وَقَالَ غَيْرُهُ غيابَةُ الحبِّ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئا فَهُوَ غَيابَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والقوه فِي غيابة الْحبّ يلتقطه بعض السيارة} (يُوسُف: 10) ظَاهر الْكَلَام أَن قَوْله: (وَقَالَ غَيره) غير ابْن عَبَّاس لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ من كَلَام ابْن عَبَّاس وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام أبي عُبَيْدَة. قلت: لَا مَانع أَن يكون قَول أبي عُبَيْدَة من قَول ابْن عَبَّاس. قَوْله: (كل شَيْء) ، مُبْتَدأ وَقَوله: (غيب عَنْك) فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهُ صفة لشَيْء (وشيأ) مفعول غيب. قَوْله: (فَهُوَ غيابة) جملَة إسمية وَقعت خبر الْمُبْتَدَأ. أَو الْمُبْتَدَأ إِذا تضمن معنى الشَّرْط تدخل الْفَاء فِي خَبره. قَوْله: (غيابة الْجب) ، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: قَعْر الْجب وظلمته حَيْثُ يغيب خَبره، وَقَالَ قَتَادَة: أَسْفَله وَأَصله من الغيبوبة.
وَالجُبُّ الرَّكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ
أَي: الْجب الْمَذْكُور فِي قَوْله: (غيابة الْجب) هُوَ الْبِئْر الَّتِي لم تطو، وَكَذَلِكَ القليب، قَالَ الْجَوْهَرِي: القليب الْبِئْر قبل أَن تطوى، وَسميت جبا من أجل أَنَّهَا قطعت قطعا وَلم يحدث فِيهَا غير الْقطع من الطي وَمَا أشبهه.
بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمُصدِّق
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى، حِكَايَة عَن قَول إخْوَة يُوسُف: {وَتَركنَا يُوسُف عِنْد متاعنا فَأَكله الذِّئْب وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا وَلَو كُنَّا صَادِقين} (يُوسُف: 17) وَالْمعْنَى: وَمَا أَنْت بمصدق فِي كلامنا، وَفِي التَّفْسِير: وَمَا أَنْت بمصدق لنا لسوء ظَنك بِنَا وتهمتك لنا، وَهَذَا قَمِيصه ملطخ بِالدَّمِ.
يُقالُ بَلَغَ أشُدَّهُ قَبْلَ أنْ يَأْخُذ فِي النُّقْصانِ وَقَالُوا بَلَغَ أشُدَّهُ وَبَلَغُوا أشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُها شَدٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما} وَفسّر قَوْله: أشده، بقوله: قبل أَن يَأْخُذ فِي النُّقْصَان، وَأَرَادَ بِهِ عز مُنْتَهى شبابه وقوته وشدته، وَاخْتلف فِيهِ، فَذكر ابْن الْمُنْذر عَن الشّعبِيّ وَرَبِيعَة وَزيد بن أسلم وَمَالك: أَنه الْحلم، وَعَن سعيد ابْن جُبَير ثَمَانِيَة عشرَة سنة، وَقيل: عشرُون، وَقيل: خمس وَعِشْرُونَ، وَقيل: ثَلَاثُونَ، وَقيل: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ قَالَه مُجَاهِد: وَقيل: أَرْبَعُونَ. وَقيل: سبع عشرَة سنة، وَقيل: خمس وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل: ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ سنة، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَا بَين ثَمَان عشرَة إِلَى ثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: سِتُّونَ سنة، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأَظْهر أَنه أَرْبَعُونَ لقَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما} وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتنبى إلاَّ بعد أَرْبَعِينَ سنة. قَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيحيى أَيْضا تنبأ لدوّنَ الْأَرْبَعين لقَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} (مَرْيَم: 12) قلت لَهُ أَن يَقُول: هما مخصوصان بذلك من دون سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (يُقَال بلغ أشده وبلغوا أَشَّدهم) ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه يُضَاف إِلَى الْمُفْرد وَالْجمع بِلَفْظ وَاحِد. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم: وَاحِدهَا:) أَي: وَاحِد الأشد وَهُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ وَالْكسَائِيّ، وَزعم أَبُو عُبَيْدَة أَنه لَيْسَ لَهُ وَاحِد من لَفظه.
وَالمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأَتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أوْ لِحَدِيثٍ أوْ لِطعامٍ وَأبْطَلَ الَّذِي قَالَ الأُتْرُجُّ وَلَيْسَ فِي كَلامِ العَرَبِ الأُتْرُجُّ فَلَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بأنّهُ المُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا إنَّما هُوَ المُتْكُ سَاكِنَةَ التّاءِ وَإنّما المُتْكُ طَرَفُ البَظرِ وَمِنْ ذالِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكاءُ وَابنُ المَتْكاءِ فَإنْ كَانَ ثمَّ أُترُجٌّ فَإنّهُ بَعْدَ المُتَّكَإِ.
لما ذكر فِيمَا مضى عَن قريب عَن مُجَاهِد أَن المتكأ الأترج، أنكر ذَلِك، فَقَالَ: المتكأ مَا اتكأت عَلَيْهِ لأجل شرب شراب أَو لأجل حَدِيث أَو لأجل طَعَام. قَوْله: وأبطل قَول الَّذِي قَالَ: المتكأ الأترج، ثمَّ ادّعى أَنه لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب الأترج، يَعْنِي: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب تَفْسِير المتكأ بالأترج، وَفِيه نظر، حَتَّى قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) هَذِه الدَّعْوَى من الْأَعَاجِيب فقد قَالَ فِي (الْمُحكم) المتكأ الأترج، وَعَن الْأَخْفَش كَذَلِك، وَفِي (الْجَامِع) المتكأ الأترج، وأنشدوا:(18/300)
(فنشرب الْإِثْم بالصواع جهارا ... ونرى المتك بَيْننَا مستعارا)
وَأَبُو حنيفَة الدينَوَرِي زعم أَن المتكا بِالضَّمِّ الأترج، وَالَّذِي بِفَتْح الْمِيم السوسن، وبنحوه ذكره أَبُو عَليّ القالي وَابْن فَارس فِي (الْمُجْمل) وَغَيرهمَا. قَوْله: (فَلَمَّا احْتج عَلَيْهِم) ، بِصِيغَة الْمَجْهُول. (يان المتكأ من نمارق) إِلَى آخِره ظَاهر. قَوْله: (وَإِنَّمَا المتك) ، بِعني: بِالضَّمِّ، طرف البظر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء، وَهُوَ مَا تبقيه الخاتنة بعد الْخِتَان من الْمَرْأَة. قَوْله: (وَمن ذَلِك) أَي: وَمن هَذَا اللَّفْظ: (قيل لَهَا) أَي: للْمَرْأَة. (متكاء) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون التَّاء وبالمد، وَهِي الَّتِي لم تختن، وَيُقَال لَهَا: البظراء أَيْضا ويعير الرجل بذلك، فَيُقَال لَهُ: ابْن المتكاء. قَوْله: (فَإِن كَانَ ثمَّ أترج) بِفَتْح الْفَاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم، أَي: فَإِن كَانَ هُنَاكَ أترج فَإِنَّهُ كَانَ بعد المتكاء، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالَ البُخَارِيّ مَا قَالَه من ذَلِك تبعا لأبي عُبَيْدَة فَإِنَّهُ قَالَ: زعم قوم أَنه الأترج، وَهَذَا أبطل بَاطِل فِي الأَرْض، وَلَكِن عَسى أَن يكون مَعَ المتكاه أترج يَأْكُلُونَهُ. قلت: كَأَنَّهُ لم يفحص عَن ذَلِك كَمَا يَنْبَغِي. وقلد أَبَا عُبَيْدَة، والأفة من التَّقْلِيد، وَكَيف يَصح مَا قَالَه من ذَلِك وَقد روى عبد بن حميد من طَرِيق عَوْف الْأَعرَابِي عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إِنَّه كَانَ يقْرؤهَا: متكاء، مُخَفّفَة وَيَقُول: هُوَ الأترج، وَأَيْضًا قد روى مثله عَمَّن ذَكَرْنَاهُمْ الْآن.
شَغَفَها يُقَالُ بَلَغَ إلَى شِغافَها وَهُوَ غِلافُ قَلْبِها وَأمّا شَعَفَها فَمِنَ المَشْعُوفِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {امْرَأَة الْعَزِيز تراود فناها عَن نَفسه قد شغفها حبا إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين} (يُوسُف: 30) قَوْله: (قد شغفها) ، أَي: قد شغف يُوسُف زليخا، يَعْنِي: بلغ حبه إِلَى شغافها، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة فِي ضبط الْمُحدثين، وَعند أهل اللُّغَة بِالْفَتْح، وَهُوَ غلاف قَلبهَا، وَقيل: الشغاف حَبَّة الْقلب، وَقيل: هُوَ علقَة سَوْدَاء فِي صميمه. قَوْله: (وَأما شعفها) ، يَعْنِي: بِالْعينِ الْمُهْملَة فَمن المشعوف، يُقَال: فلَان مشعوف بفلان إِذا بلغ بِهِ الْحبّ أقْصَى الْمذَاهب، وَيُقَال: فلَان شعفه الْحبّ، أَي أحرق قلبه.
أصْبُ أمِيلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل حِكَايَة عَن قَول يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام: {وإلاَّ تصرف عني كيدهن أَصْبُ إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} (يُوسُف: 33) وَفسّر: أصبُ، بقوله: أميل، يُقَال: صبا إِلَى اللَّهْو، يصبو صبوا إِذا مَال إِلَيْهِ، وَمِنْه سمي الصَّبِي لِأَنَّهُ يمِيل إِلَى كل شَيْء.
أضْغَاثُ أحْلامٍ مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أضغاث أَحْلَام وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين} (يُوسُف: 44) والأضغاث جمع ضغث، وَهُوَ ملْء الْيَد من حشيش، وَفسّر قَوْله: أضغاث أَحْلَام، بقوله: مَا لَا تَأْوِيل لَهُ لِأَنَّهُ من الأخلاط والرؤيا الكاذبة الَّتِي لَا أصل لَهَا. وَقَوله: (أضغاث أَحْلَام) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. قَوْله: (مَا لَا تَأْوِيل لَهُ) ، خَبره وَكلمَة مَا مَوْصُولَة.
وَالضِّغْثُ مِلْءُ اليَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أشْبَهَهُ وَمِنْهُ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا لَا مِنْ قَوْلِهِ أضْغاثُ أحْلامٍ وَاحِدُها ضِغْثٌ
أَشَارَ بقوله: {والضغث} إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الضغث وَاحِد. الأضغاث وَالْآخر: أَن تَفْسِيره بملء الْيَد من حشيش وَمَا أشبهه، وَأَرَادَ أَن الضغث الَّذِي هُوَ ملْء الْكَفّ من أَنْوَاع الْحَشِيش هُوَ المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ} (ص: 44) وَذَلِكَ فِي قصَّة أَيُّوب، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن المُرَاد من الأضغاث هُنَا هُوَ الَّذِي واحده ضغث الَّذِي هُوَ بِمَعْنى مَا لَا تَأْوِيل لَهُ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أضغاث أَحْلَام} مَا حَاصله أَن الضغث فِي قَوْله: (وَخذ بِيَدِك ضغثا) بِمَعْنى: ملْء الْكَفّ من الْحَشِيش، لَا بِمَعْنى: مَا لَا تَأْوِيل لَهُ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أضغاث أَحْلَام} قَالَ: أخلاط أَحْلَام، وروى أَبُو يعلى بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {أضغاث أَحْلَام} قَالَ: هِيَ الأحلام الكاذبة.(18/301)
نَمِيرُ مِنَ المِيرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا ونمير أهلنا} (يُوسُف: 6) الْميرَة بِكَسْر الْمِيم الطَّعَام، وَالْمعْنَى: نجلب إِلَى أهلنا الطَّعَام يُقَال: مار أَهله يميرهم إِذا أَتَاهُم بِطَعَام.
وَنزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ
أَي نزداد على أحمالنا حمل بعير يُكَال لَهُ مَا حمل بعيره، وروى الْفرْيَابِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: كيل بعير أَي: كيل حمَار. وَذكر الثَّعْلَبِيّ أَنه لُغَة يُقَال للحمار بعير. وَيُؤَيّد ذَلِك أَن إخْوَة يُوسُف كَانُوا من أَرض كتمان وَلَيْسَ بهَا إبل.
آوِي إلَيْهِ ضَمَّ إلَيْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلما دخلُوا على يُوسُف آوي إِلَيْهِ أَخَاهُ} (يُوسُف: 69) الْآيَة. أَي: فَلَمَّا دخلت إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ ضم يُوسُف إِلَى نَفسه أَخَاهُ بنيامين من آوى يؤوى إيواء.
السَّقايَةُ مِكْيَالٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جهزهم بجهازهم جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} (يُوسُف: 70) وَفسّر السِّقَايَة وَله مكيال، وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي كَانَ يُوسُف يشرب بِهِ فَجعله ميكالاً لِئَلَّا يكتالوا بِغَيْرِهِ فيظلموا وَيُقَال: السِّقَايَة هِيَ الصواع كَانَ الْملك يسْقِي بهَا ثمَّ جعلت صَاعا يُكَال بِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
تَفْتَأُ لَا تَزَالُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {تالله تفتأ تذكر يُوسُف} (يُوسُف: 85) أَي: لَا تفتأ فَحذف حرف النَّفْي، وَالْمعْنَى: أَن أخوة يُوسُف قَالُوا ليعقوب أَبِيهِم: وَالله لَا تزَال تذكر يُوسُف وَلَا تفتر من حبه {حَتَّى تكون حرضا} الْآيَة. يُقَال: مَا فتئت أذكر ذَلِك وَمَا فتأت أفتأ وافتو فتاء وفتوءا. وَقَالَ أَبُو زيد: مَا افتأت أذكرهُ وَمَا فتئت أذكرهُ أَي: مَا زلت أذكرهُ لَا يتَكَلَّم بِهِ إلاّ مَعَ الْجحْد. وَقَوله: {تالله تفتأ تذكر يُوسُف} أَي: مَا تفتأ قلت الصَّوَاب لَا تفتأ.
حَرَضا مُحْرَضا يُذِيبُكَ الْهَمُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تكون حرضا أَو تكون من الهالكين} وَذكر أَن حرضا بِمَعْنى، محرض، على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول وَفَسرهُ بقوله: يذيبك الْهم من الإذابة. وَقيل: مَعْنَاهُ تكون دنفا وَقيل: قَرِيبا من الْمَوْت، وَقَالَ الْفراء الحرض هُوَ الْفَاسِد فِي جِسْمه، وعقله وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى وَالْجمع والمذكر والمؤنث لِأَنَّهُ مصدر وضع مَوضِع الْأَلَم، وَمن الْعَرَب من يؤنث مَعَ الْمُؤَنَّث. وَقَرَأَ أنس بِضَم الْحَاء، وَعَن قَتَادَة: حرضا هرما. وَعَن الضَّحَّاك بَالِيًا ذَا بلَاء، وَعَن الرّبيع ابْن أنس، يَابِس الْجلد على الْعظم، وَعَن الْحسن: كالشيء المدقوق المكسور، وَعَن القتبي: سَاقِطا. قَوْله: {أَو تكون من الهالكين} أَي: الميتين.
تَحَسَّسوا تَحَبرُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا بني اذْهَبُوا فتحسسوا من يُوسُف وأخيه} (يُوسُف: 87) الْآيَة. وَفسّر: تحسسوا بقوله: تخبروا. أَي: اطْلُبُوا الْخَبَر وتحسسوا تَفعلُوا من الْحس، يَعْنِي: تتبعوا. وَعَن ابْن عَبَّاس: التمسوا. وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن الْفرق بَين التحسس، بِالْحَاء الْمُهْملَة، والتجسس، بِالْجِيم؟ فَقَالَ: لَا يعدو أَحدهمَا عَن الآخر إلاَّ أَن التحسس فِي الْخَيْر والتجسس فِي الشَّرّ، وَقيل: بِالْحَاء لنَفسِهِ وبالجيم لغيره، وَمِنْه الجاسوس.
مُزْجاةٌ قَلِيلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة} وفسرها بقوله قَليلَة. وَقيل: ردية، وَقيل: فَاسِدَة. وَعَن قَتَادَة: يسيرَة، وَكَانَت البضاعة من صوف وَنَحْوه. وَقيل: دَرَاهِم لَا تزوج، وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس: كَانَت دَرَاهِم زُيُوفًا لَا تنْفق إلاَّ بوضيعة. وَعَن(18/302)
ابْن عَبَّاس أَيْضا خلق الغرارة وَالْحَبل وَرَثَة الْمَتَاع.
غَاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ الله عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أفأمنوا أَن تأتيهم غاشية من عَذَاب الله أَو تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ} (يُوسُف: 107) وَفسّر غاشية بقوله: (عِمَامَة) أَي: نقمة عَامَّة. قَوْله: (مُجَللَة) ، بِالْجِيم من جلل الشَّيْء تجليلاً أَي: عَمه، وَهُوَ صفة غاشية لِأَن ابْن عَبَّاس فسر الغاشية بقوله: مُجَللَة، وَيرد بِهَذَا قَول بَعضهم: أَن مُجَللَة تَأْكِيد عَامَّة. وَقَالَ قَتَادَة: غاشية وقيعة، وَقَالَ الضَّحَّاك: الصَّوَاعِق والقوارع.
(بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَلَيْسَ فِي مُعظم النّسخ لفظ بَاب.
اسَتَيْأَسُوا يَئِسُوا لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله مَعْناهُ الرَّجاءُ
لم يثبت هَذَا أَلا لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَأَشَارَ بقوله: {استيأسوا} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا} (يُوسُف: 80) وَفَسرهُ بقوله: (يئسوا) أَي: فَلَمَّا أيس أخوة يُوسُف من يُوسُف أَن يُجِيبهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوهُ خلصوا نجيا. أَي: خلا بَعضهم بِبَعْض يتناجون ويتشاورون لَا يخالطهم غَيرهم، والآن يَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله: {لَا تيأسوا من روح الله} أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تيأسوا من روح الله إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} (يُوسُف: 87) وَمعنى من روح الله من رَحمته، قَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك: من فضل الله، وَقَالَ ابْن زيد: من فرج الله، وَهَذَا حِكَايَة عَن كَلَام يَعْقُوب، عَلَيْهِ السَّلَام، لأولاده قَوْله: (مَعْنَاهُ الرَّجَاء) أَي: معنى عدم الْيَأْس الرَّجَاء أَو معنى التَّرْكِيب الرَّجَاء، أَو لَا روح بِهِ حَقِيقَة.
خَصَلُوا نَجِيّا اعْتَزَلُوا نَجِيّا وَالجِسْمِ أنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالاثْنَانِ وَالجَمِيعُ نَجِيٌّ وَأنْجِيَةٌ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا} وَلم يثبت هَذَا إلاَّ لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني وَقَوله: (خلصوا) جَوَاب لما وَفسّر خلصوا بقوله: (اعتزلوا) وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: اعْتَرَفُوا وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، والنجي هُوَ الَّذِي يُنَاجِي، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والاثنان وَالْجمع الْمُذكر والمؤنث لِأَنَّهُ مصدر فِي الأَصْل جعل نعتا كالعدل والزور وَنَحْوهمَا وَجَاء جمعه أنجية وَقد نبه عَلَيْهِ بقوله: وأنجبة وانتصاب: نجيا، على الْحَال أَي: حَال كَونهم متناجين فِيمَا يعْملُونَ فِي ذهابهم إِلَى أَبِيهِم من غير أخيهم.
12 - (سُورَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَم)
أَي: هَذَا فِي بَيَان بعض تَفْسِير سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي: (مقامات التَّنْزِيل) : سُورَة يُوسُف مَكِّيَّة كلهَا وَمَا بلغنَا فِيهَا اخْتِلَاف، وَفِي: (تَفْسِير ابْن النَّقِيب) : عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: نزلت بِمَكَّة إلاَّ أَربع آيَات فَإِنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ، ثَلَاث آيَات من أَولهَا وَالرَّابِعَة: {لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين} (يُوسُف: 7) وَسبب نُزُولهَا سُؤال الْيَهُود عَن أَمر يَعْقُوب ويوسف عَلَيْهِ السَّلَام، وَهِي مائَة وَإِحْدَى عشر آيَة، وَألف وَسَبْعمائة وست وَسَبْعُونَ كلمة، وَسَبْعَة آلَاف وَمِائَة وست وَسِتُّونَ حرفا.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
بابٌ
أَي: هَذَا بَاب فِي كَذَا وَكَذَا، وَلم يثبت لفظ: بَاب فِي مُعظم النّسخ.
وَقَالَ فُضَيْلٌ عنْ حُصَيْنٍ عنْ مُجاهِدٍ مُتَّكَأً الأُتْرُجُ قَالَ فُضَيْلٌ الأتْرُجُّ بالحَبَشِيَّةِ مُتْكاً وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ رجُلٍ عنْ مُجاهِدٍ مُتْكاً كلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بالسِّكِّينِ
فُضَيْل مصغر فضل وَهُوَ ابْن عِيَاض بن مُوسَى أَبُو عَليّ، ولد بسمرقند نَشأ بأبيورد، وَكتب الحَدِيث بكوفة وتحول إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وقبره بِمَكَّة يزار، وحصين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. قَوْله: (متكأ) بِضَم الْمِيم وَتَشْديد التَّاء وَفتح الْكَاف وبالهمزة المنونة، وَفَسرهُ مُجَاهِد بِأَنَّهُ الأترج، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون التَّاء وَضم الرَّاء وَتَشْديد الْجِيم، وروى هَذَا التَّعْلِيق ابْن الْمُنْذر عَن يحيى بن مُحَمَّد بن يحيى: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا يحي بن سعيد عَن فُضَيْل بن عِيَاض عَن حُصَيْن بِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: متكأ مَا يتكأ عَلَيْهِ من نمارق، وَقيل: متكأ مجْلِس الطَّعَام لأَنهم كَانُوا يتكئون للطعام وَالشرَاب والْحَدِيث كعادة المترفين، وَلِهَذَا نهى أَن يَأْكُل الرجل مُتكئا، وَعَن مُجَاهِد: متكأ طَعَاما يحز حزاً، كَأَن الْمَعْنى: يعْتَمد بالسكين لِأَن الْقَاطِع يتكىء على الْمَقْطُوع بالسكين، وَيُقَال فِي الأترج: الاترنج، بالنُّون الساكنة بعد الرَّاء ويدغم النُّون فِي الْجِيم أَيْضا، وَكَانَت زليخا أَهْدَت ليوسف أترجة على نَاقَة وَكَأَنَّهَا الأترجة الَّتِي ذكرهَا أَبُو دَاوُد فِي: (سنَنه) أَنَّهَا شقَّتْ بنصفين وحملا كالعدلين على جمل. قَوْله: (قَالَ فُضَيْل الأترج بالحبشية متكأ) أَي: بِلِسَان الْحَبَشَة، أَو باللغة الحبشية. قَوْله: متكاً بِضَم الْمِيم وَسُكُون التَّاء وبتنوين الْكَاف، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن إِسْمَاعِيل بن عُثْمَان: حَدثنَا يحيى بن يمَان عَنهُ، وَقَرَأَ: متكاً، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد التَّاء وتنوين الْكَاف بِغَيْر همزَة، وَعَن الْحسن: متكأً، بِالْمدِّ كَأَنَّهُ مفتعال وَذَلِكَ لإشباع فَتْحة الْكَاف لقَوْله: بمنتزاح، بِمَعْنى منتزح. قَوْله: (وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة) وَهُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة (عَن رجل) هُوَ مَجْهُول (عَن مُجَاهِد متكأً) بِضَم الْمِيم وَسُكُون التَّاء وتنوين الْكَاف، وَهُوَ (كل شَيْء قطع بالسكين) وَقيل: من متك الشَّيْء بِمَعْنى: بتكه إِذا قطعه، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: متكأ على وزن مفعل من تكأ يتكأ إِذا اتكا.
وَقَالَ قَتادَة لَذُو عِلْمٍ عامِلٌ بِمَا عَلِمَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لذُو علم لما علمناه} (يُوسُف: 68) . . الْآيَة، وَفسّر قَتَادَة قَوْله: لذُو علم، بقوله: عَامل بِمَا علم. وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو معمر عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْقطيعِي حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، وَالضَّمِير فِي: أَنه، يرجع إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا لَا يَتَّضِح إلاَّ إِذا وقف الشَّخْص على الْقَضِيَّة من قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد} (يُوسُف: 67) إِلَى قَوْله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} (يُوسُف: 72) .
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ صُوَاعٌ مَكُّوكُ الْفارِسِيِّ الَّذِي يلْتقِي طَرَفاهُ كانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الأعاجِمُ
أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا انفقد صواع الْملك} . . الْآيَة، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن أَبِيه: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير، وَرَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي: (غرائب شُعْبَة) ، وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: (صواع الْملك) قَالَ: كَانَ كَهَيئَةِ المكوك من فضَّة يشربون فِيهِ، وَقد كَانَ للْعَبَّاس مثله فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ زيد بن زيد: كَانَ كأساً من ذهب، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ من فضَّة مرصعة بالجواهر جعلهَا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، مكيالاً لَا يُكَال بغَيْرهَا وَكَانَ يشرب فِيهَا. وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ قدحاً من زبرجد، والمكوك، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الْكَاف المضمومة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره كَاف أُخْرَى: وَهُوَ مكيال مَعْرُوف لأهل الْعرَاق فِيهِ ثَلَاث كيلجات، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المكوك إسم للمكيال وَيخْتَلف فِي مِقْدَاره باخْتلَاف اصْطِلَاح النَّاس عَلَيْهِ فِي الْبِلَاد، وَفِي حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يتَوَضَّأ بالمكوك الْمَدّ) . وَقيل: الصَّاع، وَيجمع على: مكاكي، على إِبْدَال الْيَاء من الْكَاف الْأَخِيرَة، وَقَرَأَ الْجُمْهُور: صواع، وَعَن أبي هُرَيْرَة، أَنه قَرَأَ: أصاع الْملك، وَعَن أبي رَجَاء: صوع، بِسُكُون الْوَاو، وَعَن يحيى بن يعمر مثله. لَكِن بغين مُعْجمَة، حَكَاهَا الطَّبَرِيّ.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ تُفَنِّدُونِ تُجَهِّلُونِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي لأجد ريح يُوسُف لَوْلَا أَن تفندون} (يُوسُف: 94) وَفَسرهُ بقوله: (تجهلون) وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تسفهوني، وَقَالَ مُجَاهِد: لَوْلَا أَن تَقولُوا ذهب عقلك، وَوجد ريح يُوسُف من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، وتفندون من الفند بِفَتْح النُّون وَهُوَ: الْهَرم.
وَقَالَ غَيْرُهُ غيابَةُ الحبِّ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئا فَهُوَ غَيابَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والقوه فِي غيابة الْحبّ يلتقطه بعض السيارة} (يُوسُف: 10) ظَاهر الْكَلَام أَن قَوْله: (وَقَالَ غَيره) غير ابْن عَبَّاس لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ من كَلَام ابْن عَبَّاس وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام أبي عُبَيْدَة. قلت: لَا مَانع أَن يكون قَول أبي عُبَيْدَة من قَول ابْن عَبَّاس. قَوْله: (كل شَيْء) ، مُبْتَدأ وَقَوله: (غيب عَنْك) فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهُ صفة لشَيْء (وشيأ) مفعول غيب. قَوْله: (فَهُوَ غيابة) جملَة إسمية وَقعت خبر الْمُبْتَدَأ. أَو الْمُبْتَدَأ إِذا تضمن معنى الشَّرْط تدخل الْفَاء فِي خَبره. قَوْله: (غيابة الْجب) ، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: قَعْر الْجب وظلمته حَيْثُ يغيب خَبره، وَقَالَ قَتَادَة: أَسْفَله وَأَصله من الغيبوبة.
وَالجُبُّ الرَّكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ
أَي: الْجب الْمَذْكُور فِي قَوْله: (غيابة الْجب) هُوَ الْبِئْر الَّتِي لم تطو، وَكَذَلِكَ القليب، قَالَ الْجَوْهَرِي: القليب الْبِئْر قبل أَن تطوى، وَسميت جبا من أجل أَنَّهَا قطعت قطعا وَلم يحدث فِيهَا غير الْقطع من الطي وَمَا أشبهه.
بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمُصدِّق
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى، حِكَايَة عَن قَول إخْوَة يُوسُف: {وَتَركنَا يُوسُف عِنْد متاعنا فَأَكله الذِّئْب وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا وَلَو كُنَّا صَادِقين} (يُوسُف: 17) وَالْمعْنَى: وَمَا أَنْت بمصدق فِي كلامنا، وَفِي التَّفْسِير: وَمَا أَنْت بمصدق لنا لسوء ظَنك بِنَا وتهمتك لنا، وَهَذَا قَمِيصه ملطخ بِالدَّمِ.
يُقالُ بَلَغَ أشُدَّهُ قَبْلَ أنْ يَأْخُذ فِي النُّقْصانِ وَقَالُوا بَلَغَ أشُدَّهُ وَبَلَغُوا أشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُها شَدٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما} وَفسّر قَوْله: أشده، بقوله: قبل أَن يَأْخُذ فِي النُّقْصَان، وَأَرَادَ بِهِ عز مُنْتَهى شبابه وقوته وشدته، وَاخْتلف فِيهِ، فَذكر ابْن الْمُنْذر عَن الشّعبِيّ وَرَبِيعَة وَزيد بن أسلم وَمَالك: أَنه الْحلم، وَعَن سعيد ابْن جُبَير ثَمَانِيَة عشرَة سنة، وَقيل: عشرُون، وَقيل: خمس وَعِشْرُونَ، وَقيل: ثَلَاثُونَ، وَقيل: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ قَالَه مُجَاهِد: وَقيل: أَرْبَعُونَ. وَقيل: سبع عشرَة سنة، وَقيل: خمس وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل: ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ سنة، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَا بَين ثَمَان عشرَة إِلَى ثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: سِتُّونَ سنة، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأَظْهر أَنه أَرْبَعُونَ لقَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما} وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتنبى إلاَّ بعد أَرْبَعِينَ سنة. قَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيحيى أَيْضا تنبأ لدوّنَ الْأَرْبَعين لقَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} (مَرْيَم: 12) قلت لَهُ أَن يَقُول: هما مخصوصان بذلك من دون سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (يُقَال بلغ أشده وبلغوا أَشَّدهم) ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه يُضَاف إِلَى الْمُفْرد وَالْجمع بِلَفْظ وَاحِد. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم: وَاحِدهَا:) أَي: وَاحِد الأشد وَهُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ وَالْكسَائِيّ، وَزعم أَبُو عُبَيْدَة أَنه لَيْسَ لَهُ وَاحِد من لَفظه.
وَالمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأَتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أوْ لِحَدِيثٍ أوْ لِطعامٍ وَأبْطَلَ الَّذِي قَالَ الأُتْرُجُّ وَلَيْسَ فِي كَلامِ العَرَبِ الأُتْرُجُّ فَلَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بأنّهُ المُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا إنَّما هُوَ المُتْكُ سَاكِنَةَ التّاءِ وَإنّما المُتْكُ طَرَفُ البَظرِ وَمِنْ ذالِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكاءُ وَابنُ المَتْكاءِ فَإنْ كَانَ ثمَّ أُترُجٌّ فَإنّهُ بَعْدَ المُتَّكَإِ.
لما ذكر فِيمَا مضى عَن قريب عَن مُجَاهِد أَن المتكأ الأترج، أنكر ذَلِك، فَقَالَ: المتكأ مَا اتكأت عَلَيْهِ لأجل شرب شراب أَو لأجل حَدِيث أَو لأجل طَعَام. قَوْله: وأبطل قَول الَّذِي قَالَ: المتكأ الأترج، ثمَّ ادّعى أَنه لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب الأترج، يَعْنِي: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب تَفْسِير المتكأ بالأترج، وَفِيه نظر، حَتَّى قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) هَذِه الدَّعْوَى من الْأَعَاجِيب فقد قَالَ فِي (الْمُحكم) المتكأ الأترج، وَعَن الْأَخْفَش كَذَلِك، وَفِي (الْجَامِع) المتكأ الأترج، وأنشدوا:
(فنشرب الْإِثْم بالصواع جهارا ... ونرى المتك بَيْننَا مستعارا)
وَأَبُو حنيفَة الدينَوَرِي زعم أَن المتكا بِالضَّمِّ الأترج، وَالَّذِي بِفَتْح الْمِيم السوسن، وبنحوه ذكره أَبُو عَليّ القالي وَابْن فَارس فِي (الْمُجْمل) وَغَيرهمَا. قَوْله: (فَلَمَّا احْتج عَلَيْهِم) ، بِصِيغَة الْمَجْهُول. (يان المتكأ من نمارق) إِلَى آخِره ظَاهر. قَوْله: (وَإِنَّمَا المتك) ، بِعني: بِالضَّمِّ، طرف البظر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء، وَهُوَ مَا تبقيه الخاتنة بعد الْخِتَان من الْمَرْأَة. قَوْله: (وَمن ذَلِك) أَي: وَمن هَذَا اللَّفْظ: (قيل لَهَا) أَي: للْمَرْأَة. (متكاء) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون التَّاء وبالمد، وَهِي الَّتِي لم تختن، وَيُقَال لَهَا: البظراء أَيْضا ويعير الرجل بذلك، فَيُقَال لَهُ: ابْن المتكاء. قَوْله: (فَإِن كَانَ ثمَّ أترج) بِفَتْح الْفَاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم، أَي: فَإِن كَانَ هُنَاكَ أترج فَإِنَّهُ كَانَ بعد المتكاء، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالَ البُخَارِيّ مَا قَالَه من ذَلِك تبعا لأبي عُبَيْدَة فَإِنَّهُ قَالَ: زعم قوم أَنه الأترج، وَهَذَا أبطل بَاطِل فِي الأَرْض، وَلَكِن عَسى أَن يكون مَعَ المتكاه أترج يَأْكُلُونَهُ. قلت: كَأَنَّهُ لم يفحص عَن ذَلِك كَمَا يَنْبَغِي. وقلد أَبَا عُبَيْدَة، والأفة من التَّقْلِيد، وَكَيف يَصح مَا قَالَه من ذَلِك وَقد روى عبد بن حميد من طَرِيق عَوْف الْأَعرَابِي عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إِنَّه كَانَ يقْرؤهَا: متكاء، مُخَفّفَة وَيَقُول: هُوَ الأترج، وَأَيْضًا قد روى مثله عَمَّن ذَكَرْنَاهُمْ الْآن.
شَغَفَها يُقَالُ بَلَغَ إلَى شِغافَها وَهُوَ غِلافُ قَلْبِها وَأمّا شَعَفَها فَمِنَ المَشْعُوفِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {امْرَأَة الْعَزِيز تراود فناها عَن نَفسه قد شغفها حبا إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين} (يُوسُف: 30) قَوْله: (قد شغفها) ، أَي: قد شغف يُوسُف زليخا، يَعْنِي: بلغ حبه إِلَى شغافها، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة فِي ضبط الْمُحدثين، وَعند أهل اللُّغَة بِالْفَتْح، وَهُوَ غلاف قَلبهَا، وَقيل: الشغاف حَبَّة الْقلب، وَقيل: هُوَ علقَة سَوْدَاء فِي صميمه. قَوْله: (وَأما شعفها) ، يَعْنِي: بِالْعينِ الْمُهْملَة فَمن المشعوف، يُقَال: فلَان مشعوف بفلان إِذا بلغ بِهِ الْحبّ أقْصَى الْمذَاهب، وَيُقَال: فلَان شعفه الْحبّ، أَي أحرق قلبه.
أصْبُ أمِيلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل حِكَايَة عَن قَول يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام: {وإلاَّ تصرف عني كيدهن أَصْبُ إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} (يُوسُف: 33) وَفسّر: أصبُ، بقوله: أميل، يُقَال: صبا إِلَى اللَّهْو، يصبو صبوا إِذا مَال إِلَيْهِ، وَمِنْه سمي الصَّبِي لِأَنَّهُ يمِيل إِلَى كل شَيْء.
أضْغَاثُ أحْلامٍ مَا لَا تَأْوِيلَ لَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أضغاث أَحْلَام وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين} (يُوسُف: 44) والأضغاث جمع ضغث، وَهُوَ ملْء الْيَد من حشيش، وَفسّر قَوْله: أضغاث أَحْلَام، بقوله: مَا لَا تَأْوِيل لَهُ لِأَنَّهُ من الأخلاط والرؤيا الكاذبة الَّتِي لَا أصل لَهَا. وَقَوله: (أضغاث أَحْلَام) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. قَوْله: (مَا لَا تَأْوِيل لَهُ) ، خَبره وَكلمَة مَا مَوْصُولَة.
وَالضِّغْثُ مِلْءُ اليَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أشْبَهَهُ وَمِنْهُ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا لَا مِنْ قَوْلِهِ أضْغاثُ أحْلامٍ وَاحِدُها ضِغْثٌ
أَشَارَ بقوله: {والضغث} إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الضغث وَاحِد. الأضغاث وَالْآخر: أَن تَفْسِيره بملء الْيَد من حشيش وَمَا أشبهه، وَأَرَادَ أَن الضغث الَّذِي هُوَ ملْء الْكَفّ من أَنْوَاع الْحَشِيش هُوَ المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ} (ص: 44) وَذَلِكَ فِي قصَّة أَيُّوب، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن المُرَاد من الأضغاث هُنَا هُوَ الَّذِي واحده ضغث الَّذِي هُوَ بِمَعْنى مَا لَا تَأْوِيل لَهُ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أضغاث أَحْلَام} مَا حَاصله أَن الضغث فِي قَوْله: (وَخذ بِيَدِك ضغثا) بِمَعْنى: ملْء الْكَفّ من الْحَشِيش، لَا بِمَعْنى: مَا لَا تَأْوِيل لَهُ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أضغاث أَحْلَام} قَالَ: أخلاط أَحْلَام، وروى أَبُو يعلى بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {أضغاث أَحْلَام} قَالَ: هِيَ الأحلام الكاذبة.
نَمِيرُ مِنَ المِيرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا ونمير أهلنا} (يُوسُف: 6) الْميرَة بِكَسْر الْمِيم الطَّعَام، وَالْمعْنَى: نجلب إِلَى أهلنا الطَّعَام يُقَال: مار أَهله يميرهم إِذا أَتَاهُم بِطَعَام.
وَنزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ
أَي نزداد على أحمالنا حمل بعير يُكَال لَهُ مَا حمل بعيره، وروى الْفرْيَابِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: كيل بعير أَي: كيل حمَار. وَذكر الثَّعْلَبِيّ أَنه لُغَة يُقَال للحمار بعير. وَيُؤَيّد ذَلِك أَن إخْوَة يُوسُف كَانُوا من أَرض كتمان وَلَيْسَ بهَا إبل.
آوِي إلَيْهِ ضَمَّ إلَيْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلما دخلُوا على يُوسُف آوي إِلَيْهِ أَخَاهُ} (يُوسُف: 69) الْآيَة. أَي: فَلَمَّا دخلت إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ ضم يُوسُف إِلَى نَفسه أَخَاهُ بنيامين من آوى يؤوى إيواء.
السَّقايَةُ مِكْيَالٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جهزهم بجهازهم جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} (يُوسُف: 70) وَفسّر السِّقَايَة وَله مكيال، وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي كَانَ يُوسُف يشرب بِهِ فَجعله ميكالاً لِئَلَّا يكتالوا بِغَيْرِهِ فيظلموا وَيُقَال: السِّقَايَة هِيَ الصواع كَانَ الْملك يسْقِي بهَا ثمَّ جعلت صَاعا يُكَال بِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
تَفْتَأُ لَا تَزَالُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {تالله تفتأ تذكر يُوسُف} (يُوسُف: 85) أَي: لَا تفتأ فَحذف حرف النَّفْي، وَالْمعْنَى: أَن أخوة يُوسُف قَالُوا ليعقوب أَبِيهِم: وَالله لَا تزَال تذكر يُوسُف وَلَا تفتر من حبه {حَتَّى تكون حرضا} الْآيَة. يُقَال: مَا فتئت أذكر ذَلِك وَمَا فتأت أفتأ وافتو فتاء وفتوءا. وَقَالَ أَبُو زيد: مَا افتأت أذكرهُ وَمَا فتئت أذكرهُ أَي: مَا زلت أذكرهُ لَا يتَكَلَّم بِهِ إلاّ مَعَ الْجحْد. وَقَوله: {تالله تفتأ تذكر يُوسُف} أَي: مَا تفتأ قلت الصَّوَاب لَا تفتأ.
حَرَضا مُحْرَضا يُذِيبُكَ الْهَمُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تكون حرضا أَو تكون من الهالكين} وَذكر أَن حرضا بِمَعْنى، محرض، على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول وَفَسرهُ بقوله: يذيبك الْهم من الإذابة. وَقيل: مَعْنَاهُ تكون دنفا وَقيل: قَرِيبا من الْمَوْت، وَقَالَ الْفراء الحرض هُوَ الْفَاسِد فِي جِسْمه، وعقله وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى وَالْجمع والمذكر والمؤنث لِأَنَّهُ مصدر وضع مَوضِع الْأَلَم، وَمن الْعَرَب من يؤنث مَعَ الْمُؤَنَّث. وَقَرَأَ أنس بِضَم الْحَاء، وَعَن قَتَادَة: حرضا هرما. وَعَن الضَّحَّاك بَالِيًا ذَا بلَاء، وَعَن الرّبيع ابْن أنس، يَابِس الْجلد على الْعظم، وَعَن الْحسن: كالشيء المدقوق المكسور، وَعَن القتبي: سَاقِطا. قَوْله: {أَو تكون من الهالكين} أَي: الميتين.
تَحَسَّسوا تَحَبرُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا بني اذْهَبُوا فتحسسوا من يُوسُف وأخيه} (يُوسُف: 87) الْآيَة. وَفسّر: تحسسوا بقوله: تخبروا. أَي: اطْلُبُوا الْخَبَر وتحسسوا تَفعلُوا من الْحس، يَعْنِي: تتبعوا. وَعَن ابْن عَبَّاس: التمسوا. وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن الْفرق بَين التحسس، بِالْحَاء الْمُهْملَة، والتجسس، بِالْجِيم؟ فَقَالَ: لَا يعدو أَحدهمَا عَن الآخر إلاَّ أَن التحسس فِي الْخَيْر والتجسس فِي الشَّرّ، وَقيل: بِالْحَاء لنَفسِهِ وبالجيم لغيره، وَمِنْه الجاسوس.
مُزْجاةٌ قَلِيلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة} وفسرها بقوله قَليلَة. وَقيل: ردية، وَقيل: فَاسِدَة. وَعَن قَتَادَة: يسيرَة، وَكَانَت البضاعة من صوف وَنَحْوه. وَقيل: دَرَاهِم لَا تزوج، وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس: كَانَت دَرَاهِم زُيُوفًا لَا تنْفق إلاَّ بوضيعة. وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا خلق الغرارة وَالْحَبل وَرَثَة الْمَتَاع.
غَاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ الله عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أفأمنوا أَن تأتيهم غاشية من عَذَاب الله أَو تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ} (يُوسُف: 107) وَفسّر غاشية بقوله: (عِمَامَة) أَي: نقمة عَامَّة. قَوْله: (مُجَللَة) ، بِالْجِيم من جلل الشَّيْء تجليلاً أَي: عَمه، وَهُوَ صفة غاشية لِأَن ابْن عَبَّاس فسر الغاشية بقوله: مُجَللَة، وَيرد بِهَذَا قَول بَعضهم: أَن مُجَللَة تَأْكِيد عَامَّة. وَقَالَ قَتَادَة: غاشية وقيعة، وَقَالَ الضَّحَّاك: الصَّوَاعِق والقوارع.
(بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَلَيْسَ فِي مُعظم النّسخ لفظ بَاب.
اسَتَيْأَسُوا يَئِسُوا لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله مَعْناهُ الرَّجاءُ
لم يثبت هَذَا أَلا لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَأَشَارَ بقوله: {استيأسوا} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا} (يُوسُف: 80) وَفَسرهُ بقوله: (يئسوا) أَي: فَلَمَّا أيس أخوة يُوسُف من يُوسُف أَن يُجِيبهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوهُ خلصوا نجيا. أَي: خلا بَعضهم بِبَعْض يتناجون ويتشاورون لَا يخالطهم غَيرهم، والآن يَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله: {لَا تيأسوا من روح الله} أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تيأسوا من روح الله إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} (يُوسُف: 87) وَمعنى من روح الله من رَحمته، قَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك: من فضل الله، وَقَالَ ابْن زيد: من فرج الله، وَهَذَا حِكَايَة عَن كَلَام يَعْقُوب، عَلَيْهِ السَّلَام، لأولاده قَوْله: (مَعْنَاهُ الرَّجَاء) أَي: معنى عدم الْيَأْس الرَّجَاء أَو معنى التَّرْكِيب الرَّجَاء، أَو لَا روح بِهِ حَقِيقَة.
خَصَلُوا نَجِيّا اعْتَزَلُوا نَجِيّا وَالجِسْمِ أنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالاثْنَانِ وَالجَمِيعُ نَجِيٌّ وَأنْجِيَةٌ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا} وَلم يثبت هَذَا إلاَّ لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني وَقَوله: (خلصوا) جَوَاب لما وَفسّر خلصوا بقوله: (اعتزلوا) وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: اعْتَرَفُوا وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، والنجي هُوَ الَّذِي يُنَاجِي، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والاثنان وَالْجمع الْمُذكر والمؤنث لِأَنَّهُ مصدر فِي الأَصْل جعل نعتا كالعدل والزور وَنَحْوهمَا وَجَاء جمعه أنجية وَقد نبه عَلَيْهِ بقوله: وأنجبة وانتصاب: نجيا، على الْحَال أَي: حَال كَونهم متناجين فِيمَا يعْملُونَ فِي ذهابهم إِلَى أَبِيهِم من غير أخيهم.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أتَمَّها عَلَى أبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ} (يُوسُف: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتم نعْمَته عَلَيْك} الْآيَة. وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب قَوْله: (وَيتم نعْمَته) أَي: وَيتم الله نعْمَته عَلَيْك، وَالْخطاب ليوسف، عَلَيْهِ السَّلَام، وإتمام النِّعْمَة بِالنُّبُوَّةِ، وَقيل: بإعلاء الْكَلِمَة، وَقيل: بِأَن أحْوج إِلَيْك إخْوَتك قَوْله: (وعَلى آل يَعْقُوب) هم وَلَده، وَقيل: هُوَ وَامْرَأَته وَأَوْلَاده الْأَحَد عشر، وإتمام النِّعْمَة: الْجمع بَين نعْمَة الدُّنْيَا وَهِي الْملك ونعمة الْآخِرَة. قَوْله: (كَمَا أتمهَا) أَي: النِّعْمَة فنعمته على إِبْرَاهِيم أَن أَنْجَاهُ من النَّار، وعَلى إِسْحَاق أَن أَنْجَاهُ من الذّبْح.
4688 - ح دَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الصَّمَّدِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ الله بنِ دِينارٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فيهمَا هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء الْأَرْبَعَة عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (حَدثنِي) ، ويروى: حَدثنَا بنُون(18/303)
الْجمع، وَوَقع فِي أَطْرَاف خلف. قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد. وبالتحديث أَكثر، وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَالْحَدَث مضى فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي بَاب قَوْله الله عز وَجل: {لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين} (يُوسُف: 7) .
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإخْوَتِهِ آيَاتٌ للسَّائِلِينَ} (يُوسُف: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لقد كَانَ فِي يُوسُف} الْآيَة. وَهَذَا مُكَرر لِأَن هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا مَعَ الحَدِيث الَّذِي لَهَا قد مضيا فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، وَفِي حَال الْإِسْنَاد وَبَعض الْمَتْن تغاير على مَا يَأْتِي.
4689 - ح دَّثني مُحَمَّدٌ أخْبَرنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ سَعِيدٍ بنِ أبِي سَعِيدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ النَّاسِ أكْرَمُ قَالَ أكْرَمُهُمْ عِنْدَ الله أتْقاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذا نَسْألُكَ قَالَ فَأكْرَمُ النّاس يُوسُفُ نَبيُّ الله ابنُ نَبِيِّ الله ابنِ نَبِيِّ الله ابنِ خَلِيلِ الله قَالُوا لَيْسَ عَنْ هاذا نَسْألُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُونَي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخَيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَةِ خِيَارُكُمْ فِى الإسْلامِ إذَا فَقُهُوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ مَعَ بعض التعسف من حَيْثُ أَن فِي الْآيَة سؤالاً عَن يُوسُف الَّذِي هُوَ أكْرم النَّاس من حَيْثُ النّسَب، وَفِي الحَدِيث أخبر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن صفته تِلْكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه أكْرم النَّاس من حَيْثُ النّسَب لِأَنَّهُ نَبِي ابْن نَبِي ابْن نَبِي ابْن نَبِي، وَلم يتَّفق هَذَا لأحد غَيره، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام، وَعَبدَة ضد الْحرَّة ابْن سُلَيْمَان، وَعبيد الله هُوَ الْمَعْرُوف بالعمري، وَسَعِيد بن أبي سعيد المَقْبُري وَاسم أَبِيه كيسَان؟ قَوْله: (عَن معادن الْعَرَب) أَي: أصولهم الَّتِي يلبسُونَ إِلَيْهَا ويتفاخرون بهَا وشبهوا بالمعادن لما فِيهِ من الاستعدادات المتفاوتة. قَوْله: (فقهوا) بِضَم الْقَاف وَكسرهَا.
تَابَعَهُ أبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله
يَعْنِي: تَابع عَبدة أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن عبيد الله الْعمريّ، وَقد وصل البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {قَالَ بَلْ سوَّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يُوسُف: 18، 83)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله عز وَجل: {بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} إِنَّمَا قَالَ هَذَا يَعْقُوب لِبَنِيهِ لما جاؤوا إِلَيْهِ بقميص يُوسُف ملطخ بِالدَّمِ. قَوْله: (سَوَّلت) يَأْتِي مَعْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَصَبر جميل) أَي: فصبري صَبر جميل وَهُوَ الصَّبْر الَّذِي لَا جزع فِيهِ وَلَا شكوى.
سَوَّلَتْ زَيَّنَتْ
أَشَارَ بِأَن معنى سَوَّلت فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة زينت. روى هَذَا عَن قَتَادَة، وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن عَليّ بن الْحسن حَدثنَا أَبُو الْجمَاهِر أخبرنَا سعيد بن بشير عَنهُ.
4690 - ح دَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ وَحَدَّثنا الحَجّاجُ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ النمَيْرِيُّ حدَّثنا يُونُسُ بنُ يَزِيدُ الأيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بنَ المُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بنَ وَقَاصٍ وَعُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ الله عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ قَالَ لَهَا أهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأها الله. كل حدَّثني طَائِفَةً مِنَ الحَدِيثِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله(18/304)
وَإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي الله وَتُوبِي إلَيْهِ قُلْتُ إنِّي وَالله لَا أَجِدُ مَثَلاً إلاّ أبَا يُوسُفَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ وَأنْزَلَ الله إنَّ الَّذِينَ جاؤوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العَشْرَ الآيَاتِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {فَصَبر جميل} (يُوسُف: 18، 83) الْآيَة. وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي الْمدنِي، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَالْحجاج هُوَ ابْن منهال. والْحَدِيث قد مضى مطولا فِي: بَاب الْإِفْك عقيب، بَاب: غَزْوَة أَنْمَار، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي قَوْله: (وَالْمَيِّت) أَي: قصدت إِلَيْهِ وَنزلت بِهِ.
4691 - حدَّثنا مُوسى احدثنا أَبُو عَوَانَةَ عنْ حُصَيْنٍ عنْ أبي وائلٍ قَالَ حَدثنِي مَسْرُوقُ بنُ الأجْدَعِ قَالَ حدثَتْني أُمُّ رُومانَ وهْيَ أُمُّ عائِشَةَ قالَتْ بَيْنا أَنا وعائِشَةُ أخَذَتْها الحُمَّى فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ قَالَتْ نَعَمْ وقَعَدَتْ عائِشَةُ قالَتْ مَثَلِي ومَثَلُكمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ وَالله المُسْتَعانِ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي بَاب الْإِفْك، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (حَدَّثتنِي أم رُومَان) وَهَذَا صَرِيح فِي سَماع مَسْرُوق عَنْهَا وَالْأَكْثَرُونَ على خِلَافه. قَوْله: (لَعَلَّ فِي حَدِيث) أَي: لَعَلَّ الَّذِي حصل لعَائِشَة من أجل حَدِيث تحدث بِهِ فِي حَقّهَا.
4
- (بابُ قَوْلِهِ: {ورَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ بَيْتِها عنْ نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ} (يُوسُف: 22) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (وراودته) الْآيَة، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب قَوْله: (وراودته) أَي: راودت امْرَأَة الْعَزِيز زليخا يُوسُف، يَعْنِي: طلبت مِنْهُ أَن يواقعها قَوْله: (الْأَبْوَاب) ، وَكَانُوا سَبْعَة، والآن يَأْتِي الْكَلَام فِي لفظ هيت لَك.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ هَيْتَ لَكَ بالحَوْرَانِيَّةِ هَلُمَّ. وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ تَعالَهْ
أَي: قَالَ عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: معنى (هيت لَك) باللغة الحورانية: هَلُمَّ. وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالراء وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ بلد بِالشَّام، وَقَالَ الْبكْرِيّ: حوران على وزن فعلان: أَرض بِالشَّام، وَقَالَ الرشاطي: حوران جبل بِالشَّام، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هِيَ مَدِينَة حوران، وَقَالَ عَليّ بن حَرْب: هِيَ مَدِينَة بصرى. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: حوران من أَعمال دمشق ومدينتها بصرى. وَتَعْلِيق عِكْرِمَة أخرجه عبد بن حميد عَن أبي معمر عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي عرُوبَة عَنهُ، وَمعنى: (هَلُمَّ) أقبل وادن. وَقَالَ الْكسَائي: هَذِه لُغَة أهل حوران وَقعت إِلَى الْحجاز وَمَعْنَاهَا: تعال وَقَالَ الْحسن: هِيَ لُغَة سريانية، وَقَالَ مُجَاهِد: هِيَ لُغَة عَرَبِيَّة تَدعُوهُ إِلَى نَفسهَا. وَهِي كلمة حث وإقبال على الشَّيْء. وَأَصلهَا من الجلبة والصياح، تَقول الْعَرَب: هيت لفُلَان إِذا دَعَاهُ وَصَاح بِهِ. وَقيل: تَقول: هَل لَك رَغْبَة فِي حسني وجمالي؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْعَرَب لَا تثني هيت وَلَا تجمع وَلَا تؤنث وَإِنَّهَا بِصُورَة وَاحِدَة فِي كل حَال، وَإِنَّمَا تتَمَيَّز بِمَا قبلهَا وَبِمَا بعْدهَا.
وَاخْتلف الْقُرَّاء فِيهَا فَقَرَأَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِكَسْر الْهَاء وَضم التَّاء مهموزا يَعْنِي: تهيأت لَك، وَبِه قَرَأَ السّلمِيّ وَأَبُو وَائِل وَقَتَادَة، وَقَرَأَ نصر بن عَاصِم وَيحيى بن عَامر وَعبد الله بن أبي إِسْحَاق بِفَتْح الْهَاء وَكسر التَّاء، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب بِكَسْر الْهَاء وَضم التَّاء، وَفِي (تَفْسِير ابْن مردوية) : وَبِه قَرَأَ ابْن مَسْعُود وَقَرَأَ ابْن كثير بِفَتْح الْهَاء وَضم التَّاء، وَقَالَ النّحاس: بِفَتْح التَّاء وَالْهَاء هُوَ الصَّحِيح فِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس وَابْن جُبَير وَالْحسن وَمُجاهد وَعِكْرِمَة، وَبهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ.
قَوْله: (وَقَالَ ابْن جُبَير) أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير:(18/305)
معنى هيت تعاله، وَهَذَا وَصله الطَّبَرِيّ وَأَبُو الشَّيْخ من طَرِيقه. وَالْهَاء فِي تعاله، للسكت، وَلَفظ: تعال أَمر.
4692 - حدَّثني أحْمَدُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا بِشْرُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ أبي وائِلٍ عنْ عبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ هَيْتَ لَكَ قَالَ وإنَّما نَقْرؤُها كَما عُلِّمْناها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن سعيد بن صَخْر أَبُو جَعْفَر الدَّارمِيّ الْمروزِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْحُرُوف عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن شَيبَان وَهَذَا مَوْقُوف، وَلَكِن قَوْله (وَإِنَّمَا نقرؤها كلما علمناها) يدل على أَنه مَرْفُوع، وَقَالَ النّحاس: وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعلمناها على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَرَأَ عبد الله يَعْنِي بِفَتْح الْهَاء وَالتَّاء.
مَثْوَاهُ مُقامُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {الَّذِي اشْتَرَاهُ من مصر لامْرَأَته كرمي مثواه} (يُوسُف: 25) الْآيَة وَثَبت هَذَا لأبي ذَر وَحده، وَاسم الَّذِي اشْترى يُوسُف قطفير بِكَسْر الْقَاف، وَقيل: بِهَمْزَة بدل الْقَاف، وَامْرَأَته هِيَ زليخا، وَقيل: راعيل، وَفسّر مثواه بقوله: مقَامه وَقيل: منزله، وَقَالَ قَتَادَة وَابْن جريج: مَنْزِلَته.
وألْفَيا وجَد أَلْفَوْا باءَهُمْ ألْفَيْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {واستبقا الْبَاب وقدت قَمِيصه من دبر وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} (يُوسُف: 25) وَمعنى: ألفيا وجدا، وَكَذَا معنى ألفوا وألفينا. قَوْله: (واستبقا الْبَاب) يَعْنِي: يُوسُف وزليخا، يَعْنِي: تبادرا إِلَى الْبَاب، أما يُوسُف ففارا من ركُوب الْفَاحِشَة، وَأما زليخا فطالبة ليوسف ليقضي حَاجَتهَا، فَأَدْرَكته فتعلقت بِقَمِيصِهِ من خَلفه فقدت، أَي: خرقت وَشقت من دبر يَعْنِي: من خلف لَا من قُدَّام، فَلَمَّا خرجا (ألفيا سَيِّدهَا) أَي: وجداز وَجها قطفير عِنْد الْبَاب جَالِسا مَعَ ابْن عَم لَهُ، وَبَقِيَّة الْقِصَّة مَشْهُورَة.
وعنِ ابنِ مَسْعُودٍ بَل عَجِبْتُ ويَسْخَرُونَ
هَذَا فِي سُورَة الصافات: وَهُوَ قَوْله {إِنَّا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون} (الصافات: 11 12) وَلَا مُنَاسبَة لذكره هَهُنَا، وَأجَاب الْكرْمَانِي بقوله: إِنَّه لبَيَان أَن ابْن مَسْعُود كَمَا يقْرَأ هيت مضموم وَالتَّاء يقْرَأ قَوْله: (عجبت) . بِضَم التَّاء قَوْله: (وَعَن ابْن مَسْعُود) مَعْطُوف على الاسناد الَّذِي قبله، وَوَصله الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق جرير عَن الْأَعْمَش بِهَذَا قَوْله: (بل عجبت) فِيهِ قراءتان: (إِحْدَاهمَا) عَن حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَخلف بِضَم التَّاء (وَالْأُخْرَى) عَن البَاقِينَ بِفَتْح التَّاء، فَالْمَعْنى على الأولى: بلغ من أعظم آياتي وَكَثْرَة خلائقي أَنِّي عجبت مِنْهَا، فَكيف بعبادي هَؤُلَاءِ بجهلهم وعنادهم يشخرون من آياتي؟ وَقيل: عجبت من أَن ينكروا الْبَعْث مِمَّن هَذِه أَفعاله وهم يسخرون مِمَّن يصف الله بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. قيل: الْعجب من الله تَعَالَى محَال لِأَنَّهُ روعة تعتري الْإِنْسَان عِنْد استعظام الشَّيْء. وَأجِيب: بِأَن مُجَرّد الْعجب لِمَعْنى الاستعظام، وَقيل: يتخيل الْعجب ويفرض. وَالْمعْنَى على الثَّانِيَة: أَنه خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعْنَاهُ: يَا مُحَمَّد بل عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك.
3693 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ مُسْلِمٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ أنَّ قُرَيْشا لمَّا أبْطَؤُا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإسْلاَمِ قَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فأصابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كلَّ شَيْء حَتَّى أَكَلُوا العِظَامِ حتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وبَيْنَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ الله فارْتَقِبْ يَوْم تأتِي السَّماءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ قَالَ الله إنَّا كاشِفُوا العَذَابِ قلِيلاً إنَّكُمْ عائِدُونَ أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وقَدْ مَضى الدُّخانُ ومَضَتِ البَطْشَةُ.(18/306)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي نفس الحَدِيث: فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَان فَقَالَ: يَا مُحَمَّد إِنَّك تَأمر بِطَاعَة الله وَبِصِلَة الرَّحِم وَإِن قَوْمك قد هَلَكُوا فَادع الله لَهُم الحَدِيث، وَقد مضى فِي كتاب الاسْتِسْقَاء فِي بَاب دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلْهَا سِنِين كَسِنِي يُوسُف فَدَعَا لَهُم بكشف الْعَذَاب فَفِيهِ أَنه عَفا عَن قومه كَمَا أَن يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، عَفا عَن زليخا.
والْحميدِي عبد الله، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَمُسلم بن صبيح بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وكنيته أَبُو الضُّحَى.
قَوْله: (سُفْيَان عَن الْأَعْمَش) وَفِي مُسْند الْحميدِي: عَن سُفْيَان أَخْبرنِي الْأَعْمَش، أَو أخْبرت عَنهُ، كَذَا بِالشَّكِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيقه، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن سُفْيَان، قَالَ: سَمِعت من الْأَعْمَش أَو أخْبرت عَنهُ (فَإِن قلت) هَذَا الشَّك أما يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث؟ (قلت) لِأَنَّهُ مضى فِي الاسْتِسْقَاء من طَرِيق أُخْرَى عَن الْأَعْمَش من غير رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة فَتكون هَذِه مَعْدُودَة فِي المتابعات قَوْله: (حصت) بالمهملتين أَي: أذهبت يُقَال سنة حصاء أَي: جرداء لَا خير فِيهَا، (وَالْبَطْشَة) يَوْم بدر. وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ كتاب الاسْتِسْقَاء.
5
- (بابُ قَوْلِهِ: {فَلمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْألْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ} (يُوسُف: 50 51)
(
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُول} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، والترجمة بِطُولِهَا عِنْد غير أبي ذَر وَعِنْده إِلَى قَوْله: (رَبك) . قَوْله: (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول) أَي: فَلَمَّا جَاءَ يُوسُف رَسُول الْملك، وَقَالَ: أجب الْملك فَأبى أَن يخرج مَعَه حَتَّى يظْهر عذره وبراءته عِنْد الْملك وَيعرف صِحَة أمره من قبل النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ، وقصته مَشْهُورَة قَوْله: (إِن رَبِّي بكيدهن عليم) أَي: إِن الله تَعَالَى عَالم بكيد النِّسَاء، وَقيل: إِن سَيِّدي الْملك قطفير عَالم بِمَا فتنتني بِهِ الْمَرْأَة. قَوْله: (مَا خطبكن) فِيهِ حذف تَقْدِيره، فَرجع الرَّسُول إِلَى الْملك من عِنْد يُوسُف برسالته فَدَعَا الْملك النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ وَامْرَأَة الْعَزِيز، فَقَالَ لَهُنَّ: (مَا خطبكن) أَي: مَا شأنكن وأمركن، (إذراودتن يُوسُف) فأجبنه بقلن: (حاش لله) أَي: معَاذ الله (مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء) أَي: من فَاحِشَة وَبَقِيَّة الْقِصَّة مَشْهُورَة.
وحاشَ وحاشَى تَنْزِيهٌ واسْتِثْناءٌ
إعلم إِن: حاش على ثَلَاثَة أوجه (أَحدهَا) أَن تكون فعلا مُتَعَدِّيا متصرفا، تَقول: حَاشِيَته بِمَعْنى استثنيته (وَالثَّانِي) أَن تكون للتنزيه، نَحْو: حاش لله وَهِي عِنْد الْمبرد وَابْن جنى والكوفيين فعل لتصرفهم فِيهَا بالحذف. وَالصَّحِيح أَنَّهَا اسْم مرادف للتنزيه بِدَلِيل قِرَاءَة بَعضهم: حاشا لله، بِالتَّنْوِينِ كَمَا يُقَال بَرَاءَة لله من كَذَا وَزعم بَعضهم أَنَّهَا اسْم فعل وَمَعْنَاهَا: أَتَبرأ أَو تبرأت. (الثَّالِث) أَن تكون للاستثناء، فَذهب سِيبَوَيْهٍ وَأكْثر الْبَصرِيين إِلَى أَنَّهَا حرف دَائِما بِمَنْزِلَة إِلَّا لَكِنَّهَا تجر الْمُسْتَثْنى وَذهب الْجرْمِي والمازني والمبرد والزجاج والأخفش وَأَبُو زيد وَالْفراء وَأَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ إِلَى أَنَّهَا تسْتَعْمل كثيرا حرفا جارا، وقليلاً فعلا مُتَعَدِّيا جَامِدا لتضمنها معنى إلاَّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة الشين فِي حاش فِي قَوْله حاش لله، مَفْتُوحَة بِغَيْر يَاء، وَبَعْضهمْ يدخلهَا فِي آخرهَا، كَقَوْل الشَّاعِر.
حاشى أبي ثَوْبَان إِن بِهِ ضمنا
وَمَعْنَاهَا التَّنْزِيه وَالِاسْتِثْنَاء عَن الشَّرّ تَقول: حَاشِيَته أَي: استثنيته، وَقد قَرَأَ الْجُمْهُور بِحَذْف الْألف بعد الشين، وَأَبُو عَمْرو بإثباتها فِي الأَصْل، وَفِي حذف الْألف بعد الْحَاء لُغَة، وَقَرَأَ بهَا الْأَعْمَش قَوْله: (تَنْزِيه) من نزه ينزه تَنْزِيها بالزاي كَذَا هُوَ فِي وَرَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا عِيَاض: تبرية من التبرى بِمَعْنى الْبَرَاءَة بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء الْمُهْملَة.
حَصْحَصَ وضَحَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {الْآن حصحص الْحق} (يُوسُف: 51) الْآيَة وفشر: حصحص، بقوله: وضح، وَقيل: ذهب الْبَاطِل وَالْكذب فَانْقَطع وَتبين الْحق وَظهر، وَالْأَصْل فِيهِ: حص. فَقيل: حصحص. كَمَا يُقَال فِي: كف كفكف، وَفِي رد ردد وأصل الحص استئصال الشَّيْء، يُقَال: حص شعره إِذا استأصله جزا.
5
- (بابُ قَوْلِهِ: {فَلمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْألْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ} (يُوسُف: 50 51)
(
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُول} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، والترجمة بِطُولِهَا عِنْد غير أبي ذَر وَعِنْده إِلَى قَوْله: (رَبك) . قَوْله: (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول) أَي: فَلَمَّا جَاءَ يُوسُف رَسُول الْملك، وَقَالَ: أجب الْملك فَأبى أَن يخرج مَعَه حَتَّى يظْهر عذره وبراءته عِنْد الْملك وَيعرف صِحَة أمره من قبل النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ، وقصته مَشْهُورَة قَوْله: (إِن رَبِّي بكيدهن عليم) أَي: إِن الله تَعَالَى عَالم بكيد النِّسَاء، وَقيل: إِن سَيِّدي الْملك قطفير عَالم بِمَا فتنتني بِهِ الْمَرْأَة. قَوْله: (مَا خطبكن) فِيهِ حذف تَقْدِيره، فَرجع الرَّسُول إِلَى الْملك من عِنْد يُوسُف برسالته فَدَعَا الْملك النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ وَامْرَأَة الْعَزِيز، فَقَالَ لَهُنَّ: (مَا خطبكن) أَي: مَا شأنكن وأمركن، (إذراودتن يُوسُف) فأجبنه بقلن: (حاش لله) أَي: معَاذ الله (مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء) أَي: من فَاحِشَة وَبَقِيَّة الْقِصَّة مَشْهُورَة.
وحاشَ وحاشَى تَنْزِيهٌ واسْتِثْناءٌ
إعلم إِن: حاش على ثَلَاثَة أوجه (أَحدهَا) أَن تكون فعلا مُتَعَدِّيا متصرفا، تَقول: حَاشِيَته بِمَعْنى استثنيته (وَالثَّانِي) أَن تكون للتنزيه، نَحْو: حاش لله وَهِي عِنْد الْمبرد وَابْن جنى والكوفيين فعل لتصرفهم فِيهَا بالحذف. وَالصَّحِيح أَنَّهَا اسْم مرادف للتنزيه بِدَلِيل قِرَاءَة بَعضهم: حاشا لله، بِالتَّنْوِينِ كَمَا يُقَال بَرَاءَة لله من كَذَا وَزعم بَعضهم أَنَّهَا اسْم فعل وَمَعْنَاهَا: أَتَبرأ أَو تبرأت. (الثَّالِث) أَن تكون للاستثناء، فَذهب سِيبَوَيْهٍ وَأكْثر الْبَصرِيين إِلَى أَنَّهَا حرف دَائِما بِمَنْزِلَة إِلَّا لَكِنَّهَا تجر الْمُسْتَثْنى وَذهب الْجرْمِي والمازني والمبرد والزجاج والأخفش وَأَبُو زيد وَالْفراء وَأَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ إِلَى أَنَّهَا تسْتَعْمل كثيرا حرفا جارا، وقليلاً فعلا مُتَعَدِّيا جَامِدا لتضمنها معنى إلاَّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة الشين فِي حاش فِي قَوْله حاش لله، مَفْتُوحَة بِغَيْر يَاء، وَبَعْضهمْ يدخلهَا فِي آخرهَا، كَقَوْل الشَّاعِر.
حاشى أبي ثَوْبَان إِن بِهِ ضمنا
وَمَعْنَاهَا التَّنْزِيه وَالِاسْتِثْنَاء عَن الشَّرّ تَقول: حَاشِيَته أَي: استثنيته، وَقد قَرَأَ الْجُمْهُور بِحَذْف الْألف بعد الشين، وَأَبُو عَمْرو بإثباتها فِي الأَصْل، وَفِي حذف الْألف بعد الْحَاء لُغَة، وَقَرَأَ بهَا الْأَعْمَش قَوْله: (تَنْزِيه) من نزه ينزه تَنْزِيها بالزاي كَذَا هُوَ فِي وَرَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا عِيَاض: تبرية من التبرى بِمَعْنى الْبَرَاءَة بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء الْمُهْملَة.
حَصْحَصَ وضَحَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {الْآن حصحص الْحق} (يُوسُف: 51) الْآيَة وفشر: حصحص، بقوله: وضح، وَقيل: ذهب الْبَاطِل وَالْكذب فَانْقَطع وَتبين الْحق وَظهر، وَالْأَصْل فِيهِ: حص. فَقيل: حصحص. كَمَا يُقَال فِي: كف كفكف، وَفِي رد ردد وأصل الحص استئصال الشَّيْء، يُقَال: حص شعره إِذا استأصله جزا.(18/307)
4694 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ تَلِيدٍ حَدثنَا عبْدُ الرحْمانِ بنُ القاسِمِ عنْ بَكْرِ بنِ مُضَرَ عنْ عمْرِو بنِ الحارِثِ عنْ يُونُسَ بنِ يَزِيدَ عَن ابنِ شهابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ وَأبي سلَمَةَ بنِ عبْدِ الرحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْحَمُ الله لُوطا لَقَدْ كانَ يأوي إِلَى رُكْنٍ شَديدٍ ولوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأجَبْتُ الدَّاعِي وَنحنُ أَحَقُّ مِنْ إبْراهِيمَ إذْ قَالَ لهُ أوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلى ولاكِنْ لِيَطْمَئنَّ قَلْبِي.
يُمكن أَن يَأْخُذ وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث من قَوْله: (وَلَو لَبِثت فِي السجْن مَا لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي) على مَا لَا يخفي على المتأمل الفطن.
وَسَعِيد بن تليد: بِفَتْح التار الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة، وَهُوَ سعيد بن عِيسَى بن تليد الْمصْرِيّ. مر فِي كتاب بَدْء الْخلق، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم العتقي، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَبعدهَا قَاف الْمصْرِيّ الْفَقِيه صَاحب الإِمَام مَالك وراوي الْمُدَوَّنَة من علمه، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع.
وَهَذَا الْإِسْنَاد من أَوله إِلَى قَوْله: عَن ابْن شهَاب، مصريون، وَمن ابْن شهَاب إِلَى آخِره مدنيون، وَفِيه رِوَايَة الأقران لِأَن عَمْرو بن الْحَارِث الْمصْرِيّ الْفَقِيه الْمَشْهُور من أَقْرَان يُونُس بن يزِيد.
قَوْله: (يرحم الله لوطا لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد) قد مر فِي بَاب {ولوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (الْأَعْرَاف: 80) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج. والْحَدِيث من قَوْله: (وَلَو ثَبت فِي السجْن مَا لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي) قد مر فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين} (يُوسُف: 7) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء إِلَى آخِره وَقَوله: (وَنحن أَحَق من إِبْرَاهِيم) إِلَى آخِره قد مر فِي سُورَة الْبَقَرَة فِي بَاب {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحي الْمَوْتَى} (الْبَقَرَة: 260) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أَحْمد بن صَالح، وَقد مر الْكَلَام فِي الْكل مستقصىً.
6
- (بابُ قَوْلِهِ: {حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ} (يُوسُف: 110) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله: {حَتَّى إِذا استيأس الرسلوظنوا أَنهم قد كذبُوا} (يُوسُف: 110) الْآيَة، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، واستيأس على وزن استفعل من الْيَأْس وَهُوَ ضد الرَّجَاء، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل من إِيمَان قَومهمْ وَظن قَومهمْ أَن الرُّسُل قد كذبتهم رسلهم فِي وعد الْعَذَاب، وَقيل: حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل من قَومهمْ أَن يصدقوهم وَظن الْمُرْسل إِلَيْهِم أَن الرُّسُل كذبوهم. وَقَالَ عَطاء وَالْحسن وَقَتَادَة: ظنُّوا أيقنوا أَن قَومهمْ قد كذبوهم. وَمعنى التَّخْفِيف: ظن الْأُمَم أَن الرُّسُل كذبوهم فِيمَا أخبروهم بِهِ من نصر الله إيَّاهُم بإهلاك أعدائهم وَقَرَأَ مُجَاهِد كذبُوا بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف الذَّال وكسره، وَقَالَ ابْن عَرَفَة الْكَذِب الِانْصِرَاف عَن الْحق. فَالْمَعْنى: كذبُوا تَكْذِيبًا لَا تَصْدِيق بعده.
4695 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ لهُ وهْوَ يَسْألُها عَن قَوْلِ الله تَعَالَى حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ قَالَ قُلْتُ أكُذِبُوا أمْ كُذِّبُوا قالَتْ عائِشَةُ كُذِّبُوا قُلْتُ فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَما هُوَ بالظَنِّ قالَتْ أجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهَا وظنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قالَتْ معَاذَ الله لمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذالِكَ بِرَبِّها قُلْتُ فَما هاذِهِ الآيَةُ قالَتْ هُمْ أتْباعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطال عَلَيْهِمُ البَلاَءُ واسْتأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وظَنَتِ الرُّسُلُ أنَّ أتْباعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جاءَهُمْ نَصْرُ الله.(18/308)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان: والْحَدِيث قد مر فِي قصَّة يُوسُف فِي آخر: بَاب قَوْله تَعَالَى {لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين} (يُوسُف: 7) وَمر الْكَلَام فِيهِ قَوْله: (وَهُوَ يسْأَلهَا) الْوَاو وَفِيه للْحَال أَي: وَعُرْوَة يسْأَل عَائِشَة. قَوْله: (أكذبوا أَو كذبُوا) يَعْنِي: مثقلة أم مُخَفّفَة، قَوْله: (قَالَت عَائِشَة كذبُوا) يَعْنِي بالتثقيل. قَوْله: (ذَلِك) أَي الْكَذِب فِي حق الله تَعَالَى. قَوْله: (أَتبَاع الرُّسُل) وهم الْمُؤْمِنُونَ. فالمظنون تَكْذِيب الْمُؤمنِينَ لَهُم والمتيقن تَكْذِيب الْكفَّار. قَوْله: (معَاذ الله) تعوذت من ظن الرُّسُل أَنهم مكذبون من عِنْد الله، بل ظنهم ذَلِك من قبل المصدقين لَهُم الْمُؤمنِينَ بهم.
4696 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني عرْوَةُ فَقُلْتُ لعَلَّها كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قالَتْ مَعاذَ الله
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث أخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ أوردهُ مُخْتَصرا وَقد سافه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) بِتَمَامِهِ، وَلَفظه: عَن عُرْوَة أَنه سُأل عَائِشَة فَذكر نَحْو حَدِيث صَالح بن كيسَان.
13 - (سورَةُ الرَّعْدِ)
أَي: هَذَا فِي بَيَان تَفْسِير بعض سُورَة الرَّعْد، قيل: إِنَّهَا مَكِّيَّة وَقيل الْمَدِينَة، وَقيل: فِيهَا مكي ومدني، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَسِتَّة أحرف، وَثَمَانمِائَة وَخمْس وَخَمْسُونَ كلمة، وَثَلَاث وَأَرْبَعُونَ آيَة.
بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرحِيمِ
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاّ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {كَباسِطِ كَفّيْهِ مَثَلُ المُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ الله إِلَهًا غَيْرَهُ كَمَثَلَ العَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى خيَالِهِ فِي الماءِ مِنْ بَعِيد وهْوَ يُرِيدُ أنْ يَتَنَاوَلهُ ولاَ يَقْدِرُ} (الرَّعْد: 14) .
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إلاَّ كباسد كفيه إِلَى المَاء ليبلغ فَاه} الْآيَة قَوْله: (وَالَّذين) أَي: الْمُشْركُونَ الَّذين يدعونَ الْأَصْنَام من دون الله يُرِيدُونَ مِنْهَا دفعا أَو رفعا لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء مِمَّن ذَلِك. قَوْله: (كباسط كفيه) أَي: إلاَّ كباسط كفيه، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فِيهِ مثل الْمُشرك الَّذِي عَبده مَعَ الله إِلَهًا آخر إِلَى آخِره، وَوَصله أَبُو مُحَمَّد عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَلَا يقدر) بالراء فِي رِوَايَة أَلا كثرين، وَرُوِيَ: فَلَا يقدم، بِالْمِيم وَهُوَ تَصْحِيف، وَإِن كَانَ لَهُ وَجه من حَيْثُ الْمَعْنى.
وَقَالَ غيْرُهُ سَخَّرَ ذَلَّلَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى} (الرَّعْد: 2) وَفَسرهُ بقوله: (ذلل) يَعْنِي: ذللهما لمنافع الْخلق ومصالح الْعباد كل يجْرِي أَي: كل وَاحِد إِلَى وَقت مَعْلُوم، وَهُوَ فنَاء الدُّنْيَا وَقيام السَّاعَة.
مُتَجاورَاتٌ مُتَدَانِياتٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الأَرْض قطع متجاورات} (الرَّعْد: 4) وَفسّر متجاورات بقوله: متدانيات، وَقيل: متقاربات يقرب بَعْضهَا من بعض بالجوار وَيخْتَلف بالتفاضل. فَمِنْهَا عذبة وَمِنْهَا مالحة وَمِنْهَا طيبَة تنْبت مِنْهَا سبخَة لَا تنْبت.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُتَجَاوِرَاتٌ طَيِّبُها عَذْبُها وخَبِيثُها السَّباخُ
رُوِيَ هَذَا التَّعْلِيق أَبُو بكر بن الْمُنْذر عَن مُوسَى عَن أبي بكر عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.(18/309)
المُثَلاتُ واحِدُها مَثُلَةٌ وهْيَ الأشْبَاهُ والأمْثَالُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقد خلت من قبلهم المثلات} (الرَّعْد: 6) أَي: وَقد مَضَت من قبلهم من الْأُمَم الَّتِي عَصَتْ رَبهَا، وكذبت رسلها بالعقوبات، والمثلات وَاحِدهَا مثلَة، بِفَتْح الْمِيم وَضم الثَّاء مثل صَدَقَة وصدقات، وَفسّر المثلات بقوله: (وَهِي الْأَشْبَاه والأمثال) وَرُوِيَ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: (المثلات) قَالَ: الْأَمْثَال: وَمن طَرِيق معمر عَن قَتَادَة قَالَ: المثلات الْعُقُوبَات، وَمن طَرِيق زيد بن أسلم قَالَ: المثلات مَا مثل الله بِهِ من الْأُمَم من الْعَذَاب، وَسكن يحيى بن وثاب الثَّاء فِي قِرَاءَته وَضم الْمِيم، وَقَرَأَ طَلْحَة بن مصرف بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الثَّاء، وَقَرَأَ الْأَعْمَش بفتحهما وَفِي رِوَايَة عَن أبي بكر ابْن عَيَّاش ضمهما، وَبِه قَرَأَ عِيسَى بن عمر.
بمِقْدَارٍ بِقَدَرٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار} (الرَّعْد: 8) وَفَسرهُ بقوله: (بِقدر) والمقدار على وزن: مفعال مَعْنَاهُ: بِحَدّ لَا يُجَاوِزهُ وَلَا ينقص عَنهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس: مِقْدَار كل شَيْء مِمَّا يكون قبل أَن يكون وَكلما هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
مُعَقِّباتٌ مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الأُولى مِنْها الأُخْرَى ومِنْهُ قِيلَ العَقِيبُ يُقالُ عَقَّبْتُ فِي إثْرِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} (الرَّعْد: 11) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، يُقَال: مُعَقِّبَات فَسرهَا بقوله: مَلَائِكَة حفظَة يتعاقبون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار، فَإِذا صعدت مَلَائِكَة النَّهَار عقبتها مَلَائِكَة اللَّيْل، والتعقيب الْعود بِعْ البدء قَوْله: (لَهُ المعقبات) أَي: لله تَعَالَى مُعَقِّبَات، وَعَن ابْن عَبَّاس: لَهُ مُعَقِّبَات يَعْنِي لمُحَمد من الرَّحْمَن حرس من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ. يَعْنِي: من شَرّ الْإِنْس وَالْجِنّ وَمن شَرّ طوارق اللَّيْل وَالنَّهَار، وَقيل الضَّمِير فِي لَهُ، يرجع إِلَى الْإِنْسَان، والمعقبات جمع معقبة، والمعقبة جمع معقب، فالمعقبات جمع الْجمع كَمَا قيل: ابناوات سعد ورجالات بكر، قَالَه الثَّعْلَبِيّ، وَقيل: المعقبات الخدم والحرس حول السُّلْطَان، وَقيل: مَا يتعقب من أوَامِر الله وقضاياه. قَوْله: (يَحْفَظُونَهُ) أَي: يحفظون المستخفي بِاللَّيْلِ والسارب بِالنَّهَارِ قَوْله: (من أَمر الله) أَي: يَحْفَظُونَهُ بِأَمْر الله من أَمر الله فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا عَنهُ وَعَن ابْن عَبَّاس يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله مَا لم يَجِيء الْقدر قَوْله: (وَمِنْه) قيل: العقيب، أَي، وَمن أصل مُعَقِّبَات يُقَال: العقيب، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي فِي عقب الشَّيْء، وَفِي بعض النّسخ، وَمِنْه الْعقب، بِلَا يَاء بِمَعْنَاهُ، وعقب الرجل نَسْله. قَوْله: (يُقَال: عقب فِي إثره) بتَشْديد الْقَاف فِي ضبط الدمياطي بِخَطِّهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: هُوَ بِفَتْح الْقَاف وتخفيفها، قَالَ: وَضَبطه بَعضهم بتشديدها، وَفِي بعض النّسخ بِكَسْرِهَا، وَلَا وَجه لَهُ إلاَّ أَن يكون لُغَة.
المِحالُ العُقُوبَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وهم يجادلون فِي الله وَهُوَ شَدِيد الْمحَال} (الرَّعْد: 13) وَفَسرهُ بقوله: الْعقُوبَة، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: شَدِيد الْأَخْذ، وَعَن مُجَاهِد، شَدِيد الْقُوَّة، وَعَن الْحسن: شَدِيد المماحلة والمماكرة والمغالبة، وَعَن مُجَاهِد فِي رِوَايَة: شَدِيد انتقام.
كبَاسطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماءِ ليَقْبِضَ عَلَى المَاء
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء ليبلغ فَاه وَمَا هُوَ بالغه} (الرَّعْد: 14) قَوْله: (لَا يستجيبون) ، يَعْنِي: الَّذين يشركُونَ وَيدعونَ الْأَصْنَام من دون الله لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إلاَّ كباسط كفيه أَي: إلاَّ كَمَا ينفع باسط كفيه إِلَى المَاء من الْعَطش ليقبضه حَتَّى يُؤَدِّيه إِلَى فَمه فَلَا يتم لَهُ ذَلِك وَلَا يجمعه، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَعْنِي: كَالرّجلِ العطشان الْجَالِس على شَفير المَاء ويمد يَدَيْهِ إِلَى الْبِئْر فَلَا يبلغ قعرها فَلَا يبلغ إِلَى المَاء وَالْمَاء لَا ينزو وَلَا يرْتَفع إِلَى يَده، كَذَلِك لَا يَنْفَعهُمْ مَا كَانُوا يدعونَ من دون الله عز وَجل. وَالْعرب تضرب لمن سعى فِيمَا لَا يُدْرِكهُ طلب مَا لَا يجده مثلا بالقابض على المَاء، لِأَن الْقَابِض على المَاء لَا يحصل شَيْء فِي يَده.
رَابِيا مِنْ رَبا يَرْبُو
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {أنزل من السَّمَاء مَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا} (الرَّعْد: 17) وَأَشَارَ بقوله: (رابيا) إِلَى أَن(18/310)
اشتقاق رابيا: من رَبًّا يَرْبُو من بَاب فعل يفعل أَي: انتفخ. قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَفِي التَّفْسِير: رابيا عَالِيا مرتفعا فَوق المَاء.
أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ والمَتاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّا توقدون عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاء حلية أَو مَتَاع زبد مثله} (الرَّعْد: 17) وَفسّر بقوله: (وَالْمَتَاع مَا تمتعت بِهِ) قَوْله: (ابْتِغَاء حلية) أَي: لأجل ابْتِغَاء أَي طلب حلية، أَي: زِينَة أَو مَتَاع، وأردبه جَوَاهِر الأَرْض من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والصفر والنحاس والرصاص يذاب فتتخذ مِنْهُ الْأَشْيَاء مِمَّا ينْتَفع بِهِ من الْحلِيّ والأواني وَغَيرهمَا. قَوْله: (زبد مثله) أَي: لَهُ زبد إِذا أذيب مثل الْحق والزبد الَّذِي لَا يبْقى وَلَا ينْتَفع بِهِ مثل الْبَاطِل.
جُفاءً أجْفأتِ القِدْرُ إذَا غَلَتْ فَعَلاَها الزَّبَدُ ثُمَّ تَسْكُنْ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلاَ مَنْفَعَةٍ فَكَذَلِكَ يُمَيَّزُ الحَقُّ مِنَ الباطِلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء} وفشر الْجفَاء بقوله: (أجفأت الْقدر) إِلَى آخِره، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: يُقَال: أجفأت الْقدر، وَذَلِكَ إِذا غلت وانصب زبدها، فَإِذا سكنت لم يبقَ مِنْهُ شيءٍ، وَنقل الطَّبَرِيّ عَن بعض أهل اللُّغَة أَن معنى قَوْله: (فَيذْهب جفَاء) تنشفه الأَرْض، يُقَال: جفأ الْوَادي وأجفأ بِمَعْنى نشف قَوْله: (فَكَذَلِك يُمَيّز الْحق من الْبَاطِل) فِي الْحَقِيقَة إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي أثْنَاء الْآيَات الْمَذْكُورَة كَذَلِك يضْرب الله الْحق وَالْبَاطِل. وأوضح ذَلِك بقوله: (فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض) وَمعنى قَول البُخَارِيّ: فَكَذَلِك، أَي: فَكَمَا ميز الله الزّبد الَّذِي يبْقى من الَّذِي لَا يبْقى وَلَا ينْتَفع بِهِ، ميز الْحق الَّذِي يبْقى وَيسْتَمر من الْبَاطِل الَّذِي لَا أصل لَهُ وَلَا يبْقى.
المِهادُ الفِرَاشُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ المهاد} (الرَّعْد: 18) وَفَسرهُ بقوله: (الْفراش) وَلم يثبت هَذَا إلاَّ فِي غير رِوَايَة أبي ذَر.
يَدْرَؤُنَ يدْفَعُونَ دَرَأْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويدرؤن بِالْحَسَنَة السَّيئَة أُولَئِكَ لَهُم عَقبي الدَّار} (الرَّعْد: 22) وَفسّر قَوْله: (يدرؤن) بقوله (يدْفَعُونَ) يُقَال: درأت فلَانا إِذا دَفعته من الدَّار موهو الدّفع.
سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ أيْ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَليْكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عُقبى الدَّار} (الرَّعْد: 24) وَقد رهنا محذوفا، وَهُوَ: يَقُولُونَ، وَفِي التَّفْسِير: تدخل الْمَلَائِكَة على أهل الْجنَّة فيسلمون عَلَيْهِم بِمَا صَبَرُوا على الْفقر فِي الدُّنْيَا، وَقيل: على الْجِهَاد، وَقيل: على مُلَازمَة الطَّاعَة ومفارقة الْمعْصِيَة، وَقيل: على تَركهم الشَّهَوَات.
وإلَيْهِ مَتابِ تَوْبَتي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا إِلَه إلاّ هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ متاب} (الرَّعْد: 30) وَفِي التَّفْسِير: وَإِلَيْهِ رجوعي، والمتاب مصدر ميمي، يُقَال: تَابَ الله تَوْبَة ومتابا، والتوبه الرُّجُوع من الذَّنب.
أفَلمْ يَيْأسْ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أفلم ييأس الَّذين آمنُوا إِن لَو يَشَاء الله لهدى النَّاس جَمِيعًا} (الرَّعْد: 31) وَفسّر: (أفلم ييأس) بقوله: (فَلم يتَبَيَّن) وَعَن ابْن عَبَّاس: أفلم يعلم قَالَ الْكَلْبِيّ: ييأس يعلم فِي لُغَة النخع. وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَالْحسن وَقَتَادَة والطبري عَن الْقَاسِم بن معن أَنه كَانَ يَقُول: إِنَّهَا لُغَة هوزان، تَقول: يئست كَذَا أَي: عَلمته.
قارِعَةٌ دَاهِيةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} (الرَّعْد: 31) أَي: داهية مهلكة، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة.(18/311)
فأمْلَيْتُ أطلْتُ مِنَ المَلِيِّ والمِلاَوَةِ ومِنْهُ مَليّا ويُقالُ لِلْوَاسِعِ الطّويلِ مِنَ الأرْضِ مَلأ مِنَ الأرْضِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فأمليت للَّذين كفرُوا ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب} (الرَّعْد: 32) وَفسّر أمليت بقوله: أطلت، كَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: من الملى، بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء بِغَيْر همزَة قَالَ الْجَوْهَرِي: الملى الْهوى من الدَّهْر، يُقَال: أَقَامَ مَلِيًّا من الدَّهْر، قَالَ تَعَالَى: {واهجرني مَلِيًّا} (مَرْيَم: 46) أَي: طَويلا وَمضى: ملى من النَّهَار أَي: سَاعَة طَوِيلَة والملاوة، بِكَسْر الْمِيم يُقَال: أَقمت عِنْده ملاوة من الدَّهْر، أَي: حينا وبرهة، وَكَذَلِكَ ملوة من الدَّهْر، بِتَثْلِيث الْمِيم والملا مَقْصُورا: الْوَاسِع من الأَرْض، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الملا مَقْصُورا الصَّحرَاء، والملوان اللَّيْل وَالنَّهَار.
أشَقُّ أشَدُّ مِنَ المَشَقَّةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولعذاب الْآخِرَة أشق وَمَا لَهُم من الله من واق} (الرَّعْد: 34) وَأَرَادَ بقوله: (أَشد) أَن لفظ: أشق، أفعل تَفْضِيل من شقّ يشق.
صنْوَانٌ النَّخْلَتانِ أوْ أكْثَرُ فِي أصْلٍ واحِدٍ وغَيْرُ صِنْوَانٍ وحْدَها بِماءَ وَاحِد كَصالِحِ بَني آدَمَ وخَبِيثِهمْ أبُوهُمْ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {صنْوَان وَغير صنْوَان يسْقِي بِمَاء وَاحِد} (الرَّعْد: 4) الْآيَة وَفسّر قَوْله: (صنْوَان) بقوله: (النخلتان أَو أَكثر فِي أصل وَاحِد) وَكَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس الصنوان مَا كَانَ من نخلتين أَو ثَلَاثًا أَو أَكثر أصلهن وَاحِد، وَهُوَ جمع صنو، وَيجمع فِي الْقلَّة على أصناو، وَلَا فرق بَينهمَا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع إلاَّ فِي الْإِعْرَاب، وَذَلِكَ أَن النُّون فِي التَّثْنِيَة مَكْسُورَة أبدا غير منونة، وَفِي الْجمع منونة تجْرِي بجريان الْإِعْرَاب، والقراء كلهم على كسر الصَّاد إلاَّ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ فَإِنَّهُ يضمها قَوْله: (وَغير صنْوَان وَحدهَا) أَي: وَغير صنْوَان المتفرق الَّذِي لَا يجمعه أصل وَاحِد قَوْله: (بِمَاء وَاحِد) أَي: يسقى بِمَاء وَاحِد، وَفِي رِوَايَة الْفرْيَابِيّ عَن مُجَاهِد مثل مَا قَالَه البُخَارِيّ، لَكِن قَالَ يسْقِي بِمَاء وَاحِد، قَالَ بِمَاء السَّمَاء قَوْله: (كصالح بني آدم) إِلَى آخِره: شبه الصنوان الَّذِي أَصله وَاحِد والصنوان المتفرق الَّذِي لَا يجمعه أصل وَاحِد بِصَالح بني آدم وخبيثهم أبوهم وَاحِد، وَقَالَ الْحسن: هَذَا مثل ضربه الله تَعَالَى لقلوب بني آدم فَقلب يرق فيخشع ويخضع، وقلب يسهو ويلهو، وَالْكل من أصل وَاحِد، وَكَذَلِكَ صنْوَان وَغير صنْوَان مِنْهَا مَا يخرج الطّيب وَمِنْهَا مَا يخرج غير الطّيب، وَأَصله وَاحِد وَالْكل يسْقِي بِمَاء وَاحِد.
السَّحابُ الثِّقالُ الّذِي فِيهِ الماءُ كَباسِطِ كَفّيْهِ يَدْعُو الماءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {يريكم الْبَرْق خوفًا وطعما وينشىء السَّحَاب الثقال} (الرَّعْد: 12) أَي يسير السَّحَاب وَهُوَ جمع سَحَابَة، والثقال صفة السَّحَاب أَي: الثقال بالمطر.
سالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها تَمْلأُ بَطْنَ وادٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {أنزل من السَّمَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا} (الرَّعْد: 17) يَعْنِي: أنزل الله من السَّمَاء مَاء يَعْنِي الْمَطَر، فسالت من ذَلِك المَاء بِقَدرِهَا، الْكَبِير بِقَدرِهِ وَالصَّغِير بِقَدرِهِ، والأودية جمع وادٍ وَهُوَ كل مفرج بَين جبلين يجْتَمع إِلَيْهِ مَاء الْمَطَر، قيل: وَالْقدر مبلغ الشَّيْء، وَالْمعْنَى: بِقَدرِهَا من المَاء وَإِن اتَّسع كثر. قَوْله: (بطن وَاد) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأَصْلِيّ: (تملأ كل وَاحِد بِحَسبِهِ) ، وَفِي التفاسير الْمَذْكُورَة اخْتِلَاف كثير بالتقديم وَالتَّأْخِير وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان.
1 - (بابُ قَوْلِهِ الله {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحامُ} (الرَّعْد: 8) غِيضَ نُقِصَ.)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله الله: (يعلم) الْآيَة: وَفِي بعض النّسخ لفظ: بَاب قَوْله: (وَمَا تغيض) أَي: وَمَا تنقص بِالسقطِ النَّاقِص وَمَا تزداد بِالْوَلَدِ التَّام، وَعَن الضَّحَّاك: غيضها أَن تَأتي بِالْوَلَدِ مَا دون التِّسْعَة وَعَن الْحسن: غيضها السقط، وَقيل: أَن تغيض من السِّتَّة أشهر ثَلَاثَة أَيَّام، وَقيل: تغيض بإراقة الدَّم فِي الْحمل حَتَّى يتضال الْوَلَد، ويزداد إِذا أَمْسَكت الدَّم فيعظم الْوَلَد، وَقيل: تغيض بِمن وَلدته(18/312)
من قبل وتزداد بِمن تلده من بعد وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذِه الْآيَة دَلِيل على أَن الْحَامِل تحيض. وَهُوَ وَاحِد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَ عَطاء وَالشعْبِيّ فِي آخَرين: لَا تحيض وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
4697 - حدَّثنا حدّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حَدثنَا مَعْنٌ قَالَ حدّثني مالِكٌ عنْ عبْدِ الله بن دِينَارٍ عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مفاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُها إلاّ الله لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إلاّ الله وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحامُ إلاّ الله ولاَ يَعْلَمُ مَتَى يأتِي المَطَرُ أَحَدٌ إلاّ الله ولاَ تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ ولاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاّ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ومعن: بِفَتْح وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالنون ابْن عِيسَى الْقَزاز، بِالْقَافِ وَتَشْديد الزَّاي الأولى، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم وَهَذَا هُوَ عَزِيز. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ ابْن أبي ظَبْيَة عَن مَالك عَن عبد الله عَن ابْن عمر مَوْقُوفا.
وَمر الحَدِيث فِي كتاب الاسْتِسْقَاء فِي: بَاب لَا يدْرِي مَتى يَجِيء الْمَطَر إلاّ الله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار.
قَوْله: (مَفَاتِيح الْغَيْب) ، أما اسْتِعَارَة مكنية أَو مصرحة، والتخصيص بِهَذِهِ الْخَمْسَة مَعَ أَن الَّتِي لَا يعلمهَا إِلَّا الله كَثِيرَة إِمَّا لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنهم يعرفونها، أَو لأَنهم سَأَلُوهُ عَنْهَا، مَعَ أَن مَفْهُوم الْعدَد لَا احتجاج بِهِ، فَافْهَم.
بعون الله تَعَالَى وَحسن توفقيه قد تمّ الْجُزْء الثَّامِن عشر ويليه إِن شَاءَ
الله تَعَالَى الْجُزْء التَّاسِع عشر وأوله سُورَة إِبْرَاهِيم(18/313)
41 - (سُورَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
بسَّمِ الله الرَّحمانِ الرَّحِيمِ
لم تثبت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر وَحده، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: فِيهَا آيَة وَاحِدَة مَدَنِيَّة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} (إِبْرَاهِيم: 82) وَعَن الْكَلْبِيّ: هِيَ مَدَنِيَّة نزلت فِيمَن قتل ببدر، وَعَن ابْن الْمُنْذر عَن قَتَادَة: نزلت بِالْمَدِينَةِ من سُورَة إِبْرَاهِيم: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} الْآيَتَيْنِ وسائرها مكي، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَكِّيَّة. وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا، وَثَمَانمِائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ كلمة، وإثنتان وَخَمْسُونَ آيَة.
قَالَ ابنُ عبّاسٍ: هادٍ دَاعٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر وَلكُل قوم هاد} وَلَكِن هَذَا فِي سُورَة الرَّعْد. وَالظَّاهِر أَن ذكر هَذَا هُنَا من بعض النساخ. وَفسّر لفظ: هاد، بقوله: دَاع، وروى هَذَا التَّعْلِيق الْحَنْظَلِي عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ مُجاهدٌ صَدِيدٌ قَيْحٌ ودَمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {من وَرَائه جَهَنَّم ويسقى من مَاء صديد} (إِبْرَاهِيم: 61) لم يذكر هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وروى هَذَا التَّعْلِيق ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى عَن أبي بكر عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَعَن قَتَادَة: هُوَ مَا يخرج من جلد الْكَافِر ولحمه، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب وَالربيع بن أنس: هُوَ غسال أهل النَّار، وَذَلِكَ مَا يسيل من فروج الزناة يسقاه الْكَافِر.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ أيادِيَ الله عِنْدَكُمْ وأَيَّامَهُ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ أنجاكم من آل فِرْعَوْن} (إِبْرَاهِيم: 6) الْآيَة وَفسّر نعْمَة الله بقوله: أيادي الله، والأيادي جمع الْأَيْدِي، وَهُوَ جمع الْيَد بِمَعْنى: النِّعْمَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْحميدِي عَنهُ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ منْ كلِّ مَا سألْتُمُوهُ رَغِبْتُمْ إلَيْهِ فِيهِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار وآتاكم من كل مَا سألتموه} (إِبْرَاهِيم: 33 و 43) أَن مَعْنَاهُ وأعطاكم من كل مَا رغبتم(19/2)
إِلَيْهِ فِيهِ، وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: مَعْنَاهُ وآتاكم من كل مَا سألتموه وَمَا لم تسألوه، وَعَن الضَّحَّاك: أَعْطَاكُم أَشْيَاء مَا طلبتموها وَلَا سألتموها على النَّفْي على قِرَاءَة: من كل، بِالتَّنْوِينِ، صدق الله تَعَالَى كم من شَيْء أَعْطَانَا الله وَمَا سألناه إِيَّاه وَلَا خطر لنا على بَال، وَعَن الْحسن رَحمَه الله: من كل الَّذِي سألتموه، أَي: من كل مَا سَأَلْتُم.
يَبْغُونَها عِوَجاً يَلْتَمِسُونَ لَها عِوَجاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا} (إِبْرَاهِيم: 3) الْآيَة، هَذَا وَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ من تَفْسِير مُجَاهِد أَيْضا، وَفسّر قَوْله: يَبْغُونَهَا، بقوله: يَلْتَمِسُونَ لَهَا، وَقد وَصله عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: يَلْتَمِسُونَ لَهَا الزيغ والعوج بِالْفَتْح فِيمَا كَانَ مائلاً منتصباً كالحائط، وَالْعود وبالكسر فِي الأَرْض وَالدّين وشبههما، قَالَه ابْن السّكيت وَابْن فَارس.
وإذْ تأذَّنَ رَبُّكُمْ. أعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ تَأذن ربكُم لَئِن شكرتم لأزيدنكم} (إِبْرَاهِيم: 7) ، وَفسّر: تَأذن بقوله: أعلمكُم. قَوْله: (آذنكم) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: أعلمكُم ربكُم، وَنقل بَعضهم عَن أبي عُبَيْدَة أَنه قَالَ: كلمة (ذَر) زَائِدَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل مَعْنَاهُ اذْكروا حِين تَأذن ربكُم، وَمعنى تَأذن ربكُم إِذن ربكُم. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَنَظِير تَأذن وآذن توعد وأوعد، تفضل وَأفضل، وَلَا بُد فِي تفعل من زِيَادَة معنى لَيْسَ فِي أفعل، كَأَنَّهُ قيل: وَإِذ تَأذن ربكُم إِيذَانًا بليغاً تَنْتفِي عِنْده الشكوك، وَقَالَ بَعضهم: إِذْ تَأذن من الإيذان، قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ من التأذين.
رَدُّوا أيْدِيهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ هاذا مِثْلُ كُفُّوا عَمَّا أُمرُوا بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم} (إِبْرَاهِيم: 9) وَقَالَ ابْن مَسْعُود: عضوا على أَيْديهم غيظاً عَلَيْهِم. قَوْله: (هَذَا مثل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا بِحَسب الْمَقْصُود، مثل كفوا عَمَّا أمرو بِهِ، قَالَ: ويروى: مثل، بالمفتوحتين. انْتهى. وَلم يُوضح مَا قَالَه حَتَّى يشْبع النَّاظر فِيهِ، أَقُول: مثل كفوا، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون التَّاء يَعْنِي: معنى ردوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم مثل معنى كفوا عَمَّا أمروا بِهِ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَأما الْمَعْنى على رِوَايَة: هَذَا مثل، بِفتْحَتَيْنِ فعلى طَرِيق الْمثل، أَي: مثل مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاء من النصائح والمواعظ، وَأَنَّهُمْ ردوهَا أبلغ رد، فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم وَقَالُوا: إِنَّا كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ، أَرَادَ إِن هَذَا جَوَابنَا لكم لَيْسَ عندنَا غَيره، وَيُقَال: أَو وضعُوا أَيْديهم على أَفْوَاههم يَقُولُونَ للأنبياء: أطبقوا أَيْدِيكُم أَفْوَاهكُم واسكتوا، أَو ردوهَا فِي أَفْوَاه الْأَنْبِيَاء يشيرون لَهُم إِلَى السُّكُوت، أَو وضعوها على أَفْوَاههم وَلَا يذرونهم يَتَكَلَّمُونَ.
مَقامِي حَيْثُ يُقيمُهُ الله بَيْنَ يَدَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد} (إِبْرَاهِيم: 41) وَفسّر قَوْله: مقَامي، بقوله: حَيْثُ يقيمه بَين يَدَيْهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَفِي التَّفْسِير: مقَامي موقفي وَهُوَ موقف الْحساب لِأَنَّهُ موقف الله تَعَالَى الَّذِي يقف فِيهِ عباده يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: خَافَ قيامي عَلَيْهِ وحفظي لأعماله.
مِن ورَائِهِ قُدَّامهِ جَهَنَّمَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن وَرَائه عَذَاب غايظ} (إِبْرَاهِيم: 71) وَفسّر الوراء بالقدام، وَفَسرهُ الزَّمَخْشَرِيّ بقوله: بِمن بَين يَدَيْهِ، وَنقل قطرب وَغَيره أَنه من الأضداد، وَأنْكرهُ إِبْرَاهِيم بن عَرَفَة، وَقَالَ: لَا يَقع وَرَاء بِمَعْنى أَمَام إلاَّ فِي زمَان أَو مَكَان، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ مَا توارى عَنهُ واستتر.
لَكُمْ تَبَعاً واحِدُها تابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وغائِبٍ(19/3)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء} (إِبْرَاهِيم: 12) التبع جمع تَابع كخدم جمع خَادِم وَمثله البُخَارِيّ بقوله مثل غيب بِفتْحَتَيْنِ جمع غَائِب وَقيل مَعْنَاهُ إِنَّا كُنَّا لكم ذَوي تبع.
بمُصْرِخِكُمْ اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغاثَني يَسْتَصْرِخُهُ مِنَ الصُّرَاخِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي} (إِبْرَاهِيم: 22) وَهَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، قَوْله: مَا أَنا بمصرخكم. أَي: مَا أَنا بمغيثكم. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي لَا يُنجي بَعْضنَا بَعْضًا من عَذَاب الله وَلَا يغيثه، والإصراخ الإغاثة، وقرىء بمصرخي، بِكَسْر الْيَاء وَهِي ضَعِيفَة. قلت: الْقِرَاءَة الصَّحِيحَة فتح الْيَاء وَهُوَ الأَصْل، وَقَرَأَ حَمْزَة بِكَسْر الْيَاء، وَقَالَ الزّجاج: هِيَ عِنْد جَمِيع النَّحْوِيين ضَعِيفَة لَا وَجه لَهَا إلاَّ وَجه ضَعِيف، وَهُوَ مَا أجَازه الْفراء من الْكسر على الأَصْل لالتقاء الساكنين.
قَوْله: (استصرخني) وَقيل استصرخني فلَان، أَي: استغاثني، فأصرخته أَي أغثته. قَوْله: (يستصرخه) مَعْنَاهُ يَصِيح بِهِ، فَلِذَا قَالَ: (من الصُّرَاخ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ الصَّوْت.
وَلَا خِلاَلَ مصْدَرُ خالَلْتُهُ خِلالاً ويَجُوزُ أيْضاً جَمْعُ خُلَّةٍ وخِلالٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال} (إِبْرَاهِيم: 13) وَذكر فِي لفظ خلال وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه مصدر خاللته خلال، وَالْمعْنَى: وَلَا مخاللة خَلِيل. وَثَانِيهمَا: إِنَّه جمع خلة، مثل: ظلة وظلال، وَهَذَا الْوَجْه قَالَه أَبُو عَليّ الْفَارِسِي، وَجُمْهُور أهل اللُّغَة على الأول، والخلة، بِضَم الْخَاء: الصداقة والمحبة الَّتِي تخللت الْقلب فَصَارَت خلاله أَي: فِي بَاطِنه، وَمِنْه الْخَلِيل وَهُوَ الصّديق.
اجْتُثَّتْ اسْتُؤْصِلَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتئت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار} (إِبْرَاهِيم: 62) وَفسّر هَذِه اللَّفْظَة بقوله: استؤصلت، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من الاستئصال، وَهُوَ الْقلع من أَصله.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُها ثابتٌ وفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ} (إِبْرَاهِيم: 42 52)
هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {كشجرة طيبَة} وَلَيْسَ فِي أَكثر النّسخ لفظ: بَاب. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: (ثَابت) وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى (حِين) الْكَلَام. أَولا: فِي وَجه التَّشْبِيه بَين الْكَلِمَة الطّيبَة والشجرة الطّيبَة، وَبَيَانه مَوْقُوف على تَفْسِير الْكَلِمَة الطّيبَة والشجرة الطّيبَة. فالكلمة الطّيبَة شَهَادَة أَن لَا إل هـ إلاَّ الله، نقل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، والشجرة الطّيبَة فِيهَا أَقْوَال، فَقيل: كل شَجَرَة طيبَة مثمرة، وَقيل: النَّخْلَة، وَقيل: الْجنَّة، وَقيل: شَجَرَة فِي الْجنَّة، وَقيل: الْمُؤمن، وَقيل: قُرَيْش، وَقيل: جوز الْهِنْد. وَأما بَيَان وَجه التَّشْبِيه على القَوْل الأول فَهُوَ من حَيْثُ الْحسن والزهارة وَالطّيب وَالْمَنَافِع الْحَاصِلَة فِي كل وَاحِدَة من كلمة الشَّهَادَة والشجرة الطّيبَة المثمرة، وَأما على القَوْل الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور فَهُوَ من حَيْثُ كَثْرَة الْخَيْر فِي العاجل والآجل وَحسن المنظر والشكل الْمَوْجُود فِي كل وَاحِد من كلمة الشَّهَادَة والنخلة، فَإِن كَثْرَة الْخَيْر فِي العاجل والآجل مستمرة فِي صَاحب كلمة الشَّهَادَة، وَكَذَلِكَ حسن المنظر والشكل، وَفِي النَّخْلَة كَذَلِك فَإِنَّهَا كَثِيرَة الْخَيْر وطيبة الثَّمَرَة من حِين تطلع يُؤْكَل مِنْهَا حَتَّى تيبس، فَإِذا يَبِسَتْ يتَّخذ مِنْهَا مَنَافِع كَثِيرَة من خشبها وَأَغْصَانهَا وورقها ونواها، وَقيل: وَجه التَّشْبِيه أَن رَأسهَا إِذا قطع مَاتَت بِخِلَاف بَاقِي الشّجر، وَقيل: لِأَنَّهَا لَا تحمل حَتَّى تلقح، وَقيل: إِنَّهَا فضلَة طِينَة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على مَا رُوِيَ، وَقيل: فِي علو فروعها كارتفاع عمل الْمُؤمن، وَقيل: لِأَنَّهَا شَدِيدَة الثُّبُوت كثبوت الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن. وَأما على القَوْل الثَّالِث: إِنَّهَا شَجَرَة فِي الْجنَّة رَوَاهُ أَبُو ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس فَهُوَ من حَيْثُ الدَّوَام والثبوت على مَا لَا يخفى. وَأما على القَوْل الرَّابِع: فَهُوَ من حَيْثُ ارْتِفَاع عمل الْمُؤمن الصَّالح فِي كل وَقت، وَوُجُود ثَمَرَة النَّخْلَة فِي كل حِين. وَأما على القَوْل الْخَامِس: فَهُوَ من حَيْثُ ارْتِفَاع الْقدر فِي كل وَاحِد من قُرَيْش، والنخلة، أما قُرَيْش فَلَا شكّ أَن قدرهم مُرْتَفع على سَائِر قبائل الْعَرَب، وَأما النَّخْلَة فَكَذَلِك على سَائِر الْأَشْجَار من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَأما على القَوْل السَّادِس: الَّذِي هُوَ جوز الْهِنْد(19/4)
فَهُوَ من حَيْثُ إِنَّه لَا يتعطل من ثمره. على مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث فَرْوَة بن السَّائِب عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {تُؤْتى أكلهَا كل حِين} (إِبْرَاهِيم: 52) قَالَ: هِيَ شجر جوز الْهِنْد لَا يتعطل من ثمره، وَتحمل فِي كل شهر. وَرُوِيَ عَن عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، أَيْضا، قَالَ السُّهيْلي: وَلَا يَصح وَكَذَلِكَ الْمُؤمن الَّذِي هُوَ صَاحب كلمة الشَّهَادَة لَا يتعطل من عمله الصَّالح. قَوْله: (أَصْلهَا ثَابت) ، أَي: فِي الأَرْض، (وفرعها فِي السَّمَاء) يَعْنِي: فِي الْعُلُوّ فَإِذا كَانَ أَصْلهَا ثَابتا أَمن الِانْقِطَاع لِأَن الطّيب إِذا كَانَ فِي معرض الانقراض حصل بِسَبَب فنائه وزواله الْحزن، فَإِذا علم أَنه باقٍ عظم الْفَرح بوجدانه، وَإِذا كَانَ فرعها فِي السَّمَاء دلّ على كمالها من وَجْهَيْن الأول: ارْتِفَاع أَغْصَانهَا وقوتها وتصعدها يدل على ثُبُوت أَصْلهَا ورسوخ عروقها. الثَّانِي: إِذا كَانَت مُرْتَفعَة كَانَت بعيدَة عَن عفونات الأَرْض، فَكَانَت ثَمَرَتهَا نقية طَاهِرَة من جَمِيع الشوائب. قَوْله: (تُؤْتى) أَي: تُعْطِي (أكلهَا) أَي: ثَمَرهَا (كل حِين) اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَابْن زيد: كل سنة، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْحِين حينان: حِين يعرف وَيدْرك، وَحين لَا يعرف فَالْأول: قَوْله: {ولتعلمن نبأه بعد حِين} وَالثَّانِي قَوْله {تُؤْتى أكلهَا كل حِين} (ص: 88) فَهُوَ مَا بَين الْعَام إِلَى الْعَام الْمقبل، وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَقَتَادَة: الْحِين كل سِتَّة أشهر مَا بَين صرامها إِلَى حملهَا، وَقَالَ الرّبيع بن أنس: كل حِين كل غدْوَة وَعَشِيَّة كَذَلِك يصعد عمل الْمُؤمن أول النَّهَار وَآخره، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْحِين سَاعَة لَيْلًا وَنَهَارًا صيفاً وشتاءً يُؤْكَل فِي جَمِيع الْأَوْقَات، كَذَلِك الْمُؤمن لَا يَخْلُو من الْخَيْر فِي الْأَوْقَات كلهَا. فَإِن قلت: قد بيّنت وَجه التَّشْبِيه بَين الْكَلِمَة الطّيبَة والشجرة الطّيبَة، فَمَا الْحِكْمَة بالتمثيل بِالشَّجَرَةِ؟ قلت: لِأَن الشَّجَرَة لَا تكون شَجَرَة إِلَّا بِثَلَاثَة أَشْيَاء: عرق راسخ، وأصل قَائِم، وَفرع عَال، فَكَذَلِك الْإِيمَان لَا يقوم وَلَا يُثمر إِلَّا بِثَلَاثَة أَشْيَاء: تَصْدِيق بِالْقَلْبِ، وَقَول بِاللِّسَانِ، وَعمل بالأبدان.
8964 - حدَّثني عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ عنْ أبي أُسامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كُنّا عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أخبرُوني بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أوْ كالرَّجُلِ المُسْلِمِ لَا يَتحاتُّ ورَقُها ولاَ ولاَ ولاَ {تُؤْتِي أكُلَها كلَّ حِينٍ} قالَ ابنُ عُمَرَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ ورَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ لاَ يَتَكَلّمانِ فكَرِهْتُ أنْ أتَكَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ النَّخْلَةُ فَلَمّا قُمْنا قُلْتُ لِعُمَرَ يَا أبَتاهُ وَالله لَقَدْ كانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أنّها النّخْلَةُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أنْ تَكَلَّمَ قَالَ لمْ أرَكُمْ تَكَلّمُون فكَرِهْتُ أنْ أتَكَلّمَ أوْ أقُولَ شَيْئاً قَالَ عُمَرُ لأنْ تكونَ قُلْتَها أحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذا وكَذا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الشَّجَرَة الطّيبَة هِيَ النَّخْلَة على قَول الْجُمْهُور. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله ابْن عمر الْعمريّ.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْعلم فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تشبه، أَو كَالرّجلِ الْمُسلم) ، شكّ من أحد الروَاة، وَمَعْنَاهُ: تشبه الرجل الْمُسلم، أَو قَالَ: كَالرّجلِ الْمُسلم. قَوْله: (وَلَا يتحات) ، من بَاب التفاعل أَي: لَا يَتَنَاثَر. قَوْله: (وَلَا وَلَا وَلَا) ، ثَلَاث مَرَّات أَشَارَ بهَا إِلَى ثَلَاث صِفَات أخر للنخلة وَلم يذكرهَا الرَّاوِي، وَاكْتفى بِذكر كلمة: لَا، ثَلَاث مَرَّات، وَقَوله: (تُؤْتى أكلهَا كل حِين) صفة خَامِسَة لَهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (النَّخْلَة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ النَّخْلَة. قَوْله: (إِن تكلم) ، بِنصب الْمِيم لِأَن أَصله: أَن تَتَكَلَّم، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. قَوْله: (من كَذَا وَكَذَا) أَي: من حمر النعم، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
2 - (بابٌ: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمنُوا بالْقَوْلِ الثّابِتِ} (إِبْرَاهِيم: 72)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يثبت الله} أَي: يُحَقّق الله إِيمَانهم وأعمالهم (بالْقَوْل الثَّابِت) وَهُوَ شَهَادَة لَا إِلَه إِلَّا الله. قَوْله: {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَعْنِي: فِي الْقَبْر عِنْد السُّؤَال: (وَفِي الْآخِرَة) إِذا بعث.(19/5)
9964 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المُسْلِمُ إِذا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَد أنْ لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّداً رسولُ الله فَذالِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمنُوا بالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ} (إِبْرَاهِيم: 72) .
(انْظُر الحَدِيث 9631) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْوَلِيد هُوَ هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وعلقمة بن مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وبالثاء الْمُثَلَّثَة: الْحَضْرَمِيّ الْكُوفِي، مر فِي الْجَنَائِز، وَسعد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: السّلمِيّ مر فِي الْوضُوء، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي عَذَاب الْقَبْر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
3
- (بابٌ قَوْلُهُ: {ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْراً} (إِبْرَاهِيم: 82)
)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لم تَرَ إِلَى الَّذين} . الْآيَة قَوْله: (بدلُوا) أَي: غيروا (نعْمَة الله) عز وَجل عَلَيْهِم فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ بَعثه الله تَعَالَى مِنْهُم وَفِيهِمْ فَكَفرُوا بِهِ وكذبوه (وَأَحلُّوا) أَي: وأنزلوا (قَومهمْ) مِمَّن تَابعهمْ على كفرهم (دَار الْبَوَار) أَي: الْهَلَاك، ثمَّ بَين ذَلِك بقوله: {جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} (إِبْرَاهِيم: 92) .
ألَمْ تَعْلَمْ كَقَوْلِهِ ألَمْ تَرَ كَيْفَ. ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
فسر قَوْله: (ألم تَرَ) بقوله: (ألم تعلم) ، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ بِمَعْنى: ألم تعلم، إِذْ الرُّؤْيَة بِمَعْنى الإبصار غير حَاصِلَة إِمَّا لتعذرها وَإِمَّا لتعسرها عَادَة. قلت: هَذِه الْكَلِمَة تقال عِنْد التَّعَجُّب من الشَّيْء وَعند تَنْبِيه الْمُخَاطب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ} (الْبَقَرَة: 342) {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب} (آل عمرَان: 32، النِّسَاء: 7 و 44) والبوار الْهَلَاك، وَالْفِعْل مِنْهُ: بار يبور، من بَاب: قَالَ يَقُول، قَوْله: قوما بوراً: هالكين، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {دَار الْبَوَار} والبوار: الْهَلَاك، وَالْفِعْل مِنْهُ بار يبور، نت بَاب قَالَ يَقُول، قوما بوراً هالكين أَن يكون بوراً مصدرا وصف بِهِ الْجمع، وَأَن يكون جمع: بائر.
0074 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عَمْروٍ وعنْ عَطاءٍ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ: {ألَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْراً} .
(انْظُر الحَدِيث 7793) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَقد تقدم فِي غَزْوَة بدر.
51 - (سورَةُ الحِجْرِ)
أَي: هَذَا فِي بَيَان تَفْسِير بعض سُورَة الْحجر، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هِيَ مَكِّيَّة بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين، وَيرد عَلَيْهِ بقول الْكَلْبِيّ: أَن فِيهَا آيَة مَدَنِيَّة، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد يُوسُف وَقبل الْأَنْعَام. وَهِي أَلفَانِ وَسَبْعمائة وَسِتُّونَ حرفا، وسِتمِائَة وَأَرْبع وَخَمْسُونَ كلمة، وتسع وَتسْعُونَ آيَة.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي، وَله عَن غَيره بِدُونِ لفظ: تَفْسِير.
{وَقَالَ مُجاهِدٌ: صِرَاطٌ عَليَّ مُسْتَقِيمٌ الحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى الله وعَلَيْهِ طَرِيقُهُ}
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَذَا صِرَاط على مُسْتَقِيم} (الْحجر: 14) مَعْنَاهُ: الْحق يرجع إِلَى الله وَعَلِيهِ طَرِيقه لَا يعرج على شَيْء، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن حجاج بن حَمْزَة عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد،(19/6)
وَعَن الْأَخْفَش: مَعْنَاهُ على الدّلَالَة على صِرَاط مُسْتَقِيم، وَعَن الْكسَائي: هَذَا على الْوَعيد والتهديد، كَقَوْلِك للرجل تخاصمه وتهدده: طريقك عَليّ.
وإنّهُما: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: الإِمامُ كلُّ مَا ائْتَمَمْتَ واهْتَدَيْتَ بِهِ: إِلَى الطّرِيقِ
أَشَارَ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فانتقمنا مِنْهُم وإنهما لَبِإِمام مُبين} (الْحجر: 97) سقط هَذَا وَالَّذِي قبله لأبي ذَر إلاَّ عَن الْمُسْتَمْلِي. قَوْله: (وإنهما) يَعْنِي: مَدِينَة قوم لوط عَلَيْهِ السَّلَام، ومدينة أَصْحَاب الأيكة (لبإمام مُبين) يَعْنِي: بطرِيق وَاضح مستبين، وسمى الطَّرِيق إِمَامًا لِأَنَّهُ يؤتم بِهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَعَمْرُكَ لَعَيْشُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لعمرك إِنَّهُم لفي سكرتهم يعمهون} (الْحجر: 27) وَفسّر: لعمرك، بقوله: لعيشك، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) : لعمرك يَا مُحَمَّد، يَعْنِي: حياتك (أَنهم) أَي: إِن قوم لوط عَلَيْهِ السَّلَام، (لفي سكرتهم) أَي: ضلالتهم وحيرتهم (يعمهون) أَي: يَتَرَدَّدُونَ، وَعَن مُجَاهِد وَعَن قَتَادَة: يَلْعَبُونَ.
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أنْكَرَهُمْ لُوطٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ آل لوط المُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُم قوم منكرون} (الْحجر: 16 26) لم يثبت هَذَا وَلَا الَّذِي قبله فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالْمرَاد بِالْمُرْسَلين الْمَلَائِكَة الَّذين جاؤوا أَولا إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وبشروه بِغُلَام يرزقه الله إِيَّاه على كبره، وَلما سَأَلَهُمْ إِبْرَاهِيم بقوله: {فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ. قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين} (الْحجر: 75 85) أَرَادوا بهم قوم لوط، ثمَّ لما جاؤوا لوطاً أنكرهم فَقَالَ: {إِنَّكُم قوم منكرون} (الْحجر: 26) يَعْنِي: لَا أعرفكُم، وَهُوَ معنى قَوْله: أنكرهم لوط، يَعْنِي: مَا عرفهم، وقصته مَشْهُورَة.
وَقَالَ غَيْرُهُ كِتابٌ مَعْلُومٌ أجَلٌ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إلاَّ وَلها كتاب مَعْلُوم} (الْحجر: 4) أَي: أجل، وَفِي التَّفْسِير: أجل موقت قد كتبناه لَهُم لَا نعذبهم وَلَا نهلكم حَتَّى يبلغوه، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر كَمَا ذكره البُخَارِيّ.
لوْ مَا تأتِينا هَلاَّ تَأْتِينَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {لَو مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كنت من الصَّادِقين} (الْحجر: 7) وَفسّر قَوْله: (لَو مَا تَأْتِينَا) بقوله: (هلا تَأْتِينَا) وَالْحَاصِل: أَن لَو، هُنَا للتحضيض، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: لَو ركبت مَعَ ماو لَا، لمعنيين: معنى امْتنَاع الشَّيْء لوُجُود غَيره، وَمعنى التحضيض، وَأما هَل فَلم تركب إلاَّ مَعَ، لَا، وَحدهَا للتحضيض، وَالْمعْنَى: هلا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ يشْهدُونَ بصدقك ويعضدونك على إنذارك.
شِيَعٌ أمَمٌ وللأوْلياءِ أيْضاً شِيَعٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد أرسلنَا من قبلك فِي شيع الْأَوَّلين} (الْحجر: 01) وَفسّر قَوْله: شيع، بقوله: أُمَم، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي شيع الْأَوَّلين أَي فِي أُمَم الْأَوَّلين. وَاحِدهَا شيعَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: فِيهِ إِضْمَار تَقْدِيره: وَلَقَد أرسلنَا من قبلك رسلًا فِي شيع الْأَوَّلين، وَقَالَ الْحسن: فرق الْأَوَّلين، والشيعة الْفرْقَة والطائفة من النَّاس. قَوْله: (وللأولياء أَيْضا شيع) أَي: لَهُم شيع. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَيُقَال ولأولياء الرجل أَيْضا: شيعَة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ يُهْرَعُونَ مُسْرِعِينَ
هَذَا لَيْسَ من هَذِه السُّورَة، وَإِنَّمَا هُوَ من سُورَة هود، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ وَمن قبل كَانُوا يعْملُونَ السَّيِّئَات} (هود: 87) . وَفسّر ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {يهرعون} بقوله: مُسْرِعين، وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: {وجاءه قومه} أَي: جَاءَ لوطاً قومه، وَقد ذكرنَا قصَّته فِي (تاريخنا الْكَبِير) .(19/7)
لِلْمُتَوَسِّمِينَ لِلنَّاظِرِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} (الْحجر: 57) وَفسّر المتوسمين بقوله: (للناظرين) ، وَيُقَال: للمتفرسين المتأملين، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: حَقِيقَة المتوسمين النظار المتثبتون فِي نظرهم حَتَّى يعرفوا حَقِيقَة سمة الشَّيْء، وَقَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ للمعتبرين، وَقَالَ مقَاتل: للمتفكرين.
سُكِّرَتْ غُشِّيَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون} (الْحجر: 51) وَفسّر: (سكرت) ، بقوله: (غشيت) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: وَهُوَ مَأْخُوذ من السكر فِي الشَّرَاب، وَعَن ابْن عَبَّاس: سكرت أخذت، وَعَن الْحسن: سكرت، وَعَن الْكَلْبِيّ: أغشيت وأغميت، وَقيل: حبست ومنعت من النّظر.
بُرُوجاً مَنازِلَ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جعلنَا فِي السَّمَاء بروجاً وزيناها للناظرين} (الْحجر: 61) وَفسّر: بروجاً بقوله: (منَازِل للشمس وَالْقَمَر) ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: بروجاً أَي: قصوراً ومنازل وَهِي كواكب تنزلها الشَّمْس وَالْقَمَر وزحل وَالْمُشْتَرِي والمريخ وَعُطَارِد والزهرة وَالْكَوَاكِب السيارة وأسماؤها: الْحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة وَالْمِيزَان وَالْعَقْرَب والقوس والجدي والدلو والحوت، وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بالبروج النُّجُوم.
لَوَاقِحَ مَلاقِحَ مُلْقِحَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح فأنزلنا من السَّمَاء مَاء} (الْحجر: 22) وَفسّر اللواقح بقوله: (ملاقح) ثمَّ أَشَارَ بِأَنَّهُ جمع: ملقحة، وَتَفْسِير اللواقح بالملاقح نَادِر، وَإِنَّمَا يُقَال: ريَاح لَوَاقِح، وَلَا يُقَال: ملاقح، قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهُوَ من النَّوَادِر، وَيُقَال: ألقح الْفَحْل النَّاقة وألقح الرّيح السَّحَاب، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: فِي هَذِه الْآيَة يُرْسل الله تَعَالَى الرّيح فَتحمل المَاء فتمر بالسحاب فتدر كَمَا تدر الملقحة ثمَّ تمطر، وَقَالَ الْفراء: أَرَادَ بقوله: لَوَاقِح ذَات لقح، كَقَوْل الْعَرَب: رجلٌ لابنٌ ورامخٌ وتامرٌ.
حَمأٍ جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وهْوَ الطِّينُ المُتَغَيِّرُ والمَسْنُونُ المَصْبُوبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} (الْحجر: 33) وَذكر أَن: حمأ، جمع حمأ ثمَّ فَسرهَا بالطين الْمُتَغَيّر، وَفسّر الْمسنون بقوله: المصبوب، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْمسنون التُّرَاب المبتل المنتن وَأَصله من قَول الْعَرَب: سننت الْحجر على الْحجر إِذا صللته بِهِ، وَمَا يخرج من بَين الحجرين، يُقَال لَهُ: السنين والسنانة، وَمِنْه: المسن. قَوْله: {من صلصال} وَهُوَ الطين الْيَابِس إِذا نقرته سَمِعت لَهُ صلصلة أَي: صَوتا من يبسه قبل أَن تمسه النَّار، فَإِذا مسته النَّار فَهُوَ: فخار، وَعَن مُجَاهِد: هُوَ الطين المنتن، وَاخْتَارَهُ الْكسَائي من: صل اللَّحْم وأصلّ: إِذا أنتن.
تَوْجَلْ تَخَفْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَا توجل إِنَّا نبشرك بِغُلَام عليم} (الْحجر: 35) وَفسّر: توجل، بقوله: (تخف) وَأَصله لَا توجل، وَتَفْسِيره: لَا تخف، واشتقاقه من الوجل وَهُوَ الْخَوْف. قَوْله: (قَالُوا) أَي: قَالَت الْمَلَائِكَة لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {لَا توجل} . إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك حِين دخلُوا على إِبْرَاهِيم، قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنَّا مِنْكُم وجلون} أَي: خائفون، ثمَّ يشروه بِغُلَام أَتَاهُ إِيَّاه على كبره وَكبر امْرَأَته وَأَرَادَ بالغلام إِسْحَاق. قَوْله: (عليم) ، أَي: عليم بِالدّينِ، وَقيل: بالحكمة، وَهَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
{دابِرَ آخِرَ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمْرَانِ دابر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مصبحين} (الْحجر: 66) وَفسّر: دابر، بقوله: (آخر) ، وَهَذَا أَيْضا لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (وقضينا إِلَيْهِ) أَي: أَوْحَينَا إِلَى لوط عَلَيْهِ السَّلَام، (بِأَن دابر هَؤُلَاءِ) ، أَي: قومه مَقْطُوع أَي: مستأصل. قَوْله: (مصبحين) أَي: حَال كَونهم فِي الصُّبْح.
الصَّيْحَةُ الهَلَكةُ(19/8)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مشرقين} (الْحجر: 37) وَفسّر الصَّيْحَة بالهلكة، وَهَكَذَا فَسرهَا أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (مشرقين) أَي: حِين أشرقت الشَّمْس عَلَيْهِم وهم قوم لوط عَلَيْهِ السَّلَام.
1 - (بابٌ: {إلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ} (الْحجر: 81)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ من اسْترق السّمع} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ: بَاب، وأوله: {وحفظنا من كل شَيْطَان رجيم إلاَّ من اسْترق السّمع} الْآيَة. قَوْله: (وحفظناها) أَي: السَّمَاء بِالشُّهُبِ {من كل شَيْطَان رجيم} أَي: مرجوم مبعد. قَوْله: {إِلَّا من اسْترق السّمع} اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، أَي: لَكِن من اسْترق السّمع، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِنَّهُم كَانُوا لَا يحجبون عَن السَّمَوَات، فَلَمَّا ولد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، منعُوا من ثَلَاث سموات، فَلَمَّا ولد نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، منعُوا من السَّمَوَات أجمع فَمَا مِنْهُم من أحد يُرِيد استراق السّمع إلاَّ رمى (بشهاب مُبين) ، أَي: بِنَار بَين، والشهاب فِي اللُّغَة: النَّار الساطعة.
1074 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عَمْروٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ يَبْلُغُ بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قَضَي الله الأمْرَ فِي السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِها خُضْعاناً لِقَوْلِهِ كالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوانٍ قالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفَوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذالِكَ فإِذَا فُزِّعَ عنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قَالَ رَبُّكُمْ قالُوا لِلَّذِي قَالَ الحَقَّ وهْوَ العَلِيُّ الكبِيرُ فيَسْمَعُها مُسْتَرِقو السَّمْع ومُسْترِقو السَّمْعِ هاكَذَا واحِدٌ فَوْقَ آخَرَ وَوَصَفَ سُفْيانُ بِيَدِهِ وفَرَّجَ بَيْنَ أصابِعِ يَدِهِ اليُمْنَى نَصَبَها بَعْضَها فَوْقَ بَعْضٍ فرُبَّما أدْرَكَ الشِّهابُ المُسْتَمعَ قبْلَ أنْ يَرْمِيَ بِها إِلَى صاحبِهِ فَيُحْرِقُهُ ورُبَّما لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الذِي هُوَ أسْفَلُ مِنْهُ حَتَّى يُلْقُوها إِلَى الأرْضِ ورُبَّما قَالَ سُفْيانُ حَتَّى تَنْتَهي إِلَى الأرْض فتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ فيَكْذِبُ مَعَها مائَةَ كَذْبَةٍ فيَصْدُقُ فيَقُولونَ ألمْ يُخْبِرْنا يَوْمَ كَذَا وكَذَا يَكُونُ كَذَا وكَذَا فَوَجَدْناهُ حقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ.
(مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعِكْرِمَة هُوَ مولى ابْن عَبَّاس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن الْحميدِي فِي التَّفْسِير وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحُرُوف عَن أَحْمد بن عَبدة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يحيى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التَّفْسِير عَن يَعْقُوب بن حميد بن كاسب، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ عَليّ بن حَرْب عَن سُفْيَان فَوَقفهُ، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن إِسْحَاق بن عبد الْوَاحِد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: هَذَا غلط فِي ذكره ابْن عَبَّاس بِأَن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن سُفْيَان، فَقَالُوا: عَن عِكْرِمَة حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة.
قَوْله: (يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلم يقل صَرِيحًا: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاحْتِمَال الْوَاسِطَة أَو شَيْء من كَيْفيَّة الْبَلَاغ. قَوْله: (إِذا قضى الله) ، أَي: إِذا حكم الله عز وَجل، بِأَمْر من الْأُمُور وَالْقَضَاء فصل الْأَمر سَوَاء كَانَ بقول أَو فعل، وَهَذَا بِمَعْنى التَّقْدِير، وَيَجِيء بِمَعْنى الْخلق كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: لما قضى الله، أَي: لما خلقه. قَوْله: (ضربت الْمَلَائِكَة) أَي: مَلَائِكَة السَّمَاء بأجنحتها. قَوْله: (خضعانا) ، بِضَم الْخَاء مصدر من خضع نَحْو غفر غفراناً، وَيُقَال: خضع يخضع خضوعاً وخضعاناً وَهُوَ الانقياد وَالطَّاعَة، ويروى بِكَسْر الْخَاء كالوحدان، وَيجوز أَن يكون جمع خاضع، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي خاضعين، وَقَالَ شيخ شَيخنَا الطَّيِّبِيّ، إِذا كَانَ خضعاناً جمعا كَانَ حَالا، وَإِذا كَانَ مصدرا يجوز أَن يكون مَفْعُولا مُطلقًا لما فِي ضرب الأجنحة من معنى الخضوع أَو مَفْعُولا لَهُ، وَذَلِكَ لِأَن الطَّائِر إِذْ استشعر خوفًا أرْخى جناحيه مرتعداً. قَوْله: (لقَوْله) ، أَي: لقَوْل الله، عز وَجل. قَوْله: (كالسلسلة على الصفوان) ، تَشْبِيه القَوْل المسموع بالسلسلة على الصفوان كَمَا شبه فِي بَدْء الْوَحْي بقوله: كصلصلة الجرس، وَهُوَ صَوت الْملك بِالْوَحْي، والصفوان: الْحجر الأملس، وَقَالَ الْخطابِيّ: الصلصلة(19/9)
صَوت الْحَدِيد إِذا تحرّك وتداخل وَكَأن الرِّوَايَة وَقعت لَهُ هُنَا بالصَّاد، أَو أَرَادَ أَن التَّشْبِيه فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (قَالَ عَليّ) هُوَ: عَليّ بن عبد الله شَيْخه. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، أَي: غير سُفْيَان الرَّاوِي الْمَذْكُور (ينفذهم ذَلِك) وَهَذِه اللَّفْظَة هِيَ زِيَادَة غير سُفْيَان أَي: ينفذ الله إِلَى الْمَلَائِكَة ذَلِك القَوْل، وَرُوِيَ: ينفذ ذَلِك، أَي: ينفذ الله ذَلِك الْأَمر، والصفوان تِلْكَ السلسلة أَي: صَوتهَا، وَفِي تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَفعه: إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَوَات صلصلة أَي: كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون ويرون أَنه من أَمر السَّاعَة، وَقَرَأَ: {حَتَّى إِذا فزع} (سبإ: 32) الْآيَة. وأصل الحَدِيث عِنْد أبي دَاوُد. قَوْله: (فَإِذا فزع) أَي: فَإِذا أزيل الْخَوْف عَن قُلُوبهم، وَزَوَال الْفَزع هُنَا بعد سماعهم القَوْل كالفصم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سَماع الْوَحْي. قَوْله: (مَاذَا قَالَ ربكُم) أَي: قَالَت الْمَلَائِكَة: أَي شَيْء قَالَ ربكُم؟ قَوْله: (قَالُوا) ، الْقَائِلُونَ هم المجيبون وهم الْمَلَائِكَة المقربون كجبريل وَمِيكَائِيل وَغَيرهمَا، على مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود، قَالَ: إِذا تكلم الله عز وَجل بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَاء صلصلة كجر السلسلة على الصفوان، فيصعقون فَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِذا جَاءَ جِبْرِيل فزع عَن قُلُوبهم فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل! مَاذَا قَالَ ربكُم؟ فَيَقُول: الْحق، فَيَقُولُونَ: الْحق الْحق. قَوْله: (الَّذِي قَالَ) ، أَي: الَّذِي قَالُوا: الْحق لأجل مَا قَالَ الله عز وَجل وَالْمعْنَى أَنهم عبروا عَن قَول الله وَمَا قَضَاهُ وَقدره بِلَفْظ الْحق. قَوْله: (الْحق) ، مَنْصُوب على أَنه صفة مصدر مَحْذُوف تَقْدِيره: قَالَ الله القَوْل الْحق، وَيحْتَمل الرّفْع على تَقْدِير: قَالَ المجيبون: قَوْله الْحق، هَكَذَا قدر الزَّمَخْشَرِيّ فِي سُورَة سبأ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا الْحق} (سبإ: 32) بِالرَّفْع، وَالْقَوْل يجوز أَن يُرَاد بِهِ كلمة: كن، وَإِن يُرَاد بِالْحَقِّ مَا يُقَابل الْبَاطِل، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ القَوْل المسطور فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَالْحق بِمَعْنى الثَّابِت فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. قَوْله: (فيسمعها) أَي: يسمع تِلْكَ الْكَلِمَة وَهِي القَوْل الَّذِي قَالَ الله عز وَجل، (ومسترقو السّمع) فَاعله وَأَصله: مسترقون للسمع، فَلَمَّا أضيف حذفت النُّون، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فيسمعها مسترق السّمع) ، بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (ومسترقو السّمع) مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: هَكَذَا، ثمَّ فسره بقوله: هَكَذَا وَاحِد فَوق آخر، (وَوصف سُفْيَان) إِلَى قَوْله: (فَوق بعض) من الْوَصْف، وَهُوَ بَيَان كَيْفيَّة المستمعين بركوب بَعضهم على بعض، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وصف، بتَشْديد الْفَاء، ويروى: وَوصف. قَوْله: (بِيَدِهِ) ، ويروى بكفه، أَي: بيَّن ركُوب بَعضهم فَوق بعض بأصابعه، قَوْله: (بَعْضهَا فَوق بعض) توضيح أَو بدل وَفِيه معنى التَّشْبِيه، أَي: مسترقو السّمع بَعضهم رَاكب بَعضهم مُردفِينَ ركُوب أصابعي هَذِه بَعْضهَا فَوق بعض. قَوْله: (وَوصف سُفْيَان) إِلَى آخِره، كَلَام معترض بَين الْكَلَامَيْنِ. قَوْله: (فَرُبمَا أدْرك الشهَاب المستمع) قد مر أَن الشهَاب هُوَ النَّار، وَقيل: هُوَ كواكب تضيء، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب وحفظاً من كل شَيْطَان مارد} (الصافات: 6) وسمى شهاباً لبريقه وَشبهه بالنَّار، وَقيل: الشهَاب شعلة نَار، وَاخْتلفُوا فِي أَنه يقتل أم لَا، فَعَن ابْن عَبَّاس أَنه يجرح وَيحرق وَلَا يقتل، وَقَالَ الْحسن وَغَيره: يقتل. قَوْله: (إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَل مِنْهُ) ، بدل عَن قَوْله: إِلَى الَّذِي يَلِيهِ. قَوْله: (وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان: حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الأَرْض) أَيْضا معترض. قَوْله: (فَتلقى) ، أَي الْكَلِمَة الَّتِي يسترقها المستمع. قَوْله: (على فَم السَّاحر) أَي: المنجم، وَفِي الحَدِيث: (المنجم سَاحر) ، وَفِي رِوَايَة سُورَة سبأ: (على لِسَان السَّاحر أَو الكاهن) ، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان: (على السَّاحر أَو الكاهن) . قَوْله: (فيكذب مَعهَا) ، أَي: فيكذب السَّاحر مَعَ تِلْكَ الْكَلِمَة الملقاة على فَمه. قَوْله: (فَيصدق) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: فَيصدق السَّاحر فِي كذباته. قَوْله: (فَيَقُولُونَ) أَي: السامعون مِنْهُ: (ألم يخبرنا السَّاحر يَوْم كَذَا وَكَذَا) ، وَهُوَ بِضَم الْيَاء من الْإِخْبَار قَوْله: (كَذَا) ، كِنَايَة عَن الخرافات الَّتِي يذكرهَا السَّاحر. قَوْله: (فوجدناه) ، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى مَا أخبر بِهِ السَّاحر. قَوْله: (للكلمة الَّتِي) أَي: لأجل الْكَلِمَة الَّتِي سَمِعت من السَّمَاء جعلُوا كل أخباره حَقًا.
حدَّثنا عليُّ بنُ عبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ حدَّثنا عَمْروٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ إذَا قَضَى الله الأمْرَ وزادَ والْكاهِنِ.
هَذَا بِعَيْنِه هُوَ الْإِسْنَاد الْمَاضِي وَلكنه مَوْقُوف فِي معنى الْمَرْفُوع، وَزَاد عَليّ فِيهِ لفظ الكاهن على السَّاحر.(19/10)
وَحدثنَا سُفْيانُ فَقَالَ قَالَ عَمْروٌ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ حدَّثنا أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ إذَا قَضَى الله الأمْرَ وَقَالَ عَلَى فَمِ السَّاحِرِ قُلْتُ لِسُفْيانَ أأنْتَ سَمِعْتَ عَمْراً قَالَ سَمِعْتُ عِكْرَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لِسُفْيَانَ إنَّ إنْساناً رَوَى عَنْكَ عَنْ عَمْروٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ وَيَرْفَعُهُ أنَّهُ قَرَأَ فُرِّغَ قَالَ سُفْيانُ هاكَذَا قَرَأ عَمْروٌ فَلاَ أدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أمْ لاَ قَالَ سُفْيانُ وهْيَ قِرَاءَتُنا.
أَي: قَالَ عَليّ بن عبد الله: وَحدثنَا سُفْيَان أَيْضا الخ، وَهَذَا السَّنَد فِيهِ التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ وبالسماع. قَوْله: (قلت لِسُفْيَان) الْقَائِل هُوَ عَليّ بن عبد الله. قَوْله: (وَيَرْفَعهُ) أَي: وَيرْفَع أَبُو هُرَيْرَة الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَرَأَ فرغ) ، بِضَم الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء مَكْسُورَة وبالغين الْمُعْجَمَة، قَالَ سُفْيَان: هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَهَكَذَا قَرَأَ عَمْرو بن دِينَار، وَهَذِه الْقِرَاءَة رويت أَيْضا عَن الْحسن وَقَتَادَة وَمُجاهد، وَالْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة بالزاي وَالْعين الْمُهْملَة، وَقَرَأَ ابْن عَامر بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وبالغين الْمُعْجَمَة من قَوْلهم: فرغ الزَّاد إِذا لم يبْق مِنْهُ شَيْء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ جَازَت الْقِرَاءَة إِذا لم تكن مسموعة؟ قلت: لَعَلَّ مذْهبه جَوَاز الْقِرَاءَة بِدُونِ السماع إِذا كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أصْحابُ الْحِجْرِ المُرْسَلِينَ} (الْحجر: 08)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد كذب أَصْحَاب الْحجر} أَي: الْوَادي، وَهِي مَدِينَة ثَمُود قوم صَالح وَهِي فِيمَا بَين الْمَدِينَة وَالشَّام، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَرَادَ بِالْمُرْسَلين صَالحا وَحده، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: لِأَن من كذب وَاحِدًا مِنْهُم فَكَأَنَّمَا كذبهمْ جَمِيعًا، أَو أَرَادَ صَالحا وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ، كَمَا قيل: الخبيبيون فِي ابْن الزبير وَأَصْحَابه. قلت: التنظير فِيهِ نظر لِأَن من كَانَ مَعَ صَالح من الْمُؤمنِينَ لم يَكُونُوا رسلًا وَإِنَّمَا كَانُوا أمته.
2074 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثنا مَعْنٌ قَالَ حَدثنِي مالِكٌ عنْ عبْدِ الله بنِ دِينارٍ عنْ عبْدِ الله بن عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأصْحابِ الْحِجْرِ لَا تَدْخُلُوا عَلَى هاؤُلاَءِ القَوْمِ إلاّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ فإِنْ لَمْ تَكُونُوا باكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أصابَهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ومعن هُوَ أَبُو عِيسَى بن يحيى الْقَزاز الْمدنِي.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْخَسْف فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك الخ، وَهَذَا أَعلَى بِدَرَجَة لِأَن بَينه وَبَين مَالك هُنَاكَ وَاحِد وَهَهُنَا إثنان.
قَوْله (لأَصْحَاب الْحجر) أَي: لأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين قدمُوا الْحجر. قَوْله: (هَؤُلَاءِ الْقَوْم) ، أَي: على مَنَازِلهمْ. قَوْله: (بَاكِينَ) ، من الْبكاء، وَذكر ابْن التِّين عَن الشَّيْخ أبي الْحسن: بائين، بِهَمْزَة بدل الْكَاف، ثمَّ قَالَ: وَلَا وَجه لذَلِك. قَوْله: (أَن يُصِيبكُم) ، أَي: أَن لَا يُصِيبكُم، أَو: كَرَاهَة أَن يُصِيبكُم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ المَثانِي والْقُرْآنَ العَظِيمَ} (الْحجر: 78)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني} أَي: فَاتِحَة الْكتاب، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَالْحسن وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالربيع والكلبي، ويروى ذَلِك مَرْفُوعا، كَمَا يَجِيء عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَسميت بذلك لِأَن أهل السَّمَاء يصلونَ بهَا كَمَا يُصَلِّي أهل الأَرْض، وَقيل: لِأَن حروفها وكلماتها مثناة مثل: الرَّحْمَن الرَّحِيم، إياك وَإِيَّاك، والصراط والصراط، وَعَلَيْهِم وَعَلَيْهِم، وَغير وَغير فِي قِرَاءَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ الْحُسَيْن بن الْمفضل: لِأَنَّهَا نزلت مرَّتَيْنِ مَعَ كل مرّة مِنْهَا سَبْعُونَ ألف ملك، مرّة بِمَكَّة من أَوَائِل مَا أنزل من الْقُرْآن، وَمرَّة بِالْمَدِينَةِ، وَالسَّبَب فِيهِ أَن سبع قوافل وافت من بصرى وَأَذْرعَات ليهود من بني قُرَيْظَة وَالنضير فِي يَوْم وَاحِد، وفيهَا أَنْوَاع من الْبرد وأفانين الطّيب والجواهر وأمتعة(19/11)
الْبَحْر، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: لَو كَانَت هَذِه الْأَمْوَال لنا لتقوينا بهَا ولأنفقناها فِي سَبِيل الله تَعَالَى، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة: {وَلَقَد آتيناك سبعا} (الْحجر: 78) أَي: سبع آيَات خير لَك من هَذِه السَّبع القوافل، وَدَلِيل هَذَا قَوْله عز وَجل فِي عَقبهَا: {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} (الْحجر: 88) الْآيَة، وَقيل: لِأَنَّهَا مصدرة بِالْحَمْد، وَالْحَمْد أول كلمة تكلم بهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام، حِين عطس، وَهِي آخر كَلَام أهل الْجنَّة من ذُريَّته، قَالَ الله تَعَالَى: {وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} (يُونُس: 01) وَقَالَ قوم: إِن السَّبع المثاني هِيَ السَّبع الطوَال، وَهِي: الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَالنِّسَاء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وَالتَّوْبَة مَعًا، وهما سُورَة وَاحِدَة، وَلِهَذَا لم تكْتب بَينهمَا بَسْمَلَة، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا سميت الطوَال مثاني لِأَن الْفَرَائِض وَالْحُدُود والأمثال وَالْخَبَر والعبر ثبتَتْ فِيهَا، وَعَن طَاوُوس وَابْن مَالك: الْقُرْآن كُله مثاني لِأَن الأنباء والقصص ثبتَتْ فِيهِ، فعلى هَذَا القَوْل المُرَاد بالسبع سَبْعَة أَسْبَاع الْقُرْآن، وَيكون فِيهِ إِضْمَار تَقْدِيره: وَهُوَ الْقُرْآن الْعَظِيم. قيل: الْوَاو، فِيهِ مقحمة مجازه. {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} ، وَقيل: دخلت الْوَاو لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ، وعَلى القَوْل الأول يكون الْعَطف فِي قَوْله: {وَالْقُرْآن الْعَظِيم} من عطف الْعَام على الْخَاص.
3074 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حَدثنَا غُنْدَرٌ حَدثنَا شُعْبَة عنْ خُبَيْبِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ حَفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبي سَعِيدِ بنِ المَعَلَّى قالَ مَرَّ بِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أُصَلِّي فَدَاعاني فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أتَيْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أنْ تأتِيَ فقُلْتُ كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ ألَمْ يَقُلِ الله يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله ولِلرَّسولِ ثُمَّ قَالَ أَلا أعَلِّمُكَ أعْظم سورَةٍ فِي القُرْآنِ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ مِن المَسْجِدِ فَذَهَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ فَذَكّرْتُهُ فَقَالَ الحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ المَثاني والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أوتِيتُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره، وخبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء أُخْرَى: أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَحَفْص بن عَاصِم ابْن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم، وَأَبُو سعيد بن الْمُعَلَّى من التعلية بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول واسْمه الْحَارِث أَو رَافع أَو أَوْس الْأنْصَارِيّ. والْحَدِيث قد مر فِي أول التَّفْسِير فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي فَاتِحَة الْكتاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن شُعْبَة. الخ، وَقد مر الْكَلَام فَهِيَ هُنَاكَ.
4074 - حدَّثنا آدَمُ حدّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ حدَّثَنا سعِيدٌ المَقْبِرِيُّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثاني والقُرْآنُ العَظِيمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس وَابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: باسم الْحَيَوَان الْمَشْهُور، واسْمه مُحَمَّد ابْن عبد الرَّحْمَن العامري الْمدنِي، وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي سعيد المَقْبُري، وَاسم أبي سعيد كيسَان.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن أبي شُعَيْب الْحَرَّانِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (أم الْقُرْآن) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ. قَوْله: (هِيَ السَّبع المثاني) ، جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر خَبره: والسبع المثاني هِيَ الْفَاتِحَة، وَإِنَّمَا سميت أم الْقُرْآن لاشتمالها على الْمعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآن من الثَّنَاء على الله تَعَالَى، وَمن التَّعَبُّد بِالْأَمر وَالنَّهْي وَمن الْوَعْد والوعيد، أَو لما فِيهَا من الْأُصُول الثَّلَاثَة: المبدأ والمعاش والمعاد، وَفِيه الرَّد على ابْن سِيرِين فِي قَوْله: لَا تَقولُوا أم الْقُرْآن إِنَّمَا هِيَ فَاتِحَة الْكتاب، وَأم الْكتاب هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقَوله: (الْقُرْآن الْعَظِيم) عطف على: أم الْقُرْآن، وَلَيْسَ بعطف على: السَّبع المثاني، لعدم صِحَة الْعَطف على مَا لَا يخفى، وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره وَالْقُرْآن الْعَظِيم مَا عَداهَا، هَكَذَا ذكره بَعضهم وَلَيْسَ بِصَحِيح. قَوْله: (وَالْقُرْآن الْعَظِيم) هُوَ الَّذِي أعطيتموه.(19/12)
4 - (بابُ: {الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عضِينَ} (الْحجر: 19)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب وَقَبله: {وَقل إِنِّي أَنا النذير الْمُبين كَمَا أنزلنَا على المقتسمين الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين} (الْحجر: 98 19) . قَوْله: (وَقل) ، أَي: قل يَا مُحَمَّد إِنِّي أَنا النذير الْمُبين عذَابا كَمَا أنزلنَا على المقتسمين، فَحذف الْمَفْعُول فَهُوَ الْمُشبه وَدلّ عَلَيْهِ الْمُشبه بِهِ، كَمَا تَقول: أرتيك الْقَمَر فِي الْحسن أَي: رجلا كَالْقَمَرِ، وَقيل: الْكَاف زَائِدَة، أَي: أَنْذَرْتُكُمْ مَا أنزلنَا بالمقتسمين، وَقيل: مُتَعَلق بقوله: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني} (الْحجر: 78) {كَمَا أنزلنَا على المقتسمين} (الْحجر: 09) والآن يَجِيء تَفْسِير المقتسمين. قَوْله: (الَّذين جعلُوا الْقُرْآن) صفة للمقتسمين، قَوْله: (عضين) أَي: أَعْضَاء مُتَفَرِّقَة، من عضيت الشَّيْء، أَي: فرقته، وَقيل: هُوَ جمع عضة وَأَصلهَا عضوة فعلة من عضى الشَّاة إِذا جعلهَا أَعْضَاء أَي: جزَّأها أَجزَاء، وَقيل: أَصْلهَا عضهة فحذفت الْهَاء الْأَصْلِيَّة كَمَا حذفت من الشّفة وَأَصلهَا شفهة وَمن الشَّاة وَأَصلهَا شاهة، وَبعد الْحَذف جمع على عضين مثل مَا جمع برة على برين وكرة على كرين وَقلة على قلين، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق قَتَادَة، قَالَ: عضين عضوه وبهتوه، وَمن طَرِيق عِكْرِمَة، قَالَ: العضة السحر بِلِسَان قُرَيْش، يُقَال لِلسَّاحِرَةِ العاضهة.
المُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ حَلَفُوا
إِنَّمَا سموا بذلك لأَنهم كَانُوا يستهزئون بِالْقُرْآنِ فَيَقُول بَعضهم: السُّورَة مِنْهُ لي، وَيَقُول الآخر: السُّورَة مِنْهُ لي، وَقَالَ مُجَاهِد: فرقوا كتبهمْ فَآمن بَعضهم بِبَعْضِهَا وَكفر بَعْضهَا آخَرُونَ، وَقيل: هم قوم اقتسموا الْقُرْآن، فَقَالَ بَعضهم: سحر، وَقَالَ آخَرُونَ: شعر، وَقَالَ آخَرُونَ: أساطير الْأَوَّلين، وَقَالَ آخَرُونَ: كذب وَسمر، وَقَالَ مقَاتل: كَانُوا سِتَّة عشر رجلا بَعثهمْ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة أَيَّام الْمَوْسِم فاقتسموا عقار مَكَّة وطرقها وقعدوا على أَبْوَابهَا وأنقابها، فَإِذا جَاءَ الْحَاج قَالَ فريق مِنْهُم: لَا تغتروا بالخارج منا مدعي النُّبُوَّة فَإِنَّهُ مَجْنُون، وَقَالَت طَائِفَة على طَرِيق آخر: إِنَّه كَاهِن، وَقَالَت طَائِفَة: إِنَّه عراف، وَقَالَت طَائِفَة: إِنَّه شَاعِر، والوليد قَاعد على بَاب الْمَسْجِد نصبوه كَاهِنًا، فَإِذا سُئِلَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: صدق أُولَئِكَ، يَعْنِي المقتسمين، وأهلكهم الله عز وَجل يَوْم بدر وَقَبله بآفات.
ومنْهُ لَا أُقْسِمُ أيْ أُقْسِمُ وتُقْرَأُ لأُقْسِمُ
أَي: وَمن معنى المقتسمين: لَا أقسم، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن معنى المقتسمين من الْقسم، فَلذَلِك قَالَ: المقتسمين الَّذين حلفوا، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكره، بل هُوَ من الاقتسام لَا من الْقسم فَلَا يَصح جعل لَا أقسم مِنْهُ. قَوْله: (أَي أقسم) أَي: معنى: لَا أقسم، أقسم لِأَن كلمة: لَا، مقحمة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} (الْقِيَامَة: 1) مجازها: أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: كلمة: لَا، على بَابهَا، وَالْمعْنَى: لَا أقسم بِكَذَا وَكَذَا بل بِكَذَا، وَقيل: مَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم. قَوْله: (وتقرأ) على صِيغَة الْمَجْهُول، والقارىء بهَا ابْن كثير: لأقسم، بِفَتْح اللَّام بِغَيْر مدو هُوَ لَام التَّأْكِيد، وَقيل: لَام الْقسم.
قاسَمَهُما حَلَفَ لَهُما ولَمْ يَحْلِفا لهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن بَاب المفاعلة هُنَا لَيْسَ على أَصله، وَإِنَّمَا هُوَ على معنى: فعل، لَا للمشاركة، وَهَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين} (الْأَعْرَاف: 12) أَي: قَاسم إِبْلِيس آدم وحواء عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعْنَاهُ: حلف لَهما أَنه من الناصحين لَهما، فِي قَوْله: {مَا نهاكما عَن هَذِه الشَّجَرَة} (الْأَعْرَاف: 02)
الْآيَة. قَوْله: (وَلم يحلفا لَهُ) ، أَي: لم يحلف آدم وحواء لإبليس، وَبِهَذَا أَشَارَ إِلَى عدم الْمُشَاركَة فِي قَوْله: وقاسمهما، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ تَقاسَمُوا تَحالَفُوا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله} (النَّمْل: 94) أَي: تحالفوا، وَكَذَا أخرجه الْفرْيَابِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَمرَاده من ذكر هَذَا وَالَّذِي قبله تَقْوِيَة مَا ذهب إِلَيْهِ من أَن لفظ المقتسمين من الْقسم لَا من الْقِسْمَة، وَهُوَ خلاف مَا ذكره الْجُمْهُور من الْمُفَسّرين.(19/13)
5074 - حدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إبرَاهِيمَ حَدثنَا هُشَيْمٌ أخبرنَا أبُو بِشْرٍ عنْ سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ قَالَ هُمْ أهْلُ الكِتابِ جَزَّوهُ أجْزاءً فآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 5493 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وهثيم مصغر الهشيم ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: الوَاسِطِيّ، وَأَبُو بشر. بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية واسْمه إِيَاس الْيَشْكُرِي. والْحَدِيث من أَفْرَاده. قَوْله: (جزؤه) من التجزئة وَهِي التَّفْرِقَة.
6074 - حدَّثني عُبَيْدُ الله بنُ مُوساى عنِ الأعْمَش عنْ أبي ظَبْيانَ عنِ ابنِ عبّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا كَما أنْزَلْنا عَلَى المُقْتَسِمِينَ قَالَ آمَنُوا بِبَعْضٍ وكَفَرُوا بِبَعْضٍ اليَهُودُ والنَّصارَى.
(انْظُر الحَدِيث 5493 وطرفه) . عبيد الله بن مُوسَى بن بازام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو ظبْيَان، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَكسرهَا وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالياء آخر الْحُرُوف وبالنون: واسْمه حُصَيْن مصغر الْحصن بالمهملتين ابْن جُنْدُب الْمذْحِجِي وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَهُوَ من أَفْرَاده. قَوْله: (آمنُوا بِبَعْض وَكَفرُوا بِبَعْض) ، تَفْسِير: المقتسمين، قَوْله: (الْيَهُود) ، أَي: هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَفسّر هَذَا قَوْله فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة: هم أهل الْكتاب.
5 - (بابُ قوْلِهِ: {واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يأتِيكَ اليَقِينُ} (الْحجر: 99)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} قَالُوا: لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أُوحِي إِلَى أَن أجمع المَال وأكون من المتاجرين، وَلَكِن أُوحِي إِلَيّ أَن: {سبِّح بِحَمْد رَبك وَكن من الساجدين واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} .
قَالَ سالِمٌ اليَقِينُ المَوْتُ
سَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم البستي عَن بنْدَار أخبرنَا يحيى بن سعيد أخبرنَا سُفْيَان عَن طَارق بن عبد الرَّحْمَن عَن سَالم، وَقَالَ بَعضهم: إِطْلَاق الْيَقِين على الْمَوْت مجَاز لِأَن الْمَوْت لَا يشك فِيهِ، وَفِيه نظر لَا يخفى.
61 - (سُورَةُ النَّحْلِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة النَّحْل، روى همام عَن قَتَادَة أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وروى سعيد عَنهُ أَولهَا مكي إِلَى قَوْله عز وَجل {الَّذين هَاجرُوا فِي الله من بَعْدَمَا ظلمُوا} (النَّحْل: 14) وَمن هُنَا إِلَى آخرهَا مدنِي، وَقَالَ السّديّ: مَكِّيَّة إِلَّا آيَتَيْنِ: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النَّحْل: 621) وَقَالَ سُفْيَان: إِنَّهَا مَكِّيَّة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ مَكِّيَّة إلاَّ ثَلَاث آيَات نزلت بعد قتل حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ: {وَلَا تشتروا بِعَهْد الله ثمنا قَلِيلا} (النَّحْل: 59) الْآيَات، وَفِي رِوَايَة: هِيَ مَكِّيَّة إلاَّ ثَلَاث آيَات نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة منصرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحد، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد الْكَهْف، وَقبل سُورَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وَهِي سَبْعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَسَبْعَة أحرف، وَأَلْفَانِ وَثَمَانمِائَة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَمِائَة وثماني وَعِشْرُونَ آيَة.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
رُوحُ القُدُسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ} (النَّحْل: 201) الْآيَة، وَفسّر: روح الْقُدس بقوله: جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، وَكَذَا روى الطَّبَرِيّ من طَرِيق(19/14)
مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، قَالَ: روح الْقُدس جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وأضيف الرّوح إِلَى الْقُدس وَهُوَ الطُّهْر، كَمَا يُقَال: حَاتِم الْجُود، وَزيد الْخَيْر، وَالْمرَاد الرّوح الْقُدس، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: لِأَنَّهُ خلق من طَهَارَة، وَالروح فِي الْحَقِيقَة مَا يقوم بِهِ الْجَسَد وَتَكون بِهِ الْحَيَاة، وَقد أطلق على الْقُرْآن وَالْوَحي وَالرَّحْمَة وعَلى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (نزل بِهِ الرّوح الْأمين) ، ذكره اسْتِشْهَادًا لصِحَّة هَذَا التَّأْوِيل، فَإِن المُرَاد بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، اتِّفَاقًا وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى رد مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: روح الْقُدس، الِاسْم الَّذِي كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، يحيي بِهِ الْمَوْتَى، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد ضَعِيف. قَوْله: قَوْله: (الْأمين) ، وصف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ كَانَ أَمينا فِيمَا استودع من الرسَالَة إِلَى الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام.
{فِي ضَيْقٍ يُقالُ أمْرٌ ضَيْقٌ وضَيِّقٌ مِثْلُ هَيِّنٍ ولَيِّنٍ ولَيِّنٍ وَمَيْتٍ ومَيِّتٍ} (النَّحْل: 721)
أَشَارَ بقوله فِي ضيق إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون} وَأَشَارَ بقوله: بقال أَمر ضيق إِلَّا أَن فِيهِ لغتين: التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف كَمَا ذكرهَا فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة، وَقَرَأَ ابْن كثير هُنَا، وَفِي النَّمْل بِكَسْر الضَّاد وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَالَ الْفراء الضّيق بِالتَّشْدِيدِ مَا يكون فِي الَّذِي يَتَّسِع مثل الدَّار وَالثَّوْب معنى الْآيَة لَا يضيق صدرك من مَكْرهمْ وَقَالَ (وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي تقلبهم: اخْتلَافهمْ) .
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أَو يَأْخُذهُمْ فِي تقلبهم} فِي اخْتلَافهمْ {فَمَا هم بمعجزين} بسابقي الله تَعَالَى، وروى ذَلِك الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة، عَنهُ وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن جرير عَن الْمثنى، وَعلي بن دَاوُد حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَعْنَاهُ يَأْخُذهُمْ الْعَذَاب فِي تصرفهم فِي الْأَسْفَار بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار.
وَقَالَ مُجاهدٌ تَمِيدُ تكَفَّأُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير: تميد، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم} (النَّحْل: 51) الْآيَة، تكفأ، بِالْكَاف وَتَشْديد الْفَاء وبالهمزة، وَقيل: بِضَم أَوله وَسُكُون الْكَاف، ومعى: تكفأ تقلب، وروى هَذَا التَّعْلِيق أَبُو مُحَمَّد: حَدثنَا حجاج حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ.
مُفْرَطونَ مَنْسِيُّونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {أَن لَهُم النَّار وَإِنَّهُم مفرطون} (النَّحْل: 26) وَفسّر مفرطون بقوله: (منسيون) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي عَاصِم: حَدثنَا عِيسَى عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وروى من طَرِيق سعيد بن جُبَير، قَالَ: مفرطون، أَي: متركون فِي النَّار منسيون فِيهَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُور بتَخْفِيف الرَّاء وَفتحهَا، وَقرأَهَا نَافِع بِكَسْرِهَا، وَهُوَ من الإفراط، وَقرأَهَا أَبُو جَعْفَر بن الْقَعْقَاع بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة أَي: مقصرون فِي أَدَاء الْوَاجِب مبالغون فِي الْإِسَاءَة.
وَقَالَ غيْرُهُ: {فإِذَا قَرَأتَ القُرْآن فاسْتَعِذْ بِاللَّه} (النَّحْل: 89) هاذَا مُقَدَّمٌ ومُؤَخرٌ وذلِكَ أنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ القِرَاءَةِ ومَعْناها الإعْتِصامُ بِاللَّه
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} إِن فِيهِ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَذَلِكَ أَن الِاسْتِعَاذَة تكون قبل الْقِرَاءَة، وَالتَّقْدِير: فَإِذا أردْت أَن تقْرَأ الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه، هَذَا على قَول الْجُمْهُور حَتَّى قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا إِجْمَاع إلاَّ مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة وَدَاوُد وَمَالك أَنهم قَالُوا: إِن الِاسْتِعَاذَة بعد الْقِرَاءَة، أخذا بِظَاهِر الْقُرْآن، وَقد أبعد بَعضهم هَذَا فِي موضِعين. الأول: فِي قَوْله: المُرَاد بِالْغَيْر أَبُو عُبَيْدَة، فَإِن هَذَا كَلَامه بِعَيْنِه وَهَذَا فِيهِ خبط. وَالثَّانِي: فِي قَوْله: وَالتَّقْدِير فَإِذا أخذت فِي الْقِرَاءَة فاستعذ، وَقيل: هُوَ على أَصله لَكِن فِيهِ إِضْمَار، أَي: إِذا أردْت الْقِرَاءَة، وَهَذَا يكَاد أَن يكون أقوى خبطاً من الأول على مَا لَا يخفى على من يتَأَمَّل فِيهِ. قَوْله: (وَمَعْنَاهَا) ، أَي: معنى الِاسْتِعَاذَة (الِاعْتِصَام بِاللَّه) .
قَصْدُ السَّبِيلِ البَيانُ(19/15)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} (النَّحْل: 9) وَفسّر الْقَصْد بِالْبَيَانِ وَكَذَا روى عَن ابْن عَبَّاس أخرجه الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، قيل: قصد السَّبِيل بَيَان طَرِيق الحكم لكم، وَالْقَصْد الطَّرِيق الْمُسْتَقيم، وَقيل: بَيَان الشَّرَائِع والفرائض، وَعَن ابْن الْمُبَارك: قصد السَّبِيل السّنة. قَوْله: (وَمِنْهَا) أَي: وَمن السَّبِيل، والتأنيث بِاعْتِبَار أَن لفظ السَّبِيل وَاحِد، وَمَعْنَاهَا: الْجمع. قَوْله: (جَائِر) أَي: معوج عَن الاسْتقَامَة.
الدِّفْءُ مَا اسْتَدْفَأْتَ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والأنعام خلقهَا لكم فِيهَا دفء وَمَنَافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النَّحْل: 5) وَفسّر الدفء بقوله: (مَا استدفأت بِهِ) يَعْنِي: من الأكسية والأبنية، قَالَ الْجَوْهَرِي: الدفء السخونة، تَقول مِنْهُ دفىء الرجل دفاء، مثل كره كَرَاهَة، وَكَذَلِكَ دفىء دفأً مثل ظمىء ظمأ، وَالِاسْم الدفء وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي يدفيك، وَالْجمع الأدفاء، وَفسّر الْجَوْهَرِي: الدفء فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة بقوله: النَّفْع بنتاج الْإِبِل وَأَلْبَانهَا، وَمَا ينْتَفع بِهِ مِنْهَا، قَالَ الله تَعَالَى: {لكم فِيهَا دفء} .
تُرِيحُونَ بالعَشيِّ وتَسْرَحُونَ بالغَدَاةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلكم فِيهَا جمال حِين تريحون وَحين تسرحون} (النَّحْل: 6) وَفسّر: تريحون بالْعَشي، وتسرحون بِالْغَدَاةِ وَفِي التَّفْسِير، أَي: تردونها إِلَى مراجها وَهِي حَيْثُ تأوى إِلَيْهِ، وَحين تسرحون ترسلونها بِالْغَدَاةِ إِلَى مراعيها، وَقَالَ قَتَادَة: وَأحسن مَا يكون إِذا راحت عظاماً ضروعها، طوَالًا أسنمتها.
بِشِقِّ يعْنِي المَشَقَّةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتحمل أثقالكم إِلَى بلد لم تَكُونُوا بالغيه إلاَّ بشق الْأَنْفس} (النَّحْل: 7) وَفسّر الشق بالمشقة، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {إِلَّا بشق الْأَنْفس} أَي: بِمَشَقَّة الْأَنْفس، وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِكَسْر الشين، وَقرأَهَا أَبُو جَعْفَر بن الْقَعْقَاع بِفَتْحِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هما بِمَعْنى، وَقَالَ الْفراء: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف بِالْكَسْرِ الْمَشَقَّة وبالفتح من الشق فِي الشَّيْء كالشق فِي الْجَبَل.
عَلَى تَخَوُّفٍ تَنَقُّصٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {على تخوف} (النَّحْل: 74) وَفَسرهُ بقوله: (تنقص) وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: على تخوف، قَالَ: على تنقص من أَعمالكُم، وَقيل: هُوَ تفعل من الْخَوْف.
الأنْعامِ لِعَبْرَةً وهْيَ تُؤنّثُ وتُذَكّرُ وكَذَلِكَ النَّعَمُ للأنْعامِ جَماعَةُ النَّعَمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم مِمَّا فِي بطونه} (النَّحْل: 66) قَوْله: (لعبرة) ، أَي: لعظة. قَوْله: (نسقيكم) ، قرىء بِفَتْح النُّون وَضمّهَا، قيل: هما لُغَتَانِ، وَقَالَ الْكسَائي، تَقول الْعَرَب: أسقيته لَبَنًا إِذا جعلته لَهُ سقيا دَائِما، فَإِذا أَرَادوا أَنهم أَعْطوهُ شربة قَالُوا: سقيناه. قَوْله: {مِمَّا فِي بطونه} وَلم يقل: بطونها، لِأَن الْأَنْعَام وَالنعَم وَاحِد، وَلَفظ: النعم، مُذَكّر قَالَه الْفراء، فباعتبار ذَلِك ذكّر الضَّمِير. قَوْله: (وَهِي) ، أَي: الْأَنْعَام تؤنث وتذكر. قَوْله: (وَكَذَلِكَ النعم) ، أَي: يذكر وَيُؤَنث، وَقد ذكرنَا الْآن عَن الْفراء أَن النعم مُذَكّر وَيجمع على أنعام وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم.
سَرَابِيلَ قُمُصٌ تَقِيكُمُ الحَرَّ وأمَّا سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بأْسَكُمْ فإِنّها الدُّرُوعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعل لكم سرابيل تقيكم الْحر وسرابيل تقيكم بأسكم} وَفسّر سرابيل الأول: بالقمص بِضَم الْقَاف وَالْمِيم جمع قَمِيص من قطن وكتان وصوف، والسرابيل. الثَّانِي: بالدروع. قَوْله: (تقيكم الْحر) أَي: تحفظكم من الْحر، وَمن الْبرد أَيْضا، وَهَذَا من بَاب الِاكْتِفَاء. قَوْله: (بأسكم) أَرَادَ بِهِ شدَّة الطعْن وَالضَّرْب وَالرَّمْي.
(دخَلاً بَيْنَكُمْ كلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهْوَ دَخَلٌ)(19/16)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم} (النَّحْل: 29) وَفسّر الدخل بقوله: (كل شَيْء لم يَصح فَهُوَ دخل) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَكَذَلِكَ الدغل وَهُوَ الْغِشّ والخيانة.
وَقَالَ ابنْ عبَّاسٍ حَفَدَة مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفد} (النَّحْل: 27) وَذكر أَن الحفدة من ولد الرجل هم: وَلَده وَولد وَولده، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {بَنِينَ وحفدة} قَالَ: الْوَلَد وَولد الْوَلَد.
السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرِها والرِّزْقُ الحَسَنُ مَا أحَلَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} (النَّحْل: 76) الْآيَة، وَبَين السكر بقوله: (مَا حرم من ثَمَرهَا) أَي: من ثَمَر النخيل وَالْأَعْنَاب، ويروى: من ثَمَرَتهَا، ويروى: مَا حرم الله من ثَمَرهَا وَبَين الرزق الْحسن الْمَذْكُور فِي الْآيَة بقوله: والرزق الْحسن مَا أحل، أَي: الَّذِي جعل حَلَالا، ويروى: مَا أحل الله، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ قوم: السكر الْخمر، والرزق الْحسن الدبس، وَالتَّمْر وَالزَّبِيب، قَالُوا: وَهَذَا قبل تَحْرِيم الْخمر، وَإِلَى هَذَا ذهب ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن وَمُجاهد وَابْن أبي ليلى والكلبي، وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: السكر مَا حرم من ثمرتيهما، والرزق الْحسن مَا أحل من ثمرتيهما، وَقَالَ قَتَادَة: أما السكر فخمور هَذِه الْأَعَاجِم، وَأما الرزق الْحسن فَهُوَ مَا تنتبذون وَمَا تخللون وتأكلون، قَالَ: وَنزلت هَذِه الْآيَة وَمَا حرمت الْخمر يومئذٍ، وَإِنَّمَا نزل تَحْرِيمهَا بعد فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: السكر مَا شربت، والرزق الْحسن مَا أكلت، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْحَبَشَة يسمون الْخمر سكرا.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ أنْكاثاً هِيَ خَرْقاءُ كانَتْ إِذا أبْرَمَتْ غَزْلَها نَقَضَتْهُ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن صَدَقَة، قَالَ الْكرْمَانِي: صَدَقَة هَذَا هُوَ ابْن الْفضل الْمروزِي، ورد عَلَيْهِ بِأَن صَدَقَة بن الْفضل الْمروزِي شيخ البُخَارِيّ يرْوى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهَهُنَا يروي سُفْيَان عَن صَدَقَة، وَالدَّلِيل على عدم صِحَة قَوْله: إِن صَدَقَة هَذَا روى عَن السّديّ وَصدقَة بن الْفضل الْمروزِي مَا أدْرك السّديّ وَلَا أَصْحَاب السّديّ، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن ابْن أبي عمر الْعَدنِي والطبري من طَرِيق الْحميدِي، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة عَن صَدَقَة عَن السّديّ قَالَ: كَانَت بِمَكَّة امْرَأَة تسمى خرقاء، فَذكر مثل مَا ذكره البُخَارِيّ، وَالظَّاهِر أَن صَدَقَة هَذَا هُوَ أَبُو الْهُذيْل روى عَن السدى قَوْله: (وروى عَنهُ ابْن عُيَيْنَة) ، كَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) . قَوْله: (أنكاثاً) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثاً} (النَّحْل: 29) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: لَا تَكُونُوا فِي نقض الْإِيمَان كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أنحت على غزلها بعد أَن أحكمته وأبرمته فَجَعَلته أنكاثاً، جمع نكث وَهُوَ مَا ينْكث قَتله، وَقَالَ ابْن الْأَثِير، النكث نقض الْعَهْد، وَالِاسْم النكث بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْخَيط الْخلق من صوف أَو شعر أَو وبرسمي، بِهِ لِأَنَّهُ ينْقض ثمَّ يُعَاد فتله، قَوْله: (هِيَ خرقاء) ، الضَّمِير يرجع إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي تسمى خرقاء، وذكرا (أنكاثاً) يدل عَلَيْهِ فَلَا يكون دَاخِلا فِي الْإِضْمَار قبل الذّكر وَكَانَت إِذا أحكمت غزلها نقضته، فَلذَلِك قيل: خرقاء، أَي: حمقاء، وَفِي: (غرر التِّبْيَان) أَنَّهَا كَانَت تغزل هِيَ وجواريها من الْغَدَاة إِلَى نصف النَّهَار، ثمَّ تأمرهن فينقضن مَا غزلن جَمِيعًا، فَهَذَا كَانَ دأبها، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا كَانَت لَا تكف عَن الْغَزل وَلَا تبقي مَا غزلت، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة، قَالَ: هُوَ مثل ضربه الله تَعَالَى لمن ينْكث عَهده، وَقَالَ مقَاتل فِي تَفْسِيره: هَذِه الْمَرْأَة قرشية اسْمهَا ريطة بنت عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تَمِيم بن مرّة وتلقب جعرانة لحمقها، وَذكر السُّهيْلي: أَنَّهَا بنت سعد بن زيد مَنَاة بن تيم بن مرّة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: كَانَت اتَّخذت مغزلاً بِقدر ذِرَاع وسنارة مثل الإصبع وفلكة عَظِيمَة على قدرهما تغزل الْغَزل من الصُّوف والوبر وَالشعر وتأمر جواريها بذلك، وَكن يغزلن إِلَى نصف النَّهَار، ثمَّ تأمرهن بِنَقْض جَمِيع ذَلِك، فَهَذَا كَانَ دأبها.
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ الأُمّةُ مُعَلِّمُ الخَيْرِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله} (النَّحْل: 021) وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود فِي تَفْسِير الْأمة بِأَنَّهُ: معلم الْخَيْر، وَكَذَا رَوَاهُ(19/17)
الْحَاكِم من حَدِيث مَسْرُوق عَن عبد الله، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَعَن مُجَاهِد: كَانَ مُؤمنا وَحده وَالنَّاس كلهم كفار، وَعَن قَتَادَة لَيْسَ من أهل دين إلاَّ ويتولونه ويرضونه، وَعَن شهر بن حَوْشَب: لَا تَخْلُو الأَرْض إلاَّ وفيهَا أَرْبَعَة عشر يدْفع الله بهم عَن أهل الأَرْض وَيخرج بركتها إلاَّ زمَان إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ وَحده انْتهى. وَالْأمة لَهَا معَان أخر فِي الْقُرْآن من: النَّاس وَالْجَمَاعَة وَالدّين والحين وَالْوَاحد الَّذِي يقوم مقَام جمَاعَة.
وَالْقَانِتُ المُطِيعُ
هَذَا من تَتِمَّة كَلَام ابْن مَسْعُود، فَإِنَّهُ فسر القانت فِي قَوْله: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا} (النَّحْل: 021) بالمطيع، وكذكل أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره.
أكْناناً واحِدُها كِنٌّ مِثْلُ حِمْلِ وأحْمَالٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعل لكم من الْجبَال أكناناً} وَفسّر قَتَادَة: أكناناً، بقوله: غيراناً من الْجبَال يسكن فِيهَا، وَقَالَ البُخَارِيّ: وَاحِد الأكنان كن، بِكَسْر الْكَاف مثل حمل بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَاحِد الْأَحْمَال، والكن كل شَيْء وقى شَيْئا وستره، وَفِي بعض النّسخ وَقع هَذَا عقيب. قَوْله: (جمَاعَة النعم) .
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {ومِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أرْذَلِ العُمُرِ} (النَّحْل: 07)
{ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر} من رذل الرجل يرذل رذالة ورذولة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الرذل الدون الخسيس، ورذل كل شَيْء رديه، وَكَذَلِكَ الأرذل من كل شَيْء، وأرذل الْعُمر اردؤه وأوضعه، وَقَالَ السّديّ: أرذله الخرف، وَقَالَ قَتَادَة: تسعون سنة، وَعَن عَليّ: خمس وَسَبْعُونَ سنة، وَعَن مقَاتل: الْهَرم، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ يرد إِلَى أَسْفَل الْعُمر، وَعَن عِكْرِمَة: من قَرَأَ الْقُرْآن لم يرد إِلَى أرذل الْعُمر، وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره، من حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ: مائَة سنة.
7074 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا هارُونُ بنُ مُوساى أبُو عبْدِ الله الأعْوَرُ عنْ شُعَيْبٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَدْعُو أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْل والكَسَلِ وأرْذَلِ العُمُرِ وعَذَابِ القَبْرِ وفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وفِتْنَةِ المَحْيا والمَماتِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأرذل الْعُمر) . وَشُعَيْب هُوَ ابْن الحبحاب، بالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ والباءين الموحدتين، مر فِي كتاب الْجُمُعَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن أبي بكر بن نَافِع.
قَوْله: (من الْبُخْل) يَعْنِي فِي حُقُوق المَال، واستعاذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبُخْل كَمَا استعاذ أَيْضا من فتْنَة الْغِنَا، وَهُوَ إِنْفَاقه فِي الْمعاصِي أَو إِنْفَاقه فِي إِسْرَاف أَو فِي بَاطِل. قَوْله: (والكسل) هُوَ عدم انبعاث النَّفس للخير وَقلة الرَّغْبَة فِيهِ مَعَ إِمْكَانه. قَوْله: (وأرذل الْعُمر) آخِره فِي آخر الْعُمر فِي حَال الْكبر وَالْعجز والخرف، وَجه الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ أَن الْمَطْلُوب من الْعُمر التفكر فِي آلَاء الله ونعمائه من خلق الموجودات فيقوموا بِوَاجِب الشُّكْر بِالْقَلْبِ والجوارح والخرف الفاقد لَهما فَهُوَ كالشيء الردي الَّذِي لَا ينْتَفع بِهِ فَيَنْبَغِي أَن يستعاذ مِنْهُ. قَوْله: (وَعَذَاب الْقَبْر) لِأَن فِيهِ الْأَهْوَال والشدائد. قَوْله: (وفتنة الدَّجَّال) إِذْ لم تكن فتْنَة فِي الأَرْض مُنْذُ خلق الله ذُرِّيَّة آدم أعظم مِنْهَا. قَوْله: (وفتنة الْمحيا) هُوَ مفعل من الْحَيَاة وَالْمَمَات مفعل من الْمَوْت. قَالَ الشَّيْخ أَبُو النجيب السهروردي، قدس الله، روحه: يُرِيد بفتنة الْمحيا الِابْتِلَاء مَعَ زَوَال الصَّبْر وَالرِّضَا والوقوع فِي الْآفَات والأصرار على الْفساد وَترك مُتَابعَة طَرِيق الْهدى وفتنة الْمَمَات سُؤال مُنكر وَنَكِير مَعَ الْحيرَة وَالْخَوْف.
71 - (سُورَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة بني إِسْرَائِيل. قَالَ قَتَادَة: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا ثَمَان آيَات نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ، وَهِي من قَوْله: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك} (الْإِسْرَاء: 37) إِلَى آخِرهنَّ، وسجدتها مَدَنِيَّة، وَفِي تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه من غير طَرِيق عَن ابْن عَبَّاس: هِيَ مَكِّيَّة، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد الْقَصَص وَقبل سُورَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام. وَهِي سِتَّة آلَاف وَأَرْبع مائَة وَسِتُّونَ حرفا، وَألف وَخَمْسمِائة وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة،(19/18)
وَمِائَة وَإِحْدَى عشرَة آيَة.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم} .
لم تثبت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر.
8074 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحاقَ قَالَ سَمِعْتُ عبْدَ الرَّحْمانِ بنَ يزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ مَسْعُودٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي بَني إسْرَائِيلَ والكَهْفِ ومَرْيَمَ إنَّهُنَّ مِنَ العِتَاقِ الأوَّلِ وهُنَّ مِنْ تِلاَدِي.
(أَي هَذَا بَاب وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب. وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن آدم، وَأخرجه فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن بنْدَار عَن غنْدر.
قَوْله: (من الْعتاق) بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: جمع عتق، وَالْعرب تجْعَل كل شَيْء بلغ الْغَايَة فِي الْجَوْدَة عتيقاً، يُرِيد تَفْضِيل هَذِه السُّورَة لما يتَضَمَّن مفتتح كل مِنْهَا بِأَمْر غَرِيب وَقع فِي الْعَالم خارقاً للْعَادَة، وَهُوَ الْإِسْرَاء وقصة أَصْحَاب الْكَهْف وقصة مَرْيَم وَنَحْوهَا. قَوْله: الأول: بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو المخففة، والأولية إِمَّا بِاعْتِبَار حفظهَا أَو بِاعْتِبَار نُزُولهَا لِأَنَّهَا مَكِّيَّة. قَوْله: (من تلادي) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف اللَّام، وَهُوَ مَا كَانَ قَدِيما، يُقَال: مَاله طارف وَلَا تالد، أَي: لَا حَدِيث وَلَا قديم، وَأَرَادَ بقوله: (من تلادي) أَي: من محفوظاتي الْقَدِيمَة.
قَالَ ابْنُ عَبّاس فَسَيُنْغِضُونَ يَهُزُّونَ: وَقَالَ غيْرُهُ تَغَضَتْ سِنُّكَ أيْ تَحَرَّكَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل الَّذِي فطركم أول مرّة فسينغضون إِلَيْك رؤوسهم} (الْإِسْرَاء: 15)
الْآيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله: (فسينغضون) أَي: (يهزون) ، أَي: يحركون، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وروى من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَنهُ قَالَ: يحركون رؤوسهم استهزاء، قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس مِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَال: قد نغضت سنة، أَي: تحركت وَارْتَفَعت من أَصْلهَا، وَمعنى الْآيَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يَقُول للْمُشْرِكين الَّذين يَقُولُونَ: من بعيدنا؟ {قل الَّذِي فطركم} أَي: خَلقكُم {أول مرّة} قَادر على أَن يعيدكم، فَإِذا سمعُوا ينغضون إِلَيْهِ رؤوسهم متعجبين مستهزئين.
{وقَضَيْنا إِلَى بَني إسْرَائِيل} (الْإِسْرَاء: 4) أخبرنَاهُمْ أنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ والقَضاءُ عَلَى وُجُوهٍ {وقَضَى رَبُّكَ} أمَرَ رَبُّكَ ومِنْهُ الحُكْمُ {إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} ومِنْهُ الخَلْقُ {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماوَاتٍ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض} الْآيَة، وَفسّر قَوْله: (وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل) بقوله: (أخبرناهم) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَيُقَال: مَعْنَاهُ أعلمناهم إعلاماً قَاطعا. قَوْله: (وَالْقَضَاء على وُجُوه) ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لفظ الْقَضَاء يَأْتِي لمعان كَثِيرَة، وَذكر مِنْهَا ثَلَاثَة: الأول: أَن الْقَضَاء بِمَعْنى الْأَمر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقضى رَبك} (الْإِسْرَاء: 32) أَي أَمر. الثَّانِي: أَنه بِمَعْنى الحكم فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يقْضِي بَينهم} (النَّمْل: 97، يُونُس: 39) أَي يحكم. الثَّالِث: أَنه بِمَعْنى الْخلق، كَمَا فِي قَوْله: {فقضاهن سبع سموات} (فصلت: 21) أَي: خَلقهنَّ، وَفِي بعض النّسخ بعد سبع سموات خَلقهنَّ.
وَذكر بَعضهم فِيهِ مَعَاني جُمْلَتهَا ثَمَانِيَة عشر وَجها، مِنْهَا الثَّلَاثَة الَّتِي ذكرت، وَالرَّابِع: الْفَرَاغ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} (الْبَقَرَة: 002) أَي: إِذا فَرَغْتُمْ مِنْهَا. وَالْخَامِس: الْكِتَابَة كَمَا فِي قَوْله: {فَإِذا قضى أمرا} (غَافِر: 86) أَي: كتب. وَالسَّادِس: الْأَجَل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمنهمْ من قضى نحبه} (الْأَحْزَاب: 32) ، وَالسَّابِع: الْفَصْل، كَمَا فِي قَوْله: {لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم} (الْأَنْعَام: 85) . وَالثَّامِن: الْمُضِيّ، كَمَا فِي قَوْله: {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} (الْأَنْفَال: 24 و 44) . وَالتَّاسِع: الْهَلَاك، كَمَا فِي قَوْله: {لقضي إِلَيْهِم أَجلهم} (يُونُس: 11) . والعاشر: الْوُجُوب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لما قضي الْأَمر} (إِبْرَاهِيم: 22) . وَالْحَادِي عشر: الإبرام، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا} (يُوسُف: 86) . وَالثَّانِي عشر: الْوَصِيَّة كَمَا فِي قَوْله: {وَقضى رَبك أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} (الْإِسْرَاء: 32) . وَالثَّالِث عشر: الْمَوْت كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 51) . وَالرَّابِع عشر: النُّزُول، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت} (سبإ: 41) . وَالْخَامِس عشر: الْفِعْل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كلا لما يقْض مَا أمره}(19/19)
(عبس: 32) يَعْنِي: حَقًا لم يفعل مَا أمره. وَالسَّادِس عشر: الْعَهْد كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر} (الْقَصَص: 44) . وَالسَّابِع عشر: الدّفع كَمَا فِي قَوْلهم. قضى دينه، أَي: دفع مَا لغريمه عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ. وَالثَّامِن عشر: الْخَتْم والإتمام، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قضى أَََجَلًا} (الْأَنْعَام: 2) . وَقَالَ الْأَزْهَرِي: قضى فِي اللُّغَة على وُجُوه مرجعها إِلَى انْقِطَاع الشَّيْء وَتَمَامه.
نَفِيراً مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وجعلناكم أَكثر نفيراً}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وجعلناكم أَكثر نفيراً} (الْإِسْرَاء: 6) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ الَّذين ينفرون مَعَه، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة فِي قَوْله: {وجعلناكم أَكثر نفيراً} أَي: عددا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَصله من ينفر مَعَ الرجل من عشيرته وَأهل بَيته، وَدَلِيله قَول مُجَاهِد: أَكثر رجلا، والنفير والنافر وَاحِد، كالقدير والقادر.
مَيْسُوراً لَيِّناً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَقل لَهُم قولا ميسوراً} (الْإِسْرَاء: 82) وَفَسرهُ بقوله: لينًا، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَي لينًا تعدهم وَمن طَرِيق عِكْرِمَة. عدهم عدَّة حَسَنَة، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق السّديّ قَالَ: يَقُول: نعم وكرامة وَلَيْسَ عندنَا الْيَوْم، وَمن طَرِيق الْحسن، يَقُول: سَيكون إِن شَاءَ الله.
ولِيُتَبِّرُوا يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وليتبروا مَا علوا تتبيراً} (الْإِسْرَاء: 7) وَفسّر قَوْله: (وليتبروا) بقوله: (يدمروا) من التدمير، وَهُوَ الإهلاك من الدمار وَهُوَ الْهَلَاك. قَوْله: (مَا علوا) أَي: مَا غلبوا عَلَيْهِ من بِلَادكُمْ، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول: ليتبروا، وَقَالَ الزّجاج: كل شَيْء كَسرته وفتنته فقد دمرته، وَالْمعْنَى: وليخربوا مَا غلبوا عَلَيْهِ.
حَصِيراً مَحْبِساً مَحْصَراً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} (الْإِسْرَاء: 8) وَفسّر حَصِيرا بقوله: (محبساً) ، وَكَذَا روى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (محصراً) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْحَاء وَكسر الصَّاد، وَهُوَ إسم مَوضِع الْحصْر، وَكَذَا فسر أَبُو عُبَيْدَة قَوْله: (حَصِيرا) ، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : محصراً بِفَتْح الصَّاد لِأَنَّهُ من حصر يحصر. قلت: هَذَا إِذا كَانَ مَفْتُوح الْمِيم لِأَنَّهُ يكون إسم مَوضِع من حصر يحصر من بَاب نصر ينصر، وَأما مضموم الْمِيم ومفتوح الصَّاد فَهُوَ من: أحْصر، بِالْألف فِي أَوله.
حَقَّ وَجَبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميراً} (الْإِسْرَاء: 61) وَفسّر قَوْله: فَحق، بقوله: (وَجب) ، وَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَفِي التَّفْسِير: أَي وَجب عَلَيْهَا الْعَذَاب، وَالضَّمِير يرجع إِلَى الْقرْيَة الْمَذْكُورَة قبله.
خِطْئاً إثْماً وهْوَ إسْمٌ مِنْ خَطِئْتُ والخَطَأُ مَفْتُوحٌ مَصْدَرُهُ مِنَ الإثمِ خَطِئْتُ بِمَعْنَى أخْطأتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن قَتلهمْ كَانَ خطأ كَبِيرا} (الْإِسْرَاء: 13) وَفسّر (خطأ) بقوله: (إِثْمًا) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الْخَطَأ (إسم من خطيت) وَالَّذِي قَالَه أهل اللُّغَة أَن (خطأ) بِالْكَسْرِ مصدر، فَقَالَ الْجَوْهَرِي: نقُول من خطأ يخطأ خطأ وخطأة على فعلة. قَوْله: (وَالْخَطَأ مَفْتُوح) مصدر هَذَا أَيْضا عكس مَا قَالَه أهل اللُّغَة، فَإِن الْخَطَأ بِالْفَتْح إسم هُوَ نقيض الصَّوَاب، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قرىء خطىء خطأ كمأثم إِثْمًا وَخطأ وَهُوَ ضد الصَّوَاب إسم من أخطاء وخطاء بِالْكَسْرِ وَالْمدّ وخطاء بِالْمدِّ وَالْفَتْح وَخطأ بِالْفَتْح والسكون، وَعَن الْحسن بِالْفَتْح وَحذف الْهمزَة، وروى عَن أبي رَجَاء بِكَسْر الْخَاء غير مَهْمُوز. انْتهى. وَهَذَا أَيْضا يُنَادي بِأَن الْخَطَأ بِالْكَسْرِ والسكون مصدر، وَالْخَطَأ بِفتْحَتَيْنِ إسم. قَوْله: (من الْإِثْم حطئت) فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير أَي: خطئت الَّذِي أَخذ مَعْنَاهُ من الْإِثْم بِمَعْنى أَخْطَأت، وَهَذَا أَيْضا خلاف مَا قَالَه أهل اللُّغَة، لِأَن معنى: خطىء: أَثم وتعمد الذَّنب، وَأَخْطَأ إِذا لم يتعمده، وَلَكِن قَالَ الْجَوْهَرِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: خطىء وَأَخْطَأ لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد، وَأنْشد لامرىء الْقَيْس.
(يَا لهف هِنْد إِذْ خطئن كاهلاً)
أَي: أخطأن، وَالَّذِي قَالَه يساعد البُخَارِيّ فِيمَا قَالَه.
تَخْرِقَ تَقْطَعَ(19/20)
وَفِي بعض النّسخ: لن تخرق، لن تقطع، وَهُوَ الصَّوَاب أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحاً إِنَّك لن تخرق الأَرْض وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا} (الْإِسْرَاء: 73) وَفسّر قَوْله: لن تخرق، بقوله: لن تقطع. قَوْله: (مرحاً) أَي: بطراً وكبراً وفخراً وخيلاء. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: هُوَ تَفْسِير الْمَشْي لَا نَعته فَلذَلِك أخرجه عَن الْمصدر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مرحاً حَال أَي: ذَا مرح، وقرىء: مرحاً، بِكَسْر الرَّاء، وَفضل الْأَخْفَش الْمصدر على إسم الْفَاعِل لما فِيهِ من التَّأْكِيد. قَوْله: (إِنَّك لن تخرق الأَرْض) ، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: تقطعها بكبرك حَتَّى تبلغ آخرهَا، يُقَال: فلَان أخرق للْأَرْض من فلَان إِذا كَانَ أَكثر أسفاراً. قَوْله: (وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا) . أَي: لن تساويها وتحاذيها بكبرك.
وإذْ هُمْ نَجْوَى مَصْدَرٌ مِنْ ناجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِها والمَعنْى يَتَناجَوْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْك وَإِذ هم نجوى} (الْإِسْرَاء: 74)
الْآيَة. قَوْله: (إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْك) ، نصب بقوله: أعلم، أَي: إعلم وَقت استماعهم بِمَا بِهِ يَسْتَمِعُون. قَوْله: (وَإِذ هم نجوى) ، أَي: وَبِمَا يتناجون بِهِ إِذْ هم ذُو نجوى، يَعْنِي: يتناجون فِي أَمرك، بَعضهم يَقُول: هُوَ مَجْنُون، وَبَعْضهمْ يَقُول: كَاهِن، وَبَعْضهمْ يَقُول: سَاحر، وَبَعْضهمْ يَقُول: شَاعِر. قَوْله: (مصدر من نَاجَيْت) الْأَظْهر أَنه إسم غير مصدر، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ هم نجوى} فجعلهم هم النَّجْوَى، وَإِنَّمَا النَّجْوَى فعلهم، كَمَا تَقول: قوم رضَا، وَإِنَّمَا الرِّضَا فعلهم. انْتهى. وَقيل: يجوز أَن يكون نجوى جمع نجي: كقتلى جمع قَتِيل.
رُفاتاً حُطاماً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أئِذا كُنَّا عظاماً ورفاتاً} (الْإِسْرَاء: 94) بقوله: (حطاماً) وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، هَكَذَا قَوْله: (حطاماً) أَي: عظاماً محطمة.
{واسْتَفْزِزْ اسْتَخِفَّ بِخَيْلِكَ الفُرْسانِ والرَّجْلُ الرَّجَّالَةُ واحِدُها رَاجِلٌ مِثْلُ صاحِبٍ وصَحْب وتاجِرٍ وتَجْرٍ} .
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك واجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} الْآيَة، وتفسيرها هَذَا بِعَين تَفْسِير أبي عُبَيْدَة هُنَا، وَفِي التَّفْسِير: هَذَا أَمر تهديد. قَوْله: (مِنْهُم) ، أَي: من ذُرِّيَّة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (بصوتك) ، أَي: بدعائك إِلَى مَعْصِيّة الله تَعَالَى، قَالَه ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة، وكل داعٍ إِلَى مَعْصِيّة الله تَعَالَى فَهُوَ من جند إِبْلِيس، وَعَن مُجَاهِد: بصوتك، بِالْغنَاءِ والمزامير، قَوْله: (واجلب) ، أَي: إجمع وصحِّ، وَقَالَ مُجَاهِد: إستعن عَلَيْهِم بخيلك أَي: ركبان جندك. قَوْله: (ورجلك) أَي: مشاتهم، وَعَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين: كل رَاكب وماشٍ فِي معاصي الله تَعَالَى.
{حاصِباً الرِّيحُ العاصِفُ والحاصِبُ أيْضاً مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ ومِنْهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ وهْوَ حَصَبُهَا ويُقال حَصَبَ فِي الأرْضِ ذِهَبَ والحَصَبُ مُشْتَقٌّ مِن الحصْباءِ والحجارَةِ} .
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أويرسل عَلَيْكُم حاصباً ثمَّ لَا تَجدوا لكم وَكيلا} (الْإِسْرَاء: 86) وَفسّر الحاصب بِالرِّيحِ العاصف، وَفِي التَّفْسِير: حاصباً حِجَارَة تمطر من السَّمَاء عَلَيْكُم كَمَا أمطر على قوم لوط، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة والقتبي: الحاصبا الرّيح الَّتِي ترمي بالحصباء، وَهِي الْحَصَى الصغار، وَهُوَ معنى قَوْله: (والحاصب أَيْضا مَا ترمي بِهِ الرّيح) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الحاصب الرّيح الشَّدِيدَة الَّتِي تثير الْحَصْبَاء. قَوْله: (وَمِنْه) ، أَي: وَمن معنى لفظ الحاصب: حصب جَهَنَّم، وكل شَيْء أَلقيته فِي النَّار فقد حصبتها بِهِ. قَوْله: (وَهُوَ حصبها) أَي: الشَّيْء الَّذِي يَرْمِي فِيهَا هُوَ حصبها، ويروى: وهم حصبها أَي الْقَوْم الَّذين يرْمونَ فِيهَا حصبها. قَوْله: (وَيُقَال: حصب فِي الأَرْض ذهب) ، كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي أَيْضا. قَوْله: (والحصب مُشْتَقّ من الْحَصْبَاء) لم يرد بالاشتقاق الِاشْتِقَاق المصطلح بِهِ، أَعنِي: الِاشْتِقَاق الصَّغِير لعدم صدقه عَلَيْهِ على مَا لَا يخفى، وَفسّر الْحَصْبَاء بِالْحِجَارَةِ، وَهُوَ من تَفْسِير الْخَاص بِالْعَام، وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْحَصْبَاء الْحَصَى.
تارَةً مَرَّةً وجَماعَتُهُ تِيَرَةٌ وتارَاتٌ(19/21)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم أمنتم أَن يعيدكم فِيهِ تَارَة أُخْرَى} (الْإِسْرَاء: 96) وَفسّر: تَارَة، بقوله: مرّة، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَيجمع على تيرة بِكَسْر التَّاء وَفتح اليا آخر الْحُرُوف وعَلى تارات، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأَحْسَن سُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء كَمَا يُقَال فِي جمع قاعة: قيعة.
{لأحْتَنِكَنَّ لأسْتَأصِلَنَّهُمْ يُقالُ احْتَنَكَ فُلاَنٌ مَا عِنْدَ فُلاَنٍ مِنْ عِلْمٍ اسْتَقصاهُ} (الْإِسْرَاء: 26)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَئِن أخرتني إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لأحتنكن ذُريَّته إلاَّ قَلِيلا} وَفسّر الاحتناك بالاستئصال، وَقيل: مَعْنَاهُ لأستولين عَلَيْهِم بالإغواء والإضلال، وَأَصله من احتنك الْجَرَاد الزَّرْع وَهُوَ أَن تَأْكُله وتستأصله باحتناكها وتفسده، هَذَا هُوَ الأَصْل، ثمَّ يُسمى الِاسْتِيلَاء على الشَّيْء وَأخذ كُله احتناكاً، وَعَن مُجَاهِد: معنى لأحتنكن لأحتوين.
طائِرَهُ حَظَّهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه} (الْإِسْرَاء: 31) الْآيَة وَفسّر (طَائِره) بقوله: (حَظه) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة والقتبي، وَقَالا: أَرَادَ بالطائر حَظه من الْخَيْر وَالشَّر، من قَوْلهم: طَار بهم فلَان بِكَذَا، وَإِنَّمَا خص عُنُقه دون سَائِر أَعْضَائِهِ لِأَن الْعُنُق مَوضِع السمات وَمَوْضِع القلادة وَغير ذَلِك مِمَّا يزين أَو يشين، فَجرى كَلَام الْعَرَب بِنِسْبَة الْأَشْيَاء الْأَشْيَاء اللَّازِمَة إِلَى الْأَعْنَاق، فَيَقُولُونَ: هَذَا الشَّيْء لَك فِي عنقِي حَتَّى أخرج مِنْهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس: طَائِره عمله، وَعَن الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: خَيره وشره مَعَه لَا يُفَارِقهُ حَتَّى يُحَاسب عَلَيْهِ، وَعَن الْحسن: يمنه وشومه، وَعَن مُجَاهِد: رزقه.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كُلُّ سُلْطانٍ فِي القُرْآنِ فَهْوَ حُجةٌ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم البستي عَن ابْن أبي عمر: حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَأما لفظ السُّلْطَان فِي هَذِه السُّورَة فِي موضِعين: أَحدهمَا قَوْله: {فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا} (الْإِسْرَاء: 33) وَالْآخر قَوْله: {وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا} (الْإِسْرَاء: 08) .
ولِيٌّ مِنَ الذَّلِّ لَمْ يُحالِفْ أحدا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلم يكن لَهُ ولي من الذل وَكبره تَكْبِيرا} . قَوْله: (لم يحالف) بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: لم يوال أحدا لأجل مذلة بِهِ ليدفعها بموالاته، وَعَن مُجَاهِد: لم يحْتَج فِي الِانْتِصَار إِلَى أحد، وَالله سُبْحَانَهُ أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {سُبْحانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الْإِسْرَاء: 1)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} الْآيَة، وَسُبْحَان علم للتسبيح، وَالْمعْنَى: سبح الله تَعَالَى وَأسرى وسرى لُغَتَانِ، وليلاً، نصب على الظّرْف وَإِنَّمَا ذكر: لَيْلًا، بالتنكير وَإِن كَانَ الْإِسْرَاء لَا يكون إلاَّ بِاللَّيْلِ إِشَارَة إِلَى تقليل مُدَّة الْإِسْرَاء.
230 - (حَدثنَا عَبْدَانِ حَدثنَا عبد الله أخبرنَا يُونُس ح وَحدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا عَنْبَسَة حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب قَالَ ابْن الْمسيب قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أُتِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ بإيلياء بقدحين من خمر وَلبن فَنظر إِلَيْهِمَا فَأخذ اللَّبن قَالَ جِبْرِيل الْحَمد لله الَّذِي هداك للفطرة لَو أخذت الْخمر غوت أمتك) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأخرجه من طَرِيقين أَحدهمَا عَن عَبْدَانِ هُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَالْآخر عَن أَحْمد بن صَالح أبي جَعْفَر الْمصْرِيّ عَن عَنْبَسَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة ابْن خَالِد عَن يُونُس إِلَى آخِره والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن عَبْدَانِ وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب(19/22)
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر قَوْله " بإيلياء " بِكَسْر الْهمزَة وَاللَّام وَإِسْكَان التَّحْتَانِيَّة الأولى ممدودا هُوَ بَيت الْمُقَدّس على الْأَشْهر قَوْله " للفطرة " أَي لِلْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضى الطبيعة السليمة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا فَإِن قلت قد مر فِي حَدِيث الْمِعْرَاج أَنه ثَلَاثَة أقداح وَالثَّالِث فِيهِ عسل قلت لَا مُنَافَاة بَينهمَا -
0174 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ صالحٍ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخبَرَني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أبُو سَلَمَة سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عبْدِ الله رضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لمّا كَذّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلّى الله لي بَيْتَ المَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أخْبِرُهُمْ عنْ آياتِهِ وَأَنا أنْظُر إلِيْهِ زَادَ يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا ابنُ أخِي ابنِ شِهابٍ عنْ عَمِّهِ لمّا كَذّبَني قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْت المقْدِسِ نَحْوَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 6883) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
قَوْله: (لما كَذبَنِي قُرَيْش) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (لما كذبتني) ، بالتأنيث. قَوْله: (فِي الْحجر) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ تَحت ميزاب الْكَعْبَة. قَوْله: (فَجلى الله) ، بِالْجِيم، أَي: كشف الله تَعَالَى. قَوْله: (فطفقت) ، من أَفعَال المقاربة بِمَعْنى: شرعت وَأخذت (أخْبرهُم) من الْإِخْبَار. قَوْله: (عَن آيَاته) ، أَي: علاماته، وَالَّذِي سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يصف لَهُم بَيت الْمُقَدّس هُوَ الْمطعم بن عدي فوصف لَهُم، فَمن مُصَفِّق وَمن وَاضع يَده على رَأسه مُتَعَجِّبا، وَكَانَ فِي الْقَوْم من سَافر إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَرَأى الْمَسْجِد فَقيل لَهُ: هَل تَسْتَطِيع أَن تنْعَت لنا بَيت الْمُقَدّس؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَذَهَبت أَنعَت لَهُم فَمَا زلت أَنعَت حَتَّى الْتبس عَليّ بعض النَّعْت، فجيء بِالْمَسْجِدِ حَتَّى وضع، قَالَ: فنعته وَأَنا أنظر إِلَيْهِ، فَقَالَ القوام: أما النَّعْت فقد أصَاب. قَوْله: (زَاد يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم) ، هُوَ ابْن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنَا ابْن أخي ابْن شهَاب وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم ابْن أخي الزُّهْرِيّ عَن عَمه مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا الذهلي فِي (الزهريات) عَن يَعْقُوب بِهَذَا الْإِسْنَاد.
قاصِفاً: رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفاً من الرّيح فيغرقكم} (الْإِسْرَاء: 96) الْآيَة، وَفسّر القاصف بقوله: (ريح) أَي: القاصف (ريح تقصف كل شَيْء) . أَي: تكسره بِشدَّة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَالله تَعَالَى أعلم.
4 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ولَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ} (الْإِسْرَاء: 07)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كرمنا} وَلَيْسَت فِي بعض النّسخ هَذِه التَّرْجَمَة، قَوْله: (وَلَقَد كرمنا بني آدم) أَي: بِالْعقلِ، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَعَن الضَّحَّاك: بالنطق والتمييز، وَعَن عَطاء: بتعديل الْقَامَة وامتدادها، وَعَن يمَان: بِحسن الصُّورَة، وَعَن مُحَمَّد ابْن جرير: بتسليطهم على غَيرهم من الْخلق وتسخير سَائِر الْخلق لَهُم، وَعَن ابْن عَبَّاس: كل شَيْء يَأْكُل بِفِيهِ إلاّ ابْن آدم يَأْكُل بِيَدِهِ.
كَرَّمْنا وأكْرَمْنا واحِدٌ
قَالَ بَعضهم: أَي فِي الأَصْل وإلاَّ فبالتشديد أبلغ قلت: إِذا كَانَ مُرَاده بِالْأَصْلِ الْوَضع فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن لكل مِنْهُمَا بَابا فِي الأَصْل مَوْضُوعا، وَإِن كَانَ مُرَاده بِالْأَصْلِ الِاسْتِعْمَال فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن كرمنا بِالتَّشْدِيدِ من بَاب التفعيل، وَأَكْرمنَا من بَاب الْأَفْعَال، بل المُرَاد أَنَّهَا وَاحِد فِي التَّعَدِّي، غير أَن فِي كرمنا بِالتَّشْدِيدِ من الْمُبَالغَة مَا لَيْسَ فِي أكرمنا. فَافْهَم.
ضِعْفَ الحَياةِ عَذَابَ الحَياة وضِعْفَ المَمَاتِ عَذَابَ المَماتِ(19/23)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا} (الْإِسْرَاء: 57) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: التَّقْدِير ضعف عَذَاب الْحَيَاة وَضعف عَذَاب الْمَمَات، يُرِيد عَذَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أَي: ضعف مَا يعذب بِهِ غَيره، وَهَذَا تخويف لأمته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِئَلَّا يركن أحد من الْمُسلمين إِلَى أحد من الْمُشْركين فِي شَيْء من أَحْكَام الله وشرائعه، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا وَمَا شابهه محَال فِي حَقه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
خِلاَفَكَ وخَلْفَكَ سَوَاءٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا لَا يلبثُونَ خِلافك إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 67) وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة. قَالَ: وهما لُغَتَانِ بِمَعْنى، وقرىء بهما فالجمهور قرؤوا خَلفك إلاَّ قَلِيلا وَابْن عَامر خِلافك، وَمَعْنَاهُ: إلاَّ قَلِيلا بعْدك.
ونأى تَباعَدَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونأى بجانبه} (الْإِسْرَاء: 38) وَفسّر قَوْله: (نأى) بقوله: (تبَاعد) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَي: تبَاعد منا بِنَفسِهِ، وَعَن عَطاء: تعظم وتكبر، وَيُقَال: نأى من الأضداد.
شاكِلَتِهِ ناحِيَتِهِ وهْيَ مِنْ شَكَلْتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 48) وفسرها بقوله: ناحيته، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد: على حِدته، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: على نِيَّته، وَعَن أبي زيد. على دينه، وَعَن مقَاتل: على جبلته، وَعَن الْفراء: على طَرِيقَته الَّتِي جبل عَلَيْهَا، وَعَن أبي عُبَيْدَة والقتبي: على خليقته وطبيعته: (وَهِي من شكلته) أَي: الشاكلة مُشْتَقَّة من شكلته إِذا قيدته، ويروى: (من شكلته) ، بِالْفَتْح بِمَعْنى الْمثل، وبالكسر بِمَعْنى الدن.
صَرَّفْنا وجَّهْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صرفنَا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن} (الْإِسْرَاء: 98) وَفَسرهُ بقوله: وجهنا، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَيُقَال: أَي وَبينا من الْأَمْثَال وَغَيرهَا مِمَّا يُوجب الِاعْتِبَار بِهِ.
قَبِيلاً مُعايَنَةً ومُقابَلَةً وقِيلَ القابِلَةُ لأنّها مُقابِلَتُها تَقْبَلُ ولدَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلاً} (الْإِسْرَاء: 291) وَفَسرهُ بقوله: مُعَاينَة ومقابلة. قَوْله: (وَقيل الْقَابِلَة) ، أَرَادَ أَنه قيل للْمَرْأَة الَّتِي تتلقى الْوَلَد عِنْد الْولادَة قَابِلَة لِأَنَّهَا مقابلتها، أَي: مُقَابلَة الْمَرْأَة الَّتِي تولدها. قَوْله: (تقبل وَلَدهَا) أَي: تتلقاه عِنْد الْولادَة، يُقَال: قبلت الْقَابِلَة الْمَرْأَة تقبلهَا قبالة بِالْكَسْرِ، أَي: تَلَقَّتْهُ عِنْد الْولادَة، وَقَالَ ابْن التِّين: ضَبطه بَعضهم بتقبل وَلَدهَا بِضَم الْمُوَحدَة وَلَيْسَ ببين قلت: تقبل بِالْفَتْح هُوَ الْبَين لِأَنَّهُ من بَاب علم يعلم، وَقد يظنّ أَن تقبل وَلَدهَا من التَّقْبِيل، وَلَيْسَ بِظَاهِر.
خَشْيَةَ الإنْفاقِ أنْفَقَ الرَّجُلُ أمْلَقَ ونَفَقَ الشَّيْءُ ذِهَبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِذا لامستكم خشيَة الْإِنْفَاق وَكَانَ الْإِنْسَان قتوراً} (الْإِسْرَاء: 001) وَفسّر الْإِنْفَاق الإملاق، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق السّديّ، قَالَ: خشيَة الْإِنْفَاق، أَي: خشيَة أَن تنفقوا فتفتقروا. قَوْله: (ونفق الشَّيْء ذهب) بِفَتْح الْفَاء وَقيل بِكَسْرِهَا، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَأَشَارَ بِهِ أَيْضا إِلَى الْفرق بَين الثلاثي والمزيد من حَيْثُ الْمَعْنى، وَفِي هَذِه السُّورَة أَيْضا قَوْله: {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} (الْإِسْرَاء: 13) الإملاق الْفقر وَقد خبط بَعضهم هُنَا خباطاً لَا ينجلي، وَقد طويت ذكره.
قَتُوراً مُقَتِّراً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَان قتوراً} (الْإِسْرَاء: 001) وَقَالَ: إِن قتوراً الَّذِي على وزن: فعول، بِمَعْنى: مقتراً، على وزن إسم الْفَاعِل من الإقتار، وَمَعْنَاهُ: بَخِيلًا ممسكاً، يُقَال: قتر يقتر قتراً وأقتر إقتاراً: إِذا قصر فِي الْإِنْفَاق.
للأذْقانِ مُجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ والوَاحِدُ ذَقَنٌ(19/24)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يخرون للأذقان سجدا} (الْإِسْرَاء: 701) وَقَالَ: الأذقان مجمع اللحيين، بِفَتْح اللاَّم، وَقيل، بِكَسْرِهَا أَيْضا: تَثْنِيَة لحي وَهُوَ الْعظم الَّذِي عَلَيْهِ الْأَسْنَان. قَوْله: (وَالْوَاحد ذقن) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَالْقَاف وَاللَّام فِيهِ بِمَعْنى: على، وَالْمعْنَى: يَسْجُدُونَ على أذقانهم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْوُجُوه، يُرِيد: يَسْجُدُونَ بِوُجُوهِهِمْ وجباههم وأذقانهم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ مَوْفُوراً وافِراً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن جَهَنَّم جزاؤكم جزاءًا موفوراً} (الْإِسْرَاء: 36) وَفسّر مُجَاهِد: موفوراً بقوله: (وافراً) وَكَذَا روى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَالْحَاصِل أَن الْمَفْعُول هُنَا بِمَعْنى الْفَاعِل، عكس: {عيشة راضية} (الحاقة: 12 وَالْقَارِعَة: 7) .
تَبِيعاً ثائِراً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعاً} (الْإِسْرَاء: 96) وَفسّر (تبيعاً) بقوله: (ثائراً) أَي: طَالبا للثأر ومنتقماً، وَيُقَال لكل طَالب بثأر: تبيع، وتابع، وَهَذَا أَيْضا تَفْسِير مُجَاهِد وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس نَصِيراً
أَي: ابْن عَبَّاس فسر تبيعاً بقوله: (نَصِيرًا) وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
خَبَتْ طَفِئَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلما خبت زدناهم سعيراً} (الْإِسْرَاء: 79) وَفسّر: (خبت) بقوله: (طفئت) يُقَال: خبت النَّار تخبو خبواً إِذا سكن لهبها، وأصل خبت خبيت قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ خبت على وزن فعت.
وَقَالَ ابنُ عَباسٍ لَا تُبَذِّرْ لَا تُنْفِقْ فِي الباطِلِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تبذر تبذيراً} (الْإِسْرَاء: 62) أَي: لَا تنْفق فِي الْبَاطِل، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس، وَيُقَال: التبذير إِنْفَاق المَال فِيمَا لَا يَنْبَغِي، والإسراف هُوَ الصّرْف فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدا على مَا يَنْبَغِي.
ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ رزْقٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأما تعرضن عَنْهُم ابْتِغَاء رَحْمَة من رَبك} (الْإِسْرَاء: 82) وَفسّر الرَّحْمَة بالرزق، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
مَثْبُوراً ملْعُوناً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لأظنك يَا فِرْعَوْن مثبوراً} (الْإِسْرَاء: 201) وَفَسرهُ بقوله: ملعوناً، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْمَعْرُوف فِي الثبور الْهَلَاك، والملعون هَالك، وَعَن الْعَوْفِيّ: مَعْنَاهُ مَغْلُوبًا، وَعَن مُجَاهِد: هَالكا، وَعَن قَتَادَة: مهْلكا، وَعَن عَطِيَّة: مغيراً مبدلاً، وَعَن ابْن زيد بن أسلم: مخبولاً لَا عقل لَهُ.
لَا تَقْفُ: لَا تَقُلْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} (الْإِسْرَاء: 63) وَفسّر: (لَا تقف) بقوله: (لَا تقل) ، أَي: فِي شَيْء بِمَا لَا تعلم، وَعَن قَتَادَة: لَا تقل رَأَيْت وَلم تره وَسمعت وَلم تسمعه وَعلمت وَلم تعلمه، وَهَذِه رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد: وَلَا ترمِ أحدا بِمَا لَيْسَ لَك بِهِ علم، وَهِي رِوَايَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ القتبي: هُوَ مَأْخُوذ من الْقَفَا كَأَنَّهُ يقفو الْأُمُور، أَي: يكون فِي قفائها يتعقبها ويتتبعها ويتعرفها، يُقَال: قَفَوْت أَثَره على وزن دَعَوْت، وَالنَّهْي فِي: لَا تقف، مثل: لَا تدع، وَبِهَذَا اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة على ترك الْعَمَل بالقائف، وَمَا ورد من ذَلِك من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يُعَارض النَّص.
فَجاسُوا تَيَمَّمُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} (الْإِسْرَاء: 5) وَفسّر: (جاسوا) بقوله: (تيمموا) أَي: قصدُوا وسط الدَّار، وجاسوا من الجوس وَهُوَ طلب الشَّيْء باستقصاء، وَقَالَ ابْن عَرَفَة: مَعْنَاهُ عانوا وأفسدوا.
يُزْجِي الفلْكَ: يُجْرِي الفلْكَ(19/25)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ربكُم الَّذِي يزجى لكم الْفلك فِي الْبَحْر} (الْإِسْرَاء: 66) وَفسّر: (يُزجي) ، من الإزجاء الزَّاي، بقوله: (يُجري) من الإجراء بالراء الْمُهْملَة، وَيُقَال: مَعْنَاهُ يَسُوق الْفلك ويسيره حَالا بعد حَال، وَيُقَال: أزجيت الْإِبِل سقتها، وَالرِّيح تزجي السَّحَاب وَالْبَقَرَة تزجي وَلَدهَا، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة: يزجي الْفلك أَي يسيرها فِي الْبَحْر، وَالله أعلم.
(بابُ قَوْلِهِ: {وإذَا أرَدْنا أنْ نَهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا متْرَفِيها} (الْإِسْرَاء: 61)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة} الْآيَة. أَي إِذا أردنَا إهلاك قَرْيَة أمرنَا، بِفَتْح الْمِيم من: أَمر، ضد نهى، وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَفِيه حذف تَقْدِيره {أمرنَا مُتْرَفِيهَا} بِالطَّاعَةِ {ففسقوا} أَي: فَخَرجُوا عَن الطَّاعَة {فَحق عَلَيْهَا القَوْل} أَي: فَوَجَبَ عَلَيْهِم الْعَذَاب {فدمرنا تدميراً} أَي: فخربنا تخريباً وأهلكنا من فِيهَا إهلاكاً، وَفسّر بَعضهم: أمرنَا: بكثرنا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء (آمرنا) من أَمر يَعْنِي بِكَسْر الْمِيم وَأمره غَيره وأمرنا بِمَعْنى أمرنَا أَو من أَمر إِمَارَة وَأمره الله أَي: جعلناهم أُمَرَاء وسلطناهم. قَوْله: (مُتْرَفِيهَا) جمع مترف وَهُوَ المتنعم المتوسع فِي ملاذ الدُّنْيَا.
1174 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حدّثنا سُفْيانُ أخْبَرَنا مَنْصُورٌ عنْ أبي وائِلِ عنْ عَبْدِ الله قَالَ كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إذَا كَثُرُوا فِي الجاهِلِيّةِ أمِرَ بَنُو فُلاَنٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: أَمر، فَإِنَّهُ بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا كَمَا جَاءَت الْقرَاءَات الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة مَبْنِيَّة على الِاخْتِلَاف فِي معنى: أَمر، الَّذِي هُوَ الْمَاضِي، وَالِاخْتِلَاف فِي بَابه.
وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل هُوَ شَقِيق بن سَلمَة وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
قَوْله: (للحي) أَي: للقبيلة. قَوْله: (أَمر) ، بِكَسْر الْمِيم بِمَعْنى كثر، وَجَاء بِفَتْح الْمِيم أَيْضا، وهما لُغَتَانِ جاءتا بِمَعْنى: كثر، وَفِيه رد على ابْن التِّين حَيْثُ أنكر الْفَتْح فِي معنى كثر، وَقَالَ بَعضهم: وَضبط الْكرْمَانِي أَحدهمَا بِضَم الْهمزَة وَهُوَ غلط مِنْهُ. قلت: لم يُصَرح الْكرْمَانِي بذلك بل نسبه إِلَى الْحميدِي، وَفِيه المناقشة.
حدّثنا الحُمَيْدِي حدّثنا سُفْيانُ وَقَالَ: أمِرَ
أَشَارَ بذلك إِلَى أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة روى عَنهُ الْحميدِي: (أَمر) ، بِفَتْح الْمِيم، وروى عَنهُ عَليّ بن عبد الله: أَمر، بِكَسْر الْمِيم وهما لُغَتَانِ كَمَا ذكرنَا فِي معنى: كثر والْحميدِي عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده حميد، وَقد مر غير مرّة، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
5 - (بابٌ: {ذُرِّيّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً} (الْإِسْرَاء: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح} إِلَى آخِره ... قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي يَا ذُرِّيَّة من حملنَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء ذُرِّيَّة بِالرَّفْع بَدَلا من وَاو تَتَّخِذُوا، وَقَرَأَ زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ، ذُرِّيَّة، بِكَسْر الذَّال، وروى عَنهُ أَنه فَسرهَا بِولد الْوَلَد. قَوْله: (إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا) ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا لبس ثوبا أَو أكل طَعَاما أَو شرب شرابًا قَالَ: الْحَمد لله، فَسمى عبدا شكُورًا، وَعَن عمرَان بن سليم: إِنَّمَا سمي نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عبدا شكُورًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أكل طَعَاما قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أَطْعمنِي، وَلَو شَاءَ أجاعني، وَإِذا شرب شرابًا، قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي سقاني وَلَو شَاءَ أظمأني، وَإِذا اكتسى، قَالَ: الحمدلله الَّذِي كساني وَلَو شَاءَ أعراني، وَإِذا احتذى قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي حذاني وَلَو شَاءَ أحفاني، وَإِذا قضى حَاجته قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أخرج عني أذاء فِي عَافِيَة وَلَو شَاءَ حَبسه.
2174 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أخْبَرَنا عبدُ الله أخبرنَا أبُو حيَّانَ التَّيْمِيُّ عنْ أبي زُرْعَةَ ابنِ عَمْروِ بنِ جَرِير عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنْهُ قَالَ أتِيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَحْمٍ(19/26)
فَرُفِعَ إلَيْهِ الذِّرَاعُ وكانَتْ تعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْها نَهْسَةً ثُمَّ قَالَ أَنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ وهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَاكَ يُجْمَعُ النّاسُ الأوَّلينَ والآخِرِينَ فِي صعِيدٍ واحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصرُ وتَدْنُو الشَّمْسُ فيَبْلُغُ النّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلَا يحْتَمِلونَ فيَقُولُ النّاسُ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بلغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بآدمَ فَيأتُونَ آدَمَ عَلَيهِ السّلاَمُ فيَقولُونَ لَهُ أنْتَ أبُو البَشَرِ خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ ونَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وأمرَ المَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ اشْفَعْ لنا إِلَى ربِّكَ أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ألاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنا فَيَقُولُ آدَمُ إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لمْ يَغْضَبْ قبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وإنَّهُ نَهاني عَن الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ. نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نوحٍ فَيَأتُونَ نُوحاً فيَقُولونَ يَا نُوحُ إنَّكَ أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أهْلِ الأرْض وقَدْ سَمّاكَ الله عبْداً شَكُوراً اشْفَعْ لَنا إِلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إنَّ رَبِّي عَزَّ وجَلَّ قدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وإنَّهُ قَدْ كانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُها عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إلَى إبْرَاهِيمَ فَيَأتُونَ إبْرَاهِيمَ فَيَقُولونَ يَا إبْرَاهِيمُ أنْتَ نَبِيُّ الله وخَلِيلُهُ مِنْ أهْلِ الأرْضِ اشْفَعْ لَنا إلَى رَبِّكَ ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فيَقُولُ لَهُمْ إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليومَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلُهُ ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وإنِّي قَدْ كُنْت كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَباتٍ فذكَرَهُنَّ أبُو حَيَّانَ فِي الحَدِيثِ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أنْتَ رَسُولُ الله فَضَّلَكَ الله بِرِسالَتِهِ وبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنا إِلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وإنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أومَرْ بِقَتْلِها نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى عِيَسى فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أنْتَ رسولُ الله وكَلِمَتُهُ ألْقاها إِلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ وكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا اشْفَعْ لَنا إلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فيَقُولُ عِيسَى إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ولَمْ يَذْكُرْ ذِنْباً نَفْسي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَأتُونَ مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أنْتَ رسولُ الله وخاتمُ الأنْبِياءِ وقَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخَّرَ اشْفَعْ لَنا إِلَى رَبِّكَ ألاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فأنْطَلِقُ فآتِي تَحْتَ العَرْشِ فأقَعُ ساجِداً لِرَبِّي عَزَّ وجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَليَّ مِنْ مَحامِدِهِ وحُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْهِ شَيْئاً لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ سَلْ تُعْطَهُ واشْفَعْ تُشَفَّعْ فأرْفَعُ رَأسِي فأقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقالُ يَا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأيمِنْ أبْوَابِ(19/27)
الجَنَّةِ وهُمْ شُرَكاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذالِكَ مِنَ الأبْوَابِ ثُمَّ قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصارِيع الجَنَّةِ كَما بَيْنَ مَكَّةِ وحِمْيَرَ أوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى.
(انْظُر الحَدِيث 0433 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عبدا شكُورًا) . وَمُحَمّد بن مقَاتل الْمروزِي. وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَأَبُو حَيَّان. بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه يحيى بن سعيد بن حَيَّان التَّيْمِيّ تيم الربَاب الْكُوفِي، وَأَبُو زرْعَة هُوَ هرم بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث مضى مُخْتَصرا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، عَن إِسْحَاق بن نصر عَن مُحَمَّد بن عبيد عَن أبي حَيَّان عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم فِيمَا لم يذكر.
قَوْله: (فنهس) ، من النهس وَهُوَ أَخذ اللَّحْم بأطراف الْأَسْنَان، والنهش بِالْمُعْجَمَةِ الْأَخْذ بجميعها. قَوْله: (مِم ذَلِك؟) ويروى: مِم ذَاك؟ قَوْله: (يسمعهم) من الإسماع. قَوْله: (وَينْفذهُمْ) بِضَم الْيَاء، أَي: يُحِيط بهم بصر النَّاظر لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء لِاسْتِوَاء الأَرْض وَعدم الْحجاب. قَوْله: (وَلنْ يغْضب) ويروى: وَلَا يغْضب. قَوْله: (وَإنَّهُ نهاني) ويروي: وَإنَّهُ قد نهاني. قَوْله: (نَفسِي نَفسِي نَفسِي) ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (فَذَكرهنَّ أَبُو حَيَّان) أَي: فَذكر الثَّلَاث الكذبات أَبُو حَيَّان الرَّاوِي الْمَذْكُور، وَهِي قَوْله: إِنِّي سقيم، وبل فعله كَبِيرهمْ، وَإِنَّهَا أُخْتِي، فِي حق سارة. انْتهى. قَوْله: (لم أومر) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (يشفع) على صِيغَة الْمَجْهُول من التشفع وَهُوَ قبُول الشَّفَاعَة. قَوْله: (ادخل) أَمر من الإدخال. قَوْله: (وحمير) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ بِالْيمن، (وَبصرى) بِضَم الْبَاء مَدِينَة بِالشَّام.
6 - (بابُ قَوْلِهِ: {وآتَيْنا دَاوُدَ زَبُوراً} (النِّسَاء: 361 والإسراء: 55)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وآتينا دَاوُد زبوراً} قَالَ الرّبيع بن أنس: الزبُور هَذَا ثَنَاء على الله وَدُعَاء وتسبيح، وَقَالَ قَتَادَة، كُنَّا نتحدث أَنه دُعَاء علمه الله دَاوُد وتحميد وتمجيد لله لَيْسَ فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام وَلَا فَرَائض وَلَا حُدُود.
3174 - حدَّثني إسْحاقُ بنُ نَصْرٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ القِرَاءَةُ فَكانَ يأمُرُ بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ فَكانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أنْ يَفْرُغَ يَعْنِي القُرْآنَ.
(انْظُر الحَدِيث 3702 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْقِرَاءَة) لِأَن مَعْنَاهُ: قِرَاءَة الزبُور، وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره: الْقُرْآن. قَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد مِنْهُ التَّوْرَاة وَالزَّبُور وكل شَيْء جمعته فقد قرأته، وَسمي الْقُرْآن قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع الْأَمر وَالنَّهْي وَغَيرهمَا انْتهى. قلت: قَوْله: لِأَنَّهُ جمع الْأَمر وَالنَّهْي، لَا يَتَأَتَّى فِي الزبُور لِأَنَّهُ كَانَ قصصاً وأمثالاً ومواعظ، وَلم يكن الْأَمر وَالنَّهْي إلاَّ فِي التَّوْرَاة.
والْحَدِيث مضى فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وآتينا دَاوُد زبوراً} يأتم مِنْهُ.
قَوْله: (خفف) على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّخْفِيف. قَوْله: (لتسرج) أَي: لِأَن تسرج من الإسراج وَهُوَ شدّ الدَّابَّة بالسرج. قَوْله: (قبل أَن يفرغ) أَي: من الإسراج، وَفِيه أَن الله تَعَالَى يطوي الزَّمَان لمن شَاءَ من عباده كَمَا يطوي الْمَكَان.
7 - (بابٌ: {قل ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولاَ تَحْوِيلاً} (الْإِسْرَاء: 65)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {قل ادعوا الَّذين} الْآيَة، كَذَا سيق فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه} الْآيَة. قَوْله: (زعمتم من دونه) أَي: زعمتم أَنَّهَا آلِهَة من دون الله. قَوْله: (فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم) قيل: هُوَ مَا أَصَابَهُم من الْقَحْط سبع سِنِين. قَوْله: (وَلَا تحويلاً) أَي: وَلَا يملكُونَ تحويلاً عَلَيْكُم إِلَى غَيْركُمْ.
4174 - حدَّثني عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حَدثنَا يَحْيَى حدَّثنا سُفْيانُ حَدثنِي سُلَيْمانُ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ أبي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله {إِلَى ربِّهِمِ الوَسِيلَةَ} (الْإِسْرَاء: 75) قَالَ كانَ ناسٌ مِنَ الإنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسا مِنَ الجِنِّ فأسْلَمَ(19/28)
الجِنُّ وَتَمَسَّكَ هاؤُلاَءِ بِدِينِهِمْ زَادَ الأشْجَعِي عَنْ سُفْيانَ عَنِ الأعْمَشِ: {قلِ ادْعُو الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} (الْإِسْرَاء: 65) .
(انْظُر الحَدِيث: 4174 طرفه فِي: 5174) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي زِيَادَة الْأَشْجَعِيّ. وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَأَبُو معمر هُوَ عبد الله بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هُنَا عَن بشر بن خَالِد. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن بشر بن خَالِد بِهِ وَعَن غَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عَليّ بِهِ وَعَن غَيره.
قَوْله: {إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} (الْإِسْرَاء: 75) فِيهِ حذف تَقْدِيره: عَن عبد الله، قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} قَالَ: كَانَ نَاس من الْإِنْس إِلَى آخِره، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، غير أَن فِي قَوْله: كَانَ نفر من الْإِنْس يعْبدُونَ نَفرا من الْجِنّ فَأسلم النَّفر من الْجِنّ واستمسك الْإِنْس بعبادتهم، فَنزلت: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} انْتهى. وَالْمرَاد بالوسيلة الْقرْبَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: النَّاس هم الْإِنْس ضد الْجِنّ قَالَ تَعَالَى: {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ} (الْأَنْعَام: 211) فَكيف قَالَ: نَاسا من الْإِنْس وناساً من الْجِنّ؟ قلت: المُرَاد من لفظ: نَاس، طَائِفَة، وَالنَّاس قد يكون من الْإِنْس وَالْجِنّ. قلت: فِي كَلَامه الأول نظر، وَالْوَجْه كَلَامه الثَّانِي، وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي: وَالنَّاس قد يكون الْإِنْس وَمن الْجِنّ وَأَصله أنَاس فَخفف. انْتهى قَوْله: (وَتمسك هَؤُلَاءِ بدينهم) أَي: اسْتمرّ الْإِنْس الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ على عبَادَة الْجِنّ، وَالْجِنّ لَا يرضون بذلك لكَوْنهم أَسْلمُوا وهم الَّذين صَارُوا {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} . قَوْله: (زَاد الْأَشْجَعِيّ) هُوَ عبيد الله بن عبيد الرَّحْمَن بِالتَّصْغِيرِ فيهمَا الْكُوفِي مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، أَرَادَ أَنه زَاد فِي رِوَايَته عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وروى ابْن مرْدَوَيْه هَذِه الزِّيَادَة عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الْجَبَّار بن الْعلَا عَن يحيى حَدثنَا سُفْيَان فَذكره بِزِيَادَة. قَوْله: (فَأسلم الْجِنّ) من غير أَن يعلم الإنسيون، فَنزلت: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ} انْتهى. قلت: حَاصِل الْكَلَام أَن طَرِيق يحيى عَن سُفْيَان ابْن عبد الله لما قَرَأَ: {إِلَى ربه الْوَسِيلَة} قَالَ: كَانَ نَاس ... وَطَرِيق الْأَشْجَعِيّ عَن سُفْيَان أَنه زَاد فِي الْقِرَاءَة، وَقَرَأَ: {ادعو الَّذين زعمتم} أَيْضا إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: كَانَ نَاس.
8 - (بابٌ: {أُولائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} الآيةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ} الْآيَة. قَوْله: {يدعونَ} مَفْعُوله مَحْذُوف تَقْدِيره: أُولَئِكَ الَّذين يَدعُونَهُمْ آلِهَة يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة، أَي: الزلفة والقربة أَيهمْ أقرب. وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَأكْثر الْعلمَاء هم: عِيسَى وَأمه وعزير وَالْمَلَائِكَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم.
5174 - حدَّثنا بِشحر بنُ خالِدٍ أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عنْ أبي مَعْمَرٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عنهُ فِي هاذِهِ الآيةِ: {الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} قَالَ: ناسٌ مِنَ الجِنِّ يُعْبَدُونَ فأسْلَمُوا.
(انْظُر الحَدِيث 4174) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبله أوردهُ مُخْتَصرا عَن بشر بن خَالِد إِلَى آخِره. قَوْله: (يعْبدُونَ) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالله أعلم.
9 - (بابٌ: {وَمَا جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً لِلناسِ} (الْإِسْرَاء: 06)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك} الْآيَة، وَهُوَ مَا أرِي لَيْلَة الْإِسْرَاء من الْعَجَائِب والآيات. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الرُّؤْيَة يقل اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، والرؤيا يكثر اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، وَيجوز اسْتِعْمَال كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنيين. قَوْله: (إلاَّ فتْنَة) أَي: إلاَّ بلَاء للنَّاس حَيْثُ اتخذوه سخرياً.
6174 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ عَمْروٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي(19/29)
الله عَنهُ: {وَمَا جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (الْإِسْرَاء: 06) قَالَ هِيَ رُؤْيا عَيْنٍ أُرِيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ أسْرِيَ بِهِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
(انْظُر الحَدِيث 8883 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر وَفِي الْبَعْث عَن الْحميدِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور.
قَوْله: (هِيَ رُؤْيا عين) ، وَزَاد سعيد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان فِي آخر الحَدِيث: وَلَيْسَت رُؤْيا مَنَام. قَوْله: (أريها) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء من الإراءة. قَوْله: (والشجرة الملعونة) ، بِالنّصب عطف على الرُّؤْيَا، تَقْدِيره: وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن، إلاَّ فتْنَة للنَّاس، وَكَانَت فتنتهم فِي الرُّؤْيَا أَن جمَاعَة ارتدا، وَقَالُوا: كَيفَ يسرى بِهِ إِلَى بَيت الْقُدس فِي لَيْلَة وَاحِدَة؟ وَقيل: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني أُميَّة ينزون على منبره نزو القردة فسَاء ذَلِك، فَمَا استجمع ضَاحِكا حَتَّى مَاتَ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا} الْآيَة، وَكَانَت فتنتهم فِي الشَّجَرَة الملعونة أَن أَبَا جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة قَالَ، لما نزلت هَذِه الْآيَة: لَيْسَ من كذب ابْن أبي كَبْشَة أَنه يتوعدكم بِنَار تحرق الْحِجَارَة ثمَّ يزْعم أَنه تنْبت فِيهَا شَجَرَة وَأَنْتُم تعلمُونَ أَن النَّار تحرق الشَّجَرَة، وروى ابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الرَّزَّاق عَن أَبِيه عَن مينا، مولى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت لمروان: أشهد أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول لَك ولأبيك ولجدك: إِنَّكُم الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: أَن الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن الحكم بن أبي الْعَاصِ وَولده. قَوْله: {شَجَرَة الزقوم} (الصافات: 26) ، على وزن فعول من الزقم وَهُوَ اللقم الشَّديد وَالشرب المفرط، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: هِيَ شَجَرَة غبراء مرّة قبيحة الرؤوس، وَقَالَ ثَعْلَب: الزقوم كل طَعَام يقتل والزقمة الطَّاعُون، وَفِي (غرر التِّبْيَان) : هِيَ شَجَرَة الكشوت تلتوي على الشّجر فتجففه، وَقيل: هِيَ الشَّيْطَان، وَقيل: أَبُو جهل، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، لما ذكر الله عز وَجل الزقوم فِي الْقُرْآن، قَالَ أَبُو جهل: هَل تَدْرُونَ مَا الزقوم؟ هُوَ التَّمْر بالزبد، أما وَالله لَئِن أمكننا الله مِنْهَا لتزقمناها تزقماً، فَنزلت: {والشجرة الملعونة} (الْإِسْرَاء: 06) فِي الْقُرْآن. وَعَن مقَاتل: قَالَ عبد الله بن الزبعري: إِن الزقوم بِلِسَان البربر الزّبد، فَقَالَ أَبُو جهل: يَا جَارِيَة ائتنا تَمرا وزبداً، وَقَالَ لقريش: تزقموا من هَذَا الزقوم، وَقَالَ ابْن سَيّده: لما نزلت آيَة الزقوم لم يعرفهُ قُرَيْش، فَقَالَ أَبُو جهل: إِن هَذَا لَيْسَ ينْبت ببلادنا فَمَا مِنْكُم من يعرفهُ؟ فَقَالَ رجل قدم عَلَيْهِم من إفريقية: إِن الزقوم بلغَة أهل إفريقية الزّبد بِالتَّمْرِ. فَإِن قلت: فَأَيْنَ ذكرت فِي الْقُرْآن لعنها؟ قلت: قد لعن آكلها وَالْعرب تَقول لكل طَعَام مَكْرُوه مَلْعُون، وَوصف الله تَعَالَى شَجَرَة الزقوم فِي سُورَة الصافات فَقَالَ: {أَنَّهَا شَجَرَة تخرج فِي أصل الْجَحِيم} (الصافات: 46) الْآيَات ... أَي: خلقت من النَّار وعذب بهَا.
01 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} (الْإِسْرَاء: 87)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن قُرْآن الْفجْر} أَي: صَلَاة الْفجْر، سميت الصَّلَاة قُرْآنًا لِأَنَّهَا لَا تجوز إلاَّ بقرآن، وَقيل: يَعْنِي قِرَاءَة الْفجْر، أَي: مَا يقْرَأ بِهِ فِي صَلَاة الْفجْر. قَوْله: (كَانَ مشهوداً) أَي: تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار ينزل هَؤُلَاءِ ويصعد هَؤُلَاءِ فَهُوَ آخر ديوَان اللَّيْل وَأول ديوَان النَّهَار، وروى ابْن مرْدَوَيْه بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {أَن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهوداً} قَالَ: يشهده الله وملائكة اللَّيْل وَالنَّهَار، وَفِي لفظ: فِي ثَلَاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل يفتح الله الذّكر الَّذِي لم يره أحد غَيره فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت، ثمَّ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة ينزل إِلَى عدن فَيَقُول: طُوبَى لمن دَخلك، ثمَّ ينزل فِي السَّاعَة الثَّالِثَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، فَيَقُول: هَل من مُسْتَغْفِر فَاغْفِر لَهُ؟ هَل من دَاع فَأُجِيبَهُ؟ حَتَّى يُصَلِّي الْفجْر، وَذَلِكَ قَوْله: {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهوداً} يَقُول: يشهده الله وَمَلَائِكَته وملائكة اللَّيْل وملائكة النَّهَار.
قَالَ مُجاهِدٌ صَلاَةَ الفَجْرِ(19/30)
أَي: قُرْآن الْفجْر صَلَاة الْفجْر، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى: حَدثنَا أَبُو بكر حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
7174 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبَرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سَلَمَةَ وابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَضْلُ صَلاَةِ الجَمِيعِ عَلَى صَلاَةِ الوَاحِدِ خَمْسٌ وعِشْرُونَ دَرَجَةً وتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهار فِي صَلاةِ الصُّبْحِ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ اقْرَؤوا إنْ شِئْتُمْ: {وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} (الْإِسْرَاء: 87) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب فضل صَلَاة الْفجْر فِي الْجَمَاعَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
11 - (بابُ قَوْلِهِ: {عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} (الْإِسْرَاء: 97)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {عَسى أَن يَبْعَثك} الْآيَة ... اعْلَم أَن كلمة عِيسَى وَلَعَلَّ، من الله واجبتان لِأَنَّهُ لَيْسَ من صِفَات الله الْغرُور، وَالْمقَام الْمَحْمُود هُوَ الْمقَام الَّذِي يشفع فِيهِ لأمته يحمده فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَرَأَ: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} قَالَ: يدنيني فيقعدني مَعَه على الْعَرْش، وَقَالَ ابْن نجويه: يجلسني مَعَه على السرير، وذكرهما الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره.
8174 - حدَّثني إسْماعَيلُ بنُ أبانَ حَدثنَا أبُو الأحْوَصِ عنْ آدَمَ بنِ عَلِيّ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَصِيرَونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثاً كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّها يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ حَتَّى تَنْتَهِي الشَّفاعَةُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذالِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ الله المَقامَ المَحْمُودَ.
(انْظُر الحَدِيث 5741) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْمَاعِيل بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون منصرفاً وَغير منصرف: أَبُو إِسْحَاق الْوراق الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، توفّي بِالْكُوفَةِ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو الْأَحْوَص هُوَ سَلام بن سليم، وآدَم بن عَليّ الْعجلِيّ الْبكْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن الْعَبَّاس بن عبد الله.
قَوْله: (جثا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: جثا، بِضَم الْجِيم وَفتح الْمُثَلَّثَة مَقْصُورا، أَي: جماعات وَاحِدهَا جثوَة وكل شَيْء جمعته من تُرَاب نَحوه فَهُوَ جثوَة. قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ عَن ابْن الخشاب: جثى، بِالتَّشْدِيدِ وَالضَّم جمع جاث، كغاز وغزى، وجثى مُخَفّفَة جمع جثوَة وَلَا معنى لَهُ هَهُنَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: ويروى: جثى، بتَشْديد الثَّاء جمع جاث أَي: جلس على رُكْبَتَيْهِ، وَفِي: (المغيث) : يجوز أَيْضا فتح الْجِيم وَكسرهَا كالعصى والعصي، قَوْله: (الشَّفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) زَاد فِي الرِّوَايَة الْمُتَعَلّقَة فِي الزَّكَاة: فَيشفع ليقضي بَين الْخلق.
9174 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَيَّاش حَدثنَا شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هاذِهِ الدَّعْوَةِ التامةِ والصّلاَةِ القائِمَةِ آتِ مُحَمَّدَ الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ وابْعَثْهُ مَقاماً مَحْمُوداً الّذي وعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيامَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 416) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مقَاما مَحْمُودًا) وَعلي بن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْأَلْهَانِي الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي(19/31)
حَمْزَة الْحِمصِي، وَابْن الْمُنْكَدر. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الدُّعَاء عِنْد النداء، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
رَواهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ الله عَن أبيهِ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور حَمْزَة بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا الْمُعَلق رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي مُعَاوِيَة الرَّازِيّ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عبد الله بن أبي جَعْفَر قَالَ: سَمِعت حَمْزَة بن عبد الله، قَالَ: سَمِعت أبي فَذكره وَالله أعلم.
21 - (بابٌ: {وقُلْ جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً} (الْإِسْرَاء: 18)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقل جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل} ... الْآيَة، أَي: قل يَا مُحَمَّد جَاءَ الْحق أَي الْإِسْلَام وزهق الْبَاطِل أَي الشّرك، وَقيل: الْحق دين الرَّحْمَن وَالْبَاطِل الْأَوْثَان، وَعَن ابْن جريج: الْحق الْجِهَاد وَالْبَاطِل الْقِتَال. قَوْله: (زهوقاً) أَي: ذَاهِبًا وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ الْآن.
يَزْهَقُ يَهْلِكُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله: (زهوقاً) أَي: هَالكا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وتزهق أنفسهم وهم كَارِهُون} (التَّوْبَة: 58) أَي: تخرج وتهلك، وَيُقَال: زهق مَا عنْدك أَي ذهب كُله، وزهق السهْم إِذا جَاوز الْغَرَض، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ: أخبرنَا الطَّبَرَانِيّ فِيمَا كتب إِلَى أخبرنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن قَتَادَة: زهق الْبَاطِل هلك، فَإِن قلت: كَيفَ قُلْتُمْ: زهق، بِمَعْنى هلك وَالْبَاطِل مَوْجُود مَعْمُول بِهِ عِنْد أَهله؟ قلت: المُرَاد بِبُطْلَانِهِ وهلكته وضوح عينه فَيكون هَالكا عِنْد المتدبر النَّاظر.
0274 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ ابنِ أبي نجِيحٍ عنْ مُجاهِدٍ عنْ أبي مَعْمَرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكّةَ وحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِيءُ الباطِلُ وَمَا يُعِيدُ.
(انْظُر الحَدِيث 8742 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير نسبته إِلَى أحد أجداده حميد، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد الله وَاسم أبي نجيح يسَار ضد الْيَمين وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا ابْن أبي نجيح وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين واسْمه عبد الله بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد لَطِيفَة، وَهِي أَن ثَلَاثَة من الروَاة فِيهِ إسم كل مِنْهُم عبد الله، وَكلهمْ ذكرُوا بِغَيْر اسْمه، وَعبد الله الرَّابِع هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث مضى فِي غَزْوَة الْفَتْح، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة) ، أَرَادَ بِهِ عَام الْفَتْح. (وحول الْبَيْت) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (نصب) بِضَمَّتَيْنِ، وَهِي الْأَصْنَام، قَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : نصب بِالرَّفْع صفة لقَوْله: سِتُّونَ وَثَلَاث مائَة، وَقَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع للْأَكْثَر نصب بِغَيْر ألف، وَالْأَوْجه نَصبه على التَّمْيِيز إِذْ لَو كَانَ مَرْفُوعا لَكَانَ صفة وَالْوَاحد لَا يَقع صفة للْجمع. قلت: أَخذ هَذَا من كَلَام ابْن التِّين، وَالْحق هُنَا أَن النصب وَاحِد الأنصاب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: النصب مَا نصب فعبد من دون الله، وَكَذَلِكَ النصب بِالضَّمِّ وَاحِد الأنصاب، وَفِي دَعْوَى الأوجهية نظر لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَّجه إِذا جَاءَت الرِّوَايَة بِالنّصب على التَّمْيِيز وَلَيْسَت الرِّوَايَة إلاَّ بِالرَّفْع، فحينئذٍ الْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال: إِن النصب مَا نصب، أَعم من أَن يكون وَاحِدًا أَو جمعا، وَأَيْضًا هُوَ فِي الأَصْل مصدر نصبت الشَّيْء إِذا أقمته فَيتَنَاوَل عُمُوم الشَّيْء. قَوْله: (يطعنها) بِضَم الْعين، قَوْله: (بِعُود فِي يَده) أَي: بِعُود كَائِن فِي يَده. قَوْله: (وَيَقُول) عطف على يطعن، وَيجوز أَن يكون الْوَاو للْحَال، وَفِي كسر الْأَصْنَام دلَالَة على كسر مَا فِي مَعْنَاهَا من العيدان والمزامير الَّتِي لَا معنى لَهَا إلاَّ اللَّهْو بهَا عَن ذكر الله، عز وَجل، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي معنى الْأَصْنَام الصُّور المتخذة من المدرو الْخشب وشبههما(19/32)
وَلَا يجوز بيع شَيْء مِنْهُ إلاَّ الْأَصْنَام الَّتِي تكون من ذهب أَو فضَّة أَو خشب أَو حَدِيد أَو رصاص إِذا غيرت وَصَارَت قطعا، وَقَالَ الْمُهلب: مَا كسر من آلَات الْبَاطِل وَكَانَ فِيهَا بعد كسرهَا مَنْفَعَة فصاحبها أولى بهَا مَكْسُورَة أَلا يرى أَن الإِمَام حرقها بالنَّار على معنى التَّشْدِيد والعقوبة فِي المَال؟ وَقد هم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحرق دور من تخلف عَن صَلَاة الْجَمَاعَة؟ وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
31 - (بابٌ: {ويَسْألُونَكَ عنِ الرُّوحِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ويسألونك عَن الرّوح} (الْإِسْرَاء: 58) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْأَكْثَر على أَن الَّذِي سَأَلُوهُ عَنهُ هُوَ حَقِيقَة الرّوح فَأخْبر أَنه من أَمر الله أَي: مِمَّا اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ. وَعَن أبي بُرَيْدَة: مضى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يعلم الرّوح، وَعَن ابْن عَبَّاس: قَالَت الْيَهُود للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أخبرنَا عَن الرّوح؟ وَكَيف يعذب؟ وَإِنَّمَا هِيَ من الله، وَلم يكن نزل عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء فَلم يحر إِلَيْهِم جَوَابا، فَجَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذِهِ الْآيَة. وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هُوَ النَّفس الدَّاخِل من الْخَارِج، قَالَ: وَقيل: هُوَ جسم لطيف يُشَارك الْأَجْسَام الظَّاهِرَة والأعضاء الظَّاهِرَة، وَقَالَ بَعضهم: لَا يعلمهَا إلاَّ الله تَعَالَى، وَقَالَ الْجُمْهُور: هِيَ مَعْلُومَة، وَقيل: هِيَ الدَّم، وَقيل: هِيَ نور من نور الله وحياة من حَيَاته، وَقيل: هِيَ أَمر من أَمر الله عز وَجل، أخْفى حَقِيقَتهَا وَعلمهَا على الْخلق. وَقيل: هِيَ روحانية خلقت من الملكوت فَإِذا صفت رجعت إِلَى الملكوت، وَقيل: الرّوح روحان روح اللاهوتية وروح الناسوتية، وَقيل: الرّوح نورية وروحانية وملكوتية إِذا كَانَت صَافِيَة، وَقيل: الرّوح لاهوتية، وَالنَّفس أرضية طينية نارية، وَقيل: الرّوح استنشاق الْهَوَاء، وَقَالَت عَامَّة الْمُعْتَزلَة: إِنَّهَا عرض، وَأغْرب ابْن الراوندي، فَقَالَ: إِنَّهَا جسم لطيف يسكن الْبدن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْمُخْتَار أَنه جسم لطيف تُوجد بِهِ الْحَيَاة، وَقيل: الْأَرْوَاح على صور الْخلق لَهَا أيد وأرجل وَسمع وبصر.
ثمَّ أعلم أَن أَرْوَاح الْخلق كلهَا مخلوقة وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والأثر، وَاخْتلفُوا: هَل تَمُوت بِمَوْت الْأَبدَان والأنفس أَو لَا تَمُوت؟ فَقَالَت طَائِفَة: لَا تَمُوت وَلَا تبلى، وَقَالَ بَعضهم: تَمُوت وَلَا تبلى وتبلى الْأَبدَان، وَقيل: الْأَرْوَاح تعذب كَمَا تعذب الْأَجْسَام، وَقَالَ بَعضهم: تعذب الْأَرْوَاح والأبدان جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ تنعم، وَقَالَ بَعضهم: الْأَرْوَاح تبْعَث يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهَا من حكم السَّمَاء وَلَا تبْعَث الْأَبدَان لِأَنَّهَا من الأَرْض خلقت، وَهَذَا مُخَالف للْكتاب والأثر وأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ بَعضهم: نبعث الْأَرْوَاح يَوْم الْقِيَامَة وينشىء الله عز وَجل لَهَا أجساماً من الْجنَّة، وَهَذَا أَيْضا مُخَالف لما ذكرنَا، وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي الرّوح وَالنَّفس، فَقَالَ أهل الْأَثر: الرّوح غير النَّفس، وقوام النَّفس بِالروحِ، وَالنَّفس تُرِيدُ الدُّنْيَا وَالروح تَدْعُو إِلَى الْآخِرَة وتؤثرها، وَقد جعل الْهوى تبعا للنَّفس والشيطان مَعَ النَّفس والهوى، وَالْملك مَعَ الْعقل وَالروح، وَقيل: الْأَرْوَاح تتناسخ وتنتقل من جسم إِلَى جسم، وَهَذَا فَاسد، وَهُوَ شَرّ الْأَقَاوِيل وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الرّوح المسؤول عَنهُ فِي الْآيَة: مَا هُوَ؟ فَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: هُوَ ملك من الْمَلَائِكَة لَهُ سَبْعُونَ ألف رَأس، فِي كل رَأس سَبْعُونَ ألف وَجه، لكل وَجه مِنْهَا سَبْعُونَ ألف فَم، فِي كل فَم سَبْعُونَ ألف لِسَان لكل لِسَان مِنْهَا سَبْعُونَ ألف لُغَة، يسبح الله تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَات كلهَا، يخلق من كل تَسْبِيحَة ملك يطير مَعَ الْمَلَائِكَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: الرّوح ضرب من الْمَلَائِكَة خلق الله صورهم على صور بني آدم لَهُم أيد وأرجل ورؤوس، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَأبي صَالح وَالْأَعْمَش، وَذكر أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، مَوْقُوفا عَلَيْهِ، قَالَ: الرّوح ملك عَظِيم أعظم من السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال وَالْمَلَائِكَة، وَهُوَ فِي السَّمَاء الرَّابِعَة يسبح كل يَوْم إثني عشر ألف تَسْبِيحَة، يخلق من كل تَسْبِيحَة ملك يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة صفا وَاحِدًا وَحده الْمَلَائِكَة بأسرهم يجيئون صفا وَقيل: المُرَاد بِهِ بَنو آدم، قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَقَتَادَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الَّذِي ينزل لَيْلَة الْقدر زعيم الْمَلَائِكَة وَبِيَدِهِ لِوَاء طوله ألف عَام، فيغرزه على ظهر الْكَعْبَة، وَلَو أذن الله لَهُ أَن يلتقم السَّمَوَات وَالْأَرْض لفعل.
وَعَن سعيد بن جُبَير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الرّوح، وَمن عَظمته لَو أَرَادَ أَن يبلع السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرضين السَّبع وَمن فيهمَا لقْمَة وَاحِدَة لفعل، صُورَة خلقه على صُورَة الْمَلَائِكَة، وَصُورَة وَجهه على صُورَة وَجه الْآدَمِيّين، فَيقوم يَوْم الْقِيَامَة عَن يَمِين الْعَرْش وَالْمَلَائِكَة مَعَه فِي صفة، وَهُوَ أقرب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى الْيَوْم عِنْد الْحجب السّبْعين، وَهُوَ مِمَّن يشفع لأهل التَّوْحِيد، وَلَوْلَا أَن(19/33)
بَينه وَبَين الْمَلَائِكَة سترا من نور لاحترق أهل السَّمَوَات من نوره، وَقَالَ قوم هُوَ الْمركب فِي الْخلق الَّذِي بفقده فناؤهم وهم وبوجوده بقاؤهم، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِالروحِ الْقُرْآن، وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين قَالُوا: يَا مُحَمَّد من أَتَاك بِهَذَا الْقُرْآن؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَبَين أَنه من عِنْده.
1274 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ حدَّثنا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ حدّثني إبْراهِيمُ عنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنا أَنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَرْثٍ وهْوَ مُتَّكِىءٌ عَلَى عَصِيبٍ إذْ مرَّ اليَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عنِ الرُّوحِ فَقَالَ مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيءٍ تَكْرَهُونَهُ فقالُوا سَلُوهُ فَسألُوهُ عنِ الرُّوحِ فَأمْسَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئاً فَعَلِمْتُ أنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقُمْتُ مَقامِي فَلَمَّا نَزَلَ الوحْيُ قَالَ: {ويَسْألُونَكَ عنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً} (الْإِسْرَاء: 58) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن قيس النَّخعِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعلم عَن قيس بن حَفْص، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن يحيى عَن وَكِيع وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عمر بن حَفْص وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حشرم بِهِ.
قَوْله: (بَينا أَنا) . قد مر غير مرّة أَن: بَين، زيدت فِيهِ الْألف ويضاف إِلَى جملَة وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب وَهُوَ قَوْله: (إِذْ مر الْيَهُود) . قَوْله: (فِي حرث) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء والثاء الْمُثَلَّثَة، وَوَقع فِي كتاب الْعلم من وَجه آخر فِي: خرب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ: كَانَ فِي نخل، وَزَاد فِي رِوَايَة الْعلم: بِالْمَدِينَةِ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه عَن الْأَعْمَش: فِي حرث الْأَنْصَار. قَوْله: (وَهُوَ متكىء) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، ويروى: وَهُوَ يتَوَكَّأ، أَي: يعْتَمد. قَوْله: (عسيب) ، بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ الجريدة الَّتِي لَا خوص فِيهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن حبَان: وَمَعَهُ جَرِيدَة. قَوْله: (الْيَهُود) ، بِالرَّفْع على الفاعلية، وَوَقع فِي بَقِيَّة رِوَايَات البُخَارِيّ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن: إِذْ مر بِنَفر من الْيَهُود، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن الْأَعْمَش: إِذْ مَرَرْنَا على يهود، وَالْيَهُود تَارَة بِالْألف وَتارَة يجرد عَنْهَا وَهُوَ جمع يَهُودِيّ. قَوْله: (مَا رابكم إِلَيْهِ) ، كَذَا بِصِيغَة الْفِعْل الْمَاضِي فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من الريب، وَيُقَال: رابه كَذَا، وأرا بِهِ كَذَا، بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده بِهَمْزَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة: من الرأب، وَهُوَ الْإِصْلَاح، فَيُقَال فِيهِ: رأب بَين الْقَوْم إِذا أصلح بَينهم، وَقَالَ الْخطابِيّ: الصَّوَاب مَا أربكم؟ بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء، أَي: مَا حَاجَتكُمْ؟ قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: مَا رَأْيكُمْ، أَي: فكركم. قَوْله: (لَا يستقبلكم بِشَيْء) ، بِالرَّفْع، وَقَالَ بَعضهم: وَيجوز السّكُون وَالنّصب قلت: السّكُون ظَاهر لِأَنَّهُ يكون فِي صُورَة النَّهْي، وَأما النصب فَلَيْسَ لَهُ وَجه، وَفِي رِوَايَة الْعلم: لَا يَجِيء فِيهِ بِشَيْء تكرهونه، وَفِي الِاعْتِصَام: لَا يسمعكم مَا تكرهونه. قَوْله: (سلوه) أَصله: سَأَلُوهُ، وَفِي رِوَايَة التَّوْحِيد لنسألنه وَاللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف. قَوْله: (فَسَأَلُوهُ عَن الرّوح) ، ويروى: فِي التَّوْحِيد، فَقَامَ رجل مِنْهُم فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِم مَا الرّوح وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ، فَقَالُوا: أخبرنَا عَن الرّوح. قَوْله: (فَلم يرد عَلَيْهِم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَلم يرد عَلَيْهِ بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (فَعلمت أَنه يُوحى إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة: فَظَنَنْت أَنه يُوحى إِلَيْهِ، وَفِي الِاعْتِصَام: فَقلت: إِنَّه يُوحى إِلَيْهِ. قَوْله: (فَقُمْت مقَامي) ، وَفِي رِوَايَة الِاعْتِصَام: فتأخرت عَنهُ. قَوْله: (فَلَمَّا نزل الْوَحْي) ، وَفِي رِوَايَة الِاعْتِصَام: حَتَّى صعد الْوَحْي، وَفِي رِوَايَة الْعلم: فَقُمْت فَلَمَّا انجلى. قَوْله: (من أَمر رَبِّي) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: يحْتَمل أَن يكون جَوَابا، وَأَن الرّوح من أَمر الله تَعَالَى، يَعْنِي: من جملَة أَمر الله، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: أَن الله اخْتصَّ بِعِلْمِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَمَا أُوتِيتُمْ) ، كَذَا للكشميهني هُنَا، وَكَذَا: الْهم، فِي الِاعْتِصَام،(19/34)
ولغير الْكشميهني هُنَا {وَمَا أُوتُوا} وَكَذَا لَهُم فِي الْعلم. قَوْله: (إلاَّ قَلِيلا) ، الِاسْتِثْنَاء من الْعلم أَي: إِلَّا علما قَلِيلا. أَو من الْإِعْطَاء، أَي إلاَّ إِعْطَاء قَلِيلا، أَو من ضمير الْمُخَاطب أَو الْغَائِب على الْقِرَاءَتَيْن، أَي: إلاَّ قَلِيلا مِنْكُم أَو مِنْهُم.
41 - (بابٌ: {ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخافِتْ بِها} (الْإِسْرَاء: 011)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا تجْهر} الْآيَة، وَلَيْسَ لغير أبي ذَر لفظ: بَاب، وَفِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا ذكره البُخَارِيّ، وَيَأْتِي الْآن. الثَّانِي: عَن سعيد بن جُبَير: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجْهر بِقِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، فَقَالَت قُرَيْش: لَا تجْهر بِالْقِرَاءَةِ فتؤذي آلِهَتنَا، فنهجو رَبك، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة. الثَّالِث: قَالَ الواحدي: كَانَ الْأَعرَابِي يجْهر فَيَقُول التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات، يرفع بهَا صَوته، فَنزلت هَذِه الْآيَة. الرَّابِع: قَالَ عبد الله بن شَدَّاد: كَانَت أَعْرَاب بني تَمِيم إِذا سلم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. من صلَاته قَالُوا: اللَّهُمَّ ارزقنا مَالا وَولدا، ويجهرون، فَنزلت هَذِه الْآيَة. الْخَامِس: عَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه عَنهُ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي الدُّعَاء، وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِيهِ.
3274 - حدَّثني طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ حدّثنا زَائِدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ أُنْزِلَ ذالِكَ فِي الدُّعاءِ.
(طلق بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون اللَّام وَالْقَاف: ابْن غَنَّام، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: أَبُو مُحَمَّد النَّخعِيّ الْكُوفِي، من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، وَرِوَايَته عَنهُ فِي هَذَا الْكتاب قَليلَة، مَاتَ فِي رَجَب سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وزائدة هُوَ ابْن قدامَة هُوَ هِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. والْحَدِيث من إِفْرَاده.
قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى قَوْله: {وَلَا تجْهر بصلاتك} قَوْله: فِي الدُّعَاء، أما من إِرَادَة مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ أَو إِرَادَة الْجُزْء لِأَن الدُّعَاء جُزْء من الصَّلَاة، وَقيل: سمت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، الصَّلَاة دُعَاء لِأَنَّهَا فِي الأَصْل دُعَاء، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس مثل مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث أَشْعَث عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلَا تجْهر بصلاتك} فِي الدُّعَاء، وروى أَيْضا بِسَنَد صَحِيح إِلَى دراج عَن أَنْصَارِي لَهُ صُحْبَة: أَن رَسُول الله(19/35)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي الدُّعَاء، وَمن حَدِيث ابْن إِبْرَاهِيم الهجري عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي هُرَيْرَة: {وَلَا تجْهر بصلاتك} (الْإِسْرَاء: 011) نزلت فِي الدُّعَاء وَالْمَسْأَلَة، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
(سُورَةُ الكَهْفِ)
أَي: هَذَا فِي بَيَان بعض تَفْسِير سُورَة الْكَهْف، ذكر ابْن مرديه أَن ابْن عَبَّاس، وَعبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنْهُم، قَالَا: إِنَّهَا مَكِّيَّة، وَعَن الْقُرْطُبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: مَكِّيَّة إلاَّ قَوْله: {واصبر نَفسك} (الْكَهْف: 82) فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَفِي: {مقامات التَّنْزِيل} : فِيهَا ثَلَاث آيَات مدنيات: قَوْله: {واصبر نَفسك} ، وَقَوله: {ويسألونك عَن ذِي القرنين} (الْكَهْف: 38) ، وَهِي سِتَّة آلَاف وثلاثمائة وَسِتُّونَ حرفا، وَألف وَخَمْسمِائة وَسبع وَسَبْعُونَ كلمة، وَمِائَة وَعشر آيَات.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة للأكثرين إلاَّ لأبي ذَر فَإِنَّهَا لم تثبت.
وَقَالَ مُجاهِدٌ تَقْرِضُهُمْ تَتْرُكُهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: (وَإِذا غربت تقرضهم ذَات الشمَال) (الْكَهْف: 71) وَفسّر مُجَاهِد: (تقرضهم) بقوله: (تتركهم) هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج بن حَمْزَة: حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، فَذكره. وَعَن ابْن عَبَّاس: تقرضهم تَدعهُمْ، وَعَن مقَاتل: تتجاوزهم أصل الْقَرْض الْقطع.
{وكانَ لَهُ ثُمُرٌ ذَهَبٌ وفِضَّةٌ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وفجرنا خلالهما نَهرا وَكَانَ لَهُ ثَمَر} (الْكَهْف: 33) الْآيَة، وَفسّر الثَّمر، بِضَم الثَّاء: بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَهَذَا من تَتِمَّة قَول مُجَاهِد، وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن جريج عَنهُ. وَأخرج الْفراء من وَجه آخر عَن مُجَاهِد، قَالَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآن ثَمَر بِالضَّمِّ فَهُوَ المَال، وَمَا كَانَ بِالْفَتْح فَهُوَ النَّبَات.
{وَقَالَ غَيْرُهُ جَماعَةُ الثَّمَر}
قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ عَنى بِهِ قَتَادَة. قلت: الَّذِي قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) جمَاعَة هُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (جمَاعَة) أَي: جُمُعَة، أَي جمع الثَّمر، بِالْفَتْح الثَّمر بِضَمَّتَيْنِ، وَقيل: إِن الثَّمَرَة تجمع على ثمار، وَالثِّمَار تجمع على ثَمَر، فَيكون الثَّمر جمع الْجمع.
{باخِعٌ مُهْلِكٌ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فلعلك باخع نَفسك على آثَارهم} (الْكَهْف: 6) الْآيَة. وَفسّر باخع، بقوله: مهلك، وَبِه فسر أَبُو عُبَيْدَة.
{أسَفاً نَدَماً}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث أسفا} (الْكَهْف: 6) ، وَفسّر: أسفا بقوله: (ندماً) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن قَتَادَة: أسفا حزنا، وَأَرَادَ بِالْحَدِيثِ الْقُرْآن.
{الكَهْفُ الفَتْحُ فِي الجَبَلِ} أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم حسبت أَن أَصْحَاب الْكَهْف والرقيم} (الْكَهْف: 9) وَفسّر (الْكَهْف) بقوله: (الْفَتْح فِي الْجَبَل) ، وَيُقَال: الْكَهْف الْغَار فِي الْجَبَل.
{والرَّقيمُ الكِتابُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ}
اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الرقيم، فَقيل: هُوَ الطاق فِي الْجَبَل، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ وَاد بَين أَيْلَة وَعُسْفَان، وأيلة دون فلسطين وَهُوَ الْوَادي الَّذِي فِيهِ أَصْحَاب الْكَهْف، وَقَالَ كَعْب: هُوَ قريتهم، فعلى هَذَا التَّأْوِيل من رقمة الْوَادي، وَهُوَ مَوضِع المَاء مِنْهُ، وَعَن سعيد بن جُبَير: الرقيم لوح من حِجَارَة، وَقيل: من رصاص كتبُوا فِيهِ أَسمَاء أَصْحَاب الْكَهْف وقصصهم ثمَّ وضعوه على بَاب الْكَهْف، فعلى هَذَا الرقيم بِمَعْنى المرقوم، أَي: الْمَكْتُوب، والرقم الْخط والعلامة، والرقم الْكِتَابَة.
{رَبَطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ ألْهَمْناهُمْ صَبْراً}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وربطنا على قُلُوبهم إِذْ قَامُوا} وَفسّر: ربطنا قَوْله: ألهمناهم صبرا. وَفِي التَّفْسِير: شددنا على قُلُوبهم بِالصبرِ وألهمناهم ذَلِك وقويناهم بِنور الْإِيمَان حَتَّى صَبَرُوا على هجران دَار قَومهمْ وفراق مَا كَانُوا فِيهِ من خفض الْعَيْش.(19/36)
{لَوْلاَ أنْ رَبَطْنا عَلَى قَلْبِها}
هَذَا فِي تَفْسِير سشورة الْقَصَص، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا لتَكون من الْمُؤمنِينَ} (الْقَصَص: 01) ذكره هُنَا اسْتِطْرَادًا لِأَنَّهُ من مَادَّة: ربطنا على قُلُوبهم، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة: لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا بِالْإِيمَان.
{شَطَطاً: إفْرَاطاً}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لن نَدْعُو من دونه إل هَا لقد قُلْنَا إِذا شططا} (الْكَهْف: 41) ، وَفسّر: (شططاً) بقوله: (إفراطاً) وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُقَاتِل: جوراً وَعَن قَتَادَة: كذبا وأصل الشطط مُجَاوزَة الْقدر والإفراط.
الوَصِيدُ الفِناءُ جَمْعُهُ وصائِدُ ووُصُدُ ويُقالُ الوَصِيدُ البابُ مُؤْصَدَة مُطْبَقَةٌ آصَدَ البابَ وأوْصَدَ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكلبهم باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} (الْكَهْف: 81) وَفَسرهُ (بالفناء) بِكَسْر الْفَاء وَهُوَ سَعَة أَمَام الْبيُوت، وَقيل: مَا امْتَدَّ من جوانبها. قَوْله: (وَيُقَال الوصيد الْبَاب) ، وَرُوِيَ كَذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَهُ السّديّ أَيْضا، وَعَن عَطاء: الوصيد عتبَة الْبَاب. قَوْله: (مؤصدة: مطبقة) ذكره اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} (الْهمزَة: 8) يَعْنِي: إِن النَّار عَلَيْهِم أَي على الْكَافرين مؤصدة، أَي مطبقة، قَالَه الْكَلْبِيّ، واشتقاقه من آصد يوصد أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (آصد الْبَاب) بِمد الْهمزَة أَي: أطبقه، وَكَذَلِكَ (أوصد) .
{بَعَثْناهُمْ أحْيَيْناهُمْ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ بعثناهم لنعلم أَي الحزبين أحصى لما لَبِثُوا أمداً} (الْكَهْف: 21) وَإِلَى قَوْله تَعَالَى أَيْضا: {وَكَذَلِكَ بعثناهم ليتساءلوا} (الْكَهْف: 91) الْآيَة، وَفِي التَّفْسِير قَوْله: (ثمَّ بعثناهم) يَعْنِي: من نومهم، وَذَلِكَ حِين تنَازع الْمُسلمُونَ الْأَولونَ أَصْحَاب الْكَهْف والمسلمون الْآخرُونَ الَّذين أَسْلمُوا حِين رَأَوْا أَصْحَاب الْكَهْف فِي قدر مُدَّة لبثهم فِي الْكَهْف، فَقَالَ الْمُسلمُونَ الْأَولونَ: مَكَثُوا فِي الْكَهْف ثَلَاثمِائَة وتسع سِنِين، وَقَالَ الْمُسلمُونَ الْآخرُونَ: بل مَكَثُوا كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: الله أعلم بِمَا لَبِثُوا، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ بعثناهم لنعلم} قَوْله: (أحصى) أَي: أحفظ فِي الْعد. قَوْله: (لما لَبِثُوا) أَي: لما مَكَثُوا فِي كهفهم نياماً. قَوْله: (أمداً) أَي: غَايَة، وَعَن مُجَاهِد عددا، وَكَذَلِكَ بعثناهم يَعْنِي: كَمَا امتناهم فِي الْكَهْف ومنعناهم من الْوُصُول إِلَيْهِم وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزَّمَان وثيابهم من العفن، كَذَلِك بعثناهم من النومة الَّتِي تشبه الْمَوْت.
أزْكَى أكْثَرُ ويُقالُ أحَلُّ ويُقالُ أكثَرُ رَيْعاً: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أكْلَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلْينْظر أَيهَا أزكى طَعَاما} (الْكَهْف: 91) وَفسّر أزكى بقوله: أَكثر، وَكَذَا فسره عِكْرِمَة، وَأَصله من الزَّكَاة وَهِي الزِّيَادَة والنماء. قَوْله: (وَيُقَال: أحل) ، أَي: أحل ذَبِيحَة، قَالَه ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير لِأَن عامتهم كَانُوا مجوساً وَفِيه قوم مُؤمنُونَ يخفون إِيمَانهم. قَوْله: (وَيُقَال: أَكثر ريعاً) أَي: معنى أزكى أَكثر ريعاً، والريع الزِّيَادَة والنماء على الأَصْل، قَالَه ابْن الْأَثِير. قَوْله: (وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أكلهَا) أَي: أزكى أكلهَا، أَي: أطيب أكلهَا، والمعاني الْمَذْكُورَة مُتَقَارِبَة.
ولَمْ تَظْلِمْ لَمْ تَنْقُصْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلتا الجنتين آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا} (الْكَهْف: 33) وَفسّر قَوْله: (لم تظلم) بقوله: (لم تنقص) وَهَذَا من تَفْسِير ابْن عَبَّاس رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حَدثنَا هِشَام بن يُوسُف عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ سَعِيدٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ الرَّقِيمُ اللَّوْحُ مِنْ رصاصٍ كَتَبَ عامِلُهُمْ أسْماءَهُمْ ثمَّ طَرَحَهُ فِي خِزانَتِهِ
لَا يُوجد هَذَا فِي كثير من النّسخ وَمَعَ هَذَا لَو كَانَ ذكر عِنْد قَوْله: (والرقيم) الْكتاب مرقوم مَكْتُوب من الرقم لَكَانَ أوجه وَأقرب، وَسَعِيد هُوَ ابْن جُبَير، وروى هَذَا التَّعْلِيق ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ عَن أبي عبيد: حَدثنَا سُفْيَان بن حُسَيْن عَن يعلى بن مُسلم عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ إِن الْفتية طلبُوا فَلم يجدوهم، فَرفع ذَلِك إِلَى الْملك فَقَالَ: لَيَكُونن لهَؤُلَاء شَأْن، فدعى بلوح من رصاص فَكتب أَسْمَاءَهُم فِيهِ وَطَرحه فِي خزانته، قَالَ: فالرقيم هُوَ اللَّوْح الَّذِي كتبُوا فِيهِ.(19/37)
{فَضرب الله على آذانهم فَنَامُوا} هَذِه إشاءة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فضربنا على آذانهم فِي الْكَهْف سِنِين عددا} (الْكَهْف: 11) هَذَا من فصيحات الْقُرْآن الَّتِي أقرَّت الْعَرَب بالقصور عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ، وَمَعْنَاهُ: أنمناهم وسلطنا عَلَيْهِم النّوم، كَمَا يُقَال: ضرب الله فلَانا بالفالج، أَي: ابتلاه بِهِ وأرسله عَلَيْهِ، وَقيل: مَعْنَاهُ حجبناهم عَن السّمع وسددها نُفُوذ الصَّوْت إِلَى مسامعهم، وَهَذَا وصف الْأَمْوَات والنيام.
وَقَالَ غَيْرُهُ وألَتْ تَثِلُ تَنْجُو: وَقَالَ مُجاهِدٌ مَوْئلاً مَحْرِزاً
أَي: وَقَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {بل لَهُم موعد لن يَجدوا من دونه موئلاً} (الْكَهْف: 85) أَرَادَ أَن لفظ موئلاً مُشْتَقّ من: (وألت تئل) من بَاب فعل يفعل بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي وَكسرهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وَمعنى: (تئل تنجو) وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وأل إِلَيْهِ يئل وَألا ووؤلاً على فعول، أَي: لَجأ، والموئل الملجأ. قَوْله: (وَقَالَ مُجَاهِد موئلاً محرزا) يَعْنِي مَعْنَاهُ: محرزا، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ ملْجأ وَرجح ابْن قُتَيْبَة هَذَا الْمَعْنى.
لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً لاَ يَعْقِلُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} وَفسّر قَوْله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا) بقوله: (لَا يعْقلُونَ) وَفِي التَّفْسِير وصف الله الْكَافرين بقوله: الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء. أَي: غشاء وغفلة عَن ذكري، أَي: عَن الْإِيمَان وَالْقُرْآن لَا يَسْتَطِيعُونَ أَي: لَا يُطِيقُونَ أَن يسمعوا كتاب الله عز وَجل ويتدبرونه ويؤمنون بِهِ لغَلَبَة الشَّقَاء عَلَيْهِم، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
1 - (بابُ قوْلِهِ عَزّ وجَلَّ: {وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الْكَهْف: 45)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلاً} أَي: خُصُومَة فِي الْبَاطِل، نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث وَكَانَ جداله فِي الْقُرْآن، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل: فِي أبي بن خلف وَكَانَ جداله فِي الْبَعْث.
4274 - حدَّثنا عليُّ بن عبْدِ الله حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ حدَّثنا أبي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَني عليُّ بنُ حُسَيْنٍ أنَّ حُسَيْنَ بنَ علِيّ أخبرَهُ عنْ عليّ رَضِي الله عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَرَقَهُ وفاطِمَةَ قَالَ ألاَ تُصَلِّيانِ.
هَذَا الحَدِيث ذكره هُنَا مُخْتَصرا. وَقد مضى بأتم مِنْهُ فِي الصَّلَاة فِي: بَاب تحريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قيام اللَّيْل، وَفِي آخِره: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلاً} وَهَذَا هُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة وَإِن لم يذكر صَرِيحًا.
وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَدِينِيّ، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعلي بن حُسَيْن هُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، سمع أَبَاهُ وَمضى الْكَلَام فِي الحَدِيث هُنَاكَ، قَوْله: (طرقه) أَي: أَتَاهُ لَيْلًا.
رَجْماً بالغَيْبِ لَمْ يَسْتَبِنْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ خَمْسَة سادسهم كلبهم رجماً بِالْغَيْبِ} (الْكَهْف: 22) وَفَسرهُ بقوله: (لم يستبن) وَقيل: قذفا بِالظَّنِّ من غير يَقِين وَهَذَا لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ أمره فرطا} (الْكَهْف: 82) نزلت فِي عُيَيْنَة بن حُصَيْن بن بدر الْفَزارِيّ قبل أَن يسلم، قَالَه ابْن جريج، وَفسّر قَوْله: فرطا بقوله: ندماً وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد فِي قَوْله: (فرطا) أَي: ندامة، وَعَن أبي عُبَيْدَة تضييعاً وإسرافاً، وَعَن مُجَاهِد: ضيَاعًا، وَعَن السّديّ إهلاكاً.
سُرَادِقُها(19/38)
مِثْلُ السُّرَادِقِ والحُجْرَةِ الَّتي تُطِيفُ بالْفَساطِيطِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا اعتدنا للظالمين نَارا أحَاط بهم سرادقها} (الْكَهْف: 92) وَالضَّمِير فِي سرادقها يرجع إِلَى النَّار، وَالْمعْنَى أَن سرادق النَّار مثل السرادق، والحجرة الَّتِي تطيف أَي تحيط بالفساطيط وَهُوَ جمع فسطاط وَهِي الْخَيْمَة الْعَظِيمَة، والسرادق هُوَ الَّذِي يمد فَوق صحن الدَّار ويطيف بِهِ ويقاربه. وَفِي التَّفْسِير عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: سرادق النَّار أَربع جدر كتف كل وَاحِدَة مسيرَة أَرْبَعِينَ سنة. وَعَن ابْن عَبَّاس: السرادق حَائِط من نَار، وَعَن الْكَلْبِيّ: هُوَ عنق يخرج من النَّار فيحيط بالكفار كالحظيرة، وَعَن القتبي: السرادق الْحُجْرَة الَّتِي تكون حول الْفسْطَاط، وَهُوَ هُنَا دُخان مُحِيط بالكفار يَوْم الْقِيَامَة.
يُحاوِرُهُ مِنَ المُحاوَرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَر فَقَالَ لصَاحبه وَهُوَ يحاوره} (الْكَهْف: 43) الْآيَة قَوْله: (من المحاورة) يَعْنِي: لفظ (يحاوره) مُشْتَقّ من المحاورة وَهِي الْمُرَاجَعَة، وَفِي التَّفْسِير: يحاوره، أَي: يجاوبه.
لاكِنّا هُوَ الله رَبِّي أيْ لَكِنْ أَنا هُوَ الله رَبِّي ثُمَّ حَذَفَ الألِفَ وأدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الأخْرَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لكنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلَا أشرك بربي أحدا} (الْكَهْف: 83) هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ تصرف عَامَّة النَّحْوِيين، وَهُوَ حذف همزَة، أَنا طلبا للخفة لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله وإدغام إِحْدَى النونين فِي الْأُخْرَى، وَعَن الْكسَائي: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازه، لَكِن هُوَ الله رَبِّي.
{وفَجَّرْنا خلالَهُما نَهَراً يَقُولُ بَيْنَهُما}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلتا الجنتين آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا وفجرنا خلالهما نَهرا وَكَانَ لَهُ ثَمَر} (الْكَهْف: 33 43) الْآيَة، وَفسّر قَوْله: (خلالهما) بقوله: (بَينهمَا) وَفِي التَّفْسِير: وفجرنا خلالهما، يَعْنِي: شققنا وسطهما نَهرا، وَفِي بعض النّسخ: وَقع هَذَا مقدما، وَثَبت لأبي ذَر.
زَلَقاً لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَتُصْبِح صَعِيدا زلقاً} (الْكَهْف: 04) وَفَسرهُ بقوله: لَا تثبت فِيهِ قدم. وَفِي التَّفْسِير {صَعِيدا زلقاً} يَعْنِي: صَعِيدا أملس لَا نَبَات عَلَيْهِ، وَعَن مُجَاهِد: رملاً هائلاً وتراباً.
هُنالِكَ الوَلايَةُ مَصْدَرُ الوَلِيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ منتصراً هُنَالك الْولَايَة لله الْحق} الْآيَة. قَوْله: (الْولَايَة) ، بِفَتْح الْوَاو فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْولَايَة بِالْفَتْح النُّصْرَة، والتولي، وبالكسر: السُّلْطَان وَالْملك، وَقد قرىء بهما. قَوْله: (مصدر الْوَلِيّ) ، ويروى: مصدر ولي بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر مصدر ولي الْمولى. وَلَاء وَالْأول هُوَ الأصوب. قَوْله: (هُنَالك) أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي التَّفْسِير: هُنَالك يتولون الله تَعَالَى ويتبرؤون مِمَّا كَانُوا يعبدونه.
عُقُباً عاقِبَةٌ وعقبى وعُقْبَةٌ واحِدٌ وهْيَ الآخِرَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ خير ثَوابًا وَخير عقباً} (الْكَهْف: 44) وَفسّر بقوله: (عَاقِبَة) ، ثمَّ قَالَ: (الْعَاقِبَة وعقبى وَعقبَة) بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: هَذَا عقب أَمر كَذَا وعقباه وعاقبته، أَي: آخِره، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: عَاقِبَة كل شَيْء آخِره.
قِبِلاً وقُبُلاً وقَبَلاً اسْتِئْنافاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب قُبُلاً} (الْكَهْف: 55) وقبلاً وقبلاً. الأول: بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، الثَّانِي: بِضَمَّتَيْنِ، وَالثَّالِث: بِفتْحَتَيْنِ، وَفسّر ذَلِك كُله بقوله: استئنافاً يَعْنِي اسْتِقْبَالًا، وَفِي التَّفْسِير: أَي عيَانًا، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ السَّيْف يَوْم بدر، وَقَالَ مقَاتل: فَجْأَة، وَمن قَرَأَ بِضَمَّتَيْنِ أَرَادَ أَصْنَاف الْعَذَاب.
لِيُدْحِضُوا لِيُزِيلوا الدَّحَضُ الزَّلَقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويجادل الَّذين كفرُوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق} (الْكَهْف: 65) وَفسّر: ليدحضوا بقوله: (ليزيلوا) من الدخض وَهُوَ الزلق، يُقَال: دحضت رجله إِذا زلقت، وَعَن السّديّ: مَعْنَاهُ ليفسدوا، وَقيل: ليبطلوا بِهِ الْحق.(19/39)
2 - (بابٌ: {وإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتاهُ لَا أبْرَحُ حَتَّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضَى حُقُباً} (الْكَهْف: 06) زَماناً وجَمْعُهُ أحْقابٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى} أَي: أذكر حِين قَالَ مُوسَى، هُوَ ابْن عمرَان (لفتاه) أَي: لصَاحبه يُوشَع بن نون، قيل: كَانَ مَعَه فِي سَفَره، وَقيل: فتاه عَبده ومملوكه. قَوْله: (لَا أَبْرَح) أَي: لَا أَزَال أَسِير (حَتَّى أبلغ مجمع الْبَحْرين) بَحر فَارس وَالروم مِمَّا يَلِي الْمشرق، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب: بطبخه، وَعَن أبي بن كَعْب. بأفريقية، وَقيل: هما بَحر الْأُرْدُن والقلزم، وَعَن ابْن الْمُبَارك: قَالَ بَعضهم: بَحر أرمينية، وَعَن السّديّ: هما الْكر والرش حَيْثُ يصبَّانِ فِي الْبَحْر. قَوْله: (أَو أمضى حقباً) . أَي: أمضى زَمَانا طَويلا، وَعَن قَتَادَة: الحقب الزَّمَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: الحقب الدَّهْر، وَعَن سعيد بن جُبَير: الحقب الْحِين، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: إِنَّه ثَمَانُون سنة، وَعَن مُجَاهِد سَبْعُونَ سنة. (وَجمعه) أَي: وَجمع الحقب (أحقاب) .
5274 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيانُ حَدثنَا عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قَالَ أخْبَرَني سعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ إنَّ نَوْفاً البَكالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى صاحِبَ الخَضِيرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ ابنُ عبّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ الله حَدثنِي أُبيُّ بنُ كَعْبٍ أنّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ مُوسَى قامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أيُّ النّاسِ أعْلَمُ فَقَالَ أَنا فَعَتَبَ الله عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ فأوْحَى الله إلَيْهِ إنَّ لِي عَبْداً بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تأخُذُ مَعَكَ حُوتاً فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُما فَقَدْتَ الحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ فأخَذَ حُوتاً فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ فتاهُ يُوشَعَ بنِ نُونٍ حَتّى إِذا أتَيا الصَّخْرَةَ وضَعا رُؤُوسَهُما فَناما واضْطَرَبَ الحُوتُ فِي المِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي البَحْر فاتخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً وأمْسَكَ الله عنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صاحِبُهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ فانْطَلَقا بَقِيَّةَ يَوْمِهِما ولَيْلَتِهِما حَتَّى إِذا كانَ مِنَ الغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قَالَ ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جاوَزَ المَكانَ الّذي أمَرَ الله بِهِ فَقَالَ لهُ فَتاهُ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسانِيهُ إلاَّ الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً قَالَ فكانَ لِلْحُوتِ سَرَباً ولِمُوسَى ولِفَتاهُ عَجَباً فَقَالَ مُوسَى ذالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فارْتَدَّا عَلَى آثارِهِما قَصَصاً: قَالَ رَجعَا يَقُصّانِ آثارَهُما حَتَّى انْتَهَيْنا إِلَى الصخْرَةِ فإذَا رجُلٌ مُسَجَّى ثَوْباً فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ الخَضِرُ وأنَّى بأرْضِكَ السّلاَمُ قَالَ أَنا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَني إسْرائِيلَ قَالَ نَعَمْ أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَداً قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمِ مِنْ عِلْمِ الله عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أنْتَ وأنْتَ عَلَى عِلْمِ مِنْ عِلْمِ الله عَلَّمَكَ الله لَا أعْلَمُهُ فَقَالَ مُوسَى سَتَجِدُني إنْ شاءَ الله صابِراً وَلَا أعْصِي لَكَ أمْراً فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ فإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فانْطَلَقا يَمْشِيانِ عَلَى ساحِلِ البَحْرِ فَمَرَّتْ سفِينَةٌ فكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الخَضرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمّا رَكِبا فِي(19/40)
السّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأ إلاّ والخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحاً مِنْ ألْواحِ السّفِينَةِ بالْقَدُومِ فَقَالَ لهُ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلونا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَها لتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً قَالَ ألَمْ أقُلْ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْراً: قَالَ وَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْياناً قَالَ وجاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حرْف السّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي البَحْرِ نَقْرَةً فقالَ لَهُ الخَضِرُ مَا عِلْمي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله إلاّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هاذا العُصْفُورِ مِنْ هاذا البَحْرِ ثُمَّ خَرَجا مِنَ السَّفِينَةِ فبَيْناهُما يَمْشِيانِ عَلَى السَّاحِلِ إذْ أبْصَرَ الخَضِرُ غُلاَماً يلْعَبُ مَعَ الغِلْمانِ فأخَذَ الخَضِرُ رَأسَهُ بِيَدِهِ فاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ ألَمْ أقل لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً قَالَ وهاذا أشدُّ مِنَ الأُولى قَالَ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فانْطَلَقا حَتَّى إِذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها بأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدَاراً يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ قَالَ مائِلٌ فقامَ الخَضِرُ فأقامَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أتَيْناهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونا وَلَمْ يُضَيِّفُونا لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً قَالَ هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ إلَى قَوْلِهِ ذالِكَ تأوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً: فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدِدْنا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ الله عَلَيْنا مِنْ خَبَرِهِما: قَالَ سعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ فكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَكَانَ أمامَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصْباً وكانَ يَقْرَأ وأمّا الغُلاَمُ فَكانَ كافِراً وكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يُوضح مَا فِيهَا. والْحميدِي هُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ: أَي النَّاس أعلم؟ فيكل الْعلم إِلَى الله عز وَجل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله ابْن مُحَمَّد المسندي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي أَكثر من عشر مَوَاضِع قد مر بَيَانه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَفِي: بَاب مَا يسْتَحبّ للْعَالم كَمَا يَنْبَغِي، مستقصى، وَنَذْكُر هَهُنَا بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة على الطَّالِب سِيمَا عِنْد قلَّة الْكتب.
فَقَوله: (إِن نَوْفًا) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو وبالفاء، (والبكالي) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْكَاف، وَيُقَال أَيْضا بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الْكَاف، قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه نظر. قَوْله: (كذب عَدو الله) ، هَذَا تَغْلِيظ من ابْن عَبَّاس وَلَا سِيمَا كَانَ فِي حَالَة الْغَضَب وإلاَّ فَهُوَ مُؤمن مُسلم حسن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام. قَوْله: (إِذْ لم يرد) ، كلمة: إِذْ، للتَّعْلِيل. انْتهى. قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الزنبيل. قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم أَي: فَهُوَ هُنَاكَ. قَوْله: (حَتَّى إِذا أَتَيَا الصَّخْرَة الَّتِي دون نهر الزَّيْت) ، قَالَه معقل بن زِيَاد، وَقيل: الصَّخْرَة هِيَ الَّتِي عِنْد مجمع الْبَحْرين، وَكَانَ أتياها لَيْلًا فَنَامَا. قَوْله: (واضطرب الْحُوت) ، أَي: تحرّك فِي المكتل، وَكَانَ الْحُوت مالحاً وَخرج من المكتل فَسقط فِي الْبَحْر، وَيُقَال: كَانَ فِي أصل الصَّخْرَة عين يُقَال لَهَا عين الْحَيَاة لَا يُصِيب من مَائِهَا شَيْء إلاَّ حييّ، فَأصَاب الْحُوت من مَاء تِلْكَ الْعين فَتحَرك وانسلَّ من المكتل فَدخل الْبَحْر، وروى ابْن مرْدَوَيْه هَذَا، وَفِي لفظ: فقطرت من ذَلِك المَاء على الْحُوت قَطْرَة فَعَاشَ وَخرج من المكتل فَسقط فِي الْبَحْر. قَوْله: (سربا) أَي: مسلكاً ومذهباً يسرب وَيذْهب فِيهِ، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: روى أبي بن كَعْب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: انجاب المَاء على مَسْلَك الْحُوت فَصَارَ كوَّة لم يلتئم، فَدخل مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الكوة على إِثْر الْحُوت فَإِذا هُوَ بالخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام(19/41)
قَوْله: (على جرية المَاء) أَي: جَرَيَانه (فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق) ، أَي: مثل عقد الْبناء، وَعَن الْكَلْبِيّ تَوَضَّأ يُوشَع من عين الْحَيَاة فانتضح على الْحُوت المالح فِي المكتل من ذَلِك المَاء فَعَاشَ، ثمَّ وثب فِي المَاء فَجعل يضْرب بِذَنبِهِ فَلَا يضْرب بِذَنبِهِ شَيْئا فِي المَاء وَهُوَ ذَاهِب إلاَّ يبس. قَوْله: (غداءنا) ، أَي: طعامنا وزادنا. قَوْله: (نصبا) أَي: شدَّة وتعباً، وَذَلِكَ أَنه ألْقى على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْجُوع بَعْدَمَا جَاوز الصَّخْرَة ليتذكر الْحُوت وَيرجع إِلَى مَوضِع، مطلبه. قَوْله: (نبغي) أَي: نطلب، انْتهى. قَوْله: (فارتدا) ، أَي: رجعا على آثارهما الَّتِي جَاءَ مِنْهَا. قَوْله: (قصصا) أَي: يقصان الْأَثر ويتبعانه. قَوْله: (مسجى) ، أَي: مغطى، قَوْله: (فَقَالَ الْخضر) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد وسكونها مَعَ فتح الْخَاء وَكسرهَا، وَلَقَد ذكرنَا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء سَبَب تَسْمِيَته بالخضر، واسْمه: بليا: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، مَقْصُورا. قَوْله: (وأنَّى بأرضك السَّلَام؟) ، أَي: من أَيْن؟ قَوْله: (رشدا) . أَي: علما ذَا رشد أرشد بِهِ فِي ديني، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (رشدا) قرىء يَعْنِي: فِي الْقُرْآن، بِفتْحَتَيْنِ وبضمة وَسُكُون. قَوْله: (إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا) (الْكَهْف: 76) أَي: لن تصبر على صنعي فيثقل عَلَيْك الصَّبْر عَن الْإِنْكَار أَو السُّؤَال. قَوْله: (فَلَا تَسْأَلنِي عَن شَيْء) ، أَي: شَيْء أعلمهُ مِمَّا تنكره. قَوْله: (ذكرا) ، أَي: حَتَّى ابتدىء بِذكرِهِ لَك وَأبين لَك شَأْنه. قَوْله: (بِغَيْر نول) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو أَي: بِغَيْر أُجْرَة. قَوْله: (لم يفجأ) ، يُقَال: فجأه الْأَمر فجاءة بِضَم الْفَاء وبالمد: إِذا أَتَاهُ بَغْتَة من غير توقع. قَوْله: (أمرا) بِكَسْر الْهمزَة أَي مُنْكرا، وَعَن القتبي: عجبا، وَالْأَمر، فِي كَلَام الْعَرَب الداهية قَوْله: {ألم أقل لَك إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} أَي: تحقق مَا قلت لَك، قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {لَا تؤاخذني بِمَا نسيت} أَي: لَا تؤاخذني بِالنِّسْيَانِ. قَوْله: {لَا ترهقني من أَمْرِي عسراً} أَي: لَا تعنفني بِمَا تركت من وصيتك وَلَا تطردني عَنْك، وَقيل: لَا تضيق عَليّ أَمْرِي مَعَك وصحبتي إياك. قَوْله: (إلاَّ مثل مَا نقص هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر) ، هَذَا التَّشْبِيه لبَيَان الْقلَّة والحقارة فَقَط، وَقيل: معنى نقص أَخذ. قَوْله: (وَهَذَا أَشد من الأولى) أَي: أوكد من الأولى حَيْثُ زَاد كلمة: لَك. قَوْله: (غُلَاما) ، اسْمه خوش بود، وَقيل: جيسور، وَاسم أَبِيه: ملاس، وَاسم أمه: رَحمَه، وَكَانَ ظريفاً وضيء الْوَجْه. قَوْله: (فاقتلعه) ، أَي: فاقتلع الخصر رَأس الْغُلَام فَقتله، وَقيل: أضجعه فذبحه بالسكين، وَعَن الضَّحَّاك: كَانَ غُلَاما يعْمل الْفساد ويتأذى مِنْهُ أَبَوَاهُ، وَعَن الْكَلْبِيّ: كَانَ يقطع الطَّرِيق وَيَأْخُذ الْمَتَاع ويلجأ إِلَى أَبَوَيْهِ فيحلفان دونه، فَأَخذه الْخضر فصرعه وَنزع رَأسه من جسده، وَقيل: رفسه بِرجلِهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ غُلَاما لم يبلغ الْحِنْث. قَوْله: (زاكية) ، أَي: ظَاهِرَة، وَقيل: مسلمة، وَعَن الْكسَائي: الزاكية والزكية لُغَتَانِ، وَعَن أبي عَمْرو: الزاكية الَّتِي لم تذنب، والزكية الَّتِي أذنبت ثمَّ تابت، قَوْله: (نكرا) ، أَي: مُنْكرا، وَعَن قَتَادَة وَابْن كيسَان: النكر أَشد وَأعظم من الْأَمر. قَوْله: (فَلَا تُصَاحِبنِي) ، يَعْنِي: فارقني. قَوْله: (عذرا) ، يَعْنِي: فِي فراقي. قَوْله: (أهل قَرْيَة) هِيَ أنطاكية، وَعَن ابْن سِيرِين: الأيلة، وَهِي أبعد أَرض من الْخَيْر، قَوْله: (يُضَيِّفُوهُمَا) ، أَي: ينزلوهما منزلَة الأضياف. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي الْقرْيَة، قَوْله: (جداراً) ، قَالَ وهب: كَانَ طوله فِي السَّمَاء مائَة ذِرَاع. قَوْله: (يُرِيد أَن ينْقض) ، هَذَا مجَاز لِأَن الْجِدَار لَا إِرَادَة لَهُ، وَمَعْنَاهُ قَرُبَ ودنا من ذَلِك. قَوْله: (أَن ينْقض) ، أَي: أَن يسْقط وينهدم، وَمِنْه انقضاض الْكَوَاكِب وزوالها عَن أماكنها، وَقيل: يَنْقَطِع وينصدع. قَوْله: (فأقامه) أَي: سواهُ. قَوْله: (أجرا) ، أَي: أُجْرَة وَجعلا، وَقيل: قرىء: وضيافة، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت فِي كتاب الْعلم، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {فلَما بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً مَذْهَباً يَسْرُبُ يَسْلُكُ. ومِنْهُ وسارِبٌ بالنّهارِ} (الْكَهْف: 16)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَمَّا بلغا مجمع بَينهمَا} وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: فَلَمَّا بلغ مجمع بَينهمَا، وَالْأول هُوَ الْمُوَافق للتلاوة. قَوْله: (فَلَمَّا بلغا) ، يَعْنِي: مُوسَى ويوشع عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (بَينهمَا) (الرَّحْمَن: 22) ، أَي: بَين الْبَحْرين. قَوْله: (نسيا حوتهما) قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَكَانَ الْحُوت مَعَ يُوشَع وَهُوَ الَّذِي نَسيَه فصرف النسْيَان إِلَيْهِمَا، وَالْمرَاد أَحدهمَا، كَمَا قَالَ: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} (الرَّعْد: 01) وَإِنَّمَا يخرج من الْملح. قَوْله: (سربأ) . قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب السابف قَوْله: (وَمِنْه) أَي وَمن (سريا) قَوْله تَعَالَى: (وسارب بِالنَّهَارِ) وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي سالك فِي سربه، أَي: مذْهبه، وَمِنْه: نسرب فلَان إِذا مضى.(19/42)
6274 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبرنا هِشامُ بنُ يوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْج أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي يَعْلَى بنُ مُسْلِمٍ وعَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أحَدُهُما عَلَى صاحِبِهِ وغَيْرُهُما قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ إنّا لَعِنْدَ بنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إذْ قَالَ سَلُوني قُلْتُ أيْ أَبَا عَباسٍ جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ بالْكُوفَةِ رَجُلٌ قاص يُقالُ لَهُ نَوْفٌ يَزْعَمُ أنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ أمَّا عَمْروٌ فَقَالَ لِي قَالَ قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ الله وأمَّا يَعْلَى فَقَالَ لي قَالَ ابنُ عبَّاس حدّثني أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوسَى رسولُ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْماً حَتَّى إذَا فاضَتِ العُيُونُ ورَقَّتِ القُلُوبُ ولَّى فأدْركَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أيْ رسولَ الله هَلْ فِي الأرْضِ أحَدٌ أعْلَمُ مِنْكَ قَالَ لاَ فَعَتَبَ الله عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَى الله قِيلَ بَلَى قَالَ أيْ رَبِّ فأيْنَ قَالَ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ قَالَ أيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي أعلم عَلَماً ذالِكَ بِهِ فَقَالَ لِي عَمْروٌ قَالَ حَيْثُ يُفارِقُكَ الحُوتُ وَقَالَ لِي يَعْلَى خُذْ نُوناً مَيّتاً حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فأخَذَ حُوتاً فَجَعَلَهُ فِي مكْتَلٍ فَقَالَ لِفَتاهُ لَا أُكَلِّفُكَ إلاَّ أنْ تُخْبِرَني حَيْثُ يُفارِقُكَ الحُوتُ قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَثِيراً فَذالِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتاهُ يُوشَعَ بنِ نُونٍ لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ فَبَيْنَما هُو فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكانٍ ثَرْيانَ إذْ تَضَرَّبَ الحُوتُ ومُوسَى نائِمٌ فَقَالَ فَتاهُ لَا أُوقِظُهُ حَتَّى إذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أنْ يُخْبِرَةُ وتَضَرَّبَ الحُوتُ حَتَّى دَخَلَ البَحْر فأمْسَكَ الله عَنْهُ جِرْيَةَ البَحْرِ حَتَّى كأنَّ أثَرَهُ فِي حَجَر قَالَ لِي عَمْروٌ هاكَذَا كأنَّ أثَرَهُ فِي حَجَرٍ وحَلَّقَ بَيْنَ إبْهامَيْهِ واللَّتَيْنِ تَلِيانِهِما لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هاذَا نَصَباً قَالَ قَدْ قَطَعَ الله عَنْكَ النَّصَبَ لَيْسَتْ هاذِهِ عَنْ سَعِيدٍ أخبرهُ فَرَجَعا فَوًّجَدَا خَضِراً قَالَ لِي عُثْمانُ بنُ أبي سُلَيْمانَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ البَحْرِ قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ مُسَجَّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وطَرَفَهُ تَحْتَ رأسِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ هَلْ بأرْضِي مِنْ سَلاَمٍ مَنْ أنْتَ قَالَ أَنا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَما شأنُكَ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْت رَشَداً قَالَ أما يَكْفِيكَ أَن التَّوْرَاةَ بَيَدَيْكَ وأنَّ الوَحْيَ يأتِيكَ يَا مُوسَى إنَّ عِلْماً لَا يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَعْلَمَهُ وإنَّ لَكَ عِلْماً لاَ يَنْبَغِي لِي أَن أعْلَمَهُ فأخذَ طائِرٌ بِمِنْقارِهِ مِنَ البَحْرِ وقالَ وَالله مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ الله إلاَّ كَما أخَذَ هاذَا الطَّائِرُ بِمِنْقارِهِ مِنَ البَحْرِ حَتَّى إذَا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعابِرَ صِغاراً تَحْمِلُ أهْلَ هاذَا السَّاحِلِ إِلَى أهْلِ هاذَا السَّاحِلِ الآخَرِ عَرَفُوهُ فقالُوا عَبْدُ الله الصَّالِحُ قَالَ قُلنا لِسَعِيدٍ خَضِرٌ قَالَ نَعَمْ لاَ نَحْمِلُهُ بأجْرٍ فَخَرَقَها وَوَتَدَ فِيها وَتِداً قَالَ مُوسَى أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً قَالَ مُجاهِدٌ مُنْكَراً قَالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً كانَتِ الأُولَى نِسْياناً والوُسْطَى شَرْطاً والثّانِيَةِ عَمْداً قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْراً لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ وَجَدَ غِلْماناً يَلْعَبُونَ فأخَذَ(19/43)
غُلاَماً كافِراً ظَرِيفاً فأضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بالسِّكِّينَ قَالَ أقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغْيِرِ نَفْسٍ لَمْ تَعْمَلْ بالحِنْثِ وكانَ ابنُ عبَّاسٍ قَرَأها زَكِيَّةً زاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلاَماً زَاكِياً فانْطَلَقا فَوَجَدَا جِدَاراً يُرِيدُ أنْ يَنقَضَّ فأقامَهُ قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هاكِذَا ورَفَعَ يَدَهُ فاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى حَسِبْتُ أنَّ سَعِيداً قَالَ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فاسْتَقامَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً قَالَ سَعِيدٌ أجْراً نأكُلُهُ وكانَ ورَاءَهُمْ وكانَ أمامَهُمْ قَرَأها ابنُ عَبَّاسٍ أمامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أنَّهُ هُدَدُ بنُ بُدَدَ والغُلاَمُ المَقْتُولُ اسْمُهُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورٌ مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً فأرَدْتُ إذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أنْ يَدَعَها لِعَيْبِها فإِذَا جاوَزُوا أصْلَحُوها فانْتَفَعُوا بِها ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَدُّوها بِقارُورَةٍ ومنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بالْقارِ كانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وكانَ كافِراً فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وكُفْراً أنْ يَحْمِلَهُما حُبُّهُ عَلَى أنْ يُتابِعاهُ عَلَى دِينِهِ فأرَدْنا أنْ يُبَدِّلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْماً لِقَوْلِهِ أقتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً وأقْرَبَ رُحْماً هُما بِهِ أرْحَمُ مِنْهُما بالأوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ وزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدٍ أنَّهُما أُبْدِلاَ جارِيَةً وأمَّا دَاوُدُ بنُ أبي عاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ إنَّها جارِيَةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي توضيحها، وَهُوَ طَرِيق آخر بِرِوَايَة آخَرين وَبِزِيَادَة ونقصان فِي الْمَتْن أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أَبُو إِسْحَاق الْفراء الرَّازِيّ الْمَعْرُوف بالصغير، عَن هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ قضينها عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن يعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وبالقصر: ابْن مُسلم بِلَفْظ إسم الْفَاعِل من الْإِسْلَام ابْن هُرْمُز إِلَى آخِره.
قَوْله: (يزِيد أَحدهمَا على صَاحبه) أَي: أحد الْمَذْكُورين وهما: يعلى بن مُسلم وَعَمْرو بن دِينَار فَقَط، وَهُوَ أحد شَيْخي ابْن جريج فِيهِ، وَهنا ابْن جريج يروي عَن يعلى بن مُسلم وَعَمْرو بن دِينَار. قَوْله: (وَغَيرهمَا قد سمعته يحدثه عَن سعيد) ، هَذَا من كَلَام ابْن جريج، أَي: غير يعلى بن مُسلم وَعَمْرو بن دِينَار قد سمعته يحدث هَذَا الحَدِيث عَن سعيد بن جُبَير، وَقد عين ابْن جريج بعض من أبهمه فِي قَوْله: (وَغَيرهمَا) وَهُوَ: عُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان بن جُبَير بن مطعم الْقرشِي الْمَكِّيّ رَضِي الله عَنهُ، فَإِن قلت: كَيفَ إِعْرَاب هَذَا؟ قلت: (غَيرهمَا) مُبْتَدأ، وَقَوله: (قد سمعته) جملَة وَقعت خَبرا، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى لفظ: غير، وَقَوله: (يحدثه) جملَة وَقعت حَالا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: يحدث، بِحَذْف الضَّمِير الْمَنْصُوب. قَوْله: (عَن سعيد) ، أَي: سعيد بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (لعِنْد ابْن عَبَّاس) ، اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير: أَنا كنت عِنْد عبد الله بن عَبَّاس حَال كَونه فِي بَيته. قَوْله: (أَي أَبَا عَبَّاس) ، أَي: يَا أَبَا عَبَّاس! وَأَبُو عَبَّاس كنية عبد الله بن عَبَّاس. قَوْله: (بِالْكُوفَةِ رجل قاص) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: إِن بِالْكُوفَةِ رجلا قَاصا، والقاص بتَشْديد الصَّاد الَّذِي يقص النَّاس الْأَخْبَار من المواعظ وَغَيرهَا. قَوْله: (أما عَمْرو فَقَالَ لي: كذب عَدو الله) أَرَادَ أَن ابْن جريج قَالَ: أما عَمْرو بن دِينَار فَإِنَّهُ قَالَ لي فِي رِوَايَته، قَالَ ابْن عَبَّاس: كذب عَدو الله، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن هَذِه الْكَلِمَة لم تقع فِي رِوَايَة يعلى ابْن مُسلم، وَلِهَذَا قَالَ: وَأما يعلى، أَي ابْن مُسلم الرَّاوِي، فَإِنَّهُ قَالَ لي: قَالَ ابْن عَبَّاس إِلَى آخِره. قَوْله: (ذكر النَّاس) ، بتَشْديد الْكَاف من التَّذْكِير. قَوْله: (ولى) ، أَي: رَجَعَ إِلَى حَاله. قَوْله: (فَقَالَ: أَي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: يَا رَسُول الله، قَالَه لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (قيل: بلَى) ، أَي: بلَى فِي الأَرْض أحد أعلم مِنْك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إِن فِي الأَرْض رجلا هُوَ أعلم مِنْك) ، وَوَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان: فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن لي عبدا بمجمع الْبَحْرين هُوَ أعلم مِنْك، وَعلم من هَاتين الروايتن أَن الْقَائِل فِي قَوْله: بلَى، هُوَ الله تَعَالَى فَأوحى الله إِلَيْهِ بذلك. قَوْله: (أَي رب، فَأَيْنَ؟) يَعْنِي: يَا رب أَيْن هُوَ؟ فِي أَي مَكَان؟ وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: يَا رب، فَكيف لي بِهِ؟ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فأدلني على هَذَا الرجل حَتَّى أتعلم مِنْهُ. قَوْله: (علما) ، بِفَتْح الْعين وَاللَّام، أَي: عَلامَة. قَوْله: (أعلم ذَلِك بِهِ) ، أَي: أعلم الْمَكَان الَّذِي أطلبه بِالْعلمِ. قَوْله: (فَقَالَ لي عَمْرو) ، الْقَائِل هُوَ ابْن جريج الرَّاوِي، أَي: قَالَ(19/44)
لي عَمْرو بن دِينَار. قَوْله: (حَيْثُ يفارقك الْحُوت) ، أَي: الْعلم على ذَلِك الْمَكَان الَّذِي يفارقك فِيهِ الْحُوت، وَوَقع ذَلِك مُفَسرًا فِي رِوَايَة سُفْيَان عَن عَمْرو، وَقَالَ: تَأْخُذ مَعَك حوتاً فتجعله فِي مكتل فَحَيْثُ مَا فقدت الْحُوت فَهُوَ ثمَّ. قَوْله: (قَالَ لي) ، يَعْنِي: الْقَائِل هُوَ ابْن جريج، أَي: قَالَ لي يعلى بن مُسلم فِي رِوَايَته: خُذ نوناً أَي حوتاً، وَلَفظ: نوناً، وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: حوتاً، وَفِي رِوَايَة مُسلم: تزَود حوتاً مالحاً فَإِنَّهُ حَيْثُ تفقد الْحُوت. قَوْله: (حَيْثُ ينْفخ فِيهِ) ، أَي: فِي النُّون (الرّوح) يَعْنِي حَيْثُ تفقده فِي الْمَكَان الَّذِي يحيى الْحُوت. قَوْله: (فَأخذ نوناً) أَي: فَأخذ مُوسَى حوتاً، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي حَاتِم أَن مُوسَى ويوشع فتاه اصطاداه. قَوْله: (فَقَالَ لفتاه) ، وَهُوَ يُوشَع بن نون. قَوْله: (مَا كلفت كثيرا) بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (لَيست عَن سعيد، الْقَائِل بِهِ هُوَ ابْن جريج، أَرَادَ بذلك أَن تَسْمِيَة الْفَتى لَيست عَن رِوَايَة سعيد ابْن جُبَير. قَوْله: (ثريان) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف على وزن فعلان من الثرى، وَهُوَ التُّرَاب الَّذِي فِيهِ نداوة. قَوْله: (تضرب) أَي: اضْطربَ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: واضطرب الْحُوت فِي المكتل فَسقط فِي الْبَحْر وَفِي رِوَايَة مُسلم فاضطرب الْحُوت فِي المَاء. قَوْله: (ومُوسَى نَائِم) جملَة حَالية. قَوْله: (حَتَّى إِذا اسْتَيْقَظَ نسي أَن يُخبرهُ) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: حَتَّى إِذا اسْتَيْقَظَ سَار فنسي. قَوْله: (فِي حجر) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم ويروى بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ أوضح، قَوْله: (قَالَ لي عَمْرو) ، الْقَائِل هُوَ ابْن جريج، أَي: قَالَ لي عَمْرو بن دِينَار. قَوْله: (واللتين تليانهما) ، يَعْنِي: السبابتين، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَحلق بَين إبهاميه فَقَط. قَوْله: (لقد لَقينَا من سفرنا هَذَا نصبا) ، وَقع هُنَا مُخْتَصرا، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: فَانْطَلقَا بَقِيَّة يومهما وليلتهما حَتَّى إِذا كَانَ من الْغَد قَالَ مُوسَى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لَقينَا من فرنا هَذَا نصبا. قَوْله: قَالَ: قد قطع الله عَنْك النصب، هَذَا من قَول ابْن جريج وَلَيْسَت هَذِه اللَّفْظَة عَن سعيد بن جُبَير. قَوْله: (أخبرهُ) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء وهاء الضَّمِير، هَكَذَا فِي رِوَايَة من الْإِخْبَار، قَالَ بَعضهم: أَي: أخبر الْفَتى مُوسَى بالقصة قلت: مَا أَظن أَن هَذَا الْمَعْنى صَحِيح، وَالَّذِي يظْهر لي أَن الْمَعْنى نفي الْإِخْبَار عَن سعيد بِهَذِهِ اللَّفْظَة لمن روى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة لأبي ذَر آخِره بِهَمْزَة ومعجمة وَرَاء وهاء، وَفِي أُخْرَى بِمد الْهمزَة وَكسر الْخَاء وَفتح الرَّاء بعْدهَا هَاء الضَّمِير أَي: إِلَى آخر الْكَلَام. وَفِي أُخْرَى بِفَتَحَات وتاء تَأْنِيث منونة مَنْصُوبَة، قَالَ لي عُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان: الْقَائِل ابْن جريج، يَقُول: قَالَ لي عُثْمَان، وَقد مرت تَرْجَمته عَن قريب. قَوْله: (على طنفسة) ، وَهِي فرش صَغِير، وَقيل: بِسَاط لَهُ خمل، وفيهَا لُغَات كسر الطَّاء وَالْفَاء بَينهمَا نون سَاكِنة، وَضم الطَّاء وَالْفَاء وَكسر الطَّاء وَفتح الْفَاء. قَوْله: (على كبد الْبَحْر) ، أَي: على وَسطه، وَهَذِه الرِّوَايَة القائلة بِأَنَّهُ كَانَ فِي وسط الْبَحْر، غَرِيبَة. قَوْله: (هَل بأرضي من سَلام) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (هَل بِأَرْض) . قَوْله: (مَا شَأْنك؟) أَي: مَا الَّذِي تطلب وَلما جِئْت؟ قَوْله: (رشدا) ، قَرَأَ أَبُو عَمْرو بِفتْحَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ كلهم بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيه، وَالْجُمْهُور على أَنَّهُمَا بِمَعْنى. قَوْله: (معابر) ، جمع معبرة وَهِي السفن الصغار. قَوْله: (خضرًا) ، أَي: هُوَ خضر. قَوْله: (قَالُوا: هَذَا لسَعِيد بن جُبَير، قَالَ: نعم، قيل: الْقَائِل بذلك يعلى بن مُسلم، وَالله أعلم. قَوْله: (ووتدها) بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: جعل فِيهَا وتداً، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: قلع لوحاً بالقدوم، وَالْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه: قلع اللَّوْح وَجعل مَكَانَهُ وتداً، وروى عبد بن حميد من رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج عَن يعلى بن مُسلم: جَاءَ بودحين خرقها، والود بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الدَّال لُغَة فِي: الوتد قلت: الوتد إِنَّمَا كَانَ للإصلاح وَدفع نُفُوذ المَاء، وَفِي رِوَايَة أبي الْعَالِيَة: فَحرق السَّفِينَة فَلم يره أحد إلاَّ مُوسَى. وَلَو رَآهُ الْقَوْم لحالوا بَينه وَبَين ذَلِك. قَوْله: (قَالَ مُجَاهِد مُنْكرا) ، وصل ابْن الْمُنْذر: هَذَا التَّعْلِيق عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن زيد بن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد. قَوْله: (نِسْيَانا) ، حَيْثُ قَالَ: لَا تؤاخذوني بِمَا نسيت، وشرطاً حَيْثُ قَالَ: إِن سَأَلتك عَن شَيْء بعْدهَا، وعمدا حَيْثُ قَالَ: لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا، قَوْله: (لقيا غُلَاما) فِي رِوَايَة سُفْيَان: فَبَيْنَمَا هما يمشيان على سَاحل الْبَحْر إِذا أبْصر الْخضر غُلَاما. قَوْله: (قَالَ يعلى) ، هُوَ يعلى بن مُسلم الرَّاوِي وَسَعِيد هُوَ ابْن جُبَير. قَوْله: (ثمَّ ذبحه بالسكين) ، فَإِن قلت: قَالَ أَولا: فَقتله، ثمَّ قَالَ: فذبحه، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: فاقتلعه بِيَدِهِ. قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا لِأَنَّهُ لَعَلَّه قطع بعضه بالسكين ثمَّ قلع الْبَاقِي(19/45)
وَالْقَتْل يشملهما. قَوْله: (لم يعْمل بِالْحِنْثِ) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وبالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الْإِثْم وَالْمَعْصِيَة. قَوْله: (قَرَأَهَا) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَكَانَ ابْن عَبَّاس يقْرؤهَا: زكية، وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو: زاكية. قَوْله: (مسلمة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين وَكسر اللَّام عِنْد الْأَكْثَرين، ولبعضهم بِفَتْح السِّين وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة. قَوْله: (فَانْطَلقَا) ، أَي: مُوسَى وخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام. قَوْله: (يَزْعمُونَ عَن غير سعيد) ، الْقَائِل بِهَذَا هُوَ ابْن جريج، وَمرَاده أَن إسم الْملك الَّذِي كَانَ يَأْخُذ السفن لم يَقع فِي رِوَايَة سعيد بن جُبَير، وَعَزاهُ ابْن خالويه فِي كتاب: (لَيْسَ) لمجاهد. قَوْله: (هدد) بِضَم الْهَاء وَحكى ابْن الْأَثِير فتحهَا وَالدَّال مَفْتُوحَة بِلَا خلاف. قَوْله: (بدد) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي بِضَم الْبَاء وَالدَّال مَفْتُوحَة، وَزعم ابْن دُرَيْد أَن هدد إسم ملك من مُلُوك حمير زوجه سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام، بلقيس. قيل: إِن ثَبت هَذَا حمل على التَّعَدُّد والاشتراك فِي الإسم لبعد مَا بَين مُدَّة سُلَيْمَان ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَجَاء فِي تَفْسِير مقَاتل: أَن اسْمه منولة بن الجلندي بن سعيد الْأَزْدِيّ، وَقيل: هُوَ الجلندي، وَكَانَ بِجَزِيرَة الأندلس. قَوْله: (والغلام الْمَقْتُول اسْمه يَزْعمُونَ جيسور) ، الْقَائِل بذلك هُوَ ابْن جريج، وجيسور، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم السِّين الْمُهْملَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة عَن أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ عَن الْكشميهني بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن السكن، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بنُون بدل الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَعند عَبدُوس بنُون بدل الرَّاء، وَعَن السُّهيْلي أَنه رَآهُ فِي نُسْخَة بِفَتْح الْمُهْملَة وَالْمُوَحَّدَة ونونين الأولى مَضْمُومَة بَينهمَا الْوَاو الساكنة، وَفِي تَفْسِير الضَّحَّاك: اسْمه حشرد، وَفِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ: اسْم الْغُلَام شَمْعُون. قَوْله: (يَأْخُذ كل سفينة غصبا) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: كل سفينة صَالِحَة، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن بشار عَن سُفْيَان، وَكَانَ ابْن مَسْعُود يقْرَأ: كل سفينة صَحِيحَة غصبا. قَوْله: (فَأَرَدْت إِذا هِيَ مرت بِهِ أَن يَدعهَا) ، أَي: أَن يَتْرُكهَا لأجل عيبها، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَأَرَدْت أَن أعيبها حَتَّى لَا يَأْخُذهَا. قَوْله: (فَإِذا جاوزوا) أَي: عدوا عَن الْملك أصلحوها، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَإِذا جاوزوه رقعوها. قَوْله: (بقارورة) ، بِالْقَافِ وَهِي: الزّجاج، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَيْفيَّة السد بالقارورة غير مَعْلُومَة، ثمَّ وَجهه بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن تكون قَارُورَة بِقدر الْموضع المخروق فتوضع فِيهِ، وَالْآخر: يسحق الزّجاج ويخلط بِشَيْء كالدقيق فيسد بِهِ، وَقَالَ بَعضهم، بعد أَن ذكر الْوَجْه الثَّانِي: فِيهِ بعد. قلت: لَا بعد فِيهِ، لِأَنَّهُ غير مُتَعَذر وَلَا متعسر، والبعد فِي الَّذِي قَالَه هُوَ أَن القارورة فاعولة من القار. قَوْله: (بالقار) ، بِالْقَافِ وَالرَّاء وَهُوَ الزفت، وَهَذَا أقرب من القَوْل الأول. قَوْله: (كَانَ أَبَوَاهُ) أَي: أَبَوا الْغُلَام. قَوْله: (أَن يرهقهما) أَي: يلحقهما. وَقَوله: (فَخَشِينَا) إِلَى قَوْله: (من دينه) من تَفْسِير ابْن جريج عَن يعلى بن مُسلم عَن سعيد بن جُبَير. انْتهى. قَوْله: (أَن يحملهما) ، يجوز أَن يكون بَدَلا من قَوْله: (أَن يرهقهما) وَيجوز أَن يكون التَّقْدِير: بِأَن يحملهما. وَقَوله: (حبه) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (خيرا مِنْهُ) أَي: من الْغُلَام الْمَقْتُول. قَوْله: (زَكَاة) نصب على التميز، وَإِنَّمَا ذكرهَا للمناسبة بَينهَا وَبَين قَوْله: (نفسا زكية) أَشَارَ إِلَى ذَلِك بقوله: {أقتلت نفسا زكية} (الْكَهْف: 47) وَلما وصف مُوسَى نفس الْغُلَام بالزكية وَذكر الله تَعَالَى بقوله: {فأردنا أَن يبدلهما ربهما خيرا مِنْهُ زَكَاة وَأقرب رحما} (الْكَهْف: 18) وَفِي التَّفْسِير قَوْله: (زَكَاة) أَي صلاحاً وإسلاماً ونماء. قَوْله: (وَأقرب رحما) قَالَ الثَّعْلَبِيّ: من الرَّحِم والقرابة، وَقيل: هُوَ من الرَّحْمَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: أوصل للرحم وَأبر بِوَالِديهِ، وَعَن الْفراء: أقرب أَن يرحماه، وَقيل: من الرَّحِم، بِكَسْر الْحَاء أَشد مُبَالغَة من الرَّحْمَة الَّتِي هِيَ رقة الْقلب والتعطف لاستلزام الْقَرَابَة، الرقة غَالِبا من غير عكس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَظن بَعضهم أَنه مُشْتَقّ من الرَّحِم الَّذِي هُوَ الرَّحْمَة، وغرضه أَنه يَعْنِي الْقَرَابَة لَا الرقة، وَعند الْبَعْض بِالْعَكْسِ. قَوْله: (هما بِهِ أرْحم مِنْهُمَا بِالْأولِ) ، أَي: الأبوان الْمَذْكُورَان بِهِ أَي: بِالَّذِي يُبدل من الْمَقْتُول أرْحم مِنْهُمَا بِالْأولِ، وَهُوَ الْمَقْتُول. قَوْله: (وَزعم غير سعيد من قَول ابْن جريج) ، أَي: زعم غير سعيد بن جُبَير أَنَّهُمَا أَي الْأَبَوَيْنِ أبدلا جَارِيَة بدل الْمَقْتُول، وَرُوِيَ عَن سعيد أَيْضا: أَنَّهَا جَارِيَة، على مَا جَاءَ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أبدلهما جَارِيَة فَولدت نَبيا من الْأَنْبِيَاء، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: ببنين، وَعَن السّديّ: ولدت جَارِيَة، فَولدت نَبيا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بعد مُوسَى، فَقَالُوا لَهُ: إبعث لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله، وَاسم هَذَا النَّبِي شَمْعُون، وَاسم أمه حنة. فَإِن قلت: روى ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث أبي بن كَعْب أَنَّهَا ولدت غُلَاما. قلت: إِسْنَاده ضَعِيف، وَفِي تَفْسِير(19/46)
ابْن الْكَلْبِيّ: ولدت جَارِيَة ولدت عدَّة أَنْبيَاء فهدى الله بهم أمماً، وَقيل: عدَّة من جَاءَ من وَلَدهَا من الْأَنْبِيَاء سَبْعُونَ نَبيا. قَوْله: (وَأما دَاوُد بن أبي عَاصِم) إِلَى آخِره من قَول ابْن جريج أَيْضا، وَدَاوُد بن أبي عَاصِم بن عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ ثِقَة من صغَار التَّابِعين، وَله أَخ يُسمى: يَعْقُوب، هُوَ أَيْضا ثِقَة من التَّابِعين.
4
- (بابٌ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا جاوَزَ قَالَ لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هاذَا نَصَباً} إِلَى قَوْلِهِ: {عَجَباً} (الْكَهْف: 26 36) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَمَّا جاوزا} أَي: لما جاوزا الْموضع الَّذِي نسيا فِيهِ الْحُوت قَالَ مُوسَى لفتاه يُوشَع بن نون آتنا غداءنا، يَعْنِي: طعامنا وزادنا. قَوْله: (نصبا) ، أَي: تعباً لِأَنَّهُمَا سارا بعد مُفَارقَة الصَّخْرَة يَوْمًا وَلَيْلَة.
صُنْعاً عَمَلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} (الْكَهْف: 401) وَفسّر صنعا بقوله: (عملا) . وَقَوله: هم، يرجع إِلَى {الأخسرين أعمالاً} (الْكَهْف: 301) فِي قَوْله: هَل ننبئكم فِي قَوْله: {هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَاخْتلفُوا فيهم} فَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: هم الرهبان والقسوس الَّذين حبسوا أنفسهم فِي الصوامع، وَعَن سعيد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ: هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَسَأَلَ عبد الله بن الكوا عليا رَضِي الله عَنهُ، عَن الأخسرين أعمالاً، قَالَ: أَنْتُم يَا أهل حروراء. قَوْله: (يحسبون) ، أَي: يظنون.
حِوَلاً تَحَوُّلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حولا} (الْكَهْف: 801) وَفسّر حولا بقوله: تحولاً، والحول مصدر مثل الصغر والعوج، وَالْمعْنَى: أَصْحَاب الْجنَّة لَا يطْلبُونَ عَن الْجنَّة تحويلاً.
إمْراً ونُكْراً دَاهِيَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لقد جِئْت شَيْئا إمراً} (الْكَهْف: 17) وَقَوله: {لقد جِئْت شَيْئا نكراً} (الْكَهْف: 47) وَقد مر تفسيرهما، وفسرهما البُخَارِيّ بقوله: (داهية) .
يَنْقَضُّ يَنْقاضُ كَما تَنْقاضُ السِّنُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فوجدا فِيهَا جداراً يُرِيد أَن ينْقض فأقامه} (الْكَهْف: 77) وَقد مر تَفْسِيره. قَوْله: (السن) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون، ويروى الشين.
لَتَخِذْتَ واتَّخَذْتَ وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا} (الْكَهْف: 77) قَالَ: وَذكر أَن معنى: (لتخذت واتخذت) وَاحِدًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ فِي رِوَايَة مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَهَا: لاتخذت، وَهِي قِرَاءَة أبي عَمْرو وَقِرَاءَة غَيره: لَا اتَّخذت.
رُحْماً منَ الرُّحْمِ وهْيَ أشَدُّ مُبالَغَةً مِنَ الرَّحْمَةِ ويُظَنُّ مِنَ الرَّحِيمِ وتُدْعَى مَكَّةُ أُمَّ رُحْمٍ أَي الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ بِها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خيرا مِنْهُ زَكَاة وَأقرب رحما} (الْكَهْف: 18) قَوْله: من الرَّحِم، بِكَسْر الْحَاء إِلَى آخِره، من كَلَام أبي عُبَيْدَة، وَلَكِن وَقع عِنْده مُعَرفا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (ويظن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أم رحم) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْحَاء.
7274 - حدَّثني قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدّثني سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو بن دينارٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ إنَّ نَوْفاً البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى بَنى إسْرَائِيلَ لَيْسَ بِمُوسَى الخَضِرِ فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ الله حدّثنا أبيُّ بنُ كَعْبٍ عنْ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قامَ مُوسَى خَطِيباً فِي بَني إسْرَائِيلَ فَقِيلَ لَهُ أَي النَّاسِ أعْلَمُ قَالَ أَنا فَعَتَبَ الله عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ وأوْحَى إلَيْهِ بَلَى عَبْدٌ مِنْ عبَادي بِمَجْمَع البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ(19/47)
قَالَ أيْ رَبِّ كَيْفَ السَّبِيلُ إلَيْهِ قَالَ تأخُذُ حُوتاً فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُما فَقَدْتَ الحُوتَ فاتَّبِعْهُ قَالَ فَخَرَجَ مُوساى ومعَهُ فَتاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ ومَعَهُما الحُوتُ حَتّى انْتَهَيا إِلَى الصَّخْرَةِ فَنَزَلا عِنْدَها قَالَ فَوَضَعَ مُوسَى رأسَهُ فَنامَ قَالَ سُفْيانُ وَفِي حَدِيثِ غيْرِ عَمْرٍ وَقَالَ وَفِي أصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقال لَها الحَياةُ لَا يُصيبُ مِنْ مائِها شَيْءٌ إلاّ حَيِيَ فأصابَ الحُوتَ مِنْ ماءِ تِلْكَ العَيْنِ قَالَ فَتَحَرَّكَ وانْسَلَّ مِنَ المِكْتَلِ فَدَخَلَ البَحْرَ كُلّما اسْتَيْقَظَ مُوسَى قَالَ لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءَنا الآيةَ قَالَ ولمْ يَجِدِ النَّصَبَ حَتّى جاوَز مَا أُمِرَ بِهِ قَالَ لَهُ فَتاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فإِنِّي نَسيتُ الحُوتَ الآيَةَ قَالَ فَرَجَعا يَقُصَّانِ فِي آثارِهِما فَوَجَدَا فِي البَحْرِ كالطّاقِ مَمَرَّ الحُوتِ فَكانَ لِفَتاهُ عَجَباً ولِلْحُوتِ سَرَباً قَالَ فَلَمّا انْتَهَيا إلَى الصَّخْرَةِ إِذْ هُما بِرَجُلٍ مُسَجَّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى قَالَ وأنِّي بأرْضِكَ السّلاَمُ فَقَالَ أَنا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَني إسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَلْ أتَّبِعُكَ عَلَى أنْ تُعَلِّمَني مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَداً قَالَ لَهُ الخَضرُ يَا مُوسَى إنّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله عَلَّمَكَهُ الله لَا أعْلَمهُ وَأَنا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله عَلّمَنِيهِ الله لَا تَعْلمُهُ قَالَ بَلْ أتّبِعُكَ قَالَ فإِن اتّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فانْطَلَقا يَمْشِيانِ عَلَى السَّاحِلِ فَمَرَّتْ بِهِما سَفِينَةٌ فعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمْ فِي سَفِينَتِهِمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ يَقُولُ بِغَيْرِ أجْرٍ فرَكِبا السّفِينَةَ قَالَ وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْف السّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ البَحْرَ فَقَالَ الخَضِرُ لمُوسَى مَا عِلْمُكَ وعِلْمِي وعِلْمُ الخَلاَئِقِ فِي عِلْمِ الله إلاَّ مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هاذَا العُصْفُورُ مِنقارَهُ قَالَ فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إذْ عَمَدَ الخَضِرُ إلَى قَدُومٍ فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَقَالَ لَهُ مُوسى قَوْمٌ حَمَلُونا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سفينَتِهِمْ فَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ الآيةَ فانْطَلَقا إِذا هُما بِغُلاَمٍ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمانِ فأخَذَ الخَضِرُ بِرَأسِهِ فَقَطَعَهُ قَالَ لَهُ مُوسى أقَتَلْتَ نَفْساً زكِيَّةَ بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً إِلَى قَوْلِهِ فأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدَا فِيها جِدَاراً يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ فَقَالَ بِيَدِهِ هاكَذَا فأقامَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسى إنّا دَخَلْنا هاذِهِ القَرْيَةَ فَلَمْ يُضَيِّفُونا وَلَمْ يُطْعِمُونا لوْ شِئتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً قَالَ هاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدِدْنا أنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتّى يُقَصَّ عَلَيْنا مِنْ أمْرِهِما قَالَ وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وكانَ أمامَهم مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصْباً وأمّا الغُلاَمُ فَكانَ كافِراً..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَوْله: (قَالَ لفتاه آتنا غداءنا) وَهُوَ طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبله، وَهُوَ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان إِلَى آخِره، وَفِيه بعض اخْتِلَاف فِي الْمَتْن بِبَعْض زِيَادَة وَبَعض نُقْصَان، وَفِيه: حَدثنِي قُتَيْبَة حَدثنِي سُفْيَان، ويروى: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا سُفْيَان، وَفِيه: عَن عَمْرو بن دِينَار، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم: حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار.
قَوْله: (يُقَال لَهَا الْحَيَاة) ، وَهِي الْمَشْهُورَة بَين النَّاس: بِمَاء الْحَيَاة وَعين الْحَيَاة. قَوْله: (فَلم يفجأ) ، ويروى: فَلم يفج، وَوَجهه أَن الْهمزَة تخفف فَتَصِير ألفا فتحذف بالجازم نَحْو: لم يخْش. قَوْله: (وَكَانَ ابْن عَبَّاس يقْرَأ) إِلَى آخِره، وَوَافَقَهُ عَلَيْهَا عُثْمَان أَيْضا.(19/48)
5 - (بابُ قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بالأخسَرِينَ أعْمَالاً} (الْكَهْف: 301)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً} ، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب.
8274 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَن عَمْروٍ عنْ مُصْعَبٍ قَالَ سألْتُ أبي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أعْمالاً} هُمُ الحَرُورِيّةُ قَالَ لَا هُمُ اليَهُودُ والنّصارَى أمّا اليَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمّا النّصارَى كَفَرُوا بالجَنّةِ وقالُوا لَا طَعامَ فِيها وَلَا شَرَابَ والحَرُورِيّةُ الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وكانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهمِ الفَاسِقِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن بشار الملقب ببندار، وَمُحَمّد بن جَعْفَر الملقب بغندر، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: ابْن عبد الله الْمرَادِي الْأَعْمَى الْكُوفِي، وَمصْعَب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين: ابْن سعد بن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة المبشرة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (عَن مُصعب قَالَ: سَأَلت أبي) ، هُوَ سعد بن أبي وَقاص. قَوْله: (هم الحرورية) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الرَّاء الأولى هم طَائِفَة خوارج ينسبون إِلَى حروراء قَرْيَة بِقرب الْكُوفَة، وَكَانَ ابْتِدَاء خُرُوج الْخَوَارِج على عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، مِنْهَا، وروى الْحَاكِم على شَرطهمَا عَن مُصعب بن سعد: لما خرجت الحرورية قلت لأبي سعد: هَؤُلَاءِ الَّذين أنزل الله فيهم: {الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} (الْكَهْف: 401) قَالَ: أُولَئِكَ أهل الصوامع وَهَؤُلَاء مزاغوا فأزاغ الله قُلُوبهم. انْتهى. وَإِنَّمَا خسرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى لأَنهم تعبدوا على أصل غير صَحِيح فخسروا الْأَعْمَال والأعمار، والحرورية لما خالفوا مَا عهد الله إِلَيْهِم فِي الْقُرْآن من طَاعَة أولي الْأَمر بعد إقرارهم بِهِ كَانَ ذَلِك نقضا مِنْهُم لَهُ، وَيُقَال: الحرورية هم الخاسرون لأَنهم لَيْسُوا كفرة بل هم فسقة، قَالَ تَعَالَى: {الَّذين ينقضون عهد الله} (الْبَقَرَة: 72، والرعد: 52) إِلَى قَوْله: {هم الخاسرون} والكافرون هم الأخسرون، قَالَ تَعَالَى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم} (الْكَهْف: 501) ، هُوَ سعد ابْن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ.
6 - (بابُ قَوْلِهِ: {أُولائِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أعْمالُهُمْ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا} ... الْآيَة، أَي: أُولَئِكَ الَّذين جَحَدُوا بالدلائل وَكَفرُوا بِالْبَعْثِ وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فحبطت أَعْمَالهم لِأَنَّهَا خلت من الثَّوَاب.
9274 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ أخْبَرَنا المُغِيرَةُ بنُ عَبْد الرَّحْمنِ قَالَ حدّثني أبُو الزِّناد عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّهُ ليَأتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ الله جَناحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَؤُوا: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} (الْكَهْف: 501) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَقَالَ اقرأوا} إِلَى آخِره، لِأَنَّهَا فِي الْآيَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة، وَمُحَمّد بن عبد الله هُوَ مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله الذهلي، فنسبه إِلَى جده، والمغيرة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة، وَذكر الْمُنَافِقين عَن أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
قَوْله: (الرجل الْعَظِيم السمين) ، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة: الطَّوِيل الْعَظِيم الأكول الشروب. قَوْله: (وَقَالَ اقرأوا) الْقَائِل فِي الظَّاهِر هُوَ الصَّحَابِيّ، أَو مَرْفُوع من بَقِيَّة الحَدِيث. قَوْله: (وزنا) أَي: قدرا.
وعنْ يَحْيَى بنِ بُكَيْرٍ عنِ المُغِيرَةِ بنِ عَبْد الرَّحْمانِ عنْ أبي الزِّنادِ مِثْلَهُ
وَعَن يحيى مَعْطُوف على سعيد بن أبي مَرْيَم، وَعَن يحيى بن بكير، وَبِهَذَا جزم أَبُو مَسْعُود، وَقَالَ الْمُزنِيّ: أخرجه البُخَارِيّ(19/49)
عَن مُحَمَّد بن عبد الله عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَنهُ بِهِ، وَقَالَ فِي عقبه: وَعَن يحيى بن بكير عَنهُ بِهِ، وَلم يقل: حَدثنَا يحيى بن بكير، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير نسبه إِلَى جده، وَهُوَ أَيْضا من شُيُوخ البُخَارِيّ، روى عَنهُ هُنَا بِوَاسِطَة وَكَذَا روى هُنَا عَن سعيد بن أبي مَرْيَم وَهُوَ شَيْخه بِوَاسِطَة. قلت: على قَول الْمُزنِيّ: هَذَا مُعَلّق، وَوَصله مُسلم عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصَّنْعَانِيّ عَنهُ. قَوْله: (الْعَظِيم أَي: جثة أَو جاهاً عِنْد النَّاس، وَالله تَعَالَى أعلم) .
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
91 - (سورَة كَهيعص)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة كهيعس، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَكِّيَّة، وَقَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا إِلَّا سجدتها فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَعَن الْقُرْطُبِيّ عَنهُ: نزلت بعد المهاجرة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وَهِي ثَمَان وَتسْعُونَ آيَة، وتسع مائَة وإثنان وَسِتُّونَ كلمة، وَثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف وحرفان.
وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهَا: فَعَن ابْن عَبَّاس إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَقيل: إسم الله الْأَعْظَم، وَعَن قَتَادَة هُوَ إسم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَقيل: إسم السُّورَة، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا: هُوَ قسم أقسم الله تَعَالَى بِهِ، وَعَن الْكَلْبِيّ: هُوَ ثَنَاء أثنى الله بِهِ على نَفسه، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا: الْكَاف من كريم، وَالْهَاء من هاد، وَالْيَاء من رَحِيم، وَالْعين من عليم وعظيم، وَالصَّاد من صَادِق، رَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ الله يَقُولُهُ وهُمُ اليومَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ يَعْنِي قَوْلَهُ أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ الكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أسْمَعُ شَيْءٍ وأبْصَرُهُ.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي قَوْله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر يَوْم يأتوننا لَكِن الظَّالِمُونَ الْيَوْم فِي ضلال مُبين} (مَرْيَم: 83) . قَوْله: أسمع بهم وَأبْصر لَفظه لفظ الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر، أَي: مَا اسمعهم وأبصرهم يَوْم الْقِيَامَة حِين لَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك، وَقيل: سمع بِحَدِيثِهِمْ وَأبْصر كَيفَ يسمع بهم يَوْم يأتوننا، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (الله يَقُوله) ، جملَة إسمية. قَوْله: (وهم) أَي: الْكفَّار الْيَوْم لَا يسمعُونَ وَلَا يبصرون، وَالْيَوْم نصب على الظّرْف. قَوْله: (الْكفَّار يومئذٍ أسمع شَيْء وأبصره لكِنهمْ الْيَوْم) ، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا فِي ضلال مُبين لَا يسمعُونَ وَلَا يبصرون، ثمَّ تَعْلِيق ابْن عَبَّاس هَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله:
لأرْجُمَنَّكَ لأشْتَمِنَّكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمتك واهجرني مَلِيًّا} (مَرْيَم: 64) وَفسّر قَوْله: (لأرجمنك) بقوله: (لأشتمنك) وَكَذَا فسره مقَاتل وَالضَّحَّاك والكلبي، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ لأضربنك، وَقيل: لأظهرن أَمرك. قَوْله: (مَلِيًّا) أَي: دهراً، قَالَه سعيد بن جُبَير، وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: حينا، وَعَن قَتَادَة وَالْحسن وَعَطَاء: (سالما) .
ورِئْياً مَنْظَراً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً} (مَرْيَم: 47) وَفسّر: (ورئياً) بقوله: (منْظرًا) ، وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وقرىء بالزاي، وَهُوَ الْهَيْئَة.
وَقَالَ أبُو وائِلٍ علِمَتْ مَرْيَمُ أنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حَتَّى قالَتْ: {إنِّي أعُوذُ بالرَّحْمانِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيًّا} (مَرْيَم: 81) وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ تَؤُزُّهُمْ أزًّا تُزْعِجُهُمْ إِلَى المَعاصِي إزْعاجاً.
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله، عز وَجل: {ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزًّا} (مَرْيَم: 38) أَي: تزعجهم إِلَى الْمعاصِي إزعاجاً وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن الضَّحَّاك: تَأْمُرهُمْ بِالْمَعَاصِي أمرا. وَعَن سعيد بن جُبَير: تغريهم إغراء، وَعَن مُجَاهِد: تشليهم أشلاءً. وَعَن الْأَخْفَش: توهجهم، وَعَن المؤرج: تحركهم فِي الأَصْل: الصَّوْت.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: لُدًّا عُوَجاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لتبشر بِهِ الْمُتَّقِينَ وتنذر بِهِ قوما لدا} (مَرْيَم: 79) وَفسّر: (لدا) بقوله: (عوجا) بِضَم الْعين جمع أَعْوَج، واللد، جمع(19/50)
أَلد، يُقَال: رجل أَلد إِذا كَانَ من عَادَته مخاصمة النَّاس، وَعَن مُجَاهِد: ألالد الظَّالِم الَّذِي لَا يَسْتَقِيم، وَعَن أبي عُبَيْدَة: ألالد الَّذِي لَا يقبل الْحق وَيَدعِي الْبَاطِل، وَتَعْلِيق مُجَاهِد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة: حَدثنَا زيد حَدثنَا ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وِرْداً عِطاشاً
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا} (مَرْيَم: 68) وَفسّر: (وردا) بقوله: (عطاشاً) ، والورد جمَاعَة يردون المَاء إسم على لفظ الْمصدر، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: عطاشاً مشَاة على أَرجُلهم قد تقطعت أَعْنَاقهم من الْعَطش.
أثاثاً مَالا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هم أحسن أثاثاً ورئياً} (مَرْيَم: 47) وَفسّر: (أثاثاً) بقوله: (مَالا) وَعَن ابْن عَبَّاس: هَيْئَة، وَعَن مقَاتل: ثيابًا، وَقيل: مَتَاعا.
إداً قَوْلاً عَظِيماً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إداً} (مَرْيَم: 98) وَفسّر: (إداً) ، بقوله: (قولا عَظِيما) ، وَهُوَ اتخاذهم لله ولدا، وَرُوِيَ هَكَذَا عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
رِكْزاً صَوْتاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو تسمع لَهُم ركزاً} (مَرْيَم: 89) وَفسّر: (ركزاً) بقوله: (صَوتا) ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَكَذَا روى عبد الرَّزَّاق عَن قَتَادَة مثله، قَالَ الطَّبَرِيّ: الركز فِي كَلَام الْعَرَب الصَّوْت الْخَفي.
غَيًّا خُسْرَاناً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا} . وَفسّر (غياً) بقوله: (خسراناً) لم يثبت هَذَا لأبي ذَر، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس مثله، وَعَن ابْن مَسْعُود: الغي وادٍ فِي جَهَنَّم بعيد القعر، أخرجه الْحَاكِم، وَعنهُ: الغي نهر فِي جَهَنَّم، وَعَن عَطاء: الغي وَاد فِي جَهَنَّم يسيل قَيْحا ودماً، وَعَن كَعْب: هُوَ وَاد فِي جَهَنَّم أبعدها قعراً وأشدها حرا فِيهِ بِئْر يُسمى الهيم، كلما خبت جَهَنَّم فتح الله تِلْكَ الْبِئْر فتسعر بهَا جَهَنَّم.
بُكيا جَماعَةُ باكٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خروا سجدا وبُكياً} (مَرْيَم: 85) وَقَالَ: (بكيا) جمع (باك) وَكَذَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة قلت: أَصله بكوى، على وزن فعول كقعود جمع قَاعد اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت يَاء ثمَّ أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء ثمَّ أبدلت ضمة الْكَاف كسرة لأجل الْيَاء، فَافْهَم. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي مؤمني أهل الْكتاب عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه.
صُلِّيا صَلِيَ يَصْلَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لنَحْنُ أعلم بالذين هم أولى بهَا صلياً} (مَرْيَم: 07) وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: صلياً. مصدر صلى يُصَلِّي من بَاب: علم يعلم، كلقى يلقى لقيا، يُقَال: صلى فلَان النَّار أَي: دَخلهَا وَاحْتَرَقَ.
نَدِيًّا والنَّادِي واحِدٌ مَجْلِساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَي الْفَرِيقَيْنِ خير مقَاما وَأحسن ندياً} (مَرْيَم: 37) وَأَن ندياً والنادي وَاحِد، ثمَّ فسر (ندياً) بقوله: (مَجْلِسا) ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الندي والنادي وَاحِد، وَالْجمع أندية، وَفسّر قَوْله تَعَالَى: ندياً، أَي: مَجْلِسا، والندي مجْلِس الْقَوْم ومجتمعهم، وَقيل: أَخذ من الندى وَهُوَ الْكَرم لِأَن الكرماء يَجْتَمعُونَ فِيهِ.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ} (مَرْيَم: 93)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر وهم فِي غَفلَة وهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: أنذر كفار مَكَّة يَوْم الْحَسْرَة يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يتحسر الْمُسِيء هلا أحسن الْعَمَل، والمحسن هلا ازْدَادَ من الْإِحْسَان، وَأكْثر الْمُفَسّرين يَوْم الْحَسْرَة حِين يذبح الْمَوْت. قَوْله: (إِذْ قضى الْأَمر) ، أَي: فرغ من الْحساب، وَقيل: ذبح الْمَوْت وهم فِي غَفلَة فِي الدُّنْيَا وهم(19/51)
لَا يُؤمنُونَ بِمَا يكون فِي الْآخِرَة، وَكلمَة: إِذْ، بدل من الْحَسْرَة، أَو مَنْصُوب بالحسرة.
0374 - حدَّثنا عُمَرِ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حدّثنا أبُو صالِحٍ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَح فَيُنَادِي مُنادٍ يَا أهْلَ الجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هاذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هاذَا المَوْتُ وكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنادِي يَا أهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هاذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هاذَا المَوْتُ وكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أهْلَ الجَنَّة خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ثُمَّ قَرَأ: {وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهاؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أهْلُ الدُّنْيا وهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (مَرْيَم: 93) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان السمان، وَأَبُو سعيد اسْمه سعد بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن المنيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد بن العوسى.
قَوْله: (يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَهَيئَةِ كَبْش أَمْلَح) ، والأملح الَّذِي فِيهِ بَيَاض كثير سَواد، قَالَه الْكسَائي، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ الْأَبْيَض الْخَالِص، وَالْحكمَة فِي كَونه على هَيْئَة كَبْش أَبيض لِأَنَّهُ جَاءَ: أَن ملك الْمَوْت أَتَى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صُورَة كَبْش أَمْلَح قد نشر من أجنحته أَرْبَعَة آلَاف جنَاح، وَالْحكمَة فِي كَون الْكَبْش أَمْلَح أَبيض وأسود، أَن الْبيَاض من جِهَة الْجنَّة والسواد من جِهَة النَّار، قَالَه عَليّ بن حَمْزَة. قَوْله: (فَيَشْرَئِبُّونَ) ، من الإشريباب، يُقَال: اشرأب إِذا مد عُنُقه لينْظر، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: إِذا رفع رَأسه. قَوْله: (فَيَقُولُونَ نعم) فَإِن قلت: من أَيْن عرفُوا ذَلِك حَتَّى يَقُولُونَ نعم؟ قلت: لأَنهم يعاينون ملك الْمَوْت فِي هَذِه الصُّورَة عِنْد قبض أَرْوَاحهم. قَوْله: (فَيذْبَح) ، أَي: بَين الْجنَّة وَالنَّار، فَيذْبَح، الحَدِيث. وَقيل: يذبح على الصِّرَاط على مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: يجاء بِالْمَوْتِ فَيُوقف على الصِّرَاط، فَيُقَال: يَا أهل الْجنَّة فيطلعون خَائِفين أَن يخرجُوا من مكانهم، ثمَّ يُقَال: يَا أهل النَّار فيطلعون مستبشرين فرحين أَن يخرجُوا من النَّار، هَذَا الْمَوْت فَيُؤْمَر بِهِ فَيذْبَح على الصِّرَاط، وَقيل: يذبح على السُّور الَّذِي بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَأخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا، فَيَقُولُونَ: نعم هَذَا الْمَوْت، ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح. فَإِن قلت: الْمَوْت عرض بِنَا فِي الْحَيَاة أَو هُوَ عدم الْحَيَاة، فَكيف يذبح؟ قلت: يَجعله الله مجسماً حَيَوَانا مثل الْكَبْش أَو الْمَقْصُود مِنْهُ التَّمْثِيل، وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُقَاتِل والكلبي، أَن الْمَوْت والحياة جسمان، فالموت فِي هَيْئَة كَبْش لَا يمر بِشَيْء وَلَا يجد رِيحه شَيْء إلاَّ مَاتَ، وَخلق الْحَيَاة على صُورَة فرس أُنْثَى بلقاء وَهِي الَّتِي كَانَ جِبْرِيل والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يركبونها خطوها مد الْبَصَر فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل لَا يمر بِشَيْء وَلَا يجدر رِيحهَا إلاَّ حيى، وَهُوَ الَّذِي أَخذ السامري من أَثَرهَا فَأَلْقَاهُ على الْعجل، فَإِن قلت: من الذَّابِح للْمَوْت؟ قلت: يذبحه يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: الَّذِي يذبحه جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي (التَّذْكِرَة) . قَوْله: (خُلُود لَا موت) ، لفظ: خُلُود إِمَّا مصدر، وَإِمَّا جمع خَالِد. قَالَ الْكرْمَانِي: وَلم يبين مَا وَرَاء ذَلِك. قلت: إِذا كَانَ مصدرا يكون تَقْدِيره: أَنْتُم خُلُود وصف بِالْمَصْدَرِ للْمُبَالَغَة، كَمَا تَقول: رجل عدل وَإِذا كَانَ جمعا يكون تَقْدِيره: أَنْتُم خَالدُونَ، وَهَذَا أَيْضا يدل على الخلود لأهل الدَّاريْنِ لَا إِلَى أمد وَغَايَة، وَمن قَالَ: إِنَّهُم يخرجُون مِنْهَا وَإِن النَّار تبقى خَالِيَة وَإِنَّهَا تفنى وتزول فقد خرج عَن مُقْتَضى الْعُقُول وَخَالف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَمَا أجمع عَلَيْهِ أهل السّنة والعدول، وَإِنَّمَا تخلى جَهَنَّم وَهِي الطَّبَقَة الْعليا الَّتِي فِيهَا عصاة أهل التَّوْحِيد، وَهِي الَّتِي ينْبت على شفيرها الجرجير، وَقد بَين ذَلِك مَوْقُوفا عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: يَأْتِي على النَّار زمَان تخفق الرِّيَاح أَبْوَابهَا لَيْسَ فِيهَا أحد من الْمُوَحِّدين، وَهَذَا، وَإِن كَانَ مَوْقُوفا فَإِن مثله لَا يُقَال بِالرَّأْيِ قَوْله: (وهم فِي غَفلَة) ، فسر بهؤلاء ليشير إِلَيْهِم بَيَانا لكَوْنهم أهل الدُّنْيَا إِذْ الْآخِرَة لَيست دَار غَفلَة.(19/52)
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلاَّ بأمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أيْدِينا وَما خَلْفَنا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ} (مَرْيَم: 46)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَا نَتَنَزَّل إلاَّ بِأَمْر رَبك} الْآيَة، قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة وَمُقَاتِل والكلبي: احْتبسَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين سَأَلَهُ قومه عَن قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف وَذي القرنين وَالروح وَلم يدر مَا يُجِيبهُمْ، ورجاه أَن يَأْتِيهِ جِبْرِيل بِجَوَاب مَا سَأَلُوهُ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، قَالَ عِكْرِمَة: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ مُجَاهِد: اثْنَي عشرَة لَيْلَة، وَقيل: خمس عشرَة، فشق على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: أَبْطَأت عَليّ حَتَّى سَاءَ ظَنِّي فاشتقت إِلَيْك! فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: أَنا كنت أشوق وَلَكِنِّي عبد مَأْمُور، وَإِذا بعثت نزلت، وَإِذا حبست احْتبست، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّل إلاَّ بِأَمْر رَبك} قَوْله: (مَا بَين أَيْدِينَا) ، قَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة: لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا الْآخِرَة، وَمَا خلفنا الدُّنْيَا، وَمَا بَين ذَلِك مَا بَين النفختين.
1374 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدّثنا عُمَرُ بنُ ذَرٍّ قَالَ سَمِعْتُ أبي عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِجِبْرِيلَ مَا يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنا فَنَزَلَتْ وَمَا نَتَنَزَّلُ إلاّ بأمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أيْدِينا وَمَا خَلْفَنا.
(انْظُر الحَدِيث 8123 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَعمر بن ذَر، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء: ابْن عبد الله بن زُرَارَة أَبُو ذَر الْهَمدَانِي الْكُوفِي، سمع أَبَاهُ. والْحَدِيث مر فِي بَدْء الْخلق فِي: بَاب ذكر الْمَلَائِكَة.
3 - ( {أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً} (مَرْيَم: 77)
وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَوْله: {أَفَرَأَيْت الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا} الْآيَة. قَوْله: (أَفَرَأَيْت) بِمَعْنى: أخبر، وَالْفَاء جَاءَت لإِفَادَة مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ التعقيب كَأَنَّهُ قَالَ: أخبرهُ أَيْضا بِقصَّة هَذَا الْكَافِر، وَاذْكُر حَدِيثه عقيب حَدِيث أُولَئِكَ، وَالْفَاء بعد همزَة الِاسْتِفْهَام عاطفة على جملَة: الَّذِي، الْعَاصِ بن وَائِل كفر بِآيَاتِنَا الْقُرْآن، وَقَالَ: لَأُوتَيَنَّ مَالا وَولدا، يَعْنِي: فِي الْجنَّة بعد الْبَعْث، قَالَ ذَلِك استهزاء، قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: ولدا، بِضَم الْوَاو وَسُكُون اللَّام وَالْبَاقُونَ بفتحهما، وهما لُغَتَانِ: كالعرب وَالْعرب.
2374 - حدَّثنا الحمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الأعْمَشَ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَمِعْتُ خَبَّاباً قَالَ جِئْتُ العاصِيَ بنَ وائِلٍ السَّهْمِيَّ أتَقاضاهُ حَقاً لي عِنْدَهُ فَقَالَ لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ لَا حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ وَإنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إنَّ لي هُناكَ مَالا وَوَلَداً فأقْضِيكَهُ فَنَزَلَتْ هاذِهِ الْآيَة: {أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي، عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم ابْن صبيح، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع، وخباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: ابْن الْأَرَت، بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
والْحَدِيث مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب الْقَيْن والحداد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن أبي الضُّحَى إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (العَاصِي بن وَائِل) ، هُوَ وَالِد عَمْرو ابْن الْعَاصِ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، كَانَ لَهُ قدر فِي الْجَاهِلِيَّة وَلم يوفق لِلْإِسْلَامِ، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ من حكام قُرَيْش، وَفِي (التَّوْضِيح) : الْعَاصِ بِلَا يَاء وَلَيْسَ من الْعِصْيَان إِنَّمَا هُوَ من عصى يعصو إِذا ضرب بِالسَّيْفِ قلت: لَا مَانع أَن يكون من الْعِصْيَان بل الظَّاهِر، أَنه مِنْهُ، وَإِنَّمَا حذفت الْيَاء للتَّخْفِيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْعَاصِ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وبكسرها أجوفياً وناقصياً. قلت: إِذا كَانَ أجوفياً يكون من العوص، وَإِذا كَانَ ناقصياً يكون من الْعِصْيَان، وَوَائِل بِالْهَمْزَةِ بعد الْألف. قَوْله: (فَقلت: لَا) ، أَي(19/53)
لَا أكفر، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَفْهُوم الْغَايَة أَنه يكفر بعد الْمَوْت. قلت: لَا يتَصَوَّر الْكفْر بعد الْمَوْت فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أكفر أبدا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إلاَّ الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) فِي أَن ذكره للتَّأْكِيد.
رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وشُعْبَةُ وحَفْصٌ وأبُو مُعاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عنِ الأعْمَشِ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، أما رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش إِلَى آخرهَا فوصلها البُخَارِيّ بعد هَذَا، وَهُوَ قَوْله: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير أخبرنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَأما رِوَايَة شُعْبَة فَكَذَلِك وَصلهَا البُخَارِيّ عقيب رِوَايَة مُحَمَّد بن كثير عَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة إِلَى آخِره، وَأما رِوَايَة حَفْص وَهُوَ ابْن غياث فوصلها فِي الْإِجَارَة فِي: بَاب هَل يُؤجر الرجل نَفسه من مُشْرك، عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش، وَأما رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بِالْمُعْجَمَةِ وَالزَّاي، فوصلها أَحْمد قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدثنَا الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَأما رِوَايَة وَكِيع فوصلها البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى عَن وَكِيع عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَعَن قريب تَأتي.
4 - (بابٌ قَوْلُهُ عز وَجل: {أطلع الْغَيْب أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} (مَرْيَم: 87)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل (أطلع الْغَيْب أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا) الْآيَة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أنظر فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، يَعْنِي: الْعَاصِ بن وَائِل، وَقَالَ مُجَاهِد: أعلم علم الْغَيْب حَتَّى يعلم أَفِي الْجنَّة هُوَ أم لَا. قَوْله: (أطلع) من اطلع الْجَبَل إِذا ارْتقى إِلَى أَعْلَاهُ. قَوْله: (عهدا) ، أَي: أم قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ الله، وَعَن قَتَادَة: عمل صَالحا قدمه، وَعَن الْكَلْبِيّ: عهد إِلَيْهِ أَنه يدْخلهُ الْجنَّة، وَفسّر البُخَارِيّ (عهدا) بقوله: (موثقًا) ، وَكَذَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن كثير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (موثقًا) ، وَهُوَ التعاقد والتعاهد، وَأَصله من الوثاق وَهُوَ حَبل يشد بِهِ الْأَسير وَالدَّابَّة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الموثق الْمِيثَاق.
3374 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْروق عنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ قَيْناً بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعاصِي بنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ سَيْفاً فَجِئْتُ أتَقاضاهُ فَقَالَ لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قُلْتُ لَا أكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يُمِيتكَ الله ثُمَّ يُحْيِيَكَ قَالَ إذَا أماتَني الله ثُمَّ بَعَثَني ولِي مالٌ وَوَلَدٌ، فأنْزَلَ الله: {فَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً اطَّلَعَ الْغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً} قَالَ مَوْثِقاً لَمْ يَقُلِ الأشْجَعِيُّ عنْ سُفْيانَ سَيْفاً وَلَا مَوْثِقاً..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن مُحَمَّد بن كثير إِلَى آخِره، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق وَترْجم لكل حَدِيث آيَة من الْآيَات الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة إِشَارَة إِلَى أَن هَذِه الْآيَات كلهَا فِي قصَّة الْعَاصِ بن وَائِل وَذكر فِي كل تَرْجَمَة مَا يطابقها من الحَدِيث.
قَوْله: (لم يقل الْأَشْجَعِيّ) ، نِسْبَة إِلَى أَشْجَع، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْجِيم وبالعين الْمُهْملَة: ابْن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس غيلَان بن مُضر بن نزار، وَهُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن أَبُو عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي سمع سُفْيَان الثَّوْريّ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة فِي أَولهَا، وروى الْأَشْجَعِيّ هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَلم يذكر فِي رِوَايَته (عَن سُفْيَان سَيْفا وَلَا موثقًا) .
5 - (بابٌ: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ونَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَدًّا} (مَرْيَم: 97)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {كلا} الْآيَة، كلمة: كلا، ردع ورد على الْعَاصِ بن وَائِل. قَوْله: (سنكتب) أَي: سنحفظ عَلَيْهِ مَا يَقُول فنجازيه بِهِ فِي الْآخِرَة. قَوْله: (ونمد لَهُ) ، أَي: نزيده عذَابا فَوق الْعَذَاب.
4374 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ خالِدٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمانَ سَمِعْتُ أَبَا(19/54)
الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ قَيْناً فِي الجاهِلِيَّةِ وكانَ لِي دَيْنٌ عَلَى العاصِي بنِ وائِلٍ قَالَ فأتاهُ يَتَقاضاهُ فَقَالَ لَا أُعْطِيك حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَالله لَا أكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ الله ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ فَذَرْنِي حَتَّى أمُوتَ ثُمَّ أُبْعَثَ فَسَوْفَ أُوتَى مَالا وَوَلَداً فأقْضِيكَ فَنَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ: {أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً} (مَرْيَم: 77) ..
هَذَا طَرِيق ثَالِث فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَوْله: (عَن سُلَيْمَان) هُوَ الْأَعْمَش. قَوْله: (قينا) أَي: حداداً. قَوْله: (ثمَّ أبْعث) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَكَذَلِكَ قَوْله: (أُوتى) ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
6 - (بابٌ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ونَرِثُهُ مَا يَقُولُ ويأتِينا فَرْدَا} (مَرْيَم: 08)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ونرثه} ، أَي: نرث الْعَاصِ بن وَائِل مَا يَقُول من المَال وَالْولد ويأتينا يَوْم الْقِيَامَة فَردا أَي: بِلَا مَال وَلَا ولد، وَقَالَ النَّسَفِيّ: مَعْنَاهُ لَا ننسى قَوْله هَذَا وَلَا نلغيه بل نثبته فِي صَحِيفَته لنضرب بِهِ وَجهه فِي الْموقف ونعيره بِهِ ويأتينا على فقره ومسكنته فَردا من المَال وَالْولد.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الجِبالُ هَدًّا هدْماً
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي قَوْله عز وَجل: {وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدًّا} (مَرْيَم: 09) هدماً يَعْنِي: فسر الهد بالهدم، وروى هَذَا التَّعْلِيق الْحَنْظَلِي عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مقَاتل: هداً كسراً، وَعَن أبي عُبَيْدَة: سقوطاً.
5374 - حدَّثنا يَحْيَى حدّثنا وكِيعٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ رَجُلاً قَيْناً وكانَ لِي عَلَى العَاصي بنِ وائلِ دَيْنٌ فأتَيْتُهُ أتَقاضاهُ فَقَالَ لِي لَا أقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قَالَ قُلْتِ لَنْ أكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ وإنِّي لِمَبْعُوثٌ منْ بَعْدِ المَوْتِ فَسَوْفَ أقْضِيكَ إِذا رَجَعْتُ إِلَى مالٍ وَوَلَدٍ قَالَ فَنَزَلَتْ أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لأُتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً أطْلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مدًّا ونَرِثُهُ مَا يَقُولُ ويأتِينا فَرْداً..
هَذَا طَرِيق رَابِع فِي الحَدِيث الْمَذْكُور ومطابقته للتَّرْجَمَة. أخرجه عَن يحيى هُوَ ابْن مُوسَى بن عبد ربه أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. وَهُوَ من أَفْرَاده.
02 - (بابٌ سورَةُ طهَ)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، أَي: هَذَا بَاب فِي تَفْسِير بعض سُورَة طه، قَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا، وَكَذَا ذكره ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم، فِيمَا ذكره ابْن مرْدَوَيْه وَفِي (مقامات التَّنْزِيل) مَكِّيَّة كلهَا لم يعرف فِيهَا اخْتِلَاف إلاّ مَا ذكر عَن الْكَلْبِيّ فِي رِوَايَة أبي بكر أَنه قَالَ: {وَمن آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار لَعَلَّك ترْضى} (طه: 031) نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَهِي فِي أَوْقَات الصَّلَوَات. وَهِي مائَة وَخمْس وَثَلَاثُونَ آيَة. وَألف وثلاثمائة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَخَمْسَة آلَاف ومائتان وإثنان وَأَرْبَعُونَ حرفا.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
قَالَ ابْن جُبَير: بالنبطية طاه يَا رجل.
أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير: معنى طه بالنبطية: يَا رجل، والنبطية منسوبة إِلَى النبط، بِفَتْح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة: قوم ينزلون البطائح بَين العراقين وَكَثِيرًا يسْتَعْمل وَيُرَاد بِهِ الزراعون، وَالْمَذْكُور هُوَ رِوَايَة: قوم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي:(19/55)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك بالنبطية طه، أَي: يَا رجل، وَتَعْلِيق عِكْرِمَة وَصله ابْن أبي حَاتِم من رِوَايَة حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله: طه، أَي: يَا طه يَا رجل، وَتَعْلِيق الضَّحَّاك وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق قُرَّة بن خَالِد عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم فِي قَوْله: طه، قَالَ: يار رجل بالنبطية. انْتهى. وتمثل قَول ابْن جُبَير، روى عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَعَطَاء وَأبي مَالك وَمُجاهد وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن كَعْب وَالسُّديّ وعطبة وَابْن أَبْزَى، وَفِي: (تَفْسِير مقَاتل) : طه يَا رجل بالسُّرْيَانيَّة، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، نزلت بلغَة على يَا رجل، وَعند ابْن مرْدَوَيْه بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: يس بالحبشية يَا إِنْسَان، وطه بالنبطية يَا رجل، وَقيل: معنى طه يَا إِنْسَان، وَقيل: هِيَ حُرُوف مقطعَة لمعان، قَالَ الوَاسِطِيّ: أَرَادَ بهَا: يَا طَاهِر يَا هادي، وَعَن أبي حَاتِم: طه استفتاح سُورَة، وَقيل هُوَ قسم أقسم الله بِهِ وَهِي من أَسمَاء الله عز وَجل، وَقيل: هُوَ من الوطي وَالْهَاء كِنَايَة عَن الأَرْض أَي: اعْتمد على الأَرْض بقدمك وَلَا تتعصب نَفسك بالاعتماد على قدم وَاحِدَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى} (طه: 2) نزلت الْآيَة فِيمَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتكلفه من السهر والتعب وَقيام اللَّيْل، وَقَالَ اللَّيْث: بلغنَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما سمع كَلَام الرب تَعَالَى استقرءه الْخَوْف حَتَّى قَامَ على أَصَابِع قَدَمَيْهِ خوفًا. فَقَالَ عز وَجل: طه، أَي: اطمئن، قَالَ الْأَزْهَرِي: لَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ: طَأْهَا، أَي: طأ الأَرْض بقدمك، وَهِي مَهْمُوزَة، وَفِي (الْمعَانِي) للفراء: هُوَ حرف هجاء، وحَدثني قيس قَالَ: حَدثنِي عَاصِم عَن زر، قَالَ: قَرَأَ رجل على ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: طَأْهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله: طه، فَقَالَ الرجل: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن أَلَيْسَ إِنَّمَا أَمر أَن يطَأ قدمه؟ قَالَ: فَقَالَ عبد الله: طه، هَكَذَا أَقْرَأَنيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد فِي (تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه) كَذَا نزل بهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِكَسْر الطَّاء وَالْهَاء، قَالَ: وَكَانَ بعض الْقُرَّاء يقطعهَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: طاه، قَالَ الزّجاج: يقْرَأ طه بِفَتْح الطَّاء وَالْهَاء، وطه بكسرهما، وطه بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الْهَاء، وطه بِفَتْح الطَّاء وَكسر الْهَاء.
قَالَ ابنُ جُبَيْرٍ والضَّحَّاكُ بالنَّبَطِيَّةِ طهَ يَا رَجُلُ: وَقَالَ مُجاهِدٌ ألْقَى صَنَعَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَأما أَن نَكُون أول من ألْقى} (طه: 56) أَي: صنع، وَقد مر هَذَا فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَكَذَلِكَ يَأْتِي لفظ: ألْقى، فِي قَوْله: {فَكَذَلِك ألْقى السامري} (طه: 78) وَفسّر هُنَاكَ أَيْضا بقوله: صنع، والمفسرون فسروا كليهمَا فِي الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي.
يُقالُ كلُّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أوْ فيهِ تَمْتَمَةٌ أوْ فأفَاةٌ فَهْيَ عُقْدَةٌ
أَشَارَ بذلك إِلَى تَفْسِير: عقدَة، فِي قَوْله تَعَالَى: {واحلل عقدَة من لساني} (طه: 72) وَفسّر الْعقْدَة بِمَا ذكره، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُرِيد مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أطلق عَن لساني الْعقْدَة الَّتِي فِيهِ حَتَّى يفهموا كَلَامي والتمتمة التَّرَدُّد بِالتَّاءِ فِي الْكَلَام، والفأفأة التَّرَدُّد بِالْفَاءِ.
أزْرِي ظَهْرِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَارُون أخي أشدد بِهِ أزري} (طه: 03 13) فسر الأزر بِالظّهْرِ، وَفِي التَّفْسِير: ألازر الْقُوَّة وَالظّهْر، يُقَال: أزردت فلَانا على الْأَمر، قويته عَلَيْهِ، وَكنت لَهُ فِيهِ ظهرا.
فَيَسْحَتَكُمْ: يُهْلِكَكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بِعَذَاب} (طه: 16)
الْآيَة. وَفسّر: (يسحتكم) بقوله: (يهلككم) ، وَفِي التَّفْسِير: أَي يستأصلكم، يُقَال: سحته الله وأسحته أَي: استأصله وأهلكه، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص عَن عَاصِم بِضَم الْيَاء وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْح لِأَن فِيهِ لغتين بِمَعْنى وَاحِد.
المُثْلَى تأنِيثُ الأمْثَلِ يَقُولُ بدِينكُمْ يُقال خُذِ المُثْلَى خُذِ الأمثَل
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} (طه: 36) وَقَالَ: (المثلى تَأْنِيث الأمثل) يَعْنِي: يذهب بدينكم. وَقد أخبر الله تَعَالَى عَن فِرْعَوْن أَنه قَالَ: إِن مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام، يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما وَفسّر قَوْله (وَيذْهب بطريقتكم المثلى) ذَهَبا بطريقتكم المثلى يَعْنِي: بدينكم، وَهَكَذَا فسره الْكسَائي أَيْضا قَوْله: يُقَال: خُذ المثلى، أَي: خُذ الطَّرِيقَة المثلى، أَي: الفضلى، وَخذ(19/56)
الأمثل، أَي: الْأَفْضَل، يُقَال: فلَان أمثل قومه أَي: أفضلهم.
ثُمَّ ائْتُوا صَفاً يُقالُ: هَلْ أتَيْتَ الصَّفَّ اليَوْمَ يعْني المُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فَأَجْمعُوا كيدكم ثمَّ ائْتُوا صفا} (طه: 46) وَأَشَارَ بقوله يُقَال إِلَى آخِره، أَن معنى صفا مصلى ومجتمعاً. وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن مقَاتل الْكَلْبِيّ: مَعْنَاهُ جمعا، حَاصِل الْمَعْنى أَن فِرْعَوْن يَقُول لِقَوْمِهِ: أَجمعُوا كيدكم أَي: مكركم وسحركم، ثمَّ ائْتُوا صفا يَعْنِي مصلى وَهُوَ مجمع النَّاس، وَحكي عَن بعض الْعَرَب الفصحاء: مَا اسْتَطَعْت أَن آتِي الصَّفّ أمس، أَي: الْمصلى.
فأوْجَسَ أضْمَرَ خَوْفاً فَذَهَبَتِ الوَاوُ منْ خِيفَةً لِكَسْرَةِ الخاءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى} (طه: 76) وَفسّر أوجس بقوله: أضمر. قَوْله: (خوفًا) أَي: لأجل الْخَوْف، وَقَالَ مقَاتل: إِنَّمَا خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن صنع الْقَوْم مثل صنعه أَن يشكوا فِيهِ فَلَا يتبعوه ويشك من تَابعه فِيهِ. قَوْله: (فَذَهَبت الْوَاو)
إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: وَمثل هَذَا لَا يَلِيق بِحَال هَذَا الْكتاب أَن يذكر فِيهِ. قلت: إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَام لِأَنَّهُ مُخَالف لما قَالَه أهل الصّرْف على مَا لَا يخفى.
فِي جُذُوعِ أيْ عَلَى جُذُوعِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن كلمة: فِي، بِمَعْنى: على، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم سلّم يَسْتَمِعُون فِيهِ} (الطّور: 83) أَي: عَلَيْهِ.
خطْبُكَ بالُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري} (طه: 59) وَفَسرهُ بقوله: (بالك) . وَفِي التَّفْسِير، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للسامري: فَمَا خَطبك؟ أَي: فَمَا أَمرك وشأنك الَّذِي دعَاك وحملك على مَا صنعت؟
مِساسَ مَصْدَرُ ماسَّهُ مِساساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس} (طه: 79) الْآيَة وَلم يذكر مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: مساس، مصدر ماسه يماسه مماسة ومساساً، وَالْمعْنَى: أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للسامري: إذهب من بَيْننَا فَإِن لَك فِي الْحَيَاة، أَي: مَا دمت حَيا أَن تَقول: لَا مساس. أَي: لَا أمس وَلَا أمس، فعاقبه الله فِي الدُّنْيَا بعقوبة لَا شَيْء أَشد وأوحش مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ منع من مُخَالطَة النَّاس منعا كلياً حرم عَلَيْهِم ملاقاته ومكالمته.
لَنَنْسِفَنَّهُ لَنَذْرِيَنَّهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لنحرقنه ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفاً} (طه: 79) وَفسّر: (لننسفنه) بقوله: (لنذرينه) من التذرية، وَفِي التَّفْسِير: أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَخذ الْعجل فذبحه فَسَالَ مِنْهُ الدَّم لِأَنَّهُ كَانَ قد صَار لَحْمًا ودماً ثمَّ أحرقه ثمَّ ذراه فِي اليم أَي: فِي الْبَحْر.
قاعاً يَعْلُوهُ الماءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فيذرها قاعاً صفصفاً} (طه: 601) وَفسّر القاع بِأَنَّهُ يعلوه المَاء، وَهُوَ كَذَلِك لِأَن القاع مَا يعلوه المَاء، والصفصف المستوي، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن قَتَادَة: القاع الصفصف الأَرْض المستوية، وَقَالَ الْفراء: القاع مَا انبسط من الأَرْض وَيكون فِيهِ السراب نصف النَّهَار، والصفصف الأملس الَّذِي لَا نَبَات فِيهِ.
والصَّفْصَفُ المُسْتَوِي منَ الأرْضِ
قد مر الْكَلَام فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير: الصفصف المستوي كَأَنَّهَا من استوائها على صفة وَاحِدَة، وَقيل: هِيَ الَّتِي لَا أثر للجبال فِيهَا.
وَقَالَ مُجاهِدٌ أوْزاراً أثقالاً
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم} (طه: 78) أَي: أثقالاً، وَهُوَ جمع وزر وَيُرَاد بِهِ الْعقُوبَة الثَّقِيلَة، سَمَّاهَا وزراً تَشْبِيها فِي ثقلهَا على المعاقب وصعوبة احتمالها بِالْحملِ الَّذِي يقْدَح الْحَامِل ويفضض ظَهره، أَو لِأَنَّهَا جَزَاء الْوزر. وَهُوَ الْإِثْم.
منْ زِينَةِ القَوْمِ الحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ(19/57)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم} (طه: 78) وَفسّر زِينَة الْقَوْم بقوله: الْحلِيّ الَّذِي استعاروا، أَي: اسْتعَار بَنو إِسْرَائِيل من الْحلِيّ الَّذِي هُوَ من آل فِرْعَوْن، يَعْنِي: من قومه، وأسنده أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ من حَدِيث ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ مُجَاهِد: من زِينَة الْقَوْم إِلَى آخِره.
فَقَذَفناها فألْقَيْناها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى السامري} (طه: 78) وَفسّر قَوْله: (فقذفناها) بقوله: (فألقيناها) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: فجمعناها ودفعناها إِلَى السامري فألقاها فِي النَّار لترجع أَنْت فترى فِيهِ رَأْيك، وَفِي بعض النّسخ: فقذفتها فألقيتها.
ألْقَى صَنَعَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَكَذَلِك ألْقى السامري} وَفسّر: (ألْقى) بقوله: (صنع) وَفِي التَّفْسِير: {فَكَذَلِك ألْقى السامري} أَي: ألْقى مَا مَعَه، مَعْنَاهُ: كَمَا ألقينا.
فَنَسِيَ مُوسى هُمْ يَقُولونَهُ أخْطَأ الرَّبَّ. لَا يَرْجَعُ إلَيْهِمْ قَوْلاً العِجْلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَذَا إل هكم إل هـ مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ ألاَّ يرجع إِلَيْهِم قولا} (طه: 98) قَوْله: (هم يَقُولُونَهُ) ، أَي: السامري وَمن تبعه يَقُولُونَ: فنسي مُوسَى ربه، أَي: أَخطَأ حَيْثُ لم يُخْبِركُمْ أَن هَذَا إلهه، وَقيل: قَالُوا: فنسي مُوسَى الطَّرِيق إِلَى ربه، وَقيل: نسي مُوسَى إل هه عنْدكُمْ وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر. قَوْله: (لَا يرجع إِلَيْهِم قولا) ، يَعْنِي: لَا يكلمهم الْعجل وَلَا يُجِيبهُمْ.
هَمْساً حِسُّ الأقْدَامِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وخشعت الْأَصْوَات للرحمن فَلَا تسمع إلاَّ همساً} (طه: 801) وَفَسرهُ بقوله: (حس الْأَقْدَام) ، وَكَذَا فسره الثَّعْلَبِيّ، أَي: وَطْء الْأَقْدَام ونقلها إِلَى الْمَحْشَر، وَكَذَا فسر قَتَادَة وَعِكْرِمَة، وَأَصله: الصَّوْت الْخَفي، يُقَال: هَمس فلَان لحديثه إِذا أسره وأخفاه.
حَشَرْتَني أعْماى عنْ حُجَّتي. وقَدْ كُنْتُ بَصيراً فِي الدُّنْيا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا} (طه: 521) وَفَسرهُ بقوله: أَي: (عَن حجتي)
إِلَى آخِره، وَفِي التَّفْسِير، قَوْله: أعمى، قَالَ ابْن عَبَّاس: أعمى الْبَصَر، وَقَالَ مُجَاهِد: أعمى عَن الْحجَّة.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ أمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: أعْضَلُهُمْ
أَي قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة} (طه: 401) أَي: أفضلهم، وَفَسرهُ الطَّبَرِيّ بقوله: أوفاهم عقلا، رَوَاهُ عَن سعيد بن جُبَير.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ هَضْماً لَا يُظْلَمُ فيُهْضَمُ مِنْ حَسَناتِهِ
أَي قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضماً} (طه: 211) يظلم فيهضم أَي: فينقص من حَسَنَاته وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وأصل الهضم النَّقْص وَالْكَسْر، يُقَال: هضمت لَك من حَقك أَي حططت، وهضم الطَّعَام.
عِوَجاً: وادِياً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا ترى فِيهَا عوجا} (طه: 701) وَفَسرهُ بقوله: (وَاديا) ، وَعَن ابْن عَبَّاس: العوج الأودية، وَعَن مُجَاهِد: العوج الانخفاض.
ولاَ أمْتاً رَابِيَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتاً} وَفسّر الأمت بالرابية، وَعَن ابْن عَبَّاس: الأمت الروابي، وَعَن مُجَاهِد: الِارْتفَاع، وَعَن ابْن زيد: الأمت التَّفَاوُت، وَعَن يمَان: الأمت الشقوق فِي الأَرْض.
سِيرَتَها حالَتَها الأولَى(19/58)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سنعيدها سيرتها الأولى} وَفَسرهُ بقوله: (حالتها الأولى) أَي: هيئتها الأولى، وَهِي كَمَا كَانَ عَصا، وَذَلِكَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، لما أَمر بإلقاء عَصَاهُ فألقاها فَصَارَت حَيَّة تسْعَى قَالَ الله تَعَالَى: {خُذْهَا وَلَا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} (طه: 12) .
النُّهَى التُّقَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} (طه: 45) وَفسّر: (النهى) بقوله: (التقى) . وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ ذَوُو التقى، وَعَن الضَّحَّاك: هم الَّذين ينتهون عَمَّا حرم الله عَلَيْهِم، وَعَن قَتَادَة: هم ذَوُو الْوَرع، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: ذَوُو الْعُقُول وَاحِدهَا نهيا، سميت بذلك لِأَنَّهَا تنهي صَاحبهَا عَن القبائح والفضائح وارتكاب الْمَحْظُورَات والمحرمات.
ضَنْكاً الشَّقاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكاً} وَفسّر: الضنك بالشقاء، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الثَّعْلَبِيّ، ضنكاً ضيقا، يُقَال: منزل ضنك وعيش ضنك يَسْتَوِي فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْوَاحد والاثنان وَالْجمع، وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الضنك عَذَاب الْقَبْر، وَعَن الْحسن: الزقوم والغسلين والضريع، وَعَن عِكْرِمَة: الْحَرَام، وَعَن الضَّحَّاك: الْكسْب الْخَبيث، وَيُقَال: الضنك مُعرب وَأَصله، التنك، وَهُوَ فِي اللُّغَة الفارسية: الضّيق.
هَوَى شَقِيَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى} (طه: 18) وَفَسرهُ بقوله: (شقي) ، وَقيل: هلك وتردي فِي النَّار.
المُقَدَّسِ المُبارَكِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس طوى} (طه: 21) ، وَفَسرهُ بقوله (الْمُبَارك) .
طُوًى: إسْمُ الوادِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الْمُقَدّس طوى} وَفَسرهُ بالوادي، وَعَن الضَّحَّاك: وَاد عميق مستدير مثل المطوى فِي استدارته، وَقيل: هُوَ اللَّيْل، يُقَال: أَتَيْتُك طوى من اللَّيْل، وَقيل: طويت عَلَيْهِ الْبركَة طياً.
بِمِلْكِنا بأمْرِنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا مَا أخلفنا موعدك بملكنا} (طه: 78) وَفَسرهُ بقوله: (بأمرنا) هَذَا على كسر الْمِيم وَعَلَيْهَا أَكثر الْقُرَّاء، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فَهُوَ الْمصدر الْحَقِيقِيّ، وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاه: بقدرتنا وسلطاننا، وَسقط هَذَا لأبي ذَر.
مَكاناً سِوًى مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت مَكَانا سوى} (طه: 85) قَوْله: (منصف بَينهم) أَي: مَكَانا بَينهم تستوي فِيهِ مسافته على الْفَرِيقَيْنِ، وقرىء بِضَم السِّين وَهَذَا أَيْضا سقط لأبي ذَر.
يَبَساً يابِساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبساً} (طه: 77) وَفَسرهُ بقوله: (يَابسا) ، وَفِي التَّفْسِير: أَي يَابسا لَيْسَ فِيهِ مَاء وَلَا طين.
عَلَى قَدَرٍ عَلَى مَوْعَدٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى} (طه: 04) وَفَسرهُ بقوله: على موعد على الْقدر الَّذِي قدر لَك أَنَّك تَجِيء، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن كيسَان: على رَأس أَرْبَعِينَ سنة، وَهُوَ الْقدر الَّذِي يُوحى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاء.
لَا تَنِيا: لَا تَضْعُفَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنيا فِي ذكري إذهبا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} (طه: 24 34) وَفَسرهُ بقوله: (لَا تضعفا) وَهَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَعَن السّديّ: لَا تفتروا، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب: لَا تقصرا، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: لَا تهنا، وَأَصله من ونى يني ونياً، قَالَ الْجَوْهَرِي: الونى الضعْف والفتور والكلال والإعياء، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {واصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي} (طه: 14)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {واصطنعتك لنَفْسي} أَي: اخْتَرْتُك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة والنبوة.(19/59)
6374 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُونٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنْ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْتَقَى آدَمُ ومُوسَى فَقَالَ مُوسَى لآدَمَ أنْتَ الَّذِي أشْقَيْتَ النّاسَ وأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَالَ لَهُ آدَمُ أنْتَ الَّذِي اصْطَفاكَ الله بِرِسالَتِهِ واصْطَفاكَ لِنَفْسِهِ وأنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَها كُتِبَ عَليَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى: واليَمُّ البَحْرُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَنْت الَّذِي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنَفسِهِ) تفهم بِالتَّأَمُّلِ، والصلت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الخاركي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء: الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده.
والْحَدِيث من أَفْرَاده أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَبُو هِلَال الرَّاسِبِي عَن أبي هُرَيْرَة فَوَقفهُ، وَكَانَ كثيرا مَا يتوقى رَفعه، وَلما رَوَاهُ هدبة عَن مهْدي رَفعه مرّة ثمَّ رَجَعَ عَن رَفعه فَوَقفهُ، وَمضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب وَفَاة مُوسَى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد. وَأخرجه مُسلم بِأَلْفَاظ: مِنْهَا: فَقَالَ مُوسَى يَا آدم أَنْت أَبونَا، أخرجتنا من الْجنَّة، مِنْهَا: قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة. وَمِنْهَا: أَنْت الَّذِي أغويت النَّاس وأخرجتهم من الْجنَّة. وَمِنْهَا: هَل وجدت فِيهَا؟ يَعْنِي: فِي التَّوْرَاة وَعصى آدم ربه فغوى؟ قَالَ: نعم.
قَوْله: (التقى آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام) ، وَفِي لفظ ابْن مرْدَوَيْه: فَلَقِيَهُ مُوسَى فَقَالَ لَهُ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: احْتج آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَفِي حَدِيث عمر بن الْخطاب، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن مُوسَى قَالَ: يَا رب أرنا أَبَانَا الَّذِي أخرجنَا وَنَفسه من الْجنَّة! فَأرَاهُ آدم عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: أَنْت أَبونَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَنْت الَّذِي نفخ الله فِيك من روحه وأسجد لَك مَلَائكَته؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَمَا حملك على أَن أخرجتنا من الْجنَّة؟ فَقَالَ لَهُ آدم: من أَنْت؟ قَالَ: مُوسَى، قَالَ: نَبِي بني إِسْرَائِيل الَّذِي كلمك الله من غير رَسُول من خلقه؟ قَالَ: نعم، قَالَ أما وجدت أَن ذَلِك كَانَ فِي كتاب الله قبل أَن أخلق؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَفِيمَ تلومني فِي شَيْء سبق من الله فِيهِ الْقَضَاء؟ قيل: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك: فحج آدم مُوسَى. فَإِن قلت: التقاؤهما فِي أَيْن كَانَ؟ أَكَانَ بالأرواح فَقَط أَو بالأرواح والأجسام؟ قلت: قَالَ الْقَابِسِيّ: الْتَقت أرواحهما فِي السَّمَاء، وَقيل: يجوز أَن يكون ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ عِيَاض: يجوز أَن يحمل على ظَاهره وأنهما اجْتمعَا بأشخاصهما، وَقد ثَبت فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتمع بالأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي السَّمَوَات وَفِي بَيت الْمُقَدّس وَصلى بهم، فَلَا يبعدان الله عز وَجل، أحياهم كَمَا أحيى الشُّهَدَاء، وَيحْتَمل أَن يكون جرى ذَلِك فِي حَيَاة مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لحَدِيث عمر: أرنا أَبَانَا ... وَقد مر الْآن. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يجوز أَن يكون المُرَاد شرح حَال بِضَرْب مثل: لَو اجْتمعَا لقالا فَإِن قلت: مَا وَجه اخْتِصَاص مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذَا دون غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: لِأَنَّهُ أول من جَاءَ بالتكاليف. قَوْله: (أَنْت الَّذِي أشقيت النَّاس) ؟ من الشقاوة، وَهِي ضد السَّعَادَة، وَفِي لفظ لمُسلم: يَا آدم أَنْت أَبونَا خيبتنا أَي: أوقعتنا فِي الخيبة وَهِي الحرمان والخسران، وَقد خَابَ يخيب ويخوب مَعْنَاهُ: كنت سَبَب خيبتنا، وَفِيه جَوَاز إِطْلَاق نِسْبَة الشَّيْء عَليّ من تسبب فِيهِ. قَوْله: (من الْجنَّة) ، المُرَاد بِالْجنَّةِ الَّتِي أخرج مِنْهَا آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جنَّة الْخلد وجنة الفردوس الَّتِي هِيَ دَار الْجَزَاء فِي الْآخِرَة، وجنة الفردوس وَغَيرهَا الَّتِي هِيَ دَار الْبَقَاء، وَهِي كَانَت مَوْجُودَة قبل آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْحق. قَوْله: (اصطفاك الله) أَي: أخصك الله بذلك، وَيُقَال: جعلك خَالِصا صافياً عَن شَائِبَة مَا لَا يَلِيق بك، وَفِيه تلميح إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) قَوْله: (وَأنزل عَلَيْك التَّوْرَاة) فِيهَا تبيان كل شَيْء من الْإِخْبَار بالغيوب والقصص والحلال وَالْحرَام والمواعظ وَغير ذَلِك. قَوْله: (فَوَجَدتهَا) ويروى: فَوَجَدته، الضَّمِير بالتأنيث والتذكير يرجع إِلَى التَّوْرَاة بالتأنيث بِاعْتِبَار اللَّفْظ، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وَهُوَ الْكتاب. قَوْله: (كتب عَليّ) لَيْسَ المُرَاد أَنه ألزمهُ إِيَّاه وأوجبه عَلَيْهِ، فَلم يكن لَهُ فِي تنَاول الشَّجَرَة(19/60)
كسب وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: أَن الله أثْبته فِي أم الْكتاب قبل كَونه، وَحكم بِأَن ذَلِك كَائِن لَا محَالة لعلمه السَّابِق، فَهَل يجوز أَن يصدر عني خلاف علم الله؟ فَكيف تغفل عَن الْعلم السَّابِق وتذكر الْكسْب الَّذِي هُوَ السَّبَب وتنسى الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقدر؟ قَوْله: (فحج آدم مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام) ، هَكَذَا الرِّوَايَة بِرَفْع آدم على الفاعلية فِي جَمِيع كتب الحَدِيث بِاتِّفَاق الناقلين والرواة والشراح، أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ وَظهر عَلَيْهِ بهَا، ومُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَال فِي لومه إِلَى الْكسْب وآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَال إِلَى الْقدر، وَكِلَاهُمَا حق لَا يبطل أَحدهمَا صَاحبه وَمَتى قضي للقدر على الْكسْب أخرج إِلَى مَذْهَب الْقَدَرِيَّة، أَو للكسب على الْقدر أخرج إِلَى مَذْهَب الجبرية، وَإِنَّمَا وَقعت الْغَلَبَة لآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقاً فِيمَا قضى عَلَيْهِ إلاَّ أَن يَأْذَن الشَّرْع بلومه فَيكون الشَّرْع هُوَ اللائم. الثَّانِي: أَن الْفِعْل اجْتمع فِيهِ الْقدر وَالْكَسْب، وَالتَّوْبَة تمحو أثر الْكسْب، فَلَمَّا تيب عَلَيْهِ لم يبْق إلاَّ الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ لوم. قَوْله: (واليم الْبَحْر) ، إِنَّمَا أورد هَذَا فِي آخر الحَدِيث إِشَارَة إِلَى تَفْسِير مَا وَقع فِي كتاب الله تَعَالَى من قَوْله: {فاقذفيه فِي اليم} (طه: 93) وَفسّر بِأَن المُرَاد من اليم هُوَ الْبَحْر، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اليم نهر النّيل، قيل: وَمَوْضِع ذكر هَذَا فِي الْبَاب الْآتِي وَذكره هُنَا لَيْسَ بموجه. قلت: المُرَاد باليم فِي الْبَاب الْآتِي هُوَ بَحر القلزم وَالَّذِي ذكره هُنَا هُوَ النّيل أطلق عَلَيْهِ الْبَحْر لتبحره أَيَّام الزِّيَادَة، وَالله أعلم.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وأوْحَيْنا إِلَى مُوسَى أنْ أسْرِ بِعِبادِي فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى فأتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (طه: 77 97)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد أَوْحَينَا} وَالْقُرْآن هَكَذَا وَوَقع هُنَا: وأوحينا، بِدُونِ لفظ: لقد، وَقد وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر مثل مَا فِي الْقُرْآن. قَوْله: (أَن أسر بعبادي) أَي: أسر بهم فِي اللَّيْل من أَرض مصر. قَوْله: (يبساً) أَي: يَابسا لَيْسَ فِيهِ مَاء وَلَا طين. قَوْله: (لَا تخَاف) أَي: من فِرْعَوْن خَلفك. قَوْله: (دركاً) ، أَي: إدراكاً مِنْهُم. قَوْله: (وَلَا تخشى) أَي: غرقاً من الْبَحْر أمامك. قَوْله: (فاتبعهم) ، أَي: فلحقهم فِرْعَوْن بجُنُوده. قَوْله: (فغشيهم) ، أَي: أَصَابَهُم. قَوْله: (وَمَا هدى) أَي: وَمَا هدَاهُم إِلَى مراشدهم.
7374 - حدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا رَوْحٌ حدَّثنا شُعْبَةُ حَدثنَا أبُو بِشْرٍ عنْ سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المدِينَةَ واليَهُودُ تَصُومُ عاشُورَاءَ فَسألَهُمْ فقالُوا هاذا اليَوْمُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْنُ أوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، يُمكن أَخذهَا من مَضْمُون التَّرْجَمَة، وروح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة: جَعْفَر بن أبي وحشية. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصّيام فِي: بَاب صِيَام عَاشُورَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب عَن عبد الله بن سعيد بن جُبَير عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه: 711)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَا يخرجنكما} أَي: الشَّيْطَان، وَالْخطاب لآدَم وحواء عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَوْله: (فتشقى) ، أَي: فتتعب وَيكون عيشك من كد يَمِينك بعرق جبينك، وَعَن سعيد بن جُبَير: أهبط إِلَى آدم ثَوْر وأحمر فَكَانَ يحرث عَلَيْهِ وَيمْسَح الْعرق من جَبينه، فَهُوَ الشَّقَاء الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقه أَن يَقُول: فتشقيا} ، وَلَكِن غلب الْمُذكر رُجُوعا بِهِ إِلَى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن تَعبه أَكثر، وَقيل: لأجل رُؤُوس الْآي.
8374 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ حَدثنَا أيُّوبُ بنُ النّجَّارِ عنْ يَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ عنْ أبي سَلَمَةَ(19/61)
ابْن عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حاجَّ مُوسأ آدمَ فَقَالَ لَهُ أنْتَ الَّذِي أخْرَجْتَ الناسَ مِنَ الجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وأشْقَيْتَهُمْ قَالَ قَالَ آدَمُ يَا مُوسَى أنْتَ الذِي اصْطَفَاكَ الله بِرِسالَتِهِ وبكَلاَمِهِ أتَلُومُنِي عَلَى أمْرٍ كَتَبَهُ الله عَليَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَني أوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبَاب، ومطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تَأْخُذ من قَوْله: (وأشقيتهم) .
وَأَيوب بن النجار، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْجِيم وبالراء أَبُو إِسْمَاعِيل الْحَنَفِيّ اليمامي. قَوْله: (أَو قدره) ، شكّ من الرَّاوِي، وَعند مُسلم: (أتلومني على أَمر قدره على قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة) وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بالتقدير هُنَا الْكِتَابَة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَو فِي صحف التَّوْرَاة وألواحها، أَي: كتبه على قبل خلقي بِأَرْبَعِينَ سنة، وَقد صرح بِهَذَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بعد هَذِه وَهُوَ قَوْله: قَالَ: بكم وجدت الله كتب التَّوْرَاة قبل أَن أخلق؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ سنة، قَالَ: أتلومني على أَن عملت عملا كتبه الله عَليّ قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة؟ فَهَذِهِ الرِّوَايَة مصرحة بِبَيَان المُرَاد بالتقدير وَلَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ حَقِيقَة الْقدر. فَإِن علم الله وَمَا قدره على عباده وأراده من خلقه أزلي لَا أول لَهُ (فَإِن قلت) : مَا الْمَعْنى بالتحديد الْمَذْكُور وَجَاء فِي الحَدِيث أَن الله قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق الْخلق بِخَمْسِينَ ألف سنة؟ قلت: المعلومات كلهَا قد أحَاط بهَا الْعلم الْقَدِيم قبل وجود كل مَخْلُوق وَلكنه كتبهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ زَمَانا دون زمَان فَجَائِز أَن يكون كتب مَا يجْرِي لآدَم قبل خلقه بِأَرْبَعِينَ سنة إِشَارَة إِلَى مُدَّة لبثه طيناً، فَإِنَّهُ بَقِي كَذَلِك أَرْبَعِينَ سنة، فَكَأَنَّهُ يَقُول: كتب على مَا جرى مُنْذُ سواني طيناً قبل أَن ينْفخ فيّ الرّوح وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
12 - (سورَةُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السّلاَمُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْأَنْبِيَاء، وَقَالَ ابْن مرْدَوَيْه: عَن عبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم: أَنَّهَا نزلت بِمَكَّة، وَكَذَا قَالَ مقَاتل. وَفِي (مقامات التَّنْزِيل) : اخْتلفُوا فِي آيَة مِنْهَا وَهِي قَوْله: {أَفلا يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها} (الْأَنْبِيَاء: 44) ، قَالَ: بِالْقَتْلِ والسبي، وَعَن عَطاء: بِمَوْت الْفُقَهَاء وَخيَار أَهلهَا، وَعَن مُجَاهِد: بِمَوْت أَهلهَا، وَعَن الشّعبِيّ: بِنَقص الْأَنْفس والثمرات، وَعَن السخاوي أَنَّهَا نزلت بعد سُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقبل سُورَة الْفَتْح، وَهِي مائَة واثنتا عشرَة آيَة وَأَرْبَعَة وَثَمَانمِائَة وَتسْعُونَ حرفا، وَألف وَمِائَة وثمان وَسِتُّونَ كلمة.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
9374 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حدَّثنا غُنْدَرٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ ابنَ يَزِيدَ عنْ عَبْدِ الله قَالَ بَنِي إسْرَائِيلَ والكَهْفُ ومَرْيَمُ وطهَ والأنْبِياءُ هُنَّ مِنَ العِتاقِ الأوَّلِ وهُنَّ مِنْ تِلاَدِي.
(انْظُر الحَدِيث 8074 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث مضى فِي تَفْسِير بني إِسْرَائِيل فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(بني إِسْرَائِيل) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سُورَة بني إِسْرَائِيل. قَوْله: (والكهف) يجوز فِيهِ الرّفْع والجر، أما الرّفْع فعلى تَقْدِير أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالثَّانِي الْكَهْف، وَأما الْجَرّ فعلى الْعَطف على لفظ: بني إِسْرَائِيل، لِأَنَّهُ مجرور بِالْإِضَافَة التقديرية، وعَلى هَذَا الْكَلَام فِي الْبَاقِي. وَالْعتاق، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة: جمع عَتيق وَهُوَ مَا بلغ الْغَايَة فِي الْجَوْدَة، والتلاد بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق مَا كَانَ قَدِيما والأولية بِاعْتِبَار النُّزُول لِأَنَّهَا مكيات وَأَنَّهَا أول مَا حفظهَا من الْقُرْآن، وَوجه تَفْضِيل هَذِه السُّور لما تضمن ذكر الْقَصَص وأخباراً أَجله الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
وَقَالَ قَتادَةُ جُذَاذاً قَطَّعَهُنَّ(19/62)
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير: (جذاذاً) فِي قَوْله عز وَجل: {فجعلهم جذاذاً إلاَّ كَبِيرا} (الْأَنْبِيَاء: 85) قطعهن، رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن الْعَبَّاس بن الْوَلِيد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن قَتَادَة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: جذاذاً أَي: كسروا قطعا، جمع جذيذ كخفاف جمع خَفِيف، وَقَرَأَ الْكسَائي بِكَسْر الْجِيم وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وبالضم يَقع على الْوَاحِد والاثنين وَالْجمع والمذكر والمؤنث.
وَقَالَ الحَسَنُ فِي فَلَكٍ مِثْلٍ مِثْلِ فَلْكَةِ المِغْزَلِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي تَفْسِير: فلك، فِي قَوْله تَعَالَى: {كل فِي فلك يسبحون} (الْأَنْبِيَاء: 33) مثل فلكة المغزل، وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن الْحسن، وَعَن مُجَاهِد: كَهَيئَةِ حَدِيدَة الرَّحَى، وَعَن الضَّحَّاك: فلكها مجْراهَا وَسُرْعَة سَيرهَا، وَقيل: الْفلك موج مكفوف تجْرِي الْقَمَر وَالشَّمْس فِيهِ، وَقيل: الْفلك السَّمَاء الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الْكَوَاكِب.
يَسْبَحُونَ يَدُورُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كل فِي فلك يسبحون} وَفَسرهُ بقوله: (يدورون) وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: يسبحون يدورون حوله، وَقيل: يجرونَ، وَجعل الضَّمِير وَاو الْعُقَلَاء للوصف بفعلهم.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ نَفَشَتْ رَعَتْ لَيْلاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم} (الْأَنْبِيَاء: 87) إِن معنى نفشت رعت لَيْلًا، وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول أهل اللُّغَة: نفشت إِذا رعت لَيْلًا بِلَا رَاع، وَإِذا رعت نَهَارا بِلَا رَاع أهملت، وَعند ابْن مرْدَوَيْه: كَانَ كرماً أينع. قَوْله: لَيْلًا، لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولاهم منا يصحبون} (الْأَنْبِيَاء: 34) وَفَسرهُ بقوله: (يمْنَعُونَ) وَوَصله ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: يمْنَعُونَ، وَعَن مُجَاهِد: ولاهم منا ينْصرُونَ ويحفظون، وَعَن قَتَادَة: لَا يصحبون من الله بِخَير.
أُمَّتُكمْ أمَّةً واحِدَةً قَالَ دِينُكُمْ دِينٌ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاعبدون} وَفسّر الْأمة بِالدّينِ، وَعَن قَتَادَة، قَالَ: إِن هَذِه أمتكُم، أَي: دينكُمْ. قَوْله: قَالَ: (دينكُمْ) أَي قَالَ ابْن عَبَّاس: وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ: قَالَ، وَنصب: أمتكُم، على الْقطع.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ حَصَبُ حَطَبُ بالحَبَشِيَّةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} (الْأَنْبِيَاء: 89) وَقَالَ عِكْرِمَة: الحصب هُوَ الْحَطب بلغَة الْحَبَش، وَلَيْسَ هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعَن ابْن عَبَّاس: يَعْنِي الْأَصْنَام وقود جَهَنَّم، وَقَرَأَ بِالطَّاءِ، وَكَذَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَقيل: الحصب فِي لُغَة أهل الْيمن الْحَطب، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا أَنه قَرَأَهَا بالضاد الساقطة المنقوطة وَهُوَ مَا هيجت بِهِ النَّار.
وَقَالَ غَيْرُهُ أحَسُّوا تَوَقَّعُوهُ مِنْ أحْسَسْتُ
أَي: قَالَ غير عِكْرِمَة فِي معنى: (أحسوا) فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أحسوا بأسنا إِذا هم مِنْهَا يركضون} (الْأَنْبِيَاء: 21) قَالَ: مَعْنَاهُ توقعوه، أَي الْعَذَاب، وَفِي التَّفْسِير أَي: لما رَأَوْا عذابنا إِذا هم مِنْهَا، أَي: من الْقرْيَة يركضون أَي: يخرجُون مُسْرِعين، والركض فِي الأَصْل ضرب الدَّابَّة بِالرجلِ، وَقيل للسقي. قَالَ معمر: مَوضِع، قَالَ غير عِكْرِمَة وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى. قَوْله: (من أحسست) يَعْنِي أحسوا مُشْتَقّ من أحسست من الإحساس وَهُوَ فِي الأَصْل الْعلم بالحواس وَهِي مشاعر الْإِنْسَان كَالْعَيْنِ وَالْأُذن وَالْأنف وَاللِّسَان وَالْيَد، وَمن هَذَا قَالَ بعض الْمُفَسّرين: يَعْنِي فَلَمَّا أحسوا أَي فَلَمَّا أدركوا بحواسهم شدَّة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة لم يشكوا فِيهَا إِذا هم مِنْهَا يركضون أَي يهربون سرَاعًا.
خامِدِينَ هَامِدِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى جعلناهم حصيداً خامدين} (الْأَنْبِيَاء: 51) وَفَسرهُ بقوله: (هامدين) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، يُقَال: همدت النَّار تمهد هموداً، أَي: طفيت وَذَهَبت الْبَتَّةَ، والهمدة السكتة وهمد الثَّوْب يهمد هموداً أَي: بلَى وأهمد فِي الْمَكَان أَقَامَ، وأهمد فِي السّير أسْرع، وَهَذَا الْحَرْف من الأضداد وَأَرْض هامدة لَا نَبَات بهَا ونبات هامد يَابِس، وَفِي التَّفْسِير معنى خامدين ميتين.(19/63)
حَصِيدٌ مُسْتَأصَلٌ يَقَعُ عَلَى الوَاحِدِ والاثْنَيْنِ والجَمِيع
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى جعلناهم حصيداً} (الْأَنْبِيَاء: 51) وَفسّر الحصيد بقوله: (مستأصل) وَهُوَ من الاستئصال، وَهُوَ قلع الشَّيْء من أَصله. قَوْله: (يَقع) أَي: لفظ حصيد يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والاثنان وَالْجمع من الذُّكُور وَالْإِنَاث.
لاَ يَسْتَحْسِرُونَ لاَ يَعْيُونَ ومِنْهُ حَسِيرٌ وحَسَرْتُ بَعِيرِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون} (الْأَنْبِيَاء: 91) وَفَسرهُ بقوله: (لَا يعيون) بِفَتْح الْيَاء كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين، وَقَالَ: الصَّوَاب الضَّم من الإعياء. قلت: لَا وَجه للرَّدّ عَلَيْهِ بل الصَّوَاب الْفَتْح لِأَن معنى: لَا يعيون، بِالْفَتْح لَا يعجزون، وَقيل: لَا ينقطعون وَمِنْه الحسير وَهُوَ الْمُنْقَطع الْوَاقِف عياً وكلالاً والإعياء يكون من الْغَيْر. قَوْله: (وحسرت بَعِيري) أَي: أعييته.
عَمِيقٌ بَعِيدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {من كل فج عميق} (الْحَج: 72) وَفسّر العميق بالبعيد وَلَكِن هَذَا فِي سُورَة الْحَج، وَاعْتذر عَنهُ بَعضهم بِمَا ملخصه أَنه ذكر فِي هَذِه السُّورَة فجاجاً وَذكر الْفَج اسْتِطْرَادًا. قلت: فِيهِ مَا فِيهِ بل الظَّاهِر أَنه من غَيره.
نُكِسُوا رُدُّوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {نكسوا على رؤوسهم} (الْأَنْبِيَاء: 56) . وَفَسرهُ بقوله: ردوا، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَعَن أبي عُبَيْدَة، أَي: قلبوا وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: نكسوا متحيرين وَعَلمُوا أَن الْأَصْنَام لَا تنطق وَلَا تبطش، يُقَال: نكسته قلبته فَجعلت أَسْفَله أَعْلَاهُ، وانتكس انْقَلب، وَقيل: انتكسوا عَن كَونهم مجادلين لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
صَنْعَةَ لَبُوسٍ الدُّرُوعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعلمناه صَنْعَة لبوس لَكِن لتحصنكم من بأسكم} (الْأَنْبِيَاء: 08) وَفسّر: (صَنْعَة لبوس: بالدروع) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: اللبوس السِّلَاح كُله من درع إِلَى رمح، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة: اللبوس الدروع كَانَت صَفَائِح، وَأول من سردها وحلقها دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اللبوس عِنْد الْعَرَب السِّلَاح كُله درعاً كَانَ أَو جوشناً أَو سَيْفا أَو رمحاً، وَإِنَّمَا عَنى الله تَعَالَى بِهِ فِي هَذَا الْموضع الدرْع، وَهُوَ بِمَعْنى الملبوس كالحلوب وَالرُّكُوب.
تَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ اخْتَلَفُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتقطعوا أَمرهم بَينهم كل إِلَيْنَا رَاجِعُون} (الْأَنْبِيَاء: 39) وَفَسرهُ بقوله: اخْتلفُوا، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَزَاد: وَتَفَرَّقُوا، وَفِي التَّفْسِير: أَي اخْتلفُوا فِي الدّين وصاروا فِيهِ فرقا وأحزاباً، فقد قَالَ عز وَجل: {كل إِلَيْنَا رَاجِعُون} فيجزيهم بأعمالهم، وَيُقَال: اخْتلفُوا فصاروا يهود ونصارى ومجوس ومشركين.
الحَسِيسُ والحِسُّ والجرْسُ والهمْسُ واحِدٌ وهْوَ مِنَ الصَّوْتِ الخَفِيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} (الْأَنْبِيَاء: 201) قَوْله: (الحسيس) ، مُبْتَدأ وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وَخَبره: (وَاحِد) . قَوْله: (الْخَفي) مَرْفُوع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ الَّذِي هُوَ قَوْله: (وَهُوَ) ، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. وَفِي التَّفْسِير: لَا يسمع أهل الْجنَّة حسيس النَّار أَي صَوتهَا إِذا نزلُوا مَنَازِلهمْ من الْجنَّة. قَوْله: (والجرس) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا وَسُكُون الرَّاء وَهَذَا كُله لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
آذَنّاكَ أعْلَمْناكَ آذَنْتُكُمْ إذَا أعْلَمْتَهُ فأنْتَ وهْوَ عَلى سَواء لَمْ تَغْدِرْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا آذناك مَا منا من شَهِيد} (فصلت: 74) وَفَسرهُ بقوله: (أعلمناك) وَلَكِن هَذَا لَيْسَ فِي هَذِه السُّورَة بل هُوَ فِي سُورَة حم فصلت وَإِنَّمَا ذكره اسْتِطْرَادًا لمناسبة. قَوْله: (آذنتكم) ، فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا فَقل آذنتكم على سَوَاء} (الْأَنْبِيَاء: 901) وَقد فسره بقوله: (إِذا أعلمته)
إِلَى آخِره. قَوْله: (على سَوَاء) ، مستوين فِي الْإِعْلَام بِهِ ظَاهِرين بذلك فَلَا غدر وَلَا خداع لأحد.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: لَعَلَّكُمْ تُسْألُونَ تُفْهَمُونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تركضوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون} (الْأَنْبِيَاء: 31) قَالَ: أَي: (تفهمون) ، وَقَالَ الْحَنْظَلِي: حَدثنَا حجاج عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: وَلَفظه تفقهون، وَكَذَا هُوَ عِنْد ابْن الْمُنْذر.(19/64)
ارْتَضَى رَضِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى وهم من خَشيته مشفقون} (الْأَنْبِيَاء: 82) وَفسّر: ارتضى بقوله: (رَضِي) قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي بقول لَا إِلَه إلاَّ الله، وَقَالَ مُجَاهِد: لمن رَضِي عَنهُ.
التَّماثِيلُ الأصنامُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون} (الْأَنْبِيَاء: 25) وَفسّر التماثيل بالأصنام، وَهُوَ جمع تِمْثَال وَهُوَ إسم للشَّيْء الْمَصْنُوع شَبِيها بِخلق من خلق الله تَعَالَى، وَأَصله من مثلت الشَّيْء بالشَّيْء إِذا شبهته بِهِ.
السِّجلُّ الصَّحِيفَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للكتب} (الْأَنْبِيَاء: 401) وَفسّر السّجل بالصحيفة، أَي: الْمَكْتُوب، وَقيل: السّجل إسم مَخْصُوص كَانَ يكْتب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَمْرو بن مَالك عَن أبي الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: هُوَ ملك يطوي الصُّحُف، وَبِه قَالَ السّديّ أَيْضا، وَاللَّام فِي قَوْله: (للكتب) بِمَعْنى: على، يَعْنِي: كطي الصَّحِيفَة على مكتوبها.
2 - {كَمَا بَدَأنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وعْداً عَلَيْنا إنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} (الْأَنْبِيَاء: 401)
وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَوْله: {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعلين} قَوْله: (كَمَا بدأنا) أَي: كَمَا بدأناهم فِي بطُون أمهاتهم حُفَاة عُرَاة غرلًا كَذَلِك نعيدهم يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: كَمَا بدأناه من المَاء نعيده من التُّرَاب، وَنصب: وَعدا، على الْمصدر أَي: وعدناه وَعدا علينا. قَوْله: (فاعلين) ، يَعْنِي: الْإِعَادَة والبعث.
0474 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بن حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ المُغِيَرةِ بن النُّعْمانِ شَيْخِ مِنَ النَّخَعِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابْن عَبَّاسٍ رضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: {إنكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى الله حُفاةً عُرَاةً غُزْلاً كَمَا بَدأنا أوَّلَ خلْقٍ نُعِيدُهُ وعْداً عَلَيْنا إنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} ثُمَّ إنَّ أوَّلَ مَنْ يُكْسَي يَوْمَ القِيامَةِ إبْرَاهِيمُ إلاَّ إنَّهُ يُجاءُ بِرِجالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمالِ فأقُولُ يَا رَبِّ أصْحابي فَيُقالُ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ فأقُولُ كَما قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {شَهِيدٌ} (الْمَائِدَة: 711) فيُقالُ إنَّ هاؤُلاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فارَقْتَهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَوْله: (من النخع) ، بِفَتْح الْخَاء وَالنُّون الْمُعْجَمَة وبالعين الْمُهْملَة: وَهِي قَبيلَة كَبِيرَة من مذْحج، وَاسم النخع جسر بن عَمْرو بن عِلّة بن جلد بن أدد، وَقيل لَهُ: النخع، لِأَنَّهُ انتخع عَن قومه، أَي: بعد عَنْهُم، ونزلوا فِي الْإِسْلَام الْكُوفَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قَوْله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن الْمُغيرَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (غرلًا) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: جمع أغرل وَهُوَ الأقلف. قَوْله: (إِلَّا أَنه) أَي: لَكِن إِن الشَّأْن. قَوْله: (ذَات الشمَال) ، أَي: جِهَة النَّار. قَوْله: (مرتدين) ، لم يرد بهم الرِّدَّة عَن الْإِسْلَام بل التَّخَلُّف عَن الْحُقُوق الْوَاجِبَة وَلم يرْتَد بِحَمْد الله أحد من الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ارْتَدَّ قوم من جُفَاة الْأَعْرَاب الداخلين فِي الْإِسْلَام رَغْبَة أَو رهبة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى، وَالله أعلم.
22 - (سورَةُ الحَجِّ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْحَج، وَذكر ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم: أَنَّهُمَا قَالَا: نزلت سُورَة الْحَج بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ مقَاتل: بَعْضهَا مكي أَيْضا، وَعَن قَتَادَة: إِنَّهَا مَكِّيَّة، وَعنهُ: مَدَنِيَّة غير أَربع آيَات، وَعَن عَطاء: إلاَّ ثَلَاث آيَات مِنْهَا. قَوْله: {هَذَانِ خصمان} (الْحَج: 91) وَقَالَ هبة بن سَلامَة: هِيَ من أَعَاجِيب سور الْقُرْآن لِأَن فِيهَا. مكياً ومدنياً وسفرياً وحضرياً وحربياً وسلمياً وليلياً ونهارياً وناسخاً ومنسوخاً وَهِي خَمْسَة آلَاف وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ حرفا، وَألف ومائتان(19/65)
وَإِحْدَى وَتسْعُونَ كلمة، وثمان وَتسْعُونَ آيَة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة للْكُلّ.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ المُخْبِتينَ المُطْمَئِنِّينَ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبشر المخبتين} (الْحَج: 43) أَي: (المطمئنين) كَذَا ذكره ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وَقيل: المطمئنين بِأَمْر الله، وَقيل: المطيعين، وَقيل: المتواضعين، وَقيل: الخاشعين وَهُوَ من الإخبات والخبت بِفَتْح أَوله المطمئن من الأَرْض.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس فِي: {إذَا تَمَنَّى ألْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الْحَج: 25) إذَا حَدَّثَ ألْقَى الشَّيْطانُ فِي حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ويُحْكِم آياتِهِ.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إلاَّ إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} ... الْآيَة، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَقد تكلم الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِه الْآيَة أَشْيَاء كَثِيرَة، وَالْأَحْسَن مِنْهَا مَا قَالَه أَبُو الْحسن بن عَليّ الطَّبَرِيّ: لَيْسَ هَذَا التَّمَنِّي من الْقُرْآن وَالْوَحي فِي شَيْء وَإِنَّمَا هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا صفرت يَده من المَال وَرَأى مَا بِأَصْحَابِهِ من سوء الْحَال تمنى الدُّنْيَا بِقَلْبِه ووسوسة الشَّيْطَان، وَأحسن من هَذَا أَيْضا مَا قَالَه بَعضهم: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرتل الْقُرْآن فارتصده الشَّيْطَان فِي سكتة من السكتات ونطق بِتِلْكَ الْكَلِمَات محاكياً نغمته بِحَيْثُ سَمعه من دنا إِلَيْهِ فظنها من قَوْله وأشاعها. قلت: تِلْكَ الْكَلِمَات هِيَ مَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم والطبري وَابْن الْمُنْذر من طرق عَن شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة النَّجْم فَلَمَّا بلغ: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91) ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه.
(تِلْكَ الغرانيق العلى ... وَإِن شفاعتهن لترتجى)
فَقَالَ الْمُشْركُونَ: مَا ذكر آلِهَتنَا بِخَير قبل الْيَوْم فَسجدَ وسجدوا، فَنزلت هَذِه الْآيَة وَرُوِيَ هَذَا أَيْضا من طرق كَثِيرَة، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: ذكر الطَّبَرِيّ فِي ذَلِك رِوَايَات كَثِيرَة بَاطِلَة لَا أصل لَهَا، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ أحد من أهل الصِّحَّة وَلَا رَوَاهُ ثِقَة بِسَنَد سليم مُتَّصِل مَعَ ضعف نقلته واضطراب رواياته وَانْقِطَاع إِسْنَاده، وَكَذَا من تكلم بِهَذِهِ الْقِصَّة من التَّابِعين والمفسرين لم يسندها أحد مِنْهُم وَلَا رَفعهَا إِلَى صَاحبه، وَأكْثر الطّرق عَنْهُم فِي ذَلِك ضَعِيفَة. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الَّذِي ذكره ابْن الْعَرَبِيّ وعياض لَا يمْضِي على الْقَوَاعِد، فَإِن الطّرق إِذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذَلِك على أَن لَهَا أصلا. انْتهى.
قلت: الَّذِي ذكرَاهُ هُوَ اللَّائِق بجلالة قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قد قَامَت الْحجَّة وَاجْتمعت الْأمة على عصمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزاهته عَن مثل هَذِه الرذيلة، وحاشاه عَن أَن يجْرِي على قلبه أَو لِسَانه شَيْء من ذَلِك لَا عمدا وَلَا سَهوا. أَو يكون للشَّيْطَان عَلَيْهِ سَبِيل أَو أَن يتقول على الله عز وَجل لَا عمدا وَلَا سَهوا. وَالنَّظَر وَالْعرْف أَيْضا يحيلان ذَلِك وَلَو وَقع لارتد كثير مِمَّن أسلم، وَلم ينْقل ذَلِك وَلَا كَانَ يخفى على من كَانَ بِحَضْرَتِهِ من الْمُسلمين. قَوْله: (من رَسُول وَلَا نَبِي) الرَّسُول هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْوَحْي عيَانًا وشفاهاً، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي تكون نبوته إلهاماً أَو كلَاما، فَكل رَسُول نَبِي بِغَيْر عكس. قَوْله: (إِذا تمنى) أَي: إِذا أحب واشتهى، وَحدثت بِهِ نَفسه مِمَّا لم يُؤمر بِهِ. قَوْله: (فِي أمْنِيته) ، أَي: مُرَاده، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أَي فِي قِرَاءَته، فَأخْبر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَن سنته فِي رسله إِذا قَالُوا قولا زَاد الشَّيْطَان فِيهِ من قبل نَفسه، فَهَذَا نَص فِي أَن الشَّيْطَان زَاده فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه.
ويُقالُ أُمْنيَّتُهُ قِرَاءَتُهُ إلاّ أمانِيَّ يَقْرَؤُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ
هُوَ قَول الْفراء فَإِنَّهُ قَالَ: معنى قَوْله: (إِلَّا إِذا تمنى) ، إلاَّ إِذا تلى قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى كتاب الله أول لَيْلَة ... تمني دَاوُد الزبُور على رسل)(19/66)
قَوْله: (إِلَّا أماني) ، إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} (الْبَقَرَة: 87) أوردهُ اسْتِشْهَادًا بِأَن: تمنى، بِمَعْنى تَلا، لِأَن معنى قَوْله: إِلَّا أماني إلاَّ مَا يقرأون.
{وَقَالَ مُجاهِدٌ مَشِيدٌ بالقَصَّةِ} أَي قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وبئر معطلة وَقصر مشيد} (الْحَج: 54) إِن مَعْنَاهُ: قصر مشيد، يَعْنِي: مَعْمُول بالشيد، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ الجص، بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا. وَهُوَ الكلس. وَفِي (الْمغرب) : الجص تعريب كج، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: شاده يشيده جصصه. وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وربيع: قصر مشيد أَي طَوِيل، وَعَن الضَّحَّاك: إِن هَذِه الْبِئْر إِنَّمَا كَانَت بحضرموت فِي بَلْدَة يُقَال لَهَا حاضورا، وَذَلِكَ أَن أَرْبَعَة آلَاف نفر مِمَّن آمن بِصَالح عَلَيْهِ السَّلَام، لما نَجوا من الْعَذَاب أَتَوا حَضرمَوْت وَمَعَهُمْ صَالح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا حَضَرُوهُ مَاتَ صَالح فسميت حَضرمَوْت لِأَن صَالحا لما مَاتَ بنوا حاضورا وقعدوا على هَذِه الْبِئْر وَأمرُوا عَلَيْهِم رجلا يُقَال لَهُ جلهس بن جلاس بن سُوَيْد وَجعلُوا وزيره سخاريب ابْن سوَاده فأقاموا دهراً وتناسلوا حَتَّى نموا وكثروا ثمَّ عبدُوا الْأَصْنَام وَكَفرُوا بِاللَّه تَعَالَى، فَأرْسل الله إِلَيْهِم نَبيا يُقَال لَهُ حَنْظَلَة ابْن صَفْوَان كَانَ جمالاً فيهم فَقَتَلُوهُ فِي السُّوق فأهلكهم الله تَعَالَى وعطلت بئرهم وَخَربَتْ قصورهم.
وَقَالَ غَيْرُهُ يَسْطُونَ يَفْرُطُونَ من السَّطْوَةِ ويُقالُ يَسْطُونَ يَبْطِشُونَ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {يكادون يسطون بالذين يَتلون عَلَيْهِم} (الْحَج: 27) إِن معنى قَوْله: (يسطون: يفرطون) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة من فرط يفرط فرطا من بَاب نصر ينصر، أَي: قصر وضيع حَتَّى مَاتَ وفرط عَلَيْهِ إِذا عجل وَعدا، وفرط إِذا سبق. قَوْله: (من السطوة) أَي: اشتقاقه من السطوة، يُقَال: سَطَا ععليه وسطا بِهِ إِذا تنَاوله بالبطش والعنف والشدة، أَي: يكادون يقعون بِمُحَمد وَأَصْحَابه من شدَّة الغيظ ويبسطون إِلَيْهِم أَيْديهم بالسوء. قَوْله: (وَيُقَال) ، هُوَ قَول الْفراء فَإِنَّهُ كَانَ مشركو قُرَيْش إِذا سمعُوا الْمُسلم يَتْلُو الْقُرْآن كَادُوا يبطشون بِهِ، وَكَذَا روى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: يسطون، فَقَالَ: يبطشون.
وهُدُوا إِلَى الطّيِّبِ مِنَ القَوْل أُلْهِمُوا إِلَى القُرْآن
هَذَا فِي وصف أهل الْجنَّة، وَفسّر الطّيب من القَوْل بقوله: (ألهموا إِلَى الْقُرْآن) هَكَذَا فسره السّديّ. قَوْله: (وَعَن ابْن عَبَّاس يُرِيد لَا إل هـ إلاَّ الله وَالْحَمْد لله) وَزَاد ابْن زيد: (وَالله أكبر) . قَوْله: (ألهموا) فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: (إِلَى الْقُرْآن) وَلم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَا بُد مِنْهُ لِأَن ذكر شَيْء من الْقُرْآن من غير تَفْسِيره لَا طائل تَحْتَهُ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ بِسَبَبٍ بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ البَيْتِ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء ثمَّ ليقطع} (الْحَج: 51) وَفَسرهُ بقوله: (بِحَبل إِلَى سقف الْبَيْت) هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عبد الله بن الْوَلِيد عَن سُفْيَان عَن التَّمِيمِي عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: فليمدد بِحَبل إِلَى سَمَاء بَيته فليختنق بِهِ، وَرَوَاهُ عبد بن حميد من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن التَّمِيمِي عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: من كَانَ يظنّ أَن لن ينصر الله مُحَمَّدًا فليمدد بِسَبَب إِلَى سَمَاء بَيته فليختنق بِهِ.
تَذْهَلُ تُشْغَلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تذهل كل مُرْضِعَة} (الْحَج: 2) وَفسّر: (تذهل) بقوله: (تشتغل) قَالَ الثَّعْلَبِيّ: كَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَعَن الضَّحَّاك، تسلوا، يُقَال: ذهلت عَن كَذَا، أَي: تركته.
1474 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حَدثنَا أبُو صالِحٍ عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَا آدَمُ يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ فينادِي بِصَوْتٍ إنَّ الله يأمُرُكَ أنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثاً إِلَى النّارِ قَالَ يَا ربِّ(19/67)
وَمَا بَعْثُ النارِ قَالَ مِنْ كُلِّ ألْفٍ أرَاهُ قَالَ تَسْعَمائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الحامِلُ حَمْلَها ويَشِيبُ الوَلِيدُ: {وتَرَى النّاسَ سُكارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ولاكِنَّ عَذابَ الله شَدِيدٌ} (الْحَج: 1) فَشَقَّ ذالِكَ عَلَى النّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وِجُوهُهُمْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ يأجُوج ومَأْجُوجَ تِسِعْمَائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ ومِنْكُمْ واحِدٌ ثُمَّ أنْتُمْ فِي النّاسِ كالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأبْيَضِ أوْ كالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ وإنِّي لأرْجُو أنَ تكونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنا ثُمَّ قَالَ ثُلُثَ أهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنا ثُمَّ قَالَ شَطْرَ أهْلِ الجَنّةِ فَكَبَّرْنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة وَهِي فِي سُورَة الْحَج ظَاهِرَة. وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان. والْحَدِيث مضى فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رَبنَا) ، أَي: يَا رَبنَا. قَوْله: (فينادي) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (بعثاً) . بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مَبْعُوثًا أَي: أخرج من النَّاس الَّذين هم أهل النَّار وابعثهم إِلَيْهَا. قَوْله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة، قَوْله: (أَو كالشعرة) ، كلمة، أَو، هُنَا يحْتَمل التنويع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالشَّكّ من الرَّاوِي (فكبرنا) أَي: فعظمنا ذَلِك أَو قُلْنَا: الله أكبر، سُرُورًا بِهَذِهِ الْبشَارَة. قَوْله: (شطر أهل الْجنَّة) ، أَي: نصفهَا.
1 - (بابٌ وتَرَى النَّاسَ سُكارَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَترى النَّاس سكارى} الْآيَة وَلم تُوجد هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده.
قَالَ أبُو أُسامَةَ عنِ الأعْمَشِ: {تَرَى النّاسَ سُكارَى وَمَا هُمْ بِسُكارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وَقَالَ: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ.
أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة يروي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد وصل البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج، عَن إِسْحَاق بن نصر عَن أبي أُسَامَة إِلَى آخِره.
وَقَالَ جَرِيرٌ وعِيسَى بنُ يُونُسَ وأبُو مُعاوِيَةَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى
أَرَادَ أَن هَؤُلَاءِ رَوَوْهُ عَن الْأَعْمَش بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه لكِنهمْ خالفوه فِي لفظ: سكارى، لأَنهم رَوَوْهُ بِلَفْظ: سكرى، بِالْإِفْرَادِ دون الْجمع، أما قَول جرير بن الحميد فوصله البُخَارِيّ فِي الرقَاق فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم} عَن يُوسُف بن مُوسَى عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد إِلَى آخِره، وَأما قَول عِيسَى بن يُونُس فوصله إِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه عَنهُ كَذَلِك فِي مُسْنده بِلَفْظ الْإِفْرَاد، وَأما قَول أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم فوصله مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَلَكِن اخْتلف فِيهِ على أبي مُعَاوِيَة، فَفِي رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ الْجمع، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه عَنهُ بِلَفْظ الْإِفْرَاد، فَافْهَم.
2
- (بابٌ: {ومِن النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ على وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيد} (الْحَج: 11 21) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله عز وَجل: {وَمن النَّاس} ... الْآيَة. قَالَ الواحدي: روى عَطِيَّة عَن أبي سعيد قَالَ: أسلم رجل من الْيَهُود فَذهب بَصَره وَمَاله فتشاءم بِالْإِسْلَامِ، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أَقلنِي. قَالَ: إِن الْإِسْلَام لَا يُقَال وَالْإِسْلَام يسْكب الرِّجَال كَمَا تسكب النَّار خبث الْحَدِيد، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَسَيَأْتِي عَن ابْن عَبَّاس وَجه آخر.
قَوْله: (على حرف) ، أَي: طرف وَاحِد وجانب فِي الدّين لَا يدْخل فِيهِ على الثَّبَات والتمكين، والحرف مُنْتَهى الْجِسْم، وَعَن مُجَاهِد: على شكّ، وَعَن الْحسن:(19/68)
هُوَ الْمُنَافِق يعبد بِلِسَانِهِ دون قلبه. قَوْله: (خيرا) ، أَي: صِحَة فِي جِسْمه وسعة فِي معيشته. قَوْله: (اطْمَأَن بِهِ) ، أَي: أَي: رَضِي بِهِ وَأقَام عَلَيْهِ. قَوْله: (فتْنَة) ، أَي: بلَاء فِي جِسْمه وضيقاً فِي معيشته. قَوْله: (انْقَلب على وَجهه) ارْتَدَّ فَرجع إِلَى وَجهه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ من الْكفْر. قَوْله: (الخسران الْمُبين) ، أَي: الضلال الظَّاهِر. قَوْله: (الضلال الْبعيد) ، أَي: ذهب عَن الْحق ذَهَابًا بَعيدا.
شَكّ أتْرَافْناهُمْ وسَّعْناهُمْ
قَوْله: (شكّ) تَفْسِير قَوْله: حرف، وَلم يُوجد ذَلِك إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
هَذِه من السُّورَة الَّتِي تَلِيهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلأ من قومه الَّذين كفرُوا وكذبوا بلقاء الْآخِرَة واتر فناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} (الْمُؤْمِنُونَ: 33) وَلم يكن مَوْضِعه هُنَا.
2474 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ الحَارِثِ حَدثنَا يَحْيَى بنُ أبي بُكَيْرٍ حَدثنَا إسْرَائِيلُ عنْ أبي حَصِينٍ عنْ سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ ومِنَ الناسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ قَالَ كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ فإنْ وَلَدَتِ امْرَأتُهُ غُلاَماً ونُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ صالحٌ وإنْ لمْ تَلِدِ امْرَأتُهُ ولَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هاذَا دِينُ سَوْءٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِبْرَاهِيم بن الْحَارِث الْكرْمَانِي سكن بَغْدَاد روى عَنهُ البُخَارِيّ حديثين أَحدهمَا هُنَا وَالْآخر فِي الْوَصَايَا، وَيحيى بن أبي بكير، وَاسم أبي بكير قيس الْكُوفِي قَاضِي كرمان، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (كَانَ الرجل يقدم الْمَدِينَة) ، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ مرْدَوَيْه: كَانَ أحدهم إِذا قدم الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة جَعْفَر بن أبي الْمُغيرَة عَن سعيد بن جُبَير: كَانَ نَاس من الْأَعْرَاب يأْتونَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يسلمُونَ. قَوْله: (ونتجت خيلة) ، بِضَم النُّون على صِيغَة الْمَجْهُول، يُقَال: نتجت النَّاقة فَهِيَ منتوجة مثل نفست الْمَرْأَة فَهِيَ منفوسة، فَإِذا أردْت أَنَّهَا حَاضَت قلت: نفست، بِفَتْح النُّون، ونتجها أَهلهَا، وَمِنْهُم من حكى الضَّم فِي نفست فِي الثَّانِي وَالْفَتْح فِي الأول، وَزَاد الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: وَصَحَّ جِسْمه. أخرجه ابْن أبي حَاتِم. قَوْله: (قَالَ هَذَا دين صَالح) وَفِي رِوَايَة الْحسن. قَالَ: لنعم الدّين هَذَا، وَفِي رِوَايَة جَعْفَر، قَالُوا: إِن ديننَا هَذَا لصالح فَتمسكُوا بِهِ. قَوْله: (قَالَ هَذَا دين سوء) يجوز بِالصّفةِ وبالإضافة وَفِي رِوَايَة جَعْفَر: وَإِن وجدوا عَام جَدب وقحط وولاد سوء قَالُوا مَا فِي ديننَا هَذَا خير، وَفِي رِوَايَة الْعَوْفِيّ: وَإِن أَصَابَهُ وجع الْمَدِينَة وَولدت امْرَأَته جَارِيَة وتأخرت عَنهُ الصَّدَقَة أَتَاهُ الشَّيْطَان فَقَالَ: وَالله مَا أصبت على دينك هَذَا إِلَّا شرا، وَفِي رِوَايَة الْحسن: فَإِن سقم جِسْمه وحبست عَنهُ الصَّدَقَة وأصابته الْحَاجة قَالَ: وَالله لَيْسَ الدّين هَذَا، مَا زلت أتعرف النُّقْصَان فِي جسمي وَمَالِي، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الْحَج: 91)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هَذَانِ خصمان} ... الْآيَة، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، والخصمان تَثْنِيَة خصم وَهُوَ يُطلق على الْوَاحِد وَغَيره، وَيُقَال: الْخصم إسم شَبيه بِالْمَصْدَرِ فَلذَلِك قَالَ: اخْتَصَمُوا، والخصم من تقع مِنْهُ الْمُخَاصمَة.
3474 - حدَّثنا حَجّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا هُشَيْمٌ أخْبَرَنا أبُوا هاشِمٍ عنْ أبي مِجْلَزٍ عنْ قَيْسِ بنِ عُبادٍ عنْ أبي ذَرٍّ رَضِي الله عنهُ أنّهُ كانَ يُقْسِمُ فِيها إنَّ هاذِهِ الآيَةَ: {هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وصاحِبَيْهِ وعُتْبَةَ وصاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ.
(انْظُر الحَدِيث 6693 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وهشيم بِالتَّصْغِيرِ ابْن بشير كَذَلِك، وَأَبُو هَاشم يحيى بن دِينَار الرماني بِضَم الرَّاء، وَأَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفتح اللَّام وبالزاي: اسْمه لَاحق بن حميدي السدودي، وَقيس بن عباد، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْوحدَة: الْبَصْرِيّ، وَأَبُو ذَر اسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة، والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْمَغَازِي فِي: بَاب قتل أبي جهل.
قَوْله: (كَانَ(19/69)
يقسم فِيهَا) ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني، قيل: هُوَ تَصْحِيف وَالصَّوَاب رِوَايَة الْأَكْثَرين: يقسم قسما. قَوْله: (فِي رَبهم) . أَي: فِي دينه وَأمره. قَوْله: (فِي حَمْزَة وصاحبيه) ، هما: عَليّ وَعبيدَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب. قَوْله: (وَعتبَة) ، هُوَ ابْن ربيعَة وصاحباه: أَخُوهُ شيبَة والوليد بن عتبَة الْمَذْكُور.
رَواهُ سُفْيانُ عنْ أبي هاشِمٍ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي هَاشم الْمَذْكُور، وَقد تقدّمت رِوَايَته مَوْصُولَة فِي غَزْوَة بدر.
وَقَالَ عُثْمانُ عنْ جَرِيرٍ عنْ مَنْصُور عنْ أبي هاشِمٍ عنْ أبي مِجْلَزٍ قَوْلَهُ
أَي: قَالَ عثان بن أبي شيبَة شيخ البُخَارِيّ عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبي هَاشم الْمَذْكُور عَن أبي مجلز الْمَذْكُور (قَوْله:) أَي: مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
4474 - حدَّثنا حَجّاجُ بنُ منْهالٍ حَدثنَا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمانَ قَالَ سَمِعْتُ أبي قَالَ حَدثنَا أبُو مِجْلَزٍ عنْ قَيْسِ بنِ عُبادٍ عنْ علِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ أَنا أوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَي الرَّحْمانِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 5693 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث قد مر فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن عبد الله الرقاشِي عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه.
قَالَ قَيْسٌ وفِيهِمْ نَزَلَتْ: {هاذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الْحَج: 91) قَالَ هُمُ الَّذِينَ بارَزُوا يَوْمَ بَدْر عَلِيٌّ وحَمْزَةُ وعُبَيْدَةُ وشَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ وعُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ وَالوَلِيدُ بنُ عُتْبَةَ.
أَي: قَالَ قيس بن عباد الْمَذْكُور. قَوْله: (عَليّ وَحَمْزَة وَعبيدَة) ، أَي: عَليّ بن أبي طَالب وَحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَعبيدَة بن الْحَارِث هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة الْمُسلمُونَ أقَارِب بعض لأولئك الْكفَّار وهم شيبَة ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: روى الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا نزلت فِي أهل الْكتاب وَالْمُسْلِمين وَمن طَرِيق الْحسن قَالَ: هم الْكفَّار والمؤمنون، وَمن طَرِيق مُجَاهِد: هُوَ اختصام الْمُؤمن وَالْكَافِر فِي الْبَعْث. قلت: الْآيَة إِذا نزلت فِي سَبَب فِي الْأَسْبَاب لَا يمْتَنع أَن تكون عَامَّة فِي نَظِير ذَلِك السَّبَب، وَالله تَعَالَى أعلم.
32 - (سورَةُ المُؤْمِنِينَ)
أَي: هَذَا تَفْسِير فِي بعض سُورَة الْمُؤمنِينَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة كلهَا، وَهِي مائَة وثمان عشرَة آيَة، وَأَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف وحرفان، وَألف وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعُونَ كلمة.
(بشم الله الرحمؤن الرَّحِيم)
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر.
(بَاب)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ سَبْعَ طَرَائِقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق} (الْمُؤْمِنُونَ: 71) وَفَسرهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة بقوله: (سبع سموات) ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: إِنَّمَا قيل لَهَا طرائق لِأَن بَعضهنَّ فَوق بعض فَكل سَمَاء مِنْهُنَّ طَريقَة، وَالْعرب تسمي كل شَيْء فَوق شَيْء طَريقَة، وَقيل: لِأَنَّهَا طرائق الْمَلَائِكَة.
لَها سابِقُونَ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 16) قَوْله: لَهَا، بِمَعْنى: إِلَيْهَا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: سبقت لَهُم من الله السَّعَادَة فَلذَلِك سارعوا فِي الْخيرَات، وَهَذَا ثَبت لغير أبي ذَر.
قُلُوبُهُمْ وَجِلَةُ خائِفِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون} (الْمُؤْمِنُونَ: 06) وَفسّر: (وَجلة) بقوله: (خَائِفين) ، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فِيهِ قَالَ: يعْملُونَ خَائِفين، أَي: أَن لَا يتَقَبَّل مِنْهُم مَا عملوه، وَعَن عَائِشَة رَضِي الله(19/70)
عَنْهَا، قَالَت: يَا رَسُول الله، فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلُوبهم وَجلة} (الْمُؤْمِنُونَ: 06) هُوَ الرجل يَزْنِي وَيسْرق وَهُوَ مَعَ ذَلِك يخَاف الله؟ قَالَ: لَا بل هُوَ الرجل يَصُوم وَيُصلي، وَهُوَ مَعَ ذَلِك يخَاف الله، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَأحمد وَابْن مَاجَه، وَصَححهُ الْحَاكِم.
قَالَ ابنُ عبّاسٍ هَيْهاتَ هَيْهاتَ بعِيدٌ بَعِيدٌ
فسر ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {هَيْهَات هَيْهَات لما توعدون} (الْمُؤْمِنُونَ: 63) بقوله: (بعيد بعيد) وَرَوَاهُ هَكَذَا الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَرَأَ السَّبْعَة بِفَتْح التَّاء فيهمَا فِي الْوَصْل وبإسكانها فِي الْوَقْف، وَيُقَال: من وقف على هَيْهَات وقف بِالْهَاءِ.
فاسْألِ الْعادِّينَ قَالَ المَلائِكَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم فاسأل العادين} (الْمُؤْمِنُونَ: 311) وَفسّر العادين بقوله: (قَالَ: الْمَلَائِكَة) وَلَيْسَ فَاعل قَالَ ابْن عَبَّاس، كَمَا يذهب إِلَيْهِ الْوَهم من حَيْثُ مَجِيء قَالَ ابْن عَبَّاس قبل هَذَا، بل الْفَاعِل مُجَاهِد لِأَنَّهُ صرح بذلك فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي فَقيل: قَالَ مُجَاهِد فاسأل العادين ... إِلَى آخِره، وَذكر الثَّعْلَبِيّ الْمَلَائِكَة إِمَّا الْحفظَة وَإِمَّا الْحساب، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد السِّين، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة فِي قَوْله: العادين، قَالَ: الحُساب.
تَنْكُصُونَ تَسْتَأْخِرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وكنتم على أعقابكم تنكصون} (الْمُؤْمِنُونَ: 66) وَفَسرهُ بقوله: (تستأخرون) وَكَذَا ذكره الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد وَقيل: أَي ترجعون الْقَهْقَرَى، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ عِنْد النَّسَفِيّ.
لَناكِبُونَ لَعادِلُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون} (الْمُؤْمِنُونَ: 47) وَفَسرهُ بقوله: (لعادلون) وَكَذَا روى عَن ابْن عَبَّاس، يُقَال: نكب إِذا مَال وَأعْرض، وَمِنْه الرّيح النكباء، وَهَذَا ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
كالِحُونَ عابِسُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تلفح وُجُوههم النَّار وهم فِيهَا كَالِحُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 401) وَفَسرهُ بقوله: (عابسون) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَيُقَال: الكلوح أَن تتقلص الشفتان عَن الْأَسْنَان حَتَّى تبدو الْأَسْنَان، وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {تلفح وُجُوههم النَّار} ... الْآيَة، قَالَ: تَشْوِيه النَّار فتتقلص شفته الْعليا حَتَّى تبلغ وسط رَأسه وَتَسْتَرْخِي شفته السُّفْلى حَتَّى تبلغ سرته.
وَقَالَ غيْرُهُ منْ سُلالَةٍ الوَلَدُ والنُّطْفَةُ السُّلاَلَةُ
لم يثبت قَوْله: (وَقَالَ غَيره) إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، أَي: قَالَ غير مُجَاهِد، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة: فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة} (الْمُؤْمِنُونَ: 21) السلالة الْوَلَد والنطفة السلالة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: من سلالة استل من الأَرْض، قَالَه قَتَادَة وَمُجاهد وَابْن عَبَّاس، وَالْعرب تسمي نُطْفَة الرجل وَولده: سليلة وسلالة لِأَنَّهُمَا مسلولان مِنْهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يَصح تَفْسِير السلالة بِالْوَلَدِ إِذْ لَيْسَ الْإِنْسَان من الْوَلَد بل الْأَمر بِالْعَكْسِ؟ قلت: لَيْسَ الْوَلَد تَفْسِيرا لَهَا بل الْوَلَد مُبْتَدأ وَخَبره السلالة، يَعْنِي: السلالة مَا يستل من الشَّيْء كَالْوَلَدِ والنطفة.
والجِنّةُ والجُنُونُ واحدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة} (الْمُؤْمِنُونَ: 07) أَي: جُنُون، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
والغُثاءُ الزَّبَدُ وَمَا ارْتَفَعَ عَن المَاء يُنْتَفَعُ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فجعلناهم غثاء} (الْمُؤْمِنُونَ: 14) وَفَسرهُ بقوله: (الزّبد)
إِلَى آخِره، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة. قَالَ: الغثاء الشَّيْء الْبَالِي.
42 - (سُورَةُ النُّور)
أَي: هَذَا فِي بَيَان تَفْسِير بعض سُورَة النُّور، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس وَمُقَاتِل وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس فِي آخَرين: مَدَنِيَّة كلهَا لم يذكر فِيهَا اخْتِلَاف، وَهِي أَربع وَسِتُّونَ آيَة، وَألف وثلاثمائة وست عشرَة كلمة، وَخَمْسَة آلَاف وسِتمِائَة وَثَمَانُونَ حرفا.(19/71)
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
مِنْ خِلاَلِهِ مِنْ بَيْنِ أضْعافِ السَّحابِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فترى الودق يخرج من خلاله} (النُّور: 34) وَفَسرهُ بقوله: (من بَين أَضْعَاف السَّحَاب) ، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. والخلال جمع خلل وَهُوَ الْوسط، وَيُقَال: الْخلَل مَوضِع الْمَطَر، والودق الْمَطَر.
سَنا بَرْقِهِ الضِّياءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يكَاد سنا برقه يذهب بالأبصار} (النُّور: 34) من شدَّة ضوئه وبرقه.
مُذْعِنِينَ يُقالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكن لَهُم الْحق يَأْتُوا إِلَيْهِ مذعنين} (النُّور: 94) وَأَشَارَ بقوله: (يُقَال) : ... إِلَى آخِره: أَن معنى: مذعنين، مستخذين من استخذى بِالْخَاءِ والذال المعجمتين أَي: خضع، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال خذت النَّاقة تخذي أسرعت مثل وخذت وخوذت كُله بِمَعْنى وَاحِد، وَقَالَ أَيْضا: خذا الشَّيْء يخذو وخذواً: استرخي، وخذي بِالْكَسْرِ مثله، وَأما المذعن فَمن الإذعان وَهُوَ الْإِسْرَاع، قَالَ الزّجاج: يُقَال أذعن لي بحقي أَي: طاوعني لما كنت ألتمس مِنْهُ وَصَارَ يسْرع إِلَيْهِ.
أشْتاتاً وشَتَّى وشَتاتٌ وشَتٌّ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتاً} (النُّور: 16) قَوْله: (أشتاتاً) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء بِتَقْدِير قَوْله: (أشتاتاً) ، وَقَوله: (وشتى وشتات وشت) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَاحِد) خبر الْمُبْتَدَأ، والأشتات جمع شت والشت مُفْرد، وَمعنى أشتاتاً: مُتَفَرّقين.
وَقَالَ ابْنُ عبّاسٍ سُورَةٌ أنْزَلْناها بَيّنَّاها
كَذَا وَقع وَقَالَ عِيَاض كَذَا فِي النّسخ وَالصَّوَاب: أنزلناها وفرضناها بيناها، فَقَوله: (بيناها) تَفْسِير: فرضناها، وَيُؤَيّد قَول عِيَاض مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: فرضناها، يَقُول: بيناها.
وَقَالَ غَيْرُهُ سمِّيَ القُرْآنُ لِجماعهِ السُّوَرِ وسُمِّيَتِ السُّورَةُ لِأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنَ الأخْرَى فَلَمّا قُرِنَ بَعْضُها إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ قُرْآناً.
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة. قَوْله: (لجَماعَة السُّور) ، قَالَ الْكرْمَانِي: السُّور بِالنّصب بِأَن يكون مفعول الْجِمَاع بِمَعْنى الْجمع مصدرا وَهُوَ بِكَسْر الْجِيم وهاء الضَّمِير، وبالجر بِأَن يكون مُضَافا إِلَيْهِ، وَالْجَمَاعَة بِمَعْنى الْجمع ضد الْمُفْرد وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم وتاء التَّأْنِيث. قَوْله: (وَسميت السُّور) ، وَهِي الطَّائِفَة من الْقُرْآن محدودة. وَأما من السُّورَة الَّتِي هِيَ الرُّتْبَة لِأَن السُّور بِمَنْزِلَة الْمنَازل والمراتب، وَأما من السؤر الَّتِي هِيَ الْبَقِيَّة من الشَّيْء فقلبت همزتها واواً لِأَنَّهَا قِطْعَة من الْقُرْآن.
وَقَالَ سَعْدُ بنُ عِيَاضٍ الثُّمالِيُّ. المِشْكَاة الكُوَّةُ بِلِسانِ الحَبَشَةِ
سعد بن عِيَاض من التَّابِعين من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: حَدِيثه مُرْسل وَلَا يَصح لَهُ صُحْبَة، والثمالي، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: نِسْبَة إِلَى ثمالة فِي الأزد وَفِي ألهان وَفِي تَمِيم، وَالَّذِي فِي الأزد ثمالة هُوَ عَوْف بن أسلم بن كَعْب، وَالَّذِي فِي ألهان ثمالة بن ألهان، وَالَّذِي فِي تَمِيم ثمالة وَهُوَ عبد الله بن حرَام بن مجاشع بن دارم. قَوْله: (الْمشكاة الكوة) ، بِفَتْح الْكَاف وَضمّهَا، وَقَالَ الواحدي: وَهِي عِنْد الْجَمِيع غير نَافِذَة، وَقيل: الْمشكاة الَّتِي يعلق بهَا الْقنْدِيل يدْخل فِيهَا الفتيلة، وَقيل: الْمشكاة الْوِعَاء من أَدَم يبرد فِيهَا المَاء، وَعَن مُجَاهِد: هِيَ الْقنْدِيل، وَقَالَ ابْن كَعْب: الْمشكاة صَدره والمصباح الْإِيمَان وَالْقُرْآن والزجاجة قلبه، والشجرة الْمُبَارَكَة الْإِخْلَاص.
وقَوْلُهُ تَعالى: {إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ} (الْقِيَامَة: 71) تألِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بعْضٍ: {فإذَا قرَأناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذا جَمَعْناهُ وألْفْناهُ فاتّبِعْ قُرْآنَهُ أيْ مَا جُمِعَ فِيهِ فاعْمَلْ بِمَا أمَرَكَ وانْتَهِ عَمّا نِهاكَ الله: ويُقالُ لَيْس(19/72)
لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ أيْ تألِيفٌ وسُمِّيَ الفُرْقانَ لأنّهُ يفرق بيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ ويُقال لِلمَرْأةِ مَا قَرَأتْ بِسَلاً قَطُّ أَي لمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنها ولَداً.
هَذَا كُله ظَاهر ومقصوده بَيَان أَن الْقُرْآن مُشْتَقّ من قَرَأَ بِمَعْنى جمع لَا من قَرَأَ بِمَعْنى تَلا، قَوْله: (بسلاً) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام مَقْصُورا. وَهِي الْجلْدَة الرقيقة الَّتِي يكون فِيهَا الْوَلَد.
{وَقَالَ فرَّضْناها أنْزَلْنا فِيها فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً ومَنْ قَرَأ فَرَضْنَاها يَقُولُ فَرَضْنا عَلَيْكُمْ وعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ}
فرضناها بتَشْديد الرَّاء مَعْنَاهُ: أنزلنَا فِيهَا فَرَائض مُخْتَلفَة وأوجبناها عَلَيْكُم وعَلى من بعدكم إِلَى قيام السَّاعَة، وَهَذِه قِرَاءَة ابْن كثير وَأبي عَمْرو، وَقِرَاءَة البَاقِينَ: فرضناها، بِالتَّخْفِيفِ أَي: جعلناها وَاجِبَة مَقْطُوعًا بهَا، وَهُوَ معنى قَوْله: (وَمن قَرَأَ فرضناها) يَعْنِي بِالتَّخْفِيفِ من الْفَرْض وَهُوَ الْقطع. قَوْله: (وعَلى من بعدكم) أَي: على الَّذين يأْتونَ بعدكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ مُجااهِدٌ: {أَو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} (النُّور: 13) : لَمْ يَدْرُوا لَما بِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء} (النُّور: 13) وَفَسرهُ بقوله: (لم يدروا لما بهم) أَي: لأجل مَا بهم من الصغر، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: لم يدروا مَا هِيَ من الصغر قبل الْحلم، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: وَقَالَ مُجَاهِد: لَا يهمه إلاَّ بَطْنه وَلَا يخَاف على النِّسَاء أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا إِلَى آخِره، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الطِّفْل يكون وَاحِدًا وجمعاً.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ غَيْرِ أولي الإِرْبَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إرْبٌ
هَذَا ثَبت للنسفي، أَي: قَالَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو التَّابِعين غير أولي الإربة من الرِّجَال} (النُّور: 13) وَفسّر: {غير أولي الإربة} بقوله: (من لَيْسَ لَهُ إرب) بِكَسْر الْهمزَة أَي حَاجَة من الرِّجَال، وهم الَّذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طَعَامكُمْ وَلَا حَاجَة لَهُم فِي النِّسَاء وَلَا يشتهونهن.
وَقَالَ مُجاهِدٌ لاَ يُهمُّهُ إلاّ بَطْنُهُ وَلَا يُخافُ عَلَى النِّساءِ وَقَالَ طاوُسٌ هُوَ الأحْمَقُ الَّذِي لَا حاجةَ لَهُ فِي النِّساءِ
أَي: {غير أولى الإربة} هُوَ الأحمق إِلَى آخِره، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه بِمثلِهِ، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل هَذَا التَّابِع هُوَ الأحمق الَّذِي لَا تشتهيه الْمَرْأَة وَلَا يغار عَلَيْهِ الرجل، وَقيل: هُوَ الأبلة الَّذِي يُرِيد الطَّعَام وَلَا يُرِيد النِّسَاء، وَقيل: الْعنين، وَقيل: الشَّيْخ الفاني، وَقيل: الْمَجْبُوب، وَقَالَ الزّجاج: غير صفة للتابعين.
1 - (بابُ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْوَاجَهُمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهادَاتٍ بِاللَّه إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (النُّور: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالَّذين يرْمونَ} الْآيَة ... أَي، يقذفونهم بِالزِّنَا وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء على صِحَة مَا قَالُوا إلاَّ أنفسهم، بِالرَّفْع على أَنه بدل من الشُّهَدَاء. قَوْله: (أَربع شَهَادَات) قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص عَن عَاصِم: أَربع، بِالرَّفْع وَالْمعْنَى: فشهادة أحدهم الَّتِي تدرأ الْعَذَاب أَربع شَهَادَات، وَالْبَاقُونَ بِالنّصب لِأَنَّهُ فِي حكم الْمصدر وَالْعَامِل فِيهِ الْمصدر الَّذِي هُوَ (فشهادة أحدهم) وَهِي مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر تَقْدِيره: فَوَاجِب شَهَادَة أحدهم أَربع شَهَادَات.
5474 - حدَّثنا إسْحاقُ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ الفِرْيابِيُّ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدّثني الزُّهْرِيُّ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أنَّ عُوَيْمِراً أتَى عاصِمَ بنَ عَدِيّ وكانَ سَيِّدَ بَني عَجْلاَنَ فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رجلا أيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَصْنَعُ سَلْ لي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَلِكَ فأتَى عاصِمٌ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله فَكَرِة رَسُول(19/73)
ُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَسائِلَ فَسَألَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَرِهَ المَسائِلَ وعابَها قَالَ عُوَيْمِرٌ وَالله لاَ انْتَهى حَتَّى أسألَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذالِكَ فَجاء عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلاً أيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أم كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ أنْزَلَ الله القُرْآنَ فيكَ وَفِي صاحِبَتِكَ فأمَرَهُما رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسلَّم بالمُلاَعَنَةِ بِما سَمَّى الله فِي كِتابِهِ فَلاَعَنَها ثُمَّ قَالَ يَا رسولَ الله إنْ حَبَسْتُها فَقَدْ ظلمْتُها فَطلَّقَها فَكانَتْ سُنَّة لِمَنْ كانَ بَعْدَهُما فِي المُتَلاَعِنَيْنِ ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْظُرُوا فإنْ جاءَتْ بِهِ أسْحَمَ أدْعَجَ العَيْنَبْنِ عَظِيمَ الألْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلاَ أحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْها وإنْ جاءَتْ بِهِ أحَيْمِرَ كأنَّهُ وحَرَةٌ فَلاَ أحْسِبُ عُوَيْمِراً إلاَّ قَدْ كَذَبَ عَلَيْها فَجاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ فكانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تُؤْخَذ من ظَاهر الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق ذكر غير مَنْسُوب، وَقَالَ بَعضهم: وَعِنْدِي أَنه ابْن مَنْصُور. قلت: لَا حَاجَة إِلَى قَوْله: وَعِنْدِي، لِأَن ابْن الغساني قَالَ: إِنَّه مَنْصُور. الثَّانِي: مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو عبد الله الْفرْيَابِيّ وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ وروى عَنهُ بالواسطة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ، وَهَؤُلَاء مرواة الحَدِيث. السَّادِس: عُوَيْمِر مصغر عَامر بن الْحَارِث بن زيد بن حَارِثَة بن الْجد بن الْعجْلَاني، كَذَا ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) ، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عُوَيْمِر بن أَبيض وَقيل ابْن أشقر الْعجْلَاني الْأنْصَارِيّ صَاحب قصَّة اللّعان، وَقيل: هُوَ ابْن الْحَارِث. السَّابِع: عَاصِم بن عدي بن الْجد بن العجلان ابْن حَارِثَة الْعجْلَاني وَهُوَ أَخُو معن بن عدي ووالد أبي البداح بن عَاصِم، وعاش عَاصِم عشْرين وَمِائَة سنة وَمَات فِي سنة خمس وَأَرْبَعين، وَذكر مُوسَى بن عقبَة أَنه وأخاه من شُهَدَاء بدر، ومعن قتل بِالْيَمَامَةِ رَضِي الله عَنْهُمَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله، وَفِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الِاعْتِصَام عَن آدم، وَفِي الْأَحْكَام وَفِي الْمُحَاربين عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَفِي الطَّلَاق أَيْضا عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مسلمة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، أَي: أيقتل الرجل؟ قَوْله: (سل) أَصله: اسْأَل، فنقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى السِّين بعد حذفهَا للتَّخْفِيف وَاسْتغْنى عَن همزَة الْوَصْل فحذفت فَصَارَ: سل، على وزن: قل. قَوْله: (فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمسَائِل) إِنَّمَا كره لِأَن سُؤال عَاصِم فِيهِ عَن قَضِيَّة لم تقع بعد وَلم يحْتَج إِلَيْهَا، وفيهَا إِشَاعَة على الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وتسليط الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْكَلَام فِي عرض الْمُسلمين، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَسَأَلَ عَاصِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمسَائِل وعابها حَتَّى كبر على عَاصِم مَا سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِم إِلَى أَهله جَاءَهُ عُوَيْمِر، فَقَالَ: يَا عَاصِم {مَاذَا قَالَ لَك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ عَاصِم لعويمر: لم تأتني بِخَير، قد كره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْأَلَة الَّتِي سَأَلته عَنْهَا، قَالَ عُوَيْمِر: وَالله لَا أَنْتَهِي حَتَّى أسأله عَنْهَا، فَأقبل عُوَيْمِر حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسط النَّاس، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} أَرَأَيْت ... إِلَى آخِره. قَوْله: (فَأَمرهمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالملاعنة) ، أَي: ملاعنة الرجل امْرَأَته، وَسميت بذلك لقَوْل الزَّوْج: وعَلَيَّ لعنة الله إِن كنت من الْكَاذِبين، واختير لفظ: اللَّعْن، على لفظ: الْغَضَب، وَإِن كَانَا موجودين(19/74)
فِي الْآيَة الْكَرِيمَة، وَفِي صُورَة اللّعان لِأَن لفظ اللَّعْن مُتَقَدم فِي الْآيَة، وَلِأَن جَانب الرجل فِيهِ أقوى من جَانبهَا لِأَنَّهُ قَادر على الِابْتِدَاء بِاللّعانِ دونهَا، وَلِأَنَّهُ قد يَنْفَكّ لِعَانه عَن لعانها وَلَا ينعكس، وَقيل: سمي لعاناً من اللَّعْن وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا يبعد عَن صَاحبه وَيحرم النِّكَاح بَينهمَا على التَّأْبِيد، بِخِلَاف المطلِّق وَغَيره، وَكَانَت قصَّة اللّعان فِي شعْبَان سنة تسع من الْهِجْرَة، وَمِمَّنْ نَقله القَاضِي عَن الطَّبَرِيّ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي سَبَب نزُول آيَة اللّعان: هَل هُوَ بِسَبَب عُوَيْمِر الْعجْلَاني أم بِسَبَب هِلَال بن أُميَّة؟ فَقَالَ بَعضهم: بِسَبَب عُوَيْمِر الْعجْلَاني. وَاسْتَدَلُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد أنزل الله الْقُرْآن فِيك وَفِي صَاحبَتك، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: سَبَب نُزُولهَا قصَّة هِلَال، قَالَ: وَكَانَ أول رجل لَاعن فِي الْإِسْلَام، وَجمع الدَّاودِيّ بَينهمَا بِاحْتِمَال كَونهمَا فِي وَقت فَنزل الْقُرْآن فيهمَا، أَو يكون أَحدهمَا وهما. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: النَّقْل فيهمَا مشتبه مُخْتَلف، وَقَالَ ابْن الصّباغ: قصَّة هِلَال تبين أَن الْآيَة نزلت فِيهِ أَولا، وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لعويمر: إِن الله أنزل فِيك وَفِي صَاحبَتك، فَمَعْنَاه مَا نزل فِي قصَّة هِلَال لِأَن ذَلِك حكم عَام لجَمِيع النَّاس، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لعلهما سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ متقاربين فَنزلت الْآيَة فيهمَا، وَسبق هِلَال بِاللّعانِ فَيصدق أَنَّهَا نزلت فِي ذَا وَذَاكَ. قلت: هَذَا مثل جَوَاب الدَّاودِيّ بِالْوَجْهِ الأول وَهُوَ الْأَوْجه فَإِن قلت: جَاءَ فِي حَدِيث أنس بن مَالك: هِلَال بن أُميَّة، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: لَاعن بَين الْعجْلَاني وَامْرَأَته، وَفِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود: وَكَانَ رجلا من الْأَنْصَار جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلاعن امْرَأَته. قلت: لَا اخْتِلَاف فِي ذَلِك لِأَن الْعجْلَاني هُوَ عُوَيْمِر، وَكَذَا فِي قَول ابْن مَسْعُود: وَكَانَ رجلا.
قَوْله: (فَتَلَاعَنا) فِيهِ حذف وَالتَّقْدِير: أَنه سَأَلَ وَقذف امْرَأَته وأنكبرت الزِّنَا وأصر كل وَاحِد مِنْهُمَا على كَلَامه ثمَّ تلاعنا، وَالْفَاء فِيهِ فَاء الفصيحة. قَوْله (إِن حبستها فقد ظلمتها فَطلقهَا) ، يفهم من ذَلِك أَن بِمُجَرَّد اللّعان لَا تحصل الْفرْقَة على مَا نذكرهُ فِي استنباط الْأَحْكَام. قَوْله: (فَكَانَت) ، أَي: الْمُلَاعنَة كَانَت سنة بِالْوَجْهِ الْمَذْكُور لمن يَأْتِي بعدهمَا من المتلاعنين. قَوْله: (فَإِن جَاءَت بِهِ) أَي: بِالْوَلَدِ، (أسحم) بِالْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ شَدِيد السوَاد. قَوْله: (أدعج الْعَينَيْنِ) ، الدعج فِي الْعين شدَّة سوادها، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْآتِي: أكحل الْعَينَيْنِ. قَوْله: (عَظِيم الأليتين) ، بِفَتْح الْهمزَة: يُقَال: رجل أَلِي وَامْرَأَة عجزاء، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: سابغ الأليتين. قَوْله: (خَدلج السَّاقَيْن) ، الخدلج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة وبالجيم: الْعَظِيم، وسَاق خدلجة مَمْلُوءَة. قَوْله: (أُحَيْمِر) ، تَصْغِير أَحْمَر، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأَحْمَر الشَّديد الشقرة. قَوْله: (وحرة) ، بِفَتْح الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَالرَّاء: وَهِي دويبة حَمْرَاء تلزق بِالْأَرْضِ كالعظاءة. قَوْله: (فَكَانَ بعد) ، أَي: بعد أَن جَاءَ الْوَلَد (ينْسب إِلَى أمه) .
ذكر استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ الاستعداد للوقائع قبل وُقُوعهَا ليعلم أَحْكَامهَا. الثَّانِي: فِيهِ الرُّجُوع إِلَى من لَهُ الْأَمر. الثَّالِث: فِيهِ أَدَاء الْأَحْكَام على الظَّاهِر، وَالله يتَوَلَّى السرائر. الرَّابِع: فِيهِ كَرَاهَة الْمسَائِل الَّتِي لَا يحْتَاج إِلَيْهَا لَا سِيمَا مَا كَانَ فِيهِ هتك سيرة مُسلم أَو مسلمة أَو إِشَاعَة فَاحِشَة على مُسلم أَو مسلمة. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْعَالم يقْصد فِي منزله للسؤال وَلَا ينْتَظر بِهِ عِنْد تصادفه فِي الْمَسْجِد أَو الطَّرِيق. السَّادِس: اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن قتل رجلا وَزعم أَنه وجده قد زنا بامرأته، فَقَالَ جمهورهم: لَا يقتل بل يلْزمه الْقصاص إلاَّ أَن تقوم بذلك بَيِّنَة أَو تعترف بِهِ وَرَثَة الْقَتِيل، وَالْبَيِّنَة أَرْبَعَة من عدُول الرِّجَال يشْهدُونَ على نفس الزِّنَا وَيكون الْقَتِيل مُحصنا، وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَإِن كَانَ صَادِقا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: يجب على كل من قتل زَانيا مُحصنا الْقصاص. السَّابِع: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة اللّعان وَهُوَ مقتبس من قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين} (النُّور: 7) . وَقَالَ أَصْحَابنَا: اللّعان شَهَادَة مُؤَكدَة بالأيمان مقرونة باللعن وَالْغَضَب، وَأَنه فِي جَانب الزَّوْج قَائِم مقَام حد الْقَذْف، وَفِي جَانبهَا قَائِم مقَام حد الزِّنَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: اللّعان إِنَّمَا كَانَ بِلَفْظ الشَّهَادَة مقرونة بِالْغَضَبِ أَو اللَّعْن، فَكل من كَانَ من أهل الشَّهَادَة وَالْيَمِين كَانَ من أهل اللّعان، وَمن لَا فَلَا، عندنَا وكل من كَانَ من أهل الْيَمين فَهُوَ من أهل اللّعان عِنْده، سَوَاء كَانَ من أهل الشَّهَادَة أَو لم يكن، وَمن لم يكن من أهل الشَّهَادَة وَلَا من أهل الْيَمين لَا يكون من أهل اللّعان بِالْإِجْمَاع. الثَّامِن: أَن اللّعان يكون بِحَضْرَة الإِمَام أَو القَاضِي وبمجمع من النَّاس، وَهُوَ أحد أَنْوَاع تَغْلِيظ اللّعان، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يغلظ اللّعان بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان وَالْمجْمَع، فَأَما الزَّمَان فَبعد الْعَصْر، وَالْمَكَان فِي أشرف مَوضِع فِي ذَلِك الْبَلَد، وَالْمجْمَع طَائِفَة من النَّاس وَأَقلهمْ أَرْبَعَة، وَهل هَذِه التغليظات وَاجِبَة أم مُسْتَحبَّة؟ فِيهِ خلاف عندنَا، الْأَصَح الِاسْتِحْبَاب.(19/75)
التَّاسِع: فِيهِ أَن بِمُجَرَّد اللّعان لَا تقع الْفرْقَة بل تقع بِحكم الْحَاكِم عِنْد أبي حنيفَة. كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَطلقهَا) وَلما فِي حَدِيث ابْن عمر أخرجه مُسلم، ثمَّ فرق بَينهمَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأحمد، وَفِي مَذْهَب مَالك: أَرْبَعَة أَقْوَال. أَحدهَا: أَن الْفرْقَة لَا تقع إِلَّا بالتعانهما جَمِيعًا. وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهر قَول مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : أَنَّهَا تقع بِلعان الزَّوْج وَهُوَ رِوَايَة إصبغ. وَالثَّالِث: قَول سَحْنُون: يتم بِلعان الزَّوْج مَعَ نُكُول الْمَرْأَة. وَالرَّابِع: قَول ابْن الْقَاسِم: يتم بالتعان الزَّوْج إِن التعنت، فحاصل مَذْهَب مَالك أَنَّهَا تقع بَينهمَا بِغَيْر حكم حَاكم وَلَا تطليق. وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو عبيد وَزفر بن هزيل، وَعند الشَّافِعِي: تقع بالتعان الزَّوْج، وَاتفقَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر: أَن اللّعان حكمه وسنته الْفرْقَة بَين المتلاعنين، إِمَّا بِاللّعانِ وَإِمَّا بتفريق الْحَاكِم، على مَا ذكرنَا من مذاهبهم، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْمَدِينَة وَمَكَّة وكوفة وَالشَّام ومصر، وَقَالَ عُثْمَان البتي وَطَائِفَة من أهل الْبَصْرَة: إِذا تلاعنا لم ينقص اللّعان شَيْئا من الْعِصْمَة حَتَّى يُطلق الزَّوْج، قَالَ: وَأحب إِلَيّ أَن يُطلق، وَقَالَ الإشبيلي: هَذَا قَول لم يتقدمه أحد إِلَيْهِ. قلت: حكى ابْن جرير هَذَا القَوْل أَيْضا عَن أبي الشعْثَاء جَابر بن زيد، ثمَّ اخْتلفُوا أَن الْفرْقَة بَين المتلاعنين فسخ أَو تَطْلِيقَة؟ فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب: هِيَ طَلْقَة وَاحِدَة، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: هِيَ فسخ. الْعَاشِر: فِيهِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أصلا لقَوْله: (فَكَانَت سنة لمن كَانَ بعدهمَا) . الْحَادِي عشر: فِيهِ الِاعْتِبَار بالشبه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اعْتبر الشّبَه وَلَكِن لم يحكم بِهِ لأجل مَا هُوَ أقوى من الشّبَه، فَلذَلِك قَالَ فِي ولد وليدة زَمعَة لما رأى الشّبَه بِعَيْنِه احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة، وَقضى بِالْوَلَدِ للْفراش لِأَنَّهُ أقوى من الشّبَه، وَحكم بالشبه فِي حكم الْقَافة إِذْ لم يكن هُنَاكَ شَيْء أقوى من الشّبَه. الثَّانِي عشر: فِيهِ إِثْبَات التَّوَارُث بَينهَا وَبَين وَلَدهَا، يفهم ذَلِك من قَوْله: فَكَانَ بعد ينْسب إِلَى أمه. وَجَاء فِي حَدِيث يَأْتِي أصرح مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: ثمَّ جرت السّنة فِي الْمِيرَاث أَن يَرِثهَا وترث مِنْهُ مَا فرض الله لَهَا، وَهَذَا إِجْمَاع فِيمَا بَينه وَبَين الْأُم، وَكَذَا بَينه وَبَين أَصْحَاب الْفُرُوض من جِهَة أمه، وَبِه قَالَ الزُّهْرِيّ وَمَالك وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ أَحْمد: إِذا انْفَرَدت الْأُم أخذت جَمِيع مَاله بالعصوبة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا انْفَرَدت أخذت الْجَمِيع لَكِن الثُّلُث فرضا وَالْبَاقِي ردا على قَاعِدَته فِي إِثْبَات الرَّد. الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن شَرط اللّعان أَن يكون بَين الزَّوْجَيْنِ لِأَن الله خصّه بالأزواج بقوله: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} (النُّور: 6) فعلى هَذَا إِذا تزوج امْرَأَة نِكَاحا فَاسِدا ثمَّ قَذفهَا لم يلاعنها لعدم الزَّوْجِيَّة، وَقَالَ الشَّافِعِي: يلاعنها إِذا كَانَ الْقَذْف يَنْفِي الْوَلَد وَكَذَا لَو طلق امْرَأَته طَلَاقا بَائِنا أَو ثَلَاثًا ثمَّ قَذفهَا بِالزِّنَا لَا يجب اللّعان، وَلَو طَلقهَا طَلَاقا رَجْعِيًا ثمَّ قَذفهَا يجب اللّعان، وَلَو قَذفهَا بزنا كَانَ قبل الزَّوْجِيَّة فَعَلَيهِ اللّعان عندنَا لعُمُوم الْآيَة، خلافًا للشَّافِعِيّ، وَلَو قذف امْرَأَته بعد مَوتهَا لم يُلَاعن عندنَا، وَعند الشَّافِعِي يُلَاعن على قبرها. الرَّابِع عشر: فِيهِ سُقُوط الْحَد عَن الرجل وَذَلِكَ لأجل أيمانه سقط الْحَد. الْخَامِس عشر: فِيهِ أَن شَرط وجوب اللّعان عدم إِقَامَة الْبَيِّنَة لقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} حَتَّى لَو أقامهم الزَّوْج عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَا يجب اللّعان ويقام عَلَيْهَا الْحَد. السَّادِس عشر: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن شَرط وجوب اللّعان إِنْكَار الْمَرْأَة وجود الزِّنَا، حَتَّى لَو أقرَّت بذلك لَا يجب اللّعان ويلزمها حد الزِّنَا الْجلد إِن كَانَت غير مُحصنَة، وَالرَّجم إِذا كَانَت مُحصنَة، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
2 - (بابٌ: {والخامِسَةُ أنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ} (النُّور: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالْخَامِسَة} ... الْآيَة. قَوْله: (وَالْخَامِسَة) أَي: الشَّهَادَة الْخَامِسَة، وَهِي بعد أَربع شَهَادَات كَمَا هِيَ مَعْرُوفَة فِي موضعهَا، وقرىء: أَن لعنة الله و: أَن غضب الله، على تَخْفيف: أَن، وَرفع مَا بعْدهَا. وقرىء: أَن غضب الله، بِكَسْر الضَّاد وعَلى فعل الْغَضَب، وقرىء بِنصب الخامستين على معنى: وَيشْهد الْخَامِسَة.
6474 - حدَّثني سُلَيْمانُ بنُ دَاوُدَ أبُو الرَّبِيعِ حَدثنَا فُلَيْحٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أنَّ رجُلاً أتَى رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ رَجُلاً رَأْي مَعَ امْرَأتِهِ رجُلاً أيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فأنْزَلَ الله فِيهِما مَا ذُكِرَ فِي القُرْآنِ مِنَ التّلاَعُنِ فَقَالَ لَهُ رسولُ الله(19/76)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ قُضِيَ فِيكَ وَفِي امْرَأتِكَ قَالَ فَتَلاعَنا وَأَنا شاهِدٌ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفارَقَها فَكانَتْ سُنَّةً أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ المُتَلاَعِنَيْنِ وكانَتْ حامِلاً فأنْكَرَ حَمْلَها وكانَ ابْنَها يُدْعَى إلَيْها ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي المِيرَاثِ أنْ يَرِثَها وتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ الله لَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَأنْزل الله فِيهَا) . وفليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام: ابْن سُلَيْمَان أَبُو يحيى الْخُزَاعِيّ وَكَانَ اسْمه عبد الْملك ولقبه فليح.
والْحَدِيث رُوِيَ عَن سهل بطريقين: أَحدهمَا: عَن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَقد مر. وَالْآخر: عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله، ولنذكر مَا لم يذكر فِيهِ.
فَقَوله: (أَن رجلا) هُوَ: عُوَيْمِر الْعجْلَاني. قَوْله: (قد قضي فِيك وَفِي امْرَأَتك) الْقَضَاء فيهمَا هُوَ بِآيَة اللّعان الَّتِي نزلت. قَوْله: (فَتَلَاعَنا) ، فِيهِ حذف كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث الْمَاضِي تَقْدِيره: قذف امْرَأَته وَأنْكرت هِيَ الزِّنَا وأصر كل وَاحِد مِنْهُمَا على قَوْله ثمَّ تلاعنا. قَوْله: (ففارقها) ، وَفِي رِوَايَة: فَطلقهَا ثَلَاثًا، قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ففارقها عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة: لَاعن ثمَّ لاعنت ثمَّ فرق بَينهمَا، وَفِي رِوَايَة قَالَ: لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا. قَوْله: (فَكَانَت) ، أَي: الْمُلَاعنَة (سنة التَّفْرِيق بَينهمَا) وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة وَقد تَأَوَّلَه ابْن نَافِع الْمَالِكِي على أَن مَعْنَاهُ اسْتِحْبَاب ظُهُور الطَّلَاق بعد اللّعان. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْجُمْهُور: مَعْنَاهُ حُصُول الْفرْقَة بِنَفس اللّعان، قُلْنَا: معنى الْجَواب عَن هَذَا فِيمَا مضى أَنه لَا بُد من حكم الْحَاكِم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعويمر بعد اللّعان: فَطلقهَا. قَوْله: (وَكَانَت حَامِلا فَأنْكر) أَي: الرجل أنكر (حملهَا) فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْمُلَاعنَة بِالْحملِ، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن أبي ليلى وَمَالك وَأَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة، فَافْهَم. قَالُوا: من نفى حمل امْرَأَته لَا عَن بَينهمَا القَاضِي، وَألْحق الْوَلَد بِأُمِّهِ. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَابْن الْمَاجشون من أَصْحَاب مَالك وزفرين الْهُذيْل: لَا تلاعن بِالْحملِ، وَسَوَاء عِنْد أبي حنيفَة وَزفر ولدت بعد النَّفْي لتَمام سِتَّة أشهر أَو قبلهَا، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد: إِن ولدت لأَقل من سِتَّة أشهر مُنْذُ نَفَاهُ وَجب عَلَيْهِ اللّعان لِأَنَّهُ حينئذٍ يتَيَقَّن بِوُجُودِهِ عِنْد النَّفْي ولأكثر مِنْهَا احْتمل أَن يكون حمل حَادث، وَبِه قَالَ مَالك، إلاَّ أَنه يشْتَرط عدم وَطئهَا بعد النَّفْي، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث: أَن اللّعان فِيهِ كَانَ بِالْقَذْفِ لَا بِالْحملِ وَلِأَنَّهُ يجوز أَن يكون حملا لِأَن مَا يظْهر من الْمَرْأَة مِمَّا يتَوَهَّم بِهِ أَنَّهَا حَامِل لَيْسَ يعلم أَنه حمل على حَقِيقَته إِنَّمَا هُوَ توهم، فنفي المتوهم لَا يُوجب اللّعان. قَوْله: (ثمَّ جرت السّنة)
إِلَى آخِره، قد مر حَاصله فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَقد أجمع الْعلمَاء على جَرَيَان التورات بَينه وَبَين أَصْحَاب الْفُرُوض من جِهَة أمه وهم: إخْوَته وأخواته من أمه وجداته من أمه، ثمَّ إِذا دفع إِلَى أمه فَرضهَا أَو إِلَى أَصْحَاب الْفُرُوض وَيبقى شَيْء فَهُوَ لموَالِي أمه إِن كَانَ عَلَيْهَا وَلَاء، وَإِن لم يكن يكون لبيت المَال عِنْد من لَا يرى بِالرَّدِّ وَلَا بتوريث ذَوي الْأَرْحَام، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
3 - (بابٌ قَوْلُهُ: {ويَدْرَأُ عَنْها العَذَابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهادَاتٍ بِاللَّه إنّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ} (النُّور: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} أَي: وَيدْفَع عَن الزَّوْجَة الْحَد بِأَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه وَإنَّهُ أَي: أَن الزَّوْج.
7474 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيّ عنْ هِشام بنِ حَسَّانَ حدّثنا عِكْرَمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ هلاَلَ بنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرِيكِ بنِ سَحْماءَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البَيِّنَةَ أوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ يَا رسولَ الله إِذا رَأى أحَدُنا عَلَى امْرأتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ البَيِّنَةَ وإلاَّ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ هِلاَلٌ والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ إنِّي لَصَادِقٌ فليُنْزِلَنَّ الله(19/77)
مَا يُبرِّي ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وأنْزَلَ عَلَيْهِ والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ فَقَرَأ حَتَّى بَلَغَ إنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فانْصَرَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرْسَلَ إلَيْها فَجاءَ هِلاَلٌ فَشَهِدَ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ إنَّ الله يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُما تائِبٌ ثُمَّ قامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمّا كانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ وقّفُوها وقالُوا إنّها مُوجِبَةٌ. قَالَ ابنُ عَبّاسٍ فَتَلَكّأتْ ونَكَصَتْ حَتّى ظَنَنّا أنّها تَرْجِعُ ثُمَّ قالَتْ لَا أفْضَحُ قَوْمِي سائرَ اليَوْمِ فَمَضَتْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبْصِرُوها فإِنْ جاءَتْ بِهِ أكْحَلَ العَيْنَيْنِ سابِغَ الألْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهْوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحْماءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذالِكَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتابِ الله لَكانَ لِي ولَها شَأْنٌ.
(انْظُر الحَدِيث 1762 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من الْآيَة وَهِي: {وَالَّذين يرْمونَ} (النُّور: 6) وَابْن عدي مُحَمَّد، وَاسم أبي عدي إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ. والْحَدِيث بِعَيْنِه إِسْنَادًا ومتناً قد مر فِي كتاب الشَّهَادَة فِي: بَاب إِذا ادّعى أَو قذف فَلهُ أَن يلْتَمس الْبَيِّنَة، وَلَكِن إِلَى قَوْله: أوحد فِي ظهرك، فَذكر حَدِيث اللّعان، ولنذكر هُنَا تَفْسِير بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة، ولنذكر أَيْضا بعض مَعَاني مَا زَاد على مَا هُنَالك.
فَقَوله: (أَن هِلَال بن أُميَّة) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الوَاقِفِي، بِكَسْر الْقَاف وبالفاء: الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين تخلفوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك وتيب عَلَيْهِم. قَوْله: (بِشريك ابْن سَحْمَاء) ، وَهُوَ إسم أمه، وَأما أَبوهُ فَهُوَ عَبدة ضد الْحرَّة الْعجْلَاني وَهُوَ ابْن عَاصِم بن عدي، وَامْرَأَته وَامْرَأَة هِلَال خَوْلَة بنت عَاصِم. قَوْله: (الْبَيِّنَة) ، بِالنّصب وَالرَّفْع، أما النصب فعلى تَقْدِير: أحضر الْبَيِّنَة، وَأما الرّفْع فعلى تَقْدِير: إِمَّا الْبَيِّنَة وَإِمَّا حد، وَقيل: التَّقْدِير. وَإِن لم يحضر الْبَيِّنَة فجزاؤك حد فِي ظهرك، وَمثل هَذَا الْحَذف لم يذكرهُ النُّحَاة إلاَّ فِي ضَرُورَة الشّعْر، وَيرد عَلَيْهِم مَا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح. قَوْله: (مَا يبرىء) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة وَهِي فِي مَحل النصب على المفعولية. قَوْله: (فَشهد) ، أَي: بالشهادات اللعانية. أَي: لَاعن الزَّوْج. قَوْله: (وَشهِدت) ، أَي: الْمَرْأَة أَربع شَهَادَات. قَوْله: (عِنْد الْخَامِسَة) ، أَي: الْمرة الْخَامِسَة. قَوْله: (إِنَّهَا مُوجبَة) أَي: للعذاب الْأَلِيم إِن كَانَت كَاذِبَة. قَوْله: (فتلكأت) ، على وزن: تفعلت، يُقَال: تلكأ الرجل عَن الْأَمر أَي تبطأ عَنهُ وَتوقف، ومادته: لَام وكاف وهمزة. قَوْله: (وَنَكَصت) ، من النكوص وَهُوَ الإحجام عَن الشَّيْء. قَوْله: (فمضت) ، أَي: فِي تَمام اللّعان. قَوْله: (أكحل الْعَينَيْنِ) هُوَ أَن يَعْلُو جفون الْعين سَواد مثل الْكحل من غير اكتحال. قَوْله: (سابغ الأليتين) السابغ التَّام الضخم. قَوْله: (خَدلج السَّاقَيْن) أَي: عظيمهما، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (شَأْن) ، يُرِيد بِهِ الرَّجْم أَي: لَوْلَا أَن الشَّرْع أسقط الرَّجْم عَنْهَا لحكمت بِمُقْتَضى المشابهة ولرجمتها، وَبَقِيَّة الْكَلَام من الْأَحْكَام وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب قد مَضَت عَن قريب، وَالله أعلم.
4 - (بابُ قَوْلِهِ: {والخامسَةُ أنَّ غَضَبَ الله عَلَيْها إنْ كانَ منَ الصَّادِقِينَ} (النُّور: 9)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَامِسَة} أَي: الشَّهَادَة الْخَامِسَة، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر فِي قَوْله: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله} (النُّور: 7) .
8474 - حدَّثنا مُقَدَّمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى حَدثنَا عَمِّي القاسِمُ بنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ الله وقَدْ سَمِعَ مِنْهُ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رجُلاً رَمَى امْرَأتَهُ فانْتَفَى مِنْ وَلَدِها فِي زَمانِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ بِهِما رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَلاَعَنَا كَما قَالَ الله ثمَّ قَضي بالوَلَدِ لِلْمَرْأةِ وفَرَّقَ بَيْنَ المُتلاَعِنَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَتَلَاعَنا) ، كَمَا قَالَ الله ومقدم، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد الدَّال الْمَفْتُوحَة وبالميم: ابْن مُحَمَّد بن يحيى الْهِلَالِي الوَاسِطِيّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا وَآخر فِي التَّوْحِيد، يروي عَن عَمه الْقَاسِم بن يحيى وَهُوَ ثِقَة وَلَيْسَ(19/78)
لَهُ عِنْد البُخَارِيّ سوى الْحَدِيثين الْمَذْكُورين، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ. والْحَدِيث من افراده.
قَوْله: (وَقد سمع مِنْهُ) من كَلَام البُخَارِيّ. قَوْله: (أَن رجلا) ، هُوَ الْعجْلَاني، وَفِيه من زِيَادَة الْأَحْكَام: نفي الْوَلَد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَفرق بَين المتلاعنين) احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة أَن بِمُجَرَّد اللّعان لَا يحصل التَّفْرِيق وَلَا بُد من حكم حَاكم وَهُوَ حجَّة على من يَقُول: تحصل الْفرْقَة بِمُجَرَّد اللّعان.
5
- (بابٌ قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ جاؤُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النُّور: 11) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله: عز وَجل: (إِن الَّذين جاؤوا)
الْآيَة، وَاقْتصر أَبُو ذَر فِي هَذَا على قَوْله: (بَاب إِن الَّذين جاؤوا بالإفك عصبَة مِنْكُم) ، وَغَيره سَاق الْآيَة كلهَا، أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَن هَذِه الْآيَة، وَمَا يتَعَلَّق بهَا بعْدهَا نزلت فِي قصَّة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَوْله: (بالإفك) أَي: بِالْكَذِبِ، وَيُقَال: الْإِفْك أَسْوَأ الْكَذِب وأقبحه مَأْخُوذ من أفك الشَّيْء إِذا قلبه عَن وَجهه، فالإفك هُوَ الحَدِيث المقلوب عَن وَجهه، وَمعنى الْقلب هُنَا أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، كَانَت تسْتَحقّ الثَّنَاء بِمَا كَانَت عَلَيْهِ من الحصانة وَشرف النّسَب لَا الْقَذْف، فَالَّذِينَ رموا بالسوء قلبوا الْأَمر عَن وَجهه فَهُوَ إفْك قَبِيح وَكذب ظَاهر. قَوْله: (عصبَة) ، أَي: جمَاعَة، قَالَ الْفراء: الْجَمَاعَة من الْوَاحِد إِلَى الْأَرْبَعين، وَيُقَال: من الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين. قَوْله: (مِنْكُم) ، خطاب للْمُسلمين وهم عبد الله بن أبي رَأس الْمُنَافِقين وَزيد بن رِفَاعَة وَحسان بن ثَابت ومسطح بن أَثَاثَة وَحمْنَة بنت جحش وَمن ساعدهم. قَوْله: (لَا تحسبوه شرا لكم) ، أَي: لَا تحسبوا الْإِفْك أَو الْقَذْف أَو الْمَجِيء بالإفك أَو مَا نالكم من الْغم، وَالْخطاب للْمُؤْمِنين الَّذين ساءهم ذَلِك وخاصة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعَائِشَة وَصَفوَان بن الْمُعَطل {شرا لكم بل هُوَ خير لكم} لِأَن الله يَأْجُركُمْ على ذَلِك الْأجر الْعَظِيم وَتظهر براءتكم وَينزل فِيكُم ثَمَانِيَة عشر آيَة كل وَاحِدَة مِنْهَا مُسْتَقلَّة بِمَا هُوَ تَعْظِيم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتسلية لَهُ وتبرئة لأم الْمُؤمنِينَ وتطهير لأهل الْبَيْت وتهويل لمن تكلم فِي ذَلِك. قَوْله: (لكل امرىء مِنْهُم) ، أَي: من الَّذين جاؤوا بالإفك (مَا اكْتسب من الْإِثْم) جَزَاء مَا اجترح من الذَّنب وَالْمَعْصِيَة. قَوْله: (الَّذِي تولى كبره) أَي: عظمه وَبَدَأَ بِهِ وَهُوَ عبد الله بن أبي، وَقيل: حسان بن ثَابت، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: حسان ومسطح وَحمْنَة هم الَّذين توَلّوا كبره ثمَّ فضى ذَلِك فِي النَّاس.
أفَّاكٌ كَذَّابٌ
أفاك على وزن فعال للْمُبَالَغَة، وَفَسرهُ بقوله: (كَذَّاب) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
9474 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ مَعْمَرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، {والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَة} قالَتْ عَبْدُ الله بنُ أبَيّ ابنُ سَلُولَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقد صرح بِهِ ابْن مرْدَوَيْه من وَجه آخر عَن أبي نعيم شيخ البُخَارِيّ وَفِيه معمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد وَهُوَ من أَفْرَاده. قَوْله: (كبره) بِضَم الْكَاف وَكسرهَا أَي: كبر الْإِفْك، وَقد مر تَفْسِيره. قَوْله: (ابْن سلول) ، بِرَفْع الابْن لِأَنَّهُ صفة لعبد الله لَا: لأبي، وسلول غير منصرف لِأَنَّهُ إسم أم عبد الله للتأنيث والعلمية، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
6 - (بابٌ: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بأنْفُسِهِمْ خَيْراً} إِلَى قَوْله: {الكاذِبونَ} (النُّور: 11 21) . {ولوْلاَ إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحانَكَ هاذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ} (النُّور: 61) {لوْلاَ جاؤُوا عَلَيْهِ بأرْبَعَةِ شُهَداءَ فإذْ لَمْ يأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فأُولِّئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكاذِبُونَ} (النُّور: 31)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لَوْلَا إِذْ سمعتموه} إِلَى آخر مَا ذكره، وَوَقع عِنْد أبي ذَر الْآيَة الأولى هَكَذَا: {لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا} إِلَى قَوْله: {الْكَاذِبُونَ} وَعند غير موقع الْآيَتَانِ المذكورتان غير متواليتين(19/79)
الأولى. قَوْله: {وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه قُلْتُمْ} (النُّور: 61) الْآيَة. وَالثَّانيَِة قَوْله: {لَوْلَا جاؤوا عَلَيْهِ} (النُّور: 31) إِلَى آخر الْآيَة، وَوَقع عِنْد النَّسَفِيّ الْآيَة الْأَخِيرَة فَقَط، وَتَمام الْآيَة الأولى: {بِأَنْفسِهِم خيرا وَقَالُوا هَذَا أفك مُبين لَوْلَا جاؤوا عَلَيْهِ} إِلَى قَوْله: {الْكَاذِبُونَ} (النُّور: 21 31) . قَوْله: (لَوْلَا إِذْ سمعتموه) أَي: هلا، للتحريض أَي: حِين سَمِعْتُمْ الْإِفْك. قَوْله: (ظن الْمُؤْمِنُونَ) فِيهِ الْتِفَات من الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة لِأَن الأَصْل: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمْ ظننتم وقلتم، وَذَلِكَ للتوبيخ، وَقيل: تَقْدِير الْآيَة: هلا ظننتم كَمَا ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات؟ قَوْله: (بِأَنْفسِهِم) وَقيل: بأهلهم وأزواجهم وَقيل: هلا ظنُّوا بهَا مَا يظنّ بِالرجلِ لَو خلا بِأُمِّهِ وَالْمَرْأَة لَو خلت بابنها، لِأَنَّهُ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (وَقَالُوا) أَي: هلا قُلْتُمْ هَذَا إفْك مُبين أَي: كذب ظَاهر. قَوْله: (وَلَوْلَا إِذْ سمعتوه قُلْتُمْ) أَي: هلا إِذْ سمعتموه قُلْتُمْ: مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا أَي لَا يحل لنا أَن نَخُوض فِي هَذَا الحَدِيث وَمَا يَنْبَغِي لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ، للتعجب من عظم الْأَمر. قَوْله: (بهتان) هُوَ كذب يواجه بِهِ الْمُؤمن فيتحير مِنْهُ قَوْله: (لَوْلَا جاؤوا عَلَيْهِ) أَي: هلا جاؤوا، وَلَو كَانُوا صَادِقين (بأَرْبعَة شُهَدَاء) فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ (فَأُولَئِك عِنْد الله) أَي فِي حِكْمَة (هم الْكَاذِبُونَ) فِيمَا قَالُوهُ.
0574 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ وعَلْقَمَةُ بنُ وقّاصٍ وعُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ عَن حدِيثِ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ قَالَ لَها أهْلُ الإفكِ مَا قالُوا فَبَرَّأها الله مِمَّا قالُوا وكلٌّ حدّثني طائِفَةً مِنَ الحَدِيثِ وبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضاً وإنْ كانَ بَعْضُهُمْ أوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ الَّذِي حدّثني عُرْوَةُ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالتْ كانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ أقْرَعَ بَيْنَ أزْوَاجِهِ فأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُها خَرَجَ بهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَهُ قالَتْ عائِشَةُ فأقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزاها فَخَرَجَ سَهْمي فَخَرَجْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ مَا نَزَلَ الحِجابُ فَأَنا أحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنا حَتَّى إِذا فَرَغَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وقَفَلَ ودَنَوْنا مِنَ المَدِينَةِ قافِلِينَ آذنَ لَيْلَةً بالرَّحِيلِ فقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بالرَّحِيلِ فَمَشَيْت حَتَّى جاوَزْتُ الجَيْشَ فَلَمّا قَضَيْتُ شأْنِي أقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفارِ قَدِ انْقَطَعَ فالْتَمَسْتُ عِقْدِي وحَبَسَنِي ابْتِغاؤُهُ وأقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كانُوا يَرْحَلُونَ لي فاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وهُمْ يَحْسِبُونَ أنِّي فِيهِ وكانَ النِّساءُ إِذْ ذَاك خِفافاً لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ إنَّما تأكُلُ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعامِ فلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ خِفَّةَ الهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وكُنْتُ جارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجَمَلَ وسارُوا فوجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ فجِئْتُ مَنازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ فأمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إليَّ فَبَيْنا أَنا جالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وكانَ صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ السلَمِيُّ ثُمَّ الذكْوَانيُّ مِنْ ورَاءِ الجَيْشِ فأدْلَجَ فأصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأى سَوَادَ إنْسانٍ نائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وكانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجابِ فاسْتَيْقَظْتُ باسْتِرْجاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبابي وَالله مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أناخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطىءَ عَلَى يَدَيْها(19/80)
فَرَكِبْتُها فانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أتَيْنا الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مِنْ هَلَكَ وكانَ الَّذِي تَوَلَّى الإفْكَ عَبْدَ الله بنَ أُبَيّ ابنَ سَلُولَ فَقَدِمْنا المَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْراً والنّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أصْحابِ الإفْكِ لَا أشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذالِكَ وَهْوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعي أنِّي لَا أعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أرَي مِنْهُ حِينَ أشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُلُ عَليَّ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيْسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُني وَلَا أشْعُرُ بالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ فَخَرَجَتْ معي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَناصعِ وهُوَ مُتَبَرَّزُنا وكُنّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلاً إِلَى لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ وذلِكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيباً مِنْ بُيُوتِنا وأمْرُنا أمْرُ العَرَبِ الأول فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الغَائِطِ فكُنَّا نَتأذَّى بالكُنُفِ أَن نَتَّخِذَها عِنْدَ بُيُوتِنا فانْطَلَقْتُ أَنا وأُمُّ مِسْطَحٍ وهْيَ بِنْتُ أبي رُهْمِ بنِ عَبْدِ مَنافٍ وأُمُّها بِنْتُ صَخْرِ بنِ عامِرٍ خالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق وابْنُها مسْطَحُ بنُ أثاثةَ فأقْبَلْتُ أَنا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي قَدْ فَرَغْنا مِنْ شأنِنا فَعَثَرَتْ أُمُّ مسْطحٍ فِي مِرْطِها فقالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَها بِئْسَ مَا قُلْتِ أتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً قالَتْ أيْ هَنْتاهْ أوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ قالَتْ قُلْتُ وَمَا قَالَ قالَتْ فأخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ فازْدَدْتُ مَرَضاً عَلَى مَرَضِي فَلَمّا رَجعْتُ إِلَى بَيْتِي ودَخَلَ عَليَّ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْنِي سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ فَقُلْتُ أتأذَنُ لي أنْ آتِيَ أبَوَيَّ قَالَتْ وَأَنا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أنْ أسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلهِما قالَتْ فأذِنَ لي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجِئْتُ أبَوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي يَا أُمَّتاهُ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ قالَتْ يَا بُنَيّةُ هَوِّني عَلَيْكِ فوَالله لقَلَّما كانَتِ امْرَأةٌ قَطُّ وضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّها وَلَها ضَرَائِرُ إلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْها قالَتْ فَقُلْتُ سُبْحانَ الله وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النّاسُ بِهاذا قالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتَّى أصْبَحْتُ لَا يَرْقأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أصْبَحْتُ أبْكِي فَدَعا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيَّ بنَ أبي طالِبٍ وأُسامَةَ بنَ زَيْدٍ رضيَ الله عَنْهُمَا حِينَ اسْتلْبَثَ الوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُما فِي فِرَاق أهلِهِ قالَتْ فأمَّا أُسامَةُ بنُ زَيْدٍ فأشارَ عَلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أهْلِهِ وبالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ فَقَالَ يَا رسولَ الله أهْلُكَ وَمَا نَعْلَمُ إلاّ خَيْراً وأمَّا عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ فَقَالَ يَا رسولَ الله لَمْ يضَيِّقِ الله عَلَيْكَ والنِّساء سِوَاها كَثِيرٌ وإنْ تَسْألِ الجارِيَةَ تَصْدُقْكَ قالَتْ فَدَعا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرِيرَةَ فَقَالَ أيْ برِيرَةُ هَلْ رأيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ قالَتْ بَرِيرَةُ لَا والّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ إنْ رَأيْتُ عَلَيْها أمْراً أغْمصُهُ عَلَيْها أكْثَرَ مِنْ أنّها جارِيةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنامُ عنْ عجِينِ أهْلِها فَتأتِي الدَّاجنُ فَتأكُلُهُ فقامَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ الله بنِ أبَيّ ابنِ سَلولَ قالَتْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ عَلَى المِنْبَرِ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مِنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أذَاهُ فِي أهْلِ بَيْتِي(19/81)
فوَاللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي إلاّ خَيْراً وَلَقَدْ ذَكَرُوا رجلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلاّ خَيْراً وَمَا كانَ يَدْخُلُ عَلَى أهْلِي إلاّ مَعِي فَقامَ سَعْدُ بنُ مُعاذٍ الأنصارِيُّ فَقَالَ يَا رسولُ الله أَنا أعْذِرُكَ مِنْهُ إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وإنْ كانَ مِنْ إخْوَانِنا مِنَ الخَزْرَجِ أمَرْتَنا فَفَعَلْنا أمْرَكَ قالَتْ فقامَ سَعْدُ بنُ عُبادَةَ وَهْوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ وكانَ قَبْلَ ذالِكَ رَجُلاً صالِحاً ولاكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لاَ تَقْتُلُهُ ولاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتله فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ وهُوَ ابنُ عَمِّ سَعْدٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ عُبادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لَنَقْتُلَنَّهُ فإنَّكَ مُنافقٌ تُجادِلُ عَنِ المُناقِقِينَ فَتَثاوَر الحَيَّانِ الأوْسُ والخَزْرَجُ حَتّى هَمُّوا أنْ يَقْتَتِلُوا ورسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ قالَتْ فَمَكُثْتُ يَوْمِي ذالِكَ لَا يَرْقَأ لي دَمْعٌ وَلَا أكْتَحِلُ بِنَوْمِ قالَتْ فأصْبَحَ أبَوَايَ عِنْدِي وقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْماً لَا أكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ يَرْقأُ لي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أنَّ البُكاءَ فالِقٌ كَبِدِي قالَتْ فَبَيْنَما هُما جالِسان عِنْدِي وَأَنا أبْكِي فاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ فأذِنْتُ لَها فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قالَتْ فَبَيْنا نَحْنُ عَلَى ذالِكَ دَخَلَ عَلَيْنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قالتْ ولَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَها وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لاَ يُوحَى إلَيْهِ فِي شأْنِي قالَتْ فَتَشهَّدَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أمّا بَعْدُ يَا عائِشَةُ فإنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذَا فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي الله وتُوبِي إلَيْهِ فإِنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تابَ إِلَى الله تابَ الله عَلَيْهِ قالَتْ فَلَمَّا قَضَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأبِي أجِبْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيما قَالَ قَالَ وَالله مَا أدْرِي مَا أقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ لأمِّي أجِيبِي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ مَا أدْرِي مَا أقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ فَقُلْتُ وَأَنا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أقْرَأُ كَثِيراً مِنَ القُرْآنِ إنِّي وَالله لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هاذَا الحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أنْفسِكمْ وصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلِئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إنِّي بَرِيئَةٌ وَالله يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذالِكَ وَلِئَنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بأمْرٍ وَالله يَعْلَمُ أنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِي وَالله مَا أجِدُ لَكُمْ مَثَلاً إلاّ قَوْلَ أبي يُوسُفَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله المُسْتَعانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يُوسُف: 81) قالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قالَتْ وَأَنا حِنَئِذٍ أعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ وأنَّ الله يُبَرِّئُني بِبَرَاءَتِي ولاكِنْ وَالله مَا كُنْتُ أظُنُّ أنَّ الله مُنْزِلٌ فِي شأْني وَحْياً يُتْلَى ولَشَأْني فِي نَفْسي كانَ أحْقَرَ مِنْ أنْ يَتَكَلَّمَ الله فِيَّ بأمْر يُتْلَى ولاكِنْ كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيا يُبَرِّئُنِي الله بِها قالَتْ فَوَالله مَا رَامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ خَرَجَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ البَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عليهِ فأخَذَهُ مَا كانَ يأخُذُهُ مِنَ البُرَحاءِ حَتَّى إنّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمانِ مِنَ العَرَقِ وهْوَ فِي يَوْمٍ شاتٍ مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ(19/82)
الّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قالتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُرِّي عَنْهُ وَهْوَ يَضْحَكُ فَكانَتْ أوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها يَا عائِشَةُ أمَّا الله عَزَّ وجَلَّ فَقَدْ بَرَّاكِ فقالَتْ أُمِّي قُومِي إلَيْهِ قالَتْ فَقُلْتُ وَالله لَا أقُومُ إلَيْهِ ولاَ أحْمَدُ إلاَّ الله عَزَّ وجَلَّ وأنْزَلَ الله: {إنَّ الّذِينَ جاؤُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ} (النُّور: 11) العَشْرَ الآياتِ كُلَّها فَلَمَّا أنْزَلَ الله هاذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أبُو بَكْر الصِّدِّيقُ رَضِي الله عَنهُ وكانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بنِ أُثاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وفَقْرِهِ وَالله لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئاً أبَداً بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعائِشَةَ مَا قَالَ فأنْزَلَ الله: {وَلَا يأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أنْ يُؤْتوا أُولى القُرْبى والمَساكِينَ والمُهاجِرينَ فِي سَبِيلِ الله ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا ألاَ تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النُّور: 22) . قَالَ أبُو بَكْرٍ: بَلَى وَالله إنِّي أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ الله لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَالله لَا أنْزِعُها مِنْهُ أبَداً قالَتْ عائِشَةُ وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسألُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عنْ أمْرِي فَقَالَ يَا زَيْنَبُ ماذَا عَلِمْتِ أوْ رَأيْتِ فقالَتْ يار سولَ الله أحْمِي سَمْعِي وبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إلاّ خَيْراً قالَتْ وهْيَ الّتي كانَتْ تُسامِينِي مِنْ أزْواجِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَصَمَها الله بالوَرَعِ وطَفِقَتْ أُخْتُها حَمْنَةُ تُحارِبُ لَها فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أصْحابِ الإفْكِ..
هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مطولا ومختصراً فِي عدَّة مَوَاضِع ذَكرنَاهَا فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب تَعْدِيل النِّسَاء بَعضهنَّ بَعْضًا وَذكرنَا أَيْضا مَا يتَعَلَّق بالمعاني وَغَيرهَا هُنَاكَ ولنذكر هُنَا بعض شَيْء.
قَوْله: (وكل حَدثنِي طَائِفَة) أَي: بَعْضًا، قَالَ عِيَاض: انتقدوا على الزُّهْرِيّ مَا صنعه من رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث مُلَفقًا عَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة، وَقَالُوا: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يفرد حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُم عَن الآخر. انْتهى. قد ذكرنَا هُنَاكَ مَا فِيهِ جَوَاب عَمَّا قَالُوهُ. قَوْله: (عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن عَائِشَة قَالَت) لَيْسَ المُرَاد أَن عَائِشَة تروي عَن نَفسهَا، بل معنى قَوْله: عَن عَائِشَة، أَي: عَن حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة الْإِفْك، ثمَّ شرع يحدث عَن عَائِشَة، فَقَالَ: إِن عَائِشَة قَالَت ... وَوَقع فِي رِوَايَة فليح: أَن عَائِشَة قَالَت ... والزعم قد موقع القَوْل. قَوْله: (فِي غَزْوَة غَزَاهَا) هِيَ غَزْوَة بني المصطلق. قَوْله: (فَخرج سهمي) هَذَا يشْعر بِأَنَّهَا كَانَت فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَحدهَا، ويروى عَن الْوَاقِدِيّ أَن أم سَلمَة أَيْضا كَانَت فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَهُوَ ضَعِيف. قَوْله: (بَعْدَمَا نزل الْحجاب) ، أَي: بَعْدَمَا نزل الْأَمر بالحجاب، وَالْمرَاد حجاب النِّسَاء عَن رُؤْيَة الرِّجَال لَهُنَّ وَكن قبل ذَلِك لَا يمنعن. قَوْله: (فسرنا، حَتَّى إِذا فرغ) فِيهِ حذف تَقْدِيره: فسرنا وغنمنا أَمْوَالهم وأنفسهم إِلَى أَن فرغ. قَوْله: (لم يثقلن) ، من التثقيل، وَفِي رِوَايَة فليح: لم يثقلهن لم يغشهن اللَّحْم، وَفِي رِوَايَة معمر: لم يهبلهن، وَحكى ابْن الْجَوْزِيّ أَن ابْن الخشاب ضَبطه بِفَتْح أَوله وَسُكُون الْهَاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ بضَمهَا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور فِي ضَبطه ضم أَوله وَفتح الْهَاء وَتَشْديد الْمُوَحدَة وبفتح أَوله وثالثه أَيْضا وبضم أَوله وَكسر ثالثه من الرباعي، يُقَال: هبله اللَّحْم وأهبله إِذا أثقله وَأصْبح فلَان مهبلاً أَي كثير اللَّحْم. قَوْله: (إِنَّمَا نَأْكُل) ، بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر وَهِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: إِنَّمَا يأكلن. قَوْله: (خفَّة الهودج) ، وَوَقع فِي رِوَايَة فليح وَمعمر: ثقل الهودج، وَالْأول أوضح. قَوْله: (حَدِيثه السن) ، لِأَنَّهَا حينئذٍ لم تكمل خمس عشرَة سنة. قَوْله: (فأممت) ، أَي: قصدت، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر هُنَا بتَشْديد الْمِيم الأولى. قَوْله: (بَعْدَمَا اسْتمرّ الْجَيْش) ، أَي: بَعْدَمَا مر الْجَيْش أَي ذَهَبُوا ماضين السِّين فِيهِ زَائِدَة. قَوْله: (سيفقدوني) هَذَا فِي رِوَايَة فليح بنُون وَاحِدَة، وَفِي رِوَايَة غَيره بنونين لعدم الْجَازِم والناصب، وَالْأولَى لُغَة. قَوْله: (فيرجعون إِلَيّ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة معمر: فيرجعوا، بِغَيْر نون وَقد قُلْنَا: إِنَّه لُغَة. قَوْله: (غير استرجاعه) ، وَهُوَ قَوْله: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. قَوْله: (موغرين) ، بالغين الْمُعْجَمَة وبالراء أَي: داخلين فِي شدَّة الْحر، من أوغر من الوغرة، وَهِي شدَّة الْحر، ويروى: مغورين، بِتَقْدِيم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْوَاو(19/83)
من التغوير وَهُوَ النُّزُول وَقت القائلة، وَفِي رِوَايَة فليح: معرسين، من التَّعْرِيس، من التَّعْرِيس وَهُوَ نزُول الْمُسَافِر فِي آخر اللَّيْل. قَوْله: (فِي نحر الظهيرة) ، بالنُّون أَي: فِي أَولهَا. قَوْله: (فاشتكيت) ، أَي: مَرضت. قَوْله: (شهرا) أَي: مُدَّة شهر. قَوْله: (فَهَلَك) ، أَي: بِسَبَب الْإِفْك وَمن فَاعله، وَزَاد صَالح فِي رِوَايَته: فِي شأني. قَوْله: (وَالنَّاس يفيضون) ، بِضَم الْيَاء من الْإِفَاضَة أَي: يَخُوضُونَ فِي القَوْل، يُقَال: أَفَاضَ فِي القَوْل إِذا أَكثر مِنْهُ. قَوْله: (وَهُوَ يريبني) ، بِفَتْح الْيَاء من الريب وَبِضَمِّهَا من الإرابة وَهُوَ التشكيك، يُقَال: رابه وأرابه. قَوْله: (اللطف) ، وَفِيه لُغَة بِفتْحَتَيْنِ. قَوْله: (كَيفَ تيكم) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهِي للمؤنث مثل: ذاكم للمذكر. قَوْله: (نقهت) ، بِفَتْح الْقَاف وَقد تكسر من نقه من مَرضه يَعْنِي أَفَاق وَلم تتكامل صِحَّته. قَوْله: (قبل المناصع) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء أَي: جِهَة المناصع وَهِي الْمَوَاضِع الْخَارِجَة عَن الْمَدِينَة يتبرزون فِيهَا. قَوْله: (متبرزنا) ، بِفَتْح الراءص قبل الزَّاي وَهُوَ مَوضِع التبرز. قَوْله: (الكنف) ، بضمنتين جمع: كنيف. قَوْله: (الأول) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو صفة الْعَرَب، وبفتح الْهمزَة وَتَشْديد الْوَاو صفة الْأَمر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَكِلَاهُمَا صَحِيح. قَوْله: (فِي التبرز) وَفِي رِوَايَة فليح: فِي الْبَريَّة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة أَو: فِي التَّنَزُّه، بِالشَّكِّ وَهُوَ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالزَّاي الْمُشَدّدَة وَهُوَ طلب النزاهة وَالْمرَاد الْبعد عَن الْبيُوت. قَوْله: (أم مسطح) ، اسْمهَا سلمى. قَوْله: (بنت أبي رهم) ، بِضَم الرَّاء وَاسم أبي رهم أنيس. قَوْله: (أَثَاثَة) ، بِضَم الْهمزَة وبثاءين مثلثتين مخففتين: ابْن عباد بن عبد الْمطلب وَهُوَ مطلبي من أَبِيه وَأمه، والمسطح عود من أَعْوَاد الخباء وَهُوَ لقب واسْمه عَوْف، وَقيل: عَامر، وَالْأول أصح. قَوْله: (أَي هنتاه) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون النُّون وَقد تفتح بعْدهَا تَاء مثناة من فَوق وَآخِرهَا سَاكِنة، وَقد تضم أَي: يَا هَذِه، وَقيل: يَا امْرَأَة، وَقيل: بلهاء كَأَنَّهَا نسبتها إِلَى قلَّة الْمعرفَة بمكائد النَّاس، وَهَذِه اللَّفْظَة تخْتَص بالنداء وَإِذا خُوطِبَ الْمُذكر قيل: ياهنة، وَحكي تَشْدِيد النُّون وَأنْكرهُ الْأَزْهَرِي. قَوْله: (وَدخل عَليّ) ، وَفِي رِوَايَة: فَدخل، قيل الْفَاء زَائِدَة وَالْأولَى أَن يُقَال فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَلَمَّا رجعت إِلَى بَيْتِي واستقررت فِيهِ فَدخل. قَوْله: (وضيئة) ، على وزن: عَظِيمَة، أَي: جميلَة حسناء من الْوَضَاءَة وَهِي الْحسن، وَفِي رِوَايَة مُسلم: حظيئة من الحظوة بالظاء الْمُعْجَمَة أَي: رفيعة الْمنزلَة. قَوْله: (ضرائر) جمع ضرَّة، وَقيل لِلزَّوْجَاتِ، ضرائر، لِأَن كل وَاحِدَة يحصل لَهَا الضَّرَر من الْأُخْرَى بالغيرة. قَوْله: (إلاَّ كثرن) بِالتَّشْدِيدِ من التكثير وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: أكثرن، أَي: أكثرن القَوْل فِي عيبها. قَوْله: (لَا يرقأ) ، بِفَتْح الْقَاف وبالهمزة أَي: لَا يسكن وَلَا يَنْقَطِع. قَوْله: (وَلَا أكتحل بنوم) إستعارة عَن السهر. قَوْله: (حِين استلبث الْوَحْي) ، وَالْوَحي بِالرَّفْع فَاعل: استلبث، ويحوز بِالنّصب على معنى استبطاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُزُوله. قَوْله: (يستأمرهما) ، أَي: يشتشيرهما. قَوْله: (فِي فِرَاق أَهله) ، وَلم يقل فِي فراقها لكَرَاهَة إِضَافَة التَّفْرِيق إِلَيْهَا صَرِيحًا. قَوْله: (أهلك) ذكر بِالرَّفْع أَي: هِيَ أهلك، وَعلم من هَذَا جَوَاز إِطْلَاق الْأَهْل على الزَّوْجَة، وَفِي رِوَايَة معمر: (هم أهلك) ، ذكر بِلَفْظ الْجمع للتعظيم وَيجوز النصب أَي: إلزم أهلك. قَوْله: (لم يضيق الله عَلَيْك) ، لم يقْصد عَليّ رَضِي الله عَنهُ، بِهَذَا الْكَلَام إِلَّا إسكان مَا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من القلق بِسَبَبِهَا وإلاَّ لم يكن فِي قلبه مِنْهَا شَيْء. قَوْله: (أغمصه) ، بغين مُعْجمَة وصاد مُهْملَة أَي: أعيبه. قَوْله: (الدَّاجِن) ، بِالْجِيم: هِيَ الشَّاة الَّتِي تقتني فِي الْبَيْت وَلَا تخرج إِلَى المرعى، وَقيل: كل مَا يقتني فِي الْبَيْت من شَاة أَو طير فَهُوَ دَاجِن. قَوْله: (فاستعذر يومئذٍ من عبد الله) أَي: طلب من يعذرهُ مِنْهُ، أَي: ينصفه. قَوْله: (ضربت عُنُقه) هَذَا فِي رِوَايَة صَالح بن كيسَان، وَفِي رِوَايَة غَيره، (ضربنا) بنُون الْجمع، قَوْله: (وَإِن كَانَ من إِخْوَاننَا من الْخَزْرَج) . كلمة: من. الأولى تبعيضية، وَالثَّانيَِة بَيَانِيَّة. قَوْله: (وَكَانَ قبل ذَلِك رجلا صَالحا) ، أَي: كَامِل الصّلاح وَلكنه تغير، يدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْوَاقِدِيّ: (وَكَانَ صَالحا لَكِن الْغَضَب بلغ مِنْهُ، وَمَعَ ذَلِك لم يغمص عَلَيْهِ فِي دينه) ، قَوْله: (لعمر الله) ، بِفَتْح الْعين لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل فِي الْقسم إلاّ بِالْفَتْح. قَوْله: (وَلَكِن احتملته الحمية) ، أَي: أغضبته، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أجتهلته) ، بِالْجِيم أَي: حَملته على الْجَهْل. قَوْله: (أسيد بن حضير) بِالتَّصْغِيرِ فيهمَا. قَوْله: (فتثاور) ، تفَاعل من الثورة، يُقَال: ثار يثور إِذا ارْتَفع وَأَرَادَ بِهِ النهوض للنزاع والعصبية، (وَالْحَيَّانِ) تَثْنِيَة حَيّ، وَهِي كالقبيلة، وَوَقع فِي حَدِيث ابْن عمر قَامَ سعد بن معَاذ: فسل سَيْفه، قَوْله: (يخفضهم) ، أَي: يسكنهم، وَفِي رِوَايَة ابْن حَاطِب: (فَلم يزل يومىء بِيَدِهِ إِلَى النَّاس هَهُنَا حَتَّى هدأ الصَّوْت) . وَفِي رِوَايَة فليح: (فَنزل يخفضهم حَتَّى سكتوا، وَفِي رِوَايَة عَن الزُّهْرِيّ: (فحجز بَينهم) . قَوْله:(19/84)
(فَمَكثت) ، من الْمكْث وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَبَكَيْت) ، من الْبكاء. قَوْله: (لَيْلَتَيْنِ وَيَوْما) أَي: اللَّيْلَة الَّتِي أخْبرتهَا فِيهَا أم مسطح الْخَبَر، وَالْيَوْم الَّذِي خطب فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للنَّاس، وَاللَّيْلَة الَّتِي تَلِيهَا. قَوْله: (فاستأذنت عَليّ) تَقْدِيره: جَاءَت فاستأذنت عَليّ، بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (فبهنا نَحن كَذَلِك) رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَبينا نَحن على ذَلِك. قَوْله: (فَتشهد) ، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة: فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ. قَوْله: (عَنْك كَذَا وَكَذَا) كِنَايَة عَمَّا رميت بِهِ من الْإِفْك. انْتهى. قَوْله: (وَإِن كنت أَلممْت) أَي: وَقع مِنْك على خلاف الْعَادة. قَوْله: (قلص) بِفَتْح الْقَاف وَاللَّام وبالصاد الْمُهْملَة أَي: ارْتَفع دمعي لاستعظام مَا بغتني من الْكَلَام، وتخلف بِالْكُلِّيَّةِ. قَوْله: (وَأَنا جَارِيَة حَدِيثَة السن)
إِلَى آخِره، ذكرت هَذِه الْأَشْيَاء تَوْطِئَة لعذرها لكَونهَا لم تستحضر إسم يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (وصدقتم بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة: لقد تكلمتم بِهِ وأشربته قُلُوبكُمْ. قَوْله: (لَا تصدقوني بذلك) ، ويروى: لَا تصدقونني، بنونين على الأَصْل، أَي: لَا تقطعون بصدقي، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة: مَا ذَاك بنافعي عنْدكُمْ. قَوْله: (لَا تصدقوني) ، فأدغمت إِحْدَى النونين فِي الْأُخْرَى. قَوْله: (وَإِن الله يبرءني) ، وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة وَأَن الله يبرىء، بِغَيْر نون، وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه وَقع عِنْدِي: مبرئني، بنُون وَزعم أَنه هُوَ الصَّحِيح، وَلَكِن الْمَشْهُور بِغَيْر نون فَافْهَم. قَوْله: (مَا رام) ، أَي: مَا فَارق (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَهَذَا من الريم، وَأما رام، بِمَعْنى: طلب فَمن الرّوم. قَوْله: (من البرحاء) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة، وبالمد وَهِي: شدَّة الْحمى، وَقيل: شدَّة الكرب، وَوَقع فِي رِوَايَة إِسْحَاق بن رَاشد: وَهُوَ الْعرق، وَبِه جزم الدوادي، وَهِي رِوَايَة ابْن حَاطِب وشخص بَصَره إِلَى السّقف، وَفِي رِوَايَة عمر بن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: فَأَتَاهُ الْوَحْي، وَكَانَ إِذا أَتَاهُ الْوَحْي أَخذه السبل، أخرجه الْحَاكِم وَفِي رِوَايَة أبي إِسْحَاق: فسجى بِثَوْب، وَوضعت تَحت رَأسه وسَادَة من أَدَم. قَوْله: (الجمان) ، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْمِيم: اللُّؤْلُؤ، وَقيل: حب يعْمل من الْفضة كَاللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: خرز أَبيض. قَوْله: (فَلَمَّا سري) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة أَي: كشف. قَوْله: (الْعشْر الْآيَات) آخرهَا: (وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ) فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة عَطاء الخرساني عَن الزُّهْرِيّ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الَّذين جاؤوا} (النُّور: 91) إِلَى قَوْله: {أَن يغْفر الله لكم وَالله غَفُور رَحِيم} (النُّور: 11 22) . وَعدد الْآي إِلَى هَذَا الْموضع ثَلَاث عشرَة آيَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الحكم بن عتيبة مُرْسلا: فَأنْزل الله خمس عشرَة آيَة من سُورَة النُّور حَتَّى بلغ {الخبيثات للخبيثين} (النُّور: 62) أخرجه الطَّبَرِيّ، وَعدد الْآي إِلَى هَذَا الْموضع سِتّ عشرَة، وَوَقع فِي: (مُرْسل سعيد بن جُبَير) . فَنزلت ثَمَان عشرَة آيَة مُتَوَالِيَة: {إِن الَّذين جاؤوا} إِلَى قَوْله: {رزق كريم} (النُّور: 11 62) أخرجه ابْن أبي حَاتِم، وَالْحَاكِم فِي (الإكليل) قلت: أجَاب بَعضهم عَن هَذِه بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ حَيْثُ قَالَ: فِي الأول: لَعَلَّهَا فِي كَون الْعشْر الْآيَات مجَاز بطرِيق إِلْغَاء الْكسر، وَهَذَا لَا يصدر عَمَّن لَهُ أدنى تَأمل. وَفِي الثَّانِي: وَهَذَا فِيهِ تجوز. وَفِي الثَّالِث: وَفِيه مَا فِيهِ. انْتهى. وَيُمكن أَن يُقَال: إِن كلا مِنْهُم ذهب إِلَى مَا انْتهى علمه بِهِ، وروى على قدر مَا أحَاط بِهِ علمه، على أَن التَّنْصِيص على عدد معِين لَا يسْتَلْزم نفي الزِّيَادَة. قَوْله: (وَلَا يَأْتَلِ) ، وَلَا يحلف من الألية وَهُوَ الْيَمين (وَالْفضل) هُنَا المَال وَالسعَة والعيش فِي الرزق. قَوْله: (أحمي) من الحماية، وَالْمعْنَى: فَلَا أنسب إِلَى سَمْعِي مَا لم أسمع وَإِلَى بَصرِي مَا لم أبْصر. قَوْله: (تساميني) ، أَي: تعاليني من السمو وَهُوَ الْعُلُوّ أَي: تطلب من الْعُلُوّ والحظوة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أطلب، أَو تعتقد أَن لَهَا مثل الَّذِي لي عِنْده، كَذَا قيل، وَهَذَا يدل على أَن زَيْنَب كَانَت فِي عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاخْتلفُوا فِي أَنَّهَا كَانَت وَقت الْإِفْك تَحت نِكَاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو تزَوجهَا بعد ذَلِك. قَوْله: (فعصمها الله) أَي: فحفظها ومنعها بالورع أَي: بالمحافظة على دينهَا ومجانبة مَا تخشى من سوء الْعَاقِبَة. قَوْله: (وطفقت) ، بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا، أَي: شرعت (أُخْتهَا حمْنَة تحارب) أَي: تجَادل لَهَا وتتعصب وتحكي مَا قَالَ أهل الْإِفْك لتنخفض منزلَة عَائِشَة وترتفع منزلَة أُخْتهَا زَيْنَب. قَوْله: (فَهَلَكت) أَي: حمْنَة أَي: حُدث فِيمَن حُدا، وأثمت مَعَ من أَثم، وَحمْنَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفتح النُّون: بنت جحش بن ربَاب الأَسدِية، أُخْت زَيْنَب بنت جحش، كَانَت عِنْد مُصعب ابْن عُمَيْر وَقتل عَنْهَا يَوْم أحد فَتَزَوجهَا طَلْحَة بن عبيد الله. وَقد ذكرنَا فَوَائده وَأَشْيَاء غير مَا ذكرنَا هُنَا فِي كتاب الشَّهَادَات، وَللَّه الْحَمد وَالله تَعَالَى أعلم.(19/85)
7 - (بابُ قَوْلِهِ: {ولَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ لَمسَّكُمْ فِيما أفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النُّور: 41)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَوْلَا فضل الله} الْآيَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بعد قَوْله: {أَفَضْتُم فِيهِ} الْآيَة، وَكلمَة: لَوْلَا، لِامْتِنَاع الشَّيْء لوُجُود غَيره أَي: لَوْلَا مَا منَّ الله بِهِ عَلَيْكُم وفضله عَلَيْكُم فِي الدُّنْيَا بضروب النعم الَّتِي من جُمْلَتهَا الْإِمْهَال للتَّوْبَة، وَأَن أترحم عَلَيْكُم فِي الْآخِرَة بِالْعَفو وَالْمَغْفِرَة {لمسكم فِيمَا أَفَضْتُم} أَي: خضتم فِيهِ من حَدِيث الْإِفْك، يُقَال: أَفَاضَ فِي الحَدِيث انْدفع وخاض قَوْله: (عَذَاب) فَاعل: {لمسكم عَذَاب عَظِيم} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا انْقِطَاع لَهُ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ تَلَقَّوْنَهُ يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم} (النُّور: 51)
الْآيَة، وَفسّر: تلقونه، بقوله: (يرويهِ بَعْضكُم عَن بعض) هَذَا تَفْسِير فتح اللَّام مَعَ تَشْدِيد الْقَاف، وَهِي قِرَاءَة الْأَكْثَرين من السَّبْعَة، فَمنهمْ من أدغم الذَّال فِي التَّاء، وَمِنْهُم من أظهرها وَهُوَ من التلقي للشَّيْء، وَهُوَ أَخذه وقبوله وَقَرَأَ أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: إِذْ تتلقونه، بتائين وقرأت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَيحيى ابْن يعمر بِكَسْر اللَّام وَتَخْفِيف الْقَاف: من الولق، وَهُوَ الْإِسْرَاع فِي الْكَذِب، وَقيل: هُوَ الْكَذِب، وَقَرَأَ مُحَمَّد بن السميقع، بِضَم التَّاء وَسُكُون اللَّام وَضم الْقَاف.
تُفِيضُونَ تَقُولُونَ
هَذَا فِي سُورَة يُونُس وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إلاَّ كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ} (يُونُس: 16) وَإِنَّمَا ذكره هَهُنَا اسْتِطْرَادًا لقَوْله: {فِيمَا أَفَضْتُم فِيهِ} فَإِن كلا مِنْهُمَا من الْإِفَاضَة وَهُوَ الْإِكْثَار فِي القَوْل.
1574 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنا سُلَيْمانُ عَنْ حُصَيْنٍ عنْ أبي وائِلٍ عنْ مسْرُوقٍ عنْ أُمِّ رُومانَ أُمِّ عائِشَةَ أنّها قالَتْ لَمَّا رُمِيَتْ عائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْها.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين التَّرْجَمَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لاحظ فِيهِ قصَّة الْإِفْك وَإِن كَانَ بِحَسب الظَّاهِر غير ملائم. وَمُحَمّد بن كثير ضد الْقَلِيل الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، يروي عَن أَخِيه سُلَيْمَان بن كثير عَن حُصَيْن مصغر حصن ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن مَسْرُوق بن الأجدع عَن أم رُومَان، بِضَم الرَّاء وَفتحهَا: بنت عَامر بن عُوَيْمِر امْرَأَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، وَأم عَائِشَة، مَاتَت فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة سِتّ من الْهِجْرَة فَنزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبرها واستغفر لَهَا، وَقَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة مَسْرُوق عَن أم رُومَان مُرْسلَة، وَلَعَلَّه سمع ذَلِك من عَائِشَة، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين: مُحَمَّد بن كثير عَن سُلَيْمَان، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، عَن الْجِرْجَانِيّ: سُفْيَان بدل سُلَيْمَان، وَقَالَ الجياني: هَكَذَا هَذَا الْإِسْنَاد عِنْد الْجَمَاعَة، وَفِي نُسْخَة أبي مُحَمَّد عَن أبي أَحْمد: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير أخبرنَا سُفْيَان عَن حُصَيْن، قَالَ أَبُو عَليّ: سُلَيْمَان هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ سُلَيْمَان بن كثير أَخُو مُحَمَّد وَمُحَمّد مَشْهُور بالرواية عَن أَخِيه. قَوْله: (مغشياً عَلَيْهَا) ، وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّوَاب مغشية، وَالله أعلم.
8 - (بابٌ: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بألْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بأفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهْوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ} الْآيَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِذْ تلقونه} ... إِلَى آخِره هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره، سَاق إِلَى قَوْله: عَظِيم، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب. قَوْله: (إِذْ) ، ظرف: لمسكم، أَو: لأفضتم. (تلقونه) ، يَأْخُذهُ بَعْضكُم من بعض، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله بأفواهكم؟ وَالْقَوْل لَا يكون إلاَّ بالفم. قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَن الشَّيْء الْمَعْلُوم يكون علمه فِي الْقلب فيترجم عَنهُ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الْإِفْك لَيْسَ إلاَّ قولا يجْرِي على أَلْسِنَتكُم ويدور فِي أَفْوَاهكُم من غير تَرْجَمَة عَن علم بِهِ فِي الْقلب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} (النُّور: 51) .(19/86)
2574 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى حدَّثنا هِشامٌ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ ابنُ أبي مُلَيْكَةَ سَمِعْتُ عائِشَةَ تَقْرَأُ: {إذْ تَلِقُونَهُ بألْسِنَتِكُمْ} (النُّور: 51) .
(انْظُر الحَدِيث 4414) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف، وَفِي بعض النّسخ صرح بِهِ، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة واسْمه زُهَيْر التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنْهُم. والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي.
قَوْله: (إِذْ تلقونه) بِكَسْر اللَّام وَتَخْفِيف الْقَاف من الولق وَهُوَ الْكَذِب، وَقد مر عَن قريب، وأصل: تلقونه تولقونه حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا للْفِعْل الْغَائِب لوقوعها فِيهِ بَين الْيَاء آخر الْحُرُوف والكسرة طرداً للباب.
(بابٌ: {ولوْلا إذْ سَمِعْتُمُونُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهاذَا سُبْحانَكَ هاذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ} (النُّور: 61)
هَذِه الْآيَة ذكرت عِنْد قَوْله بَاب: {وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات} (النُّور: 21) وَاقْتصر أَبُو ذَر إِلَى قَوْله: {أَن نتكلم بِهَذَا} وسَاق غَيره بَقِيَّة الْآيَة، وَذكرهَا هَهُنَا تكْرَار، على مَا لَا يخفى على أَنَّهَا غير مَذْكُورَة فِي بعض النّسخ.
3574 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حَدثنَا يَحْيَى عنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدِ بنِ أبي حُسَيْنٍ قَالَ حدّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ قَالَ اسْتأْذَنَ ابنُ عَبَّاس قَبْلَ مَوْتِها عَلَى عائِشَةَ وهْيَ مَغْلُوبَةٌ قالَتْ أخْشَي أنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ فَقِيلَ ابنُ عَمِّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومِنْ وجُوهِ المسْلِمِينَ قالَتِ ائْذَنُوا لَهُ فَقَالَ كَيْفَ تَجِدِينَكِ قالَتْ بِخَيْرٍ إنِ اتَّقَيْتُ الله قَالَ فأنْتِ بِخَيْرٍ إنْ شاءَ الله زَوْجَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ يَنْكِحْ بِكْراً غَيْرَكِ ونَزَل عُذْرُكِ منَ السَّماءِ ودَخَلَ ابنُ الزُّبَيْرِ خِلاَفَهُ فقالَتْ دَخَلَ ابنُ عَبَّاسٍ فأثْنى عَلَيَّ وَودِدْتُ أنِّي {كُنْتُ نِسْياً مَنْسِيًّا} (مَرْيَم: 32)
(انْظُر الحَدِيث 1773 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَنزل عذرك من السَّمَاء) . وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان وَابْن أبي مليكَة عبد الله، وَقد مر عَن قريب قبيل الْبَاب. والْحَدِيث ذكره أَيْضا فِي النِّكَاح.
قَوْله: (وَهِي مغلوبة) ، جملَة حَالية أَي: مغلوبة من كرب الْمَوْت. قَوْله: (فَقيل: ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: هُوَ ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ فهم مِنْهَا أَنَّهَا تَمنعهُ، فَدخل عَلَيْهَا هَذَا الْقَائِل فِي الْإِذْن لَهُ بِالدُّخُولِ وَذكرهَا مَنْزِلَته، وَهَذَا الْقَائِل هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم، وَالَّذِي اسْتَأْذن هُوَ ذكْوَان مولى عَائِشَة، وَقد بيّن ذَلِك عبد الرَّزَّاق. قَالَ: أخبرنَا معمر عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم عَن ابْن أبي مليكَة عَن ذكْوَان مولى عَائِشَة أَنه اسْتَأْذن لِابْنِ عَبَّاس على عَائِشَة وَهِي تَمُوت وَعِنْدهَا ابْن أُخْتهَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، فَذكره، وَرَوَاهُ أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذِه الرِّوَايَة تدل على إرْسَال رِوَايَة البُخَارِيّ وَأَن ابْن أبي مليكَة لم يشْهد ذَلِك وَلَا سَمعه مِنْهُ حَالَة قَوْله لَهَا لعدم حُضُوره. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: ادّعى بعض الشُّرَّاح فَذكره، ثمَّ قَالَ: وَمَا أَدْرِي من أَيْن لَهُ الْجَزْم بِعَدَمِ حُضُوره وسماعه، وَمَا الْمَانِع من ذَلِك؟ وَلَعَلَّه حضر جَمِيع ذَلِك. انْتهى. قلت: هُوَ مَا ادّعى الْجَزْم بذلك بل لَهُ احْتِمَال قريب، وَكَيف يشنع عَلَيْهِ وَقد رد كَلَام نَفسه بِكَلِمَة الترجي؟ قَوْله: (كَيفَ تجدينك) ، الْخطاب لعَائِشَة بِالتَّاءِ وَالْكَاف، أَي: كَيفَ تجدين نَفسك؟ قَوْله: (إِن اتَّقَيْت) أَي: كنت من أهل التَّقْوَى، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إِن اتَّقَيْت من التقاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَنزل عذرك من السَّمَاء) أَشَارَ بِهِ إِلَى قصَّة الْإِفْك. قَوْله: (خِلَافه) أَي: وَدخل عبد الله بن الزبير على عَائِشَة بعده متخالفين ذَهَابًا وإياباً، أَي: وَافق رُجُوعه مَجِيئه، قَوْله: (نسياً منسياً) مَعْنَاهُ: لَيْتَني لم أك شَيْئا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وقرىء قَوْله تَعَالَى: {نسيا منسياً} بِالْفَتْح، أَي: بِفَتْح النُّون.
4574 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حَدثنَا عَبْدُ الوَهَّابِ بنُ عَبْدِ المَجِيدِ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنِ(19/87)
القاسِمِ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا اسْتَأْذَنَ عَلَى عائِشَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ {نِسْياً مَنْسِيًّا} (مَرْيَم: 32)
(انْظُر الحَدِيث 1773 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون، وَالقَاسِم هُوَ مُحَمَّد بن أبي بكر. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور.
9 - (بابٌ قَوْلُهُ: {يَعِظُكُمُ الله أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبَداً} الْآيَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يعظكم الله} (النُّور: 71)
الْآيَة. وَسقط لغير أبي ذَر لفظ. الْآيَة، قَوْله: (يعظكم الله) أَي: يَنْهَاكُم ويخوفكم، وَقيل: يعظكم الله كَيْلا تعودوا لمثله، أَي: إِلَى مثله {وَالله عليم} يَأْمر عَائِشَة وَصَفوَان {حَكِيم} ببراءتهما.
5574 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدّثنا سُفْيانُ عنِ الأعْمَش عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ جاءَ حَسَّانُ بنُ ثابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْها قُلْتُ أتأْذَنِينَ لِهاذَا قالَتْ أوَلَيْسَ قَدْ أصابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالَ سُفْيانُ تَعْنِي ذَهابَ بَصَرِهِ فَقَالَ:
(حَصانٌ رزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ)
قالَتْ لاكِنْ أنْتَ.
(انْظُر الحَدِيث 6414 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَتَأْذَنِينَ لهَذَا) يفهم بِالتَّأَمُّلِ، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَقد وَقع التَّصْرِيح بذلك عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَفِي غير هَذَا الْموضع روى البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الْأَعْمَش وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي: بَاب حَدِيث الْإِفْك، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن أبي الضُّحَى إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (لَكِن أَنْت) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: قَالَت: لست كَذَاك، الْخطاب لحسان، يَعْنِي: لَكِن أَنْت لم تصبح غرثان من لُحُوم الغوافل، وَهُوَ دَال على أَنه كَانَ خَاضَ فِيمَن خَاضَ.
01 - (بابٌ: {ويُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآياتِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النُّور: 81) (النُّور: 81)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَيبين الله لكم الْآيَات} الدالات على علمه وحكمته بِمَا ينزل عَلَيْكُم من الشَّرَائِع ويعلمكم من الْآدَاب الجميلة (وَالله عليم) بِأَمْر عَائِشَة وَصَفوَان وببراءتهما (حَكِيم) يضع الْأَشْيَاء فِي محالها.
6574 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا ابنُ عَدِيّ أنْبأنا شُعْبَةُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوق قَالَ دَخَلَ حَسَّانُ بنُ ثابِتٍ عَلَى عائِشَةَ فَشَبَّبَ وَقَالَ:
(حَصانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحومِ الغَوافِلِ)
قالَتْ لَسْتَ كَذَاكَ قُلْتُ تَدَعِينَ مِثْلَ هاذَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ وَقَدْ أنْزَلَ الله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} (النُّور: 11) فقالَتْ وأيُّ عَذابٍ أشَدُّ مِنَ العَمَى وقالَتْ وقَدْ كانَ يَرُدُّ عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(انْظُر الحَدِيث 6414 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَابْن أبي عدي مُحَمَّد، وَاسم أبي عدي إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (فشبب) من التشبيب، وَهُوَ إنشاد الشّعْر على وَجه الْغَزل. قَوْله: (قَالَت: لست كَذَاك) ، أَي: قَالَت عَائِشَة لحسان: (لست كَذَاك) تَعْنِي: لم تصبح غرثان من لُحُوم الغوافل، شارت بِهِ إِلَى أَنه خَاضَ فِي الْإِفْك وَلم يسلم من أكل لُحُوم الغوافل. قَوْله: (قلت) الْقَائِل هُوَ مَسْرُوق. قَوْله: (تدعين) ، أَي: تتركين (مثل هَذَا) ، يَعْنِي: حسانا (يدْخل عَلَيْك) وَقد خَاضَ فِي الْإِفْك ثمَّ بَين ذَلِك بقوله: وَقد أنزل الله: (وَالَّذِي تولى كبره مِنْهُم) وَقد مر أَنه هُوَ الَّذِي تولى كبره على قَول. قَوْله: (وَقد كَانَ يرد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: يدافع هجو الْكفَّار لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهجوهم ويذب عَنهُ.(19/88)
11 - (بابٌ قَوْلهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وَالله يَعْلَمُ وأنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وأنَّ الله رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (النُّور: 91 02)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الَّذين يحبونَ} إِلَى آخر {رؤوف رَحِيم} . كَذَا عِنْد الْأَكْثَرين، وَعند أبي ذَر. {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمنُوا} الْآيَة، إِلَى قَوْله: {رؤوف رَحِيم} . قَوْله: {إِن الَّذين يحبونَ} تهديد للقاذفين. قَوْله: {أَن تشيع} أَي: أَن تَفْشُو وتذيع الْفَاحِشَة {لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا} بِالْحَدِّ، وَفِي: (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقد ضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عبد الله بن أبي وحساناً وَمِسْطَحًا، وَقد ذكر أَبُو دَاوُد أَن حسانا حُد زَاد الطَّحَاوِيّ: ثَمَانِينَ، وَكَذَا حمْنَة ومسطح ليكفر الله عَنْهُم بذلك إِثْم مَا صدر مِنْهُم حَتَّى لَا يبْقى عَلَيْهِم تبعة فِي الْآخِرَة، وَأما ابْن أبي فَإِنَّهُ لم يحد لِئَلَّا ينقص من عَذَابه شَيْء، أَو إطفاء للفتنة وتألفاً لِقَوْمِهِ، وَقد روى الْقشيرِي فِي: (تَفْسِيره) : أَنه حد ثَمَانِينَ، وَقَالَ الْقشيرِي ومسطح: لم يثبت مِنْهُ قذف صَرِيح فَلم يذكر فِيمَن حد، وَأغْرب الْمَاوَرْدِيّ، فَقَالَ: إِنَّه لم يحد أحد من أهل الْإِفْك. قَوْله: (وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته) هَذَا إِظْهَار الْمِنَّة بترك المعاجلة بالعقاب، وَجَوَاب: لَوْلَا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لعاجلكم بِالْعَذَابِ.
تشِيعَ تَظْهَرُ
لم يثبت هَذَا إلاَّ لأبي ذَر وَحده، وَقد فسر قَوْله: {أَن تشيع الْفَاحِشَة} بقوله: (تظهر) ، وَكَذَا فسره مُجَاهِد، وَزَاد: ويتحدث بِهِ، والفاحشة: الزِّنَا.
(بابٌ: {وَلَا يأتَلِ أولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أولِي القُرْبَى والمَساكِينَ والمُهاجِرِينَ فِي سَبيلِ الله ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النُّور: 22)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا يَأْتَلِ} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، وَلم تثبت هَذِه الْآيَة هُنَا إِلَّا لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (وَلَا يَأْتَلِ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ وَلَا يفتعل، من آلَيْت أَي: أَقْسَمت، وَعَن ابْن عَبَّاس: (لَا يَأْتَلِ) أَي: لَا يقسم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَقَالَ الْأَخْفَش: وَإِن شِئْت جعلته من قَول الْعَرَب: مَا ألوت جهدي فِي شَأْن فلَان، أَي: مَا تركته وَلَا قصرت فِيهِ.
7574 - {وَقَالَ أبُو أُسامَةَ}
وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ أَبُو أُسَامَة. وَهُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَفِي: (التَّلْوِيح) : يُرِيد بِهَذَا التَّعْلِيق مَا رَوَاهُ مُسلم فِي: (صَحِيحه) عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب عَن أبي أُسَامَة بِهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ حَدثنَا إِسْحَاق قَالَ: نَا حميد بن الرّبيع الخراز، وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي عَن الْفربرِي: حَدثنَا حميد ابْن الرّبيع. نَا أَبُو أُسَامَة، فَظن الْكرْمَانِي أَن البُخَارِيّ وَصله عَن حميد بن الرّبيع، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ خطأ فَاحش فَلَا تعْتَبر بِهِ. انْتهى. قلت: هَذَا حط على الْكرْمَانِي بِغَيْر فهم كَلَامه، فَإِنَّهُ لم يقل مثل مَا نسبه إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه مثل مَا نقلت عَنهُ، وَلم يقل: حَدثنَا حميد بن الرّبيع، وَإِنَّمَا قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنَا حميد بن الرّبيع، نقل ذَلِك على مَا رَآهُ فِي بعض النّسخ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِك شَيْء.
عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ قَالَ أخْبَرَني أبي عنْ عائِشَةَ قالَتْ لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْني الَّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ قَامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَّ خَطِيباً فَتَشَهَّدَ فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أمّا بَعْدُ أشِيُروا عَلَيَّ فِي أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي وأيْمُ الله مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ وأبَنُوهُمْ بِمَنْ وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتِي قَطُّ إلاّ وَأَنا حاضِرٌ وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إلاّ غابَ معِي فقامَ سَعْدُ بنُ مُعاذِ فَقَالَ ائْذَنْ لِي يَا رسولَ الله أنْ نَضْرِبَ أعْناقَهُمْ وقامَ رَجُلٌ مِنْ بَني(19/89)
الخَزْرَجِ وكانتْ أُمُّ حَسّانَ بنِ ثابِتٍ مِنْ رَهْطِ ذالِكَ الرَّجُلِ فَقَالَ كَذَبْتَ أما وَالله أنْ لَوْ كانُوا مِنَ الأوْسِ مَا أحْبَبْت أنْ تُضْرَبَ أعْناقُهُمْ حَتَّى كادَ أنْ يكُونَ بَيْنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ شَرٌّ فِي المَسْجدِ وَمَا عَلِمْتُ فَلَمّا كَانَ مَساءُ ذالِكَ اليَوْمِ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حاجَتِي ومَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ فعَثَرَتْ وقالَتْ تَعَسَ مِسْطَحٌ فقُلْتُ أيْ أمِّ تَسُبِّينَ ابنَكِ وسَكَتَتْ ثُمَّ عَثَرَتِ الثّانِيَةَ فقالَتْ تَعَسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَها تَسُبِّينَ ابْنَكِ ثُمَّ عَثَرَتِ الثالِثَةَ فقالَتْ تَعَسَ مَسْطَحٌ فانْتَهَرْتُها فقالَتْ وَالله مَا أسُبُّهُ إلاّ فِيكِ فقُلْتُ فِي أيِّ شأني قالَتْ فَبَقَرَتْ لِي الحَدِيثَ فَقُلْتُ وَقَدْ كانَ هاذَا قالَتْ نَعَمْ وَالله فَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتي كَأنَّ الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ لَا أجِدُ مِنْهُ قَلِيلاً وَلَا كَثِيراً وَوُعكْتُ فَقُلْتُ لرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسِلْني إِلَى بَيْتِ أبي فأرْسَلَ مَعِي الغُلاَمَ فَدَخَلْتُ الدَّارَ فَوَجَدْتُ أُمَّ رُومانَ فِي السُّفْلِ وَأَبا بَكْرٍ فَوْقَ البَيْتِ يَقْرَأُ فقالَتْ أُمِّي مَا جاءَ بِكِ يَا بُنَيَّةُ فأخْبَرْتُها وَذَكَرْتُ لَها الحدِيثَ وَإِذا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْها مِثْلَ مَا بَلَغَ مِنِّي فقالَتْ يَا بُنَيَّةُ خَفِّضِي عَلَيِكِ الشأْنَ فإنَّهُ وَالله لَقَلَّما كانَتِ امْرَأةٌ قَطُّ حَسْناءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّها لَها ضَرَائِرُ إلاّ حَسَدْنَها وقِيلَ فِيها وَإِذا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْها مَا بَلَغَ مِنِّي قُلْتُ وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أبي قالَتْ نَعَمْ قُلْتُ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ نَعَمْ ورسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْتَعْبَرْتُ وَبَكَيْتُ فَسَمَعَ أبُو بَكْرٍ صَوْتِي وهْوَ فَوْقَ البَيْتِ يَقْرَأُ فَنَزَلَ فَقَالَ لأمِّي مَا شأنُها قالَتْ بَلَغَها الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شأنِها فَفاضَتْ عَيْناهُ قَالَ أقْسَمْتُ عَلَيْكِ أيْ بُنَيَّةُ إلاّ رجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ وَلَقَدْ جاءَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْتِي فَسَأل عَنِّي خادِمَتي فقالَتْ لَا وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَيْها عَيْباً إلاّ أنّها كانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشّاةُ فَتَأكُلَ خَمِيرَها أوْ عَجِينَها وانْتَهَرَها بَعْضُ أصْحابِهِ فَقَالَ اصْدُقِي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أسْقَطُوا لَها بِهِ فقالَتْ سُبْحانَ الله وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَيْها إلاّ مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأحْمَر وَبَلَغَ الأمْرُ إِلَى ذَلِكَ الرجُلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ فَقَالَ سُبْحانَ الله وَالله مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَط قالَتْ عائِشَةُ فقُتِلَ شَهِيداً فِي سَبِيلِ الله قالَتْ وأصْبَحَ أبَوَايَ عِنْدِي فَلَمْ يَزَالا حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَدْ صَلَّى العَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ وقَدِ اكْتَنَفَنِي أبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وعَنْ شِمالِي فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ يَا عائِشَةُ إنْ كُنْتِ قارَفْتِ سُوءاً أوْ ظَلمْتِ فتُوبِي إلَى الله فإِنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قالَتْ وَقَدْ جاءَتِ امْرَأةٌ مِنَ الأنصارِ فَهْيَ جالِسَةٌ بالبَابِ فَقُلْتُ أَلا تَسْتَحِي مِنْ هاذِهِ المَرْأةِ أنْ تَذْكُرَ شَيْئاً فَوَعَظَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالْتَفَتُّ إلَى أبي فَقُلْتُ أجِبْهُ قَالَ فَماذا أقُولُ فالْتَفَتُّ إلَى أُمِّي فَقُلْتُ أجِيبِيهِ فقالَتْ أقُولُ ماذَا فَلَمَّا لَمْ يُجِيباهُ تَشَهَّدْتُ فَحَمَدْتُ الله وأثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قُلْتُ أمّا بَعْدُ فوَالله لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إنِّي لَمْ أفْعَلْ وَالله عَزَّ وجَلَّ يَشْهَدُ إنِّي لَصادِقَةٌ مَا ذَاكَ بنَافِعي عِنْدَكُمْ لَقَدْ تَكَلَّمْتمْ بِهِ وأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُكُمْ وإنْ قُلْتُ إنِّي فَعَلْتُ وَالله يَعْلَمُ أنِّي لَمْ أفْعَلْ لَتَقُولُنَّ قَدْ باءَتْ بِهِ(19/90)
عَلَى نَفْسِها وإنِّي وَالله مَا أجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً والتَمَسْتُ إسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أقْدِرْ عَلَيْهِ إلاّ أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله المُسْتَعانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ وأُنْزِلَ عَلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ ساعَتِهِ فَسَكَتْنا فَرُفِعَ عَنْهُ وإنِّي لأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وجْهِهِ وهْوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ أبْشِرِي يَا عائِشَةُ فَقَدْ أنْزَلَ الله بَرَاءَتَكِ قالَتْ وكُنْتُ أشَدَّ مَا كُنْتُ غَضَباً فَقَالَ لي أبَوَايَ قُومِي إلَيْهِ فَقُلْتُ وَالله لَا أقُومُ إلَيْهِ وَلَا أحْمَدُهُ وَلاَ أحْمَدُكُما ولاكِنْ أحْمَدُ الله الَّذِي أنْزَلَ بَرَاءَتي لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ فَما أنْكَرْتُمُوهُ وَلَا غَيَّرْتُمُوهُ وكانَتْ عائِشَةُ تقُولُ أمّا زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَعَصَمَها الله بدِينِها فَلَمْ تَقُلْ إلاّ خَيْراً وأمّا أُخْتُها حَمْنَةُ فَهَلَكَتْ فيمَنْ هَلَكَ وكانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وحَسّانُ بنُ ثابِتٍ والمُنافِقُ عَبْدُ الله بنُ أُبَيّ وهْوَ الَّذِي كانَ يَسْتَوشِيهِ وَيَجْمَعُهُ وَهْوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ قالتْ فَحَلَفَ أبُو بَكْرٍ أَن لَا يَنْفَعِ مِسْطَحاً بِنافِعَةٍ أبَداً فأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يأتَلِ أولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ إِلَى آخِرِ الآيةِ يعْنِي أَبَا بَكْرٍ والسَّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى والمَساكِينَ يَعْنِي مِسْطَحاً إِلَى قَوْلِهِ أَلا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رحيمٌ حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَالله يَا رَبَّنا إنّا لَنُحِبُّ أنْ تَغْفِرَ لَنا وَعَاد لَهُ بِمَا كانَ يَصْنَعُ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي قصَّة الْإِفْك، وَهُوَ مُعَلّق كَمَا ذكرنَا، وأسنده مُسلم فِي كتاب التَّوْبَة مُخْتَصرا. قَوْله: (لما ذكر من شأني) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، والشأن الْأَمر، وَالْحَال. قَالَه الْجَوْهَرِي. قَوْله: (وَمَا علمت بِهِ) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (قَامَ) جَوَاب: لما. قَوْله: (فِي) : بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (أبنوا) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَرُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف أشهر، وَمَعْنَاهُ اتهموا أَهلِي، وَالِابْن بِفَتْح الْهمزَة التُّهْمَة، يُقَال: ابْنه يأبنه، بِضَم الْبَاء وَكسرهَا إِذا اتهمه ورماه بخلة سوء فَهُوَ مأبون، قَالُوا: وَهُوَ مُشْتَقّ من الابْن، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْبَاء وَهِي العقد فِي القسي تفسدها. قَوْله: (وابنوهم بِمن) ، كلمة: من، هُنَا عبارَة عَن صَفْوَان. قَوْله: (وَالله) إِلَى قَوْله: (فَقَامَ سعد بن معَاذ) فِي بَرَاءَة صَفْوَان وَبَيَان دينه المتين، وَقَامَ رجل هُوَ سعد بن عبَادَة. قَوْله: (أم حسان) ، وَهِي الفريعة بنت خَالِد بن حسر بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثَعْلَبَة بن الْخَزْرَج بن كَعْب بن سَاعِدَة الْأَنْصَارِيَّة، والفريعة بِضَم الْفَاء وبالعين الْمُهْملَة. قَوْله: (فِيك) ، كلمة: فِي، هُنَا للتَّعْلِيل أَي: لِأَجلِك. قَوْله: (فنقرت) ، بالنُّون وَالْقَاف، أَي أظهرت وقررت بعجزه وبجره، قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي بَاب الْبَاء الْمُوَحدَة مَعَ الْقَاف: وَمِنْه فبقرت لَهَا الحَدِيث، أَي: فَتحته وكشفته. قَوْله: (لَا أجد مِنْهُ لَا قَلِيلا وَلَا كثيرا) مَعْنَاهُ: أَنِّي دهشت بِحَيْثُ مَا عرفت لأي أَمر خرجت من الْبَيْت. قَوْله: (ووعكت) ، بِضَم الْوَاو أَي: مَرضت بحمى. قَوْله: (أم رُومَان) قد ذكرنَا أَنه بِضَم الرَّاء وَفتحهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: اسْمهَا زَيْنَب. قَوْله: (فِي السّفل) ، بِكَسْر السِّين وَضمّهَا. قَوْله: (أَقْسَمت عَلَيْك) ، هَذَا مثل قَوْلهم. نشدتك بِاللَّه إلاَّ فعلت أَي: مَا أطلب مِنْك إلاَّ رجوعك إِلَى بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَن خادمتي) ، ويروى: عَن خادمي، وَالْخَادِم يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْمرَاد بهَا بَرِيرَة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (حَتَّى أسقطوا لَهَا بِهِ) ، قَالَ النَّوَوِيّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النّسخ: ببلادنا، بِالْبَاء الَّتِي هِيَ حرف الْجَرّ، كَذَا نَقله القَاضِي عَن رِوَايَة الجلودي، وَفِي رِوَايَة ابْن هامان: لهاتها، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. قَالَ الْجُمْهُور: هَذَا غلط وَالصَّوَاب الأول، وَمَعْنَاهُ: صَرَّحُوا لَهَا بِالْأَمر، وَلِهَذَا قَالَت: سُبْحَانَ الله استعظاماً لذَلِك، وَقيل: مَعْنَاهُ أَتَوا بسقط من القَوْل فِي سؤالها وانتهارها، وَيُقَال: أسقط وَسقط فِي كَلَامه إِذا أَتَى فِيهِ بساقط، وَقيل: إِذا أَخطَأ فِيهِ وعَلى رِوَايَة ابْن ماهان: إِن صحت مَعْنَاهُ أسكتوها، وَهَذَا ضَعِيف، لِأَنَّهَا لم تسكت بل قَالَت: سُبْحَانَ الله، وَالضَّمِير فِي بِهِ عَائِد إِلَى الِانْتِهَار أَو السُّؤَال، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: (الهابة) ،(19/91)
بِلَفْظ الْمصدر من اللهيب. قَوْله: (على تبر الذَّهَب) ، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ الْقطعَة الْخَالِصَة. قَوْله: (وَبلغ الْأَمر) . أَي: أَمر الْإِفْك. قَوْله: (إِلَى ذَلِك الرجل) ، وَهُوَ صَفْوَان. قَوْله: (كنف أُنْثَى) ، بِفَتْح الْكَاف وَالنُّون وَهُوَ السَّاتِر وَأَرَادَ بِهِ الثَّوْب. قَوْله: (فَقتل شَهِيدا فِي سَبِيل الله) وَهُوَ صَفْوَان بن الْمُعَطل السّلمِيّ، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: قتل صَفْوَان بن الْمُعَطل فِي غَزْوَة أرمينية شَهِيدا. وأميرهم يومئذٍ عُثْمَان بن الْعَاصِ سنة تسع عشرَة فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: إِنَّه مَاتَ بالجزيرة فِي نَاحيَة شمشاط وَدفن هُنَاكَ، وَقيل غير ذَلِك. قَوْله: (قارفت) ، بِالْقَافِ وَالرَّاء وَالْفَاء، أَي: كسبت. قَوْله (وَقد جَاءَت امْرَأَة)
قَوْله: (أَقُول مَاذَا) ، فَإِن قلت: الِاسْتِفْهَام يَقْتَضِي الصدارة. قلت: هُوَ مُتَعَلق بِفعل مُقَدّر بعده. قَوْله: (وأشربته) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى أَمر الْإِفْك، (وقلوبكم) مَرْفُوع بقوله: أشربت. قَوْله: (باءت بِهِ على نَفسهَا) ، أَي: أقرَّت بِهِ. قَوْله: (أَشد مَا كنت غَضبا) نَحْو قَوْلهم: أَخطب مَا يكون الْأَمِير قَائِما. قَالَ الْكرْمَانِي قلت: لَيْسَ كَذَلِك لِأَن قَوْله: أَخطب، فِي قَوْله: (أَخطب مَا يكون) مُبْتَدأ. وَقَوله (قَائِما) حَال سد مسد الْخَبَر. وَالتَّقْدِير: أَخطب كَون الْأَمِير قَائِما حَاصِل. وَقَوله: (أَشد مَا كنت) خبر قَوْله: (وَكنت أَشد مَا كنت) ، وَقَوله: (غَضبا) خبر: كنت الثَّانِي، وَالْمعْنَى: وَكنت حِين أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببراءتي أَشد أَي أقوى مَا كنت غَضبا من غَضَبي، قبل ذَلِك. قَوْله: (ذَلِك) ، لِأَن أفعل التَّفْضِيل يسْتَعْمل إِمَّا بِالْإِضَافَة أَو بِمن أَو بِالْألف وَاللَّام، وَهنا يَقْتَضِي الْحَال اسْتِعْمَاله بِمن على مَا لَا يخفى. قَوْله: (فعصمها الله) أَي: حفظهَا ومنعها. قَوْله: (فَهَلَكت فِيمَن هلك) ، أَي: حدت فِيمَن حد. قَوْله: (يستوشيه) ، أَي: يطْلب مَا عِنْده ليزيده ويريبه. قَوْله: (وَلَا يَأْتَلِ) أَي: وَلَا يحلف، وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي قصَّة الْإِفْك مُسْتَوفى فِي كتاب الشَّهَادَات.
21 - (بابٌ قَوْلُهُ: {ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النُّور: 13)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَليَضْرِبن} وأوله: {وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} ... الْآيَة، وَمعنى: وَليَضْرِبن وليضعن خمرهن جمع خمار على جُيُوبهنَّ جمع جيب وَأُرِيد بِهِ على صدورهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وقرطهن، وَذَلِكَ لِأَن جُيُوبهنَّ كَانَت وَاسِعَة تبدو مِنْهَا نحورهن وصدروهن وَمَا حواليها، وَكن يسدلن الْخمر من ورائهن فَتبقى مكشوفة فأمرن بِأَن يسدلنها من قدامهن حَتَّى يغطينها.
8574 - وَقَالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ حدَّثنا أبي عنْ يُونُسَ قَالَ ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ يَرْحَمُ الله نِسَاءَ المُهاجِراتِ الأوَلَ لَمَّا أنْزَلَ الله: {ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهِنَّ فاخْتَمَرْنَ بِها.
(انْظُر الحَدِيث 8574 طرفه فِي: 9574) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَذكره مُعَلّقا مَعَ أَن أَحْمد بن شبيب من جملَة مَشَايِخ البُخَارِيّ، وشبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ ابْن سعيد يروي عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَوصل هَذَا الْمُعَلق ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن زيد الصَّائِغ عَن أَحْمد بن شبيب فَذكره، وَكَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد والطبري من طَرِيق قُرَّة بن عبد الرحمان عَن الزُّهْرِيّ مثله.
قَوْله: (نسَاء الْمُهَاجِرَات) ، أَي: النِّسَاء الْمُهَاجِرَات وَهُوَ نَحْو: شجر الْأَرَاك، أَي: شجر هُوَ الْأَرَاك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من وَجه آخر: النِّسَاء الْمُهَاجِرَات. قَوْله: (الأول) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَاللَّام، أَي: السابقات من الْمُهَاجِرَات. قَوْله: (مُرُوطهنَّ) ، جمع مرط بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الْإِزَار، قَوْله: (فَاخْتَمَرْنَ بهَا) أَي: غطين وجوههن بالمروط الَّتِي شققتها.
9574 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا إبْرَاهِيمُ بنُ نافِعٍ عنِ الحَسَنِ بنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا كانَتْ تَقُولُ لمّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيةُ ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ أخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فشفقَّنَها مِنْ قِبَلِ الحَوَاشِي فاخْتَمَرْنَ بِهَا.
.(19/92)
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن أبي نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع المَخْزُومِي الْمَكِّيّ عَن الْحسن بن مُسلم بن يناق الْمَكِّيّ عَن صَفِيَّة بنت شيبَة بن عُثْمَان القرشية المكية.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن حَمَّاد عَن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع إِلَى آخِره.
قَوْله: (أزرهن) ، بِضَم الْهمزَة جمع إِزَار، وَهِي الملاءة بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف اللَّام وبالمد، وَهِي: الملحفة فَإِن قلت: حَدِيث عَائِشَة يدل على أَن اللَّاتِي شققْنَ أزرهن النِّسَاء الْمُهَاجِرَات، وَورد فِي حَدِيث عَائِشَة أَيْضا أَن ذَلِك كَانَ فِي نسَاء الْأَنْصَار، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم قلت: يُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن نسَاء الْأَنْصَار بادرن إِلَى ذَلِك حِين نزُول الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَالله أعلم.
52 - (سورَةُ الفُرْقَانُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْفرْقَان، وَهُوَ مصدر فرق بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا فصل بَينهمَا، وَسمي الْقُرْآن بِهِ لفصله بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَقيل: لِأَنَّهُ لم ينزل جملَة وَاحِدَة وَلَكِن مفروقاً مَفْصُولًا بَين بعضه وَبَعض فِي الْإِنْزَال، قَالَ تَعَالَى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس} (الْإِسْرَاء: 601) الْآيَة، وَهِي مَكِّيَّة وَفِي آيَة اخْتِلَاف وَهِي قَوْله عز وَجل: {إلاَّ من تَابَ وآمن وَعَملا عملا صَالحا} (الْفرْقَان: 07) . وَقيل: فِيهَا آيتان اخْتلف النَّاس فيهمَا، فَقيل: إنَّهُمَا مدنيتان، وَقيل: مكيتان، وَقيل: إِحْدَاهمَا مَكِّيَّة وَالْأُخْرَى مَدَنِيَّة، وهما قَوْله: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إل هَا آخر} الْآيَة وَقَوله إمن تَابَ وآمن (الْفرْقَان: 86) فَالَّذِي قَالَ إِن الأولى مَكِّيَّة وَهُوَ سعيد بن جُبَير، وَهِي قَوْله: {وَالَّذين لَا يدعونَ} إِلَى قَوْله: {مهاناً} . وَالثَّانيَِة مَدَنِيَّة وَهِي قَوْله: {إلاَّ من تَابَ وآمن} إِلَى قَوْله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} وَهِي سبع وَسَبْعُونَ آيَة، وَثَمَانمِائَة وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ كلمة، وَثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعمائة وَثَمَانُونَ حرفا.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
ثبتَتْ عِنْد الْكل.
قَالَ ابنُ عَبّاسٍ: هَباءً مَنْثُوراً مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي تَفْسِير: هباءً. منثوراً. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فَجعلنَا هباء منثوراً} (الْفرْقَان: 32) مَا تسفي بِهِ الرّيح أَي تذريه وترميه، وَوَصله ابْن الْمُنْذر من حَدِيث عَطاء عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: مَا تسفي بِهِ الرّيح وتثبته، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هباءً منثوراً، أَي: بَاطِلا لَا ثَوَاب لَهُ لأَنهم لم يعملوه لله، وَإِنَّمَا عملوه للشَّيْطَان. وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الهباء فَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالْحسن: هُوَ الَّذِي يرى فِي الكوى من شُعَاع الشَّمْس كالغبار وَلَا يمس بِالْأَيْدِي وَلَا يرى فِي الظل، وَقَالَ ابْن زيد: هُوَ الْغُبَار، وَقَالَ مقَاتل: هُوَ مَا يسطع من حوافر الدَّوَابّ، وَيُقَال: الهباء جمع هباة، والمنثور المتفرق.
مَدَّ الظِّلَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ألم ترَ إِلَى رَبك كَيفَ مد الظل} (الْفرْقَان: 54) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس) ، وَإِنَّمَا جعله ممدوداً لِأَنَّهُ لَا شمس مَعَه، كَمَا قَالَ فِي ظلّ الْجنَّة. {وظل مَمْدُود} (الْوَاقِعَة: 03) ، وبمثل مَا فسره رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وروى مثله أَيْضا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن وَقَتَادَة.
ساكِناً دَائِماً. عَلَيْهِ دَلِيلاً طُلُوعُ الشَّمْسِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ لجعله سَاكِنا ثمَّ جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا} . وَفسّر سَاكِنا بقوله: (دَائِما) أَي: غير زائل، وَقيل: لاصقاً بِأَصْل الْجِدَار غَيره منبسط، وَفسّر دَلِيلا بقوله: (الشَّمْس) أَي طُلُوع الشَّمْس دَلِيل على حُصُول الظل، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: تدل على الظل الشَّمْس، يَعْنِي لَوْلَا الشَّمْس مَا عرف الظل، وَلَوْلَا النُّور مَا عرفت الظلمَة.
خِلْفَةً مَنْ فاتَهُ مِنَ اللّيْلِ عملٌ أدْرَكَهُ بالنَّهارِ أوْ فاتَهُ بالنّهارِ أدْرَكَهُ باللّيْلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة} (الْفرْقَان: 26) . الْآيَة، وَفسّر (خلفة) بقوله: (من فَاتَهُ) إِلَى آخِره، وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن مثله، وَفِي التَّفْسِير: وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: خلفة، يَعْنِي عوضا وخلفاً يقوم واحدهما مَكَان صَاحبه، فَمن فَاتَهُ عمله فِي أَحدهمَا قَضَاهُ فِي الآخر، وَعَن مُجَاهِد: يَعْنِي جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا مُخَالفا للْآخر فَجعل هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض، وَعَن ابْن زيد: يَعْنِي إِذا جَاءَ أَحدهمَا ذهب الآخر، فهما يتعاقبان فِي الظلام والضياء وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان.(19/93)
وَقَالَ الحَسَنُ هَبْ لَنا مِنْ أزْواجِنا فِي طاعَةِ الله وَمَا شَيْءٌ أقَرَّ لِعَيْنِ المُؤْمِنِ أنْ يَري حَبِيبَهُ فِي طاعَةِ الله
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا} (الْفرْقَان: 47) وَهَكَذَا أسْندهُ عَنهُ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث جرير عَنهُ، وَفِي التَّفْسِير: قُرَّة أعين بِأَن نراهم مُؤمنين صالحين مُطِيعِينَ لَك، ووحد القرة لِأَنَّهَا مصدر وَأَصلهَا من الْبرد لِأَن الْعين تتأذى بِالْحرِّ وتستريح بالبرد.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ ثُبُوراً وَيْلاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {دعوا هُنَالك ثبوراً} (الْفرْقَان: 31) أَي: ويلاً وأسنده ابْن الْمُنْذر عَنهُ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ والتَّسَعُّرُ والاضْطِرَامُ التَّوَقدُ الشَّدِيدُ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس: وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً} (الْفرْقَان: 11) وَقَالَ: السعير مُذَكّر لِأَنَّهُ مَا يسعر بِهِ النَّار، وَإِنَّمَا حكم بتذكيره إِمَّا من حَيْثُ أَنه فعيل فَيصدق عَلَيْهِ أَنه مُذَكّر، وَإنَّهُ مؤنث، وَقيل: الْمَشْهُور أَن السعير مؤنث، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذا رأتهم من مَكَان بعيد سمعُوا لَهَا تغيظاً وزفيراً} (الْفرْقَان: 11) وَيُمكن أَن يُقَال: إِن الضَّمِير يحْتَمل أَن يعود إِلَى الزَّبَانِيَة، أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: (والتسعر) إِلَى آخِره يُرِيد بِهِ أَن معنى التسعر وَمعنى الاضطرام (التوقد الشَّديد) .
تُمْلَى عَلَيْهِ أيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أمْلَيْتُ وأمْلَلْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أساطير الْأَوَّلين} (الْفرْقَان: 5) اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرَة وَأَصِيلا، وَفسّر: (تملى عَلَيْهِ) بقوله: (تقْرَأ عَلَيْهِ) ، قَوْله: (وَقَالُوا) أَي: الْكفَّار، (أساطير الْأَوَّلين) يَعْنِي: مَا سطره المتقدمون من نَحْو أَحَادِيث رستم وإسفنديار، والأساطير جمع إسطار وأسطورة كأحدوثة. قَوْله: اكتتبها: يَعْنِي أَمر بكتبها لنَفسِهِ وَأَخذهَا، وَقيل: الْمَعْنى أكتتبها كَاتب لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيا لَا يكْتب بِيَدِهِ، وَذَلِكَ من تَمام إعجازه. قَوْله: (من أمليت) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن تملى من أمليت من الْإِمْلَاء، وَأَشَارَ بقوله: (أمللت) إِلَى أَن الإملال لُغَة فِي الْإِمْلَاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أمليت الْكتاب أملي وأمللته أمله لُغَتَانِ جيدتان جَاءَ بهما الْقُرْآن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة: 282) .
الرَّسُّ المَعْدِنُ جَمْعُهُ رِساسٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعاداً وَثَمُود وَأَصْحَاب الرس قروناً بَين ذَلِك كثيرا} (الْفرْقَان: 83) وَفسّر الرس بالمعدن، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ الْخَلِيل: الرس كل بِئْر غير مطوية وَقَالَ قَتَادَة: أَصْحَاب الأيكة وَأَصْحَاب الرس أمتان أرسل الله إِلَيْهِمَا شعيباً فعذبوا بعذابين، قَالَ السّديّ: الرس بِئْر بأنطاكية قتلوا فِيهَا حبيباً النجار فنسبوا إِلَيْهَا، رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وروى عِكْرِمَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: أَصْحَاب الرس، قَالَ: بِئْر بِأَذربِيجَان.
مَا يَعْبَأ يُقالُ مَا عَبأْتُ بِهِ شَيْئاً لَا يُعْتَدُّ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} (الْفرْقَان: 77) الْآيَة. وَفسّر: (مَا يعبأ) بقوله: (يُقَال) ، الخ. وَعَن أبي عُبَيْدَة: يُقَال مَا عبأت بِهِ شَيْئا، أَي: لم أعده فوجوده وَعَدَمه سَوَاء، وأصل هَذِه الْكَلِمَة تهيئة الشَّيْء، يُقَال: عبيت الْجَيْش وعبأت الطّيب عبوا: إِذا هيأته.
غَرَاماً هَلاَكاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن عَذَابهَا كَانَ غراماً} (الْفرْقَان: 56) وَفسّر الغرام بِالْهَلَاكِ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَمِنْه قَوْلهم: رجل مغرم بالحب.
وَقَالَ مُجاهِدٌ وعَتَوْا طَغَوْا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتواً كَبِيرا} (الْفرْقَان: 12) وَقَالَ: يَعْنِي عتوا طغوا، أخرجه وَرْقَاء فِي (تَفْسِيره) عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: عاتِيَةٍ عَتَتْ على الخُزَّانِ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة} (الحاقة: 6) هَذِه فِي سُورَة الحاقة، ذكرهَا هُنَا اسْتِطْرَادًا(19/94)
لقَوْله: وعتوا، قَوْله: (صَرْصَر) هُوَ الشَّديد الصَّوْت، وَقيل: الرّيح الْبَارِدَة من الصر فتحرق من شدَّة بردهَا. قَوْله: (عاتبة) ، شَدِيدَة العصف، وَقَالَ سُفْيَان فِي تَفْسِير عَاتِيَة: عَتَتْ على خزانها فَخرجت بِلَا كيل وَلَا وزن، والخزان، بِضَم الْخَاء وَتَشْديد الزَّاي: جمع خَازِن، وَأُرِيد بِهِ خزان الرّيح الَّذين لَا يرسلون شَيْئا من الرّيح إلاَّ بِإِذن الله بِمِقْدَار مَعْلُوم، وَوَقع فِي هَذَا التفاسير فِي النّسخ تَقْدِيم وَتَأْخِير وَزِيَادَة ونقصان.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولائِكَ شَرٌّ مَكاناً وأضَلُّ سَبِيلاً} (الْفرْقَان: 43)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يحشرون} إِلَى آخِره، وَهَذَا الْمِقْدَار فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره سَاقه إِلَى قَوْله: {وأضل سَبِيلا} . قَوْله: (الَّذين يحشرون) أَي: يسْحَبُونَ على وُجُوههم. قَوْله: (أُولَئِكَ مَكَانا) أَي: منزلَة وَهِي النَّار. قَوْله: (وأضل سَبِيلا) أَي: طَرِيقا، لِأَن طريقهم إِلَى النَّار.
0674 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا يُونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ البَغْدَادِيُّ حدّثنا شَيْبانُ عَنْ قَتادَةَ حَدثنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله عنهُ أنَّ رَجُلاً قَالَ يَا نَبِيَّ الله يُحْشَرُ الكافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيامَةِ قَالَ ألَيْسَ الَّذِي أمْشاهُ عَلَى الرَّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيا قادِراً عَلَى أنْ يَمْشِيهِ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ قَتادَةُ بَلَى وعِزَّةِ رَبِّنا.
(انْظُر الحَدِيث 0674 طرفه فِي: 3256) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حَرْب وَعبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن الْحُسَيْن بن مَنْصُور.
قَوْله: (قَالَ قَتَادَة) إِلَى آخِره زِيَادَة مَوْصُولَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، قَالَهَا قَتَادَة تَصْدِيقًا لقَوْله: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ.
2 - (بابُ قولِهِ: {والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ ولاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ الله إلاَّ بالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ومَنْ يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أثاماً} (الْفرْقَان: 86)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين} إِلَى آخِره، وَهَذَا الْمِقْدَار هُوَ الْمَرْوِيّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى قَوْله: (أثاماً) وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن نَاسا من أهل الشّرك قد قتلوا فَأَكْثرُوا، وزنوا فَأَكْثرُوا ثمَّ أَتَوا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: إِن الَّذِي تَقول وتدعونا إِلَيْهِ لحسن لَو تخبرنا أَن لما عَمِلْنَاهُ كَفَّارَة، فَنزلت: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إل هَا آخر} ... الْآيَات، وَقيل: نزلت فِي وَحشِي غُلَام ابْن مطعم.
1674 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا يَحْيَى يَحْيَى عَنْ سُفْيانَ قَالَ حدّثني منْصُورٌ وسُلَيْمانُ عنْ أبي وائِلٍ عَنْ أبي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ الله. قَالَ حدّثني واصِلٌ عَنْ أبي وائِلٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عنهُ قَالَ سألْتُ أوْ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ الله أكْبَرُ قَالَ أنْ تَجْعَلَ الله نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ قَالَ ثُمَّ أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أيّ قَالَ أنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ قَالَ وَنَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {والَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاّ بالحَقِّ} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو ميسرَة ضد الميمنة عَمْرو بن شُرَحْبِيل الْهَمدَانِي وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وواصل هُوَ ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف من الْحَيَاة، أَو من الْحِين منصرفاً وَغير منصرف الْكُوفِي.
والْحَدِيث(19/95)
مضى فِي أَوَائِل تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل عَن عبد الله، قَالَ: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره مُخْتَصرا. وَقَالَ: أعظم بدل أكبر.
قَوْله: (قَالَ وحَدثني) وأصل الْقَائِل هُوَ سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالْحَاصِل أَن الحَدِيث عِنْد سُفْيَان عَن ثَلَاثَة أنفس: أما إثنان مِنْهُمَا فأدخلا فِيهِ بَين أبي وَائِل وَعبد الله أَبَا ميسرَة، وَأما الثَّالِث وَهُوَ وَاصل فأسقطه، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان عَن الثَّلَاثَة عَن أبي وَائِل عَن أبي ميسرَة عَن عبد الله فعدوه وهما، وَالصَّوَاب إِسْقَاط أبي ميسرَة من رِوَايَة وأصل. وَالله أعلم. قَوْله: (سَأَلت أَو سُئِلَ) شكّ من الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَة قلت: يَا رَسُول الله. قَوْله: (أكبر) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: أعظم. قَوْله: (ندا) ، بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الدَّال أَي: نظيراً. قَوْله: (خشيَة أَن يطعم مَعَك) أَي: لأجل خشيَة، إطعامه مَعَك. فَإِن قيل: لَو لم يُقيد بهَا لَكَانَ الحكم كَذَلِك. وَأجِيب: بِأَن لَا اعْتِبَار لهَذَا الْمَفْهُوم لِأَن شَرطه أَن لَا يخرج الْكَلَام مخرج الْغَالِب. وَكَانَت عَادَتهم قتل الْأَوْلَاد لخشيتهم ذَلِك. قَوْله: (بحليلة جَارك) ، أَي: بامرأته، والحليلة على وزن فعيلة، أما من الْحل لِأَنَّهَا تحل لَهُ، وَإِمَّا من الْحُلُول لِأَنَّهَا تحل مَعَه وَيحل مَعهَا. فَإِن قلت: الْقَتْل وَالزِّنَا فِي الْآيَة مطلقان، وَفِي الحَدِيث مقيدان؟ قلت: لِأَنَّهُمَا بالقيد أعظم وأفحش، وَلَا مَانع من الِاسْتِدْلَال لذَلِك بِالْآيَةِ.
2674 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبرنا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي القاسِمُ بنُ أبي بَزَّةَ أنَّهُ سألَ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مِنْ تَوْبَةٍ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ: {ولاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاّ بالحَقِّ} (الْفرْقَان: 86) فَقَالَ سعِيدٌ قَرَأْتُها عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَها عَلَيَّ فَقَالَ هاذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْها آيةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّساءِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن جريج عبد الْملك، وَالقَاسِم بن بزَّة، بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الزَّاي، وَاسم أبي بزَّة نَافِع بن يسَار، وَيُقَال: يسَار إسم أبي بزَّة، وَيُقَال: أَبُو بزَّة جد الْقَاسِم لَا أَبوهُ، وَهُوَ مكي تَابِعِيّ ثِقَة، وَهُوَ وَالِد جد البزي المقرىء، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن الْقَاسِم، وَلَيْسَ للقاسم فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
قَوْله: (فَقَالَ سعيد) ، أَي: سعيد بن جُبَير. قَوْله: (فِي سُورَة النِّسَاء) ، هِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} (النِّسَاء: 39) وَلَيْسَ فِيهَا اسْتثِْنَاء التائب بِخِلَاف هَذِه الْآيَة إِذْ قَالَ الله تَعَالَى فِيهَا: {إلاَّ من تَابَ وآمن وَعمل عملا صَالحا فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} (الْفرْقَان: 07) فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ ابْن عَبَّاس لَا تَوْبَة للْقَاتِل، وَقَالَ الله عز وَجل: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا} (النُّور: 13) وَقَالَ: {إِن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده} (التَّوْبَة: 401) وَأجْمع الْأَئِمَّة على وجوب التَّوْبَة. أُجِيب: بِأَن ذَلِك مَحْمُول فِيهِ على الِاقْتِدَاء بِسنة الله فِي التَّغْلِيظ وَالتَّشْدِيد، وإلاَّ فَكل ذَنْب قَابل للتَّوْبَة، وناهيك بمحو الشّرك دَلِيلا.
3674 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ المُغِيرَةِ بنِ النعْمانِ عنْ سَعِيدِ ابْن جُبَيْر قَالَ اخْتَلَفَ أهْلُ الكُوفَةِ فِي قَتْلِ المُؤْمِنِ فَرَحَلْتُ فِيهِ إِلَى ابنِ عَبّاسٍ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يَنْسَخْها شَيْءٌ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن سعيد بن جُبَير، وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد مر كثيرا وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي سُورَة النِّسَاء.
4674 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شَعْبَةُ حَدثنَا مَنْصُورٌ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ سألْتُ ابنَ عبّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ قَالَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعٌ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ} قَالَ كانَتْ هاذِهِ فِي الجاهِلِيَّةِ..
هَذَا أَيْضا عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (كَانَت هَذِه) ، أَي قَوْله تَعَالَى: {لَا يدعونَ مَعَ الله إل هَا آخر} قَوْله: (فِي(19/96)
الْجَاهِلِيَّة) يَعْنِي: فِي حق أهل الشّرك من أهل مَكَّة. وَأما الْآيَة الْأُخْرَى فَفِي حق الرجل الَّذِي عرف الْإِسْلَام ثمَّ قتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم لَا تَوْبَة لَهُ، وَهَذَا مَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس، وَقد حمل جُمْهُور السّلف وَجَمِيع أهل السّنة مَا ورد من ذَلِك على التَّغْلِيظ والتهديد، وصححوا تَوْبَة الْقَاتِل كَغَيْرِهِ.
3 - (بابُ قَوْلُهُ: {يُضاعَفْ لَهُ العذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً} (الْفرْقَان: 96)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يُضَاعف} الْآيَة. قَوْله: (يُضَاعف) بدل من قَوْله: {يلق أثاماً} (الْفرْقَان: 86) لِأَنَّهُمَا فِي معنى وَاحِد، وَمعنى: {يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب} أَن الْمُشرك إِذا ارْتكب الْمعاصِي مَعَ الشّرك يعذب على الشّرك وعَلى الْمعاصِي جَمِيعًا، وَقَرَأَ عَاصِم: يُضَاعف، بِالرَّفْع على تَفْسِير: يلق أثاماً، كَأَن قَائِلا يَقُول: مَا لَقِي الأثام فَقيل: يُضَاعف الْعَذَاب، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ بَدَلا من قَوْله: (يلقَ) لِأَنَّهُ مجزوم على الْجَزَاء، وَابْن كثير وَابْن عَامر يحذفان فَإِن الْألف ويشددان الْعين. قَوْله: (ويخلد فِيهِ) أَي: فِي النَّار (مهاناً) ذليلاً، وَقَرَأَ ابْن عَامر: يخلد بِالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف وَالْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ.
4 - (بابُ: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فأُولائِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله: {إلاّ من تَابَ} الْآيَة. وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب.
6674 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخْبَرَنا أبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ أمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبْزَي أنْ أسْألَ ابنَ عَبَّاسٍ عَنْ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} (الْفرْقَان: 86) فَسَألْتُهُ فَقَالَ لَمْ يَنْسَخْها شَيْءٌ وَعَنْ: {والَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلِّهاً آخَرَ} قَالَ نَزَلَتْ فِي أهْلِ الشِّرْكِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن أَبْزَى، وعبدان هُوَ ابْن عُثْمَان بن جبلة الْأَزْدِيّ الْمروزِي. وَحَاصِل هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا سعيد بن جُبَير أَن ابْن عَبَّاس يفرق بَين الْآيَتَيْنِ المذكورتين وَهُوَ أَن قَوْله: (وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا) الْآيَة فِي حق الْمُسلم الْعَارِف بالأمور الشَّرْعِيَّة، وَإِن قَوْله: (إلاَّ من تَابَ) الْآيَة. فِي حق الْمُشرك، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فلاتوبة للْقَاتِل عِنْده، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب وَفِيمَا مضى.
5 - (بابُ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} (الْفرْقَان: 77) هَلَكَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فقد كَذبْتُمْ فَسَوف يكون لزاماً} وَقد فسره بقوله: (هلكة) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اخْتلف فِي اللزام فَقيل:(19/97)
يَوْم بدر قتل مِنْهُم سَبْعُونَ وَأسر سَبْعُونَ، وَقيل: عَذَاب الْقَبْر، وَقَالَ ابْن جرير: عذَابا دَائِما لَازِما وهلاكاً مستمراً.
7674 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غياثٍ حدَّثنا الأعْمَشُ حَدثنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوق قَالَ عَبْدُ الله خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخانُ والقَمَرُ والرُّومُ والبَطْشَةُ واللِّزَامُ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} (الْفرْقَان: 77) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح أَبُو الضُّحَى، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
قَوْله: (خمس) أَي: خَمْسَة عَلَامَات (قد مضين) ، أَي وقعن. الأولى: الدُّخان. قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . الثَّانِيَة: الْقَمَر، قَالَ الله تَعَالَى: {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} (الْقَمَر: 1) . الثَّالِثَة: الرّوم، قَالَ الله تَعَالَى: {ألم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1) . الرَّابِعَة: البطشة. قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) وَهُوَ الْقَتْل الَّذِي وَقع يَوْم بدر. الْخَامِسَة: للزام {فَسَوف يكون لزاماً} قيل: هُوَ الْقَحْط، وَقيل: هُوَ التصاق الْقَتْلَى بَعضهم بِبَعْض فِي بدر، وَقيل: هُوَ الْأسر فِيهِ، وَقد أسر سَبْعُونَ قرشياً فِيهِ. والْحَدِيث مر فِي كتاب الاسْتِسْقَاء.
62 - (سورَةُ الشُّعَرَاءِ)
أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة الشُّعَرَاء. مَكِّيَّة كلهَا إِلَّا آيَة وَاحِدَة. {إلاَّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرا وانتصروا من بَعْدَمَا ظلمُوا} (الشُّعَرَاء: 722) نزلت فِي حسان وَعبد الله بن رَوَاحَة وَكَعب بن مَالك شعراء الْأَنْصَار، وَقَالَ مقَاتل: فِيهَا من الْمدنِي آيتان: {وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ} (الشُّعَرَاء: 422) وَقَوله: {أَو لم يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل} (الشُّعَرَاء: 791) وَعند السخاوي: نزلت بعد سُورَة الْوَاقِعَة، وَقبل سُورَة النَّمْل، وَهِي: مِائَتَان وَسبع وَعِشْرُونَ آيَة، وَألف ومائتان وَسبع وَتسْعُونَ كلمة، وَخَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة وإثنان وَأَرْبَعُونَ حرفا.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
ثبتَتْ لأبي ذَر
وَقَالَ مُجاِدٌ تَعْبَثُونَ تَبْنُونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون} (الشُّعَرَاء: 821) وَفسّر تعبثون بقوله: (تبنون) . وصصله الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ فِي قَوْله: {أتبنون بِكُل ريع} قَالَ: بِكُل فج (آيَة تعبثون) ، قَالَ: بنياناً. وَعَن ابْن عَبَّاس: بِكُل ريع بِكُل شرف، عَن قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل والكلبي: طَرِيق، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن عِكْرِمَة: وَاد، وَعَن مقَاتل: كَانُوا يسافرون وَلَا يَهْتَدُونَ إلاَّ بالنجوم فبنوا على الطّرق أعلاماً طوَالًا عَبَثا ليهتدوا بهَا وَكَانُوا فِي غبة مِنْهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَانُوا يبنون بروجاً للحمامات يعبثون بهَا. والريع الْمُرْتَفع من الأَرْض وَالْجمع ريعة بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْيَاء، وَأما الأرياع فمفرده: ريعة، بِالْكَسْرِ والسكون.
هَضِيمٌ: يَتَفَتَّتُ إذَا مُسَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِي جنَّات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم} (الشُّعَرَاء: 741 841) وَفسّر هضيماً بقوله: (يتفتت إِذا مس) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذَا قَول مُجَاهِد أَيْضا، وَقيل: هُوَ المنظم فِي وعائه قبل أَن يظْهر.
مُسَحَّرِينَ: المَسْحُورِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين} (الشُّعَرَاء: 351 581) وَفَسرهُ بقوله: (المسحورين) أَي: من سحر مرّة بعد مرّة من المخلوقين المعللين بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، وَقَالَ الْفراء: أَي أَنَّك تَأْكُل الطَّعَام وتشرب الشَّرَاب وتسحر بِهِ، وَالْمعْنَى: لست بِملك إِنَّمَا أَنْت بشر مثلهَا لَا تفضلنا فِي شَيْء. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل من أكل فَهُوَ مسحر، وَذَلِكَ أَن لَهُ سحرًا، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْحَاء، أَي: رئة، وَقيل: من السحر بِالْكَسْرِ.
واللَّيْكَةُ والأيْكَةُ جَمْعُ أيْكَةٍ وَهْيَ جَمْعُ شَجَرٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كذب أصحابُ الأيكة الْمُرْسلين} (الشُّعَرَاء: 671) والليكة، بِفَتْح اللَّام والأيكة بِفَتْح الْهمزَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: من قَرَأَ أَصْحَاب الأيكة فَهِيَ الغيضة، وَمن قَرَأَ: ليكة، فَهِيَ الْقرْيَة. وَقَالَ: الأيك الشّجر الْكثير الملتف الْوَاحِدَة أيكة. قلت: قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَابْن عَامر أَصْحَاب ليكة هُنَا، وَفِي (ص) بِغَيْر همزَة، وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ فيهمَا. قَوْله: (جمع أيكة) كَذَا فِي النّسخ وَهُوَ غير صَحِيح، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: والليكة والأيكة مُفْرد أيك، وَيُقَال: جمعهَا أيك، وَالْعجب من بعض الشُّرَّاح حَيْثُ لم يذكر(19/98)
هُنَا شَيْئا بل قَالَ: الْكَلَام الأول من قَول مُجَاهِد، وَمن جمع أيكة ... الخ من كَلَام أبي عُبَيْدَة، وحاشا من مُجَاهِد وَمن أبي عُبَيْدَة أَن يَقُولَا الأيكة جمع أيكة. قَوْله: (وَهِي جمع شجر) ، كَذَا للأكثرين، وَعند أبي ذَر: وَهِي جمع الشّجر، وَفِي بعض النّسخ وَهِي جمَاعَة الشّجر، وعَلى كل التَّقْدِير: هَذَا فِي نفس الْأَمر تَفْسِير غيضة الَّتِي يُفَسر بهَا الأيكة، لِأَن الغيضة هِيَ جمَاعَة الشّجر، وَإِذا لم يُفَسر الأيكة بالغيضة لَا يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام. فَافْهَم فَإِنَّهُ مَوضِع التَّأَمُّل.
يَوْمِ الظُّلَّةِ أظْلاَلُ العَذَابِ إيَّاهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة} وَفسّر (يَوْم الظلة) بقوله: (إظلال الْعَذَاب إيَّاهُم) ، وَفِي التَّفْسِير معنى الظلة هُنَا: السَّحَاب الَّتِي أظلتهم.
مَوْزُونٍ مَعْلُومٍ
هَذَا غير وَاقع فِي مَحَله فَإِنَّهُ فِي سُورَة الْحجر، وَكَأَنَّهُ من جهل النَّاسِخ لعدم تَمْيِيزه، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وأنبتنا فِيهَا من كل شَيْء مَوْزُون} (الْحجر: 91) .
كالطَّوْدِ الجَبَلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم} (الشُّعَرَاء: 36) وَفسّر الطود بِالْجَبَلِ، وَوَقع هَذَا لأبي ذَر مَنْسُوبا إِلَى ابْن عَبَّاس، وَلغيره مَنْسُوبا إِلَى مُجَاهِد، وَفِي بعض النّسخ: كالطود الْجَبَل.
الشِّرْذِمَةُ طائِفَةٌ قَلِيلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} (الشُّعَرَاء: 45) وَفسّر الشرذمة (بطَائفَة قَليلَة) ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أرسل فِرْعَوْن فِي إِثْر مُوسَى لما خرج مَعَ بني إِسْرَائِيل ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف ملك، مَعَ كل ملك ألف فَارس، وَخرج فِرْعَوْن فِي الْكُرْسِيّ الْعَظِيم فَكَانَ فِيهِ ألفا ألف فَارس. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: أتبعه فِرْعَوْن فِي ألفي حصان سوى الْإِنَاث وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سِتّمائَة ألف من بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ فِرْعَوْن: إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ، فَكيف التَّوْفِيق بَين الْكَلَامَيْنِ؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد ابْن عَبَّاس: خَواص فِرْعَوْن الَّذين كَانُوا يلازمونه لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلم يذكر غَيرهم، على أَن الَّذِي ذكره الثَّعْلَبِيّ لَا يَخْلُو عَن نظر، وَقد رُوِيَ عَن عبد الله، قَالَ: كَانُوا سِتّمائَة ألف وَسبعين ألفا.
فِي السَّاجِدِينَ المُصَلِّينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي يراك حِين تقوم وتقلبك فِي الساجدين} (الشُّعَرَاء: 812 912) وَفسّر الساجدين بالمصلين، وَكَذَا فسره الْكَلْبِيّ، وَقَالَ: الَّذِي يرى تصرفك مَعَ الْمُصَلِّين فِي أَرْكَان الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة قَائِما وَقَاعِدا وراكعاً وساجداً. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: هُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ كأنَّكُمْ
أَي قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون} (الشُّعَرَاء: 921) إِن معنى: لَعَلَّكُمْ كأنكم، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: كأنكم تخلدون، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: {لَعَلَّكُمْ تخلدون} ، وَعَن الواحدي: كل مَا فِي الْقُرْآن: لَعَلَّ، فَهُوَ للتَّعْلِيل إلاَّ هَذَا الْحَرْف فَإِنَّهُ للتشبيه، قيل: فِي الْحصْر نظر لِأَنَّهُ قد قيل مثل ذَلِك فِي قَوْله: {لَعَلَّك باخع نَفسك} (الشُّعَرَاء: 3) .
الرِّيعُ الأيْفاعُ مِنَ الأرْضِ وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ وأرْياع واحِدَ الرِّيَعَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون} (الشُّعَرَاء: 821) . وَقَالَ: (الرّيع الأيفاع من الأَرْض) ، الأيفاع بِفَتْح الْهمزَة جمع يافع وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع من الأَرْض، وَمِنْه يُقَال: غُلَام يافع من أَيفع الْغُلَام أَي: ارْتَفع، وَالصَّوَاب: اليفاع من الأَرْض بِفَتْح الْيَاء وَالْفَاء وَهُوَ الْمُرْتَفع مِنْهَا، وَقد فسر الرّيع بِكَسْر الرَّاء بقوله: الايفاع واليفاع من الأَرْض، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: غُلَام يافع ويفع ويفعة وغلمان أيفاع ويفعة أَيْضا، وَقَالَ: والريع بِالْكَسْرِ الْمُرْتَفع من الأَرْض، وَقَالَ عمَارَة: هُوَ الْجَبَل، والريع أَيْضا: الطَّرِيق. قلت: وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَقيل: الْفَج بَين الجبلين، وَعَن مُجَاهِد: الثَّنية الصَّغِيرَة وَعَن عِكْرِمَة وادٍ، وَعَن ابْن عَبَّاس: بِكُل ريع يَعْنِي: بِكُل شرف، والريع بِالْفَتْح النَّمَاء، وَمِنْه ريع الاملاك. قَوْله: (وَجمعه) ، أَي: جمع الرّيع (ريعة) بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْيَاء(19/99)
كقرد وقردة. قَوْله: (وأرياع وَاحِد الريعة) ، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْيَاء، وَعند جمَاعَة من الْمُفَسّرين: ريع وَاحِد وَجمعه أرياع وريعة بِالتَّحْرِيكِ، وريع جمع أَيْضا واحده ريعة بِالسُّكُونِ: كعهن وعهنة.
مَصانِعَ كلُّ بِناء فَهْوَ مَصْنَعَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون} (الشُّعَرَاء: 921) وَقَالَ: (كل بِنَاء فَهُوَ مصنعة) وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة، ومصنعة مُفْرد مصانع، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة: المصانع الْقُصُور والحصون، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: المصانع عندنَا بلغَة الْيمن الْقُصُور العادية، وَقيل: المصانع بروج الْحمام.
فَرِهِينَ مَرِحِينَ فارِهِينَ بِمَعْناهُ ويُقالُ: فارِهِينَ حاذِقِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتنحّون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين} (الشُّعَرَاء: 941) وَفَسرهُ بقوله: مرحين، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، ومرحين جمع مرح صفة مشبهة من مرح بِالْكَسْرِ مرحاً، والمرح شدَّة الْفَرح والنشاط، وَعَن ابْن عَبَّاس: أشرين، وَعَن الضَّحَّاك: كيسين، وَعَن قَتَادَة: معجبين بصنيعهم، وَعَن مُجَاهِد: شرهين، وَعَن عِكْرِمَة: ناعمين، وَعَن السّديّ: متحيرين، وَعَن ابْن زيد: أقوياء، وَعَن الْكسَائي: بطرين، وَعَن الْأَخْفَش: فرحين، وَهَكَذَا هُوَ رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ بَعضهم: وَصَوَّبَهُ بَعضهم لقرب مخرج الْحَاء من الْهَاء وَلَيْسَ بِشَيْء. قلت: أَرَادَ بالمصوب صَاحب (التَّوْضِيح) ورده عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْهَاء والحاء من حُرُوف الْحلق وَالْعرب تعاقب بَين الْحَاء وَالْهَاء مثل مدحته ومدهته. قَوْله: (فارهين بِمَعْنَاهُ) ، أَي: بِمَعْنى: فرهين، من قَوْله الرجل فَهُوَ فاره. قَوْله: (وَيُقَال: فارهين حاذقين) وَكَذَا رُوِيَ عَن عبد الله بن شَدَّاد، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وقرىء فرهين بِالْألف: فارهين، أَي: حاذرين بنحتها، وَقيل: متحيرين لمواضع نحتها.
تَعْثَوْا هُوَ أشَدُّ الفَسادِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} (الشُّعَرَاء: 381) وَتَفْسِيره بأشد الْفساد، تَفْسِير مصدر: تعثوا، لِأَنَّهُ من عثا فِي الأَرْض يعثو: فسد، وَكَذَلِكَ عثى بِالْكَسْرِ يعثي، فمصدر الأول عثواً ومصدر الثَّانِي عثى، فَافْهَم.
عاثَ يَعِيثُ عَيْثاً
أَرَادَ بِهَذَا أَن معنى: عاث، مثل معنى: عثى: أفسد وَلَيْسَ مُرَاده أَن تعثوا مُشْتَقّ من عاث لِأَن تعثوا معتل اللَّام نَاقص، وعاث معتل الْعين أجوف، وَمن لَهُ أدنى ملكة من التصريف يفهم هَذَا.
الجِبِلَّةُ الخَلْق جُبِلَ خُلِقَ ومِنْهُ جُبُلاً وجِبِلاً وجُبْلاً يَعْنِي الخَلْقَ قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والجبلة الْأَوَّلين} (الشُّعَرَاء: 481) وفسرها بالخلق. قَوْله: (جبل على صِيغَة الْمَجْهُول) ، أَي: خلق مَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (وَمِنْه) ، أَي: وَمن هَذَا الْبَاب جبلا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا كثيرا} (يس: 26) . وَفِيه قراءات شَتَّى ذكره البُخَارِيّ هُنَا ثَلَاثَة: الأولى: جبلا: بِضَمَّتَيْنِ. الثَّانِيَة: جبلا، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْبَاء. الثَّالِثَة: جبلا، بِضَم الْجِيم وَالْبَاء وَتَشْديد اللَّام، وَالْحَاصِل أَن قِرَاءَة نَافِع وَعَاصِم بكسرتين وَتَشْديد اللَّام. وَقِرَاءَة أبي عَمْرو وَابْن عَامر بكسرتين وَتَخْفِيف اللَّام، وَقَرَأَ الْأَعْمَش بكسرتين وَتَخْفِيف اللَّام، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَاللَّام خَفِيفَة، وقرىء فِي الشواذ بِضَمَّتَيْنِ وبالتشديد وبكسرة وَسُكُون وبكسرة وفتحة وبالتخفيف. قَوْله: (قَالَه ابْن عَبَّاس) وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَلم يَقع عِنْد غَيره، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا أولى فَإِن هَذَا كُله كَلَام أبي عُبَيْدَة، انْتهى. قلت: لَيْت شعري من أَيْن الْأَوْلَوِيَّة، وَكَونه كَلَام أبي عُبَيْدَة لَا يسْتَلْزم نفي كَونه من كَلَام ابْن عَبَّاس أَيْضا.
1 - (بابُ: {وَلَا يُخْزِني يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (الشُّعَرَاء: 78)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا تخزني يَوْم يبعثون} وَلم يثبت لفظ بَاب إلاَّ يثبت لفظ بَاب إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده. قَوْله: (يَوْم يبعثون) أَي: الْعباد، وَقيل: يَوْم يبْعَث الضالون، وَأبي فيهم.
8674 - وَقَالَ إبْرَاهيمُ بنُ طَهْمانَ عنِ ابنِ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِيهِ(19/100)
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يُري أباهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلَيْهِ الغَبَرَةُ والقَتَرَةُ. الغَبَرَةُ هِيَ القَتَرَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه وَالَّتِي قبلهَا وَهِي قَوْله تَعَالَى: {واغفر لأبي أَنه كَانَ من الضَّالّين} (الشُّعَرَاء: 68) فِي قصَّة سُؤال إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ورؤيته أَبَاهُ على الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة، وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء: الْهَرَوِيّ أَبُو سعيد، سكن نيسابور ثمَّ سكن مَكَّة وَمَات سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَابْن أبي ذِئْب مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ذِئْب واسْمه هِشَام وَسَعِيد يروي عَن أَبِيه عَن أبي سعيد واسْمه كيسَان الْمَدِينِيّ، وَكَانَ يسكن عِنْد مَقْبرَة فنسب إِلَيْهَا.
والْحَدِيث مُعَلّق وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان إِلَى آخر الحَدِيث.
قَوْله: (يرى) ، ويروى: رأى، قَوْله: (أَبَاهُ) ، هُوَ آزر. قَوْله: (عَلَيْهِ الغبرة) جملَة حَالية بِلَا وَاو. قَوْله: (والقترة) ، بِفَتْح الْقَاف وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهِي سَواد كالدخان، وَهَذَا مقتبس من قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهَا غبرة ترهقها قترة} (عبس: 04 14) ، أَي: تصيبها قترة، وَلَا يرى أوحش من اجْتِمَاع الغبرة والسواد فِي الْوَجْه. قَوْله: (الغبرة) ، مُبْتَدأ. وَقَوله: هِيَ الفترة جملَة خَبره، وَهَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَعَلِيهِ الغبرة والقترة، وَتَفْسِيره هَكَذَا غير طائل على مَا لَا يخفى، يفهم بِالتَّأَمُّلِ.
9674 - حدَّثنا إسْماعِيلُ حَدثنَا أخِي عنِ ابنِ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُريِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أباهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إنَّكَ وعَدْتَني أنْ لَا تُخْزِني يَوْم يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ الله إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكافِرِينَ.
(انْظُر الحَدِيث 0533 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة بِلَا وَاسِطَة أَبِيه، وَسَعِيد قد سمع عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَسمع أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَذَا لَا يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، واسْمه عبد الله يروي عَن أَخِيه عبد الحميد بن أبي ذِئْب إِلَى آخِره ... والْحَدِيث قد مضى فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: (لَا تخزني) فَإِن قيل: إِذا أَدخل الله أَبَاهُ فِي النَّار فقد أَخْزَاهُ لقَوْله: {إِنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته} (آل عمرَان: 291) وخزي الْوَالِد خزي الْوَلَد فَيلْزم الْخلف فِي الْوَعْد وَأَنه محَال، وَأجِيب: لَو لم يدْخل النَّار لزم الْخلف فِي الْوَعيد، وَهَذَا هُوَ المُرَاد بقوله: حرمت الْجنَّة على الْكَافرين، وَيُجَاب أَيْضا بِأَن أَبَاهُ يمسخ إِلَى صُورَة ذيخ، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة أَي: ضبع، ويلقى فِي النَّار فَلَا خزي حَيْثُ لَا تبقى لَهُ صورته الَّتِي هِيَ سَبَب الخزي، فَهُوَ عمل بالوعد والوعيد كليهمَا، وَقيل: الْوَعْد مَشْرُوط بِالْإِيمَان كَمَا أَن الاسْتِغْفَار لَهُ كَانَ عَن موعدة وعدها إِيَّاه، فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ.
2 - (بابُ: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ واخْفِضْ جَناحَكَ} (الشُّعَرَاء: 412 512) . ألِنْ جانِبَكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وأنذر} الْخطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمرَاد بالأقربين: بَنو عبد منَاف، وَقيل: بَنو عبد الْمطلب، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رجلا، وَقيل: هم قُرَيْش وَبِه جزم ابْن التِّين، والقربى فِي الْخمس: بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب عِنْد الشَّافِعِي، قَوْله: (ألن جَانِبك) ، من الإلانة وَهُوَ تَفْسِير قَوْله: واخفض جناحك، وَهَكَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ.
0774 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غياثٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ حدّثني عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) صَعِدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى الصَّفا فَجَعَلَ يُنادِي يَا بَني فِهْرٍ يَا بَني عَدِيّ لِبُطُونِ قُرَيْش حَتَّى اجْتعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَخْرُجُ أرْسَلَ رَسُولا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجاءَ أبُو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ(19/101)
فَقَالَ أرَأيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلاً بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أكنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً قَالَ فإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيّ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أبُو لَهَبٍ تَباً لَكَ سائِرَ اليَوْمِ ألِهاذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبْ وَتَبَّ مَا أغْنَى عَنْهُ مالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد: 1 2) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء. وَهَذَا الحَدِيث مُرْسل لِأَن ابْن عَبَّاس كَانَ حينئذٍ إِمَّا لم يُولد أَو كَانَ طفْلا، وَبِه جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب من انتسب إِلَى آبَائِهِ فِي الْإِسْلَام والجاهلية، وَلَكِن الَّذِي هُنَا بأتم من ذَاك.
قَوْله: (أَرَأَيْتكُم) ، مَعْنَاهُ: أخبروني وَالْعرب تَقول: أرأيتكما أَرَأَيْتكُم عِنْد الاستخبار بِمَعْنى: أَخْبرنِي واخبراني وأخبروني، وتاؤها مَفْتُوحَة أبدا. قَوْله: (أَن خيلاً) أَي: عسكراً. قَوْله: (مصدقي) ، بتَشْديد الْيَاء وَأَصله: مُصدقين لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت النُّون وأدغمت يَاء الْجمع فِي يَاء الْمُتَكَلّم. قَوْله: (نذيراً) أَي: منذراً. قَوْله: (وَتب) وَفِي رِوَايَة أُسَامَة: وَقد تب، وَزَاد: هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَش يومئذٍ، والتباب الخسران والهلاك، تَقول مِنْهُ: تب تباباً وَتب يَدَاهُ. وَقَوله: تَبًّا لَك، نصب على الْمصدر بإضمار فعل: أَي: ألزمك الله هَلَاكًا وخسراناً. قَوْله: (سَائِر الْيَوْم) أَي: فِي جَمِيع الْيَوْم، وَمِنْه: سَائِر النَّاس أَي جَمِيعهم. قَوْله: (أَلِهَذَا) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على وَجه الْإِنْكَار.
1774 - حدَّثنا أَبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَني سَعِيدُ بنُ المسَيَّبِ وأبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمان أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ أنْزل الله: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أوْ كَلِمَةً نَحْوَها اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ لَا أعْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً يَا بَني عَبْدِ مَنافٍ لَا أغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً يَا عبَّاسُ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا أغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً وَيَا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً.
(انْظُر الحَدِيث 3572 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَيْضا من مَرَاسِيل أبي هُرَيْرَة لِأَن أَبَا هُرَيْرَة أسلم بِالْمَدِينَةِ وَهَذِه الْقِصَّة وَقعت بِمَكَّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي. والْحَدِيث مر بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد وَعين هَذَا الْمَتْن فِي كتاب الْوَصَايَا فِي: بَاب هَل يدْخل النِّسَاء والود فِي الْأَقَارِب؟ وَهَذَا تكْرَار صَرِيح لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة غير اخْتِلَاف التَّرْجَمَة فيهمَا.
قَوْله: (أَو كلمة نَحْوهَا) شكّ من الرَّاوِي، أَي: أَو نَحْو: (يَا معشر قُرَيْش) مثل قَوْله: يَا بنيفلانة، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي قَوْله: {اشْتَروا أَنفسكُم} أَي: بِاعْتِبَار تَخْلِيصهَا من الْعَذَاب كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْلمُوا تسلموا من الْعَذَاب فَيكون ذَلِك كالشري كَأَنَّهُمْ جعلُوا الطَّاعَة ثمن النجَاة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: يَا معشر قُرَيْش أَنْقِذُوا أَنفسكُم من النَّار. قَوْله: (يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يجوز فِي: عمَّة، النصب وَالرَّفْع بِاعْتِبَار اللَّفْظ وَالْمحل، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: (يَا فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَوْله: (لَا أُغني عَنْك) يُقَال: مَا يغنى عَنْك هَذَا أَي: مَا ينفعك.
تابِعَهُ أصْبَغُ عنِ ابنِ وهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ شِهابٍ
أَي تَابع أَبَا الْيَمَان فِي رِوَايَة أصبغ بن الْفرج الْمصْرِيّ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد مر وَجه الْمُتَابَعَة فِي كتاب الْوَصَايَا، وَالْحكمَة فِي إنذار الْأَقْرَبين أَولا أَن الْحجَّة إِذا قَامَت عَلَيْهِم تعدت إِلَى غَيرهم وَلَا يبْقى لَهُم عِلّة فِي الِامْتِنَاع.
72 - (سورَةُ النَّمْلُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة النَّمْل، ذكر الْقُرْطُبِيّ وَغَيره أَنَّهَا مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَعند السخاوي: نزلت قبل الْقَصَص وَبعد الْقَصَص سُبْحَانَ، وَهِي ثَلَاثَة وَتسْعُونَ آيَة، وَألف وَمِائَة وتسع وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَأَرْبَعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا.(19/102)
ثَبت لفظ: سُورَة. والبسلمة لأبي ذَر وَحده، وَثَبت للنسفي لَكِن بعد الْبَسْمَلَة.
والخَبْءُ مَا خَبَأْتَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلا يسجدوا لله الَّذِي يخرج الخبء} (النَّمْل: 52) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (مَا خبأت) وَعَن الْفراء يخرج الخبء أَي الْغَيْث من السَّمَاء والنبات من الأَرْض. قَوْله: (والخبء) بِالْوَاو فِي أَوله فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره بِلَا وَاو، وَمثل هَذِه الْوَاو تسمى: وَاو الاستفتاح، هَكَذَا سَمِعت من أساتذتي الْكِبَار.
لَا قِبَلَ لَا طاقَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إرجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا} (النَّمْل: 73) الْآيَة، وَفَسرهُ بقوله: (لَا طَاقَة) لَهُم بهَا وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد مثله، وَكَذَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة.
الصَّرْحُ كُلُّ مِلاَطٍ اتَّخَذَ مِنَ القَوَارِيرِ والصَّرْحُ القَصْرُ وجَماعَتُهُ صُرُوحٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قيل لَهَا ادخلي الصرح} (النَّمْل: 44) الْآيَة وَفسّر الصرح بقوله: (كل ملاط) بِكَسْر الْمِيم فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الأصبلي بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن السكن، وَكَذَا بِخَط الدمياطي فِي نسخته بِالْبَاء، وَقَالَ ابْن التِّين بِالْمِيم، وَقَالَ: الملاط بِالْمِيم الْمَكْسُورَة الَّذِي يوضع بَين سافتي الْبُنيان، وَقيل: الصخر، وَقيل: كل بِنَاء عَال مُنْفَرد، وبالباء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة مَا تُكْسَى بِهِ الأَرْض من حِجَارَة أَو رُخَام، وَقَالَ البُخَارِيّ: كل ملاط اتخذ من الْقَوَارِير، وَكَذَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (والصرح: الْقصر) هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة أَيْضا. قَوْله: (وجماعته) . والأصوب: وَجمعه صروح.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيْمٌ سَرِيرٌ كَرِيمٌ حُسْنُ الصَّنْعَةِ وغَالِي الثَّمَنِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَلها} أَي: ولبلقيس {عرش عَظِيم} (النَّمْل: 32) يَعْنِي: سَرِير كريم وَصفه بِالْكَرمِ على سَبِيل الْمجَاز على أَنه من خِيَار السرر وأنفسها، كَمَا فِي قَوْله: {تَأْخُذ كرائم أَمْوَال النَّاس وَهِي خِيَارهَا ونفائسها. قَوْله: (حسن الصَّنْعَة) } ، بِفَتْح الْحَاء وَالسِّين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حسن الصَّنْعَة مُبْتَدأ أَو خَبره مَحْذُوف أَي: لَهُ، وَهَذَا يدل على أَنه بِضَم الْحَاء وَسُكُون السِّين. قَوْله: (غالي الثّمن) ، ويروى: غلا الثّمن، وَهُوَ عطف على مَا قبله، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: عرش عَظِيم ضخم حسن وَكَانَ مقدمه من ذهب مفضض بالياقوت الْأَحْمَر والزمرد الْأَخْضَر ومؤخره من فضَّة مكلل بألوان الْجَوَاهِر، وَله أَربع قَوَائِم قَائِمَة من ياقوت أصفر وقائمة من زمرد أَخْضَر وقائمة من در، وصفائح السرير من ذهب وَعَلِيهِ سَبْعَة أَبْيَات على كل بَيت بَاب مغلق. وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ عرش بلقيس ثَلَاثِينَ ذِرَاعا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَطوله فِي الْهَوَاء ثَلَاثُونَ ذِرَاعا، وَعَن مقَاتل ثَمَانِينَ ذِرَاعا فِي ثَمَانِينَ ذِرَاعا وَطوله فِي الْهَوَاء ثَمَانُون ذِرَاعا مكلل بالجواهر.
يأتُونِي مسْلِمِينَ طائِعِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا قبل أَن يأتوني مُسلمين} (النَّمْل: 83) وَفَسرهُ بقوله: (طائعين) وَهَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: معنى طائعين منقادين لأمر سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَلم يقل: مُطِيعِينَ، لِأَن أطاعه إِذا أجَاب أمره، وطاعه إِذا انْقَادَ لَهُ، وَهَؤُلَاء أجابوا أمره.
رَدِفَ: اقْتَرَبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {عَسى أَن يكون رَدِفَ لكم} (النَّمْل: 27) وَفسّر: (ردف) بقوله: (اقْترب) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
جامِدَةً قائِمَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة} (النَّمْل: 88) وفسرها بقوله: (قَائِمَة) هَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
أوْزعْنِي اجْعَلْنِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ} (النَّمْل: 91)
الْآيَة، فسر قَوْله: (أوزعني) . بقوله: (اجْعَلنِي) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : أوزعني: إجعلني أزع شكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت(19/103)
عَليّ وعَلى وَالِدي، وآلفه وارتبطه لَا يَنْقَلِب عني حَتَّى لَا أَزَال شاكراً لَك.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: نَكِّرُوا غَيِّرُوا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي معنى قَوْله تَعَالَى: (نكروا لَهَا عرشها: غيروا، أسْندهُ أَبُو مُحَمَّد من حَدِيث ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: غيروه. وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من وَجه أخر صَحِيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: أَمر بالعرش فَغير مَا كَانَ أَحْمَر جعل أَخْضَر، وَمَا كَانَ أَخْضَر جعل أصفر غير كل شَيْء عَن حَاله.
وأوتِينا العِلْمَ يَقُولُهُ سُلَيْمانُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ وأوتينا الْعلم من قبلهَا وَكُنَّا مُسلمين} (النَّمْل: 24) وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن قَوْله: (وأويتينا الْعلم) من قَول سُلَيْمَان، وَقَالَ الواحدي: إِنَّه من قَول بلقيس، قَالَ بَعضهم، وَالْأول الْمُعْتَمد. قلت: السِّيَاق والسباق يدلان على أَنه من قَول بلقيس أَنه من قَول قالته مقرة بِصِحَّة نبوة سُلَيْمَان.
الصَّرْحُ بِرْكَةُ ماءٍ ضَرَبَ سُلَيْمانُ قَوَارِيرَ ألْبَسَها إيَّاهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قيل لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة وكشفت عَن سَاقيهَا قَالَ أَنه صرح ممرد من قَوَارِير} (النَّمْل: 44)
الْآيَة، وَفسّر (الصرح) الْمَذْكُور بقوله: (بركَة مَاء)
إِلَى آخِره، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد مثله، ثمَّ قَالَ: وَكَانَت هلباء شعراء، وَمن وَجه آخر عَن مُجَاهِد: كشفت بلقيس عَن سَاقيهَا فَإِذا هما شعراوان، فَأمر سُلَيْمَان بالنورة فصنعت. قَوْله: (قَوَارِير) ، جمع قَارُورَة وَهِي الزّجاج، وَكَانَ سُلَيْمَان أَمر ببنائه وأجرى تَحْتَهُ المَاء وَألقى فِيهِ كل شَيْء من دَوَاب الْبَحْر: السّمك وَغَيره، ثمَّ وضع لَهُ سَرِير فِي صدرها فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَت بلقيس قيل لَهَا: أدخلي الصرح، فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة وَهُوَ مُعظم المَاء، وَعَن ابْن جريج: حسبته بحراً وكشفت عَن سَاقيهَا لتخوض إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَبَاقِي الْقِصَّة مَشْهُور. قَوْله: (إِيَّاه) فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: إِيَّاهَا.
82 - (سورَةُ القَصَصِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْقَصَص، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا آيَة نزلت بِالْجُحْفَةِ وَهِي قَوْله: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} (الْقَصَص: 58) أَي: إِلَى مَكَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِلَى الْمَوْت. وَعنهُ: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَعنهُ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ: إِلَى الْجنَّة، وَهِي ثَمَان وَثَمَانُونَ آيَة، وَألف وَأَرْبَعمِائَة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَخَمْسَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف.
لم يثبت لفظ سُورَة والبسملة إِلَّا لأبي ذَر والنسفي.
يُقالُ: كلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلاّ وَجْهَه، إلاَّ مُلْكَهُ، ويُقالُ: إلاّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي آخر سُورَة الْقَصَص: {وَلَا تدعُ مَعَ الله إل هَا آخر لَا إل هـ إلاَّ هُوَ كل شَيْء هَالك إلاَّ وَجهه لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون} (الْقَصَص: 88) وَفسّر الْوَجْه بِالْملكِ، وَكَذَا نقل الطَّبَرِيّ عَن بعض أهل الْعَرَبيَّة، وَكَذَا ذكره الْفراء، وَعَن أبي عبيد إلاَّ وَجهه: إلاَّ جلالة. قَوْله: (وَيُقَال)
إِلَى آخِره، قَالَ سُفْيَان: مَعْنَاهُ إلاَّ مَا أُرِيد بِهِ رِضَاء الله والتقرب لَا الرِّيَاء وَوجه النَّاس.
وَقَالَ مُجاهِدٌ الأنْباءُ الحجَجُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فعميت عَلَيْهِم الأنباء} (الْقَصَص: 66) أَن الأنباء هِيَ الْحجَج، وَكَذَا ذكره الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّكَ لَا تَهْدِي منْ أحْبَبْتَ ولاكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} (الْقَصَص: 65)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدى} ... الْآيَة. قَوْله: (لَا تهدي) ، خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (من أَحْبَبْت) ، هدايته، وَقيل: لِقَرَابَتِهِ.
2774 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ عَنْ أبِيهِ قَالَ لمّا حَضَرَتْ أَبَا طالِبٍ الوَفاةُ جاءَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ الله بنَ أبي أميَّةَ بنِ المُغِيَرةِ فَقَالَ أيْ عَمِّ قُلْ لَا إل هَ إلاّ الله كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ الله فَقَالَ(19/104)
أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ الله بنُ أبي أُمَيَّةَ أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْرِضُها عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ المَقالَةِ حَتَّى قَالَ أبُو طالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَأبي أَن يَقُولَ لَا إل هَ إلاَّ الله قَالَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أنْهَ عَنْكَ فأنْزَلَ الله: {مَا كانَ لِلنبيِّ والذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمشْرِكِين} (التَّوْبَة: 311) وأنْزَلَ الله فِي أبي طَالب فَقَالَ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلاكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} (الْقَصَص: 65) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد الْمَوْت: لَا إل هـ إلاَّ الله. قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ على شَرط البُخَارِيّ إِذْ لم يرو عَن الْمسيب إلاَّ ابْنه، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل الصَّحَابَة لِأَن الْمسيب من مسلمة الْفَتْح على قَول مُصعب، وعَلى قَول العسكري مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة، فأياماً كَانَ فَلم يشْهد وَفَاة أبي طَالب لِأَنَّهُ توفّي هُوَ وَخَدِيجَة، رَضِي الله عَنْهَا. فِي أَيَّام مُتَقَارِبَة فِي عَام وَاحِد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَحْو الْخمسين، ورد عَلَيْهِمَا بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الْمسيب مُتَأَخِّرًا إِسْلَامه أَن لَا يشْهد وَفَاة أبي طَالب كَمَا شَهِدَهَا عبد الله بن أبي أُميَّة وَهُوَ يومئذٍ كَافِر ثمَّ أسلم بعد ذَلِك. انْتهى. قلت: حُضُور عبد الله بن أبي أُميَّة وَفَاة أبي طَالب وَهُوَ كَافِر ثَبت فِي: (الصَّحِيح) وَلم يثبت حُضُور الْمسيب وَفَاة أبي طَالب وَهُوَ كَافِر لَا فِي: (الصَّحِيح) وَلَا فِي غَيره، وبالاحتمال لَا يرد على كَلَام بِغَيْر احْتِمَال، فَافْهَم.
قَالَ ابنُ عَبَّاس أُولي القُوَّةِ لَا يَرْفَعُها العُصْبَةُ مِنَ الرِّجالِ. لَتَنُوءُ لَتُثْقِلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا أَن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة} (الْقَصَص: 67)
الْآيَة. وَفسّر قَوْله: {أولي الْقُوَّة} بقوله: (لَا يرفعها الْعصبَة من الرِّجَال) والعصبة مَا بَين الْعشْرَة إِلَى خَمْسَة عشرَة قَالَه مُجَاهِد، وَعَن قَتَادَة: مَا بَين الْعشْرَة إِلَى أَرْبَعِينَ، وَعَن أبي صَالح: أَرْبَعُونَ رجلا وع ابْن عَبَّاس مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَقيل: سِتُّونَ، وَفسّر قَوْله: (لتنوء) ، بقوله: (لتثقل) ، وَقيل: لتميل، وَهَذَا إِلَى قَوْله: يتشاورون، لم يثبت لأبي ذَر والأصيلي، وَثَبت لغَيْرِهِمَا إِلَى قَوْله: ذكر مُوسَى.
فارِغاً إلاّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا} (الْقَصَص: 01) وَفسّر فَارغًا بقوله: (إلاَّ من ذكر مُوسَى) وَفِي التَّفْسِير: أَي سَاهِيا لاهياً من كل شَيْء إلاَّ من ذكر مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وهمه، قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن الْكسَائي: فَارغًا أَي نَاسِيا، وَعَن أبي عُبَيْدَة أَي: فَارغًا من الْحزن لعلمها بِأَنَّهُ لم يغرق.
الفَرِحِينَ المَرِحِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين} (الْقَصَص: 67) وَفَسرهُ بقوله: (المرحين) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
قُصِّيهِ اتبِعِي أثَرَهُ وَقَدْ يَكُونُ أنْ يَقُصَّ الكَلاَمَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت لأخته قصيه فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ} (الْقَصَص: 11) أَي: قَالَت أم مُوسَى لأخت مُوسَى: قصيه، أَي: اتبعي أَثَره، من قَوْلهم: قصصت آثَار الْقَوْم أَي: تبعتها. قَوْله: (وَقد يكون)
إِلَى آخِره. أَرَادَ بِهِ أَن قصّ يكون أَيْضا من قصّ الْكَلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَحن نقص عَلَيْك} (الْقَصَص: 11) وَمِنْه: قصّ الرُّؤْيَا إِذا أخبر بهَا.
عَنْ جُنُبٍ عَنْ بُعْدٍ عَنْ جَنابَةٍ واحِدٌ وَعَنِ اجْتِنابٍ أيْضاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ} وَفسّر: (عَن جنب) بقوله: (عَن بعد) أَي: بصرت أُخْت مُوسَى بمُوسَى أَي: أبصرته عَن بعد وَالْحَال أَنهم لَا يَشْعُرُونَ لَا يعلمُونَ أَنَّهَا أُخْت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْجنب(19/105)
أَن يسمو بصر الْإِنْسَان إِلَى الشَّيْء الْبعيد وَهُوَ إِلَى جنبه لَا يشْعر بِهِ، وَعَن قَتَادَة: جعلت أُخْت مُوسَى تنظر إِلَيْهِ كَأَنَّهَا لَا تريده. قَوْله: عَن جَنَابَة أَرَادَ بِهِ أَيْضا أَن معنى عَن جَنَابَة: عَن بعد. قَوْله: (وَاحِد) أَي: معنى عَن جَنَابَة: وَاحِد، وَكَذَلِكَ معنى: وَعَن اجْتِنَاب، وَالْحَاصِل أَن كل ذَلِك بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ: الْبعد، وَمِنْه: الْجنب. سمي بِهِ لِأَنَّهُ بعيد عَن تِلَاوَة الْقُرْآن.
يَبْطِشُ: ويَبْطُشُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} (الْقَصَص: 91) وَبَين أَن فِيهِ لغتين إِحْدَاهمَا: يبطش، بِضَم الطَّاء، والآخرى: يبطش، بِالْكَسْرِ.
يأْتَمِرُونَ: يَتَشَاوَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك} (الْقَصَص: 02) وَفسّر: (يأتمرون) بقوله: (يتشاورون) وَقيل: مَعْنَاهُ يَأْمر بَعضهم بَعْضًا، وَالْقَائِل لمُوسَى بذلك هوحزقيل مُؤمن آل فِرْعَوْن وَكَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن، وَالْمَلَأ: الْجَمَاعَة.
العُدْوَانُ والعَدَاءُ والتَّعَدِّي وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا عدوان عَليّ وَالله على مَا نقُول وَكيل} (الْقَصَص: 82) وبيّنَ أَن معنى هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة وَاحِد، وَهُوَ التَّعَدِّي والتجاوز عَن الْحق، وَالْقَائِل بِهَذَا هُوَ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام، وقصته مَشْهُورَة.
آنَسَ: أبْصَرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله آنس من جَانب الطّور نَارا} (الْقَصَص: 92) وَفَسرهُ بقوله: (أبْصر) .
الجِذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الخَشَبِ لَيْسَ فِيها لَهَبٌ: والشِّهابُ فِيهِ لَهَبٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو جذوة من النَّار لَعَلَّكُمْ تصطلون} (الْقَصَص: 92) وَفسّر الجذوة بقوله: (قِطْعَة) إِلَى آخِره، وَقَالَ مقَاتل وَقَتَادَة: الجذوة الْعود الَّذِي احْتَرَقَ بعضه، وَجَمعهَا جذى، وَالْجِيم فِي جذوة مُثَلّثَة وَهِي لُغَات وقرءات وَمعنى: يصطلون تستدفئون. قَوْله: (والشهاب فِيهِ لَهب) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النَّمْل: {إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو آتيكم بشهاب قبس لَعَلَّكُمْ تصطلون} (النَّمْل: 7) وَفسّر الشهَاب بِأَن فِيهِ لهباً، قَالَ الْجَوْهَرِي: الشهَاب شعلة نَار ساطعة، وَقَالَ: اللهب لَهب النَّار وَهُوَ لسانها، وكنى أَبُو لَهب لجماله.
كأنَّها جانٌّ وهْيَ فِي آيَةٍ أُخْرَى كأنَّها حَيَّةٌ حَيَّةٌ تَسْعَى والحَيَّاتُ أجْناسٌ الجانُّ والأفاعِي والأساوِدُ
هَذَا ثَبت للنسفي، وَأَشَارَ بقوله: (كَأَنَّهَا) إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة: {وَأَن ألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا} (الْقَصَص: 13) قَوْله: (وَهِي فِي آيَة أُخْرَى) {كَأَنَّهَا حَيَّة تسْعَى} (طه: 02) وَهُوَ فِي سُورَة طه، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ: القها يَا مُوسَى فألقاها فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} وَفِي الشُّعَرَاء: {فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} (الْأَعْرَاف: 701 وَالشعرَاء: 23) وَلم يذكر البُخَارِيّ هَذَا مَعَ أَنه دَاخل فِي قَوْله: (والحيات أَجنَاس) وَهِي جمع حَيَّة وَهِي إسم جنس يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى وَالصَّغِير وَالْكَبِير، وَذكر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْحَيَّة والجان والثعبان، فالحية تَشْمَل الجان والثعبان، وَكَانَت حَيَّة لَيْلَة المخاطبة لِئَلَّا يخَاف مُوسَى علهي الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهَا إِذا أَلْقَاهَا بَين يَدي فِرْعَوْن، وَعَن ابْن عَبَّاس: صَارَت حَيَّة صفراء لَهَا عرف كعرف الْفرس، وَجعلت تتورم حَتَّى صَارَت ثعباناً وَهِي أكبر مَا يكون من الْحَيَّات فَلذَلِك قَالَ فِي مَوضِع آخر: {كَأَنَّهَا جَان} وَهِي أَصْغَر الْحَيَّات وَفِي مَوضِع آخر: ثعبان، وَهُوَ أعظمها، فالجان ابْتِدَاء حَالهَا والثعبان. انْتِهَاء حَالهَا، وَكَانَ الجان فِي سرعَة فَلذَلِك قَالَ: {فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان} وَيُقَال: كَانَ مَا بَين لحيي الْحَيَّة أَرْبَعُونَ ذِرَاعا، وَعَن ابْن عَبَّاس: لما انقلبت الْحَيَّة ثعباناً ذكرا صَار يبتلع الصخر وَالْحجر. قَوْله: (والأفاعي) جمع أَفْعَى على وزن أفعل، يُقَال: هَذِه أَفْعَى بِالتَّنْوِينِ، والأفعوان ذكر الأفاعي. قَوْله: (والأساود) ، جمع أسود وَهُوَ الْعَظِيم من الْحَيَّات وَفِيه سَواد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْجمع الأساود لِأَنَّهُ إسم، وَلَو كَانَ صفة لجمع على فعل يَعْنِي لقَالَ: سود، يُقَال: أسود سالخ غير مُضَاف لِأَنَّهُ يسلخ جلده كل عَام وَالْأُنْثَى: أَسْوِدَة، وَلَا تُوصَف بسالخة.
رِدْءاً مُعِيناً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني} (الْقَصَص: 43) وَفَسرهُ بقوله: (معينا) يُقَال: فلَان رده فلَان إِذا كَانَ ينصره ويشد ظَهره، وَيُقَال: أردأت الرجل أعنته.(19/106)
عبيد الله ال ابنُ عَبَّاسٍ لِكَي يُصَدِّقُنِي. وَقَالَ غيْرُهُ سَنَشُدُّ كُلَّما عَزَّزْتَ شَيْئاً فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُداً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {ردأ يصدقني} (الْقَصَص: 43) لكَي يصدقني، وَفِي التَّفْسِير: يصدقني أَي: مُصدقا وَلَيْسَ الْغَرَض بتصديقه أَن يَقُول لَهُ: صدقت، أَو يَقُول للنَّاس: صدق مُوسَى، وَإِنَّمَا هُوَ أَن يلخس بِلِسَانِهِ الْحق أَو يبسط القَوْل فِيهِ، ويجادل بِهِ الْكفَّار كَمَا يفعل الرجل المنطيق ذُو الْمُعَارضَة. قَوْله: (قَالَ غَيره) ، أَي: غير ابْن عَبَّاس فِي معنى قَول الله تَعَالَى: {سنشد عضدك بأخيك} (الْقَصَص: 53) سنعينك. وَقيل: سنقويك بِهِ، وَشد العضدد كِنَايَة عَن التقوية. قَوْله: (كلما عززت) ، من: عز فلَان أَخَاهُ إِذا قوَّاه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فعززنا بثالث} (يس: 241) يُخَفف ويشدد أَي: قوينا وشددنا.
مَقْبُوحِينَ: مُهْلَكِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} (الْقَصَص: 24) وَفَسرهُ بقوله: (مهلكين) ، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ غَيره: أَي من المتعدين الملعونين من الْقبْح وَهُوَ الإبعاد. وَقَالَ ابْن زيد: يُقَال: قبح الله فلَانا قبحاً وقبوحاً، أَي: أبعده من كل خير، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي سَواد الْوَجْه وزرقة الْعين، وعَلى هَذَا يكون بِمَعْنى المقبحين.
وصَّلْنا: بَيَّنَّاه وأتْمَمْناهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون} (الْقَصَص: 15) وَفسّر: وصلناه بقوله: (بَيناهُ) وَعَن السّديّ كَذَلِك، وَعَن الْفراء: أتبعنا بعضه بَعْضًا فاتصل. قَوْله: (وأتممناه) ، الضَّمِير الْمَنْسُوب فِيهِ فِي بَيناهُ يرجع إِلَى القَوْل، الْمَعْنى: بَينا لكفار مَكَّة فِي الْقُرْآن من خبر الْأُمَم الْمَاضِيَة كَيفَ عذبُوا بتكذيبهم.
يُحْياى: يُجْلَبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} (الْقَصَص: 75) وَفسّر: يجبى بقوله: (يجلب) وَقَرَأَ نَافِع: تجبى، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى الْحرم، وَالْمعْنَى: يجلب وَيحمل من النواحي ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا أَي: من عندنَا.
بَطِرَتْ: أشِرَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا من قَرْيَة بطرت معيشتها} (الْقَصَص: 85) وَفسّر قَوْله: (بطرت) ، بقوله: (أَشرت) ، أَي: طغت وبغت، وَقَالَ ابْن فَارس: البطر تجَاوز الْحَد فِي المرح، وَقيل: هُوَ الطغيان بِالنعْمَةِ.
فِي أُمِّها رَسُولا أُمُّ القُرَى مَكّةُ وَمَا حَوْلَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا} (الْقَصَص: 95) ، الْآيَة. وَذكر أَن المُرَاد بِأم الْقرى مَكَّة وَمَا حولهَا، سميت بذلك لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا.
{تُكِنُّ تُخْفِي أكْنَنْتُ الشَّيْءَ أخْفَيْتُهُ وكَنَنْتُهُ أخفَيْتُهُ وأظْهَرْتُهُ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ مَا يعلنون} (الْقَصَص: 96) وَفسّر: (تكن) ، بقوله: (تخفي) وتكن، بِضَم التَّاء من أكننت الشَّيْء إِذا أخفيته. قَوْله: (وكننته) من الثلاثي وَمَعْنَاهُ: خفيته بِدُونِ الْهمزَة فِي أَوله أَي: أظهرته، وَهُوَ من الأضداد، وَوَقع فِي الْأُصُول: أخفيته فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْهَمْزَةِ فِي أَوله وَلأبي ذَر بِحَذْف الْألف فِي الثَّانِي وَكَذَا قَالَ ابْن فَارس أخفيته سترته وخفيته أظهرته.
{وَيْكَأنَّ الله} مِثْلُ: {ألم تَرَ أَن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} (الْقَصَص: 28) يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس يَقُولُونَ وي كَأَن الله يبسط الرزق لمن يشار من عباده وَيقدر} وَهَذَا وَقع لغير أبي ذَر، وَفسّر قَوْله: (وي كَأَن الله) بقوله: مثل: (ألم تَرَ) إِلَى آخِره، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وي، مفصولة عَن: كَأَن، وَهِي كلمة تَنْبِيه على الْخَطَأ وَهُوَ مَذْهَب الْخَلِيل وسيبويه، وَعند الْكُوفِيّين إِن: وَبِك بِمَعْنى: وَيلك، وَأَن الْمَعْنى: ألم تعلم أَنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ، وَيجوز أَن يكون الْكَاف كَاف الْخطاب مَضْمُومَة إِلَى وي، وَأَنه بِمَعْنى: لِأَنَّهُ، وَالْكَلَام لبَيَان الْمَقُول لأَجله هَذَا القَوْل أَو لِأَنَّهُ لَا يفلح الْكَافِرُونَ. قَوْله: (وَيقدر) ، أَي: ويقتر. قَوْله: (يُوسع عَلَيْهِ) ، يرجع إِلَى قَوْله: {يبسط الرزق} وَقَوله: (يضيق عَلَيْهِ) يرجع إِلَى قَوْله: (وَيقدر) .(19/107)
2 - (بابُ: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ} (الْقَصَص: 58)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} ... الْآيَة، وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر. قَوْله: (فرض عَلَيْك) ، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: أنزلهُ، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: فرض عَلَيْك الْعَمَل بِالْقُرْآنِ.
3774 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أخبرنَا يَعْلَى حَدثنَا سُفْيانُ العُصْفُريُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعادٍ} قَالَ إِلَى مَكّةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه تَفْسِير لَهَا. ويعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالقصر: ابْن عبيد الطنافسي، وسُفْيَان هُوَ ابْن دِينَار الْعُصْفُرِي. بِضَم الْعين وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَضم الْفَاء وبالراء: الْكُوفِي التمار، وَقد مر فِي آخر الْجَنَائِز. وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ. وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: (لرادك إِلَى معاد) فَعَن مُجَاهِد: مثل قَول ابْن عَبَّاس، وَعَن القعْنبِي: معاد الرجل بَلَده لِأَنَّهُ ينْصَرف ثمَّ يعود إِلَى بَلَده، وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: الْمَوْت، وَعَن الْحسن الزُّهْرِيّ: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن ابْن صَالح: إِلَى الْجنَّة.
92 - (سورَةُ العَنْكَبُوتِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة العنكبوت، وَهِي مَكِّيَّة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فِيهَا اخْتِلَاف فِي سبع عشرَة آيَة، فَذكرهَا وَقَالَ مقَاتل نزلت: {ألم أحسِبَ النَّاس} (العنكبوت: 1 2) فِي مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، أول قَتِيل من الْمُسلمين يَوْم بدر. رَمَاه ابْن الْحَضْرَمِيّ بِسَهْم فَقتله، وَهُوَ أول من يدعى إِلَى الْجنَّة من شُهَدَاء أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد: {ألم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1 2) وَقبل سُورَة المطففين، وَهِي تسع وَسِتُّونَ آيَة، وَألف وَتِسْعمِائَة وَإِحْدَى وَثَمَانُونَ كلمة، وَأَرْبَعَة آلَاف وَمِائَة وَخَمْسَة وَتسْعُونَ حرفا.
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي بعض النّسخ، وَأما التَّرْجَمَة فَلم تثبت إلاَّ لأبي ذَر.
قالَ مجاهِدُ: وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ: ضَلَلَةً
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فصدهم عَن السَّبِيل وَكَانُوا مستبصرين} (العنكبوت: 83) . قَوْله: (ضللة) ، جمع ضال، قَالَه الْكرْمَانِي وَفِيه مَا فِيهِ، وَالصَّوَاب: ضَلَالَة. وَكَذَا هُوَ فِي عَامَّة النّسخ، وَفِي التَّفْسِير: مستبصرين يَعْنِي فِي الضَّلَالَة، وَعَن قَتَادَة: مستبصرين فِي ضلالتهم معجبين بهَا، وَعَن الْفراء: عقلاء ذَوي بصائر، وَعَن الضَّحَّاك والكلبي وَمُقَاتِل: حسبوا أَنهم على الْحق وَالْهدى وهم على الْبَاطِل.
وَقَالَ غيْرُهُ: الْحَيَوَانُ والْحَيُّ واحِدٌ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أَي: غير ابْن عَبَّاس، وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا لَا يخفى، وَلم يثبت هَذَا إلاَّ لأبي ذَر. وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: الْحَيَوَان والحياة وَاحِد، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ} وَقَالَ: معنى (الْحَيَوَان والحي وَاحِد) يَعْنِي: دَار الْآخِرَة هِيَ الْحَيَاة أَو الْحَيّ، وَفِي التَّفْسِير: لهي الْحَيَوَان، يَعْنِي الدَّار الْبَاقِيَة الَّتِي لَا زَوَال لَهَا وَلَا موت فِيهَا، وَقيل: لَيْسَ فِيهَا إلاَّ حَيَاة مستمرة دائمة خالدة لَا موت فِيهَا، وَكَأَنَّهَا فِي ذَاتهَا نفس الْحَيَوَان، وَالْحَيَوَان مصدر حَيّ. وَقِيَاسه: حييان، وقلبت الْيَاء الثَّانِيَة واواً كَمَا قيل: حَيْوَة. وَبِه سمي مَا فِيهِ حَيْوَة حَيَوَانا وَإِنَّمَا اختير لفظ: الْحَيَوَان دون الْحَيَاة لما فِيهِ زِيَادَة معنى لَيْسَ فِي بِنَاء الْحَيَاة، وَهُوَ مَا فِي بِنَاء فعلان من معنى الْحَرَكَة وَالِاضْطِرَاب كالنزوان وَنَحْوه، والحياة حَرَكَة كَمَا أَن الْمَوْت سُكُون فَلذَلِك اختير لفظ الْحَيَوَان الْمُقْتَضى للْمُبَالَغَة.
{وليَعْلَمَنَّ الله} (العنكبوت: 3) عَلِمَ الله ذالِكَ إنّما هِيَ بِمَنْزِلَةِ فَليَمِيزَ الله كَقَوْلِهِ: {لِيمِيزَ الله(19/108)
الخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ} (الْأَنْفَال: 73)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين} . وَفِي التَّفْسِير: أَي حَال الْفَرِيقَيْنِ ظَاهِرَة عِنْد الله الَّذِي يملك الْجَزَاء، وَقَالَ الله تَعَالَى أَيْضا: {فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين} . قَوْله: (وَإِنَّمَا هِيَ) ، أَي: إِنَّمَا لَفْظَة: (ليعلمن الله) ، بلام التَّأْكِيد ونونه بِمَنْزِلَة قَوْله: (فلميز الله) يَعْنِي: علم الله ذَلِك من قبل لِأَنَّهُ فرق بَين الطَّائِفَتَيْنِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ليميز الله الْخَبيث من الطّيب} (الْأَنْفَال: 73) أَي: الْكَافِر من الْمُؤمن.
أثْقالاً مَعَ أثْقالِهِمْ أوْزَاراً مَعَ أوْزَارِهِمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مَعَ أثقالهم} (العنكبوت: 31) وَفَسرهُ بقوله: أوزاراً مَعَ أوزارهم، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة أَي: بِسَبَب من أَضَلُّوا وصدوا عَن سَبِيل الله عز وَجل فيحملون أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة.
03 - (سورَةُ ألم غُلِبَتِ الرُّومُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الرّوم، وَهِي مَكِّيَّة وفيهَا اخْتِلَاف فِي آيَتَيْنِ، قَوْله: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} (لُقْمَان: 72) فَذكر السّديّ أَنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَقَوله: {وَإِن الله عِنْده علم السَّاعَة} (لُقْمَان: 43) وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد: {إِذا السَّمَاء انشقت} (الانشقاق: 1) وَقبل العنكبوت، وَهِي سِتُّونَ آيَة، وَثَمَانمِائَة وتسع عشرَة كلمة، وَثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا، وَالروم إثنان: الأول: من ولد يافث بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ رومي بن لنطي بن يونان بن يافث، الثَّانِي: الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِم الْملك من ولد رومي بن لنطي من ولد عيص بن إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام، غلبوا على اليونانيين فَبَطل ذكر الْأَوَّلين وَغلب هَؤُلَاءِ على الْملك. وروى الواحدي من حَدِيث الْأَعْمَش: عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: لما كَانَ يَوْم بدر ظَهرت الورم على فَارس فأعجب بذلك الْمُؤْمِنُونَ، فَنزلت {ألم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1 2) إِلَى أَن قَالَ: يفرح الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُور الرّوم على أهل فَارس.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة وَلَفظ سُورَة إلاَّ لأبي ذَر.
قَالَ مُجاهِدٌ يُحْبَرُونَ: يُنَعَّمُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فهم فِي رَوْضَة يُحبرون} (الرّوم: 51) وَفسّر: (يحبرون) بقوله: (ينعمون) . وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج: حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَعَن ابْن عَبَّاس: يكرمون، وَقيل: السماع فِي الْجنَّة.
فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ الله مَنْ أعْطَى عَطِيَّةٍ يَبْتَغِي أفْضَلَ مِنْهُ فَلاَ أجْرَ لَهُ فِيها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتيتم من رَبًّا ليربو فِي أَمْوَال النَّاس فَلَا يَرْبُو عِنْد الله} (الرّوم: 93) وَهَذَا قد اخْتلف فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد وطاووس وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك: هُوَ الرجل يُعْطي الرجل الْعَطِيَّة وَيهْدِي إِلَيْهِ الْهَدِيَّة ليَأْخُذ أَكثر مِنْهَا، فَهَذَا رَبًّا حَلَال لَيْسَ فِيهِ أجر وَلَا وزر فَهَذَا للنَّاس عَامَّة، وَفِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حرَام عَلَيْهِ أَن يُعْطي شَيْئا فَيَأْخُذ أَكثر مِنْهُ، لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تمنن تستكثر} (المدثر: 6) . وَقَالَ الشّعبِيّ: هُوَ الرجل يلتزق بِالرجلِ فيحمله ويخدمه ويسافر مَعَه فَيحمل لَهُ ربح مَاله ليجزيه، وَإِنَّمَا أعطَاهُ التمَاس عونه وَلم يرد وَجه الله تَعَالَى، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانَ يُعْطي الرجل قرَابَته المَال يكثر بِهِ مَاله. قَوْله: (من أعْطى عَطِيَّة)
إِلَى آخِره، تَفْسِير قَوْله: (فَلَا يَرْبُو) . قَوْله: (يَبْتَغِي) ، أَي: يطْلب أفضل مِنْهُ أَي أَكثر. قَوْله: (فَلَا أجر لَهُ فِيهَا) ، أَي: فِي هَذِه الْعَطِيَّة، وَلَا وزر عَلَيْهِ.
يَمْهَدُونَ: يُسَوُّونَ المَضاجِع
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} (الرّوم: 44) وَفسّر: (يمهدون) ، بقوله: (يسوون الْمضَاجِع) وَكَذَا رَوَاهُ الْفرْيَابِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، أَي: يوطؤون مقار أنفسهم فِي الْقُبُور أَو فِي الْجنَّة.
الوَدْقُ: المَطَرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فترى الودق يخرج من خلاله} (الرّوم: 84) وَفسّر: (الودق) (بالمطر) وَكَذَا فسره مُجَاهِد فِيمَا روى عَنهُ ابْن أبي نجيح.
قَالَ ابنُ عَبّاسٍ: {هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} (الرّوم: 82) فِي الآلهَةِ وفِيهِ تَخاوفُونَهُمْ أنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ضرب لكم مثلا من أَنفسكُم هَل لكم مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فبمَا رزقنا كم فَأنْتم فِيهِ سَوَاء تخافونهم} . قَوْله: (فِي الْآلهَة) ، أَي: نزل هَذَا فِي حق الْآلهَة. قَوْله: (وَفِيه) ، أَي: وَفِي حق الله، وَهَذَا على سَبِيل الْمثل، أَي: هَل ترْضونَ لأنفسكم أَن يشارككم بعض عبيدكم فِيمَا رزقناكم تَكُونُونَ أَنْتُم وهم فِيهِ سَوَاء من غير تَفْرِقَة بَيْنكُم وَبَين عبيدكم(19/109)
تخافونهم أَن يَرث بَعضهم بَعْضكُم أَو أَن يستبدوا بِتَصَرُّف دونكم كَمَا يخَاف بعض الْأَحْرَار بَعْضًا. فَإِذا لم ترضوا ذَلِك لأنفسكم فَكيف ترْضونَ لرب الأرباب أَن تجْعَلُوا بعض عباده شَرِيكا لَهُ؟
يَصَّدَّعُونَ يَتَفَرَّقُونَ فاصْدَعْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يومئذٍ يصدعون} (الرّوم: 34) وَفَسرهُ بقوله: (يتفرقون) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقيل: هُوَ بِمَعْنى قَوْله: {يومئذٍ يصدر النَّاس أشتاتاً} (الزلزلة: 6) ، وَقيل: هُوَ تفَاوت الْمنَازل. وَفِي التَّفْسِير: يصدعون يتفرقون فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير، ويصدعون أَصله: يتصدعون، قلبت التَّاء صاداً وأدغمت الصَّاد فِي الصَّاد. قَوْله: (فَاصْدَعْ) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} (الْحجر: 49) أَي: أفرق وأمضه، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وأصل الصدع الشق فِي الشَّيْء.
وَقَالَ غَيْرُهُ: ضُعْفٌ وضَعْفٌ، لُغَتانِ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف} (الرّوم: 45)
الْآيَة، الأول بِفَتْح الضَّاد، وَالثَّانِي بِالضَّمِّ، وقرىء بهما. فالجمهور بِالضَّمِّ. وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة بِالْفَتْح، وَقَالَ الْخَلِيل: الضعْف بِالضَّمِّ مَا كَانَ فِي الْجَسَد، وبالفتح مَا كَانَ فِي الْعقل.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: السُّوآي الإساءَةُ جَزَاءُ المُسيئِينَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساؤوا السوآي أَن كذبُوا بآيَات الله} (الرّوم: 01) وَفسّر: (السوآي) (بالإساءة) وَاخْتلف فِي ضبط الْإِسَاءَة، فَقيل: بِكَسْر الْهمزَة وَالْمدّ، وَجوز ابْن التِّين فتح أَوله ممدوداً ومقصوراً، وَقَالَ النَّسَفِيّ: السوآي تَأْنِيث الأسوء، وَهُوَ الأقبح، كَمَا أَن الْحسنى تَأْنِيث الْأَحْسَن.
267 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا مَنْصُور وَالْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق قَالَ بَيْنَمَا رجل يحدث فِي كِنْدَة فَقَالَ يَجِيء دُخان يَوْم الْقِيَامَة فَيَأْخُذ بأسماع الْمُنَافِقين وأبصارهم يَأْخُذ الْمُؤمن كَهَيئَةِ الزُّكَام ففزعنا فَأتيت ابْن مَسْعُود وَكَانَ مُتكئا فَغَضب فَجَلَسَ فَقَالَ من علم فَلْيقل وَمن لم يعلم فَلْيقل الله أعلم فَإِن من الْعلم أَن تَقول لما لَا تعلم لَا أعلم فَإِن الله قَالَ لنَبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين وَإِن قُريْشًا أبطؤا عَن الْإِسْلَام فَدَعَا عَلَيْهِم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف فَأَخَذتهم سنة حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وأكلوا الْميتَة وَالْعِظَام وَيرى الرجل مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض كَهَيئَةِ الدُّخان فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَان فَقَالَ يَا مُحَمَّد جِئْت تَأْمُرنَا بصلَة الرَّحِم وَإِن قَوْمك قد هَلَكُوا فَادع الله فَقَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} إِلَى قَوْله {عائدون} أفيكشف عَنْهُم عَذَاب الْآخِرَة إِذا جَاءَ ثمَّ عَادوا إِلَى كفرهم فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} يَوْم بدر ولزاما يَوْم بدر) هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي كتاب الاسْتِسْقَاء فِي بَاب إِذا استشفع الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين عِنْد الْقَحْط وَلَكِن فِي متنهما بعض تفَاوت بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح الْكُوفِي الْعَطَّار ومسروق هُوَ ابْن الأجدع روى الحَدِيث عَن عبد الله بن مَسْعُود وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ قَوْله " فِي كِنْدَة " بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون النُّون قَالَ الْكرْمَانِي مَوضِع بِالْكُوفَةِ قلت يحْتَمل أَن يكون حَدِيث الرجل بَين قوم هم من كِنْدَة الْقَبِيلَة قَوْله " فَأتيت ابْن مَسْعُود فِيهِ حذف " أَي فَأتيت ابْن مَسْعُود وأخبرته بِخَبَر الرجل وَكَانَت مُتكئا فَغَضب من ذَلِك فَجَلَسَ قَوْله " فَإِن من الْعلم أَن يَقُول لما لَا يعلم لَا أعلم " وَقَالَ الْكرْمَانِي كَيفَ يكون لَا أعلم من الْعلم قلت تَمْيِيز الْمَعْلُوم من الْمَجْهُول نوع من الْعلم وَهُوَ الْمُنَاسب لما قيل لَا أَدْرِي نصف الْعلم وَأما مُنَاسبَة الْآيَة فَلِأَن القَوْل فِيمَا لَا يعلم قسم(19/110)
من التَّكَلُّف قَوْله " سنة بِفَتْح السِّين " أَي قحط قَوْله البطشة الْكُبْرَى إِلَى آخِره أُرِيد بالبطشة الْقَتْل يَوْم بدر وباللزام الْأسر فِيهِ أَيْضا -
(بابُ: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} (الرّوم: 03) لِدِينِ الله. {خَلْقُ الأولِينَ} (الشُّعَرَاء: 731) دِينُ الأوَّلِينَ والفِطْرَةُ الإسْلاَمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب. قَوْله: (لدين الله) ، تَفْسِير: الْخلق الله، وَكَذَا روى الطَّبَرِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي قَوْله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} قَالَ: لدين الله، وَفِي التَّفْسِير أَي: لدين الله، أَي: لَا يَصح ذَلِك وَلَا يَنْبَغِي أَن يفعل، ظَاهره نفي وَمَعْنَاهَا نهي، هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء، وَعَن عِكْرِمَة وَمُجاهد: لَا تَغْيِير لخلق الله تَعَالَى من الْبَهَائِم بالخصا وَنَحْوهَا. قَوْله: {خلق الْأَوَّلين دين الْأَوَّلين} ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا إلاَّ خلق الْأَوَّلين} يَعْنِي: دين الْأَوَّلين، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، أخرجه ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ. قَوْله: (والفطرة الْإِسْلَام) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} (الرّوم: 03) . وَفسّر الْفطْرَة بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَول عِكْرِمَة، وَقيل: الْفطْرَة هُنَا هِيَ الْفقر والفاقة، وفطرة الله نصب على الْمصدر، أَي: فطر فطْرَة، وَقيل: نصب على الإغراء، وَالدّين الْقيم أَي الْمُسْتَقيم.
5774 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخبرنَا عَبْدُ الله أخْبَرَنا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلايُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَة جَمعاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِنْ جَدْعاءَ ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرع الناسَ عَلَيْها لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذالِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي وعبدان لقبه، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالْمَشْهُور أَن هَذِه الكنية هِيَ اسْمه، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب إِذا أسلم الصَّبِي فَمَاتَ، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، (وبهيمة) مفعول ثَان لَهُ، (وجمعاء) تَامَّة الْأَعْضَاء غير نَاقِصَة الْأَطْرَاف، والجدعاء الَّتِي قطعت أذنها أَو أنفها. قَوْله: (فَأَبَوَاهُ) ، أَي: أَبُو الْمَوْلُود. قَوْله: (ثمَّ يَقُول) أَي: أَبُو هُرَيْرَة.
13 - (سُورَةُ لُقْمانَ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة لُقْمَان، وَهِي مَكِّيَّة وفيهَا اخْتِلَاف فِي آيَتَيْنِ قَوْله: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} (لُقْمَان: 72) ، فَذكر السّديّ أَنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَقَوله: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} (لُقْمَان: 43) نزلت فِي رجل من محَارب بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْن النَّقِيب: قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ، وَعَن الْحسن: إلاَّ آيَة وَاحِدَة، وَهِي قَوْله عز وَجل: {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} (النَّمْل: 32، لُقْمَان: 4) لِأَن الصَّلَاة وَالزَّكَاة مدنيتان، وَهِي أَربع وَثَلَاثُونَ آيَة وَخَمْسمِائة وثمان وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَأَلْفَانِ وَمِائَة وَعشرَة أحرف.
ولقمان بن باعور بن ناخر بن تارخ وَهُوَ آزر أَبُو إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو قَالَ السُّهيْلي: لُقْمَان بن عنقابن سرون عَاشَ ألف سنة. وَأدْركَ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأخذ عَنهُ الْعلم، وَكَانَ يُفْتِي قبل مبعث دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا بعث دَاوُد قطع الْفتيا، وَقيل: كَانَ تلميذاً لِأَلف نَبِي، وَعند ابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد: كَانَ عبدا أسود عَظِيم الشفتين مشقق الْقَدَمَيْنِ، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا بخاراً، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: كَانَ من سودان مصر ذُو مشافر، أعطَاهُ الله الْحِكْمَة وَمنعه النُّبُوَّة، وَعَن جَابر بن عبد الله: كَانَ قَصِيرا أفطس من النُّبُوَّة، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لم يكن نَبيا فِي قَول أَكثر النَّاس وَكَانَ رجلا صَالحا، وَعَن ابْن الْمسيب: كَانَ خياطاً، وَعَن الزّجاج: كَانَ نجاداً بِالدَّال الْمُهْملَة، كَذَا هُوَ بِخَط جمَاعَة من الْأَئِمَّة، وَقيل: رَاعيا، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ يحكم وَيَقْضِي فِي بني إِسْرَائِيل، وزمانه مَا بَين عِيسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعند الحوتي عَن عِكْرِمَة: كَانَ نَبيا، وَهُوَ قد تفرد بِهَذَا(19/111)
القَوْل، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: كَانَ ابْن أُخْت أَيُّوب، وَقَالَ مقَاتل: ابْن خَالَة أَيُّوب، وَاسم ابْنه: أنعم، وَكَانَ كَافِرًا فَمَا زَالَ حَتَّى أسلم، وَقيل: مشْكم، وَقيل: ماثان، وَقيل: ثاران.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة وَلَفظ سُورَة إلاَّ لأبي ذَر، وَلم تثبت الْبَسْمَلَة فَقَط للنسفي.
لاَ تُشْرِكْ بِاللَّه إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
أَولهَا هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 31) أَي: أذكر إِذْ قَالَ لُقْمَان. قَوْله: (وَهُوَ يعظه) جملَة حَالية. قَوْله: (لَا تشرك بِاللَّه) أَي: مَعَ الله. قَوْله: (لظلم) ، الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، والمشرك ينْسب نعْمَة الله إِلَى غَيره لِأَن الله هُوَ الرَّزَّاق والمحيي والمميت.
6774 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبُسُوا إيمانُهُمْ بِظُلْمٍ} (الْأَنْعَام: 28) . شَقَّ ذالِكَ عَلَى أصْحابِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقالُوا أَيّنَا لَمْ يَلْبسْ إيمانَهُ بِظُلْمٍ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهُ لَيْس بِذَاكَ ألاَ تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمانَ لإبْنِهِ: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير، بِالْجِيم: هُوَ ابْن عبد الحميد يروي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب ظلم دون ظلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: سبق الحَدِيث مُسْتَوفى فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا سبق فِي الْبَاب الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (لَيْسَ بِذَاكَ) ويروى: لَيْسَ بذلك.
(بابُ: إِن الله عِنْده علم السَّاعَة {لُقْمَان: 43} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} ... الْآيَة، نزلت فِي الْوَارِث بن عمر من أهل الْبَادِيَة، أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَله عَن السَّاعَة ووقتها، وَقَالَ: أَرْضنَا أجدبت فَمَتَى ينزل الْغَيْث؟ وَقد تركت امْرَأَتي حُبْلَى فَمَتَى تَلد؟ وَقد علمت أَيْن ولدت، فَبِأَي أَرض أَمُوت فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة.
7774 - حدَّثني إسْحاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أبي حَيَّانَ عَنْ أبي زُرْعَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَوْماً بارِزاً لِلنَّاسِ إذْ أتاهُ رجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ يَا رسولَ الله مَا الإيمانُ قَالَ الإيمانُ أنْ تُؤْمنَ بِاللَّه وَمَلاَئِكَتِهِ ورسُلِهِ ولِقائِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ الآخِرِ قَالَ يَا رسولَ الله مَا إلاَّ الإسْلاَمُ أنْ تَعْبُدَ الله ولاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكاةَ المَفْرِوضَةَ وتَصُومَ رَمَضانَ قَالَ رسولَ الله مَا الإحْسانُ قَالَ الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَرَاهُ فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ قَالَ يَا رسولَ الله مَتَى السَّاعَةُ قَالَ مَا المَسْؤُولُ عَنْها بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ولاكِنْ سأُحَدِّثُكَ عَنْ أشْرَاطِها إذَا ولَدَتِ المَرْأةُ رَبَّتَها فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِها وَإِذا كانَ الحُفاةُ العُرَاةُ رؤُوسَ النّاس فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِها فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ الله إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا فِي الأرْحامِ ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ رُدُّوا عَلَيَّ فأخَذُوا لِيَرُدوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئاً فَقَالَ هاذَا جِبْرِيلُ جاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ.
(انْظُر الحَدِيث 05) .(19/112)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَأَبُو حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وأسمه يحيى بن سعيد الْكُوفِي، وَأَبُو زرْعَة اسْمه هرم بن عَمْرو بن جرير البَجلِيّ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مطولا مُسْتَوفى.
8774 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمانَ قَالَ حدّثني ابنُ وهْبٍ قَالَ حدّثني عُمرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ زَيْدِ ابنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ أباهُ حَدَّثَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَفاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ ثُمَّ قَرَأ: {إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لُقْمَان: 43) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي، نزل مصر وَسمع عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، يروي عَن عمر بن مُحَمَّد الخ، هَكَذَا قَالَ ابْن وهب وَخَالفهُ أَبُو عَاصِم، فَقَالَ: عَن عمر بن مُحَمَّد بن زيد عَن سَالم عَن ابْن عمر، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا احْتمل أَن يكون لعمر بن مُحَمَّد فِيهِ شَيْخَانِ: أَبوهُ وَعم أَبِيه. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (مَفَاتِيح الْغَيْب) ويروى: مفاتح الْغَيْب، وَهَكَذَا وَقع هُنَا مُخْتَصرا، وَمضى هَذَا أَيْضا فِي تَفْسِير سُورَة الرَّعْد وَفِي الاسْتِسْقَاء من طَرِيق عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَفِي تَفْسِير الْأَنْعَام من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه بِلَفْظ: مفاتح الْغَيْب خمس، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق عبد الله بن سَلمَة عَن ابْن مَسْعُود نَحوه، وروى أَحْمد وَالْبَزَّار وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث بُرَيْدَة رَفعه، قَالَ: خمس لَا يعلمهُنَّ إلاَّ الله ... الحَدِيث.
23 - (سورَةُ السَّجْدَةِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة تَنْزِيل السَّجْدَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: سُورَة السَّجْدَة، وَقَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة وفيهَا من الْمدنِي: {تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع} (السَّجْدَة: 61) الْآيَة. فَإِنَّهَا نزلت فِي الْأَنْصَار، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد: {قد أَفْلح} (الْمُؤْمِنُونَ: 1) وَقبل الطّور، وَهِي ألف وَخَمْسمِائة وَثَمَانِية عشر حرفا، وثلاثمائة وَثَمَانُونَ كلمة، وَثَلَاثُونَ آيَة.
سَقَطت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: مَهِينٍ ضَعِيفٍ: نُطْفَةَ الرَّجُلِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعل نَسْله من سلالة من مَاء مهين} (السَّجْدَة: 48) أَي: ضَعِيف، ثمَّ قَالَ: المَاء المهين نُطْفَة الرجل، وَرَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن أبي نجيح.
ضَلَلْنا هَلَكنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا إئذا ضللنا فِي الأَرْض} (السَّجْدَة: 01) وَفَسرهُ بقوله: (هلكنا) ، وَكَذَا رَوَاهُ الْفرْيَابِيّ عَن مُجَاهِد من طَرِيق ابْن أبي نجيح، وَقَالَ غَيره: صرنا تُرَابا، وَهُوَ رَاجع إِلَى قَول مُجَاهِد لِأَنَّهُ يُقَال: أضلّ الْمَيِّت إِذا دفن، وأضللته إِذا دَفَنته.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الجُرُزُ الَّتِي لاَ تَمْطَرُ إلاَّ مَطَراً لاَ يُغْنِي عَنْهَا شَيْئاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أولم يرَوا أَنا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز فنخرج بِهِ ذرعاً} (السَّجْدَة: 72) ، وَفسّر: (الجرز) بقوله: (الَّتِي لَا تمطر) الخ. وَقيل: هِيَ أَرض غَلِيظَة يابسة لَا نبت فِيهَا، وَأَصله من قَوْلهم: نَاقَة جرز إِذا كَانَت تَأْكُل كل شَيْء تَجدهُ، وَرجل جروز إِذا كَانَ أكولاً، وَسيف جرز أَي: قَاطع.
يَهْدِ يُبَيِّنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أولم يهدلهم كم أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون} (السَّجْدَة: 62) وَفسّر: (يهدي) بقوله: (يبين) ، وَعَن ابْن عَبَّاس: أولم يبين لَهُم، رَوَاهُ عَنهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة.
1 - (بابُ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ} (السَّجْدَة: 71)
وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَوْله: {فَلَا تعلم نفس} قَوْله: (مَا أُخْفِي) ، قَرَأَ حَمْزَة سَاكِنة الْيَاء أَي: أَنا أُخْفِي، على أَنه للمتكلم، وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ، وَالْبَاقُونَ مَفْتُوحَة الْيَاء على الْبناء للْمَفْعُول، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: مَا اخفيت لَهُم، على صِيغَة الْمُتَكَلّم من الْمَاضِي، وَقَرَأَ ابْن(19/113)
مَسْعُود: تخفى، بنُون الْمُتَكَلّم للتعظيم، وَقَرَأَ مُحَمَّد بن كَعْب بِفَتْح أَوله وَفتح الْفَاء على الْبناء للْفَاعِل وَهُوَ الله، وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدردار: قَرَأت أعين وقرة عين من أقرّ الله عينه أَي: أعطَاهُ حَتَّى يقر فَلَا يطمح إِلَى من هُوَ فَوْقه.
9774 - حدَّثنا عَلِيّ بن عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ أبي الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله تَباركَ وَتَعَالَى: {أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رأتْ ولاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ولاَ خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ} قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ} (السَّجْدَة: 71) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَمضى الحَدِيث فِي صفة الْجنَّة.
قَوْله: (وَلَا خطر على قلب بشر) زَاد ابْن مَسْعُود فِي حَدِيثه: وَلَا يُعلمهُ ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل.
وحدَّثنا سُفْيانُ حَدثنَا أبُو الزّنادِ عنِ الأعْرجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ الله مِثْلَهُ قِيلَ لِسُفْيانَ رِوايَةً قَالَ فأيُّ شَيْءٍ وَقَالَ أبُو مُعاوِيَةَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبي صالِحٍ قَرَأ أبُو هُرَيْرَةَ قُرَّاتِ.
قَوْله: (وَحدثنَا سُفْيَان) ، مَوْصُول بِمَا قبله، تَقْدِيره: حَدثنَا عَليّ أخبرنَا سُفْيَان، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ عَليّ: وَحدثنَا سُفْيَان. قَوْله: (مثله) أَي: مثل مَا فِي الحَدِيث. قَوْله: (قيل لِسُفْيَان رِوَايَة) . أَي: تروي رِوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم تَقول عَن اجتهادك؟ قَالَ: فَأَي شَيْء أَي؟ فَأَي شَيْء كَانَ لَوْلَا الرِّوَايَة؟ قَوْله: (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة) مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان ... إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كتاب: (فَضَائِل الْقُرْآن) لَهُ عَن أبي مُعَاوِيَة بِهَذَا الْإِسْنَاد مثله سَوَاء.
0874 - حدَّثني إسْحاقُ بنُ نَصْرٍ حَدثنَا أبُو أُسامَةَ عَنْ الأعْمَشِ حَدثنَا أبُو صالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ الله تَعَالَى: {أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ} . ذُخْراً بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ قَرَأ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن إِسْحَاق بن نصر، هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر البُخَارِيّ، وَالْبُخَارِيّ تَارَة ينْسبهُ إِلَى أَبِيه، وَتارَة إِلَى جده، يروي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان إِلَى آخِره، وَهُوَ من أَفْرَاده. قَوْله: قَوْله: (ذخْرا) ، مَنْصُوب مُتَعَلق (بأعددت) أَي: أَعدَدْت ذَلِك لَهُم مذخوراً. قَوْله: (بله) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وَفتح الْهَاء: مَعْنَاهُ دع الَّذِي أطلعْتُم عَلَيْهِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: سوى، أَي: سوى مَا أطلعْتُم عَلَيْهِ الَّذِي ذكره الله فِي الْقُرْآن، وَقَالَ الْخطابِيّ: كَأَنَّهُ يُرِيد بِهِ: دع مَا أطلعْتُم عَلَيْهِ، وَأَنه سهل يسير فِي جنب مَا ادخرته لَهُم، وَيُقَال أَيْضا بِمَعْنى: أجل، وَحكى اللَّيْث أَنه يُقَال بِمَعْنى فضل كَأَنَّهُ يَقُول: هَذَا الَّذِي غيبته عَنْكُم فضل مَا أطلعْتُم عَلَيْهِ مِنْهَا، وَقَالَ الصغاني: اتّفق جَمِيع نسخ الصَّحِيح على: من بله، وَالصَّوَاب إِسْقَاط كلمة: من مِنْهُ وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن إِسْقَاط من إلاّ إِذا فسرت بِمَعْنى: دع، وَأما إِذا فسرت بِمَعْنى: من أجل، أَو: من غير، أَو: سوى، فَلَا. وَقَالَ ابْن مَالك: الْمَعْرُوف من بله إسم فعل بِمَعْنى: أترك، ناصب لما يَلِيهِ بِمَعْنى المفعولية، واستعماله مصدرا بِمَعْنى التّرْك مُضَافا إِلَى مَا يَلِيهِ، والفتحة فِي الأولى بنائية وَفِي الثَّانِيَة إعرابية، وَهُوَ مصدر مهمل الْفِعْل مَمْنُوع الصّرْف، وَقَالَ الْأَخْفَش: بله، هُنَا مصدر كَمَا يَقُول: ضرب زيد، وندر دُخُول: من عَلَيْهِ زَائِدَة.(19/114)
33 - (سورةَ الأحْزَابِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْأَحْزَاب، وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا لَا اخْتِلَاف فِيهَا، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد آل عمرَان، وَقبل سُورَة الممتحنة، وَهِي خَمْسَة آلَاف وَسَبْعمائة وَسِتَّة وَتسْعُونَ حرفا، وَألف ومائتان وَثَمَانُونَ كلمة، وَثَلَاث وَسَبْعُونَ آيَة.
لم تثبت الْبَسْمَلَة وَلَفظ سُورَة إلاَّ لأبي ذَر، وَسَقَطت الْبَسْمَلَة فَقَط للنسفي.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: صَياصِيهِمْ: قُصُورِهِمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأنزل الَّذين ظاهروهم من أهل الْكتاب من صياصيهم وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب} (الْأَحْزَاب: 62) ، (صياصيهم: قصورهم) وَهُوَ جمع صيصة وَهِي مَا يحصن بِهِ، وَمِنْه قيل لقرن الثور: صيصية. قَوْله: (وَأنزل الَّذين ظاهروهم) ، يَعْنِي الَّذين عاونوا الْأَحْزَاب من قُرَيْش وغَطَفَان على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُؤمنِينَ، وهم بَنو قُرَيْظَة.
مَعْرُوفاً فِي الكِتابِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا} (الْأَحْزَاب: 6) وَأَرَادَ (مَعْرُوفا فِي الْكتاب) . وَأُرِيد بِهِ الْقُرْآن، وَقيل: اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: التَّوْرَاة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطوراً} (الإسراب: 85 والأحزاب: 6) وَهَذَا أثبت للنسفي وَحده.
1 - (بَاب: {النبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ} )
ثَبت هَذَا لأبي ذَر وَحده أَي: النَّبِي أَحَق بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كل شَيْء من أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا من أنفسهم، فَلهَذَا أطلق وَلم يُقيد.
1874 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ حدَّثنا أبي عَنْ هِلاَلِ بنِ عَلِيّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي عَمْرَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وَأَنا أوْلى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ اقْرَؤُوا إِن شِئْتُمْ. {النبيُّ أوْلى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ} فأيُّما مُؤْمنٍ تَرَك مَالا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كانُوا فإِنْ تَرَكَ دَيْناً أوْ ضَياعاً فَلْيَأْتَنِي وَأَنا مَوْلاهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن فليح يروي عَن أَبِيه فليح بن سُلَيْمَان عَن هِلَال بن عَليّ وَهُوَ هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي هِلَال، وَيُقَال: ابْن أُسَامَة الفِهري الْمَدِينِيّ. والْحَدِيث مر فِي كتاب الاستقراض فِي: بَاب الصَّلَاة على من ترك دينا.
قَوْله: (من كَانُوا) ، كلمة: من، مَوْصُولَة. وَكَانَ تَامَّة وَفَائِدَة ذكر هَذَا الْوَصْف التَّعْمِيم للعصبات نسبية قريبَة وبعيدة. قَوْله: (ضيَاعًا) ، بِفَتْح الْمُعْجَمَة: الْعِيَال الضائعون الَّذين لَا شَيْء لَهُم وَلَا قيم لَهُم وَالْمولى النَّاصِر، وَقد مر الْكَلَام بِأَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
2 - (بابُ: {ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله} (الْأَحْزَاب: 5) أعْدَلُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} وَمعنى: أدعوهم انسبوهم لِآبَائِهِمْ الَّذين ولدوهم.
2874 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حَدثنَا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ المُخْتارِ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدّثني سالِمٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا أنَّ زَيْدَ بنَ حارِثَةَ مَوْلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كُنا نَدْعُوهُ إلاَّ زَيْدَ بنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ القُرْآنُ: {ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يبين سَبَب نزُول الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَمعلى بِلَفْظ إسم الْمَفْعُول من التعلية بِالْمُهْمَلَةِ، وَعبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار الدّباغ الْبَصْرِيّ، ومُوسَى بن عقبَة بِالْقَافِ الْمدنِي مولى آل الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة وَعَن أَحْمد بن سعيد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ(19/115)
وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ: كَانَ من تبنى رجلا فِي الْجَاهِلِيَّة دَعَاهُ النَّاس إِلَيْهِ وَورث مِيرَاثه حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة.
3 - (بابُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَخْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الْأَحْزَاب: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمنهمْ} أَي: فَمن الْمُؤمنِينَ الَّذين صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ {من قضى نحبه} يَعْنِي: فرغ من نَذره ووفى بعهده، وَيَأْتِي الْكَلَام على النحب. قَوْله: (وَمِنْهُم من ينْتَظر) أَي: الشَّهَادَة. قَوْله: (وَمَا بدلُوا) أَي: قَوْلهم وَعَهْدهمْ ونذرهم.
نَحْبَهُ عَهْدَهُ
النحب النّذر والنحب الْمَوْت، وَعَن مقَاتل: نحبه أَي قضى أَجله فَقتل على الْوَفَاء، يَعْنِي حَمْزَة وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم، وَقيل: قضى نحبه أَي بذل جهده فِي الْوَفَاء بعهده، من قَول الْعَرَب: نحب فلَان فِي سيره ليله ونهاره إِذا أمد فَلم ينزل.
أقْطارِها جَوَانِبُها. الفِتْنَةَ لأتَوْها لأعْطَوْها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَو دُخِلت عَلَيْهِم من أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها وَمَا تلبثوا بهَا إلاَّ يَسِيرا} (الْأَحْزَاب: 41) وَفسّر: (أقطارها) بقوله: (جوانبها) أَي: نَوَاحِيهَا، والأقطار جمع قطر بِالضَّمِّ وَهُوَ: النَّاحِيَة. قَوْله: (وَلَو دخلت) أَي: لَو دخل الْأَحْزَاب الْمَدِينَة ثمَّ أمروهم بالشرك لأشركوا، وَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة} أَي: الشّرك {وَمَا تلبثوا} أَي: اجتنبوا عَن الْإِجَابَة إِلَى الشّرك إلاَّ قَلِيلا أَي: لبثاً يَسِيرا حَتَّى عذبُوا، قَالَه السّديّ. قَوْله: (لآتوها) قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَابْن عَامر: لأتوها، بِالْقصرِ أَي: لجاؤوها وفعلوها وَرَجَعُوا عَن الْإِسْلَام وَكَفرُوا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْمدِّ أَي: لأعطوها.
3874 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأنْصارِيُّ قَالَ حدّثني أبي عنْ ثُمامَةَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ نُرَى هاذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أنَسِ بنِ النَّضْرِ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدّقُوا مَا عاهَدُوا الله عَلَيْهِ.
(انْظُر الحَدِيث 5082 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة بعض الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَمُحَمّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله بن أنس بن مَالك يروي عَن أَبِيه عبد الله بن الْمثنى، وَهُوَ يروي عَن عَمه ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الميمين: ابْن عبد الله بن أنس قَاضِي الْبَصْرَة، وَهُوَ يروي عَن جده أنس بن مَالك، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده، وَأنس ين النَّضر، بالضاد الْمُعْجَمَة: ابْن ضَمْضَم بن زيد بن حرَام الْأنْصَارِيّ عَم أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، قتل يَوْم أحد شَهِيدا.
4874 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي خارِجَةُ بنُ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ قَالَ لمَّا نَسَخْنا الصُّحُفَ فِي المَصاحِفِ فَقَدْتُ آيَةَ مِنْ سُورَةِ الأحْزَاب كُنْتُ أسْمَعُ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَؤها لَمْ أجِدْها مَعَ أحَدٍ إلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهادَتَهُ شَهادَةَ رَجُلَيْنِ. {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا الله عَلَيْهِ} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي مُطَابقَة الحَدِيث الْمَاضِي، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب قَوْله تَعَالَى: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَقيل: إِن الْآيَة المفقودة الَّتِي وجدت عِنْد خُزَيْمَة هِيَ آخر سُورَة التَّوْبَة، كَمَا تقدم. وَأجِيب: بِأَن لَا دَلِيل على الْحصْر وَلَا مَحْذُور فِي كَون كلتيهما مكتوبتين عِنْده دون غَيره، وَجَوَاب آخر: أَن الأولى كَانَت عِنْد النَّقْل من العسب وَنَحْوه إِلَى الصُّحُف، وَالثَّانيَِة عِنْد النَّقْل من الصُّحُف إِلَى الْمُصحف.
4
- (بابُ: {يَا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها(19/116)
فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الْأَحْزَاب: 82)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي} إِلَى آخر الْآيَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى: {أمتعكن} ... الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يسألنه من عرُوض الدُّنْيَا وَالزِّيَادَة فِي النَّفَقَة ويتأذى بغيرة بَعضهنَّ على بعض فهجرهن وآلى مِنْهُنَّ شهرا وَلم يخرج إِلَى أَصْحَابه، فَنزلت آيَة التَّخْيِير. قَوْله: (إِن كنتن تردن الحيوة الدُّنْيَا) أَي: السعَة فِي الدُّنْيَا وَكَثْرَة الْأَمْوَال: {وَزينتهَا فتعالين} أَي: أقبلن بإرادتكن واختياركن أمتعكن مُتْعَة الطَّلَاق، وَالْكَلَام فِي الْمُتْعَة فِي النَّفَقَة. قَوْله: {وأسرحكن} يَعْنِي: الطَّلَاق {سراحاً جميلاً} من غير إِضْرَار.
وَاخْتلفُوا فِي تخييره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: إِنَّه خيرهن بَين اختيارهن الدُّنْيَا فيفارقهن وَاخْتِيَار الْآخِرَة فيمسكهن وَلم يُخَيِّرهُنَّ فِي الطَّلَاق، قَالَه الْحسن وَقَتَادَة، وَقيل: بل بَين الطَّلَاق وَالْمقَام مَعَه، قالته عَائِشَة وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَمُقَاتِل، وَكَانَ تَحْتَهُ يومئذٍ تسع نسْوَة خمس من قُرَيْش: عَائِشَة بنت أبي بكر، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأم سَلمَة بنت أبي أُميَّة وَصفِيَّة بنت حييّ بن أَخطب الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَزَيْنَب بنت جحش الأَسدِية، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة. وَاخْتلفُوا فِي سَبَب التَّخْيِير، فَقيل: لِأَن الله تَعَالَى خَيره بَين ملك الدُّنْيَا ونعيم الْآخِرَة فَأمر أَن يُخَيّر بَين نِسَائِهِ ليكن على مثل حَاله، وَقيل: لِأَنَّهُنَّ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ فآلى مِنْهُنَّ شهرا، وَقيل: لِأَنَّهُنَّ اجْتَمعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيد مَا تُرِيدُ النِّسَاء من الْحلِيّ حَتَّى قَالَ بَعضهنَّ: لَو كُنَّا عِنْد غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ لنا شَأْن وَثيَاب وحلي، وَقيل: لِأَن كل وَاحِدَة طلبت مِنْهُ شَيْئا فَكَانَ غير مستطيع فطلبت أم سَلمَة معلما، ومَيْمُونَة حلَّة يَمَانِية، وَزَيْنَب ثوبا مخططاً وَهُوَ الْبرد الْيَمَانِيّ. وَأم حَبِيبَة ثوبا سحولياً، وَحَفْصَة ثوبا من ثِيَاب مصر، وَجُوَيْرِية معجراً، وَسَوْدَة قطيفة خيبرية، إلاَّ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، فَلم تطلب شَيْئا.
وَقَالَ مَعْمَرٌ التَّبَرُّجُ أنْ تُخْرِجَ مَحَاسِنَهَا
لفظ: قَالَ معمر، لم يثبت إلاَّ لأبي ذَر وَهُوَ معمر بن الْمثنى أَبُو عُبَيْدَة. قَالَه بَعضهم، ثمَّ حط على صَاحب (التَّلْوِيح) بإساءة أدب حَيْثُ قَالَ: وتوهم مغلطاي وَمن قَلّدهُ أَن مُرَاد البُخَارِيّ معمر بن رَاشد فنسب هَذَا إِلَى تَخْرِيج عبد الرَّزَّاق فِي تَفْسِيره عَن معمر وَلَا وجود لذَلِك فِي كِتَابه. قلت: لم يقل الشَّيْخ عَلَاء الدّين مغلطاي: معمر بن رَاشد، وَإِنَّمَا قَالَ: هَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَلم يقل أَيْضا فِي تَفْسِيره: حَتَّى يشنع عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يُوجد فِي تَفْسِيره، وَعبد الرَّزَّاق لَهُ تآليف أُخْرَى غير تَفْسِيره وَحَيْثُ أطلق معمرا يحْتَمل أحد المعمرين. ثمَّ قَالَ: فِي قَوْله: {وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى} (الْأَحْزَاب: 33) وَفَسرهُ بقوله: (أَن تخرج محاسنها) وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة: التبرج التَّبَخْتُر والتكسر والتغنج.
سُنَّةَ الله اسْتَنَّها جَعَلَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل} ثمَّ قَالَ: (استنها) يَعْنِي: جعلهَا سنة، وَفِي التَّفْسِير: سنة الله أَي: كَسنة الله، نصب بِنَزْع الْخَافِض، وَقيل: فعل سنة الله، وَقيل: على الإغراء أَي: اتبعُوا سنة الله. قَوْله: (فِي الَّذين خلوا) ، أَرَادَ سنة الله فِي الْأَنْبِيَاء الماضيين أَن لَا يُؤَاخِذكُم بِمَا أحل لكم، وَقيل: الْإِشَارَة بِالسنةِ النِّكَاح فَإِنَّهُ من سنة الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام.
5874 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبَرنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْها زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرَتْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهَا حِينَ أمَرَ الله أنْ يُخَبِّرَ أزْوَاجَهُ فَبَدأ بِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أمْرا فَلا عَلَيْكِ أنْ تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أبَوَيْكِ وَقَدْ عَلِمَ أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأمُرَانِي بِفِراقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إنَّ الله قَالَ: {يَا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ} إلَى تَمامِ الآيَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ فَفِي أيِّ هاذا أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ فَإنِّي أُرِيدُ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد مضوا عَن قريب، والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن أبي الْيَمَان، وَأخرجه(19/117)
مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي الطَّاهِر وحرملة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن يحيى وَفِي الطَّلَاق عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (فَلَا عَلَيْك) أَي: لَا بَأْس عَلَيْك فِي عدم الاستعجال حَتَّى تَسْتَأْمِرِي حَتَّى تشاوري. قَوْله: (فَفِي أَي هَذَا) ويروى: فَفِي أَي شَيْء.
5 - (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارُ الآخُرَةَ فَإنَّ الله أعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أجْرا عَظِيما} (الرحمان: 92)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِن كنتن} الْآيَة.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالحِكْمَةِ} (الْأَحْزَاب: 43) القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن أَحْمد بن مَنْصُور: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَنهُ.
6874 - حدَّثنا وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهاب قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَتْ لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَخْيِير أزْوَاجِهِ بَدَأَنِي فَقَالَ إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أمْرا فَلا عَلَيْكِ أنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أبَوَيْكِ قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {يَا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَها} (الْأَحْزَاب: 82، 92) إلَى {أجْرا عَظِيما} قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أيِّ هاذا أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ فَإنِّي أُرِيدُ الله وَرَسُولَهُ الدارَ الآخِرَةَ قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أزْواجُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَ مَا فَعَلْتُ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَلكنه مُعَلّق وَوَصله الذهلي عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث.
قَوْله: (قَالَ اللَّيْث) : يجوز أَن يكون أَخذه عَن أبي صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث فَإِن الحَدِيث عِنْده، وَلَيْسَ هُوَ عِنْد البُخَارِيّ مِمَّن يخرج لَهُ فِي الْأُصُول إلاَّ فِي مَوضِع وَاحِد فِي الْبيُوع صرح بِسَمَاعِهِ مِنْهُ وَرِوَايَته عَنهُ، وَالله أعلم.
تَابَعَهُ مُوسَى بنُ أعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ: أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ
أَي: تَابع اللَّيْث مُوسَى بن أعين الْجَزرِي، بِالْجِيم وَالزَّاي: أَبُو سعيد الْحَرَّانِي عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، وَوَصله النَّسَائِيّ من طَرِيق مُوسَى بن أعين، حَدثنَا أبي فَذكره.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأبُو سُفْيَانَ المَعْمَرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنها.
عبد الرَّزَّاق بن همام الْيَمَانِيّ، وَأَبُو سُفْيَان مُحَمَّد بن حميد السكرِي المعمري: بِفَتْح الميمين نسبه إِلَى معمر لِأَنَّهُ رَحل إِلَيْهِ وروى لَهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا أما رِوَايَة عبد الرَّزَّاق فوصلها مُسلم وَابْن مَاجَه من طَرِيقه، وَقَالَ بَعضهم: وَقصر من قصر تخريجها على ابْن مَاجَه. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَا طائل تَحْتَهُ وغمز بِهِ على صَاحب (التَّلْوِيح) وَعدم ذكره مُسلما مَعَ ابْن مَاجَه لَيْسَ بتقصير على مَا لَا يخفى، وَأما رِوَايَة أبي سُفْيَان فأخرجها الذهلي فِي الزهريات.
6 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {وَتُخْفَى فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ} (الْأَحْزَاب: 73)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وتخفي فِي نَفسك} وَأول الْآيَة: {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله وتخفي فِي نَفسك} الْآيَة. نزلت فِي زَيْنَب بنت جحش كَمَا يَأْتِي الْآن، وقصتها مَذْكُورَة فِي التَّفْسِير، وحاصلها. أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى ذَات يَوْم إِلَى زيد بن حَارِثَة مَوْلَاهُ لحَاجَة فأبصر زَيْنَب بنت جحش زَوجته قَائِمَة فِي درعها وخمار فَأَعْجَبتهُ وَكَأَنَّهَا وَقعت فِي نَفسه، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله مُقَلِّب الْقُلُوب، وَانْصَرف فجَاء زيد فَذكرت لَهُ فَفِي الْحَال ألْقى الله كراهتها فِي قلبه،(19/118)
فَأَرَادَ فراقها، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أُفَارِق صَاحِبَتي. فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اتَّقِ الله وَأمْسك عَلَيْك زَوجك، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ تَقول} أَي: اذكر حِين تَقول: {للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ} يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ زيد بن حَارِثَة. (وأنعمت) أَنْت عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ (وتخفي فِي نَفسك) أَن لَو فَارقهَا تَزَوَّجتهَا، وَعَن ابْن عَبَّاس: تخفي فِي نَفسك حبها. قَوْله: (مَا الله مبديه) ، أَي: الَّذِي الله مظهره (وتخشى النَّاس) أَي: تستحيهم، قَالَه ابْن عَبَّاس وَالْحسن، وَقيل: تخَاف لائمة النَّاس أَن يَقُولُوا: أَمر رجلا بِطَلَاق امْرَأَته ثمَّ نَكَحَهَا حِين طَلقهَا، وَقَالَ ابْن عمر وَابْن مَسْعُود وَالْحسن: مَا نزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، آيَة أَشد عَلَيْهِ من هَذِه الْآيَة. قَوْله: (وَالله أَحَق أَن تخشاه) ، لَيْسَ المُرَاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خشِي النَّاس وَلم يخْش الله بل الْمَعْنى أَن الله أَحَق أَن تخشاه وَحده وَلَا تخش أحدا مَعَه وَأَنت تخشاه وتخشى النَّاس أَيْضا، فَاجْعَلْ الخشية لله وَحده، وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن العَبْد غير ملوم على مَا يَقع فِي قلبه من مثل هَذِه الْأَشْيَاء مَا لم يقْصد فِيهِ المأثم.
7874 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حدَّثنا مُعَلَّى بنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادٍ بنِ زَيْدٍ حدَّثنا ثَابِتٌ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ هاذِهِ الآيَةَ: {وَتُخْفَى فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} (الْأَحْزَاب: 73) نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَزَيدٍ بنِ حَارِثَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى كَانَ يُقَال لَهُ صَاعِقَة. والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عَبدة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان لؤين لقب لَهُ.
7 - (بَابُ قَوْلِهِ: {تُرْجِىءُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} (الْأَحْزَاب: 15)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ترجىء من تشَاء} إِلَى آخِره، كَذَا جَمِيع الروَاة، لغير أبي ذَر لفظ: بَاب، وَحكى الواحدي عَن الْمُفَسّرين: أَن هَذِه الْآيَة نزلت عقيب نزُول آيَة التَّخْيِير، وَذَلِكَ أَن التَّخْيِير لما وَقع أشْفق بعض الْأزْوَاج أَن يُطَلِّقهُنَّ ففوضن أَمر الْقسم إِلَيْهِ فَنزلت {ترجىء من تشَاء} الْآيَة. قَوْله: (ترجىء) ، أَي: تُؤخر، قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص عَن عَاصِم: تجىء بِغَيْر همزَة وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ، وهما لُغَتَانِ (وَتُؤْوِي) من الإيواء أَي: تضم قَوْله: (وَمن ابْتَغَيْت) ، أَي: طلبت وَأَرَدْت إصابتها مِمَّن عزلت فأصبتها وجامعتها بعد الْعَزْل فَلَا جنَاح عَلَيْك، فأباح الله تَعَالَى لَك ترك الْقسم لَهُنَّ حَتَّى إِنَّه ليؤخر من شَاءَ مِنْهُنَّ فِي وَقت نوبتها فَلَا يَطَؤُهَا ويطأ من يَشَاء مِنْهُنَّ فِي غير نوبتها، وَله أَن يردهَا إِلَى فرَاشه من غير عزلها، فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فِيمَا فعل تَفْضِيلًا لَهُ على سَائِر الرِّجَال وتخفيفا عَنهُ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: تُرْجِىءُ: تُؤَخِّرُ أرْجِئْهُ أخِّرْهُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: معنى ترجىء، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَهَذَا خص بِهِ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (أرجئه: أخِّره) ، هَذَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف وَالشعرَاء، ذكره هُنَا اسْتِطْرَادًا.
8874 - حدَّثني زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشامٌ حدَّثنا عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أغَارُ عَلَى اللاَّتِي وَهَبْنَ أنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقُولُ أتَهَبُ المَرْأةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أنْزَلَ الله تَعالى: {تُرْجِىءُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ مَا أُرَى رَبِّكَ إلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاك.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وزَكَرِيا بن يحيى أَبُو السكين الطَّائِي الْكُوفِي، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير.
قَوْله: (قَالَ هِشَام: حَدثنَا عَن أَبِيه) ، تَقْدِيره: قَالَ: حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه، وَهَذَا جَائِز عِنْدهم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي عشرَة النِّسَاء وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المَخْزُومِي، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي أُسَامَة.
قَوْله: (أغار) بالغين الْمُعْجَمَة مَعْنَاهُ هُنَا أعيب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ بِلَفْظ كَانَت تعير اللَّاتِي، بِالْعينِ الْمُهْملَة(19/119)
قَوْله: (اللَّاتِي وهبْنَ) ظَاهره أَن الواهبة أَكثر من وَاحِدَة؟ مِنْهُنَّ: خَوْلَة بنت حَكِيم، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم، ومنهن: أم شريك رَوَاهُ الشّعبِيّ، ومنهن: فَاطِمَة بنت شُرَيْح، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة، ومنهن: ليلى بنت الْحطيم، رَوَاهُ بَعضهم، ومنهن: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، رَوَاهُ قَتَادَة عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ مُنْقَطع. قَوْله: (مَا أرى) رَبك إِلَى آخِره أَي: مَا أرى الله إِلَّا موجدا لمرادك بِلَا تَأْخِير منزلا لما تحب وترضاه.
9874 - حدَّثنا حِبَّانُ بنُ مُوسَى أخْبرنا عَبْدُ الله أخْبرنا عَاصِمٌ الأحْوَلُ عَنْ مُعاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ المَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أنْ أُنْزِلَتْ هاذِهِ الآيَةَ: {تُرْجِىءُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوى إلَيْكَ مَنْ تَشَاءِ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} (الْأَحْزَاب: 15) فَقُلْتُ لَها: مَا كُنْتُ تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْتُ أقُولُ لَهُ إنْ كَانَ ذَاكَ إلَيَّ فَإنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ الله أنْ أُوتِرَ عَلَيْكَ أحَدا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وحبان: بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَعَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول الْمصْرِيّ، ومعاذ، بِضَم الْمِيم وبالعين الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة بنت عبد الله العدوية البصرية.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن شُرَيْح بن يُونُس، وَعَن الْحسن بن عِيسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن يحيى بن معِين وَمُحَمّد بن الطباع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عَامر المصِّيصِي.
قَوْله: (كَانَ يسْتَأْذن فِي يَوْم الْمَرْأَة) بِإِضَافَة يَوْم إِلَى الْمَرْأَة ويروى فِي الْيَوْم الْمَرْأَة بِنصب الْمَرْأَة ويروى: يسْتَأْذن الْمَرْأَة فِي الْيَوْم أَي: الْيَوْم الَّذِي تكون فِيهِ نوبتها إِذا أَرَادَ أَن يتَوَجَّه إِلَى الْأُخْرَى. قَوْله: (مَا كنت) ؟ اسْتِفْهَام. قَوْله: (لَهُ) أَي: للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (إِن كَانَ ذَاك) أَي: الاسْتِئْذَان.
تَابَعَهُ عَبَّادُ بنُ عَبَّادٍ سَمِعَ عَاصِما
أَي: تَابع عبد الله عباد بن عباد، بتَشْديد الْيَاء الْمُوَحدَة فيهمَا، أَبُو مُعَاوِيَة المهلبي، وَوَصله ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من طَرِيق يحيى بن معِين عَن عباد بن عباد.
8 - (بَابٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ وَلاكنْ إذَا دُعِيْتُمْ فَادْخُلُوا فَإذَا طَمِعْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيَّ فَيَسْتَحْيَ مِنْكُمْ وَالله لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقِّ وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتاعا فَأسألُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حجابٍ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا إنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِنْدَ الله عَظِيما} (الْأَحْزَاب: 35)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لَا تدْخلُوا} الْآيَة. وَعند أبي ذَر والنسفي: كَذَا {لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ أَن يُؤذن لكم إِلَى طَعَام} إِلَى قَوْله: (عَظِيما) وَغَيرهمَا: ساقوا الْآيَة كلهَا كَمَا هُوَ هَاهُنَا. قَوْله: (لَا تدْخلُوا) ، أَوله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا} ؟ الْآيَة. قَوْله: (إِلَّا أَن يُؤذن لكم) ، أَي: إِلَّا تدعوا إِلَى طَعَام فَيُؤذن لكم فتأكلونه. قَوْله: (غير ناظرين) ، أَي: غير منتظرين إناه أَي: وَقت إِدْرَاكه ونضجه، وَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت فِي نَاس من الْمُؤمنِينَ كَانُوا يتحينون طَعَام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيدْخلُونَ عَلَيْهِ قبل الطَّعَام إِلَى أَن يدْرك ثمَّ يَأْكُلُون وَلَا يخرجُون، فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَأَذَّى مِنْهُم فَنزلت هَذِه الْآيَة، وَغير: نصب على الْحَال. قَوْله: (فَإِذا طَعِمْتُمْ) ، أَي: فَإِذا أكلْتُم الطَّعَام. قَوْله: (فَانْتَشرُوا) ، أَي: فَتَفَرَّقُوا واخرجوا من منزله. قَوْله: (وَلَا مستأنسين) عطف على قَوْله: (غير ناظرين) أَي: وَلَا غير مستأنسين أَي: طَالِبين الْأنس لحَدِيث، نهوا أَن يطيلوا الْجُلُوس يسْتَأْنس بَعضهم لبَعض لأجل حَدِيث يحدثُونَ بِهِ. قَوْله: (إِن ذَلِكُم) ، أَي: إطالتكم فِي الْقعُود وانتظاركم الطَّعَام(19/120)
الَّذِي لم يتهيأ واستئناسكم للْحَدِيث يُؤْذِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويشوش عَلَيْهِ. قَوْله: (فيستحيي مِنْكُم) ، أَن يَقُول لكم قومُوا (وَالله لَا يستحيي من الْحق) أَي: لَا يتْرك تأديبكم وحملكم على الْحق وَلَا يمنعهُ ذَاك مِنْهُ. قَوْله: (وَإِذ سَأَلْتُمُوهُنَّ) ، أَي: إِذا سَأَلْتُم نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب) وَرُوِيَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحجاب، فَقَالَت زَيْنَب يَا ابْن الْخطاب أتغار علينا وَالْوَحي ينزل فِي بُيُوتنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} قَوْله: {ذَلِكُم طهر لقلوبكم وقلوبهن} يَعْنِي: من الرِّيبَة. قَوْله: (وَمَا كَانَ لكم) ، يَعْنِي: وَمَا يَنْبَغِي لكم وَمَا يصلح لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَشْيَاء وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا نزلت فِي رجل كَانَ يَقُول: لَئِن توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَتَزَوَّجَن عَائِشَة، زعم مقَاتل أَنه طَلْحَة بن عبيد الله. قَوْله: (إِن ذَلِكُم) ، أَي: إِن نِكَاح أَزوَاجه بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ عِنْد الله عَظِيما) .
يُقالُ إناهُ إدْرَاكُهُ أنَى يأنى أَنَاة
أَرَادَ بذلك تَفْسِير لَفْظَة أَتَاهُ. فِي قَوْله: {غير ناظرين أناه} (الْأَحْزَاب: 35) وَفَسرهُ بقوله: (إِدْرَاكه) أَي: إِدْرَاك وَقت الطَّعَام، يُقَال: (أَنى) فِي الْمَاضِي بِفَتْح الْهمزَة وَالنُّون مَقْصُورا (إياني) مضارعه بِكَسْر النُّون. قَوْله: (أَنَاة) ، مصدر بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف النُّون وَآخره هَاء تَأْنِيث: كَذَا ضبطوه وَقَالُوا: أَنه مصدر وَلكنه لَيْسَ بمصدر. أَنِّي يأنى الَّذِي قَالَه البُخَارِيّ فَإِنَّهُ مصدره بِكَسْر الْهمزَة على مَا تَقول وَسُكُون النُّون الْمَفْتُوحَة، والأناءة الِاسْم مثل قَتَادَة، وَهُوَ الثَّانِي فِي الْأَمر، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أَنى يأني أناه، أَي: حَان، وأنى أَيْضا أدْرك، قَالَ تَعَالَى: {غير ناظرين أناه} ، وَيُقَال أَيْضا إِنِّي الْحَمِيم، أَي: انْتهى حره. قَالَ تَعَالَى: {حميم آن} (الْأَحْزَاب: 35) وآناء يؤنيه إيناه أَخّرهُ وحبسه وأبطاه، وآناه اللَّيْل ساعاته قَالَ الْأَخْفَش: وَاحِدهَا أَنِّي مثل معي، وَقيل: وَاحِدهَا آني وانو.
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلك النَّاس عَن السَّاعَة قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا} (الْأَحْزَاب: 36) قَوْله: (يَسْأَلك النَّاس) ، أَي: الْمُشْركُونَ. قَوْله: (عَن السَّاعَة) ، أَي: عَن وَقت قيام السَّاعَة استعجالاً على سَبِيل الْهمزَة، وَالْيَهُود كَانُوا يسْأَلُون امتحانا لِأَن الله عمَّى وَقتهَا فِي التَّوْرَاة، وَفِي كل كتاب، ثمَّ بَين الله تَعَالَى لرَسُوله أَنَّهَا قريبَة الْوُقُوع تهديدا للمستعجلين.
إذَا وَصَفْتَ صِفَةَ المُؤَنَثِ قُلْتَ قَرِيبَةً وَإذا جَعَلْتَهُ ظَرْفا أوْ بَدلاً وَلَمْ تُرِدِ الصِفَةَ نَزَعَتْ الهَاءَ مِنَ المُؤَنَّثِ وَكَذَلِكَ لَفْظُها فِي الوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالجَمِيعِ لِلذِّكَرِ وَالأُنْثَى.
هَذَا كُله من قَوْله: {لَعَلَّ السَّاعَة} إِلَى قَوْله: (وَالْأُنْثَى) لم يَقع إلاَّ لأبي ذَر والنسفي، وَلم يذكرهُ غَيرهمَا وَهُوَ الصَّوَاب من أوجه: الأول: أَن قَوْله: {لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا} إِن كَانَ فِي هَذِه السُّورَة وَلَكِن ذكره فِي هَذَا الْموضع لَيْسَ بموجه لِأَن الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا بعد هَذَا كلهَا مُتَعَلقَة بالترجمة الَّتِي ذكرت قبله، والفاصل بَينهمَا كالفاصل بَين الْعَصَا ولحائها. الثَّانِي: أَن هَذَا الَّذِي ذكره فِي تذكير لفظ قَرِيبا، لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي، وَالَّذِي ذكره المهرة فِي فن الْعَرَبيَّة أَن قَرِيبا على وزن فعيل وفعيل إِذا كَانَ بِمَعْنى مفعول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} (الْأَعْرَاف: 65) الثَّالِث: أَن قَوْله: إِذا جعلته ظرفا، لَيْسَ على الْحَقِيقَة لِأَن لفظ: قريب، لَيْسَ بظرف أصلا فِي الأَصْل، وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله: قَرِيبا، أَي: شَيْئا قَرِيبا، أَو لِأَن السَّاعَة فِي معنى الْيَوْم أَو فِي زمَان قريب، وَهَذَا هروب من إِطْلَاق لفظ الظّرْف على قريب حَيْثُ أجَاب ثَلَاثَة أجوبة عَن قَول من يَقُول أَن لفظ قريب مُذَكّر والساعة مؤنث، وَكَذَلِكَ لاحظ أَبُو عُبَيْدَة هَذَا الْمَعْنى هُنَا حَيْثُ قَالَ: مجازه مجَاز الظّرْف هَاهُنَا، وَلَو كَانَ وَصفا للساعة لقَالَ: قريبَة، وَإِذا كَانَت ظرفا فَإِن لَفظهَا فِي الْوَاحِد وَفِي الِاثْنَيْنِ وَالْجمع من الْمُذكر والمؤنث وَاحِد بِغَيْر هَاء وَبِغير جمع وَبِغير تَثْنِيَة. قَوْله: (أَو بَدَلا) ، أَي: عَن الصّفة يَعْنِي: جعلته اسْما مَكَان الصّفة وَلم تقصد الوصفية يستوى فِيهِ الْمُذكر والمؤنث والتثنية وَالْجمع.
0974 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله(19/121)
يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ وَالفَاجِرُ فَلَوْ أمَرْتَ أُمَّهاتِ المُؤْمِنينَ بِالحجابِ فأنْزَلَ الله آيَةَ الحِجابِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد ذكرنَا أَن قَوْله: {لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا} غير وَاقع فِي مَحَله، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَحميد، بِضَم الْحَاء ابْن أبي حميد الطَّوِيل أَبُو عُبَيْدَة الْبَصْرِيّ، وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث طَوِيل مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة.
1974 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الرَّقَاشِيُّ حدَّثنا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ حدَّثنا أبُو مِجْلَزٍ عَنْ أنس بنِ مَالِك رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَبَ ابنَةَ جَحْشٍ دَعَا القَوْمَ فَطمِعُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحدَّثُونَ وَإذَا هُوَ كَأنَّهُ يَتَهَيَأْ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ فَجَاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَدْخُلَ فَإذَا القَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فأخْبَرْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أدْخُلُ فَألْقَى الحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأُنْزِلَ الله: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيِّ} (الْأَحْزَاب: 35) الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن عبد الله الرقاشِي، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف وبالشين الْمُعْجَمَة نِسْبَة إِلَى رقاش بنت ضبيعة فِي ربيعَة بن نزار ومعتمر يرْوى عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن طرخان وَأَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفتح اللَّام وبالزاي، اسْمه لَاحق بن حميد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَعَن الْحسن بن عمر وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن حبيب وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (لما تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش) ، وَكَانَ سنة ثَلَاث، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَعَن قَتَادَة سنة خمس، وَقيل: غير ذَلِك. قَوْله: (فطعموا) أَي: أكلُوا قَوْله: (وَإِذا هُوَ) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلم يقومُوا) ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستحي أَن يَقُول لَهُم: قومُوا قَوْله: (من قَامَ) فَاعل قَوْله: (قَامَ قبله) .
2974 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنِ أيُّوبَ عَنْ أبِي قِلابَةَ قَالَ أنَسٌ ابنُ مَالِكٍ أنَا أعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ آيَةِ الحِجابِ لَما أهدِيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَتْ مَعَهُ فِي البَيْتِ صَنَعَ طَعاما وَدَعا القَوْمَ فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فَجَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْرُجُ ثُمَّ يَرجِعُ وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إناهُ} إلَى قَوْلِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ فَضُرِبَ الحِجابُ وَقَامَ القَوْمُ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس الْمَذْكُور أخرجه عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد الْجرْمِي عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (لما أهديت) ، أَي: لمازينتها الماشطة وبعثتها إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصغاني: صَوَابه هديت بِدُونِ الْألف وَلَكِن النّسخ بِالْألف، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: والهداء مصدر قَوْلك: هديت الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا هداه، وَقد هديت إِلَيْهِ وَهِي مهدية وَهدى أَيْضا. ثمَّ قَالَ: والهدية وَاحِدَة الْهَدَايَا يُقَال: أهديت لَهُ وَإِلَيْهِ. قَوْله: (وهم قعُود) ، جملَة حَالية أَي: قَاعِدُونَ.
3974 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا عَبْدِ الوَارِثِ حدَّثنا عَبْدِ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ(19/122)
الله عنهُ قَال بُنْيَ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ بِخْبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلَتْ أُى الطَّعامِ دَاعِيا فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فَدَعْوَتُ حَتَّى مَا أجِدُ أحَدا أدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ الله مَا أجِدُ أحَدا أدْعُوهُ فَقَالَ ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ وَبَقِيَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي البَيْتِ فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْطَلَقَ إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ الله فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ الله كَيْفَ وَجَدْتُ أهْلَكَ بَارَكَ الله لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسِائِهِ كُلَّهِنَّ يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ رَجَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإذَا ثَلاثَةُ رَهْطٍ فِي البَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ وَكَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَدِيدَ الحَيَاءِ فَخَرَجَ مُنْطِلِقا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أدْرِي آخْبَرْتُهُ أوْ أُخْبِرَ أنَّ القَوْمَ خَرَجُوا فَرَجَعَ حَتَّى إذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسُكُفَّةِ البابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الحِجابِ..
هَذَا طَرِيق آخر أَيْضا عَن أبي معمر، بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور بالمقعد بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من الإقعاد عَن عبد الْوَارِث بن سعيد إِلَى آخِره.
قَوْله: (بني على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، بِصِيغَة الْمَجْهُول من الْبناء وَهُوَ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الرجل كَانَ إِذا تزوج امْرَأَة بنى عَلَيْهَا قبَّة ليدْخل بهَا فِيهَا فَيُقَال: بنى الرجل على أَهله، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَلَا يُقَال بنى بأَهْله، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ. قَوْله: (ابْنة جحش) ، ويروى: بنت جحش. قَوْله: (فَأرْسلت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، والمرسل هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (على طَعَام) ، ويروى: على الطَّعَام. قَوْله: (دَاعيا) ، نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي أرْسلت وَهُوَ أنس. قَوْله: (فَيَجِيء قوم وَيخرجُونَ) ، أَي: يَأْكُلُون فَيخْرجُونَ. قَوْله: (ادعو) ، أَي: ادعوهُ وَهِي صفة أحدا. قَوْله: (قَالَ: ارْفَعُوا طَعَامكُمْ) ، ويروى: فَقَالَ: بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ فارفعوا قَوْله: (فنقرى) بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء على وزن تفعل، أَي: تتبع الْحجر وَاحِدَة وَاحِدَة، وَالْحجر بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم: جمع حجرَة وَهِي الْموضع الْمُنْفَرد فِي الدَّار قَوْله: (آخبرته) أَي: أخْبرت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أخبر، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: أَو أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَحْي، وَهَذَا شكّ من أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد اتّفقت رِوَايَة عبد الْعَزِيز وَحميد على الشَّك، وَفِي رِوَايَة أبي مجلز عَن أنس الَّذِي مضى: فَأخْبرت من غير شكّ. قَوْله: (فِي أُسْكُفَّة الْبَاب) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون السِّين وَضم الْكَاف وَتَشْديد الْفَاء، وَهِي: العتبة الَّتِي يُوطأ عَلَيْهَا.
4974 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخْبَرَنا عَبْدُ الله بنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدثنَا حَمَيْدٌ عَنْ أنَسٍ رضيَ عَنْهُ قَالَ أوْلَمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ فأشْبَعَ النَّاسَ خُبْزاً وَلَحْماً ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُجَرِ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ كَما كانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ بِنائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ ويُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ رأى رَجُلَيْن جَرَي بِهِما الحَدِيثُ فَلَمَّا رَآهُما رَجعَ عَنْ بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأْي الرّجُلاَنِ نَبيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وثَبا مُسْرِعَيْنِ فَما أدْرِي أَنا أخْبَرْتُهُ بِخُرُوجِهِما أمْ أُخْبِرَ فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ البَيْتَ وأرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وبَيْنَهُ وأُنْزِلَتْ آيَةُ الحِجابِ..
هَذَا طَرِيق آخر أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور أبي يَعْقُوب الْمروزِي عَن عبد الله بن بكر بن حبيب الْبَاهِلِيّ السَّهْمِي الْبَصْرِيّ عَن حميد الطَّوِيل ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (صَبِيحَة بنائِهِ) أَي: صباحاً بعد لَيْلَة الزفاف. قَوْله: (فَيسلم عَلَيْهِنَّ ويسلمن عَلَيْهِ) ويروى: فَيسلم(19/123)
عَلَيْهِنَّ وَيَدْعُو لَهُنَّ ويسلمن عَلَيْهِ وَيدعونَ. قَوْله: (رأى رجلَيْنِ) وَفِي الحَدِيث الْمَاضِي: ثَلَاثَة رَهْط، وَلَا اعْتِبَار لمَفْهُوم الْعدَد وَكَانَت المحادثة بَينهمَا وَالثَّالِث سَاكِت، وَقيل: لَعَلَّه باعتبارين كَانُوا ثَلَاثَة ثمَّ ذهب وَاحِد وَبَقِي إثنان وَهُوَ أولى من قَول ابْن التِّين إِحْدَاهمَا وهم فَإِن قلت: الحَدِيث الثَّانِي يدل على أَن نزُول الْآيَة قبل قيام الْقَوْم، وَالْأول وَغَيره أَنه بعده. قلت: هُوَ مأول بِأَنَّهُ حَال أَي: أنزل الله وَقد قَامَ الْقَوْم، هَكَذَا أجَاب الْكرْمَانِي.
وَقَالَ ابْنُ أبي مَرْيَمَ أخْبَرَنا يَحْيَى حدّثني حُمَيْدٌ سَمِعَ أنَساً عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بذلك إِلَى أَن حميدا قد ورد عَنهُ التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ هَذَا الحَدِيث عَن أنس. وَأَن عنعنته فِيهِ غير مُؤثرَة وَابْن أبي مَرْيَم من شُيُوخ البُخَارِيّ، واسْمه سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ وَيحيى هُوَ ابْن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ، قيل: وَقع فِي بعض النّسخ من رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن أبي مَرْيَم: وَهُوَ غلط فَاحش.
5974 - حدَّثني زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى حَدثنَا أبُوا أُسامَةَ عَن هِشامٍ عنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَما ضُرِبَ الحِجابُ لِحاجَتِها وكانَتِ امْرَأةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُها فَرَآها عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ يَا سَوْدَةُ أما وَالله مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنا فانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ قالَتْ فانْكَفَأَت رَاجِعَةً ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِي وإنَّهُ لَيَتَعَشَّي وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ فَدَخَلَتْ فقالَتْ يَا رسولَ الله إنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حاجَتِي فَقَالَ لِي عُمَرُ وَكَذَا قالَتْ فأوْحي الله إلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ وإنَّ العَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وضَعَهُ فقالَ إنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أنْ تَخْرُجْنَ لِحاجَتِكُنَّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بَعْدَمَا ضرب الْحجاب) قيل: إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لَيْسَ بمطابق وَكَانَ إِيرَاده فِي عدم الْحجاب أولى. وَأجِيب: بِأَنَّهُ أحَال على أصل الحَدِيث كعادته فِي التبويبات.
وزكرياء بن يحيى بن صَالح الْبَلْخِي الْحَافِظ الْفَقِيه، وَله شيخ آخر وَهُوَ زَكَرِيَّاء بن يحيى بن عمر أَبُو السكن الطَّائِي الْكُوفِي، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة يروي عَن هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
والْحَدِيث قد مضى فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى البرَاز، أخرجه بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (خرجت سَوْدَة) وَهِي بنت زَمعَة أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (بَعْدَمَا ضرب الْحجاب) وَقد تقدم فِي الطَّهَارَة أَنه كَانَ قبل الْحجاب، قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّه وَقع مرَّتَيْنِ، وَقيل: المُرَاد بالحجاب الأول غير الْحجاب الثَّانِي، وَالْحَاصِل فِي هَذَا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ، وَقع فِي قلبه نفرة من اطلَاع الْأَجَانِب على الْحَرِيم النَّبَوِيّ حَتَّى صرح بقوله للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إحجب نِسَاءَك، وأكد ذَلِك إِلَى أَن نزلت آيَة الْحجاب، ثمَّ قصد بعد ذَلِك أَن لَا يبدين أشخاصهن أصلا وَلَو كن مستترات، فَبَالغ فِي ذَلِك وَمنع مِنْهُ وَأذن لَهُنَّ فِي الْخُرُوج لحاجتهن دفعا للْمَشَقَّة ورفعاً للْحَرج. قَوْله: (لحاجتها) مُتَعَلق بقوله: (خرجت) . قَوْله: (أما وَالله) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم: حرف استفتاح بِمَنْزِلَة، أَلا وَيكثر قبل الْقسم. قَوْله: (فَانْكَفَأت) بِالْهَمْزَةِ يَعْنِي: انقلبت وانصرفت، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ الصَّوَاب، قَالَ: وَوَقع لبَعض الروَاة انكفت بِحَذْف الْهمزَة وَالْألف فَكَانَ لما سهل الْهمزَة بقيت الْألف سَاكِنة فلقيها سَاكن فحذفت. قَوْله: (عرق) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء، وَهُوَ الْعظم الَّذِي عَلَيْهِ اللَّحْم. قَوْله: (ثمَّ رفع عَنهُ) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: رفع عَنهُ مَا يلقاه وَقت نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ. قَوْله: (والعرق، فِي يَده) جملَة حَالية. قَوْله: (إِنَّه) أَي: إِن الشَّأْن (قد أذن لَكِن) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَيجوز أَن قَالَ: إِن الله قد أذن لكنّ، وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب كلهَا دَالَّة على الْحجاب، وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا الْمَذْكُور، وَإِن لم يذكر فِيهِ الْحجاب صَرِيحًا. لِأَن ظَاهره عَدمه وَلَكِن فِي أَصله مَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَعَن هَذَا قَالَ عِيَاض: فرض الْحجاب مِمَّا اخْتصَّ بِهِ أَزوَاجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ فرض عَلَيْهِنَّ بِلَا خلاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَلَا يجوز لَهُنَّ كشف ذَلِك فِي شَهَادَة وَلَا غَيرهَا وَلَا إِظْهَار شخوصهن وَإِن كن مستترات إلاَّ مَا دعت إِلَيْهِ ضَرُورَة من برَاز، كَمَا فِي حَدِيث حَفْصَة، لما توفّي عمر رَضِي الله عَنهُ، سترهَا النِّسَاء عَن أَن يرى شخصها، وَلما توفيت زَيْنَب(19/124)
جعلُوا لَهَا قبَّة فَوق نعشها تستر شخصها، وَلَا خلاف أَن غَيْرهنَّ يجوز لَهُنَّ أَن يخْرجن لما يحتجن إِلَيْهِ من أمورهن الْجَائِزَة بِشَرْط أَن يكن بذة الْهَيْئَة خشنة الملبس تفلة الرّيح مستورة الْأَعْضَاء غير متبرجات بزينة وَلَا رَافِعَة صَوتهَا.
9 - (بابُ قَوْلُهُ: {إنْ تُبْدُوا شَيْئاً أوْ تُخْفُوهُ فإِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيماً لاَ جُناح عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ ولاَ أبْنائِهِنَّ وَلَا إخْوَانِهِنَّ وَلَا أبْماءِ إخْوانِهِنَّ وَلَا أبْناءِ أخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسائهنَّ ولاَ مَا مَلَكَتْ أيماتُهُنَّ واتَّقِينَ الله إنَّ الله كانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (الْأَحْزَاب: 45 55)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَن تبدوا} إِلَى آخِره، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مذكورتان فِي راوية غير أبي ذَر فَإِن عِنْده: {إِن تبدوا شَيْئا أَو تُخْفُوهُ فَإِن الله كَانَ} إِلَى قَوْله: {شَهِيدا} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب قَوْله: (أَن تبدوا) أَي: إِن تظهروا شَيْئا من نِكَاح أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَلْسِنَتكُم أَو تُخْفُوهُ فِي صدوركم فَإِن الله يعلم ذَلِك فيعاقبكم عقَابا عَظِيما، ولتحريمهن بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَزِمت نفقاتهن فِي بَيت المَال. وَاخْتلف أهل الْعلم فِي وجوب الْعدة عَلَيْهِنَّ بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: لَا عدَّة عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهَا مُدَّة تربص تنْتَظر بهَا الْإِبَاحَة، وَقيل: تجب لِأَنَّهَا عبَادَة وَإِن لم تتعقبها الْإِبَاحَة. قَوْله: (لَا جنَاح عَلَيْهِنَّ) الْآيَة، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما نزلت آيَة الْحجاب قَالَ الْآبَاء وَالْأَبْنَاء: يَا نَبِي الله، وَنحن أَيْضا تكلمهن من وَرَاء حجاب؟ فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة فِي ترك الْحجاب من الْمَعْدُودين، وَلم يذكر الْعم لِأَنَّهُ كَالْأَبِ، وَلَا الْخَال لِأَنَّهُ كالأخ. قَوْله: وَلَا مَا ملكت إيمانهن قيل: الْإِمَاء دون العبيد وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب، وَقيل: عَام فيهمَا. قَوْله: (واتقين الله) ، يَعْنِي: أَن يراكن غير هَؤُلَاءِ (إِن الله كَانَ على كل شَيْء) من أَعمال بني آدم (شَهِيدا) يَعْنِي: لم يغب عَلَيْهِ شَيْء.
6974 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ حدّثني عُروةُ بنُ الزبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتِ استأذَن عَلَيَّ أفْلَحُ أخُو أبي القُعَيْسِ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجابُ فَقُلْتُ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإِنَّ أخاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ بعد مَا أنزل الْحجاب فَقلت لَا آذن لَهُ حَتَّى اسْتَأْذن فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن إخاه أَبَا القعيس لَيْسَ هُوَ أرْضَعَني ولاكِنْ أرْضَعَتْني امْرَأةُ أبي القُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ لَهُ يَا رسولَ الله إنَّ أفْلَحَ أَخا أبي القُعَيْسِ استأْذَنَ فأبَيحُ أنْ آذَنَ حَتَّى أسْتَأْذِنَكَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا مَنَعَكِ أنْ تأذَنِينَ عَمَّكِ قُلْتُ يَا رسُولَ الله إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أرْضَعَنِي ولَكِنْ أرْضَعَتْنِي امْرَأةُ أبي القُعَيْسِ فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ فإنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يمينُكِ قَالَ عُرْوَةُ فَلِذلِكَ كانَتْ عائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنَ الرَّضاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ..
قيل: لَا مُطَابقَة فِيهِ للتَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْء من تَفْسِير الْآيَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يُطَابق التَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه أُرِيد بِهِ بَيَان جَوَاز دُخُول الْأَعْمَام والآباء من الرضَاعَة على أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ لقَوْله إئذني لَهُ إِنَّه عمك.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الشَّهَادَات فِي بَاب الشَّهَادَة على الْإِنْسَان.
قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء، وأفلح فَاعل اسْتَأْذن، وَقَالَ أَبُو عمر: أَفْلح بن أبي القعيس، وَيُقَال: أَخُو أبي القعيس. وَقد اخْتلف فِيهِ، فَقيل: فِيهِ الْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَان، وَقيل: أَبُو القعيس، وأصحها إِن شَاءَ الله مَا رَوَاهُ عُرْوَة عَن عَائِشَة: جَاءَ أَفْلح أخوا أبي القعيس، وَقيل: إِن إسم أبي القعيس الْجَعْد، وَيُقَال: أَفْلح، يكنى أَبَا الْجَعْد، وَقَالَ فِي الكنى: أَبُو قعيس عَم عَائِشَة من الرضَاعَة اسْمه وَائِل بن أَفْلح. قلت: هُوَ بِضَم الْقَاف وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبسين مُهْملَة، قَوْله: (أَن تأذنين) ويروى: تَأْذَنِي، بِحَذْف النُّون وَهِي لُغَة. قَوْله: (تربت يَمِينك) ، كلمة تَدْعُو بهَا الْعَرَب وَلَا يُرِيدُونَ حَقِيقَتهَا ووقوعها لِأَن مَعْنَاهَا: افْتَقَرت، يُقَال: ترب إِذا افْتقر وأترب إِذا اسْتغنى كَأَنَّهُ إِذا ترب لصق بِالتُّرَابِ. وَإِذا أترب اسْتغنى وَصَارَ لَهُ من المَال بِقدر التُّرَاب.
وَقَالَ الْخطابِيّ: (فِيهِ من الْفِقْه) إِثْبَات اللَّبن للفحل وَأَن زوج الْمُرضعَة بِمَنْزِلَة الْوَالِد وَأَخُوهُ بِمَنْزِلَة الْعم.(19/125)
01 - (بابُ: {إنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيِّ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الْأَحْزَاب: 65)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الله} الْآيَة. وَعند أبي ذَر إِلَى قَوْله: (على النَّبِي) الْآيَة. وَغَيره سَاق إِلَى آخر الْآيَة وَشرف الله بِهَذِهِ الْآيَة رَسُوله وَذكر مَنْزِلَته مِنْهُ يصلونَ أَي: يثنون وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِر أَنه تَعَالَى يترجم عَلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَة يدعونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ فَيكون إطلاقاً للفظ الْمُشْتَرك على مَعْنيين مُخْتَلفين وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَن ابْن عَبَّاس: يبركون على مَا يَجِيء.
قَالَ أبُو العالِيَةِ صَلاَةُ الله ثَناؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلاَئِكَةِ وَصَلاَةُ المَلاَئِكَةِ الدُّعاءُ
أَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي الْبَصْرِيّ أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسنتَيْنِ، وَدخل على أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، وَصلى خلف عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، مَاتَ فِي سنة تسعين، وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ والطَّحَاوِي وَغَيرهمَا: عَن أبي الْعَالِيَة: صَلَاة الله عَلَيْهِ عِنْد الْمَلَائِكَة وَصَلَاة الْمَلَائِكَة الدُّعَاء، وَزَاد أَخْبَار الله الْمَلَائِكَة برحمته لنَبيه وَتَمام نعْمَته عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يُصَلُّونَ: يُبرِّكُونَ
يبركون من التبريك وَهُوَ الدُّعَاء بِالْبركَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن مُعَاوِيَة عَن عَليّ ابْن أبي طَلْحَة رَضِي الله عَنهُ.
لَنُغْرِيَنَّكَ لَنُسَلِّطَنَّكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم} (الْأَحْزَاب: 06)
الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (لنسلطنك) وَأول الْآيَة: {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم} أَي: لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ عَن أَذَى الْمُسلمين، والمرجفون بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي: بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِل، يَقُولُونَ: أَتَاكُم الْعَدو وَقتلت سراياكم لنغرينك، أَي: لنسلطنك عَلَيْهِم بِالْقِتَالِ والإخراج ثمَّ لَا يجاورونك بِالْمَدِينَةِ إلاَّ قَلِيلا، أَي: زَمَانا قَلِيلا حَتَّى يهْلكُوا ويرتجلوا، وَقَالَ بَعضهم، كَذَا وَقع هَذَا هُنَا وَلَا تعلق لَهُ بِالْآيَةِ وَإِن كَانَ من جملَة السُّورَة، فَلَعَلَّهُ من النَّاسِخ. قلت: لم يدع. البُخَارِيّ أَنه من تعلق الْآيَة حَتَّى يُقَال هَكَذَا، وَإِنَّمَا ذكره على عَادَته ليفسر مَعْنَاهُ، فَلَو كَانَ من غير هَذِه السُّورَة لَكَانَ لما قَالَه وَجه، وَالنِّسْبَة إِلَى النَّاسِخ فِي غَايَة الْبعد، على مَا لَا يخفى.
7974 - حدَّثني سَعِيدُ بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ حدّثنا أبي حدَّثنا مِسْعَرٌ عَنِ الحَكَمِ عنِ الحَكَمِ عَنِ ابنِ أبي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قِيلَ يَا رسولَ الله أمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْناهُ فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ قَالَ قُولوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. الْهم بَارك على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا باركت على آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَعِيد هُوَ ابْن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا، وَلَهُم أَيْضا: سعيد بن يحيى بن مهْدي بن عبد الرَّحْمَن أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَرِي الوَاسِطِيّ الْحذاء، ومسعر. بِكَسْر الْمِيم: ابْن كدام وَالْحكم، بِفتْحَتَيْنِ: ابْن عتيبة يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى إِلَى آخِره والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة.
قَوْله: (أما السَّلَام عَلَيْك فقد عَرفْنَاهُ) أَرَادَ بِهِ مَا علمهمْ إيَّاهُم فِي التَّشَهُّد من قَوْلهم: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، والسائل عِنْد هُوَ كَعْب بن عجْرَة نَفسه. قَوْله: (فَكيف الصَّلَاة عَلَيْك) ؟ . وَفِي حَدِيث أبي سعيد: فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَوْله: (كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم) أَي: كَمَا تقدّمت مِنْك الصَّلَاة على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم، فنسأل مِنْك الصَّلَاة على مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد. فَإِن قيل: شَرط التَّشْبِيه أَن يكون الْمُشبه بِهِ أقوى من الْمُشبه وَهنا بِالْعَكْسِ لِأَن الرَّسُول أفضل من إِبْرَاهِيم. أُجِيب: بِأَنَّهُ ذَلِك قبل أَن يعلم أَنه أفضل من إِبْرَاهِيم، وَقيل التَّشْبِيه لَيْسَ من بَاب إِلْحَاق النَّاقِص بالكامل بل من بَاب بَيَان حَال مَا لَا يعرف بِمَا يعرف، وَقيل: الْمَجْمُوع مشبه بالمجموع، وَلَا شكّ أَن آل إِبْرَاهِيم أفضل من آل مُحَمَّد إِذْ فيهم الْأَنْبِيَاء وَلَا نَبِي فِي آل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(19/126)
8974 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ حدّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدّثني ابنُ الهَادِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ خَبَّابٍ عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنا يَا رسولَ الله هاذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد عَبْدِكَ ورسُولِكَ كَما صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وبارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ.
هَذَا أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة. وَابْن الْهَاد هُوَ يزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ، وَعبد الله بن خباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الْأنْصَارِيّ، وَمضى هَذَا أَيْضا فِي الصَّلَاة.
قَالَ أبُو صالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بارَكْتِ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ
أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث. وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن عبد الله بن يُوسُف لم يذكر آل إِبْرَاهِيم عَن اللَّيْث وَذكرهَا أَبُو صَالح عَنهُ، وَهَكَذَا أخرجه أَبُو نعيم من طَرِيق يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، رَحمَه الله.
حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ حَدثنَا ابنُ أبي حازِمٍ والدَّرَاورْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ وَقَالَ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وبارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وآلِ إبْرَاهِيمَ.
هَذَا أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة، وَإِبْرَاهِيم بن حَمْزَة أَبُو إِسْحَاق الزبيرِي الْمَدِينِيّ، وَابْن أبي حَازِم هُوَ عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي، واسْمه سَلمَة، والدراوردي هُوَ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد مَنْسُوب إِلَى دارورد قَرْيَة بخراسان، وَيزِيد هُوَ ابْن الْهَاد الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهَذَا أَن ابْن أبي حَازِم والدراوردي رويا هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَاد اللَّيْث، فَذكر آل إِبْرَاهِيم كَمَا ذكرهَا أَبُو صَالح عَن اللَّيْث.
11 - (بابُ قَوْلُهُ: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} (الْأَحْزَاب: 96)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} أَي: لَا تُؤْذُوا مُحَمَّدًا كَمَا آذَى بَنو: إِسْرَائِيل مُوسَى، وَالَّذِي آذوه بِهِ هُوَ قَوْلهم إِنَّه آدر، وَهُوَ الْعَظِيم الخصيتين، وَقيل: قَوْلهم: أَنه قتل هَارُون وَقيل: إِنَّهُم رَمَوْهُ بِالسحرِ وَالْجُنُون.
9974 - حدَّثني إسْحاقُ بن إبْرَاهِيمَ أخْبرنا رَوْحُ بنُ عُبادَةَ حدّثنا عَوْفٌ عَنِ الحَسَنِ ومُحَمَّد وخِلاَسٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مُوسَى كانَ رَجُلاً حَيِيًّا وذالِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} فَبَرَّأْهُ الله ممَّا قالُوا: {وكانَ عِنْدَ الله وجيهاً} .
(انْظُر الحَدِيث 872 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وعَوْف هُوَ الْمَعْرُوف بالأعرابي، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَمُحَمّد بن سِيرِين، وخلاس، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف اللَّام وبالسين الْمُهْملَة: ابْن عَمْرو الهجري، بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم وبالراء.
والْحَدِيث مضى مطولا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، فِي قصَّة مُوسَى مَعَ بني إِسْرَائِيل.
قَوْله: (حيياً) ، على وزن فعيل من الْحَيَاة، وَكَانَ لَا يغْتَسل إلاَّ فِي الْخلْوَة فاتهموه بِأَنَّهُ أدر وآذوه بذلك فبرأه الله مِمَّا قَالُوا حَيْثُ أَخذ الْحجر ثَوْبه وَذهب بِهِ إِلَى ملاء بني إِسْرَائِيل، وَاتبعهُ مُوسَى عُريَانا فرأوه لَا عيب فِيهِ، عَلَيْهِ صلوَات الله وَسَلَامه. قَوْله: (وجيهاً) ، أَي: كَرِيمًا مَقْبُولًا ذَا جاه.
43 - (سورَة سَبَأ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة سبأ. قَالَ مقَاتل، مَكِّيَّة غير آيَة وَاحِدَة: {وَيرى الَّذين آتوا الْعلم الَّذِي أنزل} (سبإ: 6) . وَهِي أَرْبَعَة آلَاف وَخَمْسمِائة واثني عشر حرفا، وَثَمَانمِائَة وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة، وَخمْس وَخَمْسُونَ آيَة. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث فَرْوَة بن مسيك الْمرَادِي، قَالَ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر حَدِيثا فِيهِ، فَقَالَ رجل: وَمَا سبأ أَرض أم امْرَأَة؟ قَالَ: لَيْسَ بِأَرْض وَلَا امْرَأَة، وَلكنه رجل ولد عشرَة من الْعَرَب فتيامن مِنْهُم سِتَّة وتشاءم مِنْهُم أَرْبَعَة، فَأَما(19/127)
الَّذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسان وعاملة، وَأما الَّذين تيامنوا: فالأزد والأشعرون وحمير وكنده ومذحج وأنمار. فَقَالَ الرجل: وَمَا أَنْمَار؟ قَالَ: الَّذين مِنْهُم خثعم وبجيلة، وَقَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: سبأ اسْمه عبد شمس بن يشخب بن يعرب بن قحطان من يقظان بن عَامر وَهُوَ هود بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ أول من سبى من الْعَرَب فلقب بذلك، وَفِي: (أدب الْخَواص) : هَذَا اشتقاق غير صَحِيح لِأَن سبأ مَهْمُوز، والسبي غير مَهْمُوز، وَالصَّوَاب: أَن يكون من سبأت النَّار الْجلد، أَي: أحرقته، وَمن سبأ الْحمر إِذا اشْتَرَيْتهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَلَاء: لَو كَانَ الْأَمر كَمَا يَقُولُونَ لوَجَبَ أَن لَا يهمز وَلَا يمْتَنع أَن يكون أصل السَّبي الْهمزَة إِلَّا أَنهم فرقوا بَين سبيت الْمَرْأَة وسبأت الْحمر، وَالْأَصْل وَاحِد، وَفِي (التيجان) : وَهُوَ أول متوج وَبنى السد الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَهُوَ سد فِيهِ سَبْعُونَ نَهرا، وَنقل إِلَيْهِ الشّجر مسيرَة ثَلَاثَة أشهر فِي ثَلَاثَة أشهر وَبلغ من الْعُمر خَمْسمِائَة سنة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة وَلَفظ السُّورَة إلاَّ لأبي ذَر، وَسميت هَذِه السُّورَة سبأ لقَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لسبإ فِي مسكنهم} (سبإ: 51) .
مُعاجزِين مُسابقين. بِمُعْجِزِينَ بفَائِتِينَ. مُعاجِزِينَ مُغالِبِينَ: مُعاجِزِيَّ مُسابِقِيَّ سبقوا فاتوا لَا يُعْجِزُونَ لَا يَفُوتُونَ: يَسْبِقُونا يُعْجِزُونا. وقوْلُهُ بِمُعْجِزِ بنَ بِفائِتِينَ ومَعْنَى مُعاجِزِينَ مُغالِبِينَ يُرِيدُ كُلُّ واحِدٍ منْهُما أنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صاحبِهِ.
وَفِي بعض النّسخ يُقَال: معاجزين، وَأَشَارَ بقوله: معاجزين إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين} (سبإ: 5) وَفَسرهُ بقوله: (مسابقين) وَفِي التَّفْسِير: معاجزين مسابقين يحسبون أَنهم يفوتوننا، وَعَن ابْن زيد: جاهدين، وَفِي هَذِه اللَّفْظَة قراءتان: إِحْدَاهمَا: معاجزين، وَهِي قِرَاءَة الْأَكْثَرين فِي موضِعين من هَذِه السُّورَة وَفِي الْحَج. وَالْأُخْرَى: قِرَاءَة ابْن كثير وَأبي عَمْرو: معجزين، بِالتَّشْدِيدِ ومعناهما وَاحِد، وَقيل: معنى معاجزين معاندين ومغالبين، وَمعنى: معجزين ناسبين غَيرهم إِلَى الْعَجز. قَوْله: (بمعجزين) إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة العنكبوت. {وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} (العنكبوت: 22) . وَفَسرهُ بقوله: (بفائتين) . وَقد أخرج ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن الزبير نَحوه. قَوْله: (معاجزي: مسابقي) ، لم يثبت فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة. قَوْله: (معاجزين مغالبين) ، كَذَا وَقع مكرراً فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده وَلم يُوجد فِي رِوَايَة البَاقِينَ. قَوْله: (سبقوا: فَأتوا لَا يعجزون لَا يفوتون) إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْفَال: {وَلَا تحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا} (الْأَنْفَال: 95) وَفَسرهُ بقوله: (فَأتوا إِنَّهُم لَا يعجزون) ، أَي: لَا يفوتون. قَوْله: (يسبقونا) إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات أَن يسبقونا} (العنكبوت: 4) وَفَسرهُ بقوله: (يعجزونا) ، أَي: أَن يعجزونا. قَوْله: (وَقَوله بمعجزين مُكَرر) ، وَفَسرهُ بقوله: (بفائتين) ، قَوْله: (وَمعنى: معاجزين)
إِلَى آخِره. أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معاجزين من بَاب المفاعلة وَهُوَ يَسْتَدْعِي الْمُشَاركَة بَين إثنين.
مِعْشَارٌ: عَشْرٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم} (سبإ: 54) وَفسّر بقوله: (عشر) أَي: مَا بلغُوا عشر مَا أعطيناهم، وَقَالَ الْفراء: الْمَعْنى: وَمَا بلغ أهل مَكَّة معشار الَّذين أهلكناهم من قبلهم من الْقُوَّة والجسم وَالْولد وَالْعدَد.
الأكُلُ: الثَّمَرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذواتي أكل خمط أثل} (سبإ: 61) وَفسّر (الْأكل بالثمر) ، أَرَادَ أَن الْأكل الجني بِفَتْح الْجِيم بِمَعْنى الثَّمَرَة، وَفِي التَّفْسِير: الْأكل الثَّمر والخمط الْأَرَاك، قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَقيل: هُوَ كل شجر ذَات شوك. وَقيل: شَجَرَة العضاه، والأثل الطرفاء، قَالَه ابْن عَبَّاس.
باعِدْ وبَعِّدْ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا} (سبإ: 91) ، وَقَالَ: إِن معنى باعد وَبعد وَاحِد، وباعد قِرَاءَة الْأَكْثَرين، وَبعد بِالتَّشْدِيدِ قِرَاءَة أبي عَمْرو وَابْن كثير.
وَقَالَ مجاهِدٌ لَا يَعْزُبُ لَا يَغِيبُ(19/128)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض} (سبإ: 3) . وَفسّر: (لَا يعزب) بقوله (لَا يغيب) ، وروى هَذَا التَّعْلِيق أَبُو مُحَمَّد الْحَنْظَلِي عَن أبي سعيد الْأَشَج: حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي يحيى عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: لَا يعزب لَا يغيب عَن رَبك.
العَرِمُ السَّدُّ ماءٌ أحْمَرُ أرْسَلَهُ الله فِي السُّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ وَحَفَرَ الوَادِي فَارْتَفَعَتَا عَنِ الجَنْتَيْن وغابَ عَنْهُما الماءُ فَيَبِسَتا وَلَمْ يَكُنْ الماءُ الأحْمَرُ مِنَ السُّدَّ ولاكِنْ كانَ عَذَاباً أرْسَلَهُ الله عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ شاءَ: وَقَالَ عَمْرُو بنُ شَرْحَبِيلَ. العرِمُ المُسَنَّاة بِلَحْنِ أهْلِ اليَمَنِ: وَقَالَ غَيْرُهُ العَرِمُ الوَادِي.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فأعرضوا فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم} (سبإ: 61) . وَفسّر: (العرم) بقوله: (السد)
إِلَى آخِره، صَاحب (التَّلْوِيح) : هَل وَجَدْنَاهُ مَنْقُولًا عَن مُجَاهِد؟ قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا حجاج بن حَمْزَة أخبرنَا أخبرنَا شَبابَة أخبرنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، فَذكره، فَلَا أَدْرِي أهوَ من قَول البُخَارِيّ أَو هُوَ مَعْطُوف على مَا علقه عَن مُجَاهِد قبل؟ وَالله أعلم. وبيَّن السُّهيْلي أَنه من كَلَام البُخَارِيّ لَا من كَلَام غَيره. قلت: رِوَايَة ابْن أبي حَاتِم توضح أَنه من قَول مُجَاهِد لِأَن البُخَارِيّ مَسْبُوق بِهِ، فَافْهَم. وَالله أعلم. (والسد) بِضَم السِّين وَتَشْديد الدَّال، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ الشَّديد، بالشين الْمُعْجَمَة على وزن عَظِيم. قَوْله: (فشقه) ، من الشق بالشين الْمُعْجَمَة وَالْقَاف، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَذكر عِيَاض أَن فِي رِوَايَة أبي ذَر: فبثقه، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالتَّاء الْمُثَلَّثَة، قَالَ: وَهُوَ الْوَجْه، تَقول: بثقت النَّهر إِذا كَسرته لتصرفه عَن مجْرَاه. قَوْله: (فارتفعتا عَن الجنتين) ، كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: ارْتَفَعت الجنتان عَن المَاء وَلَكِن المُرَاد من الِارْتفَاع الانتفاء، والزوال يَعْنِي ارْتَفع إسم الْجنَّة عَنْهُمَا فتقديره: ارْتَفَعت الجنتان عَن كَونهمَا جنَّة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَتَسْمِيَة الْبَدَل جنتين على سَبِيل المشاكلة، هَذَا كُله فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: فارتفعت على الجنتين، بِفَتْح الْجِيم وَالنُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ النُّون قَوْله: (وَلم يكن المَاء الْأَحْمَر من السد) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الدَّال، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي من السَّيْل، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: من السُّيُول. قَوْله: (وَقَالَ عَمْرو بن شُرَحْبِيل) ، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللام: الْهَمدَانِي الْكُوفِي، يكنى أَبَا ميسرَة. قَوْله: (المسناة) ، بِضَم الْمِيم وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون، كَذَا هُوَ مضبوط فِي أَكثر الرِّوَايَات وَكَذَا هُوَ فِي أَكثر كتب أهل اللُّغَة، وَضبط فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون السِّين وَتَخْفِيف النُّون، وَقَالَ ابْن التِّين: معنى المسناة مَا يبْنى فِي عرض الْوَادي ليرتفع السَّيْل وَيفِيض على الأَرْض، قَالَ: إِنَّهَا عِنْد أهل الْعرَاق كالزريبة تبنى على سيف الْبَحْر ليمنع المَاء. قَوْله: (بلحن أهل الْيمن) ، أَي: بلغَة أهل الْيمن، وَهَذَا أسْندهُ عبد بن حميد عَن يحيى بن عبد الحميد عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ، وَقَالَ بِلِسَان الْيمن بدل بلحن. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، أَي: غير عَمْرو بن شُرَحْبِيل (العرم الْوَادي) ، وَهُوَ قَول عَطاء، وَقيل: هُوَ إسم الجرد الَّذِي أرسل إِلَيْهِم (وَحرب السد) وَقيل: هُوَ المَاء، وَقيل: الْمَطَر الْكثير، وَقيل: إِنَّه صفة السَّيْل من العرامة وَهُوَ ذَهَابه كل مَذْهَب، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَفِي كتاب: (مفايض الْجَوَاهِر) : قَالَ ابْن شربة: فِي زمن إِيَاس بن رحيعم بن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام، بعث الله رجلا من الأزد يُقَال لَهُ عَمْرو بن الْحجر وَآخر يُقَال لَهُ حَنْظَلَة بن صَفْوَان، وَفِي زَمَنه كَانَ خراب السد، وَذَلِكَ أَن الرُّسُل دعت أَهله إِلَى الله فَقَالُوا: مَا نَعْرِف لله علينا من نعْمَة، فَإِن كُنْتُم صَادِقين فَادعوا الله علينا وعَلى سدنا، فدعوا عَلَيْهِم، فَأرْسل الله عَلَيْهِم مَطَرا جردا أَحْمَر كَأَن فِيهِ النَّار أَمَامه فَارس، فَلَمَّا خالط الْفَارِس السد انْهَدم وَدفن بُيُوتهم الرمل وَفرقُوا ومزقوا حَتَّى صَارُوا مثلا عِنْد الْعَرَب، فَقَالَت: تفَرقُوا أَيدي سبأ، وأيادي سبأ.
السَّابِغاتُ الدُّرُوعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وأالنَّاله الحديدان اعْمَلْ سابغات} (سبإ: 11) وفسرها (بالدروع) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَزَادُوا: وَاسِعَة طَوِيلَة.(19/129)
وَفِي التَّفْسِير: دروعا كوامل واسعات وَأَن دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أول من عَملهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَازِي: يُعاقِبُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهل نجازي إلاَّ الكفور} (سبأ: 71) وَفسّر: (يجازي) بقوله: (يُعَاقب) وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ بِطَاعَةِ الله مَثْنَى وَفُرَادَى وَاحِدا وَاثْنَيْنِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة إِن تقوموا لله مثنى وفرادى} (سبأ: 64) الْآيَة. وَفِي التَّفْسِير: أعظكم أَي: آمركُم وأوصيكم، بِوَاحِدَة أَي: بخصلة وَاحِدَة وَهِي أَن تقوموا لله، وَأَن فِي مَحل الْخَفْض على الْبَيَان من وَاحِدَة، والترجمة عَنْهَا مثنى اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ متناظرين، وفرادى وَاحِدًا وَاحِدًا متفكرين، والتفكر طلب الْمَعْنى بِالْقَلْبِ، وَقيل: معنى وفرادى أَي: جمَاعَة ووحدانا، وَقيل: مناظرا مَعَ غَيره ومتفكرا فِي نَفسه. قَوْله: (وَاحِدًا أَو اثْنَيْنِ) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: معنى مثنى وفرادى مُكَرر، فَلم ذكره مرّة وَاحِدَة؟ قلت: المُرَاد التّكْرَار ولشهرته اكْتفى بِوَاحِد مِنْهُ.
التنَّاوُش الرَّدُّ مِنَ الآخِرَةِ إلَى الدُّنْيَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا آمنا بِهِ وأتى لَهُم التناوش من مَكَان بعيد} (سبأ: 25) وَفَسرهُ بقوله: (الرَّد من الْآخِرَة إِلَى الدُّنْيَا) وَعَن ابْن عَبَّاس: يتمنون الرَّد وَلَيْسَ بِحِين رد.
وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَالٍ أوْ وَلَدٍ أوْ زَهْرَةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون} (سبأ: 45) وَهَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد، وَقَالَ الْحسن: وحيل بَينهم وَبَين الْإِيمَان لما رَأَوْا الْعَذَاب، وَفِي التَّفْسِير: وَبَين مَا يشتهون الْإِيمَان وَالتَّوْبَة فِي وَقت الْيَأْس قَوْله: (أَو زهرَة) أَي: زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا ونضارتها وحسنها.
بأشْياعِهِمْ: بأمْثَالِهِمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كَمَا فعل بأشياعهم} (سبأ: 45) وَفَسرهُ: بأمثالهم، وأشياعهم أهل دينهم وموافقيهم من الْأُمَم الْمَاضِيَة حِين لم يقبل مِنْهُم الْإِيمَان وَالتَّوْبَة فِي وَقت الْيَأْس.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كَالجَوَابِ: كَالجَوْبَةِ مِنَ الأرْضِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وجفان كالجواب} (سبأ: 31) وفسرها بقوله: (كالجوبة من الأَرْض) وَأسْندَ هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ مُجَاهِد: الْجَواب حِيَاض الْإِبِل، وَأَصله فِي اللُّغَة من الْجَابِيَة وَهِي الْحَوْض الَّذِي يَجِيء فِيهِ الشَّيْء أَي يجمع، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ يجْتَمع على كل جَفْنَة وَاحِدَة ألف رجل، والجفان جمع جَفْنَة وَهِي الْقَصعَة، وَالْجَوَاب جمع جابية كَمَا مر.
الخَمْطُ الأرَاكُ وَالأثْلُ: الطَّرْفَاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذواتي أكل وخمط واثل وشى من سدر قَلِيل} (سبأ: 61) وَفسّر الخمط بالأراك وَهُوَ الشّجر الَّذِي يسْتَعْمل مِنْهُ المساويك، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَالضَّحَّاك، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الخمط كل شَجَرَة فِيهَا مرَارَة ذَات شوك، وَقَالَ ابْن فَارس: كل شجر لَا شوك لَهُ.
العَرمُ: الشَّدِيدُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سيل العرم} (سبأ: 61) وَفَسرهُ بالشديد، وَقد مر فِيمَا مضى.
1 - (بابٌ: {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقِّ وَهُوَ العَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (حَتَّى إِذا فزع) الْآيَة، وأولها: {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إلاَّ لمن أذن لَهُ} أَي: لَا تَنْفَع شَفَاعَة ملك وَلَا نَبِي حَتَّى يُؤذن لَهُ فِي الشَّفَاعَة، وَفِيه رد على الْكفَّار فِي قَوْلهم: أَن الْآلهَة شُفَعَاء قَوْله: (حَتَّى إِذا فزع) أَي: كشف الْفَزع وَأخرج من قُلُوبهم، وَاخْتلف فِيمَن هم، فَقيل: الْمَلَائِكَة تفزع قُلُوبهم من غشية تصيبهم عِنْد سماعهم كَلَام الله تَعَالَى فَيَقُول بَعضهم لبَعض: مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير، وَقيل: الْمُشْركُونَ فَالْمَعْنى إِذا كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم عِنْد الْمَوْت قَالَت لَهُم الْمَلَائِكَة: مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا الْحق. فأقروا بِهِ حِين لَا يَنْفَعهُمْ الْإِقْرَار، وَبِه قَالَ الْحسن.(19/130)
0084 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا عَمْرٌ وقَالَ سَمِعْتُ عِكْرَمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إنَّ نَبِيَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قَضَى الله الأمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الملائِكَةُ بأجْنِحَتِها خَضَعانا لِقَوْلِهِ كأنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإذا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} (سبأ: 32) قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ فَيَسْمَعُها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هاكذا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَقَها وَبَدَّدَ بَيْنَ أصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ الكَلِمَةُ فَيُلْقِيها إلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يَلْقِيهَا الآخَرُ إلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيها عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أوْ الكاهِنِ فَرُبَّما أدْرَكَهُ الشَّهابُ قَبْلَ أنْ يُلْقِيها وَرُبَّمَا ألْقَاهَا قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُ فَيُكَذِّبُ مَعَهَا مَائَةِ كَذْبَةٍ فَيُقَالُ ألَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذا وَكَذا وَكَذا؟ فَيُصَدِّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي تَفْسِير سُورَة الْحجر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (إِذا قضى الله الْأَمر) ، وَفِي حَدِيث النواس بن سمْعَان عِنْد الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا إِذا تكلم الله بِالْوَحْي أخذت السَّمَاء رَجْفَة شَدِيدَة من خوف الله فَإِذا سمع بذلك أهل السَّمَاء صعقوا وخروا سجدا فَيكون أَوَّلهمْ يرفع رَأسه جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيكلمه الله بوحيه بِمَا أَرَادَ فينتهي بِهِ على الْمَلَائِكَة كلما مر بسماء سَأَلَهُ أَهلهَا مَاذَا قَالَ رَبنَا قَالَ: الْحق فينتهي بِهِ حَيْثُ أَمر قَوْله: (خضعانا) بِفتْحَتَيْنِ ويروى بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيه، وَهُوَ مصدر بِمَعْنى خاضعين. قَوْله: (كَأَنَّهُ) أَي: القَوْل المسموع. قَوْله: (فيسمعها مسترق السّمع) ويروى: مسترقو السّمع. قَوْله: (وَوصف) ، سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (وبدد) ، أَي: فرق من التبديد. قَوْله: (على لِسَان السَّاحر) ، وَفِي رِوَايَة الْجِرْجَانِيّ: على لِسَان الآخر. قيل: هُوَ تَصْحِيف. قَوْله: (أَو الكاهن) ويروى، والكاهن، بِالْوَاو. قَوْله: (سمع من السَّمَاء) ويروى: سَمِعت، وَهُوَ الظَّاهِر.
2 - (بَابٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ: 64)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن هُوَ} أَي: مَا هُوَ، أَي: مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (إِلَّا نَذِير لكم) أَي: مخوف (بَين يَدي عَذَاب شَدِيد) يَوْم الْقِيَامَة.
1084 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ خَازِمٍ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ عَمْرو بنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ صَعِدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصفَّا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ يَا صبَاحاهْ فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٍ قَالُوا مَالَكَ قَالَ أرَأيْتُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أوْ يُمَسِّيكُمْ أمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإنِّي {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} فَقَالَ أبُو لَهَبٍ تَبا لَكَ ألِهاذا جَمَعْتَنَا؟ فَأنْزَلَ الله {تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ} (المسد: 1) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَمُحَمّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَعَمْرو بن مرّة بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، والْحَدِيث قد مر فِي سُورَة الشُّعَرَاء، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (يَا صَبَاحَاه) هَذِه الْكَلِمَة شعار الْغَارة إِذْ كَانَ الْغَالِب مِنْهَا فِي الصَّباح.
53 - (سُورَةُ: {المَلائِكَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْمَلَائِكَة، وَهِي مَكِّيَّة نزلت قبل سُورَة مَرْيَم وَبعد سُورَة الْفرْقَان، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَمِائَة وَثَلَاثُونَ حرفا وَسَبْعمائة وَسَبْعُونَ كلمة وست وَأَرْبَعُونَ آيَة.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم(19/131)
لم تثبت الْبَسْمَلَة وَلَفظ سُورَة إلاَّ لأبي ذَر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر أَيْضا: كَذَا سُورَة الْمَلَائِكَة وَيس، وَلم يثبت لغيره هَذَا أَعنِي لفظ: وَيس، وَالصَّوَاب سُقُوطه لِأَنَّهُ مُكَرر.
القِطْمِيرُ: لفَافَةُ النَّوَاةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذين تدعون من دونه مَا يملكُونَ من قطمير} (فاطر: 31) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (لفافة النواة) بِكَسْر اللَّام، وَهِي: القشر الَّذِي على النواة، وَمِنْه: لفافة الرجل، ويروى: وَقَالَ مُجَاهِد: القطمير لفافة النواة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن الْحُسَيْن بن حسن: نَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْهَرَوِيّ نَا حجاج عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: القطمير القشر الَّذِي يكون على النواة.
مَثْقَلَة مُثَقلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء} (فاطر: 81) وَلم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَهُوَ قَول مُجَاهِد، ومثقلة الأولى بِالتَّخْفِيفِ من الإثقال، وَالثَّانيَِة بِالتَّشْدِيدِ من التثقيل، أَي: مثقلة بذنوبها.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الحَرُورُ بِالنَّهارِ مَعَ الشَّمْسِ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور وَلَا الظل وَلَا الحرور} (فاطر: 91، 12) وَقَالَ: (الحرور بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْس) وَفِي التَّفْسِير: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير) (فاطر: 91) يَعْنِي: الْعَالم وَالْجَاهِل، وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور يَعْنِي: الْكفْر وَالْإِيمَان، وَلَا الظل وَلَا الحرور يَعْنِي: الْجنَّة وَالنَّار، والحرور بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْس، وَقيل: الحرور الرّيح الحارة بِاللَّيْلِ، والسموم بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْس.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الحَرْورُ بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهارِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير الحرور مَا ذكره وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر.
وَغَرَابِيبْ سُودٌ أشَدُّ سَوَادا: العِرْبيبُ الشَّدِيدُ السَّوَادِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء} إِلَى قَوْله: (وغرابيب سود) ، (فاطر: 72) الْآيَة. وَقَالَ الْفراء: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، تَقْدِيره: وسود غرابيب، وَأَشَارَ بقوله: الغرابيب إِلَى أَن غرابيب جمع غربيب وَهُوَ شَدِيد السوَاد شَبِيها بلون الْغُرَاب.
63 - (سُورَةُ: {ي س} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة ي س وَلم يثبت هَذَا هُنَا لأبي ذَر، وَقد مر أَن فِي رِوَايَته سُورَة الْمَلَائِكَة وي س، وَالصَّوَاب إثْبَاته هَاهُنَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هِيَ مَكِّيَّة بِلَا خلاف نزلت قبل سُورَة الْفرْقَان وَبعد سُورَة الْجِنّ، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف حرف، وَسَبْعمائة وتسع وَعِشْرُونَ كلمة، وَثَلَاث وَثَمَانُونَ آيَة.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر خَاصَّة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعزَّرْنا: شَدَدْنا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله: (فعززنا بثالث) ، (ي س: 41) أَي: شددنا، وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم عَن حجاج بن حَمْزَة. حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَلَفظه فِي تَفْسِير عبد بن حميد شددنا بثالث، وَكَانَت رسل عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، الَّذين أرسلهم إِلَى صَاحب أنطاكية ثَلَاثَة، صَادِق وصدوق وشلوم، وَالثَّالِث هُوَ شلوم، وَقيل: الثَّالِث شَمْعُون.
يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ كَانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسَلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا حسرة على الْعباد يَأْتِيهم رَسُول إلاَّ كَانُوا بِهِ يستهزئون} (ي س: 03) وَفسّر الْحَسْرَة بقوله: (استهزآؤهم بالرسل) فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة لما عاينوا الْعَذَاب، قَالُوا: يَا حسرة على الْعباد، يَعْنِي: الرُّسُل الثَّلَاثَة حِين لم يُؤمنُوا بهم وآمنوا حِين لم يَنْفَعهُمْ الْإِيمَان.
أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ لَا يَسْتُرُضَوْءُ أحَدِهِمَا ضَوْءً الآخَرِ وَلا يَنْبَغِي لَهُمَا ذالِكَ سَابِقُ النَّهَارِ يَتَطالَبان حَثيثيْنِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون) ، (ي س: 04) وَفسّر: أَن تدْرك(19/132)
الْقَمَر، بقوله: لَا يستر ضوء أَحدهمَا ضوء الآخر. قَوْله: وَلَا يَنْبَغِي لَهما ذَلِك أَي: ستر أَحدهمَا الآخر لِأَن لكل مِنْهُمَا حدا لَا يعدوه وَلَا يقصر دونه فَإِذا اجْتمعَا وَأدْركَ كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه. قَامَت الْقِيَامَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} قَوْله: سَابق النَّهَار أَي: وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار. قَوْله: يتطالبان أَي: الشَّمْس وَالْقَمَر كل مِنْهُمَا يطْلب صَاحبه حثيثين، أَي: حَال كَونهمَا حثيثين. أَي: مجدين فِي الطّلب فَلَا يَجْتَمِعَانِ إلاَّ فِي الْوَقْت الَّذِي حَده الله لَهما وَهُوَ يَوْم قيام السَّاعَة.
نَسْلَخُ نُخْرِجُ أحَدَهُما مِن الآخَرِ وَيَجْرِي كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار فَإِذا هم مظلمون} وَفسّر قَوْله: (نسلخ) بقوله: (يخرج أَحدهمَا من الآخر) وَفِي التَّفْسِير: تنْزع وَتخرج مِنْهُ النَّهَار، وَهَذَا وَمَا قبله من قَوْله: (أَن تدْرك الْقَمَر) لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
مِنْ مِثْلِهِ مِنَ الأنْعَامِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون} (ي س: 24) أَي: من مثل الْفلك من الْأَنْعَام مَا يركبون، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْإِبِل سفن الْبر، وَعَن أبي مَالك وَهِي السفن الصغار.
فَكِهُونَ: مُعْجَبُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل فاكهون} (ي س: 55) وَفَسرهُ: بقوله: (معجبون) هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: فاكهون، وَهِي الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة، وَقَالَ الْكسَائي: الْفَاكِه ذُو الْفَاكِه ذُو الْفَاكِهَة مثل تامر وَلابْن، وَعَن السّديّ: ناعمون، وَعَن ابْن عَبَّاس: فَرِحُونَ.
جُنْدٌ مُحْضَرُونَ عِنْدَ الحِسابِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يسطيعون نَصرهم وهم لَهُم جند محضرون} (ي س: 57) يَعْنِي: الْكفَّار والجند الشِّيعَة والأعوان محضرون كلهم عِنْد الْحساب فَلَا يدْفع بَعضهم عَن بعض، وَلم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر.
وَيُذْكَرُ عَنْ عِكْرَمَةَ: المَسْجُونِ: المُوقَرُ
أَي: وَيذكر عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فِي الْفلك المشحون} (ي س: 14) أَن مَعْنَاهُ: الموقر، وَفِي التَّفْسِير: المشحون الموقر المملوء أَيْضا. وَهِي سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام، حمل الْآبَاء فِي السَّفِينَة وَالْأَبْنَاء فِي الأصلاب، وَهَذَا لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: طَائِرُكُمْ مَصَائِبُكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا طائركم مَعكُمْ} (ي س: 91) وَفَسرهُ بقوله: (مصائبكم) وَعَن قَتَادَة: أَعمالكُم، وَقَالَ الْحسن والأعرج: طيركم.
يَنسِلُونَ: يَخْرُجُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور فَإِذا هم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ} (ي س: 15) وَفَسرهُ بقوله: (يخرجُون) وَمِنْه قيل للْوَلَد: تسيل لِأَنَّهُ يخرج من بطن أمه.
مَرْقدِنا مَخْرَجِنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا هَذَا} (ي س: 25) الْآيَة. وَفسّر المرقد بالمخرج، وَفِي التَّفْسِير: أَي: من منامنا، وَعَن ابْن عَبَّاس وَأبي بن كَعْب وَقَتَادَة: إِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِأَن الله تَعَالَى رفع عَنْهُم الْعَذَاب فِيمَا بَين النفختين فيرقدون، وَقيل: أَن الْكفَّار لما عاينوا جَهَنَّم وأنواع عَذَابهَا صَار مَا عذبُوا بِهِ فِي الْقُبُور فِي جنبها كالنوم فَقَالُوا: يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا.
أحْصَيْنَاهُ: حَفِظْناهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} (ي س: 21) وَفسّر (أحصيناه) بقوله: (حفظناه) وَفِي التَّفْسِير: أَي: علمناه وعددناه وثبتناه فِي إِمَام مُبين أَي: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانَهُمْ وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم} (ي س: 76) وَقَالَ: إِن المكانة وَالْمَكَان بِمَعْنى وَاحِد، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق(19/133)
الْعَوْفِيّ: يَقُول لأهلكناهم فِي مساكنهم.
1 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقرٍ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (ي س: 83)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس تجْرِي} الْآيَة. قَوْله: (ولمستقر) أَي: إِلَى مُسْتَقر لَهَا وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تبلغ مستقرها حَتَّى ترجع إِلَى منازلها، وَقيل: إِلَى انْتِهَاء أمرهَا عِنْد انْقِضَاء الدُّنْيَا، وَعَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مستقرها تَحت الْعَرْش. قَوْله: (ذَلِك) أَي: مَا ذكر من أَمر اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس تَقْدِير الْعَزِيز فِي ملكه الْعَلِيم بِمَا قدر من أمرهَا.
2084 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي ذَرّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ يَا أبَا ذَرٍّ أتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ قُلْتُ الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ قَالَ فَإنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَهَا ذالِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم بِالضَّمِّ الْفضل بن دُكَيْن، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن شريك التَّيْمِيّ الْكُوفِي، يروي عَن أَبِيه يزِيد عَن أبي ذَر جُنْدُب الْغِفَارِيّ، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع مِنْهَا فِي بَدْء الْخلق، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
3084 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا وَكِيعٌ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قَالَ سَألْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقِرٍ لَهَا} قَالَ مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن الْحميدِي عَن عبد الله عَن وَكِيع بن الْجراح إِلَى آخِره، غير أَن فِي الرِّوَايَة الأولى استفهمه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: أَتَدْرِي، وَهنا أَبُو ذَر سَأَلَهُ عَن ذَلِك، وَفِي الأول إِخْبَار عَن سجودها تَحت الْعَرْش وَلَا يُنكر ذَلِك عِنْد محاذاتها للعرش فِي مسيرها وَقد ورد الْقُرْآن بسجود الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم. فَإِن قلت: قد قَالَ الله تَعَالَى: {فِي عين حمئه} (الْكَهْف: 68) بَينهمَا تخَالف. قلت: لَا تخَالف فِيهِ لِأَن الْمَذْكُور فِي الْآيَة إِنَّمَا هُوَ نِهَايَة مدرك الْبَصَر إِيَّاهَا حَال الْغُرُوب ومصيرها تَحت الْعَرْش للسُّجُود إِنَّمَا هُوَ بعد الْغُرُوب، وَلَيْسَ معنى فِي عين حمئه سُقُوطهَا فِيهَا وَإِنَّمَا هُوَ خبر عَن الْغَايَة الَّتِي بلغَهَا ذُو القرنين فِي مسيره حَتَّى لم يجد وَرَاءَهَا مسلكا لَهَا فَوْقهَا أَو على سعتها كَمَا يرى غُرُوبهَا من كَانَ فِي لجة الْبَحْر لَا يبصر السَّاحِل كَأَنَّهَا تغرب فِي الْبَحْر وَهِي فِي الْحَقِيقَة تغرب وَرَاءَهَا وَالله أعلم.
73 - (سُورَةُ: {وَالصَّافَاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {وَالصَّافَّات} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ سُورَة: وَهِي مَكِّيَّة بالِاتِّفَاقِ إلاّ مَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن زَيْدَانَ. قَوْله: {قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين} (الصافات: 15) إِلَى آخر هَذِه الْقِصَّة، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَسِتَّة وَعِشْرُونَ حرفا، وَثَمَانمِائَة وَسِتُّونَ كلمة وَمِائَة وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة هُنَا عِنْد الْكل.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كلِّ جَانِبٍ يُرْمَوْنَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ويقذفون من كل جَانب دحورا} (الصافات: 8) وَفسّر: (يقذفون) بقوله: (يرْمونَ) وَفِي التَّفْسِير: يرْمونَ ويطردون من كل جَانب من حميع جَوَانِب السَّمَاء أَي جِهَة صعدوا للاستراق. قَوْله: (دحورا) ، أَي: طردا مفعلو لَهُ أَي: يطردون للدحور، وَيجوز أَن يكون حَالا. أَي: مدحورين، وَهَذَا إِلَى قَوْله: (لازب لَازم) يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
وَاصبٌ دَائِمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم عَذَاب واصب} (الصافات: 9) وَفَسرهُ بقوله: (دَائِم) نَظِيره قَوْله: {وَله الدّين واصبا} وَعَن ابْن عَبَّاس شَدِيد(19/134)
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: مرجع، وَقيل: خَالص.
لازِبٌ لازِمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنا خلقناهم من طين لازب} (الصافات: 11) وَفَسرهُ بقوله: (لَازم) فِي التَّفْسِير: طين لازب أَي: جيد حر يلصق ويعلق بِالْيَدِ، واللازب بِالْمُوَحَّدَةِ وَاللَّازِم بِالْمِيم بِمَعْنى وَاحِد، وَالْبَاء بدل من الْمِيم كَأَنَّهُ يلْزم الْيَد، وَعَن السّديّ: خَالص، وَعَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: منين.
تَأْتونَنَا عَنِ اليَمِينِ يَعْنِي الجنَّ الكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلْشيْطانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} (الصافات: 82) وَفَسرهُ بقوله: (الْجِنّ) بِالْجِيم. وَالنُّون الْمُشَدّدَة هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا قَول الْأَكْثَرين، ويروى: يَعْنِي الْحق، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف الْمُشَدّدَة فعلى هَذَا يكون لفظ الْحق تَفْسِير للْيَمِين أَي: كُنْتُم تأتوننا من جِهَة الْحق فتلبسونه علينا. وَقَوله: (الْكفَّار) مُبْتَدأ أَو تَقول خَبره أَي: تَقول الْكفَّار هَذَا القَوْل للشياطين، وَأما رِوَايَة الْجِنّ بِالْجِيم وَالنُّون: فَالْمَعْنى: الْجِنّ الْكفَّار تَقوله للشياطين، وَهَكَذَا أخرجه عبد بن حميد عَن مُجَاهِد فَيكون لفظ: الْكفَّار على هَذَا صفة للجن فَافْهَم، فَإِنَّهُ مَوضِع فِيهِ دقة.
غَوْلٌ: وَجَعُ بَطْنٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} (الصافات: 74) وَفسّر قَوْله: غول بقوله: (وجع بطن) وَهَذَا قَول قَتَادَة، وَعَن الْكَلْبِيّ: لَا فِيهَا إِثْم نَظِيره: (لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم) (الطّور: 32) وَعَن الْحسن: صداع، وَقيل: لَا تذْهب عُقُولهمْ. وَقيل: لَا فِيهَا مَا يكره، وَهَذَا أَيْضا لم يثبت لأبي ذَر.
يُنْزَفُونَ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} وَفَسرهُ بقوله: لَا تذْهب عُقُولهمْ، هَذَا على قِرَاءَة كسر الزَّاي، وَمن قَرَأَهَا بِفَتْحِهَا فَمَعْنَاه لَا ينفذ شرابهم، وَفِي التَّفْسِير: لَا يَغْلِبهُمْ على عُقُولهمْ وَلَا يسكرون بهَا، يُقَال: نزف الرجل فَهُوَ منزوف ونزيف إِذا سكر وَزَالَ عقله، وأنزف الرجل إِذا فنيت خمره.
قَرِينٌ: شَيْطَانٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين} (الصافات: 15) وَفَسرهُ بقوله: (شَيْطَان) يَعْنِي: كَانَ لي قرين فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا وَمَا قبله لم يثبت لأبي ذَر.
يَهْرَعُونَ: كَهَيْئَةِ الهَرْوَلَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فهم على آثَارهم يهرعون} (الصافات: 7) وَفَسرهُ بقوله: (كَهَيئَةِ الهرولة) أَرَادَ أَنهم يسرعون كالمهرولين، والهرولة الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي.
يَزِفُونَ: النَّسَلانُ فِي المَشْيِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون} (الصافات: 49) وَفسّر الزف الَّذِي يدل عَلَيْهِ يزفون، بقوله: (النسلان فِي الْمَشْي) والنسلان بِفتْحَتَيْنِ: الْإِسْرَاع مَعَ تقَارب الخطا، وَهُوَ دون السَّعْي، وَقيل: هُوَ من زفيف النعام وَهُوَ حَال بَين الْمَشْي والطيران. وَقَالَ الضَّحَّاك: يزفون مَعْنَاهُ يسعون، وَقَرَأَ حَمْزَة بِضَم أَوله وهما لُغَتَانِ.
وَبَيْنَ الجَنَّةِ نَسَبا. قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: المَلائِكَةُ بَنَاتُ الله وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الجِنِّ، وَقَالَ الله تعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجَنَّةُ أنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصافات: 851) سَتَحْضَرُ لِلْحِسابِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} الْآيَة، وَهَذَا كُله لم يثبت لأبي ذَر، أَي: جعل مشركو مَكَّة بَينه، أَي: بَين الله، وَبَين الْجنَّة أَي: الْمَلَائِكَة وسموهم جنَّة لاجتنابهم عَن الْأَبْصَار، وَقَالُوا الْمَلَائِكَة: بَنَات الله. قَوْله: وأمهاتهم أَي: أُمَّهَات الْمَلَائِكَة بَنَات سروات الْجِنّ أَي: بَنَات خواصهم، والسروات جمع سراة والسراة جمع سري وَهُوَ جمع عَزِيز أَن يجمع فعيل على فعلة، وَلَا يعرف غَيره. قَوْله: (وَلَقَد علمت الْجنَّة أَنهم) أَي: أَن قائلي هَذَا القَوْل لمحضرون فِي النَّار ويعذبهم وَلَو كَانُوا مناسبين لَهُ أَو شُرَكَاء فِي وجوب الطَّاعَة لما عذبهم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: المَلائِكَةُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لنَحْنُ الصافون وَإِنَّا لنَحْنُ المسبحون} (الصافات: 561، 661) الصافون هم الْمَلَائِكَة. هَذَا أخرجه(19/135)
ابْن جرير عَنهُ بِزِيَادَة: صافون نُسَبِّح لَهُ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: لنَحْنُ الصافون فِي الصَّلَاة.
صِرَاطِ الجَحَيمِ سَوَاءِ الجَحِيمِ وَوَسَطِ الجَحِيمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم} (الصافات: 32) قَوْله: فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم. وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي التَّفْسِير: صِرَاط الْجَحِيم طَرِيق النَّار، والصراط الطَّرِيق، وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر وَالَّذِي قبله أَيْضا.
لَشَوْبا يُخْلَط طَعَامُهُمْ وَيُسلطُ بِالحَمِيمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن لَهُم عَلَيْهَا لشوبا من حميم} (الصافات: 76) وَفسّر: (شوبا) بقوله: (يخلط) إِلَى آخِره. قَوْله: (ويساط) أَي: يخلط من ساطه يسوطه سَوْطًا أَي: خلطه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: السَّوْط خلط الشَّيْء بعضه بِبَعْض، وَالْحَمِيم: هُوَ المَاء الْحَار.
مَدْحُورا: مَطْرُودا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذؤوما مَدْحُورًا} (الصافات: 81) لَكِن هَذَا فِي الْأَعْرَاف وَلَيْسَ هُنَا مَحَله، وَالَّذِي فِي هَذِه السُّورَة هُوَ قَوْله: (ويقذفون من كل جَانب دحورا) وَقد مر بَيَانه عَن قريب، وَفسّر: (مَدْحُورًا) بقوله: (مطرودا) لِأَن الدَّحْر هُوَ الطَّرْد والإبعاد.
بَيْضٌ مَكْنُونٌ: اللؤْلُؤ المَكْنُونُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: (كأنهن بيض مَكْنُون) (الصافات: 94) وَفَسرهُ: بقوله: (اللُّؤْلُؤ الْمكنون) يَعْنِي: فِي الصفاء واللين، وَالْبيض جمع بَيْضَة، وَفِي التَّفْسِير: مَكْنُون أَي: مَسْتُور، وَقيل: أَي مصون، وكل شَيْء صنته فَهُوَ مَكْنُون فَكل شَيْء أضمرته فقد أكننته، وَإِنَّمَا قَالَ: مَكْنُون مَعَ أَنه صفة بيض، وَهُوَ جمع بِالنّظرِ إِلَى اللَّفْظ.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ
وَفِي بعض النّسخ: بَاب وَتَركنَا، وَفِي الْبَعْض، بَاب قَوْله: وَتَركنَا، وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده أَي: تركنَا على آلياسين فِي الآخرين، وَقيل: على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) قَرَأَ ابْن عَامر وَنَافِع وَيَعْقُوب آل ياسين بِالْمدِّ، وَالْبَاقُونَ الياسين بِالْقطعِ وَالْكَسْر، وَمن قَرَأَ الياسين فَهِيَ لُغَة فِي النَّاس كَمَا يُقَال: ميكال فِي مِيكَائِيل، وَقيل: هُوَ أَرَادَ جمع الياس وَأَتْبَاعه من الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (يذكر) بِخَير تَفْسِير قَوْله: وَتَركنَا عَلَيْهِ، وَقيل: أَي: ثَنَاء حسنا فِي كل أمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
يَسْتَسْخِرُونَ يَسْخَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا آيَة يستسخرون} (الصافات: 41) وَفَسرهُ بقوله: (يسخرون) .
بَعْلاً: رَبّا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَتَدعُونَ بعلاً وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ} (الصافات: 521) وَفسّر: (بعلاً) بقوله: (رَبًّا) وَهُوَ اسْم صنم كَانُوا يعبدونه، وَمِنْه سميت مدينتهم، بعلبك، وَلم يثبت هَذَا إلاَّ للنسفي.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَإنَّ يُونُسَ لِمَنْ المُرْسَلِينَ} (الصافات: 931)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين} .
4084 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي وَائلٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَنْبَغِي لأحَدٍ أنْ يَكُونَ خَيْرا مِنِ ابنِ مَتَّى..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من ابْن مَتى) ويروى من يُونُس بن مَتى، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَاخِر سُورَة النِّسَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
5084 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِر حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ قَالَ حدَّثني أبِي عَنْ هِلالِ بنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِر بنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(19/136)
قَالَ مَنْ قَالَ أنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى وَمضى الحَدِيث أَيْضا فِي سُورَة النِّسَاء فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح عَن هِلَال عَن عَطاء بن يسَار إِلَى إخره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
83 - (سُورَةْ: {ص} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {ص} مَكِّيَّة بِلَا خلاف نزلت بعد سُورَة الانشقاق وَقيل الْأَعْرَاف، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وَسَبْعمائة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ كلمة، وَخمْس وَثَمَانُونَ آيَة، وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ، فَعَن ابْن عَبَّاس: بَحر بِمَكَّة كَانَ عَلَيْهِ عرش الرَّحْمَن لَا ليل وَلَا نَهَار، وَعَن سعيد بن جُبَير: بَحر يحيي الله بِهِ الْمَوْتَى بَين النفختين، وَعَن الضَّحَّاك: {ص} صدق الله تَعَالَى، وَعَن مُجَاهِد: فَاتِحَة السُّورَة، وَعَن قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن السّديّ: اسْم من أَسمَاء الله، وَعَن مُحَمَّد الْقرظِيّ: هُوَ مِفْتَاح أَسمَاء الله تَعَالَى إِلَى صَمد وصانع المصنوعات وصادق الْوَعْد، وَعَن ابْن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي: اسْم حَيَّة رَأسهَا تَحت الْعَرْش وذنبها تَحت الأَرْض السُّفْلى، قَالَ: وَأَظنهُ عَن عِكْرِمَة، وَقيل: هُوَ من المصاداة من قَوْلك: صَاد فلَانا وَهُوَ أَمر من ذَلِك. فَمَعْنَاه: صَاد بعملك الْقُرْآن أَي: عَارضه لتنظر أَيْن عَمَلك. فَمن أول هَكَذَا يقْرَأ: صَاد بِكَسْر الدَّال لِأَنَّهُ أَمر، وَكَذَا رُوِيَ عَن الْحسن، وقرأه عَامَّة قراء الْأَمْصَار بِسُكُون الدَّال إلاّ عبد الله بن إِسْحَاق وَعِيسَى بن عمر فَإِنَّهُمَا يكسرانه.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
سَقَطت الْبَسْمَلَة فَقَط للنسفي، وَاقْتصر الْبَاقُونَ على لفظ {ص} .
6084 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ العَوَّامِ قَالَ سألْتُ مُجاهدا عَنِ السَّجْدَةِ فِي ص قَالَ سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: {أُوْلَئِكَ الَّذِي هَدَي الله فَبِهُدعاهُمُ اقْتَدِهْ} (الْأَنْعَام: 09) وَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ فِيها..
غنْدر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَقد مر غير مرّة، والعوام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الواوين حَوْشَب الوَاسِطِيّ. والْحَدِيث مر فِي سُورَة الْأَنْعَام وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَالك.
7084 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنِ العَوَّامِ قَالَ سَألْتُ مُجاهِدا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ سألْتُ ابنَ عَباسٍ مِنْ أيْنَ سَجَدْتَ فَقَالَ أوَ مَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَها رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مُحَمَّد بن عبد الله. قَالَ الكلاباذي وَابْن طَاهِر: هُوَ الذهلي نِسْبَة إِلَى جده وَهُوَ مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن خَالِد بن فَارس بن ذُؤَيْب أَبُو عبد الله الذهلي النَّيْسَابُورِي، مَاتَ بعد البُخَارِيّ بِيَسِير، تَقْدِيره سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي قريب من ثَلَاثِينَ موضعا وَلم يقل: مُحَمَّد بن يحيى الذهلي مُصَرحًا بل يَقُول حَدثنَا مُحَمَّد، وَلَا يزِيد عَلَيْهِ، أَو ينْسبهُ إِلَى جده وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما دخل نيسابور فشغب عَلَيْهِ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي مَسْأَلَة خلق اللَّفْظ وَكَانَ قد سمع مِنْهُ فَلم يتْرك الرِّوَايَة عَنهُ وَلم يُصَرح باسمه كَمَا يَنْبَغِي، وَقَالَ غير غَيرهمَا: يحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن عبد الله هَذَا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المَخْزُومِي فَإِنَّهُ من هَذِه الطَّبَقَة وَالله أعلم.
قَوْله: (من أَيْن سجدت) ؟ على صِيغَة الْخطاب للحاضر، ويروى على صِيغَة الْمَجْهُول للغائبة، أَي: بِأَيّ دَلِيل صَارَت سَجْدَة! قَوْله: (فسجدها دَاوُد) ، وَلم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَسجد دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيهَا وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُور بالاقتداء بِهِ وَنحن مأمورون بالاقتداء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومتابعته، وَهَذَا حجَّة على الشَّافِعِي فِي قَوْله: لَيْسَ فِي {ص} سَجْدَة عَزِيمَة وَبَاقِي الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كتاب الصَّلَاة فِي أَبْوَاب سُجُود التِّلَاوَة.
عُجابٌ: عَجِيبٌ(19/137)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الشَّيْء عُجاب} (ص: 5) وَذكر أَن معنى: عُجاب، بِمَعْنى: (عَجِيب) وقرىء: عُجاب، بتَشْديد الْجِيم وَالْمعْنَى وَاحِد، وَقيل: هُوَ أَكثر، وَقَالَ مقَاتل هَذَا بلغَة أَزْد شنُوءَة مثل كريم وكرام وكبير وكبار وطويل وطوال وعريض وعراض.
الْقِطُّ: الصَّحِيفَةُ هُوَ هاهُنا صَحِيفَةُ الحَسَنَاتِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا قبل يَوْم الْحساب} (ص: 61) وَقَالَ: (القط الصَّحِيفَة) مُطلقًا وَلَكِن المُرَاد هَاهُنَا صحيفَة الْحَسَنَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: صحيفَة الْحساب، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَقَالَ الْكَلْبِيّ لما نزلت فِي الحاقة: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ} (الحاقة: 91) الْآيَة. قَالُوا على وَجه الِاسْتِهْزَاء، عجل لنا قطنا، يعنون كتَابنَا عجله لنا فِي الدُّنْيَا قبل يَوْم الْحساب، وَعَن قَتَادَة وَمُجاهد وَالسُّديّ: يعنون عقوبتنا وَمَا كتب لنا من الْعَذَاب، وَعَن عَطاء: قَالَه النَّضر بن الْحَارِث، وَعَن أبي عُبَيْدَة: القط الْكتاب وَالْجمع قطوط وقططة كقرد وقرود وقردة وَأَصله من قطّ الشَّيْء إِذا قطعه، وَيُطلق على الصَّحِيفَة لِأَنَّهَا قِطْعَة تقطع وَكَذَلِكَ الصَّك.
وَقَالَ مُجاهِدٌ فِي عِزَّةٍ مُعازِّين
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {بل الَّذين كفرُوا فِي عزة وشقاق} (ص: 2) وَأَرَادَ أَن قَوْله: (فِي عزة) فِي مَوضِع خبر وَأَنه بِمَعْنى: (معازين) أَي: مغالبين، وَقيل: فِي حمية جَاهِلِيَّة وتكبر. قَوْله: (وشقاق) ، أَي: خلاف وفراق.
المِلَّةِ الآخِرَةِ مِلَّةُ قُرَيْشٍ الاخْتِلاقُ الكَذِبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا سمعنَا بِهَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة إِن هَذَا إلاَّ اخْتِلَاق} (ص: 7) وَفسّر الْملَّة الْآخِرَة بِملَّة قُرَيْش، والاختلاق بِالْكَذِبِ، وَبِه فسر مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَعَن ابْن عَبَّاس والقرطبي والكلبي وَمُقَاتِل: يعنون النَّصْرَانِيَّة لِأَن النَّصَارَى تجْعَل مَعَ الله إلهاا.
الأسْبابُ طُرْقُ السَّماءِ فِي أبْوابِها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فليرتقوا فِي الْأَسْبَاب} (ص: 1) وَفسّر الْأَسْبَاب بطرق السَّمَاء فِي أَبْوَابهَا، وَكَذَا فسره مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَفِي التَّفْسِير: فليرتقوا أَي: فليصعدوا فِي الْجبَال إِلَى السَّمَوَات فليأتوا مِنْهَا بِالْوَحْي إِلَى من يختارون ويشاؤون، وَهَذَا أَمر توبيخ وتعجيز.
جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ يَعْنِي قُرَيْشا
لغير أبي ذَر قَوْله: (جندما) إِلَى آخِره. قَوْله: (يَعْنِي قُريْشًا) ، وَهَكَذَا قَالَه مُجَاهِد. قَوْله: جند، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هم جند، وَكلمَة مَا متزيدة أَو صفة لجند. (وهنالك) يشار بِهِ إِلَى مَكَان الْمُرَاجَعَة، ومهزوم صفة جند، أَي: سيهزمون بذلك الْمَكَان وَهُوَ من الْأَخْبَار بِالْغَيْبِ لأَنهم هزموا بعد ذَلِك بِمَكَّة. وَعَن قَتَادَة وعده الله، عز وَجل، بِمَكَّة أَنهم سيهزمون، يهزمهم الله، فجَاء تَأْوِيلهَا يَوْم بدر.
أُولَئِكَ الأحْزَابُ القُرُونُ المَاضِيَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الأيكة أُولَئِكَ الْأَحْزَاب} (ص: 31) وفسرها بقوله: (الْقُرُون الْمَاضِيَة) وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَزَاد غَيره الَّذين قهروا وأهلكوا.
فَوَالِقٍ: رُجُوعٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة مَا لَهَا من فوَاق} (ص: 51) يَقُول: لَيْسَ لَهُم إِقَامَة وَلَا رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من فتح الْفَاء قَالَ: مَالهَا من رَاحَة، وَمن ضمهَا جعلهَا من فوَاق النَّاقة وَهُوَ مَا بَين الحليتين، وَقَرَأَ بِضَم الْفَاء حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقيل الضيم وَالْفَتْح بِمَعْنى وَاحِد مثل قصاص الشّعْر جَاءَ فِيهِ الْفَتْح وَالضَّم.
قِطَّنا: عَذَابَنا
قيل هَذَا مُكَرر وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ فسر (قطنا) فِي الأول بالصحيفة، وَهَاهُنَا الْعَذَاب. أَي: عجل لنا عذابنا على أَنه لَا يُوجد فِي أَكثر النّسخ.
اتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيا احْطْنا بِهِمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {اتخذناهم سخريا أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار} وَفَسرهُ بقوله: (أحطنا بهم) كَذَا فِي الْأُصُول، وبخط(19/138)
الدمياطي: لَعَلَّه أحطناهم، وَقد سبقه بِهَذَا عِيَاض فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْله أحطنا بهم لَعَلَّه أحطناهم، وَحذف مَعَ ذَلِك القَوْل الَّذِي هَذَا تَفْسِيره، وَهُوَ: {أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار} (ص: 36) وَينْصَح بِالْآيَةِ الَّتِي قبلهَا وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لنا لَا نرى رجَالًا كُنَّا نعدهم من الأشرار} (ص: 46) قَوْله: (وَقَالُوا) يَعْنِي: كفار قُرَيْش وهم فِي النَّار مَا لنا لَا نرى رجَالًا يعنون: فُقَرَاء الْمُسلمين كُنَّا نعدهم من الأشرار الأرذال الَّذين لَا خير فيهم، يَعْنِي: لَا نراهم فِي النَّار كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا بل زاغت عَنْهُم أبصارنا فَلَا نراهم وهم فِيهَا قَوْله: (اتخذناهم) بوصل الْألف بِلَفْظ الْإِخْبَار على أَنه صفة لَرِجَالًا، هَذَا عِنْد أهل الْبَصْرَة والكوفة إلاَّ عَاصِمًا، وَالْبَاقُونَ يفتحون الْهمزَة ويقطعونها على الِاسْتِفْهَام على أَنه إِنْكَار على أنفسهم وتأنيب لَهَا فِي الاستخبار.
أتْرَابٌ: أمْثَالٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدهم قاصرات الطّرف أتراب} (ص: 25) وَفَسرهُ بقوله: (أَمْثَال) والأتراب جمع ترب بِالْكَسْرِ وَهُوَ اللدة، وَالْمعْنَى: على سنّ وَاحِد على ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الأيْدُ القُوَّةُ فِي العِبَادَةِ: الأبْصَارُ التبَصرُ فِي أمْرِ الله تَعَالى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أولى الْأَيْدِي والأبصار} (ص: 54) وَفسّر: (الأيد) بِالْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَة وَفسّر الْأَبْصَار بالتبصر فِي أَمر الله، وَهَذَا أسْندهُ الطَّبَرِيّ عَن مُحَمَّد بن سعد حَدثنِي أبي حَدثنِي عمي حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس بِهِ.
حُبَ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي مِنْ ذِكْرِ رَبِّي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} (ص: 23) أَي: قَالَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر أَي: الْخَيل، وَالْعرب تعاقب بَين الرَّاء وَاللَّام، فَنَقُول: إنهملت الْعين وانهمرت، وَهِي الْخَيل الَّتِي عرضت عَلَيْهِ قَوْله: (عَن ذكر رَبِّي) أَي: الصَّلَاة (حَتَّى تَوَارَتْ) أَي: الشَّمْس أَي: حَتَّى غَابَتْ. قَوْله: (من ذكر رَبِّي) أَرَادَ بِهِ أَن معنى عَن ذكر رَبِّي (من ذكر رَبِّي) وَكلمَة: عَن بِمَعْنى: من.
طَفِقَ مَسْحا يَمْسَحُ أعْرَافَ الخَيْلِ وَعَرَاقِيبَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} (ص: 33) وَفسّر قَوْله طفق مسحاً بقوله: (يمسح أعراف الْخَيل) والأعراف جمع عرف بِالضَّمِّ، وَعرف الْفرس شعر عُنُقه، وَكَذَلِكَ الْمعرفَة، وطفق من أَفعَال المقاربة، وَقد ذكر غير مرّة قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وطفق أَي: أقبل يمسح سوقها وأعناقها بِالسَّيْفِ وينحرها تقربا إِلَى الله تَعَالَى، وَهَذَا وَمَا بعده ليسَا فِي رِوَايَة أبي ذَر.
الأصْفَادِ: الوَثاقِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مُقرنين فِي الأصفاد} (ص: 82) وَفَسرهُ (بِالْوَثَاقِ) والأصفاد جمع صفد وَهُوَ الْقَيْد، وَمعنى: مُقرنين موثوقين وَهَذَا وَمَا قبله مضيا فِي تَرْجَمَة سُلَيْمَان فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
2 - (بَابُ قَوْلِهِ: {هَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ} (ص: 53)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هَب لي ملكا} إِلَى آخِره، وَأول الْآيَة: {قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا} الْآيَة، طلب سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمَغْفِرَة من الله، ثمَّ قَالَ: هَب لي ملكا أَصله: أوهب، لِأَنَّهُ من وهب يهب حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا لفعله، وَاسْتغْنى عَن الْهمزَة فحذفت فَبَقيَ: هَب، على وزن: عل. قَوْله: (لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي) ، أَي: لَا يكون لأحد من بعدِي، قَالَه ابْن كيسَان، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح. أَي: هَب لي ملكا لَا أسلبه فِي بَاقِي عمري كَمَا سلبته فِي ماضي عمري، وَعَن مقَاتل بن حبَان: كَانَ سُلَيْمَان ملكا وَلكنه أَرَادَ بقوله: (لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي) تسخير الرِّيَاح وَالطير يدل عَلَيْهِ مَا بعده، وَعَن عمر بن عُثْمَان الصَّدَفِي: أَرَادَ بِهِ ملك النَّفس وقهرها. قَوْله: (الْوَهَّاب) الْمُعْطِي كثير الْعَطاء.
8084 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ عَفْرِيتا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أوْ كَلِمَةً(19/139)
نَحْوَها لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ فَأمْكَنَنِي الله مِنْهُ وَأرَدْتُ أنْ أرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلَكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمَان رَبِّ هَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لاْحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاصا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْأَسير أَو الْغَرِيم يرْبط فِي الْمَسْجِد بِعَيْنِه متْنا وسندا وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وروح، بِفَتْح الرَّاء، هُوَ ابْن عبَادَة.
قَوْله: (أَن عفريتا) ، هُوَ المبالغ من كل شَيْء. قَوْله: (تفلت) ، على وزن تفعل من التفليت، أَي: تعرض عَليّ فَجْأَة فِي البارحة. قَوْله: (قَالَ روح) ، هُوَ ابْن عبَادَة الرَّاوِي. قَوْله: (خاسئا) ، أَي: مطرودا متحيرا وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
3 - (بَابٌ: {وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} (ص: 68)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنا من المتكلفين} وأوله {قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين} أَي: قل يَا مُحَمَّد مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ، أَي: على تَبْلِيغ الْوَحْي، وَهُوَ كِنَايَة عَن غير مَذْكُور، قَوْله: (من أجر) ، قَالَ الْحسن بن الْفضل: هَذِه الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) قَوْله: (وَمَا أَنا من المتكلفين) أَي: المتقولين الْقُرْآن من تِلْقَاء نَفسِي، وَقَالَ النَّسَفِيّ: وَمَا أَنا من المتكلفين الَّذين يتصنعون وينتحلون بِمَا لَيْسُوا من أَهله وَمَا عرفتموني قطّ متصنعا وَلَا مُدعيًا مَا لَيْسَ عِنْدِي حَتَّى انتحل بِالنُّبُوَّةِ، والتقول بِالْقُرْآنِ {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} (يُوسُف: 401) للثقلين أوحى إِلَيّ بِأَن أبلغه.
9084 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْروق قَالَ دَخَلْنا عَلَى عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ يَا أيُّها النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئا فَلْيَقلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ الله أعْلَمُ فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أنْ يَقُولَ لِما لَا يَعْلَمُ الله أعْلَمُ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قُلْ مَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ وَمَا أنَا مِنَ المتَكَلِّمِينَ} وسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ الدُّخَانِ إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا قُرَيْشا إلَى الإسْلامِ فأبْطؤوا عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ فَحَصَّتْ كلَّ شَيْءٍ حَتَّى أكَلُوا المَيْتَةَ وَالجَلُودَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخانا مِنَ الجُوعِ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءِ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هاذا عَذَابٌ ألِيمٌ قَالَ فَدَعَوْا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ أنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُمْ عَانِدُونَ} (الدُّخان: 01، 51) أفَيُكْشَفُ العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ فَكُشِفَ ثُمَّ عَادُوا فِي كُفْرِهِمْ فَأخَذَهُمُ الله يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ الله تَعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو الضُّحَى، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة مَقْصُورا هُوَ مُسلم بن صبيح ومسروق هُوَ ابْن الأجدع.
والْحَدِيث قد مضى فِي سُورَة الرّوم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور وَالْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى الخ، وَلَكِن بَينهمَا اخْتِلَاف فِي الْمَتْن من حَيْثُ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَمر أَيْضا بعضه فِي الاسْتِسْقَاء أخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور أَيْضا عَن أبي الضُّحَى إِلَى آخِره، وَتقدم الْكَلَام فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (فحصت بالمهملتين) ، أَي: أذهبت وأفنت. قَوْله: (حَتَّى جعل الرجل) ، يرى بَينه وَبَين السَّمَاء(19/140)
دخانا وَجه تعلقه بِمَا قبله مَا ذكر فِي سُورَة الرّوم أَنه قيل لِابْنِ مَسْعُود: أَن رجلا يَقُول يَجِيء دُخان كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: من علم شَيْئا الخ.
93 - (سُورَةُ: {الزُّمَر} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الزمر. قَالَ ابْن عَبَّاس هِيَ مَكِّيَّة إلاَّ آيتان مدنيتان. {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا} (الزمر: 35) أنزلت فِي وَحشِي. حَرْب {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} (الزمر: 76) وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة سبأ وَقبل سُورَة الْمُؤمن، وَهِي أَرْبَعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَثَمَانِية أحرف، وَألف وَمِائَة وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ كلمة، وَخمْس وَسَبْعُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {أفَمَنْ يَتقَّى بِوَجْهِهِ} . يَجُر عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أمَّنْ يَأتِي آمِنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يتقى بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} (الزمر: 42) الْآيَة. قَوْله: (أَفَمَن يَتَّقِي) ، يُقَال: اتَّقَاهُ بدرقته استقبله بهَا فوقى بهَا نَفسه واتقاء بِيَدِهِ، وَتَقْدِيره: أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب كمن أَمن الْعَذَاب؟ فَحذف الْخَبَر، وَسُوء الْعَذَاب شدته، وَعَن مُجَاهِد: يجر على وَجهه فِي النَّار، وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى هَذَا بقوله: يجر على وَجهه فِي النَّار، وَأَشَارَ بقوله: وَهُوَ قَوْله: {أَفَمَن يلقى فِي النَّار} إِلَى آخِره إِلَى أَن قَوْله أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ يجر على وَجهه فِي النَّار، مثل قَوْله: (أَفَمَن يلقى فِي النَّار) إِلَى آخِره وَوجه التَّشْبِيه بَيَان حَاله فِي أَن ثمَّ محذوفا تَقْدِيره: أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب كمن أَمن الْعَذَاب كَمَا ذَكرْنَاهُ لِأَن، وَلَفظ: يجر، بِالْجِيم عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَحده بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَبْسٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} (الزمر: 82) وَفسّر العوج باللبس وَهُوَ الالتباس، وَهَذَا التَّفْسِير باللازم لِأَن الَّذِي فِيهِ لَيْسَ يسْتَلْزم العوج فِي الْمَعْنى، وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه من وَجْهَيْن ضعيفين عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: (غير ذِي عوج) ، قَالَ: لَيْسَ بمخلوق.
وَرَجُلاً سِلْما لِرَجُلٍ صَالِحا مَثَلٌ لإلاهِهِمِ الباطِلِ وَالإلاهِ الحَقِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلاً سالما لرجل هَل يستويان مثلا} (الزمر: 92) قَوْله: (ورجلاً) عطف على رجلا الأول، وَهُوَ مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: ضرب الله مثلا لرجل أوفى رجل قَوْله: (سلما) بِكَسْر السِّين وَهُوَ قِرَاءَة الْعَامَّة، وَهُوَ الَّذِي لَا تنَازع فِيهِ، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب: سالما وَهُوَ الْخَالِص ضد الشّرك. قَوْله: (صَالحا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: خَالِصا وَسَقَطت هَذِه اللَّفْظَة للنسفي. قَوْله: (مثل) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: (هَذَا مثل لإلاههم الْبَاطِل والإلاه الْحق) ، وَالْمعْنَى: هَل تستوى صفاتهما وتمييزهما، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هَذَا مثل ضربه الله للْكَافِرِ الَّذِي يعبد آلِهَة شَتَّى وَالْمُؤمن الَّذِي لَا يعبد إلاَّ الله عز وَجل. قَوْله: (متشاكسون) ، مُخْتَلفُونَ متنازعون متشاحون سَيِّئَة أَخْلَاقهم.
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: 63) بِالاْوْثَانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده ويخوفونك بالذين من دونه} أَي يخوفك الْمُشْركُونَ بمضرة الْأَوْثَان. قَالُوا: إِنَّك تعيب آلِهَتنَا وتذكرها بِسوء لتكفن عَن ذكرهَا أَو تصيبك بِسوء. قَوْله: (الْأَوْثَان) ، ويروى أَي: بالأوثان، وَهَذَا أولى.
خَوَّلْنا: أعْطَيْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا} (الزمر: 94) وَفَسرهُ بقوله: أعطنا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل مَال أَعْطيته فقد خولته.
{وَالَّذِي جَاءِ بِالصِّدْقِ} (الزمر: 33) القُرْآنِ وَصَدَقَ بِهِ المُؤْمِنُ يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ هاذا الَّذِي أعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون} وَفسّر قَوْله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ) بقوله:(19/141)
الْقُرْآن وَقَالَ السّديّ: الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السلاة، جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَصدق بِهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَلقاهُ بِالْقبُولِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ. يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ بِلَا إلاه إلاَّ الله وَصدق بِهِ هُوَ أَيْضا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغه إِلَى الْخلق وَعَن عَليّ بن أبي طَالب وَأبي الْعَالِيَة والكلبي، وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدق بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصدق بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَعَن عَطاء، وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصدق بِهِ الأتباع، فعلى هَذَا يكون الَّذِي بِمَعْنى الَّذين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وخضتم كَالَّذي خَاضُوا} (التَّوْبَة: 96) قَوْله: (يَقُول هَذَا الَّذِي) إِلَى آخِره، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لَا غير.
متَشاكِسُونَ الرَّجُلُ الشَّكِسُ العَسِرُ لاَ يَرْضَى بالإنْصافِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون) (الزمر: 92) ، أَي: مُخْتَلفُونَ، فقد ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (الشكس) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه من مَادَّة متشاكسون غير أَن الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن من بَاب التفاعل للمشاركة بَين الْقَوْم. والشكس مُفْرد صفة مشبهة. قَالَ فِي (الباهر) : رجل شكس، بِالْفَتْح والتسكين: صَعب الْخلق، وَقوم شكس بِالضَّمِّ مِثَال رجل صدق وَقوم صدق، وَقيل: الشكس بِالْكَسْرِ والإسكان، والشكس بِالْفَتْح وَكسر الْكَاف: السيء يُقَال: شكس شكسأ وشكاسة، وَفسّر البُخَارِيّ الشكس بقوله: (الْعسر لَا يرضى بالإنصاف) والعسر مثل الحذر صفة مشبهة، ويروى: العسير على وزن فعيل، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ غَيره: الشكس. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يَعْنِي غير مُجَاهِد فَكَأَنَّهُ وَالله أعلم يُرِيد بِالْغَيْر عبد الرَّحْمَن بن زيد بن زيد بن أسلم فَإِن الطَّبَرِيّ رَوَاهُ عَن يُونُس عَن ابْن وهب عَنهُ.
ورَجُلاً سَلماً ويُقالُ سالِماً صالِحاً
لَيْسَ هَذَا بمذكور فِي غَالب من النّسخ لِأَنَّهُ كالمكر لِأَنَّهُ ذكر عَن قريب، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن سين، سلما، جَاءَ فِيهَا الْفَتْح وَالْكَسْر فَيكون أَحدهمَا إِشَارَة إِلَى الْكسر وَالْآخر إِلَى الْفَتْح، وَقَالَ الزّجاج: سلما وسلماً مصدران وصف بهما على معنى، ورجلاً ذَا سلم.
اشْمَأزَّتْ نفَرَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} (الزمر: 54) الْآيَة، وَفَسرهُ بقوله: نفرت وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن مُحَمَّد: حَدثنَا أَحْمد حَدثنَا أَسْبَاط عَن السّديّ وَعَن مُجَاهِد، قَالَ: انقبضت، وَعَن قَتَادَة أَي: كفرت قُلُوبهم واستكبرت.
بِمَفازَتِهِمْ مِنَ الفَوْزِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وينجي الله الَّذين اتَّقوا بمفازتهم} (الزمر: 16) ، أَي: فوزهم وَهُوَ مصدر ميمي قَرَأَ أهل الْكُوفَة إلاَّ حفصاً بِالْألف على الْجمع، وَالْبَاقُونَ بِغَيْر الْألف على الْوَاحِد.
حافِّين مُطِيفِينَ بِحِفافَيْهِ بِجَوَانِبِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش} (الزمر: 57) وَفسّر: (حافين) ، بقوله: (مطيفين) من الإطافة وَهُوَ الدوران حول الشَّيْء. قَوْله: (بحفافية) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء المخففة وَبعد الْألف فَاء أُخْرَى تَثْنِيَة حفاف وَهُوَ الْجَانِب، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بجانبيه، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي بجوانبه أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (بجوانبه) وَأَشَارَ إِلَى أَن معنى متشابهاً وَهُوَ أَيْضا مثل التَّفْسِير لما قبله، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بحافته.
مُتَشابِهاً لَيْسَ مِنَ الاشْتِبَاهِ ولاكِنْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً فِي التَّصْدِيقِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابهاً} (الزمر: 32) وَأَشَارَ إِلَى أَن معنى: متشابهاً لَيْسَ من الِاشْتِبَاه الَّذِي بِمَعْنى الالتباس والاختلاط، وَلَكِن مَعْنَاهُ أَنه يشبه بعضه بَعْضًا فِي التَّصْدِيق لِأَن الْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا، وَقيل: فِي تَصْدِيق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رسَالَته بِسَبَب إعجازه، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن جرير عَن ابْن حميد عَن جرير عَن يَعْقُوب عَن جَعْفَر عَن سعيد بن جُبَير.(19/142)
1 - (بابُ قَوْلُهُ: {يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 35)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا} الْآيَة ... اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، فَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت فِي أهل مَكَّة، قَالُوا: يزْعم مُحَمَّد أَنه من قتل النَّفس الَّتِي حرمهَا الله وَعبد الْأَوْثَان لم يغْفر لَهُ، فَكيف نهاجر ونسلم وَقد عَبدنَا مَعَ الله آلهاً آخر وقتلنا النَّفس الَّتِي حرمهَا الله؟ فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة، وَعنهُ أَنَّهَا نزلت فِي وَحشِي قَاتل حَمْزَة، وَعَن قَتَادَة: نَاس أَصَابُوا ذنوباً عَظِيمَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام اشفقوا أَن لَا يُتَاب عَلَيْهِم فَدَعَاهُمْ الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة إِلَى الْإِسْلَام. وَعَن ابْن عمر: نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة والوليد بن الْوَلِيد وَنَفر من الْمُسلمين كَانُوا قد أَسْلمُوا ثمَّ فتنُوا وعذبوا فافتتنوا فَكُنَّا نقُول: لَا يقبل الله مِنْهُم صرفا وَلَا عدلا أبدا، قوم أَسْلمُوا ثمَّ تركُوا دينهم لعذاب عذبُوا بِهِ، فَنزلت.
0184 - حدَّثني إبْراهِيمُ بنُ مُوساى أخبرنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ يَعْلاى أنَّ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ أخبرَهُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ نَاسا مِنْ أهْلِ الشِّرْكِ كانُوا قَدْ قَتَلوا وَأكْثَرُوا وَزَنَوْا وأكْثَرُوا فأتَوْا مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالُوا إنَّ الَّذِي تَقُولُ وتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنا أنَّ لِما عَملْنا كَفَّارَةً فَنَزَلَ: {والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاَّ بالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (الْفرْقَان: 86) . وَنَزَلَ: {قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعاً} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن إِبْرَاهِيم بن دِينَار وَغَيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة وَفِي التَّفْسِير عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي.
قَوْله: (قَالَ يعلى) ، أَي قَالَ: قَالَ يعلى، سقط خطأ وَثَبت لفظا، ويعلى هُوَ ابْن مُسلم بن هُرْمُز روى عَنهُ ابْن جريج فِي: (الصَّحِيحَيْنِ) : قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : يعلى هَذَا هُوَ ابْن حَكِيم كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد مُصَرحًا بِهِ فِي إِسْنَاده، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إعلم أَن يعلى بن مُسلم ويعلى بن حَكِيم كليهمَا يرويان عَن سعيد بن جُبَير، وَابْن جريج يروي عَنْهُمَا، ولأقدح فِي الْإِسْنَاد بِهَذَا الالتباس لِأَن كلاًّ مِنْهُم على شَرط البُخَارِيّ. قلت: أما صَاحب (التَّوْضِيح) : فَإِنَّهُ نسب إِلَى أبي دَاوُد أَنه صرح بِأَنَّهُ يعلى بن حَكِيم وَلَيْسَ كَمَا ذكره فَإِنَّهُ لم يُصَرح بِهِ فِي إِسْنَاده بل ذكره البُخَارِيّ من غير نِسْبَة، وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ سلك طَرِيق السَّلامَة وَلم يجْزم بِأحد يعليين، وَلَا خلاف أَنه يعلى بن مُسلم هَهُنَا، وَيُؤَيِّدهُ أَن الْحَافِظ الْمزي ذكر فِي (الْأَطْرَاف) : على رَأس هَذَا الحَدِيث أَنه يعلى ابْن مُسلم، كَمَا وَقع بِهِ مُصَرحًا عِنْد مُسلم. قَوْله: (إِن نَاسا من أهل الشّرك) أخرج الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس أَن السَّائِل عَن ذَلِك هُوَ وَحشِي بن حَرْب. قَوْله: (أَن لما) ، أَي: الَّذِي (عَمِلْنَاهُ كَفَّارَة) نصب على إِنَّه إسم: إِن تقدم عَلَيْهِ الْخَبَر.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} (الزمر: 76)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله عز وَجل: وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب. قَوْله: {وَمَا قدرُوا الله} أَي: مَا عظموه حق عَظمته حِين أشركوا بِهِ.
1184 - حدَّثنا آدَمُ حدّثنا شَيْبانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ جاءَ حَبْرٌ مِنَ الأحْبارِ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّا نَجِدُ أنَّ الله يَجْعَلُ السَّماوات عَلَى إصْبَعِ والأرَضِينَ عَلَى إصْبَعِ والشَّجَرَ عَلَى إصْبَعِ والماءَ والثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وسائِرَ(19/143)
الخَلائِق عَلَى إصْبَعٍ فَيَقُولُ أَنا المَلِكُ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} (الزمر: 76) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس عبد الرَّحْمَن، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبيدَة بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: السَّلمَانِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن عُثْمَان وَعَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَعَن غَيره.
قَوْله: (حبر) بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، و: الْعَالم، بِالْفَتْح وَمَا يكْتب بِهِ بِالْكَسْرِ. قَوْله: (على إِصْبَع) المُرَاد مِنْهُ الْقُدْرَة، وَقَالَ ابْن فورك: المُرَاد بِهِ هُنَا إِصْبَع بعض مخلوقاته، وَهُوَ غير مُمْتَنع، وَقَالَ مُحَمَّد ابْن شُجَاع الثَّلْجِي: يحْتَمل أَن يكون خلق خلقه الله تَعَالَى يُوَافق اسْمه إسم الإصبع، وَمَا ورد فِي بعض الرِّوَايَات من أَصَابِع الرَّحْمَن يؤول بِالْقُدْرَةِ أَو الْملك، وَقَالَ الْخطابِيّ: الأَصْل فِي الإصبع وَنَحْوهَا أَن لَا يُطلق على الله إلاَّ أَن يكون بِكِتَاب أَو خبر مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، فَإِن لم يَكُونَا فالتوقف عَن الْإِطْلَاق وَاجِب، وَذكر الْأَصَابِع لم يُوجد فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة القطعية، وَلَيْسَ معنى الْيَد فِي الصِّفَات بِمَعْنى الْجَارِحَة حَتَّى يتَوَهَّم من ثُبُوتهَا ثُبُوت الإصبع، وَقد روى هَذَا الحَدِيث كثير من أَصْحَاب عبد الله من طَرِيق عُبَيْدَة فَلم يذكرُوا فِيهِ تَصْدِيقًا لقَوْل الحبر، وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا حَدثكُمْ بِهِ أهل الْكتاب فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم) ، وَالدَّلِيل على أَنه لم ينْطق فِيهِ بِحرف تَصْدِيقًا لَهُ وتكذيباً، وَإِنَّمَا ظهر مِنْهُ الضحك المخيل للرضاء مرّة، وللتعجب وَالْإِنْكَار أُخْرَى، وَقَول من قَالَ: إِنَّمَا ظهر مِنْهُ الضحك تَصْدِيقًا للحبر ظن مِنْهُ، وَالِاسْتِدْلَال فِي مثل هَذَا الْأَمر الْجَلِيل غير جَائِز، وَلَو صَحَّ الْخَبَر لَا بُد من التَّأْوِيل بِنَوْع من الْمجَاز، وَقد يَقُول الْإِنْسَان فِي الْأَمر الشاق إِذا أضيف إِلَى الرجل الْقوي المستقل المستظهر إِنَّه يعمله بإصبع أَو بخنصر وَنَحْوه، يُرِيد الِاسْتِظْهَار فِي الْقُدْرَة عَلَيْهِ والاستهانة بِهِ، فَعلم أَن ذَلِك من تَحْرِيف الْيَهُودِيّ، فَإِن ضحكه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانَ على معنى التَّعَجُّب والتكبر لَهُ، وَقَالَ التَّمِيمِي تكلّف الْخطابِيّ فِيهِ، وأتى فِي مَعْنَاهُ مَا لم يَأْتِ بِهِ السّلف، وَالصَّحَابَة كَانُوا أعلم بِمَا رَوَوْهُ، وَقَالُوا: إِنَّه ضحك تَصْدِيقًا لَهُ، وَثَبت فِي السّنة الصَّحِيحَة: (مَا من قلب إِلَّا وَهُوَ بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الرَّحْمَن) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأمة فِي مثلهَا طَائِفَتَانِ مفوضة ومؤولة واقفون على قَوْله: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} (آل عمرَان: 7) وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: وَظَاهر السِّيَاق يدل على أَنه ضحك تَصْدِيقًا بِدَلِيل قِرَاءَته الْآيَة الَّتِي تدل على صِحَة مَا قَالَ الحبر. قَوْله: (نَوَاجِذه) ، بالنُّون وَالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ الأضراس كلهَا لَا أقْصَى الْأَسْنَان، وَالْأَحْسَن مَا قَالَه ابْن الْأَثِير: النواجذ من الْإِنْسَان الضواحك، وَهِي الَّتِي تبدو عِنْد الضحك، وَالْأَكْثَر الْأَشْهر أَنَّهَا أقْصَى الْأَسْنَان، وَالْمرَاد الأول لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا كَانَ يبلغ بِهِ الضحك حَتَّى يَبْدُو آخر أَضْرَاسه، كَيفَ وَقد جَاءَ فِي صفة ضحكه: (جلّ ضحكه التبسم) ، وَإِن أُرِيد بهَا الْأَوَاخِر فَالْوَجْه فِيهِ أَن يُرَاد مُبَالغَة مثله فِي الضحك من غير أَن يُرَاد ظُهُور نَوَاجِذه فِي الضحك، وَهُوَ أَقيس الْقَوْلَيْنِ لاشتهار النواجذ بأواخر الْأَسْنَان.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {والأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 76)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالْأَرْض جَمِيعًا} الْآيَة ... وَلم يذكر لفظ: بَاب، فِي بعض النّسخ، وَلما أخبر الله تَعَالَى عَن عَظمته قبل هَذِه الْآيَة ذكر أَن من جملَة عَظمته أَن الأَرْض جَمِيعًا قَبضته أَي: ملكه يَوْم الْقِيَامَة بِلَا مُنَازع وَلَا مدافع، قَالَ الْأَخْفَش: هَذَا كَمَا يُقَال: خُرَاسَان فِي قَبْضَة فلَان، لَيْسَ يُرِيد أَنَّهَا فِي كَفه، إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا ملكه، وَلما وَقع الأَرْض مُفردا حسن تأكيده بقوله: جَمِيعًا، أَشَارَ إِلَى أَن المُرَاد جَمِيع الْأَرَاضِي. قَوْله: (مَطْوِيَّات) للطي معَان: (الإدراج) : كطي القرطاس وَالثَّوْب، بَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للكتب} (الْأَنْبِيَاء: 401) ، (والإخفاء) ، يُقَال: طويت فلَانا عَن أعين النَّاس، واطوِ هَذَا الحَدِيث عني أَي: استره، والإعراض، يُقَال: طويت عَن فلَان أَعرَضت عَنهُ، (والإفناء) : يَقُول الْعَرَب: طويت فلَانا بسيفي أَي أفنيته، وَإِنَّمَا ذكر الْيَمين للْمُبَالَغَة فِي الاقتدار، وَقيل: هُوَ بِمَعْنى الْقُوَّة، وَقيل: الْيَمين الْقسم لِأَنَّهُ حلف أَنه يطويها وينفيها، ثمَّ نزه الله عز وَجل فَقَالَ سُبْحَانَهُ الْآيَة.(19/144)
2184 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدّثني اللَّيْثُ قَالَ حدّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خالِدِ ابنِ مُسافِرٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ أبي سَلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ يَقْبِضُ الله الأرْضَ وَيَطْوِي السَّماواتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنا المَلِكُ أيْنَ مُلوكُ الأرْضِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَعِيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ إسم جده، وَسَعِيد بن كثير بن عفير بن مُسلم أَبُو عُثْمَان الْمصْرِيّ وَهُوَ من رجال مُسلم أَيْضا، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن يُونُس بن يزِيد. قَوْله: (بِيَمِينِهِ) يُرِيد بِهِ: الْقُوَّة.
4 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ونُفِخَ فِي الصُّوَرِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شاءَ الله ثمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} (الزمر: 86)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور} ، الْآيَة. قَوْله: (فِي الصُّور) ، هُوَ قرن ينْفخ فِيهِ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَصعِقَ) ، أَي: مَاتَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض. قَوْله: (إِلَّا من شَاءَ الله) ، اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: هم الشُّهَدَاء عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ جبرل عَن هَذِه الْآيَة {من أُولَئِكَ الَّذين لم يَشَأْ الله قَالَ هُوَ الشُّهَدَاء) متقلدين أسيافهم حول الْعَرْش، وَقيل: هم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل، رَوَاهُ أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: هم إثنا عشر: حَملَة الْعَرْش ثَمَانِيَة وجبرائيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت، وَعَن الضَّحَّاك: هم رضوَان والحور الْعين وَمَالك والزبانية، وَعَن الْحسن: {إلاَّ من شَاءَ الله} يَعْنِي: الله وَحده، وَقيل: عقارب النَّار وحياتها. قَوْله: (ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى) أَي: ثمَّ نفخ فِي الصُّور نفخة أُخْرَى. قَوْله: (فَإِذا هم قيام) ، أَي: من قُبُورهم (ينظرُونَ) إِلَى الْبَعْث، وَقيل: ينظرُونَ أَمر الله تَعَالَى فيهم.
3184 - حدَّثني الْحَسَنُ حدّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ خَلِيلٍ أخبرنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بنِ أبي زَائِدَةَ عَنْ عامِرٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي أوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الآخِرَةِ فإذَا أَنا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بالعَرْشِ فَلاَ أدْرِي أكَذَلِكَ كانَ أمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: بعد النفخة الْآخِرَة. وَالْحسن، كَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَذكر فِي كتاب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) : كَانَ سهل بن السّري الْحَافِظ يَقُول: إِن الْحسن بن شُجَاع أَبُو عَليّ الْحَافِظ الْبَلْخِي، فَإِن كَانَ هُوَ فَإِنَّهُ مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ النّصْف من شَوَّال سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن تسع وَأَرْبَعين. قلت: فعلى هَذَا هُوَ أَصْغَر من البُخَارِيّ وَمَات قبله، وَكَانَ سهل بن السّري أَيْضا يَقُول: إِنَّه الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي عِنْدِي. قلت: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح أَبُو عَليّ الزَّعْفَرَانِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان بَقينَ من رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَقع فِي كتاب البرقاني أَن البُخَارِيّ قَالَ، هَذَا فِي حَدِيث: حَدثنَا الْحُسَيْن، بِضَم أَوله مُصَغرًا، وَنقل عَن الْحَاكِم أَنه الْحُسَيْن بن مُحَمَّد القباني، وَإِسْمَاعِيل ابْن خَلِيل أَبُو عبد الله الخزاز الْكُوفِي وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا وَقَالَ البُخَارِيّ جَاءَنَا نعيه سنة خَمْسَة وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الرَّحِيم هُوَ ابْن سُلَيْمَان أَبُو عَليّ الرَّازِيّ سكن الْكُوفَة، وزكرياء بن أبي زَائِدَة بن مَيْمُون الْهَمدَانِي الْأَعْمَى الْكُوفِي أَبُو يحيى، وَاسم أبي زَائِدَة خَالِد، وَيُقَال: هُبَيْرَة، مَاتَ سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وعامر هُوَ ابْن شرَاحِيل الشّعبِيّ.
والْحَدِيث قد مضى مطولا فِي أول: بَاب الإشخاص، وَمضى أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، فِي: بَاب وَفَاة مُوسَى.
قَوْله: (بعد النفخة الْآخِرَة) ، وَهِي نفخة الْإِحْيَاء، والنفخة الأولى نفخة الإماتة. قَوْله: (فَلَا أَدْرِي أَكَذَلِك كَانَ) ، أَي: أَنه لم يمت عِنْد النفخة الأولى، وَاكْتفى بصعقة الطّور أم أحيى بعد النفخة الثَّانِيَة قبلي، وَتعلق بالعرش؟ هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع(19/145)
أَن يُقَال: إِن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي مضى فِي الإشخاص: أَن النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فيصعق مَعَهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيكون النَّبِي أول من يفِيق، فَإِذا أَفَاق يرى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، مُتَعَلقا بالعرش وَلَا يدْرِي أَنه كَانَ فِيمَن صعق فأفاق قبله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو كَانَ مِمَّن اسْتثْنى الله عز وَجل، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَضْمُون ذَلِك الحَدِيث الَّذِي أخرجه فِي الإشخاص وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
4184 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْص حدّثنا أبي قَالَ حدّثنا الأعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا بَينَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْماً قَالَ أبَيْتُ قَالَ أرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أبَيْتُ قَالَ أرْبَعُونَ شَهْراً قَالَ أبَيْتُ وَسَيُبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإنْسَانِ إلاّ عَجْبَ ذَنَبِهِ فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ.
(انْظُر الحَدِيث 4184 طرفه فِي: 5394) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ اشتماله على النفخ. وَشَيخ البُخَارِيّ يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها، وَهُوَ يروي عَن سلميان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان.
قَوْله: (مَا بَين النفختين) وهما النفخة الأولى والنفخة الثَّانِيَة. قَوْله: (قَالُوا) ، أَي: أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (أَبيت) من الإباء وَهُوَ الِامْتِنَاع أَي: امْتنعت من تعْيين ذَلِك بِالْأَيَّامِ والسنين والشهور، لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده علم بذلك، وَقَالَ بَعضهم: وَزعم بعض الشُّرَّاح أَنه وَقع عِنْد مُسلم: أَرْبَعِينَ سنة، وَلَا وجود لذَلِك. انْتهى. قلت: إِن كَانَ مُرَاده من بعض الشُّرَّاح صَاحب (التَّوْضِيح) : فَهُوَ لم يقل كَذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ: وَقد جَاءَت مفسرة فِي رِوَايَة غَيره فِي غير مُسلم: أَرْبَعُونَ سنة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق سعيد بن الصَّلْت عَن الْأَعْمَش فِي هَذَا الْإِسْنَاد: أَرْبَعُونَ سنة، وَهُوَ شَاذ، وَمن وَجه ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا بَين النفخة والنفخة أَرْبَعُونَ سنة. قَوْله: (وسيبلى) أَي: سيخلق، من: بلَى الثَّوْب يبلي بلَى بِكَسْر الْبَاء، فَإِن فتحتها مددتها. وأبليت الثَّوْب. قَوْله: (إلاَّ عجب ذَنبه) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم، وَهُوَ أصل الذَّنب وَهُوَ عظم لطيف فِي أصل الصلب، وَهُوَ رَأس العصعص، وروى ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب (الْبَعْث) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قيل: يَا رَسُول الله! مَا الْعجب؟ قَالَ: مثل حَبَّة خَرْدَل. انْتهى. وَيُقَال لَهُ: عجم، بِالْمِيم كلاب ولازم، وَهُوَ أول مَخْلُوق من الْآدَمِيّ، وَهُوَ الَّذِي يبْقى ليركب عَلَيْهِ الْخلق، وَفَائِدَة إبْقَاء هَذَا الْعظم دون غَيره مَا قَالَه ابْن عقيل: لله عز وَجل فِي هَذَا سر لَا نعلمهُ لِأَن من يظْهر الْوُجُود من الْعَدَم لَا يحْتَاج إِلَى أَن يكون لفعله شَيْء يبْنى عَلَيْهِ وَلَا خميرة، فَإِن علل هَذَا يتجوز أَن يكون الْبَارِي جلت عَظمته جعل ذَلِك عَلامَة للْمَلَائكَة، على أَن يحيى كل إِنْسَان بجواهره بِأَعْيَانِهَا وَلَا يحصل الْعلم للْمَلَائكَة بذلك إلاَّ بإبقاء عظم كل شخص ليعلم أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِعَادَة الْأَرْوَاح إِلَى تِلْكَ الْأَعْيَان الَّتِي هِيَ جُزْءا مِنْهَا، كَمَا أَنه لما مَاتَ عُزَيْرًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحِمَاره، أبقى عِظَام الْحمار فكساها ليعلم أَن ذَلِك المنشى ذَلِك الْحمار لَا غَيره، وَلَوْلَا إبْقَاء شَيْء لجوزت الْمَلَائِكَة أَن تكون الْإِعَادَة للأرواح إِلَى أَمْثَال الأجساد لَا إِلَى أعيانها. فَإِن قلت: فِي (الصَّحِيح) يبْلى كل شَيْء من الْإِنْسَان، وَهنا يبْلى إلاَّ عجب الذَّنب؟ قلت: هَذَا لَيْسَ بِأول عَام خص. ولأباول مُجمل فصل، كَمَا نقُول: إِن هذَيْن الْحَدِيثين خص مِنْهُمَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، لِأَن الله تَعَالَى حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أَجْسَادهم وَألْحق ابْن عبد الْبر الشُّهَدَاء بهم، والقرطبي الْمُؤَذّن الْمُحْتَسب. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الْعجب بِعَدَمِ البلى دون غَيره؟ قلت: لِأَن أصل الْخلق مِنْهُ وَمِنْه يركب، وَهُوَ قَاعِدَة بَدْء الْإِنْسَان وأسه الَّذِي يبْنى عَلَيْهِ، فَهُوَ أَصْلَب من الْجَمِيع كقاعدة الْجِدَار، وَقَالَ بَعضهم: زعم بعض الشُّرَّاح أَن المُرَاد بِأَنَّهُ لَا يبْلى أَي: يطول بَقَاؤُهُ لَا أَنه لَا يبْلى أصلا، وَهَذَا مَرْدُود لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر بِغَيْر دَلِيل. انْتهى. قلت: بعض الشُّرَّاح هَذَا هُوَ شَارِح (المصابيح) الَّذِي يُسمى شَرحه مظْهرا، وَلَيْسَ هُوَ شَارِح البُخَارِيّ، وَلَيْسَ هُوَ بمنفرد بِهَذَا القَوْل، وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ أَيْضا، فَإِنَّهُ قَالَ: إلاَّ، هُنَا بِمَعْنى الْوَاو، أَي: وَعجب الذَّنب أَيْضا يبْلى، وَجَاء عَن الْفراء والأخفش: مَجِيء إلاَّ بِمَعْنى الْوَاو، لَكِن هَذَا خلاف الظَّاهِر، وَكَيف لَا وَقد جَاءَ عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيق همام عَنهُ: أَن للْإنْسَان عظما لَا تَأْكُله الأَرْض(19/146)
أبدا، فِيهِ يركب يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالُوا: أَي عظم هُوَ؟ قَالَ: عجب الذَّنب، رَوَاهُ مُسلم. قَوْله: (فِيهِ يركب الْخلق) ، لَا يُعَارضهُ حَدِيث سلمَان: إِن أول مَا خلق من آدم رَأسه، لِأَن هَذَا فِي حق آدم وَذَاكَ فِي حق بنيه، وَقيل: المُرَاد بقول سُلَيْمَان: نفخ الرّوح فِي آدم لَا خلق جسده.
04 - (سورَةُ المُؤْمِنِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْمُؤمن، وَفِي بعض النّسخ الْمُؤمن، بِغَيْر لفظ: سُورَة، وَفِي بَعْضهَا: سُورَة الْمُؤمن حم.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر، وَهِي مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد الزمر وَقبل حم السَّجْدَة وَبعد السَّجْدَة الشورى ثمَّ الزخرف ثمَّ الدُّخان ثمَّ الجاثية ثمَّ الْأَحْقَاف، وَهِي أَرْبَعَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَسِتُّونَ حرفا، وَألف وَمِائَة وتسع وَتسْعُونَ كلمة، وَخمْس وَثَمَانُونَ آيَة.
قَالَ مُجاهِدٌ: حم مَجازُها مَجازُ أوَائِلِ السُّوَرِ
قَوْله: (حم) فِي مَحل الِابْتِدَاء: (ومجازها) ، مُبْتَدأ ثَان. وَقَوله: (مجَاز أَوَائِل السُّور) ، خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، ومجازها بِالْجِيم وَالزَّاي أَي: طريقها أَي حكمهَا حكم سَائِر الْحُرُوف الْمُقطعَة الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور للتّنْبِيه على أَن هَذَا الْقُرْآن من جنس هَذِه الْحُرُوف، وَقيل: القرع الْعَصَا عَلَيْهِم. وَعَن عِكْرِمَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حم إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَهِي مِفْتَاح خَزَائِن رَبك، جلّ جَلَاله، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ إسم الله الْأَعْظَم، وَعنهُ: قسم أقسم الله بِهِ، وَعَن قَتَادَة: إسم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن الشّعبِيّ: شعار السُّورَة، وَعَن عَطاء الْخُرَاسَانِي: الْحَاء افْتِتَاح أَسمَاء الله تَعَالَى: حَلِيم وَحميد وَحي وحنان وَحَكِيم وحفيظ وحبِيب، وَالْمِيم افْتِتَاح اسْمه: مَالك ومجيد ومنان. وَعَن الضَّحَّاك وَالْكسَائِيّ: مَعْنَاهُ قضى مَا هُوَ كَائِن، كَأَنَّهُمَا أَرَادَا الْإِشَارَة إِلَى: حم، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْمِيم.
ويُقالُ: بَلْ هُوَ إسْمٌ، لِقَوْلِ شُرَيْحِ بنِ أبي أوْفَى العَبْسِيِّ:
(يُذَكِّرُني حامِيمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ... فَهَلاَّ تَلاَ حامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ)
الْقَائِلُونَ بِأَن لفظ: حم إسم هم الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ الْآن، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقول الشَّاعِر الْمَذْكُور حَيْثُ وَقع لفظ: حم، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَنْصُوبًا على المفعولية، وَكَذَا قَرَأَ عِيسَى بن عمر: أَعنِي بِفَتْح الْمِيم، وَقيل: يجوز أَن يكون لالتقاء الساكنين. قلت: الْقَاعِدَة أَن السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ، وَيجوز الْفَتْح وَالْكَسْر فِي الْحَاء وهما قراءتان. قَوْله: (وَيُقَال) فِي رِوَايَة أبي ذَر: قَالَ البُخَارِيّ: وَيُقَال قَوْله: (شُرَيْح بن أبي أوفى) هَكَذَا وَقع ابْن أبي أوفى فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ شُرَيْح بن أوفى الْعَبْسِي، وَكَانَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، يَوْم الْجمل، وَكَانَ شعار أَصْحَاب عَليّ رَضِي الله عَنهُ، يومئذٍ حم، فَلَمَّا نهد شُرَيْح لمُحَمد بن طَلْحَة بن عبيد الله الملقب بالسجاد وطعنه، قَالَ: حم، فَقَالَ شُرَيْح: يذكرنِي حَامِيم، الْفَاعِل فِيهِ مُحَمَّد السَّجَّاد، وَقيل، لما طعنه شُرَيْح قَالَ: {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} (غَافِر: 82) فَهُوَ معنى قَوْله: (يذكرنِي حَامِيم) . قَوْله: (وَالرمْح شَاجر) جملَة إسمية وَقعت حَالا من: شجر الْأَمر يشجر شجوراً إِذا اخْتَلَط، واشتجر الْقَوْم وتشاجروا إِذا تنازعوا وَاخْتلفُوا وَالْمعْنَى هُنَا: وَالرمْح مشتبك مختلط. قَوْله: (فَهَلا) حرف تحضيض مُخْتَصّ بالجمل الفعلية الخبرية، وَالْمعْنَى: هلا كَانَ هَذَا قبل تشاجر الرماح عِنْد قيام الْحَرْب، قَوْله: (قبل التَّقَدُّم) ، أَي: إِلَى الْحَرْب، وَأول هَذَا الْبَيْت على مَا ذكره الْحسن بن المظفر النَّيْسَابُورِي فِي: (مأدبة الأدباء) :
(وَأَشْعَث قوّام بآيَات ربه ... قَلِيل الْأَذَى فِيمَا ترى الْعين مُسلم)
(هتكت بصدر الرمْح جيب قَمِيصه ... فَخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ)
(على غير شَيْء غير أَن لَيْسَ تَابعا ... عليا وَمن لَا يتبع الْحق يظلم)
يذكرنِي حميم ... .
وَذكر عمر بن شبة بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق: أَن مَالِكًا الأشتر النَّخعِيّ قتل مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَقَالَ فِي ذَلِك شعرًا وَهُوَ:(19/147)
(واشعث قوام بآيَات ربه ... الأبيات)
وَذكر أَبُو محنف لوط فِي كِتَابه (حَرْب الْجمل) : الَّذِي قتل مُحَمَّدًا مُدْلِج بن كَعْب، رجل من بني سعد بن بكر، وَفِي كتاب الزبير بن أبي بكر: كَانَ مُحَمَّد أَمرته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، بِأَن يكف يَده فَكَانَ كلما حمل عَلَيْهِ رجل قَالَ: نشدتك بحاميم، حَتَّى شدّ عَلَيْهِ رجل من بني أَسد بن خُزَيْمَة يُقَال لَهُ: حَدِيد فنشده بحاميم فَلم ينْتَه وَقَتله، وَقيل: قَتله كَعْب بن مُدْلِج من بني منقذ بن طريف، وَيُقَال: قَتله عِصَام بن مُقْشَعِر النصري، وَعَلِيهِ كَثْرَة الحَدِيث وَقَالَ المرزباني: هُوَ الثبت وَهُوَ يخدش فِي إِسْنَاد البُخَارِيّ لِأَن هذَيْن الْإِمَامَيْنِ إِلَيْهِمَا يرجع فِي هَذَا الْبَاب. قلت: الزَّمَخْشَرِيّ الْعَلامَة ذكر هَذَا الْبَيْت فِي أول سُورَة الْبَقَرَة وَنسبه إِلَى شُرَيْح بن أوفى الْمَذْكُور، وَفِي (الحماسة) البحترية قَالَ عدي بن حَاتِم.
(من مبلغ أفناء مذْحج انني ... ثأرت بحالي ثمَّ لم أتأثم)
(تركت أَبَا بكر ينوء بصدره ... بصفين مخضوب الكعوب من الدَّم)
(يذكرنِي ثَأْرِي غَدَاة لَقيته ... فأجررته رُمْحِي فَخر على الْفَم)
(يذكرنِي ياسين حِين طعنته ... فَهَلا تَلا ياسين قبل التَّقَدُّم)
الطَّوْلُ التَّفَضُّلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول} (غَافِر: 3) وَفَسرهُ بالتفضل، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَزَاد: تَقول الْعَرَب للرجل إِنَّه لذُو طول على قومه أَي: ذُو فضل عَلَيْهِم، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. فِي قَوْله: (ذِي الطول، قَالَ: ذِي السعَة والغنى، وَمن طَرِيق عِكْرِمَة: ذِي المنن، وَمن طَرِيق قَتَادَة، قَالَ: ذِي النعماء.
داخِرِينَ خَاضِعِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {سيدخلون جَهَنَّم داخرين} (غَافِر: 06) وَفَسرهُ بقوله: (خاضعين) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن السّديّ: صاغرين.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: إلَى النَّجاةِ إِلَى الْإِيمَان
أَي قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار} (غَافِر: 14) وَفسّر قَوْله: إِلَى النجَاة، بقوله: إِلَى الْإِيمَان.
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ يَعْنِي لِلْوَثَنِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم إِنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة} (غَافِر: 34) وَقَالَ: لَيْسَ للوثن دَعْوَة، هَذَا من تَتِمَّة كَلَام الرجل الَّذِي آمن بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الَّذِي أخبر الله تَعَالَى عَنهُ بقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعوني أهدكم سَبِيل الرشاد} (غَافِر: 83) وَكَانَ من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه مِنْهُ وَمن قومه، وَعَن السّديّ وَمُقَاتِل: كَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن، وَعَن ابْن عَبَّاس، أَن اسْمه حزقيل، وَعَن وهب بن مُنَبّه: خزيبال، وَعَن إِسْحَاق: خزبيل، وَقيل: حبيب.
يُسْجَرُونَ: تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {إِذا الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل يسْحَبُونَ فِي الْحَمِيم ثمَّ فِي النَّار يسجرون} (غَافِر: 27) وَفَسرهُ بقوله: (توقد بهم النَّار) . وَعَن مُجَاهِد: يصيرون وقوداً فِي النَّار.
تَمْرَحُونَ: تَبْطَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون} (غَافِر: 57) وَفَسرهُ بقوله: تبطرون، من البطر بِالْبَاء الْمُوَحدَة والطاء الْمُهْملَة.
وكانَ العلاَءُ بنُ زِيادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ فَقَالَ رجُلٌ لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ قَالَ وَأَنا أقْدِرُ أنْ أُقَنِّطُ النَّاسَ وَالله عَزَّ وجلَّ يَقُولُ: {يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} (الزمر: 35) ويَقُولُ: {وأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصْحابُ النَّارِ} (غَافِر: 34) ولكنَّكُمْ تُحِبُّونَ أنْ تُبَشَّرُوا بالجَنَّةِ عَلَى مَساوِيءِ أعْمالِكُم وإنَّما بَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُبَشِّراً بالجَنَّةِ لَمِنْ أطاعَهُ ومُنْذِراً بالنَّارِ مَنْ عَصاهُ.(19/148)
الْعَلَاء بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف الْعَدوي الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ الزَّاهِد، قَلِيل الحَدِيث وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، مَاتَ قَدِيما سنة أَربع وَتِسْعين. قَوْله: (يذكر النَّار) ، قَالَ بَعضهم: هُوَ بتَشْديد الْكَاف. قلت: لَيْسَ بِصَحِيح بل هُوَ بِالتَّخْفِيفِ على مَا لَا يخفى. قَوْله: (لم تقنط النَّاس) ؟ من التقنيط لَا من قنط يقنط قنوطاً، وَهُوَ أَشد الْيَأْس من الشَّيْء، وأصل: لم لما فحذفت الْألف وَهِي اسْتِفْهَام. قَوْله: (أَن تبشروا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التبشير. قَوْله: (ومنذراً) ، ويروى: ينذر. قَوْله: (من عَصَاهُ) ، ويروى: لمن عَصَاهُ.
5184 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ حَدثنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حَدثنِي يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ قَالَ حَدثنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ الله بنِ عَمْروِ بنِ العاصِ أخْبَرَنِي بأشَدِّ مَا صَنَعَ المُشْرِكُونَ برَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِفِناءِ الكَعْبَةِ إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ فأخَذَ بِمَنْكِبِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقاً شَديداً فأقْبَلَ أبُو بَكْرٍ فأخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَ عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: {أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جاءَكُمْ بالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غَافِر: 82) .
(انْظُر الحَدِيث 8763 وطرفه) .
الْوَلِيد بن مُسلم الدِّمَشْقِي يروي عَن عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ. والْحَدِيث مضى فِي آخر مَنَاقِب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن يزِيد الْكُوفِي عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
14 - (سورَةُ حم السَّجْدَةِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة حم السَّجْدَة، وَهِي مَكِّيَّة بِلَا خلاف نزلت بعد الْمُؤمن وَقبل الشورى، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وثلثمائة وَخَمْسُونَ حرفا، وَسَبْعمائة وست وَسَبْعُونَ كلمة، وَأَرْبع وَخَمْسُونَ آيَة.
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
(بابٌ: وَقَالَ طاوُوسٌ عَن ابنِ عبَّاسٍ {ائْتِيا طَوْعاً أَو كَرَها} (فصلت: 11)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، أَي: قَالَ طَاوُوس عَن عبد الله بن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ائتيا طَوْعًا أَو كرها} وَفسّر: ائتيا. بقوله: (اعطيا) ، هُوَ صِيغَة أَمر للتثنية من الْإِعْطَاء، وَفسّر: أَتَيْنَا من الْإِتْيَان بقوله: (أعطينا) ، وَهُوَ الْفِعْل الْمَاضِي للمتكلم مَعَ الْغَيْر وروى هَذَا التَّعْلِيق أَبُو مُحَمَّد الْحَنْظَلِي عَن عَليّ بن الْمدْرك كِتَابَة، قَالَ: أخبرنَا زيد بن الْمُبَارك أخبرنَا ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن سُلَيْمَان الْأَحول عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: وَقَالَ ابْن التِّين: لَيْسَ (أَتَيْنَا) بِمَعْنى (أعطينا) فِي كَلَامهم إلاَّ أَن يكون ابْن عَبَّاس قَرَأَ بِالْمدِّ، لِأَن أَتَى مَقْصُورا مَعْنَاهُ: جَاءَ، وممدوداً رباعياً مَعْنَاهُ: أعْطى، وَنقل عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَرَأَهَا آتِيَا، بِالْمدِّ على معنى أعطيا الطَّاعَة، وَأَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ: آتَيْنَا بِالْمدِّ أَيْضا على الْمَعْنى الْمَذْكُور، وَقَالَ عِيَاض: لَيْسَ، أَتَى: هَهُنَا بِمَعْنى: أعْطى، وَإِنَّمَا هُوَ من الْإِتْيَان وَهُوَ الْمَجِيء، وَبِهَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ قلت: فِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) (طَوْعًا وَكرها) أَي: جيئا بِمَا خلقت فيكما من الْمَنَافِع وأخرجاها وَأظْهر الخلقي، وَعَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الله عز وَجل لِلسَّمَوَاتِ: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وَقَالَ للْأَرْض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، وَقَالَ السُّهيْلي فِي: (أَمَالِيهِ) : قيل: إِن البُخَارِيّ وَقع لَهُ فِي: أَتَى، من الْقُرْآن وهم: فَإِن كَانَ هَذَا وإلاَّ فَهِيَ قِرَاءَة بلغته وَوَجهه أعطيا الطَّاعَة كَمَا يُقَال فلَان يعْطى الطَّاعَة وَقَالَ وَقد قرى ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها بِالْمدِّ وَالْقصر والفتنة ضد الطَّاعَة، وَإِذا جَازَ فِي إِحْدَاهمَا جَازَ فِي الْأُخْرَى. انْتهى، وَجوز بعض الْمُفَسّرين أَن: آتِيَا، بِالْمدِّ بِمَعْنى الْمُوَافقَة، وَبِه جزم(19/149)
صَاحب (الْكَشَّاف) ، فعلى هَذَا يكون الْمَحْذُوف مَفْعُولا وَاحِدًا، وَالتَّقْدِير: ليُوَافق كل مِنْكُمَا الْأُخْرَى. قَالَتَا: فَوَافَقنَا، وعَلى الأول يكون الْمَحْذُوف مفعولين، وَالتَّقْدِير: أعطيا من أمركما الطَّاعَة من أنفسكما، قَالَتَا: أعطيناه الطَّاعَة، وَإِنَّمَا جمع: طائعين، بِالْيَاءِ وَالنُّون، وَإِن كَانَ هَذَا الْجمع مُخْتَصًّا بِمن يعقل، لِأَن مَعْنَاهُ آتَيْنَا بِمن فيهمَا، أَو لِأَنَّهُ لما أخبر عَنهُ بِفعل من يعقل جَاءَ فِيهِنَّ بِالْيَاءِ وَالنُّون، كَمَا فِي قَوْله: {رَأَيْتهمْ لي ساجدين} (يُوسُف: 4) . وَأَجَازَ الْكسَائي أَن يجمع بِالْيَاءِ وَالنُّون وَالْوَاو وَالنُّون، وَفِيه بعد.
وَقَالَ المِنْهالُ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ إنِّي أجِدُ فِي القُرْآنِ أشْياءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: {فَلاَ أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) و {أقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَساءَلُونَ} (الصافات: 72 و 05 وَالطور: 52) . {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} . {وَلَا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} (النِّسَاء: 24) {وَالله رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الْأَنْعَام: 32) فَقَدْ كَتَمُوا فِي هاذِهِ الْآيَة، وَقَالَ: {أم السَّماءُ بَناها} إِلَى قَوْلِهِ: {دَحاها} (النازعات: 72 و 03) فَذَكَرَ خَلْقَ السَّماءِ قَبْلَ خَلْقِ الأرْضِ، ثُمَّ قَالَ: {أئِنَّكُمْ لَتكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى {طائعين} (فصلت: 9 و 11) فَذَكَرَ فِي هاذِهِ خَلْقَ الأرْض قَبْلَ السَّماءِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً} . عَزِيزاً حَكِيماً. سَميعاً بَصِيراً. فَكأنَّهُ كانَ ثُمَّ مَضَى، فَقَالَ: فَلاَ أنْسابَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْخَةِ الأولى {ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّور فصَعِقَ مَنْ فِي السَّماوَاتِ ومَنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شاءَ الله فَلاَ أنْسابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذالِكَ وَلاَ يَتَساءَلُونَ} ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الآخِرَةِ. {أقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} وأمّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . {وَلَا يَكْتُمُونَ الله حدِيثاً} فإنَّ الله يَغْفِرُ لأهْلِ الإخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ المُشْرِكُونَ: تَعالَوْا نقُولُ: لَمْ نكُنْ مُشرِكينَ، فَخُتِمَ عَلَى أفْواهِهِمْ فَتَنْطِقُ أيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذالِكَ عُرِفَ أنَّ الله لَا يُكْتَمُ حَدِيثاً. وعِنْدَهُ: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النِّسَاء: 24) . و {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَينِ ثُمَّ خَلَقَ السَّماءَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحا الأرْضَ ودَحْوُها أنْ أخْرَجَ مِنْهَا المَاءَ والمرْعَى وخَلَقَ الجِبالَ والجمالَ والآكامَ وَمَا بَيْنَهُما فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ} فذلِكَ قَوْلُهُ: {دحاها} وقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) فَجُعِلَتِ الأرْضُ وَمَا فِيها مِنْ شَيْءٍ فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ وخُلِقَتِ السَّماوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ وكانَ الله غَفُوراً سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وذَلِكَ. قَوْلُهُ: أيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فإنَّ الله لَمْ يُرِدْ شَيْئاً إلاَّ أصابَ بِهِ الَّذِي أرَادَ، فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ القُرْآنُ، فإِنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدَ الله.
لما ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة الْكَرِيمَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ذكر مَا علقه من الْمنْهَال أَولا، ثمَّ أسْندهُ عَقِيبه، وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: ابْن عَمْرو الْأَسدي مَوْلَاهُم الْكُوفِي، صَدُوق من طبقَة الْأَعْمَش وَثَّقَهُ ابْن معِين وَالنَّسَائِيّ وَالْعجلِي وَآخَرُونَ، وَتَركه شُعْبَة لأمر لَا يُوجب فِيهِ قدحاً، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَآخر تقدم فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (عَن سعيد) ، هُوَ ابْن جُبَير، وَصرح بِهِ الْأصيلِيّ والنسفي فِي روايتهما. قَوْله: (قَالَ: قَالَ رجل) ، الظَّاهِر أَنه نَافِع بن الْأَزْرَق الَّذِي صَار بعد ذَلِك رَأس الْأزَارِقَة من الْخَوَارِج، وَكَانَ يُجَالس ابْن عَبَّاس بِمَكَّة ويسأله ويعارضه، وَحَاصِل سُؤَاله فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع على مَا نذكرهُ. قَوْله: (يخْتَلف عَليّ) ، أَي: يشكل ويضطرب عَليّ، إِذْ بَين ظواهرها تنافٍ وتدافع، أَو تفِيد شَيْئا لَا يَصح عقلا: الأول: من الأسئلة قَالَ: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم} إِلَى قَوْله: {وَلَا يتساءلون} فَإِن بَين قَوْله: وَلَا يتساءلون، وَبَين قَوْله: يتساءلون، تدافعاً ظَاهرا. الثَّانِي: قَوْله: {وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} فَإِن بَينه وَبَين قَوْله: {مَا كنامشركين} تدافعاً ظَاهرا لِأَنَّهُ علم من الأول أَنهم لَا يكتمون الله حَدِيثا، وَمن الثَّانِي: أَنهم يكتمون كَونهم مُشْرِكين. الثَّالِث: قَوْله: {أم السَّمَاء بناها} إِلَى قَوْله: قبل خلق السَّمَاء(19/150)
فَإِن فِي الْآيَتَيْنِ المذكورتين تدافعاً لِأَن فِي إِحْدَاهمَا خلق السَّمَاء قبل الأَرْض، وَفِي الْأُخْرَى بِالْعَكْسِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} (الشَّمْس: 5) وَهُوَ فِي سُورَة الشَّمْس، وَقَوله: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} (النازعات: 03) يدل على أَن المُرَاد {أم السَّمَاء بناها} (النازعات: 72) الَّذِي فِي سُورَة والنازعات، الرَّابِع: (وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما) إِلَى قَوْله: ثمَّ مضى، فَإِن قَوْله: (وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما وسميعاً بَصيرًا) يدل على أَنه كَانَ مَوْصُوفا بِهَذِهِ الصِّفَات فِي الزَّمَان الْمَاضِي ثمَّ تغير عَن ذَلِك، وَهُوَ معنى قَوْله: فَكَأَنَّهُ كَانَ ثمَّ مضى. قَوْله: (فَقَالَ: فَلَا أَنْسَاب إِلَى قَوْله وَلَا يتساءلون) جَوَاب عَن سُؤال الأول، أَي قَالَ: فَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْجَواب مَا ملخصه: أَن التساؤل بعد النفخة الثَّانِيَة وَعدم التساؤل قبلهَا، وَعَن السّديّ: أَن نفي المساءلة عِنْد تشاغلهم بالصعق والمحاسبة وَالْجَوَاز على الصِّرَاط وإثباتها فِيمَا عدا ذَلِك. قَوْله: وَأما قَوْله: {مَا كُنَّا مُشْرِكين} إِلَى قَوْله: {يود الَّذين كفرُوا} فَهُوَ جَوَاب عَن السُّؤَال الثَّانِي وَمُلَخَّصه: أَن الكتمان قبل إنطاق الْجَوَارِح وَعَدَمه بعده. قَوْله: (فَعِنْدَ ذَلِك) أَي: عِنْد نطق أَيْديهم. قَوْله: (وَعِنْده يود الَّذين كفرُوا) أَي: وَعند علمهمْ أَن الله لَا يكتم حَدِيثا يود الَّذين كفرُوا هَذَا فِي سُورَة النِّسَاء. وَهُوَ قَوْله: {يومئذٍ يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} (النِّسَاء: 24) ، أَي: يَوْم الْقِيَامَة يود الَّذين كفرُوا بِاللَّه وعصوا رَسُوله لَو تسوى بهم الأَرْض أَي لَو تسوت بهم الأَرْض وصاروا هم وَالْأَرْض شَيْئا وَاحِدًا، أَو أَنهم لم يكتموا أَمر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نَعته، لِأَن مَا عملوه لَا يخفى على الله تَعَالَى فَلَا يقدرُونَ كِتْمَانه، لِأَن جوارحهم تشهد عَلَيْهِم. قَوْله: {وَخلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) إِلَى قَوْله وَخلق السَّمَوَات فِي يَوْمَيْنِ جَوَاب عَن السُّؤَال الثَّالِث ملخصه: أَن خلق نفس الأَرْض قبل السَّمَاء ودحوها بعده، يُقَال: دحوت الشَّيْء دحوا بسطته بسطاً، وَقيل فِي جَوَابه: إِن خلق بِمَعْنى قدر. قَوْله: (ان أخرج) بِأَن أخرج فَإِن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (والآكام) ، جمع أكمة بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْموضع الْمُرْتَفع من الأَرْض كَالتَّلِّ والرابية، ويروى: والأكوام. جمع كوم قَوْله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} (النِّسَاء: 69 و 001 و 251 وَالْفرْقَان: 072 والأحزاب: 5 و 05 و 95 و 37 وَالْفَتْح: 41) . الخ جَوَاب عَن السُّؤَال الرَّابِع، وَمُلَخَّصه: أَنه سمى نَفسه بِكَوْنِهِ غَفُورًا رحِيما، وَهَذِه التَّسْمِيَة مَضَت لِأَن التَّعَلُّق انْقَطع، وَأما معنى الغفورية والرحيمية فَلَا يزَال كَذَلِك لَا يَنْقَطِع، وَأَن الله إِذا أَرَادَ الْمَغْفِرَة أَو الرَّحْمَة أَو غَيرهمَا من الْأَشْيَاء فِي الْحَال أَو الِاسْتِقْبَال فَلَا بُد من وُقُوع مُرَاده قطعا. قَوْله: (سمى نَفسه ذَلِك) ، أَي: سمى الله تَعَالَى ذَاته بالغفور والرحيم وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ قَوْله: (وَإنَّهُ لَا يزَال كَذَلِك لَا يَنْقَطِع وَأَن مَا شَاءَ كَانَ) ، وَقَالَت النُّحَاة: كَانَ لثُبُوت خَبَرهَا مَاضِيا دَائِما، وَلِهَذَا لَا يُقَال: صَار مَوضِع: كَانَ، لِأَن مَعْنَاهُ التجدد والحدوث، فَلَا يُقَال فِي حق الله ذَلِك. قَوْله: (فَلَا يخْتَلف) بِالْجَزْمِ، أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس للسَّائِل الْمَذْكُور: لَا يخْتَلف عَلَيْك الْقُرْآن فَإِنَّهُ من عِنْد الله {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} (النِّسَاء: 28) .
حَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بنُ عَدِيّ حَدثنَا عُبَيْدُ الله بنُ عَمْرٍ وَعَنْ زَيْدِ بنِ أنَيْسَةَ عَنِ المِنْهالِ بِهاذَا
أسْند الحَدِيث الْمَذْكُور بعد أَن علقه كَمَا ذَكرْنَاهُ، قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّه سمع أَولا مُرْسلا وآخراً مُسْندًا فنقله كَمَا سَمعه، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْإِسْنَاد لَيْسَ بِشَرْطِهِ، واستبعد بَعضهم كَلَام الْكرْمَانِي هَذَا، وليت شعري مَا وَجه بعده وَمَا برهانه على ذَلِك؟ بل الظَّاهِر هُوَ الَّذِي ذكره، وَقَول الْكرْمَانِي: وَفِيه إِشَارَة ... إِلَى آخِره يُؤَيّدهُ كَلَام البرقاني حَيْثُ قَالَ: وَلم يخرج البُخَارِيّ ليوسف وَلَا لِعبيد الله بن عَمْرو وَلَا لزيد بن أبي أنيسَة مُسْندًا، سواهُ وَفِي مغايرته سِيَاق الْإِسْنَاد عَن ترتيبه الْمَعْهُود إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ على شَرطه، وَإِن صَارَت صورته صُورَة الْمَوْصُول. قَوْله: (حَدَّثَنِيهِ يُوسُف بن عدي) ، وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: حَدَّثَنِيهِ عَن يُوسُف، بِزِيَادَة: عَن، وَهُوَ غلط وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: حَدَّثَنِيهِ ... إِلَى آخِره، وَكَذَا سقط من رِوَايَة أبي نعيم عَن الْجِرْجَانِيّ عَن الفريري، وَلَكِن ذكر البرقاني فَقَالَ: قَالَ لي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الأزدستاني: شوهدت نُسْخَة بِكِتَاب: (الْجَامِع) للْبُخَارِيّ فِيهَا على الْحَاشِيَة: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا يُوسُف بن عدي، فَذكره وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أَحْمد بن زَنْجوَيْه: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن خَالِد الرقي: حَدثنَا عبيد الله بن عَمْرو عَن زيد عَن الْمنْهَال. قلت: يُوسُف بن عدي بن زُرَيْق التَّيْمِيّ الْكُوفِي نزيل مصر، وَهُوَ أَخُو زَكَرِيَّاء بن عدي، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَعبيد الله بن عَمْرو بِالْفَتْح الرقي بالراء وَالْقَاف، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، وَزيد بن أبي أنيسَة مصغر الأنسة بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة الجزيري، سكن الرها، قيل: إسم أبي أنيسَة زيد، وَمَات زيد الرَّاوِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة.(19/151)
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (فصلت: 8) مَحْسُوب
ويروي قَالَ: غير مَحْسُوب، رَوَاهُ عبد بن حميد فِي تَفْسِيره عَن عَمْرو بن سعد عَن سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: غير ممنون، قَالَ: غير مَنْقُوص.
أقْوَاتَها أرْزَاقَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَبَارك فِيهَا وَقدر فهيا أقواتها} (فصلت: 01) وَفسّر (أقواتها) بقوله: (أرزاقها) وَهَذَا أَيْضا تَفْسِير مُجَاهِد، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وأحدها قوت، وَهُوَ الرزق.
فِي كُلِّ سَماء أمْرَها مِمَّا أمَرَ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} (فصلت: 21) وَفَسرهُ بقوله: (مِمَّا أَمر بِهِ) وَهُوَ أَيْضا عَن مُجَاهِد. وَفِي لفظ: مِمَّا أَمر بِهِ، وأراده، وأراده أَي: من خلق النيرَان والنجوم والرجوم وَغير ذَلِك. وَعَن قَتَادَة وَالسُّديّ: خلق فِيهَا شمسها وقمرها ونجومها، وَخلق فِي كل سَمَاء من الْمَلَائِكَة والخلق الَّذِي فِيهَا من الْبحار وجبال الْبر دَوْمًا لَا يعلم.
نَحِساتٍ: مَشائيمَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّام نحسات} (فصلت: 61) وَفَسرهُ بقوله: (مشائيم) جمع مشومة، وَهُوَ أَيْضا عَن مُجَاهِد، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصرصر شَدِيدَة الصَّوْت الْعَاصِفَة، نحسات ذَوَات نحوس أَي: مشائيم.
{وقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ} (فصلت: 52) قُرَنَّا بِهِمْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ المَوْتِ
كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي وَجَمَاعَة وَعند الْأصيلِيّ: {وقيضنا لَهُم قرناء} قرناهم بهم تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة عِنْد الْمَوْت وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَلَيْسَ قَوْله: {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة} (فصلت: 03) عِنْد الْمَوْت تَفْسِير قَوْله: {وقيضنا لَهُم قرناء} وَفِي التَّفْسِير معنى: قيضنا سلطنا وبعثنا لَهُم قرناء يَعْنِي نظراء من الشَّيَاطِين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وقيضنا لَهُم قَدرنَا لَهُم، وَعَن مُجَاهِد: قرناء شياطين، وَقَالَ فِي قَوْله: {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَن لَا تخافوا وَلَا تحزنوا} قَالَ: عِنْد الْمَوْت، وَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيّ مفرقاً فِي موضِعين.
اهْتزَّتْ بالنباتِ ورَبَتْ ارْتَفَعَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت} (فصلت: 93) وَفسّر: اهتزت يَعْنِي بالنبات وربت يَعْنِي ارْتَفَعت من الربو وَهُوَ النمو وَالزِّيَادَة، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، وَعند غَيرهمَا بِزِيَادَة وَهِي قَوْله:
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أكْمامِها حِينَ تَطلعُ
أَي: وَقَالَ غير مُجَاهِد: معنى وربت ارْتَفَعت من أكمامها حِين تطلع، والأكمام جمع كم بِالْكَسْرِ، وَهُوَ وعَاء الطّلع، وَإِنَّمَا قُلْنَا غير مُجَاهِد لِأَن مَا قبله من قَوْله: قَالَ مُجَاهِد ... إِلَى هُنَا كُله عَن مُجَاهِد، وَلم يعْمل الشُّرَّاح هَهُنَا شَيْئا يجدي.
لَيَقُولَنَّ هاذَا لي أيْ بِعَملِي أَنا مَحْقُوقٌ بِهاذَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقناه رَحْمَة منا من بعد ضراء مسته ليَقُولن هَذَا لي} (فصلت: 05) وَفَسرهُ بقوله: (أَي بعملي)
إِلَى آخِره، وَمعنى قَوْله: أَنا محقوق، أَي: مُسْتَحقّ لَهُ، وَقَالَ النَّسَفِيّ: ليَقُولن هَذَا لي أَي هَذَا حَقي وصل إِلَيّ لِأَنِّي استوجبه بِمَا عِنْدِي من خير وَفضل وأعمال بر، وَقيل: هَذَا لي لَا يَزُول.
وَقَالَ غَيْرُهُ سَوَاءً لِلسائِلِينَ قَدَّرَها سَوَاءً
لَيْسَ فِي رِوَايَة غير أبي ذَر والنسفي. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء للسائلين} (فصلت: 01) قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي الأَرْض، أقواتها أَي: أرزاق أَهلهَا ومعائشهم وَمَا يصلحهم. قَوْله: (فِي أَرْبَعَة أَيَّام) يَعْنِي: هَذَا مَعَ قَوْله خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ أَرْبَعَة أَيَّام وَأُرِيد باليومين يَوْم الْأَحَد والإثنين. قَوْله: (سَوَاء) ، فسره بقوله: (قدرهَا سَوَاء) أَي: سَوَاء للسائلين عَن ذَلِك، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: سَوَاء بِالنّصب على المصدرية، أَي: اسْتَوَت سواهُ، وَقيل: على الْحَال، وبالرفع(19/152)
أَي: هُوَ سَوَاء، وبالجر على نعت أَرْبَعَة أَيَّام، وَقيل معنى للسائلين أَي للسائلين الله حوائجهم، وع ابْن زيد: قدر ذَلِك على قدر مسائلهم، وَقيل: مَعْنَاهُ للسائلين وَغير السَّائِلين، يَعْنِي أَنه بَين أَمر خلق الأَرْض وَمَا فِيهَا للسائلين ولغير السَّائِلين، وَيُعْطِي لمن سَأَلَ وَلمن لَا يسْأَل.
فَهَدَيْناهُمْ لَلْناهُمْ على الخَيْرِ والشَّرِّ كَقَوْلِهِ: {وهَدَيْناهُ النَّجُدَينِ} (الْبَلَد: 01) وكَقَوْلِهِ: {هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} (الْإِنْسَان: 3) والهُدَى الَّذِي هُوَ الإرْشادُ بِمَنْزِلَةِ أسْعَدْناهُ وَمِنْ ذالِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الْأَنْعَام: 09) .
أَشَارَ بقوله: (فهديناهم) إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} (فصلت: 71) وَفسّر: فهديناهم بقوله: (دللناهم على الْخَيْر وَالشَّر) أَرَادَ أَن الْهِدَايَة هُنَا بِمَعْنى الدّلَالَة الْمُطلقَة فِيهِ وَفِي أَمْثَاله، كَقَوْلِه: {وهديناه النجدين} أَي: دللناه الثديين، قَالَه سعيد بن الْمسيب وَالضَّحَّاك، والنجد طَرِيق فِي ارْتِفَاع، وَقَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: بَينا لَهُ طَرِيق الْخَيْر وَالشَّر وَالْحق وَالْبَاطِل وَالْهدى والضلالة، وَكَذَلِكَ الْهِدَايَة بِمَعْنى الدّلَالَة فِي قَوْله: {هديناه السَّبِيل} وَهُوَ فِي سُورَة الْإِنْسَان {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} قَوْله: (وَالْهدى الَّذِي هُوَ الْإِرْشَاد)
إِلَى آخِره، وَالْمعْنَى هُنَا الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية، وَعبر عَنهُ البُخَارِيّ بالإرشاد والإسعاد فَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} وَنَحْوه، وغرضه أَن الْهِدَايَة فِي بعض الْآيَات بِمَعْنى الدّلَالَة، وَفِي بَعْضهَا بِمَعْنى الدّلَالَة الموصلة إِلَى الْمَقْصُود، وَهل هُوَ مُشْتَرك فيهمَا أَو حَقِيقَة ومجاز؟ وَفِيه خلاف.
يُوزَعُونَ: يُكَفُّونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله إِلَى النَّار فهم يُوزعُونَ} (فصلت: 91) وَفَسرهُ بقوله: (يكفون) ، وَعَن أبي عُبَيْدَة: يدْفَعُونَ، من وزعت إِذا كَفَفْت ومنعت، وَقيل: مَعْنَاهُ يساقون ويدفعون إِلَى النَّار.
مِنْ أكْمامِها قِشْرُ الكُفرَّى هِيَ الكُمُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تخرج من ثَمَرَات من أكمامها} (فصلت: 74) وَفسّر أكمامها بقوله: (قشر الكفرى) بِضَم الْكَاف وَفتح الْفَاء وَضمّهَا أَيْضا وَتَشْديد الرَّاء مَقْصُور، وَفَسرهُ بقوله: (هِيَ الْكمّ) قد ذكرنَا أَنه بِكَسْر الْكَاف، وَقَالَ بَعضهم: كَاف الْكمّ مَضْمُومَة ككم الْقَمِيص وَعَلِيهِ يدل كَلَام أبي عُبَيْدَة وَبِه جزم الرَّاغِب، وَوَقع فِي (الْكَشَّاف) بِكَسْر الْكَاف، فَإِن ثَبت فلعلها لُغَة فِيهِ دون كم الْقَمِيص. انْتهى. قلت: لَا اعْتِبَار لأحد فِي هَذَا الْبَاب مَعَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِنَّهُ فرق بَين كم الْقَمِيص وَكم الثَّمَرَة بِالضَّمِّ فِي الأول وَالْكَسْر فِي الثَّانِي، وَكَذَلِكَ فرق بَينهمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: قشر الكفرى الْكمّ بِدُونِ لفظ: هِيَ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَاحِدهَا، يَعْنِي: الْكمّ وَاحِد الأكمام، وَعَن أبي عُبَيْدَة: من أكمامها، أَي: أوعيتها، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أكمامها أوعيتها وَاحِدهَا كمة وَهِي كل ظرف لمَال وَغَيره، وَلذَلِك سمى قشر الطّلع أَي الكفراة الَّتِي تَنْشَق عَن الثَّمَرَة كمة، وَعَن ابْن عَبَّاس: يَعْنِي الكفرى قبل أَن تَنْشَق فَإِذا انشقت فَلَيْسَتْ بأكمام.
ويُقالُ لِلْعِنَبِ إِذا خَرَجَ أيْضاً كافُورٌ وكُفُرَّى
هَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ غَيره وَيُقَال ... إِلَى آخِره، وَقَالَ الْأَصْمَعِي وَغَيره: قَالُوا: وعَاء كل شَيْء كافورة.
وَلِيَ حَمِيمٌ قَرِيبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم} (فصلت: 43) وَفسّر الْحَمِيم بقوله. (قريب) ويروى: الْقَرِيب، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَعند النَّسَفِيّ قَالَ معمر ... فَذكره، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن الْمثنى أَبُو عُبَيْدَة.
مِنْ مَحِيصٍ حاصَ عَنْهُ حادَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وظنوا مَا لَهُم من محيص} (فصلت: 84) وَفَسرهُ من فعله، وَهُوَ حَاص يحيص، وَفسّر حَاص بقوله: حاد، ويروى: حَاص عَنهُ حاد عَنهُ، حَاصِل الْمَعْنى: مَا لَهُم من مهرب، وَكلمَة: مَا، حرف وَلَيْسَت باسم فَلذَلِك لم يعْمل فِيهِ، قَوْله: ظنُّوا، وَجعل الْفِعْل ملغًى.(19/153)
مِريَةٍ ومُرْيَةٍ واحِدٌ أَي امْتِرَاءٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم فِي مرية من لِقَاء رَبهم} (فصلت: 45) وَقَالَ: مرية، بِكَسْر الْمِيم ومرية بضَمهَا وَاحِد، وَمَعْنَاهَا: الامتراء، وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِالْكَسْرِ، وَقِرَاءَة الْحسن الْبَصْرِيّ بِالضَّمِّ.
وَقَالَ مُجاهدٌ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمُ الوَعِيدُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (فصلت: 04) قَوْله: (الْوَعيد) ويروى: هُوَ وَعِيد، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، أَرَادَ أَن الْأَمر هُنَا لَيْسَ على حَقِيقَته بل هُوَ أَمر تهديد وتوعيد وتوبيخ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس: {أدْفَعْ بالتِي هِيَ أحْسَنُ} (فصلت: 43) الصَّبْرُ عِنْدَ الغَضَب والعَفْوُ عِنْدَ الإساءَةِ فإذَا فَعَلُوهُ عَصَمَهُمُ الله وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ: {كأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 43) [/ ح.
فسر عبد الله بن عَبَّاس. قَوْله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسنُ) بقوله: (الصَّبْر) إِلَى آخِره، وَقد وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ. قَوْله: (كَأَنَّهُ ولي حميم) ، لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (بِالَّتِي هِيَ أحسن) ، أَي: بالخصلة الَّتِي هِيَ أحسن، وَعَن مُجَاهِد: هِيَ الْإِسْلَام.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبْصارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلاكنْ ظَنَنْتُمْ أَن الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْلَمُونَ} (فصلت: 22)
حَدِيث الْبَاب يُوضح معنى الْآيَة. قَوْله: (تستترون) ، أَي: تستخفون، قَالَه أَكثر الْعلمَاء، وَعَن مُجَاهِد: تَتَّقُون، وَعَن قَتَادَة: تظنون. قَوْله: (أَن يشْهد) أَي: لِأَن يشْهد، وَفِي تَفْسِير النَّسَفِيّ: وَمَا كُنْتُم تستترون، وتستخفون بالحيطان والحجب عِنْد ارْتِكَاب الْفَوَاحِش، وَمَا كَانَ استتاركم ذَلِك خيفة أَن تشهد عَلَيْكُم جوارحكم، لأنكم كُنْتُم غير عَالمين بشهادتها عَلَيْكُم، بل كُنْتُم جاحدين بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاء أصلا.
6184 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْع عَنْ رَوْحِ بنِ القاسمِ عنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ أبي مَعْمَرٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الْآيَة. كانَ رجلاَنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُما مِنْ ثَقِيفَ أوْ رَجُلاَنِ مِنْ ثَقِيفَ وَخَتَنٌ لَهُما مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أتُرَوْنَ أنَّ الله يَسْمَعُ حَديثَنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعَ كُلَّهُ فأُنْزِلَتْ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولاَ أبْصارُكُمْ} الْآيَة.
(مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والصلت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن مُحَمَّد الخاركي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالراء الْمَفْتُوحَة وَالْكَاف: نِسْبَة إِلَى خارك، اسْم مَوضِع من سَاحل فَارس يرابط فِيهِ، وروح بِفَتْح الرَّاء، وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن سَخْبَرَة الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن ابْن أبي عمر وَعَن أبي بكر بن خَلاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (عَن ابْن مَسْعُود وَمَا كُنْتُم تستترون) ، أَي: قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُم تستترون} قَوْله: (رجلَانِ من قُرَيْش وختن لَهما) ، الختن كل من كَانَ من قبل الْمَرْأَة. قَوْله: (أَو رجلَانِ من ثَقِيف) ، شكّ من أَبى معمر الرَّاوِي عَن ابْن مَسْعُود، وَأخرجه عبد الرَّزَّاق من طَرِيق وهب بن ربيعَة عَن ابْن مَسْعُود، بِلَفْظ ثقفي وختنان قرشيان، وَلم يشك. وَقَالَ ابْن بشكوال فِي (المبهمات) عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْقرشِي الْأسود بن عبد(19/154)
يَغُوث الزُّهْرِيّ، والثقفيان الْأَخْنَس بن شريق وَالْآخر لم يسم، وَذكر الثَّعْلَبِيّ وَتَبعهُ الْبَغَوِيّ: أَن الثَّقَفِيّ عبديا ليل بن عَمْرو بن عُمَيْر، والقرشيان: صَفْوَان وَرَبِيعَة ابْنا أُميَّة بن خلف، وَذكر إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ فِي تَفْسِيره: إِن الْقرشِي صَفْوَان بن أُميَّة والثقفيان: ربيعَة وحبِيب ابْنا عَمْرو، وَالله أعلم. قَوْله: (يسمع بعضه) أَي: مَا جهرنا قَوْله: (لَئِن كَانَ يسمع بعضه لقد يسمع كُله) بَيَان الْمُلَازمَة أَن نِسْبَة جَمِيع المسموعات إِلَيْهِ وَاحِدَة والتخصيص تحكم.
2 - (بابُ قَوْلُهُ: {وذلِكُمْ ظَنُّكُمُ} (فصلت: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين} ، وَفِي بعض النّسخ سَاق الْآيَة بِتَمَامِهَا. قَوْله: (ذَلِكُم) إِشَارَة إِلَى قَوْله: {وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: 22) وذلكم رفع على الِابْتِدَاء وظنكم خَبره. قَوْله: {الَّذِي ظننتم بربكم} صفة: لظنكم، قَوْله: {أراداكم} ، خبر يعد خبر أَي: أهلككم، وَقيل: ظنكم بدل من ذَلِكُم، وأرادكم هُوَ الْخَبَر.
7184 - حدَّثنا الحمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا مَنْصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ أبي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ قُرْشِيَّانِ وثَقَفِيٌّ أوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقهُ قُلُوبِهِمْ فَقالَ أحَدُهُمْ أتُرَوْنَ أنَّ الله يَسْمَعُ مَا نَقُولُ قَالَ الآخَرُ يَسْمَعُ إنْ جَهَرْنا ولاَ يَسْمَعُ إنْ أخْفَيْنا وَقَالَ الآخَرُ إنْ كانَ يَسْمَعُ إذَا جَهَرْنا فإنَّهُ يَسْمَعُ إذَا أخْفَيْنا فأنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أبْصارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} (فصلت: 22) .
وكانَ سُفْيانُ يُحَدِّثُنا بِهاذَا فَيَقُولُ حدّثنا مَنْصُورٌ أوِ ابنُ أبي نجِيحٍ أوْ حُمَيْدٌ أحُدهُمْ أوِ اثْنانِ مِنْهُمْ ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى مَنْصُورٍ وَتَرَكَ ذالِكَ مرَارًا غَيْرَ واحِدَةٍ. (انْظُر الحَدِيث 6184 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عبد الله بن الزبي رالحميدي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن مُجَاهِد عَن أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرَة عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
قَوْله: (عِنْد الْبَيْت) أَي: عِنْد الْكَعْبَة. قَوْله: (كَثِيرَة شَحم بطونهم) ، بِإِضَافَة بطونهم إِلَى شَحم، وَكَذَا إِضَافَة قُلُوبهم إِلَى قَوْله: (فقه) ، وكثيرة وقليلة منونتان هَكَذَا عِنْد الْأَكْثَرين، ويروى: كثير وَقَلِيل، بِدُونِ التَّاء وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه التَّأْنِيث إِمَّا أَن يكون الشَّحْم مُبْتَدأ واكتسب التَّأْنِيث من الْمُضَاف إِلَيْهِ، وكثيرة خَبره، وَإِمَّا أَن تكون التَّاء للْمُبَالَغَة نَحْو: رجل عَلامَة، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه: عَظِيمَة بطونهم قَلِيل فقههم. قَوْله: (إِن أخفينا) ويروى: إِن خافتنا، وَهُوَ نَحوه لِأَن المخافتة والخفت إسرار النُّطْق.
قَوْله: (وَكَانَ سُفْيَان يحدثنا)
إِلَى آخِره من كَلَام الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ فِيهِ وتردده أَولا وَالْقطع آخرا ظَاهر لَا يقْدَح لِأَنَّهُ تردد أَولا فِي أَي هَؤُلَاءِ الثِّقَات وهم: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَعبد الله بن أبي نجيح وَحميد بِضَم الْحَاء ابْن قيس أَبُو صَفْوَان الْأَعْرَج مولى عبد الله بن الزبير، وَلما ثَبت لَهُ الْيَقِين اسْتَقر عَلَيْهِ.
3 - ( {فإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (فصلت: 42)
تَمام الْآيَة: {وَإِن يستعتبوا فَمَا هم من المعتبين} أَي: فَإِن يصبروا على أَعمال أهل النَّار فَالنَّار مثوى لَهُم، أَي: منزل إِقَامَة لَهُم وَإِن يستعتبوا أَي: وَإِن يسترضوا ويطلبوا العتبى فَمَا هم من المعتبين أَي: المرضيين، والمعتب الَّذِي قد قبل عتابه، وَأجِيب إِلَى مَا سَأَلَ، وقرىء بِضَم أَوله وَكسر التَّاء لأَنهم فارقوا دَار الْعَمَل.
حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ حَدثنَا يَحْيَى حَدثنَا سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ حدّثني مَنْصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله بِنَحْوِهِ.(19/155)
عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان. قَوْله: (نَحوه) أَي بِنَحْوِ الحَدِيث الْمَذْكُور.
24 - (سورَةُ حم عسق)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة حم عسق، وَفِي بعض النّسخ: سُورَة حم عسق، وَفِي بَعْضهَا: وَمن سُورَة حم عسق، قيل: قطع حم عسق وَلم يقطع كهيعص وألم والمص، لكَونهَا بَين سور أوائلها حم فجرت مجْرى نظائرها قبلهَا وَبعدهَا فَكَانَ حم مُبْتَدأ وعسق خَبره، وَلِأَنَّهُمَا عدا آيَتَيْنِ وعدت أخواتها الَّتِي كتبت مَوْصُولَة آيَة وَاحِدَة، وَقيل: لِأَنَّهَا خرجت من حيّز الْحُرُوف وَجعلت فعلا مَعْنَاهُ: حم أَي قضى مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة بِخِلَاف أخواتها لِأَنَّهَا حُرُوف التهجي لَا غير، وَذكروا فِي: حم عسق مَعَاني كَثِيرَة لَيْسَ لَهَا مَحل هَهُنَا، وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ مقَاتل: وفيهَا من الْمدنِي قَوْله: {ذَلِك الَّذِي يبشر الله عباده} (الشورى: 32) . وَقَوله: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} إِلَى قَوْله: {أُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} (الشورى: 93 14) . وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَثَمَانُونَ حرفا، وَثَمَانمِائَة وست وَسِتُّونَ كلمة، وَثَلَاث وَخَمْسُونَ آيَة. فَافْهَم.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر رَضِي الله عَنهُ.
ويُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَقِيماً الَّتي لَا تَلِدُ
أَي: يذكر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَيجْعَل من يَشَاء عقيماً} (الشورى: 05) الْمَرْأَة الَّتِي لَا تَلد، وَهَذَا ذكره جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس وَكَأن فِيهِ ضعفا وانقطاعاً، فَلذَلِك لم يجْزم بِهِ فَقَالَ: وَيذكر.
رُوحاً مِنْ أمْرِنا: القُرْآنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحاً من أمرنَا} (الشورى: 25) وَفسّر الرّوح بِالْقُرْآنِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن السّديّ: وَحيا، وَعَن الْحسن: رَحْمَة.
وَقَالَ مُجاهِدٌ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا بذرؤكم فِيهِ} (الشورى: 11) أَن معنى: يذرؤكم نَسْلًا بعد نسل من النَّاس والأنعام، أَي: يخلقكم وَكَذَا فسره السّديّ، يُقَال: ذَرأ الله الْخلق يذرأ هم ذَرأ إِذا خلقهمْ وَكَأَنَّهُ مُخْتَصّ بِخلق الذُّرِّيَّة بِخِلَاف برأَ لِأَنَّهُ أَعم. قَوْله: (يذرؤكم فِيهِ) قَالَ القتبي: أَي فِي الرّوح، وَخطأ من قَالَ: فِي الرَّحِم، لِأَنَّهَا مُؤَنّثَة وَلم تذكر.
لَا حُجَّةَ بَيْنَنا: لَا خُصُومَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم الله يجمع بَيْننَا} (الشورى: 51) وَفسّر الْحجَّة بِالْخُصُومَةِ، وَفِي بعض النّسخ: لَا خُصُومَة بَيْننَا وَبَيْنكُم.
مِنْ طرْفٍ خَفِيّ: ذَلِيلٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خاشعين من الذل ينظرُونَ من طرف خَفِي} (الشورى: 54) وَفسّر قَوْله: (خَفِي) بقوله: (ذليل) ، وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد، وَعَن السّديّ: يسارقون النّظر، وَتَفْسِير مُجَاهِد من لَازم هَذَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} يَتَحَرَّكْنَ وَلَا يَجْرِينَ فِي البحْرِ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد لِأَن مَا قبله تَفْسِير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته الْجوَار فِي الْبَحْر كالأعلام أَن يَشَأْ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظَهره} (الشورى: 23) وَفَسرهُ بقوله: (يتحركن وَلَا يجرين فِي الْبَحْر) أَي: يضطربن بالأمواج وَلَا يجرين فِي الْبَحْر لسكون الرّيح. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا أَيْضا عَن مُجَاهِد، ورد عَلَيْهِ بقوله: وَقَالَ غَيره: أَي: غير مُجَاهِد كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَمن آيَاته) أَي: وَمن علاماته الدَّالَّة على عَظمته ووحدانيته، الْجَوَارِي يَعْنِي: السفن وَهِي جمع جَارِيَة وَهِي السائرة فِي الْبَحْر. قَوْله: (كالاعلام) أَي: كالجبال جمع علم بِفتْحَتَيْنِ، وَعَن الْخَلِيل: كل شَيْء مُرْتَفع عِنْد الْعَرَب فَهُوَ علم. قَوْله: (واكد) أَي: ثوابت وقوفاً (على ظَهره) أَي: ظهر المَاء لَا تجْرِي. فَإِن قلت: بَين قَوْله: راوكد، وَبَين قَوْله: يتحركن، مُنَافَاة؟ لِأَن الراكد لَا يَتَحَرَّك. قلت: هَذَا أَمر نسبي، وَأَيْضًا لَا يلْزم من وُقُوفه فِي المَاء عدم الْحَرَكَة أصلا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون راكداً وَهُوَ يَتَحَرَّك، وَلَيْسَ هَذَا الركود على ظهر المَاء كالركود على ظهر الأَرْض، وَبِهَذَا يسْقط قَول من زعم أَن كَلمه: لَا، سَقَطت من قَوْله يتحركن، قَالَ: لأَنهم فسروا رواكد بسواكن.(19/156)
شَرَعُوا ابْتَدَعُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله} (الشورى: 12) وَفسّر: (شرعوا) بقوله: (ابتدعوا) وَلَكِن لَيْسَ هَذَا الْموضع مَحل ذكره لِأَنَّهُ فِي سُورَة حم عسق.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {إلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا أسئلكم عَلَيْهِ أجرا إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} وَفِي التَّفْسِير: لما قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة كَانَت تنوبه نَوَائِب وَحُقُوق وَلَيْسَ فِي يَده سَعَة، فَقَالَ الْأَنْصَار: يَا رَسُول الله! قد هدَانَا الله تَعَالَى على يَديك وتنوبك نَوَائِب وَحُقُوق وَلَيْسَ فِي يدك سَعَة فنجمع لَك من أَمْوَالنَا فَاسْتَعِنْ بِهِ على ذَلِك. فَنزلت هَذِه الْآيَة، قل: يَا مُحَمَّد لَا أسئلكم على مَا أتيتكم بِهِ من الْبَينَات وَالْهدى أجرا إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى إلاَّ أَن تودوا الله عز وَجل وتقربوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، فَقَالَ هُوَ الْقُرْبَى إِلَى الله تَعَالَى، وَعَن عِكْرِمَة وَمُجاهد وَالسُّديّ وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة: مَعْنَاهُ إلاَّ أَن تودوا قَرَابَتي وعترتي وتحفظوني فيهم، وَاخْتلف فِي قرَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: عَليّ وَفَاطِمَة وابناهما، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ولد عبد الْمطلب، وَقيل: هم الَّذين تحرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة وَيقسم عَلَيْهِم الْخمس وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب الَّذين لم يفترقوا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام.
8184 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا عَنْ عَبْدِ المَلِكَ بنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسا عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنهُما أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَال ابنُ عَبَّاسٍ عَجِلْتَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلاَّ كَانَ لَهُ فِيهمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ إلاَّ أنْ تصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن بشار بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن غنْدر بِهِ، وَحَاصِل كَلَام ابْن عَبَّاس أَن جَمِيع قُرَيْش أقَارِب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ المُرَاد من الْآيَة بَنو هَاشم وَنَحْوهم، كَمَا يتَبَادَر الذِّهْن إِلَى قَول سعيد بن جُبَير، وَالله أعلم.
( {سُورَةُ حم الزُّخْرُفِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة حم الزخرف، وَفِي بعض النّسخ سُورَة الزخرف، وَفِي بَعْضهَا وَمن سُورَة حم الزخرف. قَالَ مقَاتل: هِيَ مَكِّيَّة غير آيَة وَاحِدَة وَهِي: {واسأل من أرسلنَا} (الزخرف: 54) الْآيَة. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة لَا اخْتِلَاف فِيهَا وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة حرف، وَثَمَانمِائَة وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة، وتسع وَثَمَانُونَ آيَة وَقَالَ ابْن سَيّده: الزخرف الذَّهَب، هَذَا الأَصْل ثمَّ سعى كل زِينَة زخرفا، وزخرف الْبَيْت زينته، وكل مَا زوق وزين فقد زخرف.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
عَلَى أُمَّةٍ عَلَى إمَامٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} (الزخرف: 22) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر. وَقَالَ مُجَاهِد: فَذكره. فَقَالَ بَعضهم: وَالْأول أولى. قلت: لَيْت شعري مَا وَجه الْأَوْلَوِيَّة، وَفسّر الْأمة بِالْإِمَامِ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وروى عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد على مِلَّة، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، على أمة. أَي: على دين، وَمن طَرِيق السّديّ مثله.
{وَقِيلَهُ يَا رَبِّ} تَفْسِيرُهُ أيَحْسَبُونَ أنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَلا نَسْمَعُ قِبلَهُمْ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وقيله يَا رب إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ} (الزخرف: 88) وَفسّر؟ (قيله يَا رب) بقوله: (أيحسبون) إِلَى آخِره، وَبَعْضهمْ أنكر هَذَا التَّفْسِير. فَقَالَ: إِنَّمَا يَصح لَو كَانَت التِّلَاوَة وقيلهم، وَإِنَّمَا الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وقيله يَا رب، يَعْنِي: وَقَول مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شاكيا إِلَى ربه، وَقيل؛ مَعْنَاهُ وَعِنْده علم السَّاعَة وَعلم قيله، وَقَالَ النَّسَفِيّ: قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة، وقيله بِكَسْر اللَّام على معنى: {وَعِنْده علم السَّاعَة} (الزخرف: 58) وَعلم قيله. وَهَذَا الْعَطف غير قوي فِي الْمَعْنى مَعَ وُقُوع(19/157)
الْفَصْل بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ بِمَا لَا يحسن اعتراضا مَعَ تنافر النّظم، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْح اللَّام وَالْأَوْجه أَن يكون الْجَرّ وَالنّصب على إِضْمَار حرف الْقسم وحذفه، وَيكون قَوْله: إِن هَؤُلَاءِ قوم، جَوَاب الْقسم كَأَنَّهُ قيل: وَأقسم بقيله يَا رب إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ، وَالضَّمِير فِي قيله. للرسول، وأقسام الله بقيله رفع مِنْهُ وتعظيم لرعايته والتجائه إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} لَوْلا أنّ جَعلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ كُفَّارا لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الكُفَّارِ سُقُفا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ وَهِيَ دَرَجٌ: وَسُرُرَ فِضَةٍ.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون} وَقد فسر ابْن عَبَّاس هَذِه الْآيَة بِمَا ذكره البُخَارِيّ بقوله: لَوْلَا أَن جعل النَّاس إِلَى آخِره، وَهَذَا رَوَاهُ ابْن جرير عَن أبي عَاصِم، حَدثنَا يحيى حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَنهُ، وَفِي التَّفْسِير: لَوْلَا أَن يكون النَّاس مُجْتَمعين على الْكفْر فيصيروا كلهم كفَّارًا. قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن ابْن زيد، يَعْنِي لَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة فِي طلب الدُّنْيَا واختيارها على العقبى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن، لبيوتهم، بدل اشتماله من قَوْله: لمن يكفر، وَيجوز أَن يَكُونَا بِمَنْزِلَة اللامين فِي قَوْلك: وهبت لَهُ ثوبا لقميصه. قَوْله: (سقفا) ، قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عمر وبفتح السِّين على الْوَاحِد وَمَعْنَاهُ الْجمع، وَالْبَاقُونَ بِضَم السِّين، وَالْقَاف على الْجمع، وَقيل: هُوَ جمع سقوف جمع الْجمع. قَوْله: (ومعارج) يَعْنِي: مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم، وَهُوَ جمع معرج، وَاسم جمع لمعراج. قَوْله: (عَلَيْهَا يظهرون) أَي: على المعارج يعلونها يَعْنِي: يعلون سطوحها.
مُقْرِنِينَ مِطِيقِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} (الزخرف: 31) وَفَسرهُ بقوله: (مطيقين) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس وَفِي التَّفْسِير: مُقرنين أَي: مطيقين ضابطين قاهرين، وَقيل: هُوَ من الْقرن، كَأَنَّهُ أَرَادَ: وَمَا كُنَّا لَهُ مقاومين فِي الْقُوَّة.
آسَفُونا أسْخَطُونا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} (الزخرف: 55) وَفَسرهُ: (آسفونا) بقوله: (أسخطونا) كَذَا فسره ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طلة، عَنهُ وَقيل: مَعْنَاهُ أغضبونا. وَقيل: خالفونا وَالْكل مُتَقَارب.
يَعْشُ يَعْمَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين} وَفسّر: (يَعش) بقوله: (يعمى) من عشا يعشو، وَهُوَ النّظر ببصر ضَعِيف، وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس بِالْفَتْح أَي: يظلم عَنهُ ويضعف بَصَره، وَعَن الْقرظِيّ: وَمن يول ظَهره، (وَذكر الرَّحْمَن) هُوَ الْقُرْآن. قَوْله: (نقيض لَهُ) أَي: نضمه إِلَيْهِ ونسلطه عَلَيْهِ، (فَهُوَ لَهُ قرين) فَلَا يُفَارِقهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ} (الزخرف: 5) أيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لَا تُعَاقِبُونَ عَلَيْهِ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا إِن كُنْتُم قوما مسرفين} وَفَسرهُ بقوله: {أَي تكذبون بِالْقُرْآنِ ثمَّ لَا تعاقبون} ؟ يَعْنِي: أفنعرض عَن المكذبين بِالْقُرْآنِ وَلَا تعاقبهم؟ وَقيل: مَعْنَاهُ أفنضرب عَنْكُم الْعَذَاب ونمسك ونعرض عَنْكُم ونترككم فَلَا نعاقبكم على كفركم، وَرُوِيَ هَذَا أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، وَالسُّديّ، وَعَن الْكسَائي: أفنطوي عَنْكُم الذّكر طيا فَلَا تدعون وَلَا توعظون؟ وَهَذَا من فصيحات الْقُرْآن، وَالْعرب تَقول لمن أمسك على الشَّيْء مَا أعرض عَنهُ صفحا والأصلح فِي ذَلِك أَنَّك إِذا أَعرَضت عَنهُ وليته صفحة عُنُقك، وَضربت عَن كَذَا وأضربت إِذا تركته، وَأَمْسَكت عَنهُ، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ، وَقَالَ مُجَاهِد.
وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا وَمضى مثل الْأَوَّلين} وَفَسرهُ بقوله: (سنة الْأَوَّلين) وَقيل: سنتهمْ وعقوبتهم.
{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} يَعْنِي الإبِلَ وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ(19/158)
قد مر عَن قريب معنى، مُقرنين، وَالضَّمِير فِي: لَهُ، يرجع إِلَى الْأَنْعَام الْمَذْكُورَة قبله، وَإِنَّمَا ذكر الضَّمِير لِأَن الْأَنْعَام فِي معنى الْجمع كالجند والجيش والرهط وَنَحْوهَا من أَسمَاء الْجِنْس، قَالَه الْفراء، وَقيل: ردهَا إِلَى مَا.
يَنْشأُ فِي الحِلْيَةِ الجَوَارِي جَعَلْتُمُوهُنَّ لِلرَّحْمانِ وَلَدا فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} (الزخرف: 81) قَوْله: (ينشأ) ، أَي يكبر وَيثبت فِي الْحِلْية أَي فِي الزِّينَة، وَفَسرهُ بقوله: الْجَوَارِي يَعْنِي: جعلتم الْإِنَاث ولد الله حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات الله فَكيف تحكمون بذلك وَلما ترْضونَ بِهِ لأنفسكم؟ وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة. فِي قَوْله: (أَو من ينشأ فِي الْحِلْية) ، قَالَ: الْبَنَات. وَقِرَاءَة الْجُمْهُور: ينشاه، بِفَتْح أَوله مخففا، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص بِضَم أَوله مُثقلًا وَقَرَأَ الجحدري بِضَم أَوله مخففا.
{لَوْ شَاءَ الرَّحْمانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يَعْنُونَ الأوْثانَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ علْم} (الزخرف: 02) أيْ الأوْثانُ إنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو شَاءَ الرحمان مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} ، قَوْله: (يعنون الْأَوْثَان) ، هُوَ قَول مُجَاهِد، وَقَالَ قَتَادَة: يعنون الْمَلَائِكَة وَالضَّمِير فِي: مَا عبدناهم، يرجع إِلَى الْأَوْثَان عِنْد عَامَّة الْمُفَسّرين، وَنزلت منزلَة من يعقل فَذكر الضَّمِير. قَوْله: (مَا لَهُم بذلك) ، أَي: فِيمَا يَقُولُونَ: (إِن هم أَلا يخرصون) أَي: يكذبُون.
فِي عَقبِهِ: وَلَدِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبَة لَعَلَّهُم يرجعُونَ} (الزخرف: 82) وَفسّر الْعقب بِالْوَلَدِ وَالْمرَاد بِهِ الْجِنْس حَتَّى يدْخل ولد الْوَلَد، وَقَالَ ابْن فَارس: بل الْوَرَثَة كلهم عقب، والكلمة الْبَاقِيَة. قَوْله: (لَا إلاه إِلَّا الله) .
مُقْتَرِنِينَ يَمْسُونَ مَعا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترنين} (الزخرف: 35) وَفسّر: (مُقرنين) بقوله: (يَمْشُونَ مَعًا) أَي: يَمْشُونَ مُجْتَمعين مَعًا ويمشون مُتَتَابعين يعاون بَعضهم بَعْضًا.
سَلَفا قَوْمُ فِرْعُونَ سَلَفا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمَثَلاً عِبْرَةً.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فجعلناهم سلفا ومثلاً للآخرين} قَوْله: (جعلناهم) ، أَي: جعلنَا قوم فِرْعَوْن سلفا لكفار هَذِه الْأمة، وَفِي التَّفْسِير: سلفا: هم الماضون المتقدمون من الْأُمَم. قَوْله: (ومثلاً) ، أَي: عِبْرَة للآخرين أَي؛ لمن يَجِيء بعدهمْ، وقرىء بِضَم السِّين وَاللَّام وفتحهما.
يَصِدُّونَ يَضِجُّونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {إِذا قَوْمك مِنْهُم يصدون} (الزخرف: 75) وَفَسرهُ بقوله: {يضجون} بِالْجِيم وبكسر الضَّاد، وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَالْمَعْنى: يعرضون، وَقَالَ الْكسَائي: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى، وَأنكر بَعضهم الضَّم وَقَالَ: لَو كَانَ مضموما لَكَانَ يُقَال: عَنهُ، وَلم يقل: مِنْهُ وَقيل: معنى، مِنْهُ، من أَجله فَلَا إِنْكَار فِي الضَّم.
مُبْرِمُونَ مجْمعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم أبرموا أمرا فَإنَّا مبرمون} (الزخرف: 97) وَفَسرهُ بقوله: (مجمعون) وَقيل: محكمون، وَالْمعْنَى: أم أحكموا أمرا فِي الْمَكْر برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإنَّا مبرمون محكمون.
أوَّلُ العَابِدِينَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {قل إِن كَانَ للرحمان ولد فَأَنا أول العابدين} (الزخرف: 18) وَفسّر العابدين بِالْمُؤْمِنِينَ، وَوَصله الْفرْيَابِيّ عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: أول الْمُؤمنِينَ بِاللَّه فَقولُوا مَا شِئْتُم، وَفِي التَّفْسِير: يَعْنِي: إِن كَانَ للرحمن ولد فِي زعمكم وقولكم فَأَنا أول الْمُوَحِّدين الْمُؤمنِينَ بِاللَّه فِي تكذيبكم والجاحدين مَا قُلْتُمْ من أَن لَهُ ولدا، وَعَن ابْن عَبَّاس: يَعْنِي مَا كَانَ للرحمان ولد وَأَنا أول الشَّاهِدين لَهُ بذلك.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (الزخرف: 62) العَرَبُ تَقُولُ نَحْنُ مِنْكَ البَرَاء وَالخَلاءُ وَالوَاحِدُ وَالاثنانِ(19/159)
وَالجَمْعُ مِنَ المُذَكَّرِ وَالمُؤَنَثِ يُقالُ فِيهِ بَرَاءٌ لأنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَوْ قَالَ بَرِيءٌ لَقِيلَ فِي الاثْنَيْنِ بَرِيَآنِ وَفِي الجَمَعِ بَرِيؤُنَ: وَقَرَأَ عَبْدُ الله إنَّنِي بَرِيءٌ بِالْيَاءِ.
أَي: وَقَالَ غير مُجَاهِد لِأَن مَا قبله قَوْله مُجَاهِد، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ، وَقَالَ غَيره: قَوْله: (إِنَّنِي برَاء) ، وأوله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء} (الزخرف: 62) يَعْنِي: وَاذْكُر يَا مُحَمَّد إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره، وَهَذَا كُله ظَاهر. قَوْله: (يُقَال فِيهِ برَاء) ، لِأَنَّهُ مصدر وضع مَوضِع النَّعْت. يُقَال: بَرِئت مِنْك وَمن الدُّيُون والعيوب بَرَاءَة، وبرئت من الْمَرَض برَاء بِالضَّمِّ، وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ: ابرأت من الْمَرَض برَاء بِالْفَتْح. قَوْله: (وَفِي الْجمع: بريئون) ، وَيُقَال أَيْضا: بُرَآء مثل فَقِيه وفقهاء، وبراء أَيْضا بِكَسْر الْبَاء مثل: كريم وكرام، وأبراء مثل شرِيف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وَفِي الْمُؤَنَّث، يُقَال: امْرَأَة بريئة وهما بريئتان وَهن بريئات وبرايا، وَهَذِه لُغَة أهل نجد، وَالْأولَى لُغَة أهل الْحجاز. قَوْله: (وَقَرَأَ عبد الله) ، أَي: ابْن مَسْعُود، ذكره الْفضل بن شَاذان فِي كتاب (الْقرَاءَات) بِإِسْنَادِهِ عَن طَلْحَة بن مصرف عَن يحيى بن وثاب عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله.
وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا يتكؤون وزخرفا} (الزخرف: 43، 53) وَفَسرهُ بِالذَّهَب، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبَاب.
مَلائِكَةٌ يَخْلُفونَ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} وَفسّر (يخلفون) بقوله: (يخلف بَعضهم بَعْضًا) وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة، وَزَاد فِي آخِره مَكَان ابْن آدم.
1 - (بابٌ قَوْلِهِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (الزخرف: 77) الآيَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَنَادَوْا} أَي: الْكفَّار فِي النَّار ينادون لمَالِك خَازِن النَّار {ليق علينا رَبك} أَي: ليمتنا فنستريح، فَيُجِيبهُمْ مَالك بعد ألف سنة: إِنَّكُم مَاكِثُونَ فِي الْعَذَاب، وَفِي تَفْسِير الْجَوْزِيّ: ينادون مَالِكًا أَرْبَعِينَ سنة فَيُجِيبهُمْ بعْدهَا إِنَّكُم مَاكِثُونَ. ثمَّ ينادون رب الْعِزَّة رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَلَا يُجِيبهُمْ مثل عمر الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون.
9184 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حدَّثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْروٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ ابنِ يَعْلَى عَنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ عَلَى المِنْبَرَ: {وَنَادُوا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح ويعلى بن أُميَّة والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب بَدْء الدُّنْيَا فِي بَاب صفة النَّار فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره.
وَقَالَ قَتادَةُ مَثَلاً لِلآخِرِينَ عِظَةَ لِمَنْ بَعْدَهُ
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {فجعلناهم سلفا ومثلاً للآخرين} (الزخرف: 65) أَي: عظة لمن يَأْتِي بعدهمْ، والعظة الموعظة أَصْلهَا وعظة، حذفت الْوَاو تبعا للحذف فِي فعلهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ مُقْرِنِينَ ضَابِطِينَ يُقالُ فُلانٌ مُقْرِنٌ لِفُلانٍ ضَابِطٌ لَهُ
أَي: قَالَ غير قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
وَالأكْوَابُ الأبَارِيقُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يُطَاف عَلَيْهِم بصحاف من ذهب وأكواب} الْآيَة. وَهُوَ جمع كوبة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الكوب الْكوز بِلَا عُرْوَة.(19/160)
{أَوَّلُ العَابِدِينَ} أيْ: مَا كَانَ فَأنَا أوَّلُ الآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبْدٌ، وَقَرَأَ عَبْدُ الله وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ وَيُقَالُ أوَّلُ الْعابِدِينَ الجَاحِدِينَ مِنْ عَبْدَ يَعْبَدُ
قد مر عَن قريب. قَوْله: {أول العابدين} أول الْمُؤمنِينَ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ، وَأعَاد هُنَا أَيْضا لأجل معنى آخر على مَا لَا يخفى وَلكنه لَو ذكر كُله فِي مَوضِع وَاحِد لَكَانَ أولى، وَفسّر هُنَا. أول العابدين، بقوله: أَي مَا كَانَ فَأَنا أول الآنفين. فَقَوله: (أَي مَا كَانَ) تَفْسِير قَوْله: {إِن كَانَ للرحمن ولد} وَكلمَة أَن نَافِيَة أَي: مَا كَانَ لَهُ ولد قَوْله: (فَأَنا أول الآنفين) تَفْسِير قَوْله: (أول العابدين) لِأَن العابدين هُنَا مُشْتَقّ من عبد بِكَسْر الْبَاء إِذا أنف واشتدت أنفته. قَوْله: (وهما لُغَتَانِ) ، يَعْنِي: عَابِد وَعبد، فَالْأول بِمَعْنى الْمُؤمن، وَالثَّانِي بِمَعْنى الآنف، وَعبد بِكَسْر كَذَا بِخَط الدمياطي، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط بِفَتْحِهَا، وَقَالَ: وَكَذَا ضبط فِي كتاب ابْن فَارس، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: العَبْد، بِالتَّحْرِيكِ: الْغَضَب، وَعبد بِالْكَسْرِ إِذا أنف. قَوْله: (من عبد يعبد) ، بِمَعْنى: جحد بِكَسْر الْبَاء فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الْمُضَارع هَكَذَا هُوَ فِي أَكثر النّسخ، ويروى بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّم فِي الْمُضَارع، وَجَاء الْكسر فِي الْمُضَارع أَيْضا وَقَالَ ابْن التِّين، وَلم يذكر أهل اللُّغَة عبد بِمَعْنى جحد، ورد عَلَيْهِ بِمَا ذكره مُحَمَّد بن عَزِيز السجسْتانِي صَاحب (غَرِيب الْقُرْآن) أَن معنى العابدين الآنفين الجاحدين، وَفسّر على هَذَا {إِن كَانَ لَهُ ولد فَأَنا أول الجاحدين} وَهَذَا مَعْرُوف من قَول الْعَرَب إِن كَانَ هَذَا الْأَمر قطّ يَعْنِي: مَا كَانَ، وَعَن السّديّ: إِن بِمَعْنى: لَو أَي لَو كَانَ للرحمن ولد كنت أول من عَبده بذلك، لَكِن لَا ولد لَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة، إِن بِمَعْنى: مَا وَالْفَاء بِمَعْنى: الْوَاو. أَي: مَا كَانَ للرحمن ولد وَأَنا أول العابدين. قَوْله: (وَقَرَأَ عبد الله) ، يَعْنِي: ابْن مَسْعُود، وَقَالَ الرَّسُول: يَا رب مَوضِع {وقيله يَا رب} (الزخرف: 88) وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا عِنْد قَوْله: (وقيله يَا رب) ، على مَا لَا يخفى.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي أُمِّ الكِتابِ: جُمْلَةِ الكِتابِ أصْلِ الكِتابِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا لعَلي حَكِيم} (الزخرف: 4) وَفسّر قَتَادَة بقوله جملَة الْكتاب وَأَصله وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ أم الْكتاب اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي عِنْد الله تَعَالَى مِنْهُ نسخ.
2 - (بابٌ: {أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ صَفْحا إنْ كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ} (الزخرف: 5) مُشْرِكِينَ وَالله لَوْ أنَّ هَذا القُرْآنَ رُفِعَ حَيْثُ رَدَّهُ أوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ لَهَلَكُوا)
مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب فِي قَوْله: {أفنضرب عَنْكُم الذّكر} أَي: يكذبُون بِالْقُرْآنِ. قَوْله: (إِن كُنْتُم) ، يَعْنِي: بِأَن كُنْتُم على معنى الْمُضِيّ، وَقيل: مَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} (الْبَقَرَة: 872) وَقَوله: إِن أردن تَحَصُّنًا. قَوْله: (مسرفين) ، أَي: مُشْرِكين مجاوزين الْحَد وَأمر الله تَعَالَى، وَقَالَ قَتَادَة: وَالله لَو كَانَ هَذَا الْقُرْآن رفع حِين رده أَوَائِل هَذِه الْأمة لهلكوا وَلَكِن الله عز وَجل عَاد بِعِبَادَتِهِ وَرَحمته فكرره عَلَيْهِم ودعاهم إِلَيْهِ عشْرين سنة أَو مَا شَاءَ الله من ذَلِك.
{فَأَهْلَكْنا أشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ} (الزخرف: 8) عُقُوبَةُ الأوَّلِينَ
كَذَا رُوِيَ عَن قَتَادَة، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ، وَفسّر: (مثل الْأَوَّلين) بقوله: (عُقُوبَة الْأَوَّلين) .
جُزْءًا عِدْلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين} (الزخرف: 51) وَفسّر جُزْءا بقوله: (عدلا) بِكَسْر الْعين، وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة، وَفِي التَّفْسِير: أَي: نَصِيبا وبعضا. وَذَلِكَ قَوْلهم: الْمَلَائِكَة بَنَات الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
قَوْله: (وَجعلُوا) ، أَي: الْمُشْركُونَ. قَوْله: (لَهُ) ، أَي: الله تَعَالَى.
44 - ( {سُورَةُ ح م الدُّخَانِ} )
: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة ح م الدُّخان، وَفِي بعض النّسخ: الدُّخان بِدُونِ لفظ: ح م، وَفِي أَكثر النّسخ سُورَة ح م الدُّخان، قَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: لَا خلاف فِي ذَلِك، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَوَاحِد وثلاون حرفا وثلاثمائة وست وَأَرْبَعُونَ كلمة وتسع وَخَمْسُونَ آيَة وروى التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: من قَرَأَ ح م الدُّخان فِي لَيْلَة أصبح يسْتَغْفر لَهُ سَبْعُونَ(19/161)
ألف ملك. وَقَالَ: غَرِيب، وَعنهُ: من قَرَأَ الدُّخان فِي لَيْلَة الْجُمُعَة غفر لَهُ.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم) .
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ رَهْوا طَرِيقا يَابِسا وَيُقالُ رهْوَاً ساكِنا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {واترك الْبَحْر رهوا إِنَّهُم جند مغرقون} (الدُّخان: 42) وَفسّر: (رهوا) بقوله: (طَرِيقا يَابسا) وَعَن ابْن عَبَّاس: شعبًا. وَعنهُ: هُوَ أَن يتْرك كَمَا كَانَ، وَعَن ربيع: سهلاً. وَعَن الضَّحَّاك: دميا، وَيُقَال: طَرِيقا يَابسا، هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة.
عَلَى عِلْمِ عَلَى الْعَالَمِينَ عَلَى مَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد اخترناهم على علم على الْعَالمين} (الدُّخان: 23) وَفَسرهُ بقوله: (على من بَين ظهريه) أَي: على أهل عصره، وَهُوَ أَيْضا قَول مُجَاهِد. قَوْله: (وَلَقَد اخترناهم) ، يَعْنِي: مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل. قَوْله: (على الْعَالمين) ، يَعْنِي: عالمي زمانهم.
فَاعْتُلُوهُ ادْفَعُوهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خذوه فاعتلوه إِلَى سَوَاء الْجَحِيم} (الدُّخان: 74) وَفسّر (فاعتلوه) بقوله: (ادفعوه) وَفِي التَّفْسِير: سوقوه إِلَى النَّار يُقَال: عتله يعتله عتلاً إِذا سَاقه بالعنف وَالدَّفْع والجذب، وَالضَّمِير فِي: خذوه، يرجع إِلَى الأثيم. قَوْله: (إِلَى سَوَاء الْجَحِيم) ، أَي: وسط الْجَحِيم.
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عينٍ أنْكَحْنَاهُمْ حُورا عِينا يَحَارُ فِيها الطَّرْفُ
هَذَا ظَاهر، وروى الْفرْيَابِيّ من طَرِيق مُجَاهِد بِلَفْظ: أنكحناهم الْحور الْعين الَّتِي يحار فِيهَا الطّرف، بَيَان مخ سوقهن من وَرَاء ثيابهن، وَيرى النَّاظر وَجهه فِي كبد إِحْدَاهُنَّ كالمرآة من رقة الْجلد وصفاء اللُّؤْلُؤ وَعَن مُجَاهِد: يرى النَّاظر وَجهه فِي كَعْب إِحْدَاهُنَّ كالمرآة، وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: بعس عين وَهن الْبيض. وَمِنْه قيل لِلْإِبِلِ الْبيض عيس، بِكَسْر الْعين، واحده بعير أعيس وناقة عيساه، والحور جمع أحور، وَالْعين بِالْكَسْرِ جمع العيناء وَهِي الْعَظِيمَة الْعَينَيْنِ.
تَرْجُمُونِ القَتْلُ
وَكَذَا قَالَه قَتَادَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: ترجمون تشتمون. وَيَقُولُونَ: سَاحر، وَوَقع عِنْد غير أبي ذَر، وَيُقَال إِن ترجمون الْقَتْل.
وَرَهوَا سَاكِنا
هَذَا مُكَرر وَقد مضى عَن قريب، وَوَقع هَذَا أَيْضا لغير أبي ذَر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كَالمُهْلِ أسُودُ كَمُهْلِ الزَّيْتِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن شَجَرَة الزقوم طَعَام الأثيم كَالْمهْلِ يغلي فِي الْبُطُون} (الدُّخان: 34، 54) رَوَاهُ جُوَيْبِر فِي تَفْسِيره عَن الضَّحَّاك عَنهُ، وَعَن الْأَزْهَرِي. من الْمهل: الرصاص الْمُذَاب أَو الصفر أَو الْفضة، وكل مَا أديب من هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ مهل، وَقيل: الْمهل دردي الزَّيْت، وَقيل: الْمهل الصديد الَّذِي يسيل من جُلُود أهل النَّار، وَقَالَ اللَّيْث: الْمهل ضرب من القطران إلاَّ أَنه رَقِيق يضْرب إِلَى الصُّفْرَة وَهُوَ دسم تدهن بِهِ الْإِبِل فِي الشتَاء، وَقيل: السم، وَعَن الْأَصْمَعِي بِفَتْح الْمِيم الصديد وَمَا يسيل من الْمَيِّت، وَقيل: عكر الزَّيْت، والمهل أَيْضا كل شَيْء يتحات عَن الخبزة من الرماد وَغَيره، وَقيل: الْمهل إِذا ذهب الْجَمْر إلاّ بقايا مِنْهُ فِي الرماد تبينها إِذا حركها والرماد حَار من أجل تِلْكَ الْبَقِيَّة، وَقيل: هُوَ خشارة الزَّيْت، وَفِي (الْمُحكم) قيل: هُوَ خبث الْجَوَاهِر، يَعْنِي الذَّهَب وَالْفِضَّة والرصاص وَالْحَدِيد، وَفِي (تَفْسِير عبد عَن ابْن جُبَير) الْمهل الَّذِي انْتهى حره.
وَقَالَ غَيْرُهُ التُّبَّعُ مُلُوكُ اليَمَنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى تُبَّعا لأنَّهُ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ وَالظِّلُّ يُسَمَّى تُبَّعا لأنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أهم خير أم قوم تبع} (الدُّخان: 73) وَفسّر التبع بقوله: (مُلُوك الْيمن) وَهَذَا كل من ملك الْيمن يُسمى تبعا كَمَا أَن كل من ملك فَارِسًا يُسمى كسْرَى، وكل من ملك الرّوم يُسمى قيصرا. وكل من ملك الْحَبَشَة يُسمى النَّجَاشِيّ، وكل من ملك التّرْك يُسمى خاقَان.(19/162)
1 - (بابٌ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَارْتَقِبْ} أَي: انْتظر يَا مُحَمَّد، كَمَا يَجِيء الْآن. قَوْله: (بِدُخَان مُبين) ، ظَاهر.
قَالَ قَتَادَةُ فَارْتَقِبْ فَانْتَظِرْ
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: فَارْتَقِبْ، فانتظر يَا مُحَمَّد، وَيُقَال ذَلِك فِي الْمَكْرُوه، وَالْمعْنَى: انْتظر عَذَابهمْ، فَحذف مفعول فَارْتَقِبْ لدلَالَة مَا ذكر بعده عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله: {هَذَا عَذَاب أَلِيم} (الدُّخان: 11) وَقيل: (يَوْم تَأتي السَّمَاء) مفعول فَارْتَقِبْ، يُقَال: رقبته فارتقبته نَحْو نظرته فانتظرته.
0284 - حدَّثنا عَبْدَانُ عَنْ أبِي حَمْزَةَ عَنْ الأعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ مَضَى خَمْسٌ الدُّخانُ وَالرُّومُ وَالقَمَرُ وَالبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الدُّخان، وعبدان هُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: مُحَمَّد ابْن الميمون السكرِي، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح أَبُو الضُّحَى، ومسروق بن الأجدع، وَعبد الله بن مَسْعُود.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان، وَذكر فِيهِ خَمْسَة أَشْيَاء الدُّخان يَجِيء قبل قيام السَّاعَة فَيدْخل فِي أسماع الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يكون كالرأس الحنيذ ويعتري الْمُؤمن مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام وَتَكون الأَرْض كلهَا كبيت أوقد فِيهِ النَّار وَلم يَأْتِ بعد وَهُوَ آتٍ، وَالروم فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {ألم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1) وَالْقَمَر فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {وَانْشَقَّ الْقَمَر} (الْقَمَر: 1) وَالْبَطْشَة فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) أَي: الْقَتْل يَوْم بدر، وَاللزَام فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَوف يكون لزاما} (الْفرْقَان: 77) أَي: أسرى يَوْم بدر أَيْضا، وَقيل: هُوَ الْقَتْل.
2 - (بابٌ: {يَغْشَى النَّاسَ هاذَا عَذَابٌ ألِيمٌ} (الْفرْقَان: 11)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يغشى النَّاس} ، وَلَيْسَ فِي عَامَّة النّسخ لفظ بَاب. قَوْله: (يغشى النَّاس) ، أَي: يُحِيط النَّاس يمْلَأ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب يمْكث أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة أما الْمُؤمن فَيُصِيبهُ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام، وَأما الْكَافِر فَيصير كَالسَّكْرَانِ يخرج من مَنْخرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدبره. قَوْله: (هَذَا عَذَاب أَلِيم) ، أَي: يَقُول الله ذَلِك، وَقيل: يَقُوله النَّاس.
1284 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدِ الله إنَّمَا كَانَ هاذا لأنَّ قُرَيْشا لَمَّا اسْتَعْصوْا عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنيْ يُوصُفَ فأصابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أكَلُوا العِظامَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَها كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ فأنْزَلَ الله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان: 51) فَلَمَّا أصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إلَى حَالِهِمْ حِينَ أصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ فَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ} قَالَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: يغش النَّاس، وَيحيى هُوَ ابْن مُوسَى الْبَلْخِي، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح أَبُو الضُّحَى، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَقد ترْجم لهَذَا الحَدِيث ثَلَاث تراجم بعد هَذَا، وسَاق الحَدِيث بِعَيْنِه مطولا ومختصرا. وَقد مضى أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء وَفِي تَفْسِير الْفرْقَان(19/163)
مُخْتَصرا، وَفِي تَفْسِير الرّوم وَفِي تَفْسِير صَاد مطولا.
قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ هَذَا) ، يَعْنِي: الْقَحْط والجهد اللَّذين أصابا قُريْشًا حَتَّى رَأَوْا بَينهم وَبَين السَّمَاء كالدخان. قَوْله: (لما استعصوا) ، أَي: حِين أظهرُوا الْعِصْيَان وَلم يتْركُوا الشّرك. قَوْله: (كَسِنِي يُوسُف) ، وَهِي الَّتِي أخبر الله تَعَالَى عَنْهَا بقوله: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد} (يُوسُف: 84) . قَوْله: (فَأَصَابَهُمْ) ، تَفْسِير لما قبله، فَلذَلِك أَتَى بِالْفَاءِ. قَوْله: (جهد) ، بِالْفَتْح وَهُوَ الْمَشَقَّة الشَّديد. قَوْله: (فَأَنِّي) ، بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول، والآتي هُوَ أَبُو سُفْيَان وَكَانَ كَبِير مُضر فِي ذَلِك الْوَقْت. قَوْله: (قَالَ لمضر) أَي: لأبي سُفْيَان، وَأطلق عَلَيْهِ مُضر لكَونه كَبِيرهمْ وَالْعرب تَقول قتل قُرَيْش فلَانا يُرِيدُونَ بِهِ شخصا معينا مِنْهُم، وَكَثِيرًا يضيفون الْأَمر إِلَى الْقَبِيلَة وَالْأَمر فِي الْوَاقِع مُضَاف إِلَى وَاحِد مِنْهُم. قَوْله: (إِنَّك لجريء) أَي: ذُو جرْأَة حَيْثُ تشرك بِاللَّه وتطلب الرَّحْمَة مِنْهُ، وَإِذا كشف عَنْكُم الْعَذَاب إِنَّكُم عائدون إِلَى شرككم والإصرار عَلَيْهِ، قَوْله: (فسقوا) بِضَم السِّين وَالْقَاف على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (الرَّفَاهِيَة) ، يتخفيف الْفَاء وَكسر الْهَاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ التَّوَسُّع والراحة.
3 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ} (الدُّخان: 21)
قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْمُشْركين لما أَصَابَهُم قحط وَجهد (قَالُوا رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب) وَهُوَ الْقَحْط الَّذِي أكلُوا فِيهِ الميتات والجلود. قَالُوا: {إِنَّا مُؤمنُونَ} قَالَ الله عز وَجل: {إِنَّا كاشفو الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) أَي: إِلَى كفرهم، فعادوا فانتقم الله مِنْهُم يَوْم بدر.
2284 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعٌ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ الله فَقَالَ إنَّ مِنَ العِلْمِ أنْ تَقُولَ لِما لَا تَعْلَمُ الله أعْلَمُ إنَّ الله قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} (ص: 68) إنَّ قُرَيْشا لَمَا غَلَبُوا النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أكَلُوا فِيهَا العِظامَ المَيِّتَةَ مِنَ الجَهْدِ حَتَّى جَعَلَ أحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجُوعِ، {قَالُوا رَبَّنا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمُنُونَ} فَقِيلَ لَهُ أنَّا إنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا فَدَعا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا فَانْتَقَمَ الله مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان: 61) إلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إنَّا مُنْتَقِمُونَ} ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمَذْكُور، وَيحيى شَيْخه هُوَ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق، وَبَقِيَّة رِجَاله قد ذكرُوا عَن قريب.
قَوْله: (لما لَا تعلم) ، تَعْرِيض بِالرجلِ القاض الَّذِي كَانَ يَقُول: يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة كَذَا، فَأنْكر ابْن مَسْعُود ذَلِك، وَقَالَ: لَا تتكلفوا فِيمَا لَا تعلمُونَ، وَبَين قصَّة الدُّخان، وَقَالَ: إِنَّه كَهَيْئَته وَذَلِكَ قد كَانَ وَوَقع قلت: فِيهِ خلاف فَإِنَّهُ روى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَزيد بن عَليّ وَالْحسن: إِنَّه دُخان يَجِيء قبل قيام السَّاعَة، وَالله أعلم. قَوْله: (لما غلبوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَيرى: (لما غلبوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَالْمرَاد من هَذِه الْغَلَبَة خُرُوجهمْ عَن الطَّاعَة وتماديهم فِي الْكفْر. وَقَوله: (واستعصوا) يُوضح ذَلِك. قَوْله: (سنة) بِفَتْح السِّين. قَوْله: (وَالْميتَة) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل: بِكَسْر النُّون مَوضِع الْيَاء الَّتِي فِي الْميتَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وهمزة، وَهُوَ: الْجلد أول مَا يدبغ قَوْله: (من الْجهد) بِضَم الْجِيم وَفتحهَا لُغَتَانِ، وَقيل: بِالضَّمِّ الْجُوع، وبالفتح الْمَشَقَّة.
4 - (بَابٌ: {أنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} (الدُّخان: 31)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَنى لَهُم الذكرى} ، وَفِي بعض النّسخ لَيْسَ فِيهِ لفظ بَاب قَوْله: {أَنى لَهُم الذكرى} أَي: من أَيْن لَهُم(19/164)
الذكرى والاتعاظ بعد نزُول الْبلَاء وحلول الْعَذَاب، قَوْله: {رَسُول مُبين} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الذِّكْرُ وَالذِّكْرَى وَاحِدٌ
أَي: فِي الْمَعْنى والمصدرية. قَالَ الْجَوْهَرِي: الذّكر والذكرى بِالْكَسْرِ نقيض النسْيَان وَكَذَلِكَ الذكرة.
3284 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوق قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ الله ثُمَّ قَالَ إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَا دَعَا قُرَيْشا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ فَأصَابَتْهُمْ سنَةٌ حصَّتْ يَعْنِي كلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ المَيْتَةَ فَكَانَ يَقُومُ أحَدُهُمْ فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ وَالجُوعِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هاذا عَذَابٌ ألِيمٌ} حَتَّى بَلَغَ: {إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُمْ عَائِدُونَ} (الرحمان: 1، 11) حَتَّى بَلَغَ: {إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُمْ عَائِدُونَ} قَالَ عَبْدُ الله أفَيُكْشَفُ عَنْهُمُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ وَالبَطْشَةُ الكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله الْمَذْكُور، وَمضى الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (حصت) ، بالمهملتين أَي: أذهبت، وَسنة حصَّاء أَي: جرداء لَا خير فِيهَا. قَوْله: (وَالْبَطْشَة الْكُبْرَى) تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) .
5 - (بابٌ: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} (الدُّخان: 41)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ توَلّوا عَنهُ} أَي: أَعرضُوا عَن الرَّسُول فَلم يقبلوه {وَقَالُوا: معلم مَجْنُون} بادعائه النُّبُوَّة.
4284 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ خَالِدٍ أخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ شَعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله إنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: {قُلْ مَا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} (ص: 68) فإنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا رأى قُرَيْشا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ سَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأخَذَتْهُمُ السَّنةُ حَتَّى حَصَّتْ كلَّ شَيْءٍ حَتَّى أكَلُوا العِظَامَ وَالْجُلُودَ فَقَال أحَدُهُمْ حَتَّى أكَلُوا الجُلُودَ وَالمَيْتَةَ وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ فَأتاهُ أبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أيْ مُحَمدُ: إنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ الله أنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا ثُمَّ قَالَ تَعُودُوا بَعْدَ هاذَا فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ ثُمَّ قَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلَى {عَائِذُونَ} أيُكْشَفُ عَذَابُ الآخِرَةِ فَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَالبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ: وَقَال أحَدُهُمُ القَمَرُ وَقَالَ الآخَرُ الرُّومُ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة ابْن خَالِد بن مُحَمَّد العسكري عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَهُوَ غنْدر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر كِلَاهُمَا عَن أبي الضُّحَى مُسلم عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: (وَجعل يخرج من الأَرْض) ، فَاعل جعل مَحْذُوف تَقْدِيره جعل شَيْء يخرج من الأَرْض فَإِن قلت: بَينه وَبَين قَوْله: فَكَانَ يرى بَينه وَبَين السَّمَاء مثل الدُّخان تدافع ظَاهر. قلت: لَا تدافع إِذْ لَا مَحْذُور أَن يكون مبدأه الأَرْض ومنتهاه ذَلِك. فَإِن قلت: لفظ يخرج يدل على أَن ثمَّة كَانَ أمرا متخيلاً لَهُم لشدَّة حرارة الْجُوع. قلت: يحْتَمل أَن يكون ثمَّة خَارج من الدُّخان حَقِيقَة وَأَنَّهُمْ كَانُوا يرَوْنَ بَينهم وَبَين السَّمَاء مثله لفرط حرارتهم من المجاعة، أَو كَانَ يخرج من الأَرْض على حسبانهم التخيل من غشاوة أَبْصَارهم من فرط الْجُوع. قَوْله: (أَي مُحَمَّد) ، يَعْنِي: يَا مُحَمَّد. قَوْله: (إِن قَوْمك) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة(19/165)
استسق الله لمضر فَإِنَّهَا قد هَلَكت، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا لِأَن مُضر أَيْضا قومه. قَوْله: (فِي حَدِيث مَنْصُور) هُوَ مَنْصُور الرَّاوِي عَن أبي الضُّحَى، وَلم يذكر هَذَا فِي حَدِيث سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى. قَوْله: (وَقَالَ أحدهم) كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: أَحدهمَا إِذا المُرَاد سُلَيْمَان وَمَنْصُور، لَكِن هَذَا على مَذْهَب من قَالَ: أقل الْجمع اثْنَان، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَتَبعهُ بَعضهم. قلت: يحْتَمل أَن يكون مَعَهُمَا فِي ذَلِك الْوَقْت ثَالِث فَجمع بِاعْتِبَار الثَّلَاثَة. قَوْله: (الْقَمَر) يَعْنِي: انْشِقَاق الْقَمَر. قَوْله: (وَالْآخر الرّوم) يَعْنِي: غَلَبَة الرّوم. (
6 - (بابٌ: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكِبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ} (الدُّخان: 61)
وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي النّسخ كلهَا، وَقد مر تَفْسِيرهَا عَن قريب.
5284 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيع عَنْ الأعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ خَمْسٌ قَدْ مَضَى اللِّزَامُ وَالرُّومُ وَالبُطْشَةُ وَالقَمَرُ والدُّخَانُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ ابْن مُوسَى الْمَذْكُور فِيمَا مضى، وَبَقِيَّة الرِّجَال تكَرر ذكرهم، وَالْمعْنَى أَيْضا قد تقدم، وَهَذَا يدل على أَن ابْن مَسْعُود يرى أَن الدُّخان قد وَقع، وَقد ذكرنَا عَن ابْن عمر وَغَيره أَنه لم يَقع بعد، وَقد روى عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: آيَة الدُّخان لم تمض بعد، يَأْخُذ الْمُؤمن كَهَيئَةِ الزُّكَام وينفخ الْكَافِر حَتَّى ينْفد، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي سريحَة رَفعه لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تروا عشر آيَات طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَالدُّخَان، وَالدَّابَّة الحَدِيث. قلت: أَبُو سريحَة الْغِفَارِيّ اسْمه حُذَيْفَة بن أسيد، كَانَ مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة بيعَة الرضْوَان، يعد فِي الْكُوفِيّين، روى عَنهُ أَبُو الطُّفَيْل وَالشعْبِيّ.
54 - ( {سُورَةُ ح م الجَاثِيَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة ح م الجاثية، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره الجاثية، فَقَط، وَفِي بعض النسح: وَمن سُورَة الجاثية، وَهِي مَكِّيَّة لَا خلاف فِيهَا، وَهِي أَلفَانِ وَمِائَة وَوَاحِد وَتسْعُونَ حرفا، وَأَرْبَعمِائَة وثمان وَثَمَانُونَ كلمة وَسبع وَثَلَاثُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة سِيمَا عِنْد أبي ذَر.
جَاثِيَةَ مُسْتَوفِزينَ عَلَى الرُّكَبِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَترى كل أمة جاثية} (الجاثية: 83) وفسرها بقوله: (مستوفزين على الركب) يُقَال: استوفز فِي قعدته إِذا قعد قعُودا منتصبا غير مطمئن من هول ذَلِك الْيَوْم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ نَسْتَنْسخُ نَكْتُبُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 92) أَي: نكتب عَمَلكُمْ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر نَسْتَنْسِخ بِلَا لفظ. قَالَ مُجَاهِد: وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد عَن عمر بن سعد عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَفِي التَّفْسِير: مَعْنَاهُ نأمر بالنسخ، وَعَن الْحسن: مَعْنَاهُ نَحْفَظ. وَعَن الضَّحَّاك: نثبت.
نَنْساكُمْ نَتْرُكُكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاليوم ننساكم كَمَا نسيتم} (الجاثية: 43) مَعْنَاهُ نترككم كَمَا تركْتُم، وَلم يكن تَركهم إلاّ فِي النَّار، وَهَذَا من إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم لِأَن من نسي فقد ترك من غير عكس.
1 - (بابٌ: {وَمَا يُهْلِكُنا إلاّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 42) الآيَةَ)
فِي بعض النّسخ: بَاب {وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر وَمَا لَهُم بذلك من علم أَن هم إِلَّا يظنون} وَله (وَمَا يُهْلِكنَا) أَي: وَمَا يفنينا الْأَمر الزَّمَان وَطول الدَّهْر.
6284 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعيد بن المُسَيَّبِ عنِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِيني ابنُ آدَمَ(19/166)
يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأنَا بِيَدِي الأمْرُ أُقَلَّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن الْحميدِي أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن ابْن السَّرْح وَمُحَمّد بن الصَّباح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد.
قَوْله: (يوذيني ابْن آدم) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ يخاطبني من القَوْل بِمَا يتأذي من يجوز فِي حَقه التأذي، وَالله منزه عَن أَن يصير إِلَيْهِ الْأَذَى، وَإِنَّمَا هَذَا من التَّوَسُّع فِي الْكَلَام، وَالْمرَاد، أَن من وَقع ذَلِك مِنْهُ تعرض لسخط الله عز وَجل. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْإِيذَاء إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَى الْغَيْر قولا أَو فعلا أثر فِيهِ أَو لم يُؤثر، وإيذاء الله عبارَة عَن فعل مَا يكرههُ وَلَا يرضى بِهِ، وَكَذَا إِيذَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يسب الدَّهْر) ، الدَّهْر فِي الأَصْل اسْم لمُدَّة الْعَالم وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} (الْإِنْسَان: 1) ثمَّ يعبر بِهِ عَن كل مُدَّة كَثِيرَة، وَهُوَ خلاف الزَّمَان فَإِنَّهُ يَقع على الْمدَّة القليلة والكثيرة، فَإِذا المُرَاد فِي الحَدِيث بالدهر مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار ومصرف الْأُمُور فيهمَا فَيَنْبَغِي أَن يُفَسر الأول بذلك كَأَنَّهُ قيل: تسب مُدبر الْأَمر ومقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، وَأَنا الْمُدبر والمقدر، فجَاء الِاتِّحَاد. قَوْله: {وَأَنا الدَّهْر} ، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنا صَاحب الدَّهْر ومدبر الْأُمُور الَّتِي تنسبونها إِلَى الدَّهْر، فَإِذا سبّ ابْن آدم الدَّهْر من أجل أَنه فَاعل هَذِه الْأُمُور عَاد سبه إليّ لِأَنِّي فاعلها، وَإِنَّمَا الدَّهْر زمَان جعلته ظرفا لمواقع الْأُمُور، وَكَانَ من عَادَتهم إِذا أَصَابَهُم مَكْرُوه أضافوه إِلَى الدَّهْر، وَقَالُوا: وَمَا يُهْلِكنَا إلاَّ الدَّهْر وسبوه، فَقَالُوا: بؤسا للدهر، وتبا لَهُ إِذا كَانُوا لَا يعْرفُونَ للدهر خَالِقًا ويرونه أزليا أبديا، فَلذَلِك سموا بالدهرية، فَاعْلَم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن الدَّهْر مُحدث يقلبه بَين ليل ونهار لَا فعل لَهُ فِي خير وَشر، لكنه ظرف للحوادث الَّتِي الله تَعَالَى يحدثها وينشئها. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَنا الدَّهْر بِالرَّفْع، وَقيل بِالنّصب على الظّرْف. قلت: كَانَ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْفَهَانِي يرويهِ بِفَتْح الرَّاء من الدَّهْر مَنْصُوبَة على الظّرْف أَي: أَنا طول الدَّهْر بيَدي الْأَمر، وَكَانَ يَقُول: لَو كَانَ مضموم الرَّاء لصار من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَقَالَ القَاضِي: نَصبه بَعضهم على التَّخْصِيص، قَالَ: والظرف أصح وأصوب، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: يجوز النصب أَي: بِأَن الله بَاقٍ مُقيم أبدا لَا يَزُول.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا بَاطِل من وُجُوه: الأول: أَنه خلاف النَّقْل، فَإِن الْمُحدثين الْمُحَقِّقين لم يضبطوه إلاَّ بِالضَّمِّ، وَلم يكن ابْن دَاوُد من الْحفاظ وَلَا من عُلَمَاء النَّقْل. الثَّانِي: أَنه ورد بِأَلْفَاظ صِحَاح تبطل تَأْوِيله وَهِي: لَا تَقولُوا: يَا خيبة الدَّهْر، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر. أَخْرجَاهُ، وَلمُسلم: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر. الثَّالِث: تَأْوِيله يَقْتَضِي أَن يكون عِلّة النَّهْي لم تذكر لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَا تسبوا الدَّهْر. فَأَنا الدَّهْر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر وَأَنا أقلبه، وَمَعْلُوم أَنه يقلب كل شَيْء من خير وَشر، وتقلبه للأشياء لَا يمْنَع ذمها وَإِنَّمَا يتَوَجَّه الْأَذَى فِي قَوْله: (يُؤْذِينِي ابْن آدم) على مَا كَانَت عَلَيْهِ الْعَرَب إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة يسبون الدَّهْر، وَيَقُولُونَ: عِنْد ذكر موتاهم، أبادهم الدَّهْر، ينسبون ذَلِك إِلَيْهِ ويرونه الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء وَلَا يرونها من قَضَاء الله وَقدره. قلت: قَوْله: أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، قرينَة قَوِيَّة دَالَّة على أَن الْمُضَاف فِي قَوْله: إِنَّا الدَّهْر. مَحْذُوف وَأَن أَصله خَالق الدَّهْر، لِأَن الدَّهْر فِي الأَصْل عبارَة عَن الزَّمَان مُطلقًا وَاللَّيْل وَالنَّهَار زمَان، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يُطلق على الله أَنه مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار، بِكَسْر اللَّام، والدهر يكون مقلبا بِالْفَتْح، فَلَا يُقَال: الله الدَّهْر مُطلقًا. لِأَن المقلب غير المقلب فَافْهَم، وَقد تفردت بِهِ من (الفتوحات الربانية) وعَلى هَذَا لَا يجوز نِسْبَة الْأَفْعَال الممدوحة والمذمومة للدهر حَقِيقَة، فَمن اعْتقد ذَلِك فَلَا شكّ فِي كفره، وَأما من يجْرِي على لِسَانه من غير اعْتِمَاد صِحَّته فَلَيْسَ بِكَافِر وَلكنه تشبه بِأَهْل الْكفْر وارتكب مَا نَهَاهُ عَنهُ الشَّارِع فليتب وليستغفر.
64 - ( {سُورَةُ ح م الأحْقَافِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْأَحْقَاف، وَفِي بعض النّسخ ح م الأحخقاف، وَفِي بَعْضهَا: الْأَحْقَاف، وَفِي بَعْضهَا وَمن سُورَة الْأَحْقَاف، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس، هِيَ مَكِّيَّة وفيهَا آيتان مدنيتان {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ} وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} وَهِي أَلفَانِ وَخَمْسمِائة وَخَمْسَة وَتسْعُونَ حرفا وسِتمِائَة وَأَرْبع وَأَرْبَعُونَ كلمة وَخمْس وَثَلَاثُونَ آيَة. والأحقاف. قَالَ الْكسَائي: هِيَ مَا اسْتَدَارَ من الرمل، وَاحِدهَا حقف، وحقاف، مثل: دبغ ودباغ، وَلبس(19/167)
ولباس، وَقيل: الحقاف جمع الحقف، والأحقاف جمع الْجمع، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَحْقَاف واديين عمان ومهرة، وَعَن مقَاتل: كَانَت منَازِل عَاد بِالْيمن فِي حَضرمَوْت فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: مهرَة تنْسب إِلَيْهَا الْجمال المهرية، وَكَانُوا أهل عمد سيارة فِي الرّبيع، فَإِذا أهاج الْعود رجعُوا إِلَى مَنَازِلهمْ وَكَانُوا من قَبيلَة أرم، وَعَن الضَّحَّاك الْأَحْقَاف جبل بِالشَّام، وَعَن مُجَاهِد هِيَ أرص حسمى وَعَن الْخَلِيل: هِيَ الرمال الْعِظَام.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت البسلة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجَاهِدُ تُفِيضُونَ تَقُولونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أعلم بِمَا تفيضون فِيهِ} (الْأَحْقَاف: 4) وَفَسرهُ بقوله: تَقولُونَ وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بِغَيْر قَوْله: قَالَ مُجَاهِد وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن مثله. (وَقَالَ بَعضهم أَثَره وأثره وأثرة وأثاره بَقِيَّة) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ائْتُونِي بِكِتَاب من قبل هَذَا أَو أثارة من علم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَفسّر بَعضهم هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة بِبَقِيَّة فَالْأول أَثَرَة بِفتْحَتَيْنِ، وَالثَّانِي: أَثَرَة بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَالثَّالِث: أثارة على وزن فعال بِالْفَتْح وَالتَّخْفِيف، وَفسّر أَبُو عُبَيْدَة. أَو أثارة من علم أَي: بَقِيَّة من علم. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: قِرَاءَة الْجُمْهُور أثاره، بِالْألف، وَعَن الْكَلْبِيّ: بَقِيَّة من علم بقيت عَلَيْكُم من عُلُوم الْأَوَّلين تَقول الْعَرَب: لهَذِهِ النَّاقة أثارة من سنّ، أَي: بَقِيَّة، وَعَن عِكْرِمَة وَمُقَاتِل رِوَايَة عَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، أصل الْكَلِمَة من الْأَثر وَهُوَ الرِّوَايَة. يُقَال: أثرت الحَدِيث أَثَره آثرا وإثارة، كالشجاعة والجلادة والصلابة فَأَنا آثره وَمِنْه قيل للْخَبَر أثر، وَعَن مُجَاهِد: مَعْنَاهُ رِوَايَة يؤثرونها مِمَّن كَانَ قبلهم، وَقيل: أثارة مِيرَاث من علم، وَقيل: مناظرة من علم لِأَن المناظرة فِي الْعلم مثيرة لمعانيه، وَقيل: اجْتِهَاد من علم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ بِدْعَا مِنَ الرُّسُلِ لَسْتُ بأوَّلِ الرُّسُلِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} (الْأَحْقَاف: 9) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (لست بِأول الرُّسُل) روى هَذَا ابْن الْمُنْذر عَن عَلان عَن أبي صَالح عَن مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس وَفِي بعض النّسخ: مَا كنت بِأول الرُّسُل يُقَال: مَا هَذَا ببدع، أَي: ببديع.
وَقَالَ غَيْرُهُ أَرَأَيْتُمْ هاذِهِ الألِفُ إنَّمَا هِيَ تَوَعُّدٌ إنْ صَحَّ مَا تَدْعُونَ لَا يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَرَأَيْتُمْ بِرُؤْيَةِ العَيْنِ إنَّمَا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أبَلَغَكُمْ أنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله خَلَقُوا شَيْئا.
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس، هَذَا كُله لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ} (الْأَحْقَاف: 01) قَوْله: (أَرَأَيْتُم) مَعْنَاهُ أخبروني، كَذَلِك قَالَه الْمُفَسِّرُونَ: وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) قل يَا مُحَمَّد لهَؤُلَاء الْكفَّار، أَرَأَيْتُم أخبروني إِن كَانَ أَي: الْقُرْآن من عِنْد الله، وَقيل: إِن كَانَ مُحَمَّد من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف. تَقْدِيره: إِن كَانَ هَذَا الْقُرْآن من عِنْد الله وكفرتم بِهِ ألستم ظالمين، وَيدل على هَذَا الْحَذف قَوْله: {أَن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} (الْمَائِدَة: 15) وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَشهد شَاهد هُوَ عبد الله بن سَلام شهد على نبوة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَآمن بِهِ، وَقيل: هُوَ مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ مَسْرُوق فِي هَذِه الْآيَة وَالله مَا نزلت فِي عبد الله بن سَلام. لِأَن ح م نزلت بِمَكَّة وَإِنَّمَا أسلم عبد الله بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَت مُحَاجَّة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِقَوْمِهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله: (هَذِه الْألف) أَشَارَ إِلَى أَن الْهمزَة الَّتِي فِي أول: رَأَيْتُمْ إِنَّمَا هِيَ توعد لكفار مَكَّة حَيْثُ ادعوا صِحَة مَا عبدوه من دون الله، وَإِن صَحَّ مَا يدعونَ فِي زعمهم فَلَا يسْتَحق أَن يعبد، لِأَنَّهُ مَخْلُوق، فَلَا يسْتَحق أَن يعبد إلاَّ الله الَّذِي خلق كل شَيْء. قَوْله: (وَلَيْسَ) فِي قَوْله أَرَادَ بِهِ أَن الرُّؤْيَة فِي قَوْله: أَرَأَيْتُم لَيست من رُؤْيَة الْعين الَّتِي هِيَ الإبصار، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَالَه من قَوْله: {أتعلمون أبلغكم} إِلَى آخِره.(19/168)
1 - (بابٌ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أتَعِدَانِني أنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلتِ القُرُونُ مِنْ قبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هاذَا إلاَّ أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} (الْأَحْقَاف: 71)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالذي قَالَ} إِلَى آخِره إِنَّمَا سَاق الْآيَة إِلَى آخرهَا غير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُف لَكمَا أتعدانني أَن أخرج} إِلَى قَوْله: {أساطير الْأَوَّلين} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب: قَوْله: (وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ) ، إِلَى آخِره وَقيل: نزلت فِي عبد الله. وَقيل: فِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قبل إِسْلَامه وَكَانَ أَبَوَاهُ يَدعُونَهُ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ يَأْبَى ويسيء القَوْل ويخبرانه بِالْمَوْتِ والبعث، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تنكر نُزُولهَا فِي عبد الرَّحْمَن، وَقَالَ الزّجاج: من قَالَ إِنَّهَا نزلت فِيهِ فَبَاطِل وَالتَّفْسِير الصَّحِيح أَنَّهَا نزلت فِي الْكَافِر الْعَاق لوَالِديهِ ذكره الواحدي وَابْن الْجَوْزِيّ. قَوْله: (أُف كلمة) ، كَرَاهَة يقْصد بِهِ إِظْهَار السخط وقبح الرَّد، وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِكَسْر الْفَاء لَكِن نونها نَافِع وَحَفْص عَن عَاصِم، وَقَرَأَ ابْن كثير وَابْن عَامر وامب محيصين وَهِي رِوَايَة عَن عَاصِم بِفَتْح الفار بِغَيْر تَنْوِين. قَوْله: (أتعدانني) ، قِرَاءَة الْعَامَّة بنونين مخففتين، وروى هِشَام عَن أهل الشَّام بنُون وَاحِدَة مُشَدّدَة. قَوْله: (أَن أخرج) ، أَي: من قَبْرِي حَيا بعد فنائي وبلائي (وَقد خلت) مَضَت (الْقُرُون من قبل) وَلم يبْعَث مِنْهُم أحد (وهما يستغيثان الله) يستصرخان الله ويستغيثانه عَلَيْهِ ويقولان الغياث بِاللَّه مِنْك وَمن قَوْلك، ويقولان لَهُ (وَيلك آمن) أَي: صدق بِالْبَعْثِ، فَيَقُول هُوَ: (مَا هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين) والأساطير جمع أسطار وَهُوَ جمع سطر والسطر الْخط وَالْكِتَابَة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الأساطير الأباطيل وَهُوَ جمع أسطورة بِالضَّمِّ وإسطارة بِالْكَسْرِ.
7284 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بنِ مَاهِكَ قَالَ كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الحِجاز اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بنَ مُعاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايِعَ لَهُ بَعْدَ أبِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي بَكْرٍ شَيْئا فَقَالَ خُذُوهُ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَقَالَ مَرْوَانُ إنَّه هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ الله فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فَقَالَتْ عَائِشَةَ مِنْ وَرَاءِ الحِجابِ مَا أنْزَلَ الله فِينا شَيْئا مِنَ القُرْآنِ إلاَّ أنَّ الله أنْزَلَ عُذْرِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو عوَانَة اسْمه الوضاح، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس، ويوسف ابْن مَاهك منصرف وَغير منصرف وَهُوَ مُعرب وَمَعْنَاهُ: قمير، مصغر الْقَمَر.
قَوْله: (كَانَ مَرْوَان على الْحجاز) ، أَي: أَمِيرا على الْمَدِينَة من قبل مُعَاوِيَة. قَوْله: (فَجعل يذكر يزِيد بن مُعَاوِيَة) ، إِلَى آخِره، قد أوضحه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته بِلَفْظ: أَرَادَ مُعَاوِيَة أَن يسْتَخْلف يزِيد فَكتب إِلَى مَرْوَان وَكَانَ على الْمَدِينَة فَجمع النَّاس فخطبهم وَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد رأى رَأيا حسنا فِي يزِيد ودعا إِلَى بيعَة يزِيد، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: مَا هِيَ إلاَّ هِرَقْلِيَّة، أَن أَبَا بكر وَالله لم يَجْعَلهَا فِي أحد من وَلَده وَلَا من أهل بَلَده وَلَا من أهل بَيته، فَقَالَ مَرْوَان: أَلَسْت الَّذِي قَالَ الله فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُف لَكمَا} قَالَ: فسمعتها عَائِشَة، فَقَالَت: يَا مَرْوَان أَنْت الْقَائِل لعبد الرَّحْمَن كَذَا وَكَذَا، وَالله مَا أنزلت إلاَّ فِي فلَان بن فلَان الْفُلَانِيّ، وَفِي لفظ وَالله لَو شِئْت أَن أُسَمِّيهِ لسميت، وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن أَبَا مَرْوَان ومروان فِي صلبه، فمروان فضَض أَي: قِطْعَة من لعنة الله عز وَجل، فَنزل مَرْوَان مسرعا حَتَّى أَتَى بَاب عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَجعل يكلمها وتكلمه ثمَّ انْصَرف، وَفِي لفظ، فَقَالَت عَائِشَة: كذب وَالله مَا نزلت فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر شَيْئا) ، وَلم يبين مَا هَذَا الشَّيْء الَّذِي قَالَه عبد الرَّحْمَن لمروان، وأوضح ذَلِك الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته، فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن: مَا هِيَ إلاَّ هِرَقْلِيَّة، وَله من طَرِيق شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد فَقَالَ مَرْوَان: سنة أبي بكر وَعمر، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: سنة هِرقل. وَقَيْصَر. قَوْله: (فَقَالَ: خذوه) أَي: فَقَالَ مَرْوَان لأعوانه خُذُوا عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فَدخل) أَي: عبد الرَّحْمَن بَيت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ملتجأ بهَا. قَوْله: (فَلم يقدروا) أَي: لم يقدروا على إِخْرَاجه من بَيت عَائِشَة إعظاما لعَائِشَة امْتَنعُوا(19/169)
من الدُّخُول فِي بَيتهَا. قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان: إِن هَذَا الَّذِي) أَرَادَ بِهِ عبد الرَّحْمَن (أنزل الله فِيهِ) أَي: فِي حَقه: {وَالَّذِي قَالَ لوالدين أُف لَكمَا أتعدانني} (الْأَحْقَاف: 71) فأجابت عَائِشَة بقولِهَا: مَا أنزل الله فِينَا شَيْئا إِلَى آخِره. قَوْله: (إِن الله أنزل عُذْري) أَرَادَت بهَا الْآيَات الَّتِي نزلت فِي بَرَاءَة ساحة عَائِشَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَهِي: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك} (النُّور: 11) إِلَى آخِره. قَوْله: (فِينَا) أَرَادَت بِهِ بني أبي بكر لِأَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. نزل فِيهِ {ثَانِي اثْنَيْنِ} (التَّوْبَة: 04) وَقَوله: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه} (الْفَتْح: 92) وَقَوله: {وَالسَّابِقُونَ والأولون} وَفِي آي كَثِيرَة.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضا مُسْتَقبلَ أوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هاذا عَارِضٌ مِمْطرنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذَابٌ ألِيمٌ} (الْأَحْقَاف: 42)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الخ. سَاقهَا غير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ} الْآيَة. قَوْله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أَي: فَلَمَّا رَأَوْا مَا يوعدون بِهِ وَكَانُوا قَالُوا: فائتنا بِمَا تعدنا، يَعْنِي: من الْعَذَاب إِن كنت من الصَّادِقين، وهم قوم هود، عَلَيْهِ السَّلَام، قَوْله: (عارضا) نصب على الْحَال، وَقيل: رَأَوْا عارضا وَهُوَ السَّحَاب سمي بذلك لِأَنَّهُ يعرض أَي يَبْدُو فِي عرض السَّمَاء. قَوْله: {مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ} صفة لقَوْله: عارضا، فَلَمَّا رَأَوْهُ اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَقَالُوا: هَذَا عَارض مُمْطِرنَا يمطر لنا فَقَالَ الله عز وَجل: {بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم} وريح مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: هُوَ ريح، وَكَانَت الرّيح الَّتِي تسمى الديور، وَكَانَت تحمل الْفسْطَاط وَتحمل الظعينة فترفعها حَتَّى كَأَنَّهَا جَرَادَة وَأما مَا كَانَ خَارِجا من مَوَاشِيهمْ ورحالهم تطير بهَا الرّيح بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مثل الريش، قَالَ ابْن عَبَّاس: فَدَخَلُوا بُيُوتهم وَأَغْلقُوا أَبْوَابهم فَجَاءَت الرّيح فَقلعت أَبْوَابهم وصرعتهم، وَأمر الله الرّيح فأمالت عَلَيْهِم الرمال فَكَانُوا تَحت الرمل سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما أَنِين. ثمَّ أَمر الله تَعَالَى الرّيح فَكشفت عَنْهُم الرمال، ثمَّ أمرهَا فاحتملتهم فرمت بهم فِي الْبَحْر، فَهُوَ الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {تدمر كل شَيْء} (الْأَحْقَاف: 52) مرت بِهِ من رجال عَاد وأموالها.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ عَارِضٌ السَّحابُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} الْعَارِض السَّحَاب وَقد قُلْنَا: مَا سَبَب تَسْمِيَته بذلك.
8284 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسَى حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ أخْبرنا عَمْرٌ وأنَّ أبَا النّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ ابنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَاحِكا حَتَّى أُرَى مِنْهُ لَهَوَانِهِ إنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. حدَّثنا قَالَتْ وَكَانَ إذَا رَأَى غَيْما أوْ رِيحا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ الله إنَّ النَّاسَ إذَا رَأوا الغَيْمَ فَرِحُوا أنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ وَأرَاكَ إذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ مَا يُوؤْمِنُنِي أنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَا عُذِّبَ قَوْمُ عَادٍ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابِ: {فَقَالُوا هاذا عَارِضٌ ممْطِرُنا} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد كَذَا غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، حَدثنَا أَحْمد بن عِيسَى، كَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُود وَخلف وعرفه ابْن السكن بِأَنَّهُ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ، وغلّط الْحَاكِم. قَول من قَالَ: إِنَّه ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ ابْن مَنْدَه كلما قَالَ البُخَارِيّ فِي (جَامعه) حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب، فَهُوَ ابْن صَالح، وَإِذا حدث عَن ابْن عِيسَى نسبه. قلت: لَعَلَّ الْكرْمَانِي اعْتمد على هَذَا حَيْثُ قَالَ: أَحْمد، أَي: ابْن صَالح الْمصْرِيّ، وَقَالَ فِي (رجال الصَّحِيحَيْنِ) أَحْمد غير مَنْسُوب يحدث عَن عبد الله ابْن وهب الْمصْرِيّ، حدث عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع من (الْجَامِع) .
وَاخْتلفُوا فِي أَحْمد هَذَا، فَقَالَ قوم: إِنَّه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّه أَحْمد بن صَالح أَو أَحْمد بن عِيسَى، وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي: أَحْمد عَن ابْن وهب هُوَ ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: لم يخرج البُخَارِيّ عَن أَحْمد بن صَالح وَعبد الرَّحْمَن شَيْئا فِي (الصَّحِيح) ، وَعَمْرو هُوَ ابْن الْحَارِث، وَأَبُو النَّضر، بِسُكُون الْمُعْجَمَة، سَالم، وَسليمَان بن يسَار. ضد الْيَمين، وَنصف هَذَا الْإِسْنَاد الْأَعْلَى مدنيون(19/170)
والأدنى مصريون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن يحيى بن سُلَيْمَان وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِسْقَاء عَن هَارُون بن مَعْرُوف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن صَالح.
قَوْله: (لهوانه) ، بتحريك الْهَاء جمع لهاة وَهِي اللحمة الْمُتَعَلّقَة فِي أَعلَى الحنك وَيجمع أَيْضا على: لَهَا بِفَتْح اللَّام مَقْصُور. قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ يتبسم) ، قلت: روى أَنه ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، فِي التَّوْفِيق بَينهمَا. قلت: ظُهُور النواجذ الَّتِي هِيَ الْأَسْنَان الَّتِي فِي مقدم الْفَم أَو الأنياب لَا يسْتَلْزم ظُهُور اللهاة. قَوْله: (عرفت الْكَرَاهِيَة فِي وَجهه) ، وَهِي من أَفعَال الْقُلُوب الَّتِي لَا ترى، وَلكنه إِذا فَرح الْقلب تبلج الجبين، فَإِذا حزن أُرِيد بِالْوَجْهِ فعبرت عَن الشَّيْء الظَّاهِر فِي الْوَجْه بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ ثَمَرَتهَا. قَوْله: (مَا يؤمنني) من آمن يُؤمن ويروى: مَا يؤمني، بِالْهَمْزَةِ وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (عذب قوم عَاد) حَيْثُ أهلكوا يرِيح صَرْصَر. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النكرَة الْمُعَادَة هِيَ غير الأولى، وَهنا الْقَوْم الَّذين قَالُوا: هَذَا عَارض مُمْطِرنَا، هم بعينهم الَّذين عذبُوا بِالرِّيحِ فِيهَا عَذَاب أَلِيم قدمر كل شَيْء. قلت: تِلْكَ الْقَاعِدَة النحوية إِنَّمَا هِيَ فِي مَوضِع لَا يكون ثمَّة قرينَة على الِاتِّحَاد، أما إِذا كَانَت فَهِيَ بِعَينهَا الأولى لقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إلاه وَفِي الأَرْض إلاه} (الزخرف: 48) وَلَئِن سلمنَا وجوب الْمُغَايرَة مُطلقًا فَلَعَلَّ عادا قومان، قوم بالأحقاف، أَي فِي الرمال وهم أَصْحَاب الْعَارِض، وَقوم غَيرهم من الَّذين كذبُوا انْتهى. قلت: تمثيله بقوله: (هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إلاه وَفِي الأَرْض إلاه) غير مُطَابق لما قَالَه لِأَن فِيهِ الْمُغَايرَة ظَاهِرَة، لَكِن يحمل على معنى أَن كَونه معبودا فِي السَّمَاء غير كَونه معبودا فِي الأَرْض لِأَن إلاها بِمَعْنى مألوه بِمَعْنى معبود فَافْهَم.
74 - ( {سُورَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي بعض النّسخ: سور {الَّذين كفرُوا} (مُحَمَّد: 3) قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: ذكر عَن الحكم عَن السّديّ أَنه قَالَ: هِيَ مَكِّيَّة، ثمَّ وجدنَا عَامَّة من بلغنَا عَنْهُم تَفْسِير هَذِه السُّورَة مُجْمِعِينَ على أَنَّهَا مَدِينَة، وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّديّ: مَكِّيَّة، وَفِي تَفْسِير ابْن النَّقِيب: حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن قَوْله عز وَجل: {وكأين من قَرْيَة} (مُحَمَّد: 31) نزلت بعد حجَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين خرج من مَكَّة شرفها الله تَعَالَى، وَهِي أَلفَانِ وثلاثمائة وَتِسْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا، وَخَمْسمِائة وتسع وَثَلَاثُونَ كلمة، وثمان وَثَلَاثُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
كَذَا سُورَة مُحَمَّد بِسم الله الرحمان الرَّحِيم لأبي ذَر، وَلغيره {الَّذين كفرُوا} فَحسب.
أوْزَارَها آثَامَها حَتَّى لَا يَبْقَى إلاَّ مُسُلَمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} (مُحَمَّد: 4) وَفسّر: (أَوزَارهَا) بقوله: (آثامها) فعلى تَفْسِيره الأوزار جمع وزر والآثام جمع أَثم، وَقَالَ ابْن التِّين: لم يقل هَذَا أحد غير البُخَارِيّ، وَالْمَعْرُوف أَن المُرَاد بأوزارها الأسلحة. قلت: فعلى هَذَا الأوزار جمع وزر الَّذِي هُوَ السِّلَاح، وَفِي (الْمغرب) الْوَزْن بِالْكَسْرِ الْحمل الثقيل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461) أَي: حملهَا من الْإِثْم وَقَوْلهمْ: وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا عبارَة عَن انْقِضَائِهَا لِأَن أَهلهَا يضعون أسلحتهم حِينَئِذٍ، وسمى السِّلَاح وزرا لِأَنَّهُ يثقل على لابسه قَالَ الْأَعْشَى:
(واعددت للحرب أَوزَارهَا ... رماحا طوَالًا وخيلاً طوَالًا)
وَهَذَا كُله يُقَوي كَلَام ابْن التِّين لَا مثل مَا قَالَه بَعضهم: إِن لكَلَام ابْن التِّين احْتِمَالا ويعضد كَلَام البُخَارِيّ مَا قَالَه الثَّعْلَبِيّ: آثامها وأجرامها، فيرتفع وَيَنْقَطِع الْحَرْب لِأَن الْحَرْب لَا يَخْلُو من الْإِثْم فِي أحد الْجَانِبَيْنِ والفريقين، ثمَّ قَالَ: وَقيل: حَتَّى تضع الْحَرْب آلتها وعدتها، وآلتهم وأسلحتهم فيمسكوا عَن الْحَرْب، وَالْحَرب الْقَوْم المحاربون كالركب، وَقيل: مَعْنَاهُ حَتَّى يضع الْقَوْم المحاربون أَوزَارهَا وآثامها بِأَن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله انْتهى. فَعرفت من هَذَا أَن لكل من كَلَام البُخَارِيّ. وَكَلَام ابْن التِّين وَجها.
عَرَّفَها بَيْنَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} (مُحَمَّد: 6) وَفسّر: (عرفهَا) بقوله: (بَينهَا) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي بَين لَهُم مَنَازِلهمْ فِيهَا حَتَّى يهتدوا إِلَيْهَا ودرجاتهم الَّتِي قسم الله لَا يخطئون وَلَا يستدلون عَلَيْهَا أحدا كَأَنَّهُمْ سكانها مُنْذُ خلقُوا.(19/171)
وَقَالَ مُجاهِدٌ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيُّهُمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} (مُحَمَّد: 11) وَفسّر: الْمولى بالولي، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد نَحوه، وَهَذَا لم يثبت لأبي ذَر.
عَزَمَ الأَمْرُ: جدَّ الأمْرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم} وَفَسرهُ بقوله: (جد الْأَمر) وَفِي بعض النّسخ. قَالَ مُجَاهِد: فَإِذا عزم الْأَمر، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن حجاج حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
فَلا تَهِنُوا لَا تَضْعُفُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون} (مُحَمَّد: 53) الْآيَة، وَفسّر قَوْله: (فَلَا تهنوا) بقوله: (لَا تضعفوا) وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد أَيْضا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أضْغَانَهُمْ حَسَدَهُمْ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن لن يخرج الله أضغانهم} (مُحَمَّد: 92) وَفسّر الأضغان بِالْحَسَدِ، وَهُوَ جمع ضغن وَهُوَ الحقد والحسد، وَالضَّمِير فِي: قُلُوبهم يرجع إِلَى الْمُنَافِقين.
آسِنِ مُتَغَيِّر
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنهَار من مَاء غير آسن} (مُحَمَّد: 51) أَي: غير متغير، وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر.
1 - (بابٌ: {وَتُقَطَّعُوا أرْحَامَكُمْ} (مُحَمَّد: 22)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَهَل عسيتم أَن توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم} وَقَرَأَ الْجُمْهُور، وتقطعوا بِالتَّشْدِيدِ من التقطيع، وَقَرَأَ يَعْقُوب بِالتَّخْفِيفِ من الْقطع.
0384 - حدَّثنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدَّثنا سُلَيْمَانُ قَالَ حدَّثني مُعَاوِيَةُ بنُ أبِي مُزَرَّدٍ عَنْ سَعِيدِ ابنِ يَسارٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَلَقَ الله الخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قامتِ الرَّحِمُ فأخَذَتِ بِحَقْوِ الرَّحْمانِ فَقَالَ لَهُ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِدَ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ قَالَ أَلا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالت بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَذَاك..
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ إقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وبالخاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: الْكُوفِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَمُعَاوِيَة بن أبي مزرد، بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالدال الْمُهْملَة واسْمه عبد الرَّحْمَن بن يسَار أَخُو سعيد بن يسَار ضد الْيَمين، يروي مُعَاوِيَة عَن عَمه سعيد بن يسَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن إِسْمَاعِيل بن أويس، وَفِيه عَن إِبْرَاهِيم ابْن حَمْزَة، وَفِيه فِي الْأَدَب، عَن بشر بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن أبي حَاتِم.
قَوْله: (فَلَمَّا فرغ مِنْهُ) أَي: فَلَمَّا قَضَاهُ وأئمة. قَوْله: (قَامَت الرَّحِم) أَي الْقرْبَة مُشْتَقَّة من الرَّحْمَة وَهِي عرض جعلت فِي جسم فَلذَلِك قَامَت وتكلمت، وَقَالَ القَاضِي: يجوز أَن يكون المُرَاد قيام ملك من الْمَلَائِكَة وَتعلق بالعرش وَتكلم على لسانها بِهَذَا بِأَمْر الله تَعَالَى، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الرَّحِم الَّتِي توصل وتقطع إِنَّمَا هِيَ معنى من الْمعَانِي والمعاني لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْقيام وَلَا الْكَلَام فَيكون المُرَاد تَعْظِيم شَأْنهَا وفضيلة وَأَصلهَا وَعظم إِثْم قاطعيها. قَوْله: (فَأخذت) ، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِلَا ذكره مَفْعُوله، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن، فَأخذت بحقو الرَّحْمَن، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: بحقوي الرَّحْمَن، بالتثنية. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: التَّثْنِيَة فِيهِ للتَّأْكِيد لِأَن الْأَخْذ باليدين آكِد فِي الاستجارة من الْأَخْذ بيد وَاحِدَة، والحقو بِالْفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وبالواو الْإِزَار والخصر ومشد الْإِزَار، وَقَالَ عِيَاض: الحقو معقد الْإِزَار وَهُوَ الْموضع الَّذِي يستجار بِهِ ويتحرم بِهِ على عَادَة الْعَرَب لِأَنَّهُ من أَحَق مَا يحامى عَنهُ وَيدْفَع كَمَا قَالُوا: نمنعه مِمَّا يمْنَع مِنْهُ أزرنا فاستعير ذَلِك مجَازًا للرحم فِي استعاذتها بِاللَّه من القطيعة، وَقَالَ(19/172)
الطَّيِّبِيّ: هَذَا القَوْل مَبْنِيّ على الِاسْتِعَارَة التمثيلية كَأَنَّهُ شبه حَالَة الرَّحِم وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الافتقار إِلَى الصِّلَة والذب عَنْهَا بِحَال مستجير يَأْخُذ بحقو والمستجار بِهِ ثمَّ أسْند على سَبِيل الِاسْتِعَارَة التخييلية مَا هُوَ لَازم الْمُشبه بِهِ من الْقيام فَيكون قرينَة مَانِعَة من إِرَادَة الْحَقِيقَة. ثمَّ رشحت الِاسْتِعَارَة بالْقَوْل وَالْأَخْذ، وبلفظ الحقو فَهُوَ اسْتِعَارَة أُخْرَى. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ: مَه) أَي: فَقَالَ الرَّحْمَن للرحم، مَه أَي: اكفف، وَيُقَال: مَا تَقول؟ على الزّجر والاستفهام، وَهَاهُنَا إِن كَانَ على الزّجر فَبين، وَإِن كَانَ عل الِاسْتِفْهَام فَالْمُرَاد مِنْهُ الْأَمر بِإِظْهَار الْحَاجة دون الاستعلام، فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى. وَقَالَت النُّحَاة مَه اسْم فعل مَعْنَاهُ الزّجر أَي: اكفف وانزجر، وَقَالَ ابْن مَالك هِيَ هُنَا مَا الاستفهامية حذفت ألفها ووقف عَلَيْهَا بهاء السكت. قَوْله: (هَذَا مقَام العائذ) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ المعتصم بالشَّيْء المستجير بِهِ قَوْله: (هَذَا) إِشَارَة إِلَى الْمقَام، مَعْنَاهُ، قيامي هَذَا قيام العائذ بك، وَهَذَا أَيْضا مجَاز للمعنى الْمَعْقُول إِلَى الْمِثَال المحسوس الْمُعْتَاد بَينهم، ليَكُون أقرب إِلَى فهمهم، وَأمكن فِي نُفُوسهم. قَوْله: (أَن أصل من وصلك) وَحَقِيقَة الصِّلَة الْعَطف وَالرَّحْمَة وَهِي فضل الله على عباده لطفا بهم وَرَحمته إيَّاهُم، وَلَا خلاف أَن صلَة الرَّحِم وَاجِبَة فِي الْجُمْلَة وقطعها مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَالْأَحَادِيث فِي الْبَاب تشهد لذَلِك، وَلَكِن للصلة، دَرَجَات بَعْضهَا أرفع من بعض وَأَدْنَاهَا ترك المهاجرة وصلتها بالْكلَام وَلَو بِالسَّلَامِ، وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْقُدْرَة وَالْحَاجة. فَمِنْهَا: وَاجِب وَمِنْهَا مُسْتَحبّ وَلَو قصر عَمَّا قدر عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يُسمى واصلاً.
وَاخْتلف فِي الرَّحِم الَّتِي يجب صلتها. فَقيل: هِيَ كل رحم محرم بِحَيْثُ لَو كَانَ أَحدهمَا ذكرا وَالْآخر أُنْثَى حرمت مناكحتها، فعلى هَذَا لَا يجب فِي بني الأغمام وَبني الأخوال لجَوَاز الْجمع فِي النِّكَاح دون الْمَرْأَة وَأُخْتهَا وعمتها. وَقيل: بل هَذَا فِي كل ذِي رحم مِمَّن ينْطَلق عَلَيْهِ ذَلِك من ذَوي الْأَرْحَام فِي الْمَوَارِيث محرما كَانَ أَو غَيره. قَوْله: (قَالَ: فَذَاك) ، إِشَارَة إِلَى قَوْله: (أَلا ترْضينَ أَن أصل من وصلك وأقطع من قَطعك) ، أَي: ذَاك لَك كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة هَكَذَا.
قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره ظَاهره أَنه مَوْقُوف، وَيَأْتِي مَرْفُوعا فِي الطَّرِيق الَّذِي أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة عقيب هَذَا. قَوْله: (فَهَل عسيتم) قَرَأَهُ نَافِع بِكَسْر السِّين وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْح، وَقد حكى عبد الله بن الْمُغَفَّل أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرؤهَا بِكَسْر السِّين. قَوْله: (إِن توليتم) اخْتلف فِي مَعْنَاهُ فالأكثرون على أَنَّهَا من الْولَايَة وَالْمعْنَى: إِن وليتم الحكم، وَقيل: بِمَعْنى الْإِعْرَاض، وَالْمعْنَى: لَعَلَّكُمْ إِن أعرضتم عَن قبُول الْحق أَن يَقع مِنْكُم مَا ذكر، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَعَن الْمسيب بن شريك وَالْفراء (فَهَل عسيتم أَن توليتم) يَعْنِي: إِن وليتم أَمر النَّاس أَن تفسدوا فِي الأَرْض بالظلم نزلت فِي بني أُميَّة وَبني هَاشم. قَوْله: (وتقطعوا) قيل: من الْقطع، وَقيل: من التقطيع على التكثير لأجل الْأَرْحَام.
1384 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثنا حَاتِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثني عَمِّي أبُو الحُبابِ سَعِيدُ ابنُ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ بِهذا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور. أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة أبي إِسْحَاق الزبيرِي الْمَدِينِيّ عَن حَاتِم ابْن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي نزيل الْمَدِينَة عَن مُعَاوِيَة بن أبي مزرد الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق السَّابِق عَن عَمه أبي الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالياءين الموحدتين بَينهمَا ألف واسْمه سعيد بن يسَار الْمَذْكُور أَيْضا.
قَوْله: (بِهَذَا) يَعْنِي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور قبله وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق حَاتِم بِمَ إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور.
2384 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله أخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ أبِي المُزَرِّدِ بِهَذَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} .
هَذَا طَرِيق آخر عَن بشر بن مُحَمَّد أبي مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ عَن عبد الله بن الْمُبَارك إِلَى آخِره. قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن.
84 - ( {سُورَةُ الفَتْحِ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة الْفَتْح، وَهِي مَدَنِيَّة، وَقيل: نزلت بَين الْحُدَيْبِيَة وَالْمَدينَة مُنْصَرفه من الْحُدَيْبِيَة أَو بكراع الغميم(19/173)
وَالْفَتْح: صلح الْحُدَيْبِيَة، وَقيل: فتح مَكَّة وَهِي أَلفَانِ وَأَرْبَعمِائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثُونَ حرفا، وَخَمْسمِائة وَسِتُّونَ كلمة، وتسع وَعِشْرُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
قَالَ مُجاهِدٌ بُورا هَالِكِينَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} وَفَسرهُ بقوله: (هالكين) أَي: فاسدين لَا تصلحون لشَيْء، وَهُوَ من: بَارك الْهَالِك من هلك بِنَاء وَمعنى، وَلذَلِك وصف بِهِ الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث، وَيجوز أَن يكون جمع: بائر كعائذ وعوذ. قَالَ النَّسَفِيّ: وَالْمعْنَى: وكنتم قوما فاسدين فِي أَنفسكُم وقلوبكم ونياتكم لَا خير فِيكُم وهالكين عِنْد الله مستحقين لسخطه وعقابه.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السَّحْنَةُ
فسر مُجَاهِد سِيمَاهُمْ بالسحنة وَقَالَ ابْن الْأَثِير: السحنة بشرة الْوَجْه وهيأته وحاله، وَهِي مَفْتُوحَة السِّين وَقد تكسر، وَيُقَال: السحناء أَيْضا بِالْمدِّ، وَقَيده الْأصيلِيّ وَابْن السكن بِفَتْحِهَا، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ الصَّوَاب عِنْد أهل اللُّغَة، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ القَاضِي عَن نصر بن عَليّ عَن بشر بن عمر عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن مُجَاهِد، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني والقابسي: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم: السَّجْدَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: المسحة.
وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ التَّوَاضُعُ
أَي: قَالَ مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير: سِيمَاهُمْ التَّوَاضُع، وروى ابْن أبي حَاتِم: نَا الْمُنْذر بن شَاذان، نَا يعلى حَدثنَا سُفْيَان نَا حميد بن قيس عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم) قَالَ: الْخُشُوع والتواضع، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم أَيْضا حَدثنَا أبي نَا عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي نَا حُسَيْن الْجعْفِيّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد فِي هَذِه الْآيَة. قَالَ: هُوَ الْخُشُوع، وَقَالَ عبد بن حميد: حَدثنَا عَمْرو بن سعد وَعبد الْملك بن عَمْرو وَقبيصَة عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} قَالَ: الْخُشُوع وحَدثني مُعَاوِيَة بن عَمْرو عَن زَائِدَة عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد: هُوَ الْخُشُوع. قلت: ينظر النَّاظر فِي الَّذِي علقه البُخَارِيّ.
شَطْأَهُ: فِرَاخَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كزرع أخرج شطأه} وَفَسرهُ بقوله: (فِرَاخه) وَهَكَذَا فسره الْأَخْفَش، يُقَال: اشطأ الزَّرْع إِذا أفرخ، وَعَن أنس: شطأه نَبَاته وَعَن السّديّ، هُوَ أَن يخرج مَعَه الطَّاقَة الْأُخْرَى، وَعَن الْكسَائي: طرفه.
فَاسْتَغْلَظَ غلظَ
غلظ، بِضَم اللَّام ويروى تغلظ أَي: قوي وتلاحق نَبَاته.
سُوقِهِ السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ
أَشَارَ بقوله: (سوقه) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَوَى على سوقه} أَي قَامَ على أُصُوله، والسوق بِالضَّمِّ جمع سَاق وَفَسرهُ بقوله: (السَّاق حامله الشَّجَرَة) وَهِي جذعه، وَهَكَذَا فسره الْجَوْهَرِي.
شَطْأَهُ شَطْءُ السُّنْبُلِ تُنْبِتُ الحَبَّةُ عَشْرا وَثَمَانِيا وَسَبْعا فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَآزَرَهُ قَوَّاهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ خَرَجَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَوَّاهُ بِأصْحَابِهِ كَمَا قَوَّى الحَبَّةَ بِمَا يَنْبُتُ مِنْها.
قَوْله: (شطأه شطء السنبل) ، إِلَى آخِره، لَيْسَ بمذكور فِي بعض النّسخ وَلَا الشُّرَّاح تعرضوا لشرحه. قَوْله: {تنْبت} ، من الإنبات. قَوْله: (وثمانيا وَسبعا) ويروى: أَو ثمانيا أَو سبعا وَكلمَة: أَو للتنويع أَي: تنْبت الْحبَّة الْوَاحِدَة عشرَة سنابل، وَتارَة ثَمَان سنابل، وَتارَة سبع سنابل. قَالَ الله تَعَالَى: {كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل} (الْبَقَرَة: 162) قَوْله: (وَهُوَ مثل ضربه الله) إِلَى آخِره وَفِي التَّفْسِير وَهُوَ مثل ضربه الله تَعَالَى لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي: أَنهم يكونُونَ قَلِيلا ثمَّ يزدادون ويكثرون ويقوون، وَعَن قَتَادَة: مثل أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِنْجِيل مَكْتُوب أَنه سيخرج قوم يَنْبُتُونَ نَبَات الزَّرْع يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر. قَوْله: (إِذْ خرج) أَي: حِين خرج وَحده يحْتَمل أَن يكون المُرَاد حِين خرج على كفار مَكَّة وَحده يَدعُوهُم(19/174)
إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه. ثمَّ قواه الله تَعَالَى بِإِسْلَام من أسلم مِنْهُم فِي مَكَّة، وَيحْتَمل أَن يكون حِين خرج من بَيته وَحده حِين اجْتمع الْكفَّار على أَذَاهُ ثمَّ رافقه أَبُو بكر ثمَّ لما دخل الْمَدِينَة قواه الْأَنْصَار.
وَيُقَالُ دَائِرَةُ السَّوْءِ كَقَوْلِكَ رَجُلُ السَّوْءِ وَدَائِرَةُ السَّوْءِ العَذَابُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَغَضب الله عَلَيْهِم} (الْفَتْح: 6) الْآيَة. وفسرها بقوله: {دَائِرَة السوء الْعَذَاب} وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَقيل: دَائِرَة الدمار والهلاك وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِفَتْح السِّين، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كثير بِالضَّمِّ.
تُعَزِّرُوهُ: يَنْصُرُوهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وتعزروه وتوقروه} (الْفَتْح: 9) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (ينصروه) وَكَذَا روى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة نَحوه، وَقيل: مَعْنَاهُ يعينوه، وَعَن عِكْرِمَة، يُقَاتلُون مَعَه بِالسَّيْفِ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر بن عبد الله. قَالَ: لما نزلت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويعزروه، قَالَ لنا: مَاذَا كم؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: لينصروه ويوقروه ويعظموه ويفخموه، هُنَا وقف تَامّ.
1 - (بابٌ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} (الْفَتْح: 1)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْفَتْح فتح مَكَّة وَعَن مُجَاهِد والعوفي فتح خَيْبَر، وَعَن بَعضهم: فتح الرّوم، وَقيل: فتح الْإِسْلَام، وَعَن جَابر: مَا كُنَّا نعد فتح مَكَّة إلاَّ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَعَن بشر بن الْبَراء قَالَ: لما رَجعْنَا من غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة وَقد حيل بَيْننَا وَبَين نسكنا فَنحْن بَين الْحزن والكآبة. فَأنْزل الله عز وَجل: {إِنَّا فتحنا لَك} الْآيَة كلهَا.
3384 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أسْفَارِهِ وَعُمَرُ بنُ الخَطابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً فَسَأَلَهُ عُمَرُ ابنُ الخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجْبْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجْبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَالَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ نزَرْتَ رسولَ الله ثَلاثَ مَرَّاتٍ كلَّ ذالِكَ لَا يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أمامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أنْ يُنْزَلَ فِيَّ القُرْآنُ فَمَا نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صَارِخا يَصْرُخُ بِي فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَجِئتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ صُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأسلم مولى عمر بن الْخطاب كَانَ من سبي الْيمن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أَبُو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة.
وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي: بَاب غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم هُنَا أَيْضا لبعد الْمسَافَة، فَنَقُول: هَذَا صورته صُورَة الْإِرْسَال لِأَن أسلم لم يدْرك زمَان هَذِه الْقِصَّة، لكنه مَحْمُول على أَنه سمع من عمر بِدَلِيل قَوْله فِي أثْنَاء الحَدِيث: (فحركت بَعِيري) وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ عَن مَالك عَن زيد عَن أَبِيه عَن عمر مُتَّصِلا بِمُحَمد بن خَالِد بن عَثْمَة وَأَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن غَزوَان وَإِسْحَاق الحنيني، وَيزِيد بن أبي حَكِيم وَمُحَمّد بن حَرْب الْمَكِّيّ، وَأما أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) فَرَوَوْه عَن مَالك مُرْسلا.
قَوْله: (فِي بعض أَسْفَاره) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا السّفر كَانَ لَيْلًا متصرفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحُدَيْبِيَة لَا أعلم بَين أهل الْعلم فِي ذَلِك خلافًا قَوْله: (ثكلت أم عمر) فِي رِوَايَة الْكشميهني، ثكلتك أم عمر، من الثكل وَهُوَ فقدان الْمَرْأَة وَلَدهَا، وَامْرَأَة ثاكل وثكلى وَرجل ثاكل وثكلان، وَكَأن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،(19/175)
دَعَا على نَفسه حَيْثُ ألح على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَأَنَّهُ دَعَا على نَفسه بِالْمَوْتِ وَالْمَوْت يعم كل أحد فَإِذا الدُّعَاء عَلَيْهِ كلا دُعَاء، وَيجوز أَن يكون من الْأَلْفَاظ الَّتِي تجْرِي على أَلْسِنَة الْعَرَب وَلَا يُرَاد بهَا الدُّعَاء، كَقَوْلِهِم: تربت يداك وقاتلك الله. قَوْله: (نزرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بالنُّون وَتَخْفِيف الزاء وبالراء أَي: ألححت عَلَيْهِ وبالغت فِي السُّؤَال، ويروى بتَشْديد الزَّاي وَالتَّخْفِيف أشهر، وَقَالَ ابْن وهب: أكرهته أَي: أَتَيْته بِمَا يكره من سُؤَالِي فَأَرَادَ الْمُبَالغَة، والنزر الْقلَّة وَمِنْه الْبِئْر النزور الْقَلِيل المَاء. قَالَ أَبُو ذَر: سَأَلت من لقِيت من الْعلمَاء أَرْبَعِينَ سنة فَمَا أجابوا إلاَّ بِالتَّخْفِيفِ، وَكَذَا ذكره ثَعْلَب وَأهل اللُّغَة، وبالتشديد ضَبطهَا الْأصيلِيّ وَكَأَنَّهُ على الْمُبَالغَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: نزرت قللت كَلَامه أَو سَأَلته فِيمَا لَا يحب أَن يُجيب فِيهِ.
وَفِيه: أَن الْجَواب لَيْسَ لكل الْكَلَام بل السُّكُوت جَوَاب لبَعض الْكَلَام، وتكرير عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، السُّؤَال إِمَّا لكَونه ظن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسمعهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ الْأَمر الَّذِي كَانَ يسْأَل عَنهُ كَانَ مهما عِنْده، وَلَعَلَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَجَابَهُ بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا ترك إجَابَته أَولا لشغله بِمَا كَانَ فِيهِ من نزُول الْوَحْي. قَوْله: (فَمَا نشبت) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: فَمَا لَبِثت وَلَا تعلّقت بِشَيْء غير مَا ذكرت قَوْله: (لهي أحب إليّ) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا كَانَت أحب إِلَيْهِ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لما فِيهَا من مغْفرَة مَا تقدم وَمَا تَأَخّر، وَالْفَتْح والنصر وإتمام النِّعْمَة وَغَيرهَا من رِضَاء الله عز وَجل عَن أَصْحَاب الشَّجَرَة وَنَحْوهَا. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أطلق المفاضلة بَين الْمنزلَة الَّتِي أعطيها وَبَين مَا طلعت عَلَيْهَا الشَّمْس، وَمن شَرط المفاضلة اسْتِوَاء الشَّيْئَيْنِ فِي أصل الْمَعْنى ثمَّ يزِيد أَحدهمَا على الآخر. وَأجَاب ابْن بطال بِأَن مَعْنَاهُ أَنَّهَا أحب إِلَيْهِ من كل شَيْء لِأَنَّهُ لَا شَيْء إلاَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَأخْرج الْخَبَر عَن ذكر الشَّيْء بِذكر الدُّنْيَا إِذْ لَا شَيْء سواهَا إلاَّ الْآخِرَة وَأجَاب ابْن الْعَرَبِيّ بِمَا ملخصه أَن أفعل قد لَا يُرَاد فِيهِ المفاضلة كَقَوْلِه: {خير مُسْتَقر أَو أحسن مقيلاً} (الْفرْقَان: 42) وَلَا مفاضلة بَين الْجنَّة وَالنَّار، أَو الْخطاب وَقع على مَا اسْتَقر فِي أنفس أَكثر النَّاس فَإِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أَن الدُّنْيَا لَا شَيْء مثلهَا وَأَنَّهَا الْمَقْصُود فَأخْبر بِأَنَّهَا عِنْده خبر مِمَّا تظنون أَن لَا شَيْء أفضل مِنْهُ.
4384 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عنهُ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} (الْفَتْح: 1) قَالَ الحُدَيْبِيَةُ.
غنْدر هَذَا لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره، وَقد مضى الحَدِيث فِي الْمَغَازِي بأتم مِنْهُ، وَأطلق على غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة الْفَتْح، بِاعْتِبَار أَنه كَانَ مُقَدّمَة الْفَتْح.
5384 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا مُعاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلِ قَالَ قَرَأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سِورَةَ الفَتْحِ فَرَجَعَ فِيهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ شِئْتُ أنْ أحْكِيَ لَكُمْ قِرَاءَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَفَعَلْتُ.
عبد الله بن مُغفل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة الْبَصْرِيّ، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْمَغَازِي فِي: بَاب غَزْوَة الْفَتْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن شعيد عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فَرجع) ، من الترجيع وَهُوَ ترديد الصَّوْت فِي الْحلق كَقِرَاءَة أَصْحَاب الألحان، وَقيل: تقَارب ضروب الحركات فِي الصَّوْت، وَزعم بَعضهم أَن هَذَا كَانَ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فَجعلت النَّاقة تحركه فَحصل بِهِ الترجيع وَهُوَ مَحْمُول على إشباع الْمَدّ فِي مَوْضِعه وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حسن الصَّوْت إِذا قَرَأَ مد ووقف على الْحُرُوف، وَيُقَال: مَا بعث نَبِي إلاَّ حسن الصَّوْت، وَقَامَ الْإِجْمَاع على تَحْسِين الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ وترتيبها قَالَه القَاضِي.
2 - (بابٌ: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما} (الْفَتْح: 2)
لَيست هَذِه الْآيَة بمذكورة فِي أَكثر النّسخ. قَوْله: (ليغفر لَك الله) ، اللَّام فِيهِ لَام الْقسم، لما حذفت النُّون من فعله كسرت اللَّام وَنصب فعلهَا تَشْبِيها بلام كي، وَعَن الْحسن بن الْفضل: هُوَ مَرْدُود إِلَى قَوْله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ليغفر لَك(19/176)
الله، وَقَالَ ابْن جرير: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {إِذا جَاءَ نصر الله} (النَّصْر: 1) الْآيَة {ليغفر لَك الله مَا تقدم} (الْفَتْح: 2) الْآيَة من قبل الرسَالَة إِلَى وَقت نزُول هَذِه السُّورَة، وَعَن عَطاء الْخُرَاسَانِي: مَا تقدم من ذَنْب أَبَوَيْك آدم وحواء، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَمَا تَأَخّر من ذنُوب أمتك، وَقيل: مَا وَقع وَمَا يَقع مغْفُور على طَرِيق الْوَعْد، وَقيل: الْمَغْفِرَة سَبَب لِلْفَتْحِ، أَي: لمغفرتنا لَك فتحنا لَك. قَوْله: (وَيتم نعْمَته عَلَيْك) ، أَي: بِالنُّبُوَّةِ وَالْحكمَة. قَوْله: (ويهديك) ، أَي: يثبتك. وَقيل: يهدي بك.
7384 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَحْيَى أخْبَرَنَا حَيْوَةُ عَنْ أبِي الأسْوَدِ سَمِعَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هاذَا يَا رَسُولَ الله وَقَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أفَلا أحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدا شَكُورا فَلمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسا فَإذا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ.
الْحسن بن عبد الْعَزِيز أَبُو عَليّ الجذامي، مَاتَ بالعراق سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الله بن يحيى الْمعَافِرِي، وحيوة بن شُرَيْح الْمصْرِيّ، وَأَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن النَّوْفَلِي الْمَعْرُوف بيتيم عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي صَلَاة اللَّيْل، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تفطرت) ، أَي: انشقت، ويروى: تفطر. قَوْله: (فَلَمَّا كثر لَحْمه) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة من الْكَثْرَة، وَأنكر الدَّاودِيّ هَذِه اللَّفْظَة والْحَدِيث، فَلَمَّا بدن أَي: كبر، بِالْبَاء الْمُوَحدَة فَكَأَن الرَّاوِي تَأَوَّلَه على كَثْرَة اللَّحْم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لم يصفه أحد بالسمن، وَلَقَد مَاتَ وَمَا شبع من خبز الخمير فِي يَوْم مرَّتَيْنِ، وأحسب بعض الروَاة لما رأى بدن ظن كثر لَحْمه وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ بدن تبدينا. أَي: أسن قَالَه أَبُو عبيد.
3 - (بابٌ: {إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا} (الْفَتْح: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} يَعْنِي: مُبينًا لِأَنَّهُ يبين الحكم. فَسمى شَاهدا لمشاهدته الْحَال والحقيقة فَكَأَنَّهُ النَّاظر بِمَا شَاهد وَيشْهد عَلَيْهِم أَيْضا بالتبليغ وبأعمالهم من طَاعَة ومعصية، وَيبين مَا أرسل بِهِ إِلَيْهِم، وَأَصله الْإِخْبَار بِمَا شوهد وَعَن قَتَادَة وَشَاهدا على أمته وعَلى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (وَمُبشرا) ، أَي: مبشرا بِالْجنَّةِ من أطاعه وَنَذِيرا من النَّار أَصله الْإِنْذَار وَهُوَ التحذير.
8384 - حدَّثنا عَبْدُ الله حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلالٍ بنِ أبِي هِلالٍ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ هاذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي القُرْآنِ: {يَا أيُّهَا النبيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا} قَالَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أيُّها النبيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا حِرْزا(19/177)
لِلأُمِّيِّينَ أنتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَلا سَخَّابٍ بِالأسْوَاقِ وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلاكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الملَّةَ العَوْجَاءَ بأنْ يَقُولُوا لَا إلاه إلاَّ الله فَيَفْتَحُ بِهَا أعْيُنا عُمْيا وَآذَانا صُمّا وَقُلُوبا غُلَفا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله كَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة غير أبي ذَر، وَابْن السكن، وَوَقع فِي روايتهما عبد الله بن مسلمة وَأَبُو مَسْعُود تردد فِي عبد الله غير مَنْسُوب بَين أَن يكون عبد الله بن رَجَاء ضد الْخَوْف. أَو عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: عِنْدِي أَنه عبد الله بن صَالح، وَرجحه الْمزي وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن عبد الله بن أبي سَلمَة دِينَار الْمَاجشون، وهلال بن أبي هِلَال، وَيُقَال: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة وَهُوَ هِلَال بن عَليّ الْمَدِينِيّ، سمع عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب كَرَاهَة السخب فِي السُّوق، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (حرْزا) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا زَاي أَي: حصنا للأميين وهم الْعَرَب. قَوْله: (لَيْسَ) ، فِيهِ الْتِفَات من الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة (والسخاب) على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ لُغَة فِي الصخاب بالصَّاد وَهُوَ العياط. قَوْله: (الْملَّة العوجاء) هِيَ مِلَّة الْكفْر قَوْله: (أعينا عميا) وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: أعين عمي، بِالْإِضَافَة، وَكَذَا الْكَلَام فِي الآذان والقلوب. (والغلف) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة جمع أغلف أَي: مغطى ومغشى، وَمِنْه غلاف السَّيْف.
4 - (بابٌ: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنينَ} (الْفَتْح: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة} أَي: الرَّحْمَة والطمأنينة، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كل سكينَة فِي الْقُرْآن فَهِيَ الطُّمَأْنِينَة إلاَّ الَّتِي فِي الْبَقَرَة.
9384 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ البَرَاءِ رَضِي الله عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ وَفَرَسٌ لَهُ مَرْبُوطٌ فِي الدَّارِ فَجَعَلَ يَنْفِرُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئا وَجَعَلَ يَنْفِرُ فَلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تِلْكَ السَّكِينةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو إِسْحَاق اسْمه عَمْرو بن عبد الله، وَإِسْرَائِيل هَذَا يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (رجل) ، هُوَ أسيد بن حضير كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخرى. وَكَانَ الَّذِي يقْرَأ سُورَة الْكَهْف وَفِيه فَنزلت الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ بأمثال المصابيح وَعند البُخَارِيّ مُعَلّقا من حَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ مُسْند عِنْد النَّسَائِيّ أَن أسيدا بَيْنَمَا هُوَ يقْرَأ من اللَّيْل سُورَة الْبَقَرَة إِذْ جالت الْفرس فسكنت ثَلَاث مَرَّات فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَإِذا مثل الظلمَة فِيهَا أَمْثَال المصابيح، فَحدث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: وَمَا تَدْرِي مَا ذَاك؟ تِلْكَ الْمَلَائِكَة دنت لصوتك، وَلَو قَرَأت لأصبحت ينظر النَّاس إِلَيْهَا انْتهى وَزعم بعض الْعلمَاء أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ أَو يحْتَمل أَنه قَرَأَ كلتيهما هَذَا إِذا قُلْنَا بتساوي الرِّوَايَتَيْنِ، وَأما إِذا رجحنا الْمُتَّصِل على الْمُعَلق فَلَا يحْتَاج إِلَى جمع أَو أَن الرَّاوِي ذكر المهم وَهُوَ نزُول الْمَلَائِكَة وَهِي السكينَة.
5 - (بابُ قَوْلِهِ: {إذْ يُبَايِعُوكَ تَحْتَ الشَّجَرَة} (الْفَتْح: 81)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (إِذْ يُبَايعُونَك) تَحت الشَّجَرَة وأوله: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك} هِيَ بيعَة الرضْوَان سميت بذلك لقَوْله: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ} والشجرة كَانَت سَمُرَة، وَقيل: سِدْرَة وَرُوِيَ أَنَّهَا عميت عَلَيْهِم من قَابل فَلم يدروا أَيْن ذهبت، وَقيل: كَانَت بفج نَحْو مَكَّة. وَقَالَ نَافِع: ثمَّ كَانَ النَّاس بعد يأتونها فيصلون تحتهَا فَبلغ ذَلِك عمر، رَضِي(19/178)
الله تَعَالَى عَنهُ، فَأمر بقطعها والمبايعون كَانُوا ألفا وَخَمْسمِائة وَخَمْسَة وَعشْرين. وَقيل ألفا وَأَرْبَعمِائَة على مَا يَأْتِي الْآن، وَقيل: ألفا وثلاثمائة.
0484 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْروٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ الحُدَيْبِيَّةِ ألْفا وَأرْبَعَمِائَةٍ..
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعمر وَهُوَ ابْن دِينَار وَجَابِر بن عبد الله وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة.
336 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة قَالَ سَمِعت عقبَة بن صهْبَان عَن عبد الله بن مُغفل الْمُزنِيّ إِنِّي مِمَّن شهد الشَّجَرَة نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْخذف وَعَن عقبَة بن صهْبَان قَالَ سَمِعت عبد الله بن الْمُغَفَّل الْمُزنِيّ فِي الْبَوْل فِي المغتسل) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله إِنِّي مِمَّن شهد الشَّجَرَة وَأما الحَدِيث الْمَوْقُوف وَالْمَرْفُوع فَلَا تعلق لَهما بتفسير هَذِه الْآيَة وَلَا بِهَذِهِ السُّورَة وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ كَذَا للأكثرين وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي عَليّ بن سَلمَة اللبقي بِفَتْح اللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْقَاف النَّيْسَابُورِي وَبِه جزم الكلاباذي وشبابة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى وَكَذَا الثَّانِيَة بعد الْألف ابْن سوار بِالسِّين الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَعقبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن صهْبَان بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وبالباء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن مُغفل بالغين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء مضى عَن قريب وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن آدم وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن أبي مُوسَى وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن حَفْص بن عمر وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّيْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن بنْدَار عَن غنْدر وَهَذَا حَدِيث مَرْفُوع قَوْله وَعَن عقبَة بن صهْبَان إِلَى آخِره مَوْقُوف وَإِنَّمَا أوردهُ لبَيَان التَّصْرِيح بِسَمَاع عقبَة بن صهْبَان عَن عبد الله بن مُغفل وَهَذَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة عَن الْحسن عَن عبد الله بن مُغفل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يَبُول الرجل فِي مستحمه وَقَالَ إِن عَامَّة الوسواس مِنْهُ وَهَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ أخرجه فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن حجر وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل والحلواني وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى قَوْله " نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْخذف " وَلَفظ نهى أَو أَمر أَو زجر من الصَّحَابِيّ مَحْمُول على الرّفْع عِنْد الجماهير قَوْله " عَن الْخذف " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبالفاء هُوَ رميك حَصَاة أَو نواتا تأخذها بَين سبابتيك أَو بَين إبهامك وسبابتك وَقَالَ ابْن فَارس خذفت الْحَصَاة إِذا رميتها بَين إصبعيك وَقَالَ ابْن الْأَثِير أَن تتَّخذ مخذفة من خشب ثمَّ ترمي بهَا الْحَصَاة بَين إبهاميك والسبابة وَيُقَال الْخذف بِالْمُعْجَمَةِ بالحصى والحذف بِالْمُهْمَلَةِ بالعصى قَوْله " فِي الْبَوْل فِي المغتسل " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر عَن السَّرخسِيّ زِيَادَة وَهِي قَوْله يَأْخُذ مِنْهُ الوسواس وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ الأولى النَّهْي عَن الْخذف لكَونه لَا ينْكَأ عدوا وَلَا يقتل الصَّيْد وَلَكِن يفقأ الْعين وَيكسر السن وَهَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم وَلِأَنَّهُ لَا مصلحَة فِيهِ وَيخَاف مفسدته ويلتحق بِهِ كل مَا شاكله فِي هَذَا وَفِيه أَن مَا كَانَ فِيهِ مصلحَة أَو حَاجَة فِي قتال الْعَدو أَو تَحْصِيل الصَّيْد فَهُوَ جَائِز وَمن ذَلِك رمي الطُّيُور الْكِبَار بالبندق إِذا كَانَ لَا يَقْتُلهَا غَالِبا بل تدْرك حَيَّة فَهُوَ جَائِز قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة النَّهْي عَن الْبَوْل فِي المغتسل قَالَ الْخطابِيّ إِنَّمَا نهى عَن مغتسل يكون جددا صلبا وَلم يكن لَهُ مَسْلَك ينفذ مِنْهُ الْبَوْل ويروى عَن عَطاء إِذا كَانَ يسيل فَلَا بَأْس وَعَن ابْن الْمُبَارك قد وسع فِي الْبَوْل فِي المغتسل إِذا جرى فِيهِ المَاء وَقَالَ بِهِ أَحْمد فِي رِوَايَة وَاخْتَارَهُ غير وَاحِد من أَصْحَابه وروى الثَّوْريّ عَمَّن سمع عَن ابْن مَالك يَقُول إِنَّمَا كره مَخَافَة اللمم وَعَن أَفْلح بن حميد رَأَيْت الْقَاسِم بن مُحَمَّد يَبُول فِي مغتسله وَفِي كتاب ابْن مَاجَه عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي قَالَ إِنَّمَا هَذَا فِي الحفيرة فَأَما الْيَوْم فمغتسلاتهم بجص وصاروج يَعْنِي النورة وأخلاطها والقير(19/179)
فَإِذا بَال وَأرْسل عَلَيْهِ المَاء فَلَا بَأْس وَمِمَّنْ كره الْبَوْل فِي المغتسل عبد الله بن مَسْعُود وَزَاد أَن الْكِنْدِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَبكر بن عبد الله الْمُزنِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَعَن أبي بكرَة لَا يبولن أحدكُم فِي مغتسله وَعَن عبد الله بن يزِيد الْأنْصَارِيّ لَا تبل فِي مغتسلك وَعَن عمرَان بن حُصَيْن من بَال فِي مغتسله لم يطهر وَعَن لَيْث بن أبي سليم عَن عَطاء عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت مَا طهر الله رجلا يَبُول فِي مغتسله وَرخّص فِيهِ ابْن سِيرِين وَآخَرُونَ -
3484 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيدِ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ ثَابِتِ بنِ الضَّحَاكِ رَضِيَ الله عَنهُ وَكَانَ مِنْ أصْحابِ الشَّجَرَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن الْوَلِيد بن عبد الحميد البشري، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة وبالراء الْبَصْرِيّ، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَأَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد، وثابت بن الضَّحَّاك بن خَليفَة بن ثَعْلَبَة بن عدي الأشْهَلِي مَاتَ فِي فتْنَة ابْن الزبير.
4484 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ إسْحَاقَ السُّلَمِيُّ حدَّثنا يَعْلَى حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ سِياهٍ عنْ حَبِيبِ بنِ أبِي ثَابِتٍ قَالَ أتَيْتُ أبَا وَائِلٍ أسْأَلُهُ فَقَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَال رَجُلٌ ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَدْعَوْنَ إلَى كِتابِ الله فَقَالَ عَلِيٌّ نَعَمْ فَقَالَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ اتَّهِمُوا أنْفُسَكُمْ فَلَقَدْ رَأيْتُنا يَوْمَ الحُدَيْبِيَّةِ يَعْنِي الصَّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالمُشْرِكِينَ وَلَوْ نَرَى قِتالاً لَقَاتَلْنا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ ألَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمَ عَلَى البَاطِلِ ألَيْسَ قَتْلانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَفِيمَ أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِيننا وَنَرْجِعُ وَلَمْ يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا فَقَالَ يَا ابنَ الخَطَّابِ إنِّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَنِي الله أبَدا فَرَجَعَ مُتَغَيِّظا فَلَمْ يَعْتَبِرْ حَتَّى جَاءَ أبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أبَا بَكْرٍ ألَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ قَالَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ إنَّهُ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَنْ يُضَيِّعهُ الله أبَدا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه فِي قَضِيَّة الْحُدَيْبِيَة وَأحمد بن إِسْحَاق بن الْحصين بن جَابر بن جندل أَبُو إِسْحَاق السّلمِيّ بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام السرماري نِسْبَة إِلَى سرمارة قَرْيَة من قرى بخاري، ويعلى بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالقصر ابْن عبيد، وَعبد الْعَزِيز بن سياه، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالهاء بعد الْألف، لفظ فَارسي. وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْأسود، وَهُوَ منصرف، وحبِيب بن أبي ثَابت واسْمه قيس بن دِينَار الْكُوفِي، وَأَبُو وَائِل بِالْهَمْز بعد الْألف اسْمه شَقِيق بن سَلمَة.
والْحَدِيث مر فِي بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد مطولا جدا وَفِيه قَضِيَّة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَضِيَّة سهل بن حنيف مَضَت مختصرة فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة وَذكره البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة والاعتصام وَفِي الْمَغَازِي وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
قَوْله: (بصفين) ، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَالْفَاء الْمُشَدّدَة: بقْعَة بِقرب الْفُرَات كَانَت بهَا وقْعَة بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَهُوَ غير منصرف. قَوْله: (فَقَالَ رجل: ألم تَرَ إِلَى الَّذين يدعونَ إِلَى كتاب الله} ، وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) الرِّوَايَة هُنَا بِفَتْح الْيَاء من: يدعونَ، وَضم الْعين وَكَانَ هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ من أَصْحَاب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يرد التِّلَاوَة وسَاق الْكرْمَانِي الْآيَة. {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يدعونَ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {معرضون} (الحجرات: 9) ثمَّ قَالَ: فَقَالَ الرجل مقتبسا مِنْهُ ذَلِك وغرضه إِمَّا أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابه: {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغى} فيمَ يدعونَ إِلَى الْقِتَال وهم لَا يُقَاتلُون.
قَوْله: (فَقَالَ عَليّ: نعم) ، زَاد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: أَنا أولى بذلك. أَي: بالإجابة إِذا دعيت إِلَى الْعَمَل بِكِتَاب الله لأنني واثق بِأَن الْحق بيَدي. قَوْله: (فَقَالَ سهل بن حنيف: اتهموا أَنفسكُم) ، ويروى: رَأْيكُمْ يُرِيد أَن الْإِنْسَان قد يرى رَأيا وَالصَّوَاب غَيره، وَالْمعْنَى: لَا تعملوا بآرائكم، يَعْنِي: مضى النَّاس إِلَى الصُّلْح بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة وَذَلِكَ أَن سهلاً ظهر لَهُ من(19/180)
أَصْحَاب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَرَاهَة التَّحْكِيم وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَانَ سهل يتهم بالتقصير فِي الْقِتَال. فَقَالَ: اتهموا أَنفسكُم فَإِنِّي لَا أقصر وَمَا كنت مقصرا وَقت الْحَاجة. كَمَا فِي يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فَإِنِّي رَأَيْت نَفسِي يَوْمئِذٍ بِحَيْثُ لَو قدرت مُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلت قتالاً عَظِيما. لَكِن الْيَوْم لَا نرى الْمصلحَة فِي الْقِتَال بل التَّوَقُّف أولى لمصَالح الْمُسلمين، وَأما الْإِنْكَار على التَّحْكِيم أفليس ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى؟ فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نعم، المنكرون هم الَّذين عدلوا عَن كتاب الله لِأَن الْمُجْتَهد لما رأى أَن ظَنّه أدّى إِلَى جَوَاز التَّحْكِيم فَهُوَ حكم الله، وَقَالَ سهل: اتهموا أَنفسكُم فِي الْإِنْكَار لأَنا أَيْضا كُنَّا كارهين لترك الْقِتَال يَوْم الْحُدَيْبِيَة وقهرنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصُّلْح. وَقد أعقب خيرا عَظِيما قَوْله: {وَلَقَد رَأَيْتنَا} أَي: وَلَقَد رَأَيْت أَنْفُسنَا. قَوْله: (وَلَو نرى) بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ غَيره. قَوْله: (أعطي) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الطَّاء ويروى: نعطي، بالنُّون. قَوْله: (الدنية) بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف أَي: الْخصْلَة الدنية وَهِي الْمُصَالحَة بِهَذِهِ الشُّرُوط الَّتِي تدل على الْعَجز، والضعف. قَوْله: (فَلم يصبر حَتَّى جَاءَ أَبَا بكر) قَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ بِمَحْفُوظ إِنَّمَا كلم أَبَا بكر أَولا ثمَّ كلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
94 - ( {سُورَةُ الحُجُرَاتِ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة الحجرات، وَفِي بَعْص النّسخ: الحجرات، بِدُونِ لفظ: سُورَة، وَهِي رِوَايَة غير أبي ذَر، وَرِوَايَة أبي ذَر: سُورَة الحجرات: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة، كلهَا مَا بلغنَا فِيهَا اخْتِلَاف، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد المجادلة وَقبل التَّحْرِيم، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَسِتَّة وَسَبْعُونَ حرفا. وثلاثمائة وَثَلَاث وَأَرْبَعُونَ كلمة. وثمان عشرَة آيَة. وَقَالَ الزّجاج: يقْرَأ الحجرات بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَيجوز فِي اللُّغَة التسكين وَلَا أعلم أحدا قَرَأَهُ وَهِي جمع الْحجر وَالْحجر جمع حجرَة وَهُوَ جمع الْجمع، وَالْمرَاد بيُوت أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر لَيْسَ إلاَّ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ لَا تُقْدِّمُوا لَا تَفتَانوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يَقْضِي الله عَلَى لِسَانِهِ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} (الحجرات: 1) وَفسّر قَوْله: {لَا تفتاتوا} أَي: لَا تسبقوا من الإفتيات وَهُوَ افتعال من الْفَوْت وَهُوَ السَّبق إِلَى الشَّيْء دون ائتمار من يؤتمر، ومادته فَاء وواء وتاء مثناة من فَوق، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اخْتلف فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا} الْآيَة. فَعَن ابْن عَبَّاس. لَا تَقولُوا خلاف الْكتاب وَالسّنة. وَعنهُ: لَا تتكلموا بَين يَدي كَلَامه، وَعَن جَابر وَالْحسن: لَا تذبحوا قبل أَن يذبح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَمرهمْ أَن يُعِيدُوا الذّبْح، وَعَن عَائِشَة: لَا تَصُومُوا قبل أَن يَصُوم نَبِيكُم، وَعَن عبد الله بن الزبير، قَالَ: قدم وَفد من بني تَمِيم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة، وَقَالَ عمر: أَمر الْأَقْرَع بن حَابِس، وَقَالَ أَبُو بكر: مَا أردْت إلاَّ خلافي، وَقَالَ عمر: مَا أردْت خِلافك. فارتفعت أصواتهما فَأنْزل الله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} الْآيَة، وَعَن الضَّحَّاك: يَعْنِي فِي الْقِتَال وَشَرَائِع الدّين يَقُول: لَا تقضوا أمرا دون الله وَرَسُوله، وَعَن الْكَلْبِيّ: لَا تسبقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول وَلَا فعل حَتَّى يكون هُوَ يَأْمُركُمْ، وَعَن ابْن زيد: لَا تقطعوا أمرا دون الله وَرَسُوله وَلَا تَمْشُوا بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لَا تقدمُوا) ، بِضَم التَّاء وَتَشْديد الدَّال الْمَكْسُورَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قدمه وأقدمه منقولان بتنقيل الحشو والهمزة من قدمة إِذا تقدمه وَحذف مَفْعُوله ليتناول كل مَا يَقع فِي النَّفس مِمَّا يقدم، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه قَرَأَ بِفَتْح التَّاء وَالدَّال وَقَرَأَ: لَا تقدمُوا، بِفَتْح التَّاء وَتَشْديد الدَّال بِحَذْف إِحْدَى التَّاءَيْنِ من تتقدموا.
امْتَحَنَ أخْلَصَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى} (الحجرات: 3) وَفَسرهُ بقوله: أخْلص، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة. قَالَ: أخْلص الله قُلُوبهم فِيمَا أحب.
تَنَابَزُوا يَدْعَى بِالكَفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) بِمَا حَاصله من مصدره، وَهُوَ التَّنَابُز، وَهُوَ أَن يدعى الرجل بالْكفْر بعد الْإِسْلَام، وَحَاصِله مَا قَالَه مُجَاهِد: لَا تَدْعُو الرجل بالْكفْر وَهُوَ مُسلم، وَعَن عِكْرِمَة: هُوَ قَول الرجل للرجل: فَاسق(19/181)
يَا مُنَافِق يَا كَافِر، وَسبب نُزُوله مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك، قَالَ: فِينَا نزلت هَذِه الْآيَة فِي بني سَلمَة قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَمَا منا رجل إلاَّ لَهُ إسمان أَو ثَلَاثَة. فَكَانَ إِذا دَعَا الرجل الرجل قُلْنَا: يَا رَسُول إِنَّه يغْضب من هَذَا فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) .
يَلِتْكُمْ يَنْقُصْكُمْ ألَتْنا: نَقَصْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم} (الحجرات: 41) وَفسّر: (يلتكم) بقوله: (ينقصكم) وَهُوَ من لات يليت ليتا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لاته عَن وَجهه يليته ويلوته ليتا أَي: حَبسه عَن وَجهه وَصَرفه، وَكَذَلِكَ ألاته عَن وَجهه فعل وأفعل بِمَعْنى: وَيُقَال أَيْضا: مَا ألاته من عمله شَيْئا. أَي: مَا انقصه. مثل ألته. قَوْله: (ألتنا: نقصنا) ، هَذَا فِي سُورَة الطّور ذكره هُنَا اسْتِطْرَادًا.
1 - (بابٌ: {لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيِّ} (الحجرات: 2) الآيَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل} إِلَى آخر الْآيَة. وَحَدِيث الْبَاب يُفَسر الْآيَة وَيبين سَبَب نُزُولهَا.
تشْعُرُونَ تَعْلَمُونَ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُم لَا تشعرون} (الحجرات: 2) وَفَسرهُ بقوله: تعلمُونَ، وَكَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ. قَوْله: (وَمِنْه الشَّاعِر) ، أَرَادَ بِهِ من جِهَة الِاشْتِقَاق، يُقَال: شَعرت بالشَّيْء اشعر بِهِ شعرًا. أَي: فطنت لَهُ، وَمِنْه سمي الشَّاعِر لفطنته فَافْهَم.
5484 - حدَّثنا يَسَرَةُ بنُ صَفْوَانَ بنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حدَّثنا نافِعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الخَيْرَانِ يَهْلِكَانِ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُمَا رَفَعا أصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فأشارَ أحدُهُما بالأُقْرَعِ بنِ حابِسٍ أخِي بَنِي مُجاشِعٍ وَأشارَ الآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِ لَا أحْفَظُ اسْمَهُ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ مَا أرَدْتَ إلاّ خِلافِي قَالَ مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتِهُما فِي ذَلِكَ فَأنْزَلَ الله: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ} الآيَةَ.
قَالَ ابنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ هاذِهِ الآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذالِكَ عَنْ أبِيهِ يَعْنِي أبَا بَكْرٍ رَضِيَ الله عنهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وبسرة، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة وَالرَّاء ابْن صَفْوَان بن جميل، بِالْجِيم ضد الْقَبِيح. الملخمي بِسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة الدِّمَشْقِي، وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَابْن أبي مليكَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم واسْمه زُهَيْر. وَكَانَ عبد الله قَاضِي مَكَّة على عهد ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ من الثلاثيات لِأَن عبد الله تَابِعِيّ وَهُوَ من الْمَرَاسِيل، وَقيل: صورته صُورَة الْإِرْسَال لَكِن ظهر فِي آخِره ابْن أبي مليكَة حمله عَن عبد الله بن الزبير، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بعده التَّصْرِيح بذلك، وَقد مضى الحَدِيث فِي وَفد بني تَمِيم من وَجه آخر.
قَوْله: (كَاد الخيران يهلكان) ، بالنُّون. قَوْله: (أَبَا بكر) ، بِالنّصب خبر: كَانَ، وَعمر، عطف عَلَيْهِ كَذَا لأبي ذَر وَفِي رِوَايَة بِحَذْف النُّون: يهلكا بِلَا ناصب وَلَا جازم وَهِي لُغَة، وَالْأَصْل: يهلكان، بالنُّون، (والخيران) بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة أَي: الفاعلان للخير الْكثير يهلكان، وَفِي (التَّوْضِيح) . وَيجوز بِالْمُهْمَلَةِ أَيْضا. قلت: أَرَادَ الْخَبَر بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ الْعَالم، وَيجوز فِي الْخَبَر الْفَتْح وَالْكَسْر. قَالَه ابْن الْأَثِير. قَوْله: (حِين قدم عَلَيْهِ ركب بني تَمِيم) ، كَانَ قدومهم سنة تسع من الْهِجْرَة، والركب أَصْحَاب الْإِبِل فِي السّفر. قَوْله: (فَأَشَارَ أَحدهمَا بالأقرع بن حَابِس) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤمر عَلَيْهِم أحدا فَأَشَارَ أَحدهمَا هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤمر(19/182)
الْأَقْرَع بن حَابِس، والأقرع لقبه واسْمه فراس بن حَابِس بن عقال، بِالْكَسْرِ وَتَخْفِيف الْقَاف: ابْن مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التَّمِيمِي الدَّارمِيّ، وَكَانَت وَفَاة الْأَقْرَع فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (بِرَجُل آخر) ، وَهُوَ الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة بن عدس بن يزِيد بن عبد الله بن دارم التَّمِيمِي الدَّارمِيّ، قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ يُقَال لَهُ تيار الْفُرَات لجوده. قَوْله: (مَا أردْت إِلَّا خلافي) أَي لَيْسَ مقصودك إِلَّا مُخَالفَة قولي. قَوْله: (قَالَ ابْن الزبير) أَي عبد الله بن الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (يسمع) ، بِضَم الْيَاء من الأسماع، وَلَا شكّ أَن رفع الصَّوْت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوق صَوته حرَام بِهَذِهِ الْآيَة. فَإِن قلت: ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَن عمر اسْتَأْذن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْده نسَاء من قُرَيْش يكلمنه عالية أصواتهن. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك قبل النَّهْي أَو يكون علو الصَّوْت كَانَ بالهيئة الاجتماعية لَا بانفراد كل مِنْهُنَّ. قَوْله: (عَن أَبِيه يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أطلق الْأَب على الْجد مجَازًا، لِأَن أَبَا بكر أَبُو أم عبد الله، وَهِي أَسمَاء بنت أبي بكر، وَقَالَ بَعضهم: قَالَ مغلطاي: يحْتَمل أَنه أَرَادَ بذلك أَبَا بكر عبد الله بن الزبير، أَو أَبَا بكر عبد الله بن أبي مليكَة. فَإِن لَهُ ذكرا فِي الصَّحَابَة عِنْد ابْن أبي عمر وَأبي نعيم، وَهَذَا بعيد عَن الصَّوَاب، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَأغْرب بعض الشُّرَّاح ثمَّ ذكر مَا ذكره بَعضهم. قلت: لَا يشك فِي بعده عَن الصَّوَاب، وَلَكِن يُؤَاخذ بَعضهم بقوله، قَالَ مغلطاي، فَذكره هَكَذَا يشْعر بالتحقير، وَكَذَلِكَ صَاحب (التَّلْوِيح) يَقُول: وَأغْرب بعض الشُّرَّاح، مَعَ أَنه شَيْخه وَلم يشرع الَّذِي جمعه إلاَّ من كتاب شَيْخه هَذَا وَلم يذكر من خَارج إلاَّ شَيْئا يَسِيرا.
6484 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا أزْهَر بنُ سَعْدٍ أخْبَرَنا ابنُ عَوْن قَالَ أنْبَأَنِي مُوسَى بنُ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِي الله عنهُ أنَّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتَقَدَ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله أنَا أعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأتاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسا فِي بَيْتِهِ مُنَكَّسا رَأسَهُ فَقَالَ لهُ مَا شَأنُكَ فَقَالَ شَر كانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَأتَى الرَّجُلُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبَرَهُ أنَّهُ قَالَ كَذَا وَكذا فَقَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إلَيْهِ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إنَّكَ لَسْتَ مِنْ أهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أهْلِ الجنةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يرفع صَوته فَوق صَوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَمر هَذَا الحَدِيث فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن، وَهَذَا مُكَرر صَرِيحًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة إلاَّ ذكره فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَابْن عون هُوَ عبد الله، ومُوسَى هُوَ ابْن أنس بن مَالك قَاضِي الْبَصْرَة، يروي عَن أَبِيه.
قَوْله: (فَقَالَ رجل) هُوَ سعيد بن معَاذ. قَوْله: أَنا أعلم لَك علمه الْقيَاس أَن يَقُول: أَنا أعلم لَك حَاله لَا علمه، لَكِن قَوْله: مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول أَي: أعلم لِأَجلِك علما يتَعَلَّق بِهِ. قَوْله: (لكنك من أهل الْجنَّة) ، صَرِيح فِي أَنه من أهل الْجنَّة وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين الْعشْرَة المبشرة لِأَن مفهموم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ. فَلَا يَنْفِي الزَّائِد أَو الْمَقْصُود من الْعشْرَة الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ: بشرت بِالْجنَّةِ، أَو المبشرون بدفعة وَاحِدَة، فِي مجْلِس وَاحِد، وَلَا بُد من التَّأْوِيل إِذْ بِالْإِجْمَاع أَزوَاج الرَّسُول وَفَاطِمَة والحسنان وَنَحْوهم من أهل الْجنَّة.
2 - (بابٌ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (الحجرات: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الَّذين} الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ (إِن الَّذين يُنَادُونَك يَعْنِي أَعْرَاب تَمِيم نادوا يَا مُحَمَّد أخرج إِلَيْنَا فَإِن مَدْحنَا زين وذمنا شين، وَقَالَ قَتَادَة: وَعَن زيد بن أَرقم: جَاءَ نَاس من الْعَرَب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بَعضهم لبَعض: انْطَلقُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرجل فَإِن يكن نَبيا نَكُنْ أسعد النَّاس، وَإِن يكن ملكا نعش فِي جنابه، فجاؤوا إِلَى حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعلُوا يُنَادُونَهُ: يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُنَادُونَك} الآيَةَ.(19/183)
7484 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا حَجَّاجٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أخْبَرَنِي ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُمْ أنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أبُو بَكْرٍ أمْرِ القَعْقَاعَ بنَ مَعْبَدٍ وَقَالَ عُمَرُ بَلْ أمْرِ الأقْرَعَ بنَ حَابِسٍ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ مَا أرَدْتَ إلَى أوْ إلاَّ خِلافِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أرَدْتُ خِلافَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذالِكَ: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} (الْحجر: 1) حَتَّى انْقَضَتِ الآيَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (قدم ركب من بني تَمِيم) وَقد ذكرنَا الْآن أَن {الَّذين يُنَادُونَك} (الْحجر: 4) أَعْرَاب تَمِيم، وَالْحسن بن مُحَمَّد ابْن الصَّباح، أَبُو عَليّ الزَّعْفَرَانِي، وحجاج هُوَ ابْن مُحَمَّد الْأَعْوَر وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَابْن أبي مليكَة عبد الله وَقد مر عَن قريب.
والْحَدِيث أَيْضا وَمر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (فتماريا) ، أَي: تجادلا وتخاصما.
ب
(بابُ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَنَ خَيْرا لَهُمْ} (الْحجر: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا} الْآيَة. وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ: لفظ بَاب وَهَكَذَا فِي جَمِيع الرِّوَايَات التَّرْجَمَة بِلَا حَدِيث. وَالظَّاهِر أَنه أخلى مَوضِع الحَدِيث فإمَّا أَنه لم يظفر بِشَيْء على شَرطه أَو أدْركهُ الْمَوْت، وَالله أعلم. قَوْله: (وَلَو أَنهم) ، أَي: الَّذين يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات لَو صَبَرُوا، وَقَوله: أَنهم فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية لِأَن الْمَعْنى وَلَو ثَبت صبرهم وَالصَّبْر حبس النَّفس عَن أَن تنَازع إِلَى هَواهَا. قَوْله: (حَتَّى تخرج) ، خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
05 - ( {سُورَةُ ق} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة (ق) . وَهِي مَكِّيَّة كلهَا، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبع وَتسْعُونَ حرفا، وثلاثمائة، وَسبع وَخَمْسُونَ كلمة، وَخمْس وَأَرْبَعُونَ آيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى أقسم الله بِهِ، وَعَن قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن القرطي: افْتِتَاح اسْم الله تَعَالَى: قدير وقادر وقاهر وَقَرِيب وقاضي وقابض، وَعَن الشّعبِيّ: فَاتِحَة السُّورَة: وَعَن عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك: هُوَ جبل مُحِيط بِالْأَرْضِ من زمردة خضراء مُتَّصِلَة عروقه بالصخرة الَّتِي عَلَيْهَا الأَرْض كَهَيئَةِ الْقبَّة وَعَلِيهِ كتف السَّمَاء وخضرة السَّمَاء مِنْهُ. والعالم دَاخله وَلَا يعلم مَا وَرَاءه إلاَّ الله تَعَالَى، وَمَا أصَاب النَّاس من زمرد مَا سقط من ذَلِك الْجَبَل، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مقَاتل: هُوَ أول جبل خلق وَبعده أَبُو قيس.
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
رَجْعٌ بعِيدٌ رَدٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا ذَلِك رَجَعَ بعيد} (ق: 3) وَفسّر قَوْله: (رَجَعَ بعيد) بقوله: (ردّ) أَي: الرَّد إِلَى الْحَيَاة بعيد فَإِنَّهُم مَا كَانُوا يعترفون بِالْبَعْثِ، يُقَال: رجعته رجعا فَرجع هُوَ رُجُوعا. قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِن رجعك الله} (التَّوْبَة: 38) .
فُرُوجٍ فُتُوقٍ، وَاحِدُها فَرْجٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وزيناها وَمَا لَهَا من فروج} أَي: وزينا السَّمَاء وَمَا لَهَا من فتوق وشقوق، والفروج جمع فرج، وَعَن ابْن زيد: الْفروج الشَّيْء المتفرق بعضه من بعض، وَعَن الْكسَائي: مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهَا تفَاوت وَلَا اخْتِلَاف.
مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ وَريدَاهُ فِي حَلْقِهِ الحَبْلُ حَبْلُ الْعاتِقِ
لم يثبت هَذَا إلاَّ لأبي ذَر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} (ق: 61) أَي: نَحن أقدر عَلَيْهِ من حَبل الوريد وَهُوَ عرق الْعُنُق، وأضاف الشَّيْء إِلَى نَفسه لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ، وَالتَّفْسِير الَّذِي ذكره رَوَاهُ الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.(19/184)
وَقَالَ مُجاهِدٌ: مَا تَنقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ مِنْ عِظامِهِمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {قد علمنَا مَا تنقض الأَرْض مِنْهُم} أَي: من عظامهم، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن زيد عَن ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وَادّعى ابْن التِّين أَنه وَقع من أعظامهم، وَأَن صَوَابه: من عظامهم، لِأَن فعلا بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْعين لَا يجمع على أَفعَال إلاَّ خَمْسَة أحرف: نَوَادِر، وَقيل: من أجسامهم.
تَبْصِرَةً بَصِيرَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} وَفسّر: (تبصرة) بقوله: (بَصِيرَة) أَي: جعلنَا ذَلِك تبصرة. قَوْله: (منيب) أَي مخلص.
حَبَّ الحَصِيدِ الحِنْطَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد} (ق: 9) وَفَسرهُ بقوله: (الْحِنْطَة) وَالشعِير وَسَائِر الْحُبُوب الَّتِي تحصد، وَهَذِه الْإِضَافَة من بَاب: مَسْجِد الْجَامِع وَحقّ الْيَقِين وربيع الأول.
بَاسِقاتٍ الطَّوَالُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّخْل باسقات} (ق: 01) وفسرها بقوله: (الطوَال) يُقَال: بسق الشَّيْء يبسق بسوقا إِذا طَال، وَقيل: إِن بسوقها استقامتها فِي الطول وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ باصقات بالصَّاد.
أفَعَيِينا أفأعْيا عَلَيْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم فِي لَيْسَ من خلق جَدِيد} (ق: 51) وَسقط هَذَا لأبي ذَر، وَفسّر: (أفعيينا) بقوله: (أفأعيا علينا) أَي: أفعجزنا عَنهُ وَتعذر علينا، يُقَال: عيي عَن كَذَا أَي عجز عَنهُ. قَوْله: (بل هم فِي لبس) ، أَي: فِي لبس الشَّيْطَان عَلَيْهِم الْأَمر قَوْله: (من خلق جَدِيد) ، يَعْنِي الْبَعْث.
وَقَالَ قَرِينُهُ الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَول تَعَالَى: {وَقَالَ قرينه: هَذَا مَا لدي عنيد} وَفسّر القرين بالشيطان الَّذِي قيض لَهُ، أَي: قدر، وَعَن قَتَادَة: الْملك الَّذِي وكل بِهِ كَذَا فِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) .
فَنَقَّبُوا: ضَرَبُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَنقبُوا فِي الْبِلَاد هَل من محيص} (ق: 63) وَفسّر قَوْله: (نقبوا) بقوله: (ضربوا) وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد، وَعَن الضَّحَّاك: طافوا، وَعَن النَّضر بن شُمَيْل: دوخوا. وَعَن الْفراء: خرقوا، وَعَن المؤرج: تباعدوا، وقرىء بِكَسْر الْقَاف مشددا على التهديد والوعيد، أَي: طوفوا الْبِلَاد وسيروا فِي الأَرْض وانظروا هَل من محيص من الْمَوْت وَأمر الله تَعَالَى؟ .
أَوْ أَلُقَى السَّمْعَ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} (ق: 73) وَفَسرهُ بقوله: (لَا يحدث نَفسه بِغَيْرِهِ) وَفِي التَّفْسِير أَو ألْقى السّمع أَي: اسْتمع الْقُرْآن وأصغى إِلَيْهِ وَهُوَ شَهِيد حَاضر تَقول الْعَرَب: ألق إِلَى سَمعك. أَي: اسْتمع.
حِينَ أنْشَأَكُمْ، وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ
سقط هَذَا لأبي ذَر، وَهَذَا بَقِيَّة تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أفعيينا} وَكَانَ حَقه أَن يكْتب عِنْده، وَالظَّاهِر أَنه من تخبيط النَّاسِخ.
رَقِيبٌ عَتِيدٌ رَصَدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {مَا يلفظ من قَول إلاّ لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} (ق: 81) وَفَسرهُ بقوله: (رصد) وَهُوَ الَّذِي يرصد، أَي: يرقب وَينظر، وَفِي التَّفْسِير: رَقِيب حَافظ عتيد حَاضر.
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ المَلَكانِ كَاتِبٌ وَشَهِيدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشيهد} (ق: 73) وَذكر أَنَّهُمَا الْملكَانِ أَحدهمَا الْكَاتِب وَالْآخر شَهِيد، وَعَن الْحسن: سائق يَسُوقهَا وشهيد يشْهد عَلَيْهَا بعملها.
شَهِيدٌ شَاهِدٌ بِالْقَلْبِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} أَي: شَاهد هَذَا بِالْقَلْبِ، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، بِالْقَلْبِ بِالْقَافِ وَاللَّام، وَفِي رِوَايَة غَيره بالغين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَكَذَا روى عَن مُجَاهِد.
لُغُوبٍ النصَبُ(19/185)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مسنا من لغوب} (ق: 83) وَفَسرهُ بِالنّصب وَهُوَ التَّعَب وَالْمَشَقَّة، ويروى: من نصب وَالنّصب، وَقَالَ عبد الزراق عَن معمر عَن قَتَادَة قَالَت الْيَهُود: إِن الله خلق الْخلق فِي سِتَّة أَيَّام وَفرغ من الْخلق يَوْم الْجُمُعَة واستراح يَوْم السبت، فأكذبهم الله تَعَالَى بقوله: {وَمَا مسنا من لغوب} .
وَقَالَ غَيْرُهُ: نَضِيدٌ الكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أكْمامِهِ، وَمَعْنَاهُ: مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإذَا خَرَجَ مِنْ أكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ.
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لَهَا طلع نضيد} (ق: 01) وَفسّر النضيد، بالكفرى، بِضَم الْكَاف وَفتح الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء وبالقصر: هُوَ الطّلع مَا دَامَ فِي أكمامه وَهُوَ جمع كم بِالْكَسْرِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَقَالَ مَسْرُوق: نخل الْجنَّة نضيد من أَصْلهَا إِلَى فرعها، وَثَمَرهَا منضد أَمْثَال القلال والدلاء، كلما قطفت مِنْهُ ثَمَرَة تنْبت مَكَانهَا أُخْرَى وأنهارها تجْرِي فِي غير أخدُود.
فِي أدْبَارِ النُّجُومُ وِأدْبَارِ السُّجُودِ كَانَ عَاصِمٌ يَفْتَحُ الَّتِي فِي (ق) وَيَكْسُر الَّتِي فِي (الطُّورِ) وَيُكْسَرَانِ جَمِيعا وَينصبَان.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فسبحه وأدبار السُّجُود} (ق: 3) وَوَافَقَ عَاصِمًا أَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ، وَخَالفهُ نَافِع وَابْن كثير وَحَمْزَة فكسروها، وَقَالَ الدَّاودِيّ: من قَرَأَ: وأدبار النُّجُوم، بِالْكَسْرِ يُرِيد عِنْد ميل النُّجُوم، وَمن قَرَأَ: بِالْفَتْح يَقُول بعد ذَلِك قَوْله عز وَجل: {وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب وَمن اللَّيْل فسبحه وإدبار النُّجُوم} قَوْله: (سبح بِحَمْد رَبك) قيل: حَقِيقَة مُطلقًا، وَقيل: دبر المكتوبات، وَذكره البُخَارِيّ بعد عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: صل، فَقيل: النَّوَافِل أدبار المكتوبات وَقيل: الْفَرَائِض. قَوْله: (قبل طُلُوع الشَّمْس) ، يَعْنِي الصُّبْح، (وَقبل الْغُرُوب) يَعْنِي: الْعَصْر. قَوْله: (وَمن اللَّيْل فسبحه) يَعْنِي: صَلَاة الْعشَاء، وَقيل: صَلَاة اللَّيْل. قَوْله: (وأدبار السُّجُود) الركعتان بعد الْمغرب، (وأدبار النُّجُوم) الركعتان، قبل الْفجْر، والأدبار بِالْفَتْح جمع دبر وبالكسر مصدر من أدبر يدبر إدبارا قَوْله: (ويكسران جَمِيعًا) يَعْنِي: الَّتِي فِي ق وَالَّتِي فِي الطّور. قَوْله: (وينصبان) أَرَادَ بِهِ يفتحان جَمِيعًا. وَرجح الطَّبَرِيّ الْفَتْح فيهمَا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ يَوْمَ الخُرُوجِ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ القُبُورِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يسمعُونَ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ ذَلِك يَوْم الْخُرُوج} (ق: 24) أَي: يَوْم يخرج النَّاس من قُبُورهم، وَهَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس لَفظه.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (ق: 03)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد} قَالَ الثَّعْلَبِيّ: يحْتَمل قَوْله {هَل من مزِيد} جحدا مجازه: مَا من مزِيد، وَيحْتَمل أَن يكون استفهاما بِمَعْنى الاستزاداة أَي: هَل من زِيَادَة فأزاده، وَإِنَّمَا صلح للوجهين لِأَن فِي الِاسْتِفْهَام ضربا من الْجحْد وطرفا من النَّفْي.
8484 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْوَدِ حدَّثنا حَرَمِيُّ بنُ عِمَارَةَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعُ قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن أبي الْأسود. اسْمه حميد بن الْأسود أَبُو بكر ابْن أُخْت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الْحَافِظ الْبَصْرِيّ، وحرمي هُوَ ابْن عمَارَة بن أبي حَفْصَة أَبُو روح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حرمي مَنْسُوب إِلَى الْحرم بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاء المفتوحتين قلت: وهم فِيهِ لِأَنَّهُ علم وَلَيْسَ بمنسوب إِلَى الْحرم، وَمَا غره إلاَّ الْبَاء الَّتِي فِيهِ ظنا مِنْهُ أَنَّهَا يَاء النِّسْبَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ علم(19/186)
مَوْضُوع كَذَلِك مثل كرْسِي وَنَحْوه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد.
قَوْله: (يلقى فِي الناى) ، أَي: يلقى فِيهَا أَهلهَا (وَتقول) أَي النَّار: (هَل من مزِيد) قَوْله: (حَتَّى يضع) أَي: الرب قدمه، وَرِوَايَة مُسلم تَفْسِيره مثل مَا ذكرنَا. فروى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تزَال جَهَنَّم يلقى فِيهَا وَتقول: هَل من مزِيد، حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه فيروى بَعْضهَا إِلَى بعض، وَتقول: قطّ قطّ، بعزتك وكرمك الحَدِيث، وروى أَيْضا من حَدِيث شَيبَان عَن قَتَادَة رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه فيروى بَعْضهَا إِلَى بعض، وَتقول: قطّ قطّ، بعزتك وكرمك الحَدِيث، وروى أَيْضا من حَدِيث شَيبَان عَن قَتَادَة. قَالَ: حَدثنَا أنس بن مَالك أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تزَال جَهَنَّم تَقول: هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعِزَّة قدمه. فَتَقول: قطّ قطّ وَعزَّتك ويزوي بَعْضهَا إِلَى بعض. قَوْله: (فَتَقول) أَي: النَّار (قطّ قطّ) أَي: حسبي حسبي، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: إسكان الطَّاء وَكسرهَا منونة وَغير منونة. وَقيل: أَن قطّ صَوت جَهَنَّم، وَإِنَّمَا تَقول: هَل من مزِيد تغيظا على العصاة ونتكلم عَن قريب فِي معنى الْقدَم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
9484 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُوسَى القَطَّانُ حدَّثنا أبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بنُ يَحْيَى بنِ مَهْدِيَ حدَّثنا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أبُو سُفْيَانَ يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَيَضَعُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ قَطْ قَطْ
. [/ / مح
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَشَيْخه الْقطَّان، بِالْقَافِ وَتَشْديد الطَّاء وبالنون، الوَاسِطِيّ، وعَوْف هُوَ عَوْف الْأَعرَابِي، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
قَوْله: (رَفعه) أَي: رفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو سُفْيَان الْمَذْكُور أَكثر مَا كَانَ يوقفه أَي الحَدِيث، الْقَائِل بِذَاكَ هُوَ شيخ البُخَارِيّ مُحَمَّد بن مُوسَى الْقطَّان، وَقَالَ بَعضهم: يوقفه من الرباعي وَهِي لُغَة، والفصيح: يقفه. قلت: يوقفه من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَقَوله: من الرباعي لَيْسَ باصطلاح أهل الْفَنّ وَإِن كَانَ يجوز ذَلِك بِاعْتِبَار أَنه أَرْبَعَة أحرف. قَوْله: (يُقَال لِجَهَنَّم) الْقَائِل هُوَ الله تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُسلم.
0584 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرزَّاقِ أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ هَمامٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحَاجَّتْ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ أُوتِرْتُ بِالمتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالتِ الجَنَّةُ مَا لِي لَا يَدْخُلَنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أنْتَ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكَ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَال للنَّارِ إنَّما عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكَ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُها فَأمَّا النَّارُ فَلا تَمْتَلِىءُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِىءُ وَيُزوَى بَعْضُها إلَى بَعْضٍ وَلا يَظْلِمُ الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أحَدا وَأمَّا الجَنَّةُ فَإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِيءُ لَهَا خَلْقا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يتَضَمَّن امتلاء جَهَنَّم يوضع الرجل كَمَا يتَضَمَّن حَدِيث أنس بِوَضْع الْقدَم، وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَعبد الرَّزَّاق بن همام الْيَمَانِيّ، وَمعمر بِفتْحَتَيْنِ ابْن رَاشد، وَهَمَّام على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن مُنَبّه الصغاني.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع حَدثنَا عبد الرَّزَّاق حَدثنَا معمر عَن همام بن مُنَبّه. قَالَ: هَذَا مَا حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر أَحَادِيث مِنْهَا. وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَحَاجَّتْ الْجنَّة وَالنَّار الخ نَحوه، غير أَن بعد قَوْله: وَسَقَطهمْ وغرثهم.
قَوْله: (تَحَاجَّتْ) ، أَي: تخاصمت الْجنَّة وَالنَّار، وَيحْتَمل أَن يكون بِلِسَان الْحَال أَو الْمقَال، وَلَا مَانع من أَن الله يَجْعَل لَهما تمييزا يدركان بِهِ فيتحاجان، وَلَا يلْزم من هَذَا التَّمْيِيز دَوَامه فيهمَا. قَوْله: (أُوثِرت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول بِمَعْنى: اختصصت. قَوْله: (بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ) ، هما سَوَاء من حَيْثُ اللُّغَة فَالثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ معنى، وَقيل: المتكبر المتعظم بِمَا لَيْسَ فِيهِ، والمتجبر الْمَمْنُوع الَّذِي لَا ينَال إِلَيْهِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يكترث بِأَمْر. قَوْله: (إلاَّ ضعفاء النَّاس) ، وهم الَّذين(19/187)
لَا يلْتَفت إِلَيْهِم أَكثر النَّاس لضعف حَالهم ومسكنتهم واندفاعهم من أَبْوَاب النَّاس ومجالسهم. قَوْله: (وَسَقَطهمْ) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: المتحقرون بَين النَّاس الساقطون من أَعينهم، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْد الْأَكْثَر من النَّاس وبالنسبة إِلَى مَا عِنْد الله هم عُظَمَاء رفعاء الدَّرَجَات لكِنهمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْد أنفسهم لِعَظَمَة الله عِنْدهم وخضوعهم لَهُ فِي غَايَة التَّوَاضُع لله والذلة فِي عباده فوصفهم بالضعف والسقط بِهَذَا الْمَعْنى صَحِيح، وَأما معنى الْحصْر فبالنظر إِلَى الْأَغْلَب فَإِن أَكْثَرهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والبله وأمثالهم، وَأما غَيرهم من أكَابِر الدَّاريْنِ فهم قَلِيلُونَ وهم أَصْحَاب الدَّرَجَات العلى، وَأما معنى: وغرثهم، فِي رِوَايَة مُسلم فهم أهل الْحَاجة والفاقة والجوع، وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمَفْتُوحَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، والغرث فِي الأَصْل الْجُوع، ويروى: عجزهم، بِفَتْح الْعين وَالْجِيم جمع عَاجز، ويروى: غرتهم بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وهم البله الغافلون الَّذين لَيْسَ لَهُم فكر وحذق فِي أُمُور الدُّنْيَا. قَوْله: (حَتَّى يضع رجله) ، لم يبين فِيهِ الْوَاضِع من هُوَ، وَقد بَينه فِي رِوَايَة مُسلم حَيْثُ قَالَ: حَتَّى يضع الله رجله، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (ويروى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول بالزاي: يضم بَعْضهَا إِلَى بعض فتجتمع وتلتقي على من فِيهَا. قَوْله: (ينشىء لَهَا خلقا) ، أَي: يخلق للجنة خلقا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يبْقى من الْجنَّة مَا شَاءَ الله تَعَالَى أَن يبْقى ثمَّ ينشىء الله لَهَا خلقا مِمَّا يَشَاء، وَفِي وَرَايَة لَهُ: وَلَا يزَال فِي الْجنَّة فضل حَتَّى ينشىء الله لَهَا خلقا فيسكنهم فضل الْجنَّة، قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا دَلِيل لأهل السّنة على أَن الثَّوَاب لَيْسَ متوقفا على الْأَعْمَال، فَإِن هَؤُلَاءِ يخلقون حِينَئِذٍ ويعطون فِي الْجنَّة وَمَا يُعْطون بِغَيْر عمل وَمثله أَمر الْأَطْفَال والمجانين الَّذين لم يعملوا طَاعَة قطّ. وَكلهمْ فِي الْجنَّة برحمة الله تَعَالَى وفضله، وَفِيه دَلِيل أَيْضا على عظم سَعَة الْجنَّة. فقد جَاءَ فِي (الصَّحِيح) (أَن للْوَاحِد فِيهَا مثل الدُّنْيَا عشرَة أَمْثَالهَا ثمَّ يبْقى فِيهَا شَيْء لخلق ينشئهم الله تَعَالَى لَهَا) . وَفِي (التَّوْضِيح) ويروى (أَن الله لما خلقهَا، قَالَ لَهَا: امتدي فَهِيَ تتسع دَائِما أسْرع من النبل إِذا خرج من الْقوس) .
ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه الْأَحَادِيث من مشاهير أَحَادِيث الصِّفَات، وَالْعُلَمَاء فِيهَا على مذهبين أَحدهمَا: مَذْهَب المفوضة وَهُوَ الْإِيمَان بِأَنَّهَا حق على مَا أَرَادَ الله، وَلها معنى يَلِيق بِهِ وظاهرها غير مُرَاد وَعَلِيهِ جُمْهُور السّلف وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين، وَالْآخر: مَذْهَب المؤولة وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، على هَذَا اخْتلفُوا فِي تَأْوِيل الْقدَم وَالرجل، فَقيل: المُرَاد بالقدم هُنَا الْمُتَقَدّم وَهُوَ سَائِغ فِي اللُّغَة، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى يضع الله فِيهَا من قدمه لَهَا من أهل الْعَذَاب، وَقيل: المُرَاد قدم بعض المخلوقين فَيَعُود الضَّمِير فِي قدمه إِلَى ذَلِك الْمَخْلُوق الْمَعْلُوم أَو ثمَّ مَخْلُوق اسْمه الْقدَم، وَقيل: المُرَاد بِهِ الْموضع. لِأَن الْعَرَب تطلق اسْم الْقدَم على الْموضع. قَالَ تَعَالَى: {لَهُم قدم صدق} (يُونُس: 2) أَي: مَوضِع صدق فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يلقِي فِي النَّار من الْأُمَم والأمكنة الَّتِي عصى الله عَلَيْهَا فَلَا تزَال تستزيد حَتَّى يضع الرب موضعا من الْأَمْكِنَة وَمن الْأُمَم الْكَافِرَة فِي النَّار فتمتلىء، وَقيل: الْقدَم قد يكون اسْما لما قدم من شَيْء، كَمَا تسمى مَا خبطت من الْوَرق خبطا، فعلى هَذَا من لم يقدم إلاّ كفرا أَو معاصي على العناد والجحود فَذَاك قدمه وَقدمه ذَلِك هُوَ مَا قدمه للعذاب وَالْعِقَاب الْحَالين بِهِ، والمعاندون من الْكفَّار هم قدم الْعَذَاب فِي النَّار، وَقيل: المُرَاد بِوَضْع الْقدَم عَلَيْهَا نوع من الزّجر عَلَيْهَا والتسكين لَهَا. كَمَا يَقُول الْقَائِل لشَيْء يُرِيد محوه وإبطاله، جملَته تَحت رجْلي، وَوَضَعته تَحت قدمي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يعود الضَّمِير إِلَى الْمَزِيد، وَيُرَاد بالقدم الآخر لِأَنَّهُ آخر الْأَعْضَاء أَي: حَتَّى يضع الله آخر أهل النَّار فِيهَا، وَأما الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا الرجل فقد زعم الإِمَام أَبُو بكر بن فورك أَنَّهَا غير ثَابِتَة عِنْد أهل النَّقْل، ورد عَلَيْهِ بِرِوَايَة (الصَّحِيحَيْنِ) بهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن الرِّوَايَة الَّتِي جَاءَت بِلَفْظ الرجل تَحْرِيف من بعض الروَاة لظَنّه أَن المُرَاد بالقدم الْجَارِحَة. فرواها بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ، ثمَّ قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالرجلِ إِن كَانَت مَحْفُوظَة الْجَمَاعَة، كَمَا تَقول رجل من جَراد فالتقدير يضع فِيهَا جمَاعَة وإضافتهم إِلَيْهِ إِضَافَة اخْتِصَاص، وَاخْتلف المؤولون فِيهِ، فَقيل: إِن الرجل تسْتَعْمل فِي الزّجر كَمَا تَقول: وَضعته تَحت رجْلي، وَهَذَا قد مر فِي الْقدَم، وَقيل: المُرَاد بهَا رجل بعض المخلوقين، وَقيل: إِنَّهَا اسْم مَخْلُوق من المخلوقين، وَقيل: إِن الرجل تسْتَعْمل فِي طلب الشَّيْء على سَبِيل الْجد كَمَا يُقَال: قَامَ فِي هَذَا الْأَمر على رجل، وَمِنْهُم من أنكر هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا وكذبها، وَهَذَا طعن فِي الثِّقَات. وإفراط فِي رد (الصِّحَاح) وَمِنْهُم من روى بَعْضهَا وَأنكر أَن يتحدث بِبَعْضِهَا وَهُوَ مَالك، روى حَدِيث النُّزُول(19/188)
وأوله: وَأنكر أَن يتحدث بِحَدِيث: اهتز الْعرض لمَوْت سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِنْهُم من تأولها تَأْوِيلا يكَاد يُفْضِي فِيهِ إِلَى القَوْل بالتشبيه.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} (ق: 93)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَسبح بِحَمْد رَبك} الْآيَة، وَوَقع فِي بعض النّسخ: بَاب {فسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا} وَقَالَ بَعضهم: كَذَا لأبي ذَر فِي التَّرْجَمَة: وَفِي سِيَاق الحَدِيث وَلغيره. وَسبح، بِالْوَاو فيهمَا وَهُوَ الْمُوَافق للتلاوة فَهُوَ الصَّوَاب، وَعِنْدهم أَيْضا. وَقيل الْغُرُوب، وَهُوَ الْمُوَافق لآيَةَ السُّورَة قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذِه التعسفات وَالَّذِي فِي نسختنا هُوَ نَص الْقُرْآن فِي السُّورَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُمْدَة، فلأي ضَرُورَة يحرف الْقُرْآن وينسب إِلَى أبي ذَر أَو غَيره؟ .
1584 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ جرِيرٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسِ بنِ أبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرٍ بنِ عَبْدِ الله قَالَ كُنَّا جُلُوسا لَيْلَةً مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةَ أرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هاذا لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَسبح بِحَمْد رَبك} إِلَى آخِره وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَجَرِير بن عبد الحميد وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي، وَقيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، واسْمه عَوْف البَجلِيّ قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب فضل صَلَاة الْعَصْر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (لَا تضَامون) ، بالضاد الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم من الضيم وبتشديدها من الضَّم، أَي: لَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا بِأَن يستأثر بِهِ دونه أَو لَا يزاحم بَعْضكُم بَعْضًا. قَوْله: (فَإِن اسْتَطَعْتُم) ، إِلَى آخِره، يدل على أَن الرُّؤْيَة قد ترجى بالمحافظة على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أما لفظ: فسبح، فَهُوَ بِالْوَاو وَلَا بِالْفَاءِ وَالْمُنَاسِب للسورة، وَقبل الْغُرُوب لَا غُرُوبهَا، وَقَالَ بَعضهم: لَا سَبِيل إِلَى التَّصَرُّف فِي لفظ الحَدِيث، وَإِنَّمَا أورد الحَدِيث هُنَا لِاتِّحَاد دلَالَة لآيتين انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الصَّحِيح لِأَن قِرَاءَة: فسبح، بِالْفَاءِ تصرف فِي الْقُرْآن، والْحَدِيث هُنَا بِالْوَاو، وَفِي النّسخ الصَّحِيحَة كَمَا فِي الْقُرْآن، وَقد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر مُوَافقا لِلْقُرْآنِ وَلَفظه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد بِلَفْظ: ثمَّ قَرَأَ: {وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب} وَالظَّاهِر أَن نُسْخَة الْكرْمَانِي كَانَت بِالْفَاءِ وَقبل غُرُوبهَا، فَلذَلِك قَالَ مَا ذكره.
2584 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا وَرْقَاءُ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أمَرَهُ أنْ يُسَبِّح فِي أدْبَارِ الصَّلَواتِ كُلِّها يَعْنِي قَوْلَهُ وَأدْبَارَ السُّجُودِ.
آدم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد أَصله من خُرَاسَان سكن عسقلان، وورقاء، تَأْنِيث الأورق بِالْوَاو وَالرَّاء ابْن عمر الْخَوَارِزْمِيّ بن أبي إِيَاس، وَاسم أبي نجيح يسَار. ضد الْيَمين الْمَكِّيّ.
قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس) ، وَفِي كثير من النّسخ قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (أمره) ، أَي: أَمر الله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يسبح، وَالْمرَاد من التَّسْبِيح هَذَا حَقِيقَة التَّسْبِيح لَا الصَّلَاة وَلِهَذَا فسره بقوله: يَعْنِي قَوْله: وأدبار السُّجُود، يَعْنِي: أدبار الصَّلَوَات، وَتطلق السَّجْدَة على الصَّلَاة بطرِيق ذكر الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل.
15 - ( {سُورَةَ وَالذَّارِيَاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الذاريات، وَهِي مَكِّيَّة كلهَا. قَالَه مقَاتل: وَغَيره، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الْأَحْقَاف وَقيل: سُورَة الغاشية، وَهِي ألف ومائتان وَسَبْعَة وَثَمَانُونَ حرفا، وثلاثمائة وَسِتُّونَ كلمة، وَسِتُّونَ آيَة.
قَوْله: (والذاريات) ، قسم على(19/189)
مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
لم تثبت لغير أبي ذَر الْبَسْمَلَة وَلَا قَوْله: سُورَة.
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ الذَّارِياتُ الرِّياحُ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: المُرَاد بالذاريات الرِّيَاح، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَقَالَ عَليّ: الذاريات الرِّيَاح، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد الْحَنْظَلِي عَن أبي سعيد الْأَشَج حَدثنَا عقبَة بن خَالِد السكونِي حَدثنَا سعيد بن عبيد الطَّائِي عَن عَليّ بن ربيعَة أَن عبد الله بن الْكواء سَأَلَ عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا الذاريات، قَالَ: الرّيح. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمُجاهد وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَالسُّديّ وخصيف مثل ذَلِك، وروى ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن أبي حُسَيْن سَمِعت أَبَا الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت ابْن الْكواء سَأَلَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن {الذرايات ذَروا} (الذاريات: 1) قَالَ: الرِّيَاح، وَعَن {الْحَامِلَات وقرا} (الذاريات: 2) قَالَ السَّحَاب: وَعَن {الْجَارِيَات يسرا} (الذاريات: 3) قَالَ السفن، وَعَن: {المدبرات أمرا} قَالَ: الْمَلَائِكَة وَصَححهُ الْحَاكِم من وَجه آخر عَن أبي الطُّفَيْل. وَأخرجه عبد الرَّزَّاق من وَجه آخر عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: شهِدت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ يخْطب وَهُوَ يَقُول: سلوني، فوَاللَّه لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ حدثتكم بِهِ، وسلوني عَن كتاب الله، فوَاللَّه مَا من آيَة إلاَّ وَأَنا أعلم بلَيْل أنزلت أم بنهار أم فِي سهل أم فِي جبل، فَقَالَ ابْن الْكواء، وَأَنا بَينه وَبَين عَليّ وَهُوَ خَلْفي، فَقَالَ: {فالذاريات ذورا} فَذكر مثله، وَقَالَ فِيهِ: وَيلك سل تفقها وَلَا تسْأَل تعنتا.
وَقَالَ غَيْرُهُ تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ
أَي: قَالَ غير عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {تَذْرُوهُ الرِّيَاح} (الذاريات: 5) تفرقه وَهَذَا فِي سُورَة الْكَهْف، وَهُوَ قَوْله عز وَجل: {فَأصْبح هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح} (الْكَهْف: 54) وَإِنَّمَا ذكره هُنَا لأجل قَوْله: والذاريات، يُقَال ذرت الرّيح التُّرَاب تَذْرُوهُ ذَروا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ذرت الرّيح التُّرَاب، وَغَيره تَذْرُوهُ وتذريه ذَروا وذريا أَي: نسفته.
{وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ} تَأكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ
أَي: وَفِي أَنفسكُم آيَات أَفلا تبصرون أَفلا تنْظرُون بِعَين الِاعْتِبَار، لِأَنَّهُ أَمر عَظِيم حَيْثُ تَأْكُل وتشرب من مَوضِع وَاحِد وَيخرج من موضِعين أَي: الْقبل والدبر.
فَرَاغَ فَرَجَعَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين} (الذاريات: 62) وَفسّر: (فرَاغ) بقوله: (فَرجع) وَكَذَا قَالَ الْفراء، وَفِي التَّفْسِير: فرَاغ فَعدل، وَمَال إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعَن الْفراء لَا ينْطق بالروغ حَتَّى يكون صَاحبه مخيفا لذهابه أَو مَجِيئه.
فَصَكَّتْ فَجَمَعَتْ أصَابِعَها فَضَرَبَتْ جَبْهَتِهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا} (الذاريات: 92) الْآيَة، وَفسّر: (فصكت) بقوله: (فجعمت) إِلَى آخِره، وَهُوَ قَول الْفراء بِلَفْظِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، جمعت بِغَيْر فَاء، حَدثنَا سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: فصكت وَجههَا، قَالَ: فَضربت بِيَدِهَا على جبينها. وَقَالَت: يَا ويلتاه. قَوْله: (فِي صَلَاة) ، أَي: فِي صَيْحَة.
وَالرَّمِيمُ نَبَاتُ الأرْضِ إذَا يَبِسَ ودِيسَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} (الذاريات: 24) وَفسّر: (الرميم) بقوله: (نَبَات الأَرْض إِذا يبس) أَي: جف قَوْله: (ودبس) بِكَسْر الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة، مَجْهُول الْفِعْل الْمَاضِي من الدوس وَهُوَ وَطْء الشَّيْء بالقدم حَتَّى يتفتت، وَأَصله: دوس نقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى الدَّال بعد سلب ضمتها ثمَّ قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَتَفْسِيره مَنْقُول عَن الْفراء وَعَن ابْن عَبَّاس: كالرميم كالشيء الْهَالِك، وَعَن أبي الْعَالِيَة: كالتراب المدقوق، وَقيل: أَصله من الْعظم الْبَالِي.(19/190)
لِمُوسُعُونَ أيْ لَذُو وِسْعَةٍ وَكَذَلِكَ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ يَعْنِي القَوِيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد، وَإِنَّا لموسعون} (الذاريات: 74) وَفسّر: (الموسعون) بقوله: (لذُو سَعَة) لخلقنا وَعَن ابْن عَبَّاس: لقادرون، وَعنهُ: لموسعون الرزق على خلقنَا، وَعَن الْحسن: المطيقون. قَوْله: (وَكَذَلِكَ) {وعَلى الموسع قدره} (الْبَقَرَة: 632) أَي: وَكَذَلِكَ فِي معنى: لموسعون، قَوْله: وعَلى الموسع قدره، وَالْحَاصِل أَنه عبارَة عَن السعَة وَالْقُدْرَة.
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ) (الذاريات: 94) والزوجان: الذّكر وَالْأُنْثَى من جَمِيع الْحَيَوَانَات، وَفِي التَّفْسِير: زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين مُخْتَلفين كالسماء وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَاللَّيْل وَالنَّهَار وَالْبر وَالْبَحْر والسهل والوعر والشتاء والصيف وَالْإِنْس والجان وَالْكفْر وَالْإِيمَان والشقاوة والسعادة وَالْحق وَالْبَاطِل وَالذكر وَالْأُنْثَى وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَاخْتِلافُ الألْوَانِ حُلْوٌ وَحَامِضٌ فَهُمَا زَوْجَانِ
الظَّاهِر أَنه أَشَارَ بقوله: (وَاخْتِلَاف الألوان) إِلَى قَوْله تَعَالَى: وألوانكم فِي سُورَة الرّوم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم إِن فِي ذَلِك لآيَات للْعَالمين} (الرّوم: 22) وَمن جملَة آيَاته، عز وَجل، اخْتِلَاف ألوان بني آدم وَهُوَ الِاخْتِلَاف فِي تنويع ألوانهم إِذْ لَو تشاكلت وَكَانَت نوعا وَاحِدًا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصَالح كَثِيرَة وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الألوان فِي كل شَيْء، وَكَذَا الِاخْتِلَاف فِي المطعومات حَتَّى فِي طعوم الثِّمَار، فَإِن بَعْضهَا حُلْو وَبَعضهَا حامض، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (حُلْو وحامض) قَوْله: (فهما زوجان) ، أَي: الحلو والحامض، وَأطلق عَلَيْهِمَا زوجان لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا يُقَابل الآخر بالضدية كَمَا فِي الذّكر وَالْأُنْثَى، فَإِن الذّكر يُقَابل الْأُنْثَى بالذكورة وَهِي ضد الْأُنُوثَة وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح خُصُوصا الْمُدَّعِي مِنْهُم حرر هَذَا الْموضع.
فَفِرُّوا إلَى الله مِنَ الله إلَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَفرُّوا إِلَى الله إنى لكم مِنْهُ نَذِير مُبين} (الذاريات: 05) وَفَسرهُ بقوله: (من الله إِلَيْهِ) يَعْنِي: من مَعْصِيَته إِلَى طَاعَته أَو من عَذَابه إِلَى رَحمته، وَكَذَا قَالَه الْفراء، وَفِي التَّفْسِير أَي: فاهربوا من عَذَاب الله إِلَى ثَوَابه بِالْإِيمَان ومجانبة الْعِصْيَان. وَعَن أبي بكر الْوراق، فروا من طَاعَة الشَّيْطَان إِلَى طَاعَة الرحمان.
إلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا خَلَقَتْ أهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أهْلِ الفَرِيقَيْنِ إلاَّ لِيُوحِّدُونِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ وَلَيْسَ فِيهِ حُجِّةٌ لأهْلِ القَدَره.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {مَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} (الذاريات: 65) قَوْله: (إِلَّا ليعبدون) كَذَا ابْتِدَاء الْكَلَام عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر من أول الْآيَة. {مَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَالْمعْنَى بِحَسب الظَّاهِر: مَا خلقت هذَيْن الْفَرِيقَيْنِ إلاَّ ليوحدوني، وَلَكِن فسره البُخَارِيّ بقوله: مَا خلقت أهل السَّعَادَة من أهل الْفَرِيقَيْنِ أَي: الْجِنّ وَالْإِنْس إلاَّ ليوحدون، وَإِنَّمَا خصص السُّعَدَاء من الْفَرِيقَيْنِ لتظهر الْمُلَازمَة بَين الْعلَّة والمعلول، فَلَو حمل الْكَلَام على ظَاهره لوقع التَّنَافِي بَينهمَا، وَهُوَ غير جَائِز، وَعَن هَذَا قَالَ الضَّحَّاك وسُفْيَان: هَذَا خَاص لأهل عِبَادَته وطاعته، دَلِيله قِرَاءَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس من الْمُؤمنِينَ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعْنَاهُ: إلاَّ لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إِلَيْهَا، وَاعْتمد الزّجاج على هَذَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله} (الْبَيِّنَة: 5) فَإِن قلت: كَيفَ كفرُوا وَقد خلقهمْ للإقرار بربوبيته والتذلل لأَمره ومشيته؟ قلت: قد تذللوا لقضائه الَّذِي قضى عَلَيْهِم لِأَن قَضَاءَهُ جَار عَلَيْهِم لَا يقدرُونَ على الِامْتِنَاع مِنْهُ إِذا نزل بهم، وَإِنَّمَا خَالفه من كفر فِي الْعَمَل بِمَا أَمر بِهِ، فَأَما التذلل لقضائه فَإِنَّهُ غير مُمْتَنع. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم خلقهمْ ليفعلوا) ، أَي: التَّوْحِيد فَفعل بعض مِنْهُم وَترك بعض، هَذَا قَول الْفراء. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين هذَيْن التَّأْويلَيْنِ؟ قلت: الأول لفظ عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص وَهُوَ أَن المُرَاد أهل السَّعَادَة من الْفَرِيقَيْنِ، وَالثَّانِي على عُمُومه بِمَعْنى خلقهمْ معدين لذَلِك. لَكِن مِنْهُم من أطَاع وَمِنْهُم من عصى، وَمعنى الْآيَة(19/191)
فِي الْجُمْلَة أَن الله تَعَالَى لم يخلقهم لِلْعِبَادَةِ خلق جبلة وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا خلقهمْ لَهَا خلق تَكْلِيف واختبار. فَمن وَفقه وسدده أَقَامَ الْعِبَادَة الَّتِي خلق لَهَا، وَمن خذله وطرده حرمهَا وَعمل بِمَا خلق لَهُ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ، وَفِي نفس الْأَمر: هَذَا سر لَا يطلع عَلَيْهِ غير الله تَعَالَى، وَقَالَ: {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} (الْأَنْبِيَاء: 32) قَوْله: (وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لأهل الْقدر) ، أَي: الْمُعْتَزلَة وهم احْتَجُّوا بهَا على أَن إِرَادَة الله تَعَالَى لَا تتَعَلَّق إلاَّ بِالْخَيرِ، وَأما الشَّرّ فَلَيْسَ مرَادا لَهُ، وَأجَاب أهل السّنة بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الشَّيْء مُعَللا بِشَيْء أَن يكون ذَلِك الشَّيْء أَي: الْعلَّة مرَادا وَلَا يلْزم أَن يكون غَيره مرَادا. قَالُوا: أَفعَال الله لَا بُد أَن تكون معللة أُجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من وُقُوع التَّعْلِيل وُجُوبه، وَنحن نقُول: بِجَوَاز التَّعْلِيل قَالُوا: أَفعَال الْعباد مخلوقة لَهُم لإسناد الْعِبَادَة إِلَيْهِم أُجِيب بِأَنَّهُ لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الْإِسْنَاد من جِهَة الْكسْب وَكَون العَبْد محلا لَهَا.
وَالذَّنُوبُ: الدَّلْوُ العَظِيمُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن للَّذين ظلمُوا ذنوبا مثل ذنُوب أَصْحَابهم فَلَا يستعجلون} (الذاريات: 95) وَهَذَا التَّفْسِير الَّذِي فسره من حَيْثُ اللُّغَة فَإِن الذُّنُوب فِي اللُّغَة: الدَّلْو الْعَظِيم، المملوء مَاء وَأهل التَّفْسِير اخْتلفُوا فَعَن مُجَاهِد: سَبِيلا، وَعَن النَّخعِيّ ظرفا وَعَن قَتَادَة وَعَطَاء، عذَابا. وَعَن الْحسن دولة، وَعَن الْكسَائي: حظاً وَعَن الْأَخْفَش نَصِيبا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ذنُوبا سَجْلاً
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير ذنوبا سجلاً، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، وَفِي بعض النّسخ وَقع هَذَا بعد قَوْله: صرة صَيْحَة، وَهُوَ تخبيط من النَّاسِخ، والسجل، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وباللام. هُوَ الدَّلْو الممتلىء مَاء. ثمَّ اسْتعْمل فِي الخظ والنصيب.
صَرَّةٍ صَيْحَةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت عَجُوز عقيم} هِيَ: سارة، وَكَانَت لم تَلد قبل ذَلِك فَولدت وَهِي بنت تسع وَتِسْعين سنة، وَإِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِ، يَوْمئِذٍ ابْن مائَة سنة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: والحُبكَ اسْتوَاؤُها وَحُسْنُها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الحبك} (الذاريات: 7) وَفسّر الحبك باستواء السَّمَاء وحسنها، وَكَذَا روى ابْن أبي حَاتِم عَن الْأَشَج: حَدثنَا ابْن فُضَيْل أخبرنَا عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالربيع: ذَات الْخلق الْحسن المستوي، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَة، وَقَالَ: ألم تَرَ إِلَى النساج نسج الثَّوْب وأجاد نسجه. قيل: مَا أحسن حبكه؟ وَعَن الْحسن: حبكت بالنجوم، وَعَن سعيد بن جُبَير: ذَات الزِّينَة، وَعَن مُجَاهِد: هُوَ المتقن الْبُنيان، وَعَن الضَّحَّاك: ذَات الطرائق وَلكنهَا تبعد عَن الْخَلَائق فَلَا يرونها.
فِي غَمْرةٍ فِي ضَلالَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قتل الخراصون الَّذين هم فِي غمرة ساهون} (الذاريات: 01، 11) وَفسّر الغمرة بالضلالة، وَقيل: الغمرة الشُّبْهَة والغفلة، وَفِي بعض النّسخ. فِي غمرة فِي ضَلَالَة يتمادون يتطاولون. قَوْله: (ساهون) ، أَي: لاهون.
وَقَالَ غَيْرُهُ: تَوَاصوْا تَوَاطَؤُا
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أتواصوا بِهِ بل هم قوم طاغون} (الذاريات: 35) وَفسّر: (تواصوا) بقوله: (تواطؤا) وَأخرجه ابْن الْمُنْذر من طَرِيق أبي عُبَيْدَة بقوله: تواطؤوا عَلَيْهِ. وَأخرجه بَعضهم عَن بعض، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أوصى بَعضهم بَعْضًا بالتكذيب وَتَوَاصَوْا عَلَيْهِ، وَالْألف فِيهِ التوبيخ.
وَقَالَ: مُسَوَّمَةً مُعَلَمَةً مِنَ السَّمَا
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {لنرسل عَلَيْهِم حِجَارَة من طين مسومة عِنْد رَبك للمسرفين} (الذاريات: 33، 43) وَفسّر: (مسومة) بقوله: (معلمة من السيما) وَهِي من السومة وَهِي الْعَلامَة.
قُتِلَ الخَرَّاصُونَ: لُعِنُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قتل الخراصون} (الذاريات: 01) أَي: لعنُوا، وَوَقع هَذَا فِي بعض النّسخ، وَعَن ابْن عَبَّاس: الخراصون المرتابون،(19/192)
وَعَن مُجَاهِد: هم الكهنة. وَقد وَقع هُنَا تَقْدِيم وَتَأْخِير فِي بعض التفاسير فِي النّسخ، وَلم يذكر فِي هَذِه السُّورَة حَدِيثا مَرْفُوعا وَالظَّاهِر أَنه لم يجد شَيْئا مِنْهُ على شَرطه.
25 - ( {سُورَةُ والطُّور} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة وَالطور، وَفِي بعض النّسخ سُورَة الطّور، بِدُونِ الْوَاو، وَفِي بعض النّسخ: وَمن سُورَة الطّور وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة كلهَا. وَذكر الْكَلْبِيّ أَن فِيهَا آيَة مَدَنِيَّة. وَهِي قَوْله: {إِن الَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} (الطّور: 74) زعم أَنَّهَا نزلت فِيمَن قتل ببدر من الْمُشْركين، وَهِي ألف وَخَمْسمِائة حرف، وثلاثمائة واثنتا عشرَة كلمة وتسع وَأَرْبَعُونَ آيَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: كل جبل طور وَلَكِن الله عز وَجل، يَعْنِي بِالطورِ هُنَا الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالْأَرْضِ المقدسة وَهُوَ بمدين واسْمه زبير، وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: هما طوران، يُقَال لأَحَدهمَا طورزيتا وَللْآخر تينا لِأَنَّهُمَا ينبتان الزَّيْتُون والتين، وَلما كذب كفار مَكَّة أقسم الله بِالطورِ وَهُوَ الْجَبَل بلغَة النبط الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالْأَرْضِ المقدسة. وَقَالَ الْجَوْزِيّ: وَهُوَ طور سيناء، وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَمَوِيّ فِي كِتَابه (الْمُشْتَرك) طورزيتا مَقْصُورا علم لجبل بِقرب رَأس عين، وطورزيتا أَيْضا جبل بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس، وَفِي الْأَثر: مَاتَ بطورزيتا سَبْعُونَ ألف نَبِي قَتلهمْ الْجُوع، وَهُوَ شَرْقي وَادي سلوان، وَالطور أَيْضا علم لجبل بِعَيْنِه مطل على مَدِينَة طبرية بالأردن، وَالطور أَيْضا جبل عِنْد كورة تشْتَمل على عدَّة قرى بِأَرْض مصر بَين مصر وجبل فاران، وطور سيناء قيل: جبل بِقرب أيله، وَقيل: هُوَ بِالشَّام وسيناء حجارية، وَقيل: شجر فِيهِ وطور عَبْدَيْنِ اسْم لبلدة من نَصِيبين فِي بطن الْجَبَل المشرف عَلَيْهَا الْمُتَّصِل بجبل الجودي، وطور هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، علم لجبل مشرف فِي قبل الْبَيْت الْمُقَدّس فِيهِ فِيمَا قبل قبر هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ قَتَادَةَ مَسْطُور مَكْتُوب
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكتاب مسطور} (الطّور: 2) أَي: مَكْتُوب، وَسقط هَذَا من رِوَايَة أبي ذَر وَثَبت للباقين فِي التَّوْحِيد وَوَصله البُخَارِيّ فِي كتاب خلق الْأَفْعَال من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الطُّورُ الجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَةِ
رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي نجيح، وَفِي (الْمُحكم) الطّور الْجَبَل وَقد غلب على طور سينا جبل بِالشَّام وَهُوَ بالسُّرْيَانيَّة طورى وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ طورى وطوراني، وَقد ذكرنَا فِيهِ غير ذَلِك عَن قريب.
رَقٍّ مَنْشُور: صَحِيفَةٍ
قَالَ مُجَاهِد أَيْضا: وَالرّق الْجلد، وَقيل: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَعَن الْكَلْبِيّ: هُوَ مَا كتب الله لمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ التَّوْرَاة ومُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، يسمع صرير الْقَلَم وَكَانَ كلما مر الْقَلَم بمَكَان حرفه إِلَى الْجَانِب الآخر كَانَ كتابا لَهُ وَجْهَان، وَقيل: دواوين الْحفظَة الَّتِي أَثْبَتَت فِيهَا أَعمال بني آدم، وَقيل: هُوَ مَا كتب الله فِي قُلُوب أوليائه من الْإِيمَان بَيَانه. قَوْله: {كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} (المجادلة: 22) .
وَالسَّقْف المَرْفُوعِ سماءٌ
سقط هَذَا لأبي ذَر، وَذكر فِي بَدْء الْخلق سَمَّاهَا سقفا لِأَنَّهَا للْأَرْض كالسقف للبيت، دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا مَحْفُوظًا} (الْأَنْبِيَاء: 23) .
المَسْجُورِ: المُوقِدِ
وَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والنسفي: الموقر، بالراء وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: الموقد يَعْنِي بِالدَّال، وروى الطَّبَرِيّ أَيْضا من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة الْمَسْجُور المملو، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور} (الطّور: 6) هُوَ بَحر تَحت الْعَرْش غمره كَمَا بَين سبع سموات إِلَى سبع أَرضين وَهُوَ مَاء غليظ يقاله: بَحر الْحَيَوَان يمطر الْعباد بعد النفخة الأولى أَرْبَعِينَ صباحا فينبتون فِي قُبُورهم.
وَقَالَ الحَسَنُ: تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُها فَلا يَبْقَى فِيهِا قَطْرَةٌ(19/193)
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: تسجر الْبحار حَتَّى يذهب مَاؤُهَا، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: (وَإِذا الْبحار سجرت) ، (التكوير: 6) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ألَتْناهُمْ نَقَصْناهُمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء} (الطّور: 12) أَي: مَا نقصناهم من الألت وَهُوَ النَّقْص والبخس، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ، عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله يرفع ذُرِّيَّة الْمُؤمن فِي دَرَجَته وَإِن كَانُوا دونه فِي الْعَمَل لتقر بهم عينه ثمَّ قَرَأَ: {وَالَّذين آمنُوا وأتبعناهم ذرياتهم} .
وَقَالَ غَيْرُهُ تَمُورُ: تَدُورُ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تمور السَّمَاء مورا} (الطّور: 9) أَي: تَدور دورا كدوران الرَّحَى وتكفأ بِأَهْلِهَا تكفؤ السفين ويموج بَعْضهَا فِي بعض، وأصل المور الِاخْتِلَاف وَالِاضْطِرَاب، وَجَاء عَن مُجَاهِد أَيْضا: تدرو دورا، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
أحْلامُهُمْ: العُقُولُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم تَأْمُرهُمْ أحلاهم بِهَذَا أم هم قوم طاغون} (الطّور: 23) وَهَكَذَا فسره ابْن زيد بن أسلم. ذكره الطَّبَرِيّ عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: البَرُّ اللَّطِيفُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} (الطّور: 82) وَفسّر الْبر باللطيف، وَسقط هَذَا هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَثَبت فِي التَّوْحِيد.
كِسْفا: قِطْعا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَإِن يرَوا كسفا من السَّمَاء سَاقِطا} (الطّور: 44) الْآيَة وَفسّر الكسف بِالْقطعِ، بِكَسْر الْقَاف جمع قِطْعَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة، الكسف جمع كسفة مثل السدر جمع سِدْرَة، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله سَاقِطا على اعْتِبَار اللَّفْظ، وَمن قَرَأَ بِالسُّكُونِ على التَّوْحِيد فَجَمعه أكساف وكسوف.
المنُونُ المَوْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { (أم يَقُولُونَ شَاعِر تَتَرَبَّص بِهِ ريب الْمنون} (الطّور: 03) وَفسّر: الْمنون بِالْمَوْتِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {ريب الْمنون} قَالَ: الْمَوْت.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَنَازَعُونَ: يَتَعَاطَوْنَ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يتنازعون فِيهَا كأسا لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم} (الطّور: 32) وَفسّر: (يتنازعون) بقوله: (يتعاطون) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَزَاد فِيهِ: يتداولون. قَوْله: (كأسا) أَي: إِنَاء فِيهِ خمر (لَا لَغْو فِيهَا) قَالَ قَتَادَة: هُوَ الْبَاطِل وَعَن مقَاتل بن حبَان: لَا فضول فِيهَا، وَعَن ابْن زيد: لَا سباب وَلَا تخاصم فِيهَا، وَعَن عَطاء: أَي لَغْو يكون فِي مجْلِس مَحَله جنَّة عدن والساقي فِيهِ الْمَلَائِكَة وشربهم على ذكر الله وريحانهم تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة وَالْقَوْم أضياف الله تَعَالَى؟ .
3584 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةَ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّى أشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي إلَى جَنْبِ البَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ..
مطابقته للسورة، ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن هُوَ الْمَشْهُور بيتيم عُرْوَة بن الزبير، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا هِنْد. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ قَوْلهَا: (شَكَوْت) أَي: شَكَوْت مرضِي.
4584 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثُونِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعمٍ عَنْ أبِيهِ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَما بَلَغَ(19/194)
هاذِهِ الآيَةَ: {أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمْ الخَالِقُونَ أمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ وَالأرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} (الطّور: 53، 73) كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ.
قَالَ سُفْيَانُ فَأمَّا أنَا فَإنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعمٍ عَنْ أبِيهِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ لَمْ أسُمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي..
مطابقته للسورة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَمُحَمّد بن جُبَير ابْن مطعم الْقرشِي أَبُو سعيد النَّوْفَلِي. يروي عَن أَبِيه جُبَير بن مطعم بن عدي بن نَوْفَل الْقرشِي النَّوْفَلِي.
قَوْله: (حَدثُونِي عَن الزُّهْرِيّ) ، اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ هُنَا بِالَّذِي رَوَاهُ من طَرِيق عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء وَابْن أبي عمر. كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت الزُّهْرِيّ قَالَ مُصَرحًا عَنهُ بِالسَّمَاعِ، وهما ثقتان. قيل: هَذَا لَا يرد لِأَنَّهُمَا مَا أوردا من الحَدِيث إلاَّ الْقدر الَّذِي ذكر الْحميدِي عَن سُفْيَان أَنه سَمعه من الزُّهْرِيّ بِخِلَاف الزِّيَادَة الَّتِي صرح الْحميدِي عَنهُ بِأَنَّهُ لم يسْمعهَا من الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا بلغته عَنهُ بِوَاسِطَة. قَوْله: (فَلَمَّا بلغ هَذِه الْآيَة) ، إِلَى آخر الزِّيَادَة الَّتِي قَالَ سُفْيَان إِنَّه لم يسْمعهَا عَن الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا حدثوها عَنهُ أَصْحَابه. قَوْله: (أم خلقُوا من غير شَيْء) ، كلمة أم ذكرت فِي هَذِه السُّورَة فِي خَمْسَة عشر موضعا مُتَوَالِيَة متتابعة، وَمعنى: {أم خلقُوا من غير شَيْء} (الطّور: 53) من غير تُرَاب. قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل: من غير أَب وَأم كالجماد لَا يعْقلُونَ وَلَا يقوم لله عَلَيْهِم حجَّة، أَلَيْسَ خلقُوا من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة؟ قَالَه عَطاء. وَقَالَ ابْن كيسَان: مَعْنَاهُ أم خلقُوا عَبَثا وَتركُوا سدًى لَا يؤمرون وَلَا ينهون أم هم الْخَالِقُونَ لأَنْفُسِهِمْ؟ فَإِذا بَطل الْوَجْهَانِ قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِم بِأَن لَهُم خَالِقًا. قَوْله: (أم خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض) (الطّور: 63) يَعْنِي: إِن جَازَ أَن يدعوا خلق أنفسهم فَلْيَدعُوا خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَذَلِكَ لَا يُمكنهُم، فَقَامَتْ الْحجَّة عَلَيْهِم، ثمَّ أضْرب عَن ذَلِك بقوله: (بل لَا يوقنون) إِشَارَة إِلَى أَن الْعلَّة الَّتِي عاقتهم عَن الْإِيمَان هِيَ عدم الْيَقِين الَّذِي هُوَ موهبة من الله وَفضل وَلَا يحصل إِلَّا بتوفيقه. قَوْله: (أم عِنْدهم خَزَائِن رَبك) ، (الطّور: 73) قَالَ ابْن عَبَّاس: الْمَطَر والرزق، وَعَن عِكْرِمَة: النُّبُوَّة، وَقيل: علم مَا يكون. قَوْله: (أم هم المسيطرون) ، أَي: أم هم المسلطون الجبارون، قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن عَطاء أم هم أَرْبَاب قاهرون، وَعَن أبي عُبَيْدَة تسيطرت عليّ، أَي: اتخذتني خولاً لَك. قَوْله: (قَالَ: كَاد قلبِي) ، أَي: قَالَ جُبَير بن مطعم: قَارب قلبِي الطيران، وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَ انزعاجه عِنْد سَماع الْآيَة لحسن تلقيه مَعْنَاهَا ومعرفته بِمَا تضمنته من بليغ الْحجَّة.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (لم أسمعهُ) ، أَي: لم أسمع الزُّهْرِيّ (زَاد الَّذِي قَالُوا لي) يَعْنِي: بالبلاغ، وَالضَّمِير فِي: زَاد، يرجع إِلَى الزُّهْرِيّ. وَقَوله: (الَّذِي قَالُوا لي) فِي مَحل النصب مَفْعُوله فَافْهَم.
35 - ( {سُورَةُ وَالنَّجْمِ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة النَّجْم، وَهِي مَكِّيَّة. قَالَ مقَاتل: غير آيَة نزلت فِي نَبهَان التمار وَهِي: {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم} (النَّجْم: 23) وَفِيه رد لقَوْل أبي الْعَبَّاس فِي (مقامات التَّنْزِيل) وَغَيره. مَكِّيَّة بِلَا خلاف. وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الْإِخْلَاص وَقيل سُورَة عبس، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة حرف، وثلاثمائة وَسِتُّونَ كلمة، وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ آيَة. وَالْوَاو فِي: والنجم، للقسم، والنجم: الثريا. قَالَه ابْن عَبَّاس وَالْعرب تسمي الثريا نجما وَإِن كَانَت فِي الْعدَد نجوما. وَعَن مُجَاهِد نُجُوم السَّمَاء كلهَا حِين تغرب لَفظه وَاحِد وَمَعْنَاهُ جمع، وسمى الْكَوْكَب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم. قَوْله: {إِذا هوى} أَي: إِذا غَابَ وَسقط قَوْله: {مَا ضل صَاحبكُم} جَوَاب الْقسم والصاحب هُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر. وَلم يثبت لغيره أَيْضا لفظ: سُورَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَو مِرَّةٍ: ذُو قُوَّةٍ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ذُو مرّة فَاسْتَوَى} (النَّجْم: 6) أَي: ذُو قُوَّة شَدِيدَة، وَعَن أبي عُبَيْدَة: ذُو شدَّة، وَهُوَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَعَن عَبَّاس: ذُو خلق حسن، وَعَن الْكَلْبِيّ: من قُوَّة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه اقتلع قريات قوم لوط، عَلَيْهِ السَّلَام، من المَاء الْأسود وَحملهَا على جنَاحه ورفعها إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَلبهَا، وأصل الْمرة من أمررت الْحَبل إِذا أحكمت فتله. قَوْله: (فَاسْتَوَى) يَعْنِي: جِبْرِيل، وَهوى. أَي: مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، يَعْنِي: اسْتَوَى مَعَ مُحَمَّد، عَلَيْهِمَا السَّلَام، لَيْلَة الْمِعْرَاج بالأفق الْأَعْلَى وَهُوَ أقْصَى الدُّنْيَا(19/195)
عِنْد مطلع الشَّمْس فِي السَّمَاء.
قَابَ قَوْسَيْنِ حَيْثُ الوَتَرُ مِنَ القَوْسِ
هَذَا سقط من أبي ذَر، وَعَن أبي عُبَيْدَة، أَي قدر قوسين أَو أدنى، أَي: أقرب، وَعَن الضَّحَّاك، ثمَّ دنا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ربه عز وَجل فَتَدَلَّى فَأَهوى بِالسُّجُود، فَكَانَ مِنْهُ قاب قوسين أَو أدنى، وَقيل: مَعْنَاهُ بل أدنى أَي: بل أقرب مِنْهُ، وَقيل: ثمَّ دنى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سَاق الْعَرْش فَتَدَلَّى أَي: جَاوز الْحجب والسرادقات لَا نقلة مَكَان وَهُوَ قَائِم بِإِذن الله، عز وَجل، وَهُوَ كالمتعلق بالشَّيْء لَا يثبت قدمه على مَكَان، والقاب والقاد والقيد، عبارَة عَن مِقْدَار الشَّيْء، والقاب مَا بَين القبضة والشية من الْقوس، وَقَالَ الواحدي: هَذَا قَول جُمْهُور الْمُفَسّرين إِن المُرَاد الْقوس الَّتِي يرْمى بهَا. قَالَ: وَقيل: المُرَاد بهَا الذِّرَاع لِأَنَّهُ يُقَاس بهَا الشَّيْء. قلت: يدل على صِحَة هَذَا القَوْل مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: القاب الْقدر، والقوسين الذراعين، وَقد قيل: إِنَّه على الْقلب، وَالْمرَاد: فَكَانَ قابي قَوس.
ضِيزَى: عَوْجَاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزي} (النَّجْم: 22) وَفَسرهُ بقوله: (عوجاء) وَهُوَ مَرْوِيّ عَن مقَاتل، وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: قسْمَة جائرة حَيْثُ جعلتم لربكم من الْوَلَد مَا تَكْرَهُونَ لأنفسكم وَعَن ابْن سِيرِين: غير مستوية أَن يكون لكم الذّكر وَللَّه الْإِنَاث تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا.
وَأَكْدَى قَطَعَ عَطَاءَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت الَّذِي تولى وَأعْطى قَلِيلا وأكدى} (النَّجْم: 33، 43) وَفسّر: (أكدى) بقوله: (قطع عطاءه) نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. قَالَ مقَاتل: يَعْنِي أعْطى الْوَلِيد قَلِيلا من الْخَيْر بِلِسَانِهِ ثمَّ أكدى، أَي: قطعه وَلم يتم عَلَيْهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ والكلبي وَالْمُسَيب بن شريك. نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، وَله قصَّة تركناها لطولها، وأصل أكدى، من الكدية وَهُوَ حجر يظْهر فِي الْبِئْر وَيمْنَع من الْحفر ويوئس من المَاء، وَيُقَال: كديت أَصَابِعه إِذا بخلت، وكديت يَده إِذا كلت فَلم تعْمل شَيْئا.
رَبُّ الشِّعْرَى: هُوَ مِرْزَمُ الجَوْزَاءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ هُوَ رب الشعرى} (النَّجْم: 94) وَقَالَ الشعرى مرزم الجوزاء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الزَّاي وَهُوَ الْكَوْكَب الَّذِي يطلع وَرَاء الجوزاء، وهما شعريان: الغميصاء، مصغر الغمصاء بالغين الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْملَة وبالمد، والعبور. فَالْأولى فِي الْأسد وَالثَّانِي فِي الجوزاء، وَكَانَت خُزَاعَة تعبد الشعرى العبور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي (كتاب الأنواء) الْعذرَة والشعرى العبور والجوزاء فِي نسق وَاحِد، وَهن نُجُوم مَشْهُورَة، قَالَ: وللشعرى ثَلَاثَة أزمان إِذا رؤيت غدْوَة طالعة فَذَاك صميم الْحر، وَإِذا رؤيت عشيا طالعة فَذَاك صميم الْبرد، وَلها زمَان ثَالِث وَهُوَ وَقت نوئها وَأحد كوكبي الذِّرَاع المقبوضة هِيَ الشعرى الغميصاء، وَهِي تقَابل الشعرى العبور والمجرة بَينهمَا، وَيُقَال لكوكبها الآخر الشمالي المرزم، مرزم الذِّرَاع، وهما مرزمان هَذَا وَالْآخر فِي الجوزاء، وَكَانَت الْعَرَب تَقول: انحدر سُهَيْل فَصَارَ يَمَانِيا فتبعته الشعرى فعبرت إِلَيْهِ المجرة. وأقامت الغميصاء بَكت عَلَيْهِ حَتَّى غمصت عينهَا. قَالَ: والشعريان الغميصاء والعبور يطلعان مَعًا.
الَّذِي وَفَّى وَفَّى مَا فَرِضَ عَلَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى} (النَّجْم: 73) وَفسّر قَوْله: {إِبْرَاهِيم الَّذِي وفى} بقوله: وفَّى مَا فرض عَلَيْهِ من الْأَمر، ووفى بِالتَّشْدِيدِ أبلغ من وفى بِالتَّخْفِيفِ، لِأَن بَاب التفعيل فِيهِ الْمُبَالغَة، وَعَن ابْن عَبَّاس وَأبي الْعَالِيَة: أوفى أدّى {إِن لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461) وَعَن الزّجاج: وَفِي بِمَا أَمر بِهِ وَمَا امتحن بِهِ من ذبح وَلَده وَعَذَاب قومه.
أزِفَتِ الآزِفَةُ: اقْتَرَبَتِ السَّاَعة
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أزفت الآزفة لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة} (النَّجْم: 75، 85) وَفسّر قَوْله تَعَالَى: {أزفت الآزفة} بقوله: (اقْتَرَبت السَّاعَة) وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد كَذَلِك، وَسقط هَذَا هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (كاشفة) ، أَي: مظهرة مُقِيمَة، وَالْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة.
سَامِدُونَ البَرْطَمَةُ، وَقَالَ عِكْرَمَةُ يَتَغَنَّوْن بِالحِمْيَرِيَة(19/196)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {تضحكون وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُم سامدون} (النَّجْم: 01، 16) وَقَالَ: (سامدون البرطمة) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَالْمِيم، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والأصيلي والقابسي، البرطنة، بالنُّون بدل الْمِيم، وَمَعْنَاهُ الْإِعْرَاض، وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: البرطمة هَكَذَا وَوضع ذقنه فِي صَدره، وَعَن مُجَاهِد: سامدون غضاب متبرطمون، فَقيل لَهُ: مَا البرطمة، فَقَالَ الْإِعْرَاض، وَيُقَال: البرطمة الانتفاخ من الْغَضَب، وَرجل مبرطم متكبر، وَقيل: هُوَ الْغناء الَّذِي لَا يفهم، وَفِي التَّفْسِير: سامدون لاهون غافلون، يُقَال: دع عَنْك سمودك. أَي: لهوك، وَهُوَ لُغَة أهل الْيمن للاَّهي، وَعَن الضَّحَّاك: أشرون بطرون. قَوْله: (وَقَالَ عِكْرِمَة) ، هُوَ مولى ابْن عَبَّاس: معنى سامدون يتغنون بلغَة الْحمير، رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن أبي نجيح عَن عِكْرِمَة.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ أفَتُمَارُونَهُ أفَتُجادِلُونَهُ وَمَنْ قَرَأَ أَفَتَمْرُونَهُ يَعْنِي أفَتَجْحَدُونَهُ.
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {أفتمارونه على مَا يرى} وَفَسرهُ بقوله: (أفتجادلونه) من المراء وَهُوَ الملاحاة والمجادلة، واشتقاقه من مري النَّاقة كَانَ كل وَاحِد من المتجادلين يمري مَا عِنْد صَاحبه، وَيُقَال: مريت النَّاقة مريا إِذا مسحت ضرْعهَا لندر، وَهَكَذَا رَوَاهُ قوم مِنْهُم سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم. قَوْله: (وَمن قَرَأَ: افتمرونه) ، بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْمِيم وَهِي قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَخلف وَيَعْقُوب على معنى: أفتجحدونه، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَة. وَقَالَ لأَنهم لم يماروه وَإِنَّمَا جَحَدُوا. وَتقول الْعَرَب: مريت الرجل حَقه إِذا جحدته، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: أفتجحدون، بِغَيْر ضمير.
مَا زَاغَ البَصَرُ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا طَغَى وَلا جَاوَزَ مَا رَأَى
هَذَا ظَاهر. وَفِي التَّفْسِير أَي: مَا جَاوز مَا أَمر بِهِ وَلَا مَال عَمَّا قصد لَهُ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ: مَا زاغ الْبَصَر، وَلم يعين الْقَائِل، وَهُوَ قَول الْفراء، يُقَال مَا عدل يَمِينا وَلَا شمالاً وَلَا زَاد وَلَا تجَاوز، وَهَذَا وصف أدب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَتَمَارَوْا: كَذَبُوا
هَذَا لَيْسَ فِي هَذِه السُّورَة بل فِي سُورَة الْقَمَر الَّتِي تلِي هَذِه السُّورَة، وَلَعَلَّ هَذَا من تخبيط النساخ، وَمعنى: (تماروا: كذبُوا) وَقَالَ الْكرْمَانِي: تتمارى تكذب، وَقَالَ بَعضهم بعد أَن نقل كَلَام الْكرْمَانِي: وَلم أَقف عَلَيْهِ. قلت: لَا حَاجَة إِلَى وُقُوفه عَلَيْهِ، بل هَذِه اللَّفْظَة فِي هَذِه السُّورَة. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَي آلَاء رَبك تمّارى} (النَّجْم: 55) أَي: فَبِأَي نعمائه عَلَيْك تتمارى أَي: تشك وتجادل، وَالْخطاب للْإنْسَان على الْإِطْلَاق وَفِي (تَفْسِير النَّفْسِيّ) الْخطاب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يُعجبنِي هَذَا. وَالله أعلم.
وَقَالَ الحَسَنُ: إذَا هَوَى: غَابَ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {والنجم إِذا هوى} (النَّجْم: 1) مَعْنَاهُ: إِذا غَابَ، وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة عَن الْحسن، وَيُقَال: إِذا سقط الْهوى السُّقُوط وَالنُّزُول، يُقَال: هوى يهوي هويا، مثل مضى يمْضِي مضيا، وَعَن جَعْفَر الصَّادِق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ {والنجم إِذا هوى} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نزل من السَّمَاء لَيْلَة الْمِعْرَاج.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أغْنَى وَأفْنَى: أعْطَى فَأرْضَى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَإنَّهُ أغْنى وأقنى} (النَّجْم: 84) وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَعَن أبي صَالح: غنى النَّاس بِالْمَالِ، وأفنى أعْطى الْقنية وأصول الْأَمْوَال، وَقَالَ الضَّحَّاك: أَعنِي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وصنوف الْأَمْوَال، وأقنى بِالْإِبِلِ وَالْبَقر وَالْغنم. وَعَن ابْن زيد: أغْنى أَكثر وأفنى أقل، وَعَن الْأَخْفَش: أفنى أفقر، وَعَن ابْن كيسَان أولد.
5584 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِر عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا يَا امتاهْ هَلْ رَأي مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ أيْنَ أنْتَ مِنْ ثَلاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ(19/197)
ثُمَّ قَرَأْت: {لَا تُدْرِكَهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الْأَنْعَام: 301) . {وَمَا كَانَ لِبَشَرِ أنْ يُكَلِّمَهُ الله إلاَّ وَحْيا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: 15) وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} (لُقْمَان: 43) وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأْت: {يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الْمَائِدَة: 76) الآيَةَ وَلاكِنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلامُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ..
مطابقته للسورة ظَاهِرَة. وَيحيى هَذَا إِمَّا ابْن مُوسَى الختي بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَإِمَّا ابْن جَعْفَر الْبَلْخِي البيكندي، وعامر هُوَ الشّعبِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي التَّوْحِيد مُطلقًا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا وَقَالَ مُحَمَّد إِلَى آخِره وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره.
قَوْله: (يَا أمتاه) ، بِزِيَادَة الْألف وَالْهَاء، وَقَالَ الْخطابِيّ: هم يَقُولُونَ فِي النداء: يَا أبه أمه إِذا وقفُوا فَإِذا وصلوا قَالُوا: يَا أَبَت وَيَا أمت، وَإِذا فتحُوا للنعدبة قَالُوا: يَا أبتاه وَيَا أمتاه، وَالْهَاء الْوَقْف. وَقَالَ الْكرْمَانِي، هَذَا لَيْسَ من بَاب الندبة إِذْ لَيْسَ ذَلِك تفجعا عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعضهم: أَصله يَا أم فأضيف إِلَيْهَا ألف الاستغاثة فأبدلت تَاء وزيدت هَاء السكت بعد الْألف. قلت: لم يقل أحد مِمَّن يُؤْخَذ عَنهُ أَن الْألف فِيهِ للاستغاثة وَأَيْنَ الاستغاثة هَاهُنَا. قَوْله: (لقد قف شعري) ، أَي: قَامَ من الْفَزع لما حصل عِنْدهَا من هَيْبَة الله عز وَجل، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: القفة: بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء، كالقشعريرة وَأَصله التقبض والاجتماع لِأَن الْجلد ينقبض عِنْد الْفَزع فَيقوم الشّعْر لذَلِك. قَوْله: (أَيْن أَنْت من ثَلَاث) ، أَي: أَيْن فهمك يغيب من استحضار ثَلَاثَة أَشْيَاء؟ فَيَنْبَغِي لَك أَن تستحضرها ليحبط علمك بكذب من يَدعِي وُقُوعهَا. قَوْله: (من حدثكهن) ، أَي: من حَدثَك هَذِه الثَّلَاث فقد كذب. قَوْله: (من حَدثَك أَن مُحَمَّدًا رأى ربه) ، هَذَا هُوَ الأول من الثَّلَاث وَهُوَ أَن من يخبر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى ربه يَعْنِي لَيْلَة الْمِعْرَاج فقد كذب فِي إخْبَاره، ثمَّ استدلت عَائِشَة على نفي الرُّؤْيَة بالآيتين المذكورتين إِحْدَاهمَا هُوَ قَوْله: (لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار) وَجه الِاسْتِدْلَال بهَا أَن الله عز وَجل نفى أَن تُدْرِكهُ الْأَبْصَار، وَعدم الْإِدْرَاك يَقْتَضِي نفي الرُّؤْيَة بِأَن المُرَاد بالإدراك الْإِحَاطَة وهم يَقُولُونَ بِهَذَا أَيْضا وَعدم الْإِحَاطَة لَا يسْتَلْزم نفي الرُّؤْيَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لم تنف عَائِشَة الرُّؤْيَة بِحَدِيث مَرْفُوع، وَلَو كَانَ مَعهَا فِي حَدِيث لذكرته، وَإِنَّمَا اعتمدت الاستنباط على مَا ذكرت من ظَاهر الْآيَة، قد خالفها غَيرهَا من الصَّحَابَة، والصحابي إِذا قَالَ قولا وَخَالفهُ غَيره مِنْهُم لم يكن ذَلِك القَوْل حجَّة اتِّفَاقًا، وَقد خَالف عَائِشَة ابْن عَبَّاس فَأخْرج التِّرْمِذِيّ من طَرِيق الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه قلت: أَلَيْسَ الله يَقُول: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} قَالَ: وَيحك ذَاك إِذا تجلى بنوره الَّذِي هُوَ نوره، وَقد رأى ربه مرَّتَيْنِ، وروى ابْن خُزَيْمَة بِإِسْنَاد قوي عَن أنس. قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه، وَبِه قَالَ سَائِر أَصْحَاب ابْن عَبَّاس وَكَعب الْأَحْبَار وَالزهْرِيّ وَصَاحب معمر وَآخَرُونَ، وَحكى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن أَنه حلف أَن مُحَمَّدًا رأى ربه، وَأخرج ابْن خُزَيْمَة عَن عُرْوَة بن الزبير إِثْبَاتهَا وَكَانَ يشْتَد عَلَيْهِ إِذا ذكر لَهُ إِنْكَار عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وغالب اتِّبَاعه. قَوْله: (وَمَا كَانَ لبشر) الْآيَة هِيَ الْآيَة الثَّانِيَة الَّتِي استدلت بهَا عَائِشَة على نفي الرُّؤْيَة، وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن الله تَعَالَى حصر تكليمه لغيره فِي ثَلَاثَة أوجه وَهِي الْوَحْي بِأَن يلقِي فِي روعه مَا يَشَاء أَو يكلمهُ بِغَيْر وَاسِطَة من وَرَاء حجاب، أَو يُرْسل إِلَيْهِ رَسُولا فيبلغه عَنهُ فيستلزم ذَلِك انْتِفَاء الرُّؤْيَة عَنهُ حَالَة التَّكَلُّم، وَأَجَابُوا عَنهُ أَن ذَلِك لَا يسْتَلْزم نفي الرُّؤْيَة مُطلقًا، وَغَايَة مَا يَقْتَضِي نفي تكليم الله على غير هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة فَيجوز أَن التكليم لم يَقع حَالَة الرُّؤْيَة قَوْله: {وَمن حَدثَك أَنه يعلم مَا فِي غَد فقد كذب} هَذَا هُوَ الثُّلُث من الثَّلَاث الْمَذْكُورَة. واستدلت: على ذَلِك بقوله تَعَالَى: (وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا) قَوْله: (وَمن حَدثَك أَنه فقد كذب) هَذَا هُوَ الثَّالِث من الثَّلَاث الْمَذْكُورَة أَي: وَمن حَدثَك بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتم شَيْئا من الَّذِي شرع الله تَعَالَى لَهُ فقد كذب لِأَنَّهُ رَسُول مَأْمُور بالتبليغ فَلَيْسَ لَهُ كتم شَيْء من ذَلِك واستدلت على ذَلِك بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} ، قَوْله: {وَلكنه رأى جبرايل} هَكَذَا، رِوَايَة(19/198)
الْكشميهني لكنه بالضمير، وَفِي رِوَايَة غَيره وَلَكِن بِدُونِ الضَّمِير، وَلما نفت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه بِعَيْنِه فِي سُؤال مَسْرُوق عَنْهَا عَن ذَلِك استدركت بقولِهَا لَكِن رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي صورته مرَّتَيْنِ، وأشارت بذلك إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} (النَّجْم: 31) قَالَ الثَّعْلَبِيّ أَي: مرّة أُخْرَى سَمَّاهَا نزلة على الِاسْتِعَارَة، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ مرّة بِالْأَرْضِ فِي الْأُفق الْأَعْلَى، وَمرَّة فِي السَّمَاء عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَهَذَا قَول عَائِشَة، وَأكْثر الْعلمَاء وَهُوَ الِاخْتِيَار لِأَنَّهُ قرن الرُّؤْيَة بِالْمَكَانِ، فَقَالَ: عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَلِأَنَّهُ قَالَ: نزلة أُخْرَى، وَوصف الله تَعَالَى بِالْمَكَانِ وَالنُّزُول الَّذِي هُوَ الِانْتِقَال محَال. فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين نفي عَائِشَة الرُّؤْيَة وَإِثْبَات ابْن عَبَّاس إِيَّاهَا.
قلت: وَيحمل نَفيهَا على رُؤْيَة الْبَصَر وإثباته على رُؤْيَة الْقلب، وَالدَّلِيل على هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى وَلَقَد رآره نزلة أُخْرَى} قَالَ: رأى ربه بفؤاده مرَّتَيْنِ، وَله من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِه، وأصرح من ذَلِك مَا أخرجه ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق عَطاء أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لم يره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَيْنِه إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِه، وَقد رجح الْقُرْطُبِيّ قَول الْوَقْف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَعَزاهُ لجَماعَة من الْمُحَقِّقين، وقوَّاه لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَاب دَلِيل قَاطع، وَغَايَة مَا اسْتدلَّ بِهِ للطائفتين، ظواهر متعارضة قَابِلَة للتأويل. قَالَ: وَلَيْسَت الْمَسْأَلَة من العمليات فيكتفي فِيهَا بالأدلة الظنية، وَإِنَّمَا هِيَ من المعتقدات فَلَا يَكْتَفِي فِيهَا إلاَّ بِالدَّلِيلِ الْقطعِي، وَمَال ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوْحِيد إِلَّا الْإِثْبَات وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَال، وَحمل مَا ورد عَن ابْن عَبَّاس على أَن الرُّؤْيَا وَقعت مرَّتَيْنِ: مرّة بِعَيْنِه وَمرَّة بِقَلْبِه، وَالله أعلم.
(بابٌ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى} (النَّجْم: 9) حَيْثُ الوَتْرُ مِنَ القَوْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده، وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ بَاب وَقد تقدم تَفْسِيره قَرِيبا عَن مُجَاهِد.
6584 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ زِرا عنْ عَبْدِ الله: {فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النَّجْم: 9، 01) قَالَ حَدَّثنا ابنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتْمِائَةِ جَناحٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد، والشيباني هُوَ سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَيْرُوز أَبُو إِسْحَاق الْكُوفِي، وزر، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الرَّاء، هُوَ ابْن حُبَيْش، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب بَدْء الْوَحْي فِي: بَاب الْمَلَائِكَة.
قَوْله: (عَن عبد الله {فَكَانَ قاب قوسين} ) أَرَادَ أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ فِي تَفْسِير هَاتين الْآيَتَيْنِ مَا سأذكره ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: حَدثنَا ابْن مَسْعُود إِلَى آخِره. قَوْله: (رأى جِبْرِيل) ، أَي: رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (سِتّمائَة جنَاح) ، جملَة إسمية، وَقعت حَالا بِدُونِ الْوَاو، وَرُوِيَ فِي غير رِوَايَة البُخَارِيّ: يَتَنَاثَر من ريشه الدّرّ والياقوت، وَأخرجه النَّسَائِيّ بِلَفْظ يَتَنَاثَر مِنْهَا تهاويل الدّرّ والياقوت. قلت: التهاويل الْأَشْيَاء الْمُخْتَلفَة الألوان كَانَ وَاحِدهَا تهوال وَأَصله مِمَّا يهول الْإِنْسَان ويحيره.
(بابٌ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النَّجْم: 01)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (فَأوحى) ، يَعْنِي: أوحى الله تَعَالَى إِلَى عَبده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الْحسن وَالربيع وَابْن زيد مَعْنَاهُ: فَأوحى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى مُحَمَّد مَا أُوحِي إِلَيْهِ ربه، وَعَن سعيد بن جُبَير: أوحى إِلَيْهِ الله {ألم يجدك يَتِيما} (الضُّحَى: 6) إِلَى قَوْله: {رفعنَا لَك ذكرك} (الشَّرْح: 4) وَقيل: أوحى إِلَيْهِ أَن الْجنَّة مُحرمَة على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَتَّى تدْخلهَا وعَلى الْأُمَم حَتَّى تدْخلهَا أمتك.
7584 - حدَّثنا طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ حدَّثنا زَائِدَةُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ سَأَلْتُ زِرا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:(19/199)
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النَّجْم: 9، 01) قَالَ أخْبَرنَا عَبْدُ الله أنَّ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمَائَةِ جَناحٍ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن طلق، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالقاف ابْن غَنَّام، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون أَبُو مُحَمَّد النَّخعِيّ الْكُوفِي عَن زَائِدَة بن قدامَة الْكُوفِي عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (أخبرنَا عبد الله) ، هُوَ عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (أَن مُحَمَّدًا) ، هَذَا هَكَذَا رِوَايَة أبي ذَر، وَعند غَيره أَنه مُحَمَّد. أَي: أَن العَبْد الْمَذْكُور فِي قَوْله: عز وَجل، إِلَى عَبده، وَحَاصِل هَذَا أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يذهب فِي ذَلِك إِلَى أَن الَّذِي رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا ذهبت إِلَى ذَلِك عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالتَّقْدِير على رَأْيه فَأوحى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى عَبده أَي: عبد الله مُحَمَّد لِأَنَّهُ يرى أَن الَّذِي دني فَتَدَلَّى هُوَ جِبْرِيل وَأَنه هُوَ الَّذِي أوحى إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
5 - (بابٌ: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النَّجْم: 81)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ بَاب: وَهَذِه التَّرْجَمَة لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (لقد رأى) ، أَي: مُحَمَّد رفرفا أَخْضَر من الْجنَّة سد الْأُفق، وَعَن الضَّحَّاك: سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَعَن مقَاتل: رأى جِبْرِيل فِي صورته الَّتِي تكون فِي السَّمَوَات، وَقيل: الْمِعْرَاج وَمَا رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي مسراه فِي بدئه وَعوده.
8584 - حدَّثنا قَبِيصَةُ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عنهُ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى قَالَ: رَأَى رَفْرَفا أخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفْقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ.
قَوْله: (عَن عبد الله) ، أَي: عَن عبد الله بن مَسْعُود فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة. قَوْله: (رأى رفرفا) ، الخ ظَاهره يغاير قَوْله فِي الحَدِيث السَّابِق، وَهُوَ قَوْله: رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لَهُ سِتّمائَة جنَاح، وَلَكِن يُوضح المُرَاد حَدِيث النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن عبد الله عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: أبصرني الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِبْرِيل على رَفْرَف مَلأ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فَيجمع بَينهمَا أَن الْمَوْصُوف جِبْرِيل وَالصّفة هِيَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا والرفرف هُوَ الْحلَّة، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن ابْن مَسْعُود: رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي حلَّة من رَفْرَف قد مَلأ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف خضر} (الرحمان: 67) وأصل الرفرف مَا كَانَ من الديباج رَقِيقا حسن الصَّنْعَة ثمَّ اشْتهر اسْتِعْمَاله فِي السّتْر. وَكلما فضل من شَيْء فعطف وثنى فَهُوَ رَفْرَف، وَيُقَال: رَفْرَف الطَّائِر بجناحيه إِذا بسطهما. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرفرف الْبسَاط، وَقيل: الْفراش، وَقيل: ثوب كَانَ لباسا لَهُ. قلت: جَاءَ فِي حَدِيث آخر، رأى جِبْرِيل فِي حلتي رَفْرَف، وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف} هِيَ رياض الْجنَّة، وَهُوَ جمع رفرفة والرفارف جمع الْجمع، وَعنهُ: الرفرف فضول الْمجَالِس والبسط، وَعَن قَتَادَة وَالضَّحَّاك: مجَالِس خضر فَوق الْفرش الْحسن، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ الْبسط، وَعَن ابْن عُيَيْنَة: هُوَ الزرابي، وَعَن ابْن كيسَان: الْمرَافِق، وَعَن ابْن أبي عُبَيْدَة: حَاشِيَة الثَّوْب، وَقيل: كل ثوب عريض عِنْد الْعَرَب فَهُوَ رَفْرَف.
2 - (بابٌ: {أفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعُزَّى} (النَّجْم: 91)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى} وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ بَاب: وَاللات مَأْخُوذ من لَفْظَة الله ثمَّ ألحقت بهَا تَاء التَّأْنِيث، فأنثت، كَمَا قيل للرجل عَمْرو ثمَّ يُقَال للْأُنْثَى عمْرَة كَذَا قَالَه الثَّعْلَبِيّ، وَقيل: أَرَادوا أَن يسمعوا إلاههم الْبَاطِل باسم الله فَصَرفهُ الله تَعَالَى إِلَى اللات صونا لَهُ وحفظا لِحُرْمَتِهِ، وَفِي التَّفْسِير: كَانَت اللات صَخْرَة بِالطَّائِف. وَعَن ابْن زيد: بَيت بنخلة كَانَت قُرَيْش تعبده، والعزى شَجَرَة لغطفان يعبدونها، قَالَه مُجَاهِد. قلت: هِيَ الَّتِي بعث إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِد بن الْوَلِيد فقطعها وَله قصَّة مَشْهُورَة، وَعَن الضَّحَّاك: صنم لغطفان وَضعهَا لَهُم سعد بن ظَالِم الْغَطَفَانِي، وَعَن ابْن زيد بَيت بِالطَّائِف كَانَت ثَقِيف تعبده.(19/200)
9584 - حدَّثنا مُسْلِمٌ حدَّثنا أبُو الأشْهَبِ حدَّثنا أبُو الجَوْزَاءِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: {اللاَّتَ وَالعُزَّى} كانَ الَّلاتُ رَجلاً يَلُتُ سَوِيقَ الحاجِّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَفِي بعض النّسخ إِبْرَاهِيم مَذْكُور، وَأَبُو الْأَشْهب اسْمه جَعْفَر بن حَيَّان العطاردي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو الجوزاء، بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الْوَاو وبالزاي وَالْمدّ اسْمه: أَوْس بن عبد الله الربعِي، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ قتل عَام الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
قَوْله: (عَن ابْن عَبَّاس) ، فِي قَوْله: لفظ: وَفِي قَوْله: سقط لغير أبي ذَر وَأَرَادَ أَبُو الجوزاء أَن ابْن عَبَّاس قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى} (النَّجْم: 91) كَانَ اللات رجلا يلت سويق الْحَاج: وَهَذَا مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الزّجاج: قرىء اللات بتَشْديد التَّاء زَعَمُوا أَن رجلا كَانَ يلت السويق ويبيعه عِنْد ذَلِك الصَّنَم فَسُمي الصَّنَم اللات بتَشْديد التَّاء وَالْأَكْثَر بتَخْفِيف التَّاء، وَكَانَ الْكسَائي يقف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ اللاه وَهَذَا قِيَاس والأجود فِي هَذَا اتِّبَاع الْمُصحف وَالْوَقْف عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَفِي (غرر التِّبْيَان) اللات فعله من لوى لأَنهم كَانُوا يلوون عَلَيْهَا أَي: يطوفون، وَزعم السُّهيْلي أَن أصل هَذَا الرجل يَعْنِي فِي قَول ابْن عَبَّاس كَانَ اللات رجلا كَانَ يلت السويق للْحَاج إِذا قدمُوا وَكَانَت الْعَرَب تعظم هَذَا الرجل بإطعامه النَّاس فِي كل موسم، وَيُقَال: إِنَّه عَمْرو بن لحى قَالَ: وَيُقَال: هُوَ ربيعَة بن حَارِثَة، وَهُوَ وَالِد خُزَاعَة وعمّر عمرا طَويلا فَلَمَّا مَاتَ اتَّخذُوا مَقْعَده الَّذِي كَانَ يلت فِيهِ السويق منسكا ثمَّ سنح الْأَمر بهم إِلَى أَن عبدُوا تِلْكَ الصَّخْرَة الَّتِي كَانَ يقْعد عَلَيْهَا ومثلوها صنما وسموها اللات اشتق لَهَا من اللَّاتِي أَعنِي: لت السويق وَكَانَت بِالطَّائِف، وَقيل: فِي طَرِيقه، وَقيل: كَانَت بِمَكَّة وَقَالَ قَتَادَة كَانَت بنخلة.
0684 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ أخْبَرنا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ حُمَيْدٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَالَّلاتِ وَالعُزَّيَ فَلْيَقُلْ لَا إلاه إلاَّ الله وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق وَفِي الاسْتِئْذَان عَن يحيى بن بكير، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن أبي الطَّاهِر وحرملة وَعَن سُوَيْد بن سعيد وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن كثير بن عبيد وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن وحيم.
قَوْله: (من حلف) ، إِلَى آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: الْيَمين إِنَّمَا يكون بالمعبود الَّذِي يعظم فَإِذا حلف بهَا فقد ضاهى الْكفَّار فِي ذَلِك فَأمر أَن يتداركه بِكَلِمَة التَّوْحِيد، وَأما قَوْله: (فليتصدق) فَمَعْنَاه يتَصَدَّق بِالْمَالِ الَّذِي يُرِيد أَن يقامر عَلَيْهِ، وَقيل: يتَصَدَّق بِصَدقَة من مَاله كَفَّارَة لما جرى على لِسَانه من هَذَا القَوْل. قَوْله: (فَقَالَ فِي حلفه) ، أَي: فِي يَمِينه، وَالْحلف بِفَتْح الْحَاء وَكسر اللَّام وإسكانها أَيْضا وَالْحلف بِكَسْر الْحَاء وَإِسْكَان اللَّام الْعَهْد. قَوْله: (فَلْيقل لَا إلاه إِلَّا الله) إِنَّمَا أمره بذلك لِأَنَّهُ تعاطى تَعْظِيم الْأَصْنَام. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا إِذا حلف بِاللات أَو غَيرهَا من الْأَصْنَام أَو قَالَ: إِن فعلت كَذَا فَأَنا بعد يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو بَرِيء من الْإِسْلَام أَو من سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَحْو ذَلِك لم ينْعَقد يَمِينه بل عَلَيْهِ أَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَيَقُول: لَا إلاه إِلَّا الله وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ سَوَاء فعله أم لَا. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وجماهير الْعلمَاء، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجب الْكَفَّارَة فِي كل ذَلِك إلاَّ فِي قَوْله: أَنا مُبْتَدع أَو بَرِيء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو الْيَهُودِيَّة انْتهى. وَفِي (فَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة) وَلَو قَالَ: هُوَ يَهُودِيّ أَو بَرِيء من الْإِسْلَام أَن فعل كَذَا عندنَا يكون يَمِينا. فَإِذا فعل ذَلِك الْفِعْل هَل يصير كَافِرًا هَذَا على وَجْهَيْن: إِن حلف بِهَذِهِ(19/201)
الْأَلْفَاظ وعلق بِفعل مَاض وَهُوَ عَالم وَقت الْيَمين أَنه كَاذِب اخْتلفُوا فِيهِ. قَالَ بَعضهم: يصير كَافِرًا لِأَنَّهُ تَعْلِيق بِشَرْط كَائِن وَهُوَ تَنْجِيز، وَقَالَ بَعضهم: لَا يكفر وَلَا يلْزمه الْكَفَّارَة، وَإِلَيْهِ مَال شيخ الْإِسْلَام خُوَاهَر زَاده، وَإِن حلف بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ على أَمر مُسْتَقْبل. قَالَ بَعضهم: لَا يكفر وَيلْزمهُ الْكفَّار، وَالصَّحِيح مَا قَالَه السَّرخسِيّ أَنه ينظر إِن كَانَ فِي اعْتِقَاد الْحَالِف أَنه لَو حلف بذلك على أَمر فِي الْمَاضِي يصير كَافِرًا فِي الْحَال. وَإِن لم يكن فِي اعْتِقَاده ذَلِك لَا يكفر، سَوَاء كَانَت الْيَمين على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل أَو فِي الْمَاضِي. قَوْله تَعَالَى أَمر من التعالي، وَهُوَ الِارْتفَاع. تَقول مِنْهُ إِذا أمرت تعال يَا رجل، بِفَتْح اللَّام، وللمرأة تعالي، وللمرأتين تعاليا، وللنسوة تعالين، وَلَا يجوز أَن يُقَال مِنْهُ: تعاليت وَلَا ينْهَى عَنهُ. قَوْله: (أقامرك) ، مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، يُقَال: قامره يقامره قمارا إِذا طلب كل وَاحِد أَن يغلب صَاحبه فِي عمل أَو قَول ليَأْخُذ مَالا جعلاه للْغَالِب، وَهُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع. قَوْله: (فليتصدق) وَفِي رِوَايَة مُسلم، فليتصدق بِشَيْء. قَالَ الْعلمَاء: أَمر بالتصدق تكفيرا لخطيئته فِي كَلَامه بِهَذِهِ الْمعْصِيَة. قَالَ الْخطابِيّ: يتَصَدَّق بِمِقْدَار مَا كَانَ يُرِيد أَن يقامره بِهِ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: رَحمَه الله: الصَّوَاب أَن يتَصَدَّق بِمَا تيَسّر مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الصَّدَقَة. وَفِي (التَّلْوِيح) عَن بعض الْحَنَفِيَّة. إِن قَوْله: فليتصدق، المُرَاد بهَا كَفَّارَة الْيَمين، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه مَا فِيهِ. قلت: مَا فِيهِ إلاَّ عدم فهم من لَا يفهم مَا فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعضهم: المُرَاد بهَا كَفَّارَة الْيَمين لِأَن هَذَا ينْعَقد يَمِينا على رَأْي هَذَا الْقَائِل: فَإِذا انْعَقَد يَمِينا تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة.
3 - (بابٌ: {وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النَّجْم: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} وَلم يثبت لفظ: إلاَّ لأبي ذَر، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرهَا فِي الحَدِيث، وَلَكِن يُفَسر معنى الْآيَة. فَقَوله: الثَّالِثَة لَا يُقَال لَهَا الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا الْأُخْرَى نعت للثَّانِيَة، وَقَالَ الْخَلِيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليُوَافق رُؤُوس الْآي، كَقَوْلِه: {مآرب أُخْرَى} (طه: 81) وَقَالَ الْحُسَيْن بن فضل فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازها أَفَرَأَيْتُم الّلات والعزى الْأُخْرَى وَمَنَاة؟ .
1684 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قُلْتُ لِ عائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها فَقَالَتْ إنَّما كَانَ مَنْ أهَلَّ بِمَناةَ الطَّاغِيَةَ الَّتِي بِالمُشَلّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصّفا وَالمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى إنَّ الصَّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله فَطَافَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالمُسْلِمُونَ قَالَ سُفْيَانُ مَنَاةُ بِالمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ عَنِ ابنِ شهابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فِي الأنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَانُ قَبْلَ أنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمناةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمناةِ وَمَناةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُنّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا وَالمَرْوَةِ تَعْظِيما لِمناةَ نَحْوَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى مطولا فِي الْحَج فِي: بَاب وجوب الصَّفَا والمروة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (قلت لعَائِشَة فَقَالَت) ، فِيهِ حذف بَينه فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة فِي: بَاب {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) وَهُوَ أَن عُرْوَة قَالَ: قلت: لعَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا يَوْمئِذٍ حَدِيث السن: أَرَأَيْت قَول الله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} فَمَا أرى على أحد شَيْئا أَن لَا يطوف بهما. فَقَالَت عَائِشَة: إِنَّمَا كَانَ من أهل. أَي: أحرم بمناة بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعند غَيره: لمناة. بِاللَّامِ أَي: لأجل مَنَاة، والطاغية صفة لَهَا بِاعْتِبَار طغيان عبدتها، وَيجوز أَن يكون مُضَافا إِلَيْهَا على معنى: أحرم باسم مَنَاة الْقَوْم الطاغية. قَوْله: (الَّتِي بالمشلل) ، صفة أُخْرَى أَي: الكائنة بالمشلل، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ مَوضِع من قديد على مَا يَأْتِي الْآن. قَوْله: (لَا يطوفون) ، أَي: من كَانَ يحجّ لهَذَا الصَّنَم كَانَ لَا يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة تَعْظِيمًا لصنعهم حَيْثُ لم يكن فِي الْمَسْعَى، وَكَانَ فِيهِ صنمان إساف ونائلة، فَأنْزل الله تعال ردا عَلَيْهِم بقوله: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} فَطَافَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَاف مَعَه الْمُسلمُونَ. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (مَنَاة بالمشلل من قديد) ، مقول قَول سُفْيَان، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير مَنَاة. أَي: مَنَاة(19/202)
مَكَان كَائِن بالمشلل الْكَائِن من قديد، بِضَم الْقَاف مصغر القدد، وَهُوَ من منَازِل طَرِيق مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.
قَوْله: (وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر الفهمي) ، بِالْفَاءِ الْمصْرِيّ. كَانَ أَمِير مصر لهشام مَاتَ سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَأخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة. قَوْله: (عَن ابْن شهَاب) ، وَهُوَ الزُّهْرِيّ أَي: يروي عَن ابْن شهَاب، وَهُوَ الزُّهْرِيّ الرَّاوِي فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق الطَّحَاوِيّ من طَرِيق عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بِطُولِهِ. قَوْله: (هم) أَي: الْأَنْصَار. قَوْله: (وغسان) ، عطف عَلَيْهِ وهم قَبيلَة. قَوْله: (يهلون بمناة) أَي: يحرمُونَ بمناة قبل الْإِسْلَام. قَوْله: (مثله) أَي: مثل حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْمَذْكُور قبله. قَوْله: (وَقَالَ معمر) بِفَتْح الميمين، وَهُوَ ابْن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ عَن الْحسن بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر إِلَى آخِره مطولا. قَوْله: (وَمَنَاة صنم بَين مَكَّة وَالْمَدينَة) أَي: مَنَاة اسْم صنم كَائِن بَين مَكَّة وَالْمَدينَة كَانَت صنما لخزاعة وهذيل، سميت بذلك لِأَن دم الذَّبَائِح كَانَ يمني عَلَيْهَا أَي يراق، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) كَانَت مَنَاة على سَاحل الْبَحْر تعبد، وَفِي (تَفْسِير عبد الرَّزَّاق) أخبرنَا معمر عَن قَتَادَة: اللات لأهل الطَّائِف، وعزى لقريش، وَمَنَاة للْأَنْصَار، وَعَن ابْن زيد: مَنَاة بَيت بالمشلل تبعده بَنو كَعْب، وَيُقَال: مَنَاة أصنام من حِجَارَة كَانَت فِي جَوف الْكَعْبَة يعبدونها. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور.
4 - (بابٌ: {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا} (النَّجْم: 26)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: (فاسجدوا لله واعبدوا) وَهُوَ آخر سُورَة النَّجْم. قيل: وَقع للأصيلي، واسجدوا، بِالْوَاو وَهُوَ غلط. قلت: لَا ينْسب الْغَلَط للأصيلي بل للناسخ لعدم تَمْيِيزه.
2684 - حدَّثني أبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا الوَارِثِ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال سَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإنْسُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي أَبْوَاب سُجُود الْقُرْآن فِي: بَاب سُجُود الْمُسلمين مَعَ الْمُشْركين فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَارِث إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الْمُسلمُونَ) ، يتَنَاوَل الْجِنّ وَالْإِنْس، وَفَائِدَة ذكر قَوْله: (وَالْجِنّ وَالْإِنْس) لدفع وهم اخْتِصَاصه بِالْمُسْلِمين. قَوْله: (وَالْمُشْرِكُونَ) أَي: وَسجد مَعَه الْمُشْركُونَ. قَالَ الْكرْمَانِي: سجد الْمُشْركُونَ لِأَنَّهَا أول سَجْدَة نزلت فأرادوا مُعَارضَة الْمُسلمين بِالسَّجْدَةِ لمعبودهم أَو وَقع ذَلِك مِنْهُم بِلَا قصد أَو خَافُوا فِي ذَلِك الْمجْلس من مخالفتهم، وَمَا قيل كَانَ ذَلِك بِسَبَب مَا ألقِي الشَّيْطَان فِي أثْنَاء قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(تِلْكَ الغرانيق العلى ... مِنْهَا الشَّفَاعَة ترتجى)
فَلَا صِحَة لَهُ نقلا وعقلاً وَقَالَ بَعضهم: الِاحْتِمَالَات الثَّلَاثَة فِيهَا نظر، وَالْأول مِنْهَا لعياض، وَالثَّانِي: يُخَالِفهُ سِيَاق ابْن مَسْعُود حَيْثُ زَاد فِيهِ أَن الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مِنْهُم أَخذ كفا من حصا فَوضع جَبهته عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك ظَاهر فِي الْقَصْد، وَالثَّالِث أبعد إِذْ الْمُسلمُونَ حِينَئِذٍ هم الَّذين كَانُوا خَائِفين من الْمُشْركين لَا الْعَكْس. قلت: ادّعى هَذَا الْقَائِل أَن فِي هَذِه الِاحْتِمَالَات نظرا، فَقَالَ فِي الأول: إِنَّه لعياض، يَعْنِي: مَسْبُوق فِيهِ بِالْقَاضِي عِيَاض، فَبين أَنه لعياض وَلم يبين وَجه النّظر، وَذكر وَجه النّظر فِي الثَّانِي: بقوله: يُخَالِفهُ سِيَاق ابْن مَسْعُود، وَهَذَا غير دَافع لبَقَاء الِاحْتِمَال فِي عدم الْقَصْد من الَّذِي أَخذ كفا من حصا فَوضع جَبهته عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الثَّالِث: أبعد. إِلَى آخِره فَالَّذِي ذكره أبعد مِمَّا قَالَه لِأَن الْمُسلمين كَانُوا خَائِفين من الْمُشْركين وَقت سجودهم لم يَكُونُوا يتمكنون من السُّجُود لِأَن السُّجُود مَوضِع الْجَبْهَة على الأَرْض وَمن يتَمَكَّن من ذَلِك وَرَاءه من يخَاف مِنْهُ خُصُوصا أَعدَاء الدّين، وقصدهم هَلَاك الْمُسلمين؟ .
تَابَعَهُ ابنُ طَهْمَانَ عَنْ أيُّوبَ وَلَمْ يَذْكُر ابنُ عُلَيَّةَ ابنَ عَبَّاسٍ
أَي: تَابع عبد الْوَارِث، إِبْرَاهِيم بن طهْمَان فِي رِوَايَته عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، إِبْرَاهِيم مَذْكُور وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة من طَرِيق حَفْص بن عبد الله النَّيْسَابُورِي عَن ابْن طهْمَان بِلَفْظ أَنه قَالَ حِين(19/203)
نزلت السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا النَّجْم سجد لَهَا الْإِنْس وَالْجِنّ. قَوْله: (وَلم يذكر ابْن علية ابْن عَبَّاس) أَي: لم يذكر إِسْمَاعِيل بن علية عبد الله بن عَبَّاس أَرَادَ بِهِ أَنه حدث بِهِ عَن أَيُّوب فَأرْسلهُ، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ وَلَيْسَ هَذَا بقادح لِاتِّفَاق ثقتين وهما عبد الْوَارِث وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان على وَصله.
3684 - حدَّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيٍّ أخْبَرَنِي أبُو أحْمَدَ يَعْنِي الزُّبَيْرِي حدَّثنا إسْرَائِيلُ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ قَالَ فَسَجَدَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أخَذَ كَفّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ بَعْذَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرا وَهُوَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَنصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، قَالَه أَبُو الْعَبَّاس السراج، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا. وَأَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيرِي، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو السبيعِي عَن الْأسود بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ خَال إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَهَذَا الحَدِيث مر فِي أَبْوَاب سُجُود الْقُرْآن فِي: بَاب سَجْدَة والنجم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود بن يزِيد إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فَسجدَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بعد فَرَاغه من قرَاءَتهَا. قَوْله: (إلاّ رجلا) بيّنه فِي الحَدِيث أَنه أُميَّة بن خلف. قَوْله: (أَخذ كفا من تُرَاب) ، وَفِي رِوَايَة كفا من حصا أَو تُرَاب. قَوْله: (فَسجدَ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (فرفعه إِلَى وَجهه. فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا) قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الرجل الْمَذْكُور (هُوَ أُميَّة بن خلف) وَلم يذكر هُوَ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة، وَفِي رِوَايَة بن سعد أَن الَّذِي لم يسْجد هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. قَالَ: وَقيل: سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة، قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: كِلَاهُمَا جَمِيعًا وَجزم ابْن بطال فِي: بَاب سُجُود الْقُرْآن أَنه الْوَلِيد، وَهَذَا مستغرب مِنْهُ مَعَ وجود التَّصْرِيح بِأَنَّهُ أُميَّة بن خلف. وَلم يقتل كَافِرًا ببدر من الَّذين سموا عِنْده غَيره.
45 - ( {سُورَةُ اقْتَرَبَتِ السَّاَعَةُ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بَعْص سُورَة: {اقْتَرَبت السَّاعَة} وَتسَمى أَيْضا: سُورَة الْقَمَر. قَالَ مقَاتل: فِيمَا ذكره ابْن النَّقِيب وَغَيره: مَكِّيَّة إلاَّ ثَلَاث آيَات أَولهَا: {أم يَقُولُونَ نَحن جَمِيع منتصر} (الْقَمَر: 44) وَآخِرهَا قَوْله: {والساعة أدهى وَأمر} (الْقَمَر: 64) كَذَا قَالُوهُ عَن مقَاتل وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن الَّذِي فِي تَفْسِيره هِيَ مَكِّيَّة غير آيَة {سَيهْزمُ الْجمع} (الْقَمَر: 54) فَإِنَّهَا نزلت فِي أبي جهل بن هِشَام يَوْم بدر. وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حرفا، وثلاثمائة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ كلمة. وَخمْس وَخَمْسُونَ آيَة. قَوْله: {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَي: دنت الْقِيَامَة وَعَن ابْن كيسَان فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازها: انْشَقَّ الْقَمَر واقتربت السَّاعَة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت البسلمة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ مُسْتَمِرٌّ ذَاهِبٌ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر} (الْقَمَر: 2) فسر: (مُسْتَمر) بقوله: (ذَاهِب) هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، روى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة عَن أنس مُسْتَمر. قَالَ: ذَاهِب وَفِي التَّفْسِير: مُسْتَمر ذَاهِب سَوف يذهب وَيبْطل، من قَوْلهم: مر الشَّيْء وَاسْتمرّ، وَعَن الضَّحَّاك: مُحكم شَدِيد قوي، وَعَن قَتَادَة: غَالب، من قَوْلهم: مر الْحَبل إِذا صلب وَاشْتَدَّ وَقَوي، وأمررته إِنَّا إِذا أحكمت فتله، وَعَن الرّبيع: نَافِذ، وَعَن يمَان: مَاض، وَعَن أبي عُبَيْدَة: بَاطِل، وَقيل: يشبه بعضه بَعْضًا.
مُزْدَجَرٌ: مُتَناهٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر} (الْقَمَر: 4) أَي: متناه: بِصِيغَة الْفَاعِل أَي: نِهَايَة وَغَايَة فِي الزّجر لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَكَذَا فسره قَتَادَة، وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَفْعُول من التناهي بِمَعْنى الِانْتِهَاء. أَي: جَاءَكُم من أَخْبَار عَذَاب الْأُمَم السالفة مَا فِيهِ مَوضِع الِانْتِهَاء عَن الْكفْر والانزجار عَنهُ، فَافْهَم، وَعَن سُفْيَان. مُنْتَهى، وأصل: مزدجر مزتجر قلبت التَّاء دَالا.(19/204)
وَازْدُجِرَ: اسْتُطِيرَ جُنُونا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل ذكره: {وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} (الْقَمَر: 9) وَمَعْنَاهُ: استطير جنونا، وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد: وَعَن ابْن زيد: اتَّهَمُوهُ وزجروه ووعدوه لَئِن لم تفعل لتكونن من المرجومين، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: زجروه عَن دَعوته ومقالته.
دُسُرٌ أضْلاعُ السَّفِينَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وحملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر (الْقَمَر: 31) وَفسّر: (الدسر) بأضلاع (السَّفِينَة) وَهَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد، وَفِي التَّفْسِير: دسر مسامير وَاحِدهَا داسر ودسير، يُقَال مِنْهُ: دسرت السَّفِينَة إِذا شددته بالمسامير. قَالَه قَتَادَة وَابْن زيد وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن الْحسن: هِيَ صدر السَّفِينَة سميت بذلك لِأَنَّهَا تدسر المَاء بجؤجئها. أَي: تدفع، وَهِي رِوَايَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: الدسر كلكل السَّفِينَة، وأصل الدسر الدّفع، وَفِي الحَدِيث فِي العنبر: إِنَّمَا هُوَ شَيْء دسره الْبَحْر. أَي: دَفعه.
لِمَنْ كَانَ كُفِرَ يَقُولُ كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنَ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تجْرِي بأعيننا جَزَاء لمن كَانَ كفر} (الْقَمَر: 41) وَفَسرهُ بقوله: {كفر لَهُ جَزَاء من الله} أَي: كفر لَهُ من الكفران، بِالنعْمَةِ. وَالضَّمِير فِي لَهُ، لنوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَي: فعلنَا بِنوح وبهم مَا فعلنَا من فتح أَبْوَاب السَّمَاء وَمَا بعده من التفجير وَنَحْوه جَزَاء من الله بِمَا صَنَعُوا بِنوح وَأَصْحَابه، وَقَالَ النَّسَفِيّ: قَالَ الْفراء: جَزَاء بكفرهم، وَمن، بِمَعْنى: مَا المصدرية وَقيل: مَعْنَاهُ عاقبناهم لله وَلأَجل كفرهم بِهِ، وَقيل: مَعْنَاهُ لمن كَانَ كفر بِاللَّه، وَهُوَ قِرَاءَة قَتَادَة فَإِنَّهُ كَانَ يقْرَأ بِفَتْح الْكَاف وَالْفَاء، وَقَالَ: لمن كفر بِنوح، عَلَيْهِ السَّلَام.
مُحْتَضَرٌ: يَحْضُرُونَ المَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ونبئهم أَن المَاء قسْمَة بَينهم كل شرب محتضر} (الْقَمَر: 82) يَعْنِي: قوم صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يحْضرُون المَاء إِذا غَابَتْ النَّاقة فَإِذا جَاءَت حَضَرُوا اللَّبن، هَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد. قَوْله: (شرب) أَي: نصيب من المَاء، وَفِي التَّفْسِير: محتضر يحضرهُ من كَانَت نوبَته فَإِذا كَانَت نوبَة النَّاقة حضرت شربهَا، وَإِذا كَانَ يومهم حَضَرُوا شربهم.
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: مُهْطِعِينَ النَّسَلانُ. الخَبَبُ السِّرَاعُ
أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {مهطعين إِلَى الداع يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر} (الْقَمَر: 8) هَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى حَدثنَا يحيى حَدثنَا شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير. قَوْله: (مهطعين) ، أَي: مُسْرِعين من الإهطاع. قَوْله: (النسلان) ، تَفْسِير الإهطاع الَّذِي يدل عَلَيْهِ، مهطعين، والنسلان، بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: مشْيَة الذِّئْب إِذا أعنق، وَفَسرهُ هُنَا بالخبب بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا أُخْرَى، وَهُوَ ضرب من الْعَدو. قَوْله: (السراع) ، من المسارعة: تَأْكِيد لَهُ، وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: مهطعين. قَالَ: ناظرين، وَعَن قَتَادَة: عَامِدين إِلَى الدَّاعِي، أخرجه عبد بن حميد، وَقَالَ أَحْمد بن يحيى: المهطع الَّذِي ينظر فِي ذل وخشوع لَا يتبع بَصَره، والداعي هُوَ إسْرَافيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فَتَعَاطَى فَعَاطَهَا بِيَدِهِ
أَي: قَالَ غير سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {فَنَادوا صَاحبهمْ فتعاطى فعقر} (الْقَمَر: 92) وَفسّر: (فتعاطى) بقوله: (فعاطها بِيَدِهِ) أَي: تنَاولهَا بِيَدِهِ فعقرها أَي: نَاقَة صَالح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا الْمَذْكُور هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره فتعاطى فعاطى بِيَدِهِ فعقرها، وَقَالَ ابْن التِّين: لَا أعلم لقَوْله: عاطها هُنَا وَجها إِلَّا أَن يكون من المقلوب الَّذِي قلبت عينه على لامه. لِأَن العطو التَّنَاوُل فَيكون الْمَعْنى: فَتَنَاولهَا بِيَدِهِ، وَأما عوط فَلَا أعلمهُ فِي كَلَام الْعَرَب، وَأما عيط فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُوَافقا لهَذَا. وَقَالَ ابْن فَارس: التعاطي الجراءة، وَالْمعْنَى: تجرى فعقر.
المُحْتَضَرِ كَحِظارٍ مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَكَانُوا كهشيم المحتظر} (الْقَمَر: 13) وَفسّر: (المحتظر) بقوله: (كحظار) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَفتحهَا وبالظاء الْمُعْجَمَة أَي: منكسر من الشّجر محترق، وَكَذَا روى ابْن الْمُنْذر وَمن طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَقد أخبر الله عز وَجل عَنْهُم(19/205)
بقوله: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة فَكَانُوا كهشيم المحتظر} (الْقَمَر: 13) الْعَذَاب الَّذِي أرسل على قوم صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأجل عقر النَّاقة وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ المحتظر الحظيرة، وَعَن ابْن عَبَّاس، هُوَ الرجل يَجْعَل لغنمه حَظِيرَة من الشّجر والشوك دون السبَاع فَمَا سقط من ذَلِك أَو داسته الْغنم فَهُوَ الهشيم، وَقَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: كالعظام النخرة الْمُحْتَرِقَة وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَعنهُ أَيْضا: كحشيش تَأْكُله الْغنم.
أزْدُجِرَ افْتُعِلَ مِنْ زَجَرْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} (الْقَمَر: 9) وَهَذَا قد مر عَن قريب، غير أَنه أَعَادَهُ إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من بَاب الافتعال لِأَن أَصله ازتجر. فقلبت التَّاء دَالا فَصَارَ ازدجر، وَهُوَ من الزّجر وَلَيْسَ من زجرت لِأَن الْفِعْل لَا يشتق من الْفِعْل بل يشتق من الْمصدر، وَلَو ذكر هَذَا عِنْد قَوْله: ازدجر: أستطير جنونا لَكَانَ أولى وأنسب.
كُفِرَ فَعَلْنا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءًا لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ وأصْحَابِهِ
هَذَا أَيْضا قد مر أَيْضا عَن قريب وَهُوَ قَوْله: {لمن كَانَ كفر} (الْقَمَر: 41) بقوله: كَقَوْلِه جَزَاء من الله. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ وتكراره لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة على مَا لَا يخفى، وَلَكِن لَو لم يذكرهُ هُنَا لَكَانَ أصوب وَأحسن. قَوْله: (كفر) ، من كفران النِّعْمَة والمكفور هُوَ نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَومه: كافرون الأيادي وَالنعَم، وَقيل: معنى كفر جحد قَوْله: (فعلنَا) ، حِكَايَة عَن الله تَعَالَى، وَالضَّمِير فِي: بِهِ يرجع إِلَى نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي: بهم، إِلَى قومه، وَالَّذِي فعله نصرته إِيَّاه وَإجَابَة دُعَائِهِ، وَالَّذِي فعل بقَوْمه غرقه إيَّاهُم. قَوْله: {جَزَاء} أَي: لأجل الْجَزَاء لما صنع أَي لأجل صنعهم لنوح وَقَومه من الْإِسَاءَة وَالضَّرْب وَغير ذَلِك من الْأَذَى. قَوْله: لما صنع اللَّام فِيهِ مَكْسُورَة. وصنع على صِيغَة الْمَجْهُول.
مُسْتَقِرٌّ عَذَابٌ حَقٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صبحهمْ بكرَة عَذَاب مُسْتَقر} (الْقَمَر: 83) وَفَسرهُ: بقوله: (عَذَاب حق) ، وَهَكَذَا قَالَه الْفراء وروى عبد بن حميد عَن قَتَادَة وَاسْتقر بهم أَي: الْعَذَاب إِلَى نَار جَهَنَّم. قَوْله: (وَلَقَد صبحهمْ) أَي: الْعَذَاب (بكرَة) أَي: وَقت الصُّبْح، وَفِي التَّفْسِير: (عَذَاب مُسْتَقر) أَي: دَائِم عَام اسْتَقر بهم حَتَّى يقْضِي بهم إِلَى عَذَاب الْآخِرَة.
الأشَرُ: المَرَحُ وَالتَّجبُّرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بل هُوَ كَذَّاب أشر وسيعلمون غَدا من الْكذَّاب الأشر} (الْقَمَر: 52، 62) وَفَسرهُ بقوله: (المرح والتجبر) . وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَغَيره.
1
- (بابٌ: {وَانْشَقَّ القَمَرُ وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} (الْقَمَر: 1)
)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} الْآيَة. وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر. قَوْله: {آيَة} أَي: معجز ليعرضوا من الْإِعْرَاض.
4684 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ عنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ أبِي مَعْمَرٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِرْقَتَيْنِ فِرْقَة فَوْقَ الجَبَلِ وَفِرْقَةً دُونَهُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْهَدُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة أَو الثَّوْريّ لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا روى عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين، عبد الله بن سَخْبَرَة، ولأبيه سَخْبَرَة صُحْبَة وَرِوَايَة، روى لَهُ التِّرْمِذِيّ، قَالَ ابْن سعد: توفّي بِالْكُوفَةِ فِي ولَايَة عبيد الله بن زِيَاد.
والْحَدِيث قد مر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة فِي: بَاب سُؤال الْمُشْركين أَن يُرِيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (على عهد) ، أَي: على زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فرْقَتَيْن) أَي: قطعتين وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة: شفتين، ويروى: شقين فَوق الْجَبَل اخْتلفت الرِّوَايَات فِي مَكَان الانشقاق فجَاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاثْنَتَيْنِ شطره على السويداء وشطره على الخندمة، وَجَاء عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن أهل مَكَّة سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُرِيهم آيَة فَأَرَاهُم الْقَمَر بشقتين حَتَّى رَأَوْا أحراء بَينهمَا، وَفِي تَفْسِير أبي عبد الله. قَالَ الْمُشْركُونَ(19/206)
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن كنت صَادِقا فاشقق لنا الْقَمَر. فَقَالَ: آن فعلت تؤمنون؟ قَالُوا: نعم، وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة، فَسَأَلَ الله تَعَالَى فانشق فرْقَتَيْن: نصف على الصَّفَا وَنصف على قعيقعان: الحَدِيث، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي معمر عَن عبد لله. قَالَ: رَأَيْت الْقَمَر منشقا بشقتين مرَّتَيْنِ: بِمَكَّة شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: كَانَ يرى نصفه على قعيقعان وَالنّصف الآخر على أبي قبيس. قَوْله: {وَفرْقَة دونه} أَي: دون الْجَبَل. وَعند مُسلم من حَدِيث شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر فلقَتَيْنِ فلقَة من دون الْجَبَل وَفلقَة من خلف الْجَبَل.
5684 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ أخْبَرَنا ابنُ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ أبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ انْشَقَ القَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فَقَالَ لَنَا: اشْهَدُوا اشْهَدُوا..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَفِي بعض النّسخ كَذَا: عَليّ بن عبد الله، وَابْن أبي نجيح عبد الله وَاسم أبي نجيح يسَار، قَالَ يحيى الْقطَّان: كَانَ قدريا وَفِيه زِيَادَة على طَرِيق الحَدِيث السالف، وَهِي: قَوْله: (وَنحن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَهَذَا يدل على أَنه من الرائين والمخبرين، وَفِيه لفظ: (اشْهَدُوا) مرَّتَيْنِ.
6684 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عَرَاكِ بنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ انْشَقَّ القَمَرُ فِي زَمَانِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، وَبكر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُضر، بِضَم الْمِيم وَفتح الْمُعْجَمَة وبالراءين: مُحَمَّد القريشي الْمصْرِيّ، وجعفر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة من أهل مصر. والْحَدِيث قد مر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن خلف بن خَالِد، وَكَذَا فِي انْشِقَاق الْقَمَر عَن عُثْمَان بن صَالح. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن مُوسَى بن قُرَيْش وَابْن عَبَّاس من جملَة المخبرين لَا الرائين.
7684 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يُونُسُ بنُ مُحَمَّد حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ سَأَلَ أهْلُ مَكةَ أنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ..
عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَيُونُس بن مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ، وشيبان النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة.
قَوْله: (سَأَلَ أهل مَكَّة) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأنس أَيْضا من المخبرين، وروى حَدِيث انْشِقَاق الْقَمَر جمَاعَة من الصَّحَابَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَحَدِيث ابْن مَسْعُود وَحَدِيث أنس وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهَا البُخَارِيّ، وَعند عِيَاض من رِوَايَة أبي حُذَيْفَة الأرجي عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر وَنحن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عبد بن حميد أخبرنَا قبيصَة عَن سُفْيَان عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. قَالَ: جمعت مَعَ حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ فَسَمعته يَقُول: إِن الْقَمَر قد انْشَقَّ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الحَدِيث، وَسَنَده لَا بَأْس بِهِ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جُبَير بن مَحْمُود بن جُبَير بن معطم عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر وَنحن بِمَكَّة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
8684 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ قَالَ انْشَقَ القَمَرُ فِرْقَتَيْنِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان إِلَى آخِره. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي مُوسَى وَغَيره، وَقَالَ الْحَلِيمِيّ فِي (منهاجه) وَمن النَّاس من يَقُول قَوْله: {فانشق الْقَمَر} (الْقَمَر: 1) مَعْنَاهُ: ينشق. كَقَوْلِه: {أَتَى أَمر الله} (النَّحْل: 1) أَي: يَأْتِي. قَالَ: وَإِذا كَانَ كَذَلِك ظهر أَن الانشقاق فِي الْآيَة إِنَّمَا هُوَ الَّذِي من أَشْرَاط السَّاعَة دون الانشقاق الَّذِي جعله الله آيَة لرَسُوله وَحجَّة على أهل مَكَّة.(19/207)
2 - (بابٌ: {نَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْناهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُذِّكِر} (31، 51)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {تجْرِي بأعيننا} إِلَى آخِره، وَقيل: (حملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر تجْرِي بأعيننا) أَي: حملنَا نوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (على ذَات أَلْوَاح) ، أَي: على سفينة ذَات أَلْوَاح ودسر تجْرِي بأعيننا أَي: بمر أَي مناو عَن مقَاتل بن حَيَّان، يحفظنا، وَعَن مقَاتل بن سُلَيْمَان: بوحينا. وَعَن سُفْيَان بأمرنا. قَوْله: (جَزَاء) ، مفعول لَهُ لما قدم من فتح أَبْوَاب السَّمَاء وَمَا بعده أَي: فعلنَا ذَلِك جَزَاء لمن كَانَ كفر أَي: جحد وَهُوَ نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَجعله مكفور لِأَن النَّبِي نعْمَة الله وَرَحمته فَكَانَ نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نعْمَة مكفورة، وَقَالَ الْفراء: جَزَاء بكفرهم. قَوْله: (وَلَقَد تركناها) ، أَي: السَّفِينَة آيَة، أَي: عِبْرَة حَتَّى نظرت إِلَيْهَا أَوَائِل هَذِه الْأمة، وَكم من سفينة بعْدهَا صَارَت رَمَادا وَعَن قَتَادَة أَلْقَاهَا الله تَعَالَى بِأَرْض الجزيرة. وَقيل: على الجودي دهرا طَويلا حَتَّى نظر إِلَيْهَا أَوَائِل هَذِه الْأمة. قَوْله: (فَهَل من مُذَكّر) ، مُعْتَبر متعظ وخائف مثل عقوبتهم فَكيف كَانَ اسْتِفْهَام تَعْظِيم لما مضى وتخويف لمن لَا يُؤمن بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَنذر) أَي: إنذاري.
قَالَ قَتَادَةُ أبْقَى الله سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أدْرَكَهَا أوَائِلُ هاذِهِ الأُمَّةِ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن أَبِيه عَن هِشَام بن خَالِد حَدثنَا سعيد بن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنَا سعيد عَن قَتَادَة أبقى الله عز وَجل السَّفِينَة بباقرين من أَرض الجزيرة عِبْرَة وَآيَة حَتَّى نظرت إِلَيْهَا أَوَائِل هَذِه الْأمة. وَكم من سفينة كَانَت بعْدهَا فَصَارَت رَمَادا. وَعند عبد بن حميد: أدْركهَا أَوَائِل هَذِه الْأمة على الجودي.
9684 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا شَعْبَةُ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ: {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِر} .
أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي، وَعبد الله بن مَسْعُود، والْحَدِيث قد مضى فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (من مُذَكّر) يَعْنِي: بِالدَّال الْمُهْملَة.
(بابٌ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُذِّكِر} (الْقَمَر: 71) قَالَ مُجاهِدٌ يَسَّرْنا هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر} وَفسّر مُجَاهِد قَوْله: (يسرنَا) بقوله: (هوَّنا قِرَاءَته) هَكَذَا رَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَعَن سعيد ب جُبَير: يسرناه للْحِفْظ ظَاهرا وَلَيْسَ من كتب الله كتاب يقْرَأ كُله ظَاهرا إلاَّ الْقُرْآن. قَوْله: (للذّكر) أَي: ليتذكر وَيعْتَبر بِهِ ويتفكر فِيهِ.
0784 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ شَعْبَةَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله عَن الْأسود بن يزِيد عَن عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (من مُذَكّر) ، يَعْنِي: بِالدَّال الْمُهْملَة، وَسبب ذكر ذَلِك أَن بعض السّلف قَرَأَهَا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَنقل ذَلِك عَن قَتَادَة أَيْضا.
3 - (بابٌ: {أعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (الْقَمَر: 02، 12)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {تنْزع النَّاس كلهم أعجاز نخل منقعر} (الْقَمَر: 2) هَذِه الْآيَة وَمَا قبلهَا فِيمَا جرى على عَاد. قَوْله: {تنْزع النَّاس} أَي: الرّيح الصرصر الْمُذكر فِيمَا قبله تنْزع النَّاس أَي: تقلعهم ثمَّ ترمي بهم على رُؤْسهمْ فتدق رقابهم، وَعَن مُحَمَّد بن قرظة ابْن كَعْب عَن أَبِيه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أنتزعت الرّيح النَّاس من قُبُورهم. قَوْله: (أعجاز نخل) قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي أصُول نخل. قَوْله: (منقعر) أَي: مُنْقَطع من مَكَانَهُ سَاقِط على الأَرْض، والأعجاز جمع عجز مثل عضد وأعضاد، وَالْعجز مُؤخر الشَّيْء(19/208)
قَوْله: (فَكيف كَانَ عَذَابي) الْعَذَاب اسْم للتعذيب مثل الْكَلَام اسْم للتكليم. قَوْله: (وَنذر) (الْقَمَر: 81) أَي: إنذاري. وَقَالَ الْفراء: الْإِنْذَار وَالنّذر مصدران. تَقول الْعَرَب: أنذت إنذارا ونذرا، كَقَوْلِك: انفقت إنفاقا وَنَفَقَة.
1784 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا زُهَيْرٌ عَنْ أبِي إسْحَاقَ أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً سألَ الأسْوَدَ فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ أوْ مُذَّكِرٍ فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدُ الله يَقْرَؤُها فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ دَالاً قَالَ وَسَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَؤُها: {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} دَالاً.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمَذْكُور أخرجه عَن ابْن نعيم، بِضَم النُّون، الْفضل بن دُكَيْن عَن زُهَيْر ابْن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق عَمْرو إِلَى آخِره. قَوْله: (هَل من مُذَكّر أَو مُذَكّر) أَي: من مُذَكّر بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَو مدكر بِالدَّال الْمُهْملَة، وأصل مُذَكّر مذتكر بتاء الافتعال بعد الدَّال الْمُعْجَمَة فأبدلت التَّاء دَالا مُهْملَة فَصَارَ مذدكر بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بعْدهَا الدَّال الْمُهْملَة ثمَّ أبدلت الْمُعْجَمَة مُهْملَة ثمَّ أدغمت الدَّال الْمُهْملَة فِي الدَّال الْمُهْملَة لِاجْتِمَاع الحرفين المتماثلين فَافْهَم. قَوْله: (دَالا) أَي: مدكر بِالدَّال الْمُهْملَة لَا بِالْمُعْجَمَةِ.
4 - (بابٌ: {فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُخْتَظَرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنِ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُذِّكِرٍ} (الْقَمَر: 13)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَكَانُوا كهشيم المحتظر} هَذَا فِي قَضِيَّة قوم صَالح، وَقَبله: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة فَكَانُوا كهشيم المحتظر} . قَوْله: (صَيْحَة) أَي: جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد مر تَفْسِير الهشيم المحتظر عَن قريب.
2784 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخْبرَنَا أبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أبِي إسْحَاقِ عنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ: {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود أخرجه عَن عَبْدَانِ عَن أَبِيه عُثْمَان الْأَزْدِيّ الْمروزِي إِلَى آخِره.
5 - (بابٌ: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} (الْقَمَر: 83، 93)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد سبحهم} الْآيَة هَذَا فِي قَضِيَّة قوم لوط صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (صبحهمْ) ، أَي: جَاءَهُم الْعَذَاب وَقت الصُّبْح بكرَة أول النَّهَار. قَوْله: (عَذَاب مُسْتَقر) ، أَي: دَائِم عَام اسْتَقر فيهم حَتَّى يُفْضِي بهم إِلَى عَذَاب الْآخِرَة.
3784 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَرَأَ: {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن مُحَمَّد. قَالَ الغساني: كَأَنَّهُ ابْن بشار بِالْمُعْجَمَةِ وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن الْمثنى يروي عَن غنْدر أَيْضا. وَذكر الكلاباذي أَن بنْدَار أَو ابْن الْمثنى وَابْن الْوَلِيد قد رووا عَن غنْدر فِي (الْجَامِع) قلت: الظَّاهِر أَنه مُحَمَّد ابْن بشار ولقبه بنْدَار، وغندر لقب حمد بن جَعْفَر وَقد تكَرر ذكرهَا.
(بابٌ: {وَلَقَدْ أهْلَكْنَا أشْيَاهَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} (الْقَمَر: 15)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أهلكنا أشياعكم فَهَل من مُذَكّر} هَذَا فِي قَضِيَّة الْقَدَرِيَّة وَفِي الْمُجْرمين. قَوْله: (أشياعكم) ، أَي: أشباهكم فِي الْكفْر من الْأُمَم السالفة.
4784 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ عَنِ عَبْدِ الله قَالَ قَرَأْتُ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن يحيى بن مُوسَى السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: الخت، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة(19/209)
وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق عَن وَكِيع عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو السبيعِي إِلَى آخِره.
وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث من سِتَّة طرق كَمَا رَأَيْت. الأول: مترجم بقوله: {تجْرِي بأعيننا} (الْقَمَر: 41) إِلَى آخِره، وَالْبَاقِي وَهُوَ الْخَمْسَة بِخمْس تراجم أَيْضا على رَأس كل تَرْجَمَة لفظ: بَاب، وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ بَاب، أصلا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا معنى تكْرَار هَذَا الحَدِيث فِي هَذِه التراجم السِّتَّة؟ وَمَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَينهَا؟ فَأجَاب بقوله: لَعَلَّ غَرَضه أَن الْمَذْكُور فِي هَذِه السُّورَة الَّذِي هُوَ فِي الْمَوَاضِع السِّتَّة كُله بِالْمُهْمَلَةِ. انْتهى. قلت: مدَار هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ على أبي إِسْحَاق عَن الْأسود بن يزِيد، وَأما فَائِدَة قَوْله: {فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مذر} (الْقَمَر: 93، 04) أَن يجددوا عِنْد اسْتِمَاع كل نبأ من الأنباء الَّتِي أَتَت من الْأُمَم السالفة إدكارا واتعاظا. وينتبهوا إِذا سمع الْحَث على ذَلِك.
6 - (بابٌ قَوْلِهِ: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (الْقَمَر: 54)
هَذَا وَمَا قبله فِي تخويف أهل مَكَّة كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن جَمِيع منتصر، يَعْنِي: جمَاعَة أمرنَا مُجْتَمع منتصر مُمْتَنع لَا يرام وَلَا يضام. فَصدق الله وعده وَهَزَمَهُمْ يَوْم بدر. وَعَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما نزل {سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} كنت لَا أَدْرِي أَي جمع يهْزم، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يثب فِي درعه وَيَقُول: {سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} أَي: سَيهْزمُ كفار مَكَّة وَيُوَلُّونَ الأدبار، إِنَّمَا قَالَ: الدبر بِالْإِفْرَادِ وَالْمرَاد الْجمع لأجل رِعَايَة الفواصل.
5784 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ حَوْشَبٍ حدَّثنا عَبْدِ الوَهَّابَ حدَّثنا خَالِدٌ عَنْ عِكْرَمَةِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ.
وحدَّثني مُحَمَّدٌ أخْبرنا عَفَّانُ بنُ مُسْلِمٍ عَنْ وُهَيْبٍ حدَّثنا خَالِدٌ عَنْ عِكْرَمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ اللَّهُمَّ إنِّي أنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إنْ تَشَاءُ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ فَأخَذَ أبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله ألحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدَّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب عَن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس. الثَّانِي: عَن مُحَمَّد. قَالَ الغساني: لَعَلَّه مُحَمَّد بن يحيى الذهلي عَن عَفَّان بتَشْديد الْفَاء ابْن مُسلم الصفار الْبَصْرِيّ عَن وهيب مصغر وهب بن خَالِد الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ عَن خَالِد عَن عِكْرِمَة. وَقَالَ الجباني. قَوْله: (وحَدثني مُحَمَّد أخبرنَا عَفَّان) كَذَا فِي روايتنا عَن الْأصيلِيّ غير مَنْسُوب، وَكَذَا عِنْد أبي ذَر وَأبي نصر، قَالَ: وَسقط من نُسْخَة ابْن السكن ذكر مُحَمَّد هَذَا، وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا عَفَّان عَن وهيب، وَهَذَا من مرسلات ابْن عَبَّاس لِأَنَّهُ لم يحضر الْقِصَّة، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْجِهَاد، فِي: بَاب مَا قيل فِي درع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة بدر فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم} الْآيَة.
قَوْله: (أنْشدك) ، بِضَم الشين أَي: أطلبك الْعَهْد هُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين أَنهم لَهُم المنصورون} (الصافات: 171) والوعد هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} ، قَوْله: (إِن نَشأ) ، مَفْعُوله مَحْذُوف، نَحْو: هَلَاك الْمُؤمنِينَ أَو قَوْله: لَا تعبد فِي حكم الْمَفْعُول وَالْجَزَاء هُوَ الْمَحْذُوف. قَوْله: (ألححت عَلَيْهِ) ، أَي: بالغت.
7 - (بابٌ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدْهَى وَأَمْرُّ} (الْقَمَر: 64) يَعْنِي مِنْ المَرَارَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {بل السَّاعَة موعدهم} أَي: موعد عَذَابهمْ. قَوْله: (والساعة) ، أَي: عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة. أدهى أَي: أَشد وأفظع، والداهية الْأَمر الْمُنكر الَّذِي لَا يهتدى لدوائه. قَوْله: (وَأمر) ، أَي: أعظم بلية وَأَشد مرَارَة من الْهَزِيمَة وَالْقَتْل والأسر يَوْم بدر.
6784 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسى احدَّثنا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ(19/210)
أخْبَرَنِي يُوسُفُ بنُ مَاهَكَ قَالَ إنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَةَ وَإنِّي لَجَارِيَةٌ ألْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدْهَى وَأمَرُّ} (الْقَمَر: 64) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، ويوسف بن مَاهك هُوَ بِفَتْح الْهَاء مُعرب وَمَعْنَاهُ: القمير مصغر الْقَمَر وَهُوَ مَفْتُوح الْكَاف على الصَّحِيح، وَذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا مُخْتَصرا، وَسَيَأْتِي فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي بَاب تأليف الْقُرْآن مطولا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ أَيْضا بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [/ بش
7784 - حدَّثني إسْحَاقُ حدَّثنا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَهُوَ فِي قبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أنْشُدُكَ عَهْدِكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تَعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ أبَدا فأخَذَ أبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله فَقَدْ ألْحَحْتَ عَلَى رَبَّكَ وَهُوَ فِي الدَّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدْهَى وَأمَرّ} .
هَذَا قد مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَإِسْحَاق هَذَا ذكر غير مَنْسُوب، ذكر جمَاعَة أَنه إِسْحَاق بن شاهين الوَاسِطِيّ وخَالِد الأول هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان وخَالِد الثَّانِي هُوَ ابْن مهْرَان بِكَسْر الْمِيم الْحذاء بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة وبالمد. قَوْله: (وَهُوَ فِي الدرْع) ، وَقع حَالا. وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) حَال. قَوْله: (فَخرج) أَي: من الْقبَّة المنصوبة لَهُ.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
55 - ( {سُورَةُ الرَّحْمانِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن} (الرحمان: 1، 2) قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أَجمعُوا على أَنَّهَا مَكِّيَّة إلاَّ مَا روى همام عَن قَتَادَة أَنَّهَا مَدَنِيَّة. قَالَ: وَكَيف تكون مَدِينَة وَإِنَّمَا قَرَأَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسوق عكاظ فَسَمعته الْجِنّ، وَأول شَيْء سَمِعت قُرَيْش من الْقُرْآن جَهرا سُورَة الرحمان. قَرَأَهَا ابْن مَسْعُود عِنْد الْحجر فضربوه، حَتَّى أثروا فِي وَجهه وَفِي رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَقَالَ السخاوي: نزلت قبل (هَل أَتَى) (الْإِنْسَان: 1) بعد سُورَة الرَّعْد، وَهِي ألف وسِتمِائَة وَسِتَّة وَثَلَاثُونَ حرفا، وثلاثمائة وَإِحْدَى وَخَمْسُونَ كلمة، وثمان وَسَبْعُونَ آيَة. نزلت حِين قَالُوا: وَمَا الرحمان؟ وَكَذَا وَقعت السُّورَة بِدُونِ الْبَسْمَلَة عِنْدهم، وَزَاد أَبُو ذَر الْبَسْمَلَة، والرحمان آيَة عِنْد الْأَكْثَرين وارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَو بِالْعَكْسِ، وَقيل: الْخَبَر {علم الْقُرْآن} وَهُوَ تَمام الْآيَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِحُسْبَانٍ: كَحُسْبَانِ الرَّحى
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس وَالْقَمَر يحسبان كحسبان الرَّحَى} (الرَّحْمَن: 5) مَعْنَاهُ: يدوران فِي مثل قطب الرَّحَى، والحسبان قد يكون مصدر حسبت حسابا وحسبانا مثل الغفران والكفران والرجحان وَالنُّقْصَان والبرهان، وَقد يكون جمع حِسَاب كالشهبان والركبان والقضبان والرهبان، وَالتَّقْدِير: الشَّمْس وَالْقَمَر يجريان يحسبان، وَتَعْلِيق مُجَاهِد رَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَلَفظ أبي يحيى عَنهُ. قَالَ: يدوران فِي مثل قطب الرَّحَى، كَمَا ذَكرْنَاهُ وَعَن الضَّحَّاك بِعَدَد يجريان، وَقيل: بِحِسَاب ومنازل لَا يعدونها. وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَعَن ابْن زيد وَابْن كيسَان: بهما تحسب الْأَوْقَات والأعمار والآجال، وَعَن السّديّ يأجل كآجال النَّاس، فَإِذا جَاءَ أجلهما هلكا، وَعَن يمَان، يجريان بِأَجل الدُّنْيَا وقضائها وفنائها.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَأَقِيمُوا الوَزْنِ} يُرِيدُ لِسَانَ المِيزانِ
أَي: وَقَالَ غير مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {وَأقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ وَلَا تخسروا الْمِيزَان} (الرَّحْمَن: 9) (يُرِيد لِسَان الْمِيزَان) رُوِيَ هَكَذَا عَن أبي الدَّرْدَاء فَإِنَّهُ قَالَ: أقِيمُوا لِسَان الْمِيزَان بِالْقِسْطِ. أَي: بِالْعَدْلِ، وَعَن ابْن عُيَيْنَة: الْإِقَامَة بِالْيَدِ والقسط بِالْقَلْبِ (وَلَا تخسروا الْمِيزَان) أَي: لَا تطفقوا فِي الْمكيل والموزن.
وَالعَصْفُ يَقْلُ الزَرْعِ إذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَ فَذالِكَ العَصْفُ وَالرَّيْحَانُ وَرَكُلُهُ وَالحبُّ(19/211)
الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ وَالرَّيْحَانُ فِي كَلامِ العَرَبِ الرِّزْقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَالعَصْفُ يُرِيدُ المَأْكُولَ مِنَ الحَبِّ وَالرَّيْحَانُ النَّضِيجُ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ: وَقَالَ غَيْرُهُ العَصْفُ وَرَقُ الحِنْطَةِ: وَقَالَ الضَحَّاكُ العَصْفُ التِّبْنُ: وَقَالَ أبُو مَالِكٍ العَصْفُ أوَّلُ مَا يَنْبُتُ تُسَمِّيهِ النَّبَطُ هَبُورَا: وَقَالَ مُجَاهِدٌ العَصْفُ وَرَقُ الحِنْطَةِ وَالرَّيْحَانِ الرِّزْقُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْحب والعصف وَالريحَان} (الرحمان: 21) وَقَالَ: العصف بقل الزَّرْع إِذا قطع مِنْهُ شَيْء قبل أَن يدْرك، أَي: الزَّرْع فَذَلِك هُوَ العصف، كَذَا نقل عَن الْفراء، وَعَن ابْن كيسَان: العصف ورق كل شَيْء خرج مِنْهُ الْحبّ يَبْدُو أَولا وَرقا ثمَّ يكون سوقا، ثمَّ يحدث الله تَعَالَى فِيهِ أكماما، ثمَّ يحدث فِي الأكمام الْحبّ. وَعَن ابْن عَبَّاس: ورق الزَّرْع الْأَخْضَر إِذا قطعت رؤوسه ويبس هُوَ العصف. قَوْله: (وَالريحَان ورقه) ، أَي: ورق الْحبّ، وَفِي بعض النّسخ رزقه بالراء ثمَّ الزَّاي، وَنقل الثَّعْلَبِيّ عَن مُجَاهِد: الريحان الرزق، وَعَن مقَاتل بن حَيَّان: الريحان الرزق بلغَة حمير، وَعَن ابْن عَبَّاس: الريحان الرّبع، وَعَن الضَّحَّاك: هُوَ الطَّعَام، فالعصف هُوَ التِّين وَالريحَان ثَمَرَته، وَعَن الْحسن وَابْن زيد: هُوَ ريحانكم هَذَا الَّذِي تشمونه، وَعَن ابْن عَبَّاس. هُوَ خضرَة الزَّرْع. قَوْله: (وَالْحب الَّذِي يُؤْكَل مِنْهُ) ، أَي: من الزَّرْع. قَوْله: (وَالريحَان فِي كَلَام الْعَرَب الرزق) ، الرَّاء وَالزَّاي، تَقول الْعَرَب: خرجنَا نطلب ريحَان الله أَي: رزقه. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم والعصف يُرِيد الْمَأْكُول من الْحبّ) ، أَرَادَ بِالْبَعْضِ الْفراء فَإِنَّهُ قَالَ: العصف الْمَأْكُول من الْحبّ وَالريحَان النضيج الَّذِي لم يُؤْكَل، النضيج فعيل بِمَعْنى المنضوج، يُقَال: نضج الثَّمر وَاللَّحم نضجا ونضجا، أَي: أدْرك فَهُوَ نضيج وناضج وأنضجته أَنا. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره. وَقَالَ مُجَاهِد: العصف ورق الْحِنْطَة. كَذَا رَوَاهُ ابْن أبي نجيح عَنهُ. قَوْله: (وَقَالَ الضَّحَّاك: العصف التِّين) ، كَذَا ذكره فِي تَفْسِيره من رِوَايَة جُوَيْبِر عَنهُ. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو مَالك) : لَا يعرف اسْمه. قَالَه أَبُو زرْعَة. وَقَالَ غَيره: اسْمه غَزوَان وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غَيره، وَهُوَ كُوفِي تَابِعِيّ ثِقَة. قَوْله: (النبط) بِفَتْح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة، وهم أهل الفلاحة من الْأَعَاجِم ينزلون بالبطائح بَين العراقين. قَوْله: (هبورا) بِفَتْح الْهَاء وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا رَاء، وَهُوَ دقاق الزَّرْع بالنبطية، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {كعصف مَأْكُول} هُوَ الهبور، وَقَول أبي مَالك رَوَاهُ يحيى بن عبد الحميد عَن ابْن الْمُبَارك عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَنهُ. قَوْله: (وَقَالَ مُجَاهِد) إِلَى آخِره، رَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
وَالمَارِجُ اللَّهَبُ الأصْفَرُ وَالأخْضَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إذَا أُوقِدَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَخلق الجان من مارج من نَار} (الرحمان: 51) وَفسّر المارج بِالَّذِي ذكره، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم بِسَنَدِهِ عَن مُجَاهِد وَهُوَ من: مرج الْقَوْم إِذا اخْتَلَط، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ لِسَان النَّار الَّذِي يكون فِي طرفها إِذا التهب، وَقيل: من مارج من لَهب صَاف خَالص لَا دُخان فِيهِ، والجان أَبُو الْجِنّ، وَعَن الضَّحَّاك: هُوَ إِبْلِيس، وَعَن أبي عُبَيْدَة: الجان وَاحِد الْجِنّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَالَ مُجَاهِأ رَبُّ المَشْرِقَيْنِ لِلشَّمْسِ فِي الشتَّاءِ مَشْرِقٌ وَمَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ وَرَبُّ المَغْرِبَيْنَ مَغْرِبُها فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رب المشرقين وَرب المغربين} (الرحمان: 71) وَفَسرهُ بِمَا ذكره، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن الْمُبَارك حَدثنَا زيد أخبرنَا ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد.
لَا يَبْغِيَانِ: لَا يَخْتَلِطانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ بَينهمَا برزخ لَا يبغيان} (الرَّحْمَن: 91، 02) أَي: لَا يختلطان وَلَا يتغيران وَلَا يَبْغِي أَحدهمَا. على صَاحبه. وَعَن قَتَادَة: لَا يطغيان على النَّاس بِالْغَرَقِ، وَالْمرَاد بِالْبَحْرَيْنِ بَحر الرّوم وبحر الْهِنْد، كَذَا رُوِيَ عَن الْحسن. قَالَ: وَأَنْتُم الحاجز بَينهمَا، وَعَن قَتَادَة: بَحر فَارس وَالروم بَينهمَا برزخ وَهُوَ الجزائر، وَعَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: يَعْنِي بَحر السَّمَاء وبحر الأَرْض يَلْتَقِيَانِ كل عَام، وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ: بَينهمَا من الْبعد(19/212)
مَا لَا يَبْغِي أَحدهمَا على صَاحبه، وَتَقْدِير. قَوْله: يَلْتَقِيَانِ. على هَذَا أَن يلتقيا فَحذف: أَن وَهُوَ شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق} (الرّوم: 42) أَي: أَن يريكم الْبَرْق، وَهَذَا يُؤَيّد قَول من قَالَ: إِن المُرَاد بِالْبَحْرَيْنِ بَحر فَارس وبحر الرّوم، لِأَن مَسَافَة مَا بَينهمَا ممتدة.
المُنْشَآتُ مَا رُفِعَ قِلْعُهُ مِنَ السفُنِ فَأمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قَلْعُهُ فَلَيْسَ بَمُنْشَأةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَله الْجوَار الْمُنْشَآت فِي الْبَحْر كالأعلام} (الرَّحْمَن: 42) وفسرها بِمَا ذكر، وَهُوَ قَول مُجَاهِد أَيْضا، والجواري السفن الْكِبَار جمع جَارِيَة، والمنشآت المقيلات المبتديات اللَّاتِي أنشأت جريهن وسيرهن، وَقيل: الْمَخْلُوقَات المرفوعات المسخرات، وَقَرَأَ حَمْزَة وَأَبُو بكر عَن عَاصِم بِكَسْر الشين، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. قَوْله: (قلعه) بِكَسْر الْقَاف وَاقْتصر عَلَيْهِ الْكرْمَانِي، وَحكى ابْن التِّين فتحهَا أَيْضا، وَهُوَ الشراع.
وَقَالَ مجَاهِدٌ: كَالفَخَّارِ. كَمَا يُصْنَعُ الفخارُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من صلصال كالفخار} (الرَّحْمَن: 41) قَوْله: (كَمَا يصنع) على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: يصنع الخزف وَهُوَ الطين الْمَطْبُوخ بالنَّار، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ صانعه، فَافْهَم، وَهَذَا فِي بعض النّسخ مُتَقَدم على مَا قبله، وَفِي بَعْضهَا مُتَأَخّر عَنهُ.
النُّحَاس: الصُّفْرُ، يُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ يُعَذَّبُونَ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ من نَار ونحاس فَلَا تنتصران} (الرَّحْمَن: 53) وَفسّر النّحاس بِمَا ذكره، وَكَذَا فسره مُجَاهِد، وَفِي بعض النّسخ: نُحَاس الصفر بِدُونِ الْألف وَاللَّام وَهُوَ الأصوب لِأَنَّهُ فِي التِّلَاوَة كَذَا قَوْله: (فَلَا تنتصران) أَي: فَلَا تمتنعان.
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ يَهُمُّ بَالمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ الله عَزَّ وَجَلَّ فَيَتْرُكُهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 64) وَفَسرهُ بقوله: (يهم) أَي: يقْصد الرجل بِأَن يفعل مَعْصِيّة أرادها ثمَّ ذكر الله تَعَالَى وعظمته وَأَنه يُعَاقب على الْمعْصِيَة ويثيب على تَركهَا فيتركها فَيدْخل فِيمَن لَهُ جناتان، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ مُجَاهِد: خَافَ مقَام ربه إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن بكار بن قُتَيْبَة. حَدثنَا أَبُو حُذَيْفَة حَدثنَا سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد.
الشُوَاظُ: لَهَبُ مِنْ نَارٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ} (الرَّحْمَن: 53) وَفَسرهُ بِأَنَّهُ: {لَهب من نَار} وَهُوَ قَول مُجَاهِد أَيْضا: وَقيل: هُوَ النَّار الْمَحْضَة بِغَيْر دُخان، وَعَن الضَّحَّاك. هُوَ الدُّخان الَّذِي يخرج من اللهب لَيْسَ بِدُخَان الْحَطب.
مُدْهَامَتانِ سَوْدَاوَانِ مِنَ الرَّيِّ
أَي: من شدَّة الخضرة صَارَت سوداوان لِأَن الخضرة إِذا اشتدت شربت إِلَى السوَاد.
صِلْصَالٍ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الفَخَّارُ وَيُقالُ منْتنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صلَّ يُقالُ صَلْصالُ كَمَا يُقالُ صَرَّ البابُ عِنْدَ الإغْلاقِ وَصَرْصَرَ مِثْلَ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي كَبَبْتَهُ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من صلصال كالفخار} وَلم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (خلق الْإِنْسَان) ، أَي آدم. (من صلصال) أَي: من طين يَابِس لَهُ صلصلة كالفخار. وَفَسرهُ البُخَارِيّ بقوله: خلط برمل الطين إِذا خلط برمل ويبس صَار قَوِيا جدا بِحَيْثُ أَنه إِذا ضرب خرج لَهُ صَوت، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (فصلصل كَمَا يصلصل الفخار) أَي: الخزف، وصلصل فعل مَاض، ويصلصل مضارع، والمصدر صلصلة وصلصال. قَوْله: (وَيُقَال منتن يُرِيدُونَ بِهِ صل) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه يُقَال: لحم منتن يُرِيدُونَ بِهِ أَنه صل، يُقَال: صل اللَّحْم يصل بِالْكَسْرِ صلولاً أَي: أنتن مطبوخا كَانَ أَو نيا. وأصل مثله. قَوْله: (يُقَال: صلصال كَمَا يُقَال: صر الْبَاب) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن صلصل مضاعف صل كَمَا يُقَال: صر الْبَاب إِذا صَوت فيضاعف وَيُقَال صَرْصَر كَمَا ضوعف كبيته فَقيل كبكبته، وكما يُقَال فِي كَبه كبكبه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فكبكبوا فِيهَا} (الشُّعَرَاء: 49) أَصله: كبوا يُقَال: كَبه لوجهه أَي: صرعه فأكب هُوَ على وَجهه، وَهَذَا من النَّوَادِر أَن يُقَال: أفعلت أَنا وَفعل غَيره.(19/213)
فَاكَهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ بِالفَاكِهَةِ وَأمَّا العَرَبُ فَإنَّها تَعُدُّها فَاكِهَةً كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} (الْبَقَرَة: 832) فَأَمَرَهُمْ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ أعَادَ العَصْرَ تَشْدِيدا لَهَا كَمَا أُعِيدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ وَمِثْلُها {ألَمْ تَرَ أنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ} (الْحَج: 81) ثُمَّ قَالَ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ وَقَدْ ذَكَرَهُمْ فِي أوَّلِ قَوْلِهِ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 86) أَي: فِي الجنتين اللَّتَيْنِ ذكرهمَا بقوله: {وَمن دونهمَا جنتان} (الرحمان: 26) فالجنان أَرْبَعَة ذكرهَا الله تَعَالَى بقوله: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 64) ثمَّ قَالَ: {وَمن دونهمَا جنتان} (الرَّحْمَن: 64) أَي: وَمن دون الجنتين الْأَوليين الموعودتين لمن خَافَ مقَام ربه جنتان أخريان، وَعَن ابْن عَبَّاس. وَمن دونهمَا يَعْنِي: فِي الدرج، وَعَن ابْن زيد، فِي الْفضل. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم) ، قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) يَعْنِي: بِهِ أَبَا حنيفَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: أَرَادَ بِهِ أَبَا حنيفَة. قلت: لَا يلْزم تَخْصِيص هَذَا القَوْل بِأبي حنيفَة وَحده فَإِن جمَاعَة من الْمُفَسّرين ذَهَبُوا إِلَى هَذَا القَوْل. قَالَه الْفراء فَإِنَّهُم قَالُوا: لَيْسَ الرُّمَّان وَالنَّخْل بالفاكهة لِأَن النّخل ثمره فَاكِهَة وَطَعَام، وَالرُّمَّان فَاكِهَة ودواء. فَلم يخلصا اللتفكه، وَمِنْه قَالُوا: إِذا حلف لَا يَأْكُل فَاكِهَة فَأكل رمانا أَو رطبا ثمَّ لم يَحْنَث. قَوْله: (وَأما الْعَرَب فَإِنَّهَا تعدها فَاكِهَة) هَذَا جَوَاب البُخَارِيّ عَمَّا قَالَ بَعضهم: لَيْسَ الرُّمَّان وَالنَّخْل بالفاكهة وَلَهُم أَن يَقُولُوا: نَحن مَا ننكر إِطْلَاق الْفَاكِهَة عَلَيْهِمَا ولكنهما غير متمحضين فِي التفكه، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة لَا يدخلَانِ فِي قَول من حلف لَا يَأْكُل فَاكِهَة. قَوْله: (كَقَوْلِه عز وَجل) إِلَى آخِره، ملخصه أَنه من عطف الْخَاص على الْعَام. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} فَإِنَّهُ أَمر بالمحافظة على الصَّلَوَات ثمَّ عطف عَلَيْهَا قَوْله: وَالصَّلَاة الْوُسْطَى، مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَة فِي الصَّلَوَات تشديدا لَهَا. أَي: تَأْكِيدًا لَهَا وتعظيما وتفضيلاً كَمَا أُعِيد النّخل وَالرُّمَّان أَي: كَمَا عطفا على فَاكِهَة وَلَهُم أَن يَقُولُوا: لَا تسلم أَن فَاكِهَة عَام لِأَنَّهَا نكرَة فِي سِيَاق الْإِثْبَات فَلَا عُمُوم. قَوْله: (وَمثلهَا) ، أَي: وَمثل فَاكِهَة ونخل ورمان. قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات} إِلَى آخِره، وَلَهُم أَن يمنعوا المشابهة بَين هَذِه الْآيَة وَبَين الْآيَتَيْنِ المذكورتين لِأَن الصَّلَوَات، وَمن فِي الأَرْض عامان بِلَا نزاع بِخِلَاف لفظ: فَاكِهَة فَإِنَّهَا نكرَة فِي سِيَاق الْإِثْبَات كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَقد ذكرهم) أَي: كثير من النَّاس فِي ضمن من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض.
وَقَالَ غَيْرُهُ أفْنَانٍ أغصانٍ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد: وَإِنَّمَا قُلْنَا كَذَا لِأَنَّهُ لم يذكر فِيمَا قبله صَرِيحًا إلاَّ مُجَاهِد، وَقَالَ: (أفنان أَغْصَان) وَذَلِكَ فِي قَوْله: (ذواتا أفنان) وَهُوَ جمع فنن كَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس. وَفِي التَّفْسِير: (ذواتا أفنان) أَي: ألوان فعلى هَذَا هُوَ جمع فن وَهُوَ من قَوْلهم افتن فلَان فِي حَدِيثه إِذا أَخذ فِي فنون مِنْهُ وضروب، وَعَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: {ذواتا أفنان} (الرَّحْمَن: 84) قَالَ: الأغصان على الْحِيطَان، وَعَن الضَّحَّاك: ألوان الْفَوَاكِه.
{وَجَنى الجَنَتَيْنِ دَانَ} مَا يجتنى قريب (الرَّحْمَن: 45)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وجنى الجنتين دَان فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرَّحْمَن: 45) وَفَسرهُ بقوله: (مَا يجتنى) أَي: الَّذِي يجتنى من أَشجَار الجنتين دَان أَي: قريب يَنَالهُ الْقَائِم والقاعد والمضجع، وَهَذَا سقط من رِوَايَة أبي ذَر.
وَقَالَ الحَسَنُ فَبِأَيِّ آلاءِ نِعَمِهِ. وَقَالَ قَتَادَرُ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَعْنِي الجِنِّ وَالإنْسَ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَي آلَاء لابكم تُكَذِّبَانِ} فالحسن فسر: آلَاء، بِالنعَم وَقَتَادَة فسر: رَبكُمَا بالجن وَالْإِنْس، والآلاء جمع: إِلَى، بِالْفَتْح وَالْقصر وَقد تكسر الْهمزَة وربكما خطاب للجن وَالْإِنْس وَإِن لم يتَقَدَّم ذكرهم وَإِنَّمَا قَالَ: تُكَذِّبَانِ بالتثنية على عَادَة الْعَرَب وَالْحكمَة فِي تكرارها أَن الله تَعَالَى عدد فِي هَذِه السُّورَة نعماءه ثمَّ اتبع ذكر كل كلمة وصفهَا ونعمة ذكرهَا بِهَذِهِ الْآيَة وَجعلهَا فاصلة بَين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بهَا.(19/214)
وَقَالَ أبُو الدَّرْدَاءِ {كلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرَّحْمَن: 92) يَغْفِرُ ذَنْبا وَيَكْشِفُ كَرْبا وَيَرْفَعُ قَوْما آخَرِينَ.
أَي: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك فِي قَوْله تَعَالَى: {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار. قَالَ: حَدثنَا الْوَزير ابْن صَالح أَبُو روح الدِّمَشْقِي. قَالَ: سَمِعت يُونُس بن ميسرَة جلس يحدث عَن أم الدَّرْدَاء عَن أبي الدَّرْدَاء عَن سيدنَا سيد المخلوقين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله عز وَجل: {كل يَوْم فِي شَأْن} قَالَ: من شَأْنه أَن يغْفر ذَنبا ويفرج كربا وَيرْفَع قوما وَيَضَع آخَرين.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَرْزَخٌ: حَاجِزٌ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ بَينهمَا برزخ لَا يبغيان} (الرَّحْمَن: 91، 02) أَي: حاجز بَينهمَا. وَقيل: حَائِل لَا يتَعَدَّى أَحدهمَا على الآخر من قدرَة الله وحكمته الْبَالِغَة.
الأنَامُ الخَلْقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض وَضعهَا للأنام} (الرَّحْمَن: 01) وَعَن ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ: الْأَنَام. كل ذِي روح، وَقيل: الْإِنْس وَالْجِنّ.
نَضَّاخَتَانِ: فَيَّاضَتَانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان} (الرَّحْمَن: 66) وَفَسرهُ بقوله: {فياضتان} وَقيل: ممتلئتان، وَقيل: فوارتان بِالْمَاءِ لَا ينقطعان، وَعَن الْحسن: ينبعان ثمَّ يجريان، وَعَن سعيد بن جُبَير: نضاختان بِالْمَاءِ وألوان الْفَاكِهَة، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: ينضخان بِالْخَيرِ وَالْبركَة على أهل الْجنَّة، وأصل النضخ الرش وَهُوَ أكبر من النَّضْح، بِالْحَاء الْمُهْملَة.
ذُو الجَلالِ: ذُو العَظَمَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تبَارك اسْم رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} (الرَّحْمَن: 83) أَي: ذُو العظمة والكبرياء. قَوْله: (وَالْإِكْرَام) ، أَي: ذُو الْكَرم، وَهُوَ الَّذِي يُعْطي من غير مَسْأَلَة وَلَا وَسِيلَة، وَقيل: المتجاوز الَّذِي لَا يستقصى فِي العتاب.
وَقَالَ غَيْرُهُ مَارِجٌ خَالِصٌ مِنَ النَّارِ يُقالُ مَرَجَ الأمِيرُ رَعِيَتَهُ إذَا خَلاَّهُمْ يَعْدُوا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَرَجَ أمْرُ النَّاسِ مَرِيجٍ ملْتَبِسٌ مَرَجَ اخْتَلَطَ البَحْرَانِ مِنْ مَرَجْتَ دَابَتَكَ تَرَكْتَها.
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخلق الجان من مارج من نَار} (الرَّحْمَن: 51) وَهَذَا مُكَرر لِأَنَّهُ ذكر عَن قريب، وَهُوَ قَوْله: والمارج اللهب الْأَصْفَر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي. قَوْله: (قَالَ مرج الْأَمِير رَعيته) ، إِشَارَة إِلَى أَن لفظ: مرج يسْتَعْمل لمعان، فَمن ذَلِك قَوْلهم: مرج الْأَمِير، وَهُوَ بِفَتْح الرَّاء رَعيته إِذا خلاهم يَعْنِي إِذا تَركهم يعدو أَي: يظلم بَعضهم بَعْضًا. وَمن ذَلِك: مرج أَمر النَّاس هَذَا بِكَسْر الرَّاء، وَمَعْنَاهُ اخْتَلَط واضطرب، قَالَ أَبُو دَاوُد مرج أَمر الدّين فاعددت لَهُ. أَي: قد أَمر الدّين وَمن هَذِه الْبَاب مريج فِي قَوْله تَعَالَى: {فِي أَمر مريج} (ق: 5) أَي: ملتبس، وَهَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده أَعنِي قَوْله مريج ملتبس. قَوْله: (مرج الْبَحْرين) ، اخْتَلَط البحران هَذَا فِي رِوَايَة غير أبي ذَر. قَوْله: (من مرجت دابتك) ، بِفَتْح الرَّاء وَمَعْنَاهُ تركتهَا ترعى وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا عقيب قَوْله: مرج الْأَمِير رَعيته إِذا خلاهم يعدو بَعضهم على بَعضهم، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ: وَلَكِن فِي هَذَا الْموضع تَقْدِيم وَتَأْخِير بِحَيْثُ يَقع الالتباس فِي التَّرْكِيب وَالْمعْنَى أَيْضا. وَالظَّاهِر أَن النساخ خلطوا مَفْتُوح الرَّاء بمكسور الرَّاء.
سَنَفْرُغُ لَكُمْ سَنُحاسِبُكُمْ لَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سنفرغ لكم أَيهَا الثَّقَلَان} (الرَّحْمَن: 13) وَفَسرهُ بقوله: (سنحاسبكم) والفراغ مجَاز عَن الْحساب وَلَا يشغل الله شَيْء عَن شَيْء، وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: هُوَ وَعِيد من الله لِعِبَادِهِ، وَلَيْسَ بِاللَّه شغل، وَقيل: مَعْنَاهُ سنقصدكم بعد الإهمال ونأخذ فِي أَمركُم، وَعَن ابْن كيسَان: الْفَرَاغ للْفِعْل هُوَ التوفر عَلَيْهِ دون غَيره.
وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلامِ العَرَبِ لأتَفَرَّغَنَّ لَكَ وَمَا بِهِ شُغْلٌ يَقُولُ: لآخَذَنَّكَ عَلَى غرَّتِكَ.
أَي: الْمَعْنى الْمَذْكُور مَعْرُوف ومستعمل فِي كَلَام الْعَرَب، يَقُول الْقَائِل: لأتفرغن لَك من بَاب التفعل من الْفَرَاغ، وَفَسرهُ بقوله:(19/215)
يَقُول: لآخذنك على غرتك، أَي: على غَفلَة مِنْك، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي قَوْله: {سنفرغ لكم} (الرَّحْمَن: 13) هَذَا وَعِيد وتهديد من الله عز وَجل، كَقَوْل الْقَائِل: لأتفرغن لَك، وَمَا بِهِ شغل قَالَه ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَتَّانِ} (الرَّحْمَن: 26)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن دونهمَا جنتان} وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب وَلم يذكر بَاب قَوْله إِلَّا لأبي ذَر.
2 - (بابٌ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخيام} (الرَّحْمَن: 27)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {حور مقصورات} الْحور جمع: حوراء وَهِي الشَّدِيدَة الْبيَاض الْعين الشَّدِيدَة سوادها. قَوْله: (مقصورات) ، محبوسات مستورات. (فِي الْخيام) خيمة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي الْخيام أَي: الحجال، يُقَال: امْرَأَة قَصِيرَة وقصورة ومقصورة إِذا كَانَت مخدرة، وَعَن مُجَاهِد يَعْنِي: قصرهن على أَزوَاجهنَّ فَلَا يبغين بهم بَدَلا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: حُورٌ صُردُ الْحَدَقِ
الحدق جمع حدقة الْعين، وَرَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن الْفضل بن يَعْقُوب الرخامي حَدثنَا الْحجَّاج بن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ ابْن جريج: أَخْبرنِي عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس بِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَقْصُوَراتٌ مَحْبُوسَاتٌ قُصِرَ طَرْفُهُنَّ وَأنْفُسُهُنَّ عَلَى أزْوَاجِهِنَّ قَاصِرَاتٌ لَا يَبْغِينَ غَيْرَ أزْوَاجِهِنَّ.
رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا بن يمَان عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد.(19/216)
9784 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثني عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الصَمَدِ حدَّثنا أبُو عِمْرَانَ الْجُونِيُّ عَنْ أبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الله بنِ قَيْسٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ فِي الجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُها سِتُّونَ مِيلاً فِي كُلِّ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْها أهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُونَ حدَّثنا جَنَتانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَتَانِ مِنْ كَذا آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلَى رَبِّهِمْ إلاَّ رداءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقد مضى فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي صفة الْجنَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن حجاج بن منهال عَن همام عَن أبي عمرَان الْجونِي الخ وَأخرجه فِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن نصر بن عَليّ وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة الْجنَّة وَالنَّسَائِيّ فِي النعوت، وَابْن مَاجَه فِي السّنة كلهم عَن بنْدَار.
قَوْله: (مجوفة) ، أَي: ذَات جَوف وَاسع. قَوْله: (سِتُّونَ ميلًا) ، الْميل ثلث فَرسَخ وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة. قَوْله: (فِي كل زَاوِيَة مِنْهَا أهل) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: أهل لِلْمُؤمنِ. قَوْله: (مَا يرَوْنَ الآخرين) ، قَالَ الْكرْمَانِي: ويروي الْآخرُونَ، وَالتَّقْدِير: يرونهم الْآخرُونَ. نَحْو: أكلوني البراغيت، يطوف عَلَيْهِم الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ الدمياطي: صَوَابه الْمُؤمن بِالْإِفْرَادِ. وَأجِيب: يجوز أَن يكون من مُقَابلَة الْمَجْمُوع بالمجموع. قَوْله: (إلاّ رِدَاء الْكبر) ، قيل: هَذَا يشْعر بِأَن رُؤْيَة الله تَعَالَى غير وَاقعَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدمهَا فِي جنَّة عدن أَو فِي ذَلِك الْوَقْت عدمهَا مُطلقًا.
65 - ( {سُورَةُ الْوَاقِعَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْوَاقِعَة. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة وَاخْتلف فِي {وَأَصْحَاب الْيَمين} (الْوَاقِعَة: 72) وَفِي: {أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون} (الْوَاقِعَة: 18) وَالْأولَى نزلت فِي أهل الطَّائِف وإسلامهم بعد الْفَتْح وحنين، وَالثَّانيَِة نزلت فِي دُعَائِهِ بالسقيا. فَقيل: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، فَنزلت {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} وَكَانَ عَليّ يقْرؤهَا: وتجعلون شكركم، وَهِي ألف وَسَبْعمائة وَثَلَاثَة أحرف، وثلاثمائة وثمان وَسَبْعُونَ كلمة. وست وَتسْعُونَ آيَة، وَالْمرَاد بالواقعة: الْقِيَامَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رُجَّتْ: زُلْزِلَتْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا رجت الأَرْض رجا} (الْوَاقِعَة: 4) وَفَسرهُ بقوله: (زلزلت) وَرَوَاهُ الْفرْيَابِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: رجفت وتحركت تحريكا من قَوْلهم: السهْم يرتج فِي الْغَرَض. أَي: يَهْتَز ويضطرب وأصل الرج فِي اللُّغَة التحريك، يُقَال: رجحته فارتج، فَإِن ضاعفته قلت: رجرجته فترجرج.
بُسَّتْ فُتَّتْ ولُتَّتْ كَمَا يُلَتُّ السَّوِيقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وبست الْجبَال} (الْوَاقِعَة: 5) وَفَسرهُ بقوله: (فتت) وَهُوَ أَيْضا تَفْسِير مُجَاهِد، وَكَذَلِكَ: (لتت) تَفْسِير مُجَاهِد، وَيُقَال: بست ولتت بِمَعْنى وَاحِد أَي: صَارَت كالدقيق المبسوس، وَهُوَ المبلول: والبسيسة عِنْد الْعَرَب الدَّقِيق والسويق بلت ويتخذ زادا، وَعَن عَطاء: بست أذهبت ذَهَابًا وَعَن ابْن الْمسيب: كسرت كسرا. وَعَن الْحسن: قلعت من أَصْلهَا فَذَهَبت بَعْدَمَا كَانَت صخورا صمًّا، وَعَن عَطِيَّة تبسط بسطا كالرمل وَالتُّرَاب.
المَخْضُودُ: المُوقَرُ حَمْلاً وَيُقَالُ أيْضا: لَا شَرْكَ لَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِي سدر مخضود} (الْوَاقِعَة: 482) وَفَسرهُ بقوله: (الموقر حملا) بِفَتْح الْقَاف والحاء هَذَا تَفْسِير الْأَكْثَرين. قَوْله: (وَيُقَال أَيْضا: لَا شوك لَهُ) لأبي ذَر، والخضد فِي الأَصْل الْقطع كَأَنَّهُ خضد شوكه أَي: قطع وَنزع، وَعَن الْحسن: لَا يعقر إلايدي. وَعَن ابْن كيسَان: هُوَ الَّذِي لَا أَذَى فِيهِ، وَعَن الضَّحَّاك: نظر الْمُسلمُونَ إِلَى وَج وَهُوَ وَاد فِي الطَّائِف مخصب فَأَعْجَبَهُمْ سدرها. قَالُوا: يَا لَيْت لنا مثلهَا. فَأنْزل الله عز وَجل هَذِه الْآيَة.
مَنْضُودٍ المَوْزُ(19/217)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وطلح منضود} (الْوَاقِعَة: 92) وَلم يثبت هَذَا هُنَا لأبي ذَر، وَفَسرهُ بالموز، والطلح جمع طَلْحَة قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين وَعَن الْحسن، لَيْسَ هُوَ بموز وَلكنه شجر لَهُ ظلّ بَارِد طيب، وَعَن الْفراء وَأبي عُبَيْدَة: الطلح عِنْد الْعَرَب شجر عِظَام لَهَا شوك. والمنضود: المتراكم الَّذِي قد نضده الْحمل من أَوله إِلَى آخِره لَيست لَهُ سوق بارزة، وَفِي (الْمغرب) النضد ضم الْمَتَاع بعضه إِلَى بعض منسقا أَو مركوما. من بَاب ضرب.
وَالعُرُبُ المُحَبَّباتُ إلَى أزْوَاجِهِنَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فجعلناهن أَبْكَارًا عربا أَتْرَابًا} (الْوَاقِعَة: 63، 73) وفسرها: بالمحببات جمع المحببة اسْم مفعول من الْحبّ، وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره: حَدثنَا ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: (عربا أَتْرَابًا) قَالَ: هِيَ المحببة إِلَى زَوجهَا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: عربا عواشق مُتَحَببَات إِلَى أَزوَاجهنَّ، قَالَه الْحسن وَمُجاهد وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَرِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَالْعرب جمع عرُوبَة وَأهل مَكَّة يسمونها العربة بِكَسْر الرَّاء، وَأهل الْمَدِينَة الغنجة، بِكَسْر النُّون. وَأهل الْعرَاق: الشكلة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْكَاف، وَقد مر هَذَا فِي كتاب بَدْء الْخلق فِي صفة الْجنَّة، والأتراب المستويات فِي السن وَهُوَ جمع ترب بِكَسْر التَّاء وَسُكُون الرَّاء يُقَال: هَذِه ترب هَذِه أَي: لدتها.
ثُلةٌ أُمةٌ
أَي: معنى قَوْله تَعَالَى: {ثلة من الْأَوَّلين} (الْوَاقِعَة: 93) أمة. وَقيل: فرقة.
يَحْمُومٌ دُخَانٌ أسْوَدُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وظل من يحموم} (الْوَاقِعَة: 34) وَفَسرهُ بِدُخَان أسود لِأَن الْعَرَب تَقول للشَّيْء الْأسود يحموما.
يُصِرُّونَ يُدِعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم} (الْوَاقِعَة: 64) وَفَسرهُ بقوله: (يديمون) والحنث الْعَظِيم، الذَّنب الْكَبِير وَهُوَ الشّرك، وَعَن أبي بكر الْأَصَم: كَانُوا يقسمون أَن لَا بعث وَأَن الْأَصْنَام أنداد الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا، وَكَانُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ فَلذَلِك حنثهم.
الْهِيمُ الإبِلُ الظَّمَاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فشاربون شرب الهيم} (الْوَاقِعَة: 55) وَلم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر. والهيم جمع هيماء يُقَال جمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم. أَي: عطاش، وَعَن قَتَادَة، هُوَ دَاء بِالْإِبِلِ لَا تروى مَعَه وَلَا تزَال تشرب حَتَّى تهْلك، وَيُقَال لذَلِك الدَّاء: الهيام، والظماء بالظاء الْمُعْجَمَة جمع ظمآن والظماء الْعَطش. قَالَ تَعَالَى: {لَا يصيبهم ظمأ} (التَّوْبَة: 021) وَالِاسْم الظمىء بِالْكَسْرِ، وَقوم ظماء أَي عطاش، والظمآن العطشان.
لَمُغْرَمُونَ: لَمُلْزَمُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لمغرمون بل نَحن محرومون} (الْوَاقِعَة: 66، 76) وَفَسرهُ بقوله: (لملزمون) اسْم مفعول من الْإِلْزَام، وَاللَّام للتَّأْكِيد، وَعَن ابْن عَبَّاس. وَقَتَادَة: لمعذبون. من الغرام وَهُوَ الْعَذَاب، وَعَن مُجَاهِد: ملقون للشر، وَعَن مقَاتل: مهلكون وَعَن مرّة الْهَمدَانِي محاسبون.
مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين} (الْوَاقِعَة: 68) أَي: غير محاسبين، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: غير مربوبين من دَان السُّلْطَان رَعيته إِذْ ساسهم، وَجَوَاب: لَوْلَا قَوْله: ترجمونها. أَي: تردون نفس هَذَا الْمَيِّت إِلَى جسده إِذا بلغت الْحُلْقُوم إِن كُنْتُم صَادِقين.
رَوْحٌ جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ وَرَيْحَانٌ الرِّزْقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم} (الْوَاقِعَة: 88، 98) وَسقط هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعَن ابْن زيد: روح عِنْد الْمَوْت وَرَيْحَان يجنى لَهُ فِي الْآخِرَة، وَعَن الْحسن، أَن روحه تخرج فِي الريحان، وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: فَروح أَي رَاحَة وَرَيْحَان مستراح، وَعَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير: الريحان رزق، وَقد مر هَذَا عَن قريب.
وَنَنَشْأكُمْ فِي أيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وننشئكم فِيمَا لَا تعلمُونَ} (الْوَاقِعَة: 16) أَي: نوجدكم فِي أَي خلق نشَاء فِيمَا لَا تعلمُونَ من الصُّور.(19/218)
وَقَالَ غَيْرُهُ تَفَكَّهُونَ تَعَجَبُونَ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لجعلناه حطاما فظللتم تفكهون} (الْوَاقِعَة: 56) وَفَسرهُ بقوله: (تعْجبُونَ) وَكَذَا فسره قَتَادَة. وَعَن عِكْرِمَة: تلامون، وَعَن الْحسن: تَنْدمُونَ، وَعَن ابْن كيسَان: تَحْزَنُونَ. قَالَ: وَهُوَ من الأضداد تَقول الْعَرَب: تفكهت أَي: تنعمت وتفكهت أَي: حزنت، وَقيل: التفكه التَّكَلُّم فِيمَا لَا يَعْنِيك، وَمِنْه قيل للمزاح: فاكه.
عُرُبا مُثَقَّلَةً وَاحِدُها عَرُوبٌ مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ يُسَمِّيها أهْلُ مَكَّةَ العَرَبَةَ وَأهْلُ المَدِينَةِ الضَجَةَ وَأهْلُ العِرَاقِ الشَّكِلَةَ.
هَذَا كُله لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ مُكَرر لِأَنَّهُ مضى فِي صفة الْجنَّة. وَهنا أَيْضا تقدم وَهُوَ قَوْله: وَالْعرب المحببات إِلَى أَزوَاجهنَّ، وَقد ذَكرْنَاهُ نَحن أَيْضا عَن قريب.
وَقَالَ فِي خَافِضَةٌ لِقَوْمٍ إلَى النَّارِ وَرَافِعَةً إلَى الجَنَّةِ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة خافضة رَافِعَة} (الْوَاقِعَة: 1، 3) أَي: الْقِيَامَة أَي: يَوْم الْقِيَامَة تخْفض قوما إِلَى النَّار وترفع آخَرين إِلَى الْجنَّة. وَعَن عَطاء: خفضت قوما بِالْعَدْلِ وَرفعت قوما بِالْفَضْلِ.
مَوْضُونَةٍ: مَنْسُوجَةٍ. وَمِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {على سرر موضونة} (الْوَاقِعَة: 51) أَي: منسوجة وَلم يثبت هَذَا إلاّ لأبي ذَر، وَقد تقدم فِي صفة الْجنَّة. قَوْله: (موضونة) ، مرمولة مشبكة بِالذَّهَب وبالجواهر قد أَدخل بَعْضهَا فِي بعض مضاعفة كَمَا يوضن حلق الدرْع. قَوْله: (وَمِنْه) ، أَي: وَمن هَذَا الْبَاب (وضين النَّاقة) وَهُوَ بطان منسوج بعضه على بعض يشد بِهِ الرجل على الْبَعِير كالحزام للسرج.
وَالكُوبُ: لَا آذَانَ لَهُ وَلا عُرْوَةَ. وَالأبَارِيقُ: ذَوَاتُ الآذَانِ وَالعُرَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بأكواب وأباريق} (الْوَاقِعَة: 81) وَتَفْسِيره ظَاهر، والأكواب جمع كوب، والأباريق جمع إبريق سمي بذلك لبريق لَونه.
مَسْكُوب: جارٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَماءٍ مسكوب} (الْوَاقِعَة: 13) أَي: جَار، وَفِي التَّفْسِير: مَنْصُوب يجْرِي دَائِما فِي غير أخدُود وَلَا مُنْقَطع.
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ
عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعَة على الأسرة، وَعَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ: لَو طرح فرَاش من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا لم يسْتَقرّ فِي الأَرْض إلاَّ بعد سبعين خَرِيفًا.
مُتْرَفِينَ: مُتَنَعِّمِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك مترفين} (الْوَاقِعَة: 54) وَفَسرهُ بقوله: منتعمين، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بتاء مثناة من فَوق بعْدهَا نون من التنعم وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ممتعين، بميمين بعدهمَا تَاء. قَالَ بَعضهم: من التَّمَتُّع وَهُوَ غلط بل هُوَ من الإمتاع. يُقَال: أمتعت بالشَّيْء. أَي: تمتعت بِهِ، قَالَه أَبُو زيد، وَإِنَّمَا يُقَال من التَّمَتُّع إِن لَو كَانَت الرِّوَايَة متمتعين.
مَا تُمْنُونَ: هِيَ النُّطْفَةُ فِي أرْحَامِ النِّسَاءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون أأنتم تخلفونه أم نَحن الخالفون} (الْوَاقِعَة: 85، 95) وَفسّر قَوْله: (مَا تمنون) بقوله: (النُّطْفَة فِي الْأَرْحَام) لِأَن مَا تمنون هِيَ النُّطْفَة الَّتِي تصب فِي الْأَرْحَام وَهُوَ من أمنى يمني إمناء، وقرىء بِفَتْح التَّاء من منى يمني، وَقَالَ الْفراء: يَعْنِي النطف إِذا قذفت فِي الْأَرْحَام أأنتم تخلقون تِلْكَ النطف أم نَحن.
لِلْمُقوِينَ لِلْمُسَافِرِينَ وَالْقِيُّ القفرُ
وَهَذَا لم يثبت لأبي ذَر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {نَحن جعلناها تذكره ومتاعا للمقوين} (الْوَاقِعَة: 37) وَفسّر المقوين بالمسافرين وَهُوَ(19/219)
من أقوى إِذا دخل فِي أَرض القي فَألْقى، والقواء القفر الخالية الْبَعِيدَة من الْعمرَان والأهلين، وَيُقَال: أقوت الدَّار إِذا خلت من سكانها، وَقَالَ مُجَاهِد: للمقوين للمستمتعين بهَا من النَّاس أَجْمَعِينَ الْمُسَافِرين والحاضرين يستضيئون بهَا فِي الظلمَة ويصطلون بهَا فِي الْبرد وينتفعون بهَا فِي الطَّبْخ وَالْخبْز ويتذكرون بهَا نَار جَهَنَّم ويستجيرون الله مِنْهَا. وَقَالَ قطرب: المقوى من الأضداد يكون بِمَعْنى الْفَقِير وَيكون بِمَعْنى الْغَنِيّ. يُقَال: أقوى الرجل إِذا قويت دوابه وَإِذا أَكثر مَاله.
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ: بِمُحْكَمِ القُرْآنِ، وَيُقَالُ: بِمَسْقَطِ النُّجُومِ إذَا سَقَطْنَ، ومَوَاقِعُ وَمَوْقِعٌ وَاحِدٌ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم} (الْوَاقِعَة: 57) وَفَسرهُ بشيئين أَحدهمَا قَوْله: (بمحكم الْقُرْآن) وَقَالَ الْفراء: حَدثنَا فُضَيْل ابْن عَبَّاس عَن مَنْصُور عَن الْمنْهَال بن عَمْرو. وَقَالَ: قَرَأَ عبد الله (فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم) قَالَ: بمحكم الْقُرْآن، وَكَانَ ينزل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجوما وبقراءته قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَخلف، وَالْآخر بقوله: (ومسقط النُّجُوم إِذا سقطن) ومساقط النُّجُوم مغْرِبهَا، وَعَن الْحسن: انكدارها وانتشارها يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: منازلها. قَوْله: (فَلَا أقسم) ، قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين مَعْنَاهُ: أقسم، وَلَا نسلة وَقَالَ بعض أهل الْعَرَبيَّة، مَعْنَاهُ فَلَيْسَ الْأَمر كَمَا تَقولُونَ: ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم. فَقَالَ: أقسم قَوْله: (ومواقع وموقع وَاحِد) لَيْسَ قَوْله: (وَاحِد) بِالنّظرِ إِلَى اللَّفْظ وَلَا بِالنّظرِ إِلَى الْمَعْنى، وَلَكِن بِاعْتِبَار أَن مَا يُسْتَفَاد مِنْهُمَا وَاحِد، لِأَن الْجمع الْمُضَاف والمفرد الْمُضَاف كِلَاهُمَا عامان بِلَا تفَاوت على الصَّحِيح، قَالَ الْكرْمَانِي: إِضَافَته إِلَى الْجمع تَسْتَلْزِم تعدده. كَمَا يُقَال: قلب الْقَوْم وَالْمرَاد قُلُوبهم.
مُدْهِنُونَ: مُكذِّبُونَ، مِثْلُ: لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون} (الْوَاقِعَة: 78) أَي: مكذبون، وَكَذَا فسره الْفراء هُنَا وَقَالَ فِي قَوْله: لَو تدهن فيدهنون. أَي: تكفر لَو يكفرون، يُقَال: قد ادهن أَي: كفر. قَوْله: (أفبهذا الحَدِيث) يَعْنِي: الْقُرْآن (مدهنون) قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: كافرون، وَعَن ابْن كيسَان: المدهن الَّذِي لم يفعل مَا يحِق عَلَيْهِ ويدفعه بِالْمَالِ، وَعَن المؤرخ المدهن: الْمُنَافِق الَّذِي يلين جَانِبه ليخفي كفره، وادهن وداهن وَاحِد وَأَصله من الدّهن.
فَسَلامٌ لَكَ. أيْ مُسَلَّمٌ لَكَ إنَّكَ مِنْ أصْحَابِ اليَمِينِ وَأُلْغِيَتْ إنَّ وَهُوَ مَعْناها كَما تَقُولُ أنْتَ مُصَدَّقٌ مُسافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ إذَا كَانَ قَدْ قَالَ إنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ وَقَدْ يَكُونُ كَالدُّعاءِ لهُ كَقَوْلِكَ فَسَقْيا مِنَ الرِّجالِ إنْ رَفَعْتَ السَّلامَ فَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين} (الْوَاقِعَة: 09، 19) وَأَشَارَ إِلَى أَن كلمة: أَن، فِيهِ محذوفة وَهُوَ قَوْله: {أَنَّك من أَصْحَاب الْيَمين} . قَوْله: (وألغيت: إِن) بالغين الْمُعْجَمَة من الإلغاء، وروى: وألقيت بِالْقَافِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. قَوْله: (وَهُوَ مَعْنَاهَا) أَرَادَ بِهِ أَن كلمة: إِن، وَإِن حذفت فمعناها مُرَاد. قَوْله: (كَمَا تَقول) إِلَى قَوْله: (عَن قَلِيل) ، تَمْثِيل لما ذكره أَي: كَقَوْلِك لمن قَالَ إِنِّي مُسَافر عَن قريب أَنْت مُصدق مُسَافر عَن قَلِيل أَي أَنْت مُصدق إِنَّك مُسَافر عَن قَلِيل، فَحذف لفظ: إِن، هُنَا أَيْضا، وَلَكِن مَعْنَاهَا مُرَاد قَوْله: (وَقد يكون) ، أَي: لفظ سَلام. (كالدعاء لَهُ) أَي: لمن خاطبه من أَصْحَاب الْيَمين، يَعْنِي: الدُّعَاء لَهُ مِنْهُم كَقَوْلِك، فسقيا لَك من أَصْحَاب الْيَمين، وانتصاب: سقيا على أَنه مصدر لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره: سقاك الله سقيا، وَأما رفع السَّلَام فعلى الِابْتِدَاء. وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ دُعَاء وَهُوَ من المخصصات وَمَعْنَاهُ: سلمت سَلاما ثمَّ حذف الْفِعْل وَرفع الْمصدر. وَقيل: تَعْرِيف الْمصدر وتنكيره سَوَاء لشُمُوله فَهُوَ رَاجع إِلَى معنى الْعُمُوم، وَقَالَ: الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ سَلام لَك يَا صَاحب الْيَمين من إخوانك أَصْحَاب الْيَمين، أَي: يسلمُونَ عَلَيْك، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: فسلام لَك رفع على معنى: فلك سَلام أَي: سَلامَة لَك يَا مُحَمَّد مِنْهُم فَلَا تهتم لَهُم، فَإِنَّهُم سلمُوا من عَذَاب الله تَعَالَى، وَقَالَ الْفراء: مُسلم لَك أَنهم من أَصْحَاب الْيَمين، وَيُقَال: لصَاحب الْيَمين إِنَّه مُسلم لَك أَنَّك من أَصْحَاب الْيَمين، وَقيل: سَلام عَلَيْك من أَصْحَاب الْيَمين. قَوْله: (إِن رفعت السَّلَام) قيل: لم يقرأه أحد بِالنّصب فَلَا معنى لقَوْله: إِن رفعت، وَأجِيب بِأَن: سقيا بِالنّصب يكون دُعَاء، بِخِلَاف السَّلَام فَإِنَّهُ بِالرَّفْع دُعَاء وَبِالنَّصبِ لَا يكون دُعَاء.(19/220)
تُورُونَ: تَسْتَخْرِجُونَ أوْرَيْتُ: أوْقَدْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون} (الْوَاقِعَة: 17) وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر، وَفسّر: (تورون) بقوله: (تستخرجون) وَفِي التَّفْسِير: تقدحون. وتستخرجون من زندكم وشجرتها الَّتِي تقدح مِنْهَا النَّار المرخ والعفار. قَوْله: (أوريت أوقدت) يَعْنِي: معنى أوريت أوقدت. وأصل تورون توريون استثقلت الضمة على الْبَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا والتقى الساكنان وهما الْوَاو وَالْيَاء فحذفت الْيَاء فَصَارَ: تورون.
لَغْوا: بَاطِلا تأثِيما: كَذِبا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما} (الْوَاقِعَة: 52) فِيهَا أَي: فِي جنَّات النَّعيم، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، هَكَذَا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيقه.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الْوَاقِعَة: 03)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ظلّ مَمْدُود} أَي: دَائِم لَا تنسخه الشَّمْس، وَعَن الرّبيع: يَعْنِي ظلّ الْعَرْش، وَعَن عَمْرو ابْن مَيْمُون: مسيرَة سبعين ألف سنة.
1884 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ أبِي الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ يَبْلُغُ بِهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّها مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُها وَاقْرَؤا إِن شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} .
عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز والْحَدِيث مضى فِي كتاب بَدْء الْخلق فِي: بَاب صفة الْجنَّة.
قَوْله: (يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ليبدل على أَنه سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جزما وَيدْفَع بِهِ احْتِمَال أَنه سَمعه مِمَّن سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
75 - ( {سُورَةُ الحَدِيدِ وَالمُجَادَلَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْحَدِيد، وَسورَة المجادلة غير سُورَة الْحَدِيد، وعقيب سُورَة الْحَدِيد تَأتي سُورَة المجادلة وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر هَكَذَا سُورَة الْحَدِيد والمجادلة، وَلغيره: سُورَة الْحَدِيد فَقَط. وَسورَة الْحَدِيد مَكِّيَّة خلافًا للسدي، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: فِيهَا مَكِّيَّة وفيهَا مَدَنِيَّة. وَهُوَ الصَّحِيح. لِأَن فِيهَا ذكر الْمُنَافِقين وَلم يكن النِّفَاق إلاَّ فِي الْمَدِينَة، وفيهَا أَيْضا {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح} (الْحَدِيد: 01) الْآيَة. وَلم تنزل إلاَّ بعد الْفَتْح وَلَا قتال إلاَّ بعد الْهِجْرَة، وأولها مكي فَإِن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَرَأَهُ فِي بَيت أُخْته قبل إِسْلَامه، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الزلزلة وَقيل سُورَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهِي: أَلفَانِ وَأَرْبَعمِائَة وَسِتَّة وَسَبْعُونَ حرفا، وَخَمْسمِائة وَأَرْبع وَأَرْبَعُونَ كلمة، وتسع وَعِشْرُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر دون غَيره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلِفِينَ فِيهِ مُعَمَّرِينِ فِيهِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وأنفقوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ} (الْحَدِيد: 7) أَي: معمرين فِيهِ، وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر، وَعَن الْفراء مستخلفين فِيهِ أَي: مملكين فِيهِ.
مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّورِ: مِنَ الضَّلالَةِ إلَى الهُدَي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي ينزل على عَبده آيَات بَيِّنَات ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} (الْحَدِيد: 9) وَسقط هَذَا أَيْضا لأبي ذَر.
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمنافِعُ للنَّاسِ} (الْحَدِيد: 52) جُنّةٌ وَسلاحٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} أَي: قُوَّة شَدِيدَة {وَمَنَافع للنَّاس} مِمَّا يستعملونه فِي مصالحهم ومعائشهم، إِذْ هُوَ آلَة لكل صَنْعَة. وَفسّر البُخَارِيّ قَوْله: (وَمَنَافع للنَّاس) بقوله: (جنَّة) بِضَم الْجِيم وَتَشْديد النُّون(19/221)
أَي: ستر ووقاية. قَوْله: (وَسلَاح) يَشْمَل جَمِيع آلَات الْحَرْب، وروى مَا فسره عَن مُجَاهِد، رَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ.
مَوْلاكُمْ أوْلَى بِكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مأواكم النَّار هِيَ مولاكم} (الْحَدِيد: 51) أَي: (أولى بكم) كَذَا قَالَه الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة وَفِي بعض النّسخ: مولاكم هُوَ أولى بكم، وَكَذَا وَقع فِي كَلَام أبي عُبَيْدَة وتذكير الضَّمِير بِاعْتِبَار الْمَكَان فَافْهَم.
{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتَابِ} (الْحَدِيد: 92) لِيَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ
أَرَادَ بِهِ أَن كلمة لَا صلَة تَقْدِيره: ليعلم، وَقَالَ الْفراء: تجْعَل لَا صلَة فِي الْكَلَام إِذا دخل فِي أَوله جحد أَو فِي آخِره جحد كهذه الْآيَة وَكَقَوْلِه: {مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} (الْأَعْرَاف: 21) وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير لكَي لَا يعلم أهل الْكتاب.
يُقالُ: الظَّاهِرُ عَلَى كلِّ شَيْءٍ عِلْما وَالباطِنُ عَلَى كلِّ شَيْءِ عِلْما
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} (الْحَدِيد: 2) وَفسّر الظَّاهِر وَالْبَاطِن بِمَا ذكره، وَكَذَا فسره الْفراء وَفِيه تفاسير أُخْرَى، وَوَقع فِي بَعْص النّسخ الظَّاهِر بِكُل شَيْء.
أنْظِرُونَا انْتَظِرُونا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا أنظرونا نقتبس من نوركم} (الْحَدِيد: 31) وَمَعْنَاهُ: انتظرونا، وَقَالَ الْفراء: قَرَأَهَا يحيى بن وثاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة انظرونا، بِقطع الْألف من: أنظرت، وَالْبَاقُونَ على الْوَصْل، وَفِي بعض النّسخ: هَذَا وَقع قبل قَوْله: يُقَال الظَّاهِر.
85 - ( {سُورَةُ المُجَادَلَةِ} )
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
أَي هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة المجادلة، كَذَا وَقع للنسفي وَأبي نعيم والإسماعيلي، وَسقط لغَيرهم. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة بِلَا خلاف. وَقَالَ السخاوي: نزلت قبل الحجرات وَبعد الْمُنَافِقين، وَهِي ألف وَسَبْعمائة وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ حرفا، وَأَرْبَعمِائَة وَثَلَاث وَسَبْعُونَ كلمة، وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَة. وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: اسْم هَذِه المجادلة خُوَيْلَة قَالَه مُحَمَّد بن سِيرِين، وَكَانَ زَوجهَا ظَاهر مِنْهَا، وَهُوَ أول ظِهَار كَانَ فِي الْإِسْلَام، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: خُوَيْلَة بنت دليج وَقَالَ عِكْرِمَة هِيَ خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة هِيَ خُوَيْلَة بنت الصَّامِت، وَقَالَ أَبُو عمر: خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة وَزوجهَا أَوْس بن الصَّامِت، وسماها مُجَاهِد: جميلَة وسماها ابْن مَنْدَه: خَوْلَة بنت الصَّامِت، وَقَالَ أَبُو عمر. خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة بن أَصْرَم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم بن عَوْف، وَأما عُرْوَة وَمُحَمّد بن كَعْب وَعِكْرِمَة. فَقَالُوا: خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة، كَانَت تَحت أَوْس بن الصَّامِت أخي عبَادَة بن الصَّامِت، وَظَاهر مِنْهَا، وفيهَا نزلت: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} (المجادلة: 1) إِلَى آخر الْقِصَّة فِي الظِّهَار، وَقيل: إِن الَّتِي نزلت فِيهَا هَذِه الْآيَة جميلَة امْرَأَة أَوْس بن الصَّامِت، وَقيل: بل هِيَ خُوَيْلَة بنت دليج وَلَا يثبت شَيْء من ذَلِك.
يُجَادُّونَ يُشاقونَ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يجادون الله وَرَسُوله} (المجادلة: 5) الْآيَة أَي: يشاقون الله ويعادون رَوَاهُ عبد بن حميد. حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
كُبِتُوا أُخْزِيُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كبتوا كَمَا كبت الَّذين من قبلهم} (المجادلة: 5) وَفسّر: كبتوا: بقوله: أخزيوا من الخزي. كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: أحزنوا وبالمهملة وَالنُّون، وَقيل: لووا، وَقيل: أهلكوا. وَقيل: أغيظوا وأصل التَّاء فِيهِ دَال يُقَال: كبد إِذا أَصَابَهُ وجع فِي كبده. ثمَّ أبدلت تَاء لقربهما فِي الْمخْرج.
اسْتَحْوَذَ غَلِبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان} (المجادلة: 91) أَي: غلب عَلَيْهِم، وَكَذَا رُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة، وَحكى عَن قِرَاءَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، استحاذ بِوَزْن استقام وَهُوَ على الْقَاعِدَة، وَأما استحوذ فَإِنَّهُ أحد مَا جَاءَ على الأَصْل من غير إعلال، وَلم يذكر فِي هَذِه السُّورَة وَلَا فِي الَّتِي قبلهَا حَدِيثا مَرْفُوعا.
95 - ( {سُورَةُ الحَشْرِ} )(19/222)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْحَشْر، وَهِي مَدَنِيَّة: وَهِي ألف وَتِسْعمِائَة وَثَلَاثَة عشر حرفا وَأَرْبَعمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَأَرْبع وَعِشْرُونَ آيَة وَسميت سُورَة الْحَشْر لقَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر} (الْحَشْر: 2) الْآيَة. يَعْنِي الله هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من بني النَّضِير الَّذين كَانُوا بِيَثْرِب، وَعَن ابْن إِسْحَاق كَانَ جلاء بني النَّضِير مرجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحد، وَكَانَ فتح قُرَيْظَة عِنْد مرجعه من الْأَحْزَاب وَبَينهمَا سنتَانِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {لأوّل الْحَشْر} لأَنهم أول من حشروا من أهل الْكتاب. وَنَفَوْا من الْحجاز وَكَانَ حشرهم إِلَى الشَّام، وَعَن مرّة الْهَمدَانِي: كَانَ هَذَا أول الْحَشْر من الْمَدِينَة والحشر الثَّانِي من خَيْبَر وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب إِلَى أَذْرُعَات وَأَرِيحَا من الشَّام فِي أَيَّام عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن قَتَادَة: كَانَ هَذَا أول الْحَشْر والحشر الثَّانِي نَار تَحْشُرهُمْ من الْمشرق إِلَى الْمغرب تبيت مَعَهم حَيْثُ باتوا وتقيل مَعَهم حَيْثُ قَالُوا وتأكل مِنْهُم من تخلف.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
1 - (بابٌ: {الجَلاءَ: الإخْرَاجُ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ} )
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا} (الْحَشْر: 3) الْآيَة، وَكَذَا فسره قَتَادَة أخرجه ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد عَنهُ، والجلاء أخص من الْإِخْرَاج لِأَن الْجلاء مَا كَانَ مَعَ الْأَهْل وَالْمَال والإخراج أَعم مِنْهُ.
2884 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ سُلَيْمَانَ حدَّثنا هُشَيْمٌ أخْبَرَنا أبُو بَشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ: سورَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: التَوْبَةُ هِيَ الفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنزِلُ: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أنَّها لَمْ تُبْقِ أحَدا مِنْهُمْ إلاَّ ذُكِرَ فِيهَا قَالَ: قُلْتُ: سُورَةُ الأنْفَالِ؟ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ. قَالَ: قُلْتُ: سُورَةُ الحَشْرِ؟ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وهشيم مصغر هشم ابْن بشير مصغر بشر بِالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة الوَاسِطِيّ، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة، جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس الوَاسِطِيّ.
والْحَدِيث أخرج البُخَارِيّ بعضه فِي سُورَة الْأَنْفَال وَفِيه وَفِي الْمَغَازِي عَن الْحسن بن مدرك. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن عبد الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطِيع.
قَوْله: (هِيَ الفاضحة) لِأَنَّهَا تفضح النَّاس حَيْثُ تبين معائبهم. قَوْله: (مَا زَالَت) أَي: سُورَة التَّوْبَة تنزل قَوْله: (وَمِنْهُم وَمِنْهُم) صَحَّ مرَّتَيْنِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي} (التَّوْبَة: 6) قَالَ: {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات} (التَّوْبَة: 85) و {مِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي} (التَّوْبَة: 94) و {مِنْهُم من عَاهَدَ الله} (التَّوْبَة: 57) قَوْله: (لم تبْق) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لن تبقى، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَنه لَا يبْقى. قَوْله: (فِي بني النَّضِير) بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: قَبيلَة الْيَهُود.
3884 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُدْرِكٍ حدَّثنا يَحْيَى بنُ حَمَّادٍ أخْبرنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا سُورَةُ الحَشْرِ قَالَ قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين: الوضاح الْيَشْكُرِي، وَسَعِيد هُوَ ابْن جُبَير. قَوْله: (قل سُورَة النَّضِير) كَأَنَّهُ كره تَسْمِيَتهَا بالحشر لِئَلَّا يظنّ أَن المُرَاد يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ هُنَا إِخْرَاج بني النَّضِير.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} (الْحَشْر: 5) نَخْلَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة} الْآيَة، وَفسّر اللينة بالنخلة، وَكَذَا فَسرهَا أَبُو عُبَيْدَة: وَهِي من الألوان مَا لم تكن عَجْوَة أَو برنية، بِفَتْح الْبَاء وسكو الرَّاء وَكسر النُّون وَتَشْديد الْبَاء آخر الْحُرُوف وَهِي ضرب من التَّمْر، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اخْتلف فِي اللينة فَقيل: هِيَ مَا دون الْعَجْوَة من النَّحْل وَالنَّخْل كُله لينَة مَا خلا الْعَجْوَة، وَهُوَ قَول عِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَعَن الزُّهْرِيّ: اللينة ألوان النَّخْلَة كلهَا لِأَن الْعَجْوَة أَو البرنية، وَعَن عَطِيَّة وَابْن زيد. هِيَ النَّخْلَة والنخيل(19/223)
كلهَا من غير اسْتثِْنَاء، وَعَن ابْن عَبَّاس: هِيَ لون من النّخل وأصل لينَة: لونة، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا.
4884 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا لَ يْثٌ عَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ وَهِيَ البُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمضى الحَدِيث فِي الْجِهَاد مُخْتَصرا خماسيا وَهنا سَاقه رباعيا. قَوْله: (البويرة) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالراء. قَوْله: (مَا قطعْتُمْ) مَحل: مَا نصب: بقطعتم، كَأَنَّهُ قيل: أَي: شَيْء قطعْتُمْ من لينَة، وَالضَّمِير فِي: تَرَكْتُمُوهَا، يرجع إِلَى: مَا لانه فِي معنى اللينة. قَوْله: (على أُصُولهَا) أَي: سوقها فَلم يقطعوها وَلم يحرقوها. قَوْله: (فبإذن الله) يَعْنِي: الْقطع وَالتّرْك بِإِذن الله قَوْله: (وليخزي) أَي: وَلأَجل أَن يخزي الْفَاسِقين من الإخزاء، وَهُوَ الْقَهْر والإذلال.
3 - (بابٌ قَوْلِهِ: {مَا أفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ} (الْحَشْر: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {مَا أَفَاء الله} أَي: مَا رد الله وَرجع إِلَيْهِ مِنْهُم أَي من بني النَّضِير من الْأَمْوَال.
5884 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْروٍ عنِ الزهْرِيِّ عنْ مَالِكِ ابنِ أوْسٍ بنِ الحَدَثانِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ كانَتْ أمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أفاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا ركابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّةً يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ مِنْهَا نَفَقَةَ سَنَتهِ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلَ الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب، وَوَقع فِي (صَحِيح مُسلم) عَمْرو بن دِينَار عَن مَالك بن أَوْس، وَلَعَلَّ ذَلِك من بعض النقلَة لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْإِسْنَاد بعد عَن الزُّهْرِيّ: بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَدلَّ على أَنه مَذْكُور عِنْده فِي السَّنَد الأول. وَقَالَ الجياني: سقط ذكر ابْن شهَاب من نُسْخَة ابْن ماهان والْحَدِيث مَحْفُوظ لعَمْرو عَن الزُّهْرِيّ عَن مَالك بن أَوْس.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي مطولا فِي: بَاب حَدِيث بني النَّضِير وَفِي الْجِهَاد أَيْضا وَالْخمس مطولا ومختصرا.
قَوْله: (مِمَّا لَو يوجف) من الإيجاف من الوجيف وَهُوَ السّير السَّرِيع. قَوْله: (بخيل) أَرَادَ بِهِ الفرسان وَأَرَادَ بالركاب الْإِبِل الَّتِي يسَار عَلَيْهَا. قَوْله: (فِي السِّلَاح) ، وَهُوَ مَا أعد للحرب من آلَة الْحَدِيد مِمَّا يُقَاتل بِهِ وَالسيف وَحده لَيْسَ سِلَاحا. قَوْله: (والكراع) بِضَم الْكَاف. قَالَ ابْن دُرَيْد هُوَ: من ذَوَات الظلْف خَاصَّة ثمَّ كثر ذَلِك حَتَّى سميت بِهِ الْخَيل. وَفِي (الْمُجَرّد) الكراع اسْم لجَمِيع الْخَيل إِذا قلت السِّلَاح، والكراع، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِيهِ حجَّة لمَالِك على أَن الْفَيْء لَا يقسم وَإِنَّمَا هُوَ موكول إِلَى اجْتِهَاد الإِمَام، وَكَذَلِكَ الْخمس عِنْده، وَأَبُو حنيفَة يقسمهُ أَثلَاثًا وَالشَّافِعِيّ أَخْمَاسًا، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قبل الشَّافِعِي قَالَ بالخمس من الْفَيْء، وَفِيه جَوَاز إدخار قوت سنة إِذا كَانَ من غَلَّته إِمَّا إِذا اشْتَرَاهُ من السُّوق؟ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: فَأَجَازَهُ قوم وَمنعه آخَرُونَ إِذا أضرّ بِالنَّاسِ، وَجَوَاز الإدخار لَا يقْدَح التَّوَكُّل.
4 - (بابٌ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} أَي: مَا أَمركُم بِهِ الرَّسُول فافعلوه.
6884 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ لَعَنَ الله الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ وَالمُتَنمِّصات وَالمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقِ الله فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمَّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إنَّهُ بَلَغَنِي أنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ(19/224)
وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَالِي لَا ألْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَنْ فِي كِتَابِ الله فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ لَئِنْ كُنْتُ قَرأتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أمَّا قَرَأْتِ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ قَالَتْ فَإنِّي أرَى أهلَكَ يَفْعَلُونَهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئا فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعَتْنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: أما قَرَأت: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن قيس، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَعَن عُثْمَان وَعَن إِسْحَاق وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن عُثْمَان وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي التَّرَجُّل عَن مُحَمَّد بن عِيسَى وَعُثْمَان وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن أَحْمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن بشار وَغَيره وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن حَفْص بن عمر وَغَيره.
قَوْله: (الْوَاشِمَات) ، جمع واشمة من الوشم وَهُوَ غرز إبرة أَو مسلة وَنَحْوهمَا: فِي ظهر الْكَفّ أَو المعصم أَو الشّفة وَغير ذَلِك من بدن الْمَرْأَة حَتَّى يسيل مِنْهُ الدَّم ثمَّ يحشى ذَلِك الْموضع بكحل أَو نورة أَو نيلة. ففاعل هَذَا واشم وواشمة وَالْمَفْعُول بهَا موشومة. فَإِن طلبت فعل ذَلِك فَهِيَ مستوشمة وَهُوَ حرَام على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بهَا باختيارها والطالبة لَهُ فَإِن فعل بطفلة فالإثم على الفاعلة لَا على الطفلة لعدم تكليفها حِينَئِذٍ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: الْموضع الَّذِي وشم يصير نجسا فَإِن أمكن إِزَالَته بالعلاج وَجَبت إِزَالَته وَإِن لم يُمكن إلاَّ بِجرح فَإِن خَافَ مِنْهُ التّلف أَو فَوَات عُضْو أَو مَنْفَعَة عُضْو أَو شَيْئا فَاحِشا فِي عُضْو ظَاهر لم تجب إِزَالَته، وَإِذا تَابَ لم يبْق عَلَيْهِ إِثْم وَإِن لم يخف شَيْئا من ذَلِك وَنَحْوه لزمَه إِزَالَته ويعصى بِتَأْخِيرِهِ، وَسَوَاء فِي هَذَا كُله الرجل وَالْمَرْأَة. قَوْله: (والمؤتشمات) ، جمع مؤتشمة، وَهِي الَّتِي يفعل فِيهَا الوشم. قَوْله: (وَالْمُتَنَمِّصَات) ، جمع متتمصة من التنمص بتاء مثناة من فَوق، ثمَّ نون وصاد مُهْملَة وَهُوَ إِزَالَة الشّعْر من الْوَجْه مَأْخُوذ من النماص بِكَسْر الْمِيم الأولى وَهُوَ المنقاش، والمنتمصة هِيَ الطالبة إِزَالَة شعر وَجههَا، والنامصة هِيَ الفاعلة ذَلِك يَعْنِي المزيلة، وَعَن ابْن الْجَوْزِيّ: بَعضهم يَقُول: المنتمصة بِتَقْدِيم النُّون وَالَّذِي ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عُبَيْدَة تَقْدِيم التَّاء مَعَ التَّشْدِيد. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ حرَام إلاّ إِذا نَبتَت للْمَرْأَة لحية أَو شوارب فَلَا يحرم بل يسْتَحبّ عندنَا. وَالنَّهْي إِنَّمَا هُوَ فِي الحواجب وَمَا فِي أَطْرَاف الْوَجْه، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يجوز حلق لحيتها وَلَا عنفقتها وَلَا شاربها وَلَا تَغْيِير شَيْء من خلقهَا بِزِيَادَة وَلَا نقص. قَوْله: (المتلفجات) ، جمع متفلجة بِالْفَاءِ وَالْجِيم من التفلج وَهُوَ برد الْأَسْنَان الثنايا والرباعيات مَأْخُوذ من الفلج بِفَتْح الْفَاء وَاللَّام وَهِي فُرْجَة بَين الثنايا والرباعيات. قَوْله: (لِلْحسنِ) ، يتَعَلَّق بالمتفلجات أَي: لأجل الْحسن، قيد بِهِ لِأَن الْحَرَام مِنْهُ هُوَ الْمَفْعُول لطلب الْحسن، أما إِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ لعلاج أَو عيب فِي السن وَنَحْوه فَلَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يفعل ذَلِك الْعَجُوز وَشبههَا إِظْهَارًا للصغر وَحسن الْأَسْنَان، وَهَذَا الْفِعْل حرَام على الفاعلة وَالْمَفْعُول بهَا. قَوْله: (الْمُغيرَات خلق الله) ، يَشْمَل مَا ذكر قبله وَلذَلِك قَالَ: الْمُغيرَات بِدُونِ الْوَاو: لِأَن ذَلِك كُله تَغْيِير لخلق الله تَعَالَى وتزوير وتدليس، وَقيل: هَذَا صفة لَازمه للتفلج. قَوْله: (أم يَعْقُوب) لم أَقف على اسْمهَا. قَوْله: (من لعن) مفعول (لَا الْعَن) فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاقْتِدَاء بِهِ فِي إِطْلَاق اللَّعْن معينا كَانَ أَو غير معِين لِأَن الأَصْل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يلعن إلاَّ من يسْتَحق ذَلِك عِنْده. فَإِن قلت: يُعَارضهُ قَوْله: اللَّهُمَّ مَا من مُسلم سبيته أَو لعنته وَلَيْسَ لذَلِك بِأَهْل فَاجْعَلْ لَهُ ذَلِك كَفَّارَة وَطهُورًا. قلت: لَا يُعَارضهُ لِأَنَّهُ عِنْده مُسْتَحقّ لذَلِك، وَأما عِنْد الله عز وَجل فَالْأَمْر موكول إِلَيْهِ يفهم من قَوْله وَلَيْسَ لذَلِك بِأَهْل، يَعْنِي: فِي علمك لَا فِي علمي، أما أَن يَتُوب مِمَّا صدر مِنْهُ أَو يقْلع عَنهُ، وَإِن علم الله مِنْهُ خلاف ذَلِك كَانَ دعاؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ زِيَادَة فِي شقوته. قَوْله: (وَمن هُوَ فِي كتاب الله) مَعْطُوف على من (لعن) وَتَقْدِيره: مَا لي لَا الْعَن من هُوَ فِي كتاب الله مَلْعُون، قيل: أَيْن فِي الْقُرْآن لعنتهن؟ أُجِيب: بِأَن فِيهِ وجوب الِانْتِهَاء عَمَّا نَهَاهُ الرَّسُول لقَوْله تَعَالَى:(19/225)
{وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} (الْحَشْر: 7) وَقد نهى عَنهُ. ففاعله ظَالِم، وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِلَّا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) قَوْله: (قَرَأت مَا بَين اللَّوْحَيْنِ) أَي: الْقُرْآن أَو أَرَادَت باللوحين الَّذِي يُسمى بِالرجلِ وَيُوضَع الْمُصحف عَلَيْهِ فَهُوَ كِنَايَة أَيْضا عَن الْقُرْآن وَقَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: وَكَانَت قارئة لِلْقُرْآنِ. قَوْله: (إِن كنت قرأتيه) ويروى: قرأته، وَهُوَ الأَصْل، وَوجه الأول أَن فِيهِ إشباع الكسرة بِالْيَاءِ. قَوْله: (فَإِنِّي أرى أهلك يَفْعَلُونَهُ) أَرَادَت بهَا زَيْنَب بنت عبد الله الثقفية. قَوْله: (فَلم تَرَ من حَاجَتهَا شَيْئا) أَي: فَلم تَرَ أم يَعْقُوب من الَّذِي ظَنَنْت أَن زوج ابْن مَسْعُود كَانَت تَفْعَلهُ. قَوْله: (فَقَالَ: لَو كَانَت كَذَلِك) أَي: فَقَالَ ابْن مَسْعُود: لَو كَانَت زَوجي تفعل ذَلِك كَمَا ذكرته. قَوْله: (مَا جامعتنا) جَوَاب: لَو. أَي: مَا صاحبتنا بل كُنَّا نطلقها ونفارقها. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: مَا جامعتني، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مَا جامعتها من الْجِمَاع، كِنَايَة عَن إِيقَاع الطَّلَاق.
7884 - حدَّثنا عَلِيٌّ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَابِسٍ حدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوَاصِلَةَ فَقَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ الله مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُورٍ..
عَليّ هُوَ ابْن عبد الله بن الْمَدِينِيّ، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْمهْدي الْبَصْرِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس بالمهملتين وبالياء الْمُوَحدَة الْكُوفِي.
قَوْله: (الْوَاصِلَة) هِيَ الَّتِي تصل شعرهَا بِشعر آخر تكثره بِهِ، وَهِي الفاعلة، وَالْمسْتَوْصِلَة هِيَ الطالبة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ نَص فِي تَحْرِيم ذَلِك، وَهُوَ قَول مَالك وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، وَمنعُوا الْوَصