقلتهم، زَاد ابْن أبي أويس: لقلَّة غَنمهمْ. وَقَالَ عِيَاض: كَأَنَّهَا تريدانهم لقلتهم وَقلة غَنمهمْ حملهمْ على سُكْنى شقّ الْجَبَل: (أَي) نَاحيَة الْجَبَل أَو بعضه، لِأَن الشق يَقع على النَّاحِيَة من الشَّيْء وَيَقَع على بعضه، والشق أَيْضا النّصْف، وَعَن نفطويه: معنى الشق بِالْكَسْرِ: الشظف من الْعَيْش والجهد مِنْهُ، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: يُقَال: هُوَ بشق وشظف من الْعَيْش أَي: بِجهْد مِنْهُ. قَوْله: (فِي أهل صَهِيل) ، أَي: أَصْحَاب صَهِيل وَهُوَ صَوت الْخَيل. وَقَوله: (وأطيط) . وَهُوَ أصوات الْإِبِل يَعْنِي: أَنه ذهب بهَا إِلَى أَهله وهم أهل خير وإبل، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: وجامل وَهُوَ جمع جمل وَالْمرَاد اسْم فَاعل لمَالِك الْجمال كَمَا يُقَال لِابْنِ وتامر، وَقَالَ عِيَاض: وأصل الأطيط أَعْوَاد المحامل والرحال. وَيُشبه أَن تُرِيدُ بهَا هَذَا الْمَعْنى، فَكَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنهم أَصْحَاب محامل ورفاهية، لِأَن المحامل لَا يركبهَا إلاَّ أَصْحَاب السعَة، وَكَانَت قَدِيما من مراكب الْعَرَب. قَوْله: (ودائس) اسْم فَاعل من الدوس، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (ودياس) . وَقَالَ ابْن السّكيت: الدائس الَّذِي يدوس الطَّعَام. وَقَالَ أَبُو عبيد: تَأَوَّلَه بَعضهم من دياس الطَّعَام وَهُوَ دراسه، وَأهل الْعرَاق يَقُولُونَ: الدياس، وَأهل الشَّام: الدراس، فَكَأَنَّهَا أَرَادَت أَنهم أَصْحَاب زرع قَوْله (ومنق) قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ الَّذِي ينقيه من التِّبْن وَنَحْوه بالغربال، وَقَالَ بَعضهم بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الْقَاف، قَالَ أَبُو عبيد: لَا أَدْرِي مَعْنَاهُ، وَأَظنهُ بِالْفَتْح من تنقية الطَّعَام. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : المحدثون يَقُولُونَهُ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ ابْن أبي أويس: المنق، بِالْكَسْرِ: نقيق أصواب الْمَوَاشِي والأنعام، تصف كَثْرَة مَاله. وَقَالَ أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي: هُوَ مَأْخُوذ من نقيقة الدَّجَاج، أَي: أَنهم أهل طير، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يُقَال لشَيْء من أصوات الْمَوَاشِي نق، وَإِنَّمَا يُقَال نق الضفدع وَالْعَقْرَب والدجاج، وَيُقَال فِي الهر: بقلة، وَقَالَ ابْن السراج: وَيجوز أَن يكون منق بالإسكان إِن كَانَ رُوِيَ، أَي: وإنعام ذَات نقي أَي سمان. قَوْله: (فَعنده أَقُول) أَي: عِنْد زَوجي أَقُول كلَاما فَلَا أقبح على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: فَلَا أنسب إِلَى التقبيح فِي القَوْل، بل يقبل مني، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَعنده أنطق، وَفِي رِوَايَة الزبير: أَتكَلّم. قَوْله: (وأرقد فأتصبح) أَي: أَنَام الصبيحة، وَهِي فِي أول النَّهَار، وَلَا أُوقِظ لِأَن عِنْدِي من يَكْفِينِي الْخدمَة من الْإِمَاء وَغَيرهَا. قَوْله: (واشرب فأتقمح) بِالْقَافِ وَتَشْديد الْمِيم أَي: أروى حَتَّى لَا أحب الشّرْب، مَأْخُوذ من النَّاقة المقامح وَهِي الَّتِي ترد الْحَوْض فَلَا تشرب وترفع رَأسهَا ريا، كَذَا قَالَه أَبُو عبيد، وكل رَافع رَأسه فَهُوَ مقامح، وَبَعض النَّاس يرويهِ. فاتقنح، بِفَتْح النُّون، وَقَالَ أَبُو عبيد: لَا أعرف هَذَا الْحَرْف وَلَا أرى الْمَحْفُوظ إلاَّ بِالْمِيم، وَقَالَ عِيَاض: لم نروه فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) (وَمُسلم) إلاَّ بالنُّون، وَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ وَقَالَ البُخَارِيّ: قَالَ بَعضهم: فاتقمح بِالْمِيم، قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح، وَالَّذِي بالنُّون مَعْنَاهُ: أقطع الشّرْب وأتمهل فِيهِ، وَقيل: هُوَ الشّرْب بعد الرّيّ، وَحكى أَبُو عَليّ القالي فِي (البارع) و (الأمالي) يُقَال: قنحت الْإِبِل، تفتح بِفَتْح النُّون فِي الْمَاضِي والمستقبل. قنحا بِإِسْكَان النُّون. قَالَ شمر: إِذا تكارهت الشّرْب. وَفِي (التَّلْوِيح) وَمن رَوَاهُ: أتفتح، بِالْفَاءِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق إِن لم يكن وهما فَمَعْنَاه والتكبر والزهو والتيه، وَيكون هَذَا التكبر والتيه من الشَّرَاب لنشوة سكره، وَهُوَ على كل حَال يرجع إِلَى عزتها عِنْده وكثرته الْخَيْر لَدَيْهَا. وَقيل: معنى أتقنح كِنَايَة عَن سمن جسمها واتساعه. قَوْله: (أم بِي زرع فَمَا أم أبي زرع) الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي زَوجي أَبُو زرع، فَمَا أَبُو زرع؟ ويروى: أم زرع وَمَا أم زرع؟ بِحَذْف أَدَاة الكنية، الأول هُوَ ظَاهر الرِّوَايَة. قَوْله: (عكومها رداح) العكوم جمع عكم بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْكَاف كجلود جمع جلد، وَهِي الأعدال والأحمال الَّتِي تجمع فِيهَا الْأَمْتِعَة، وَقيل: هِيَ نمط تجْعَل الْمَرْأَة فِيهَا ذخيرتها، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ، ورداح بِكَسْر الرَّاء بِفَتْحِهَا وَآخره حاء مُهْملَة أَي: عِظَام كَثِيرَة الحشو. قَالَه أَبُو عبيد، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: ثقيله، وَيُقَال للكتيبة الْكَبِيرَة: رداح إِذا كَانَت بطيئة السّير لِكَثْرَة من فِيهَا، وَيُقَال للْمَرْأَة إِذا كَانَت عَظِيمَة الكفل(20/174)
ثَقيلَة الورك ورداح.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرداح مُفْرد والعكوم جمع، يَعْنِي: كَيفَ يكون الْمُفْرد خَبرا عَن الْجمع؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ أَرَادَ كل عكم رداح بِكَسْر الرَّاء لَا بِفَتْحِهَا، أَو بِكَوْن الرداح هَهُنَا مصدرا كالذهاب قلت: أجوبة أُخْرَى: الأول: أَن يكون رداح بِكَسْر الرَّاء لَا بِفَتْحِهَا جمع رداح كقائم وَقيام، ويخبر عَن الْجمع بِالْجمعِ. الثَّانِي: أَن يكون ردا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: عكومها كلهَا رداح على أَن رداح وَاحِد جمعه ردح بِضَمَّتَيْنِ. الثَّالِث: أَن الْخَبَر عَن الْجمع قد جَاءَ بِالْوَاحِدِ مثل: أدرع دلاص، أَي براق، وَمِنْه {أولياؤهم الطاغوت} (الْبَقَرَة: 752) قَوْله: (وبيتها فساخ) بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة أَي: وَاسع يُقَال: بَيت فسيح وفساح وفياح بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمِنْهُم من يشد الْيَاء للْمُبَالَغَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا وصفت وَالِدَة زَوجهَا بِأَنَّهَا كَثِيرَة الْآلَات والأثاث والقماش، وَاسِعَة المَال كَبِيرَة الْبَيْت أما حَقِيقَة فَيدل على عظم الثروة، وَأما كِنَايَة عَن كَثْرَة الْخَيْر ورغد الْعَيْش وَالْبر بِمن ينزل بهم لأَنهم يَقُولُونَ: فلَان رحيب الْمنزل، أَي: يكرم من ينزل عَلَيْهِ. قَوْله: (ابْن أبي زرع! فَمَا ابْن أبي زرع؟) لما وصفت أم أبي زرع بِمَا ذكر شرعت تصف ابْن أبي زرع بقولِهَا: (مضجعه كمسل شطبة) المسل، بِفَتْح الْمِيم وَالسِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام مصدر ميمي بِمَعْنى: المسلول، أَو اسْم مَكَان وَمَعْنَاهُ: كمسلول الشطبة، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي أَرَادَت بمسل الشطبة سَيْفا سل من عمده، فمضحعه الَّذِي ينَام فِيهِ فِي الصغر كَقدْر مسل شطبة وَاحِدَة. وَقَالَ أَبُو عبيد: وأصل الشطبة مَا يشطب من جريد النّخل فَيشق مِنْهُ قضبان رقاق تنسج مِنْهَا الْحصْر، وَيُقَال للْمَرْأَة الَّتِي تفعل ذَلِك: الشاطبة، أخْبرت أَنه مهفهف ضرب اللَّحْم، شبهته بِتِلْكَ الشطبة. وَقَالَ أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي: تُرِيدُ كَأَنَّهُ سيف مسلول من غمده، وسيوف الْيمن كلهَا ذَات شطب، وَهِي الطرائق الَّتِي فِي متن السَّيْف، وَقد شبهت الْعَرَب الرِّجَال بِالسُّيُوفِ إِمَّا لخشونة الْجَانِب وَشدَّة المهابة، وَإِمَّا لجمال الرونق وَكَمَال اللألاء، وَإِمَّا لكَمَال صورتهَا فِي اعتدالها واستوائها. قَوْله: (ويشبعه ذِرَاع الجفرة) ويروى: ويكفيه ذِرَاع الجفرة، وَهِي بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْفَاء وبالراء: الْأُنْثَى من أَوْلَاد الضَّأْن، وَقيل: من أَوْلَاد الْمعز، وَالذكر جفر وَهِي الَّتِي مر لَهَا من عمرها أَرْبَعَة أشهر، وأرادت بِهِ أَنه قَلِيل الْأكل، وَزَاد بعد هَذَا فِي رِوَايَة لِابْنِ الْأَنْبَارِي: وترويه فيقة اليعرة. (ويميس فِي حق النترة) . قَوْله: (وتروية) من الإرواء، والفيقة بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا قَاف مَا يجْتَمع فِي الضَّرع بَين الحلبتين، والفواق بِضَم الْفَاء: الزَّمَان الَّذِي بَين الحلبتين، واليعرة بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا رَاء العناق، واليعر الجدي. قَوْله: (ويميس) أَي يتبختر، والنترة بِفَتْح النُّون وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: الدرْع اللطيفة أَو القصيرة، وَقيل: اللينة الملمس، وَقيل: الواسعة. وَالْحَاصِل أَنَّهَا وَصفته بهيف الْقد وَأَنه لَيْسَ ببطين وَلَا جافي قَلِيل الْأكل وَالشرب ملازم لآلة الْحر، يختال فِي مَوضِع الْحَرْب والقتال، وكل ذَلِك مِمَّا يتمادح بِهِ الْعَرَب قَوْله: (بنت أبي زرع فَمَا بنت أبي زرع) هَذَا فِي مدح بنت أبي زرع بعد مدح ابْن أبي زرع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَمَا بنت أبي زرع؟ بِالْوَاو. قَوْله: (طوع أَبِيهَا) أَي: هِيَ طوع أَبِيهَا وطوع أمهَا يَعْنِي: بارة بهما لَا تخرج عَن أَمرهمَا، وَفِي رِوَايَة الزبير. وزين أَهلهَا ونسائها. أَي: يتجملون بهَا، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: زين أمهَا وزين أَبِيهَا، بدل لفظ طوع، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَة للطبراني: وقرة عين لأَبِيهَا وَأمّهَا وزين لأَهْلهَا، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ السّكيت: قبَاء هضيمة الحشا جائلة الوشاح عنكاء فعماء نجلاء دعجاء زجاء قنواء مؤنقة مقنعة. قلت: قبَاء، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد خميصة الْبَطن، وهضيمة الحشا من الهضم بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ انضمام الجنبين، يُقَال: رجل أهضم وَامْرَأَة هضماء، والحشا بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة مَقْصُورا، وَهُوَ مَا انضمت عَلَيْهِ الضلوع، وجائلة الوشاح، بِكَسْر الْوَاو وبالشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، وَهُوَ شَيْء ينسج عريضا من أَدَم، وَرُبمَا رصع بالجوهر والخرز وتشده الْمَرْأَة بَين عاتقيها وكشحيها وَيُقَال فِيهِ: إشاح، والحائلة، بِالْجِيم من الجولان يَعْنِي: يَدُور وشاحها لضمور بَطنهَا، وعكناء، بِفَتْح الْعين المعملة وَسُكُون الْكَاف وبالنون وَالْمدّ أَي: ذَات عُكَن وَهِي الطيات فِي بَطنهَا، وفعماء بفح الْفَاء وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالمد أَي: ممتلئة الْأَعْضَاء: ونجلاء بِفَتْح النُّون وَسُكُون وبالمد، أَي وَاسِعَة الْعَينَيْنِ، ودعجاء من الدعج، وَهِي شدَّة سَواد الْعين فِي شدَّة بياضها، وزجاء بالزاي وَالْجِيم الْمُشَدّدَة من الزجج وَهُوَ تقوس فِي الْحَاجِب مَعَ طول فِي أَطْرَافه وامتداده، وَقيل بالراء وَتَشْديد الْجِيم أَي: كَبِير الكفل ترتج من عظمه، وقنواء، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون النُّون من القنو، وَهُوَ طول(20/175)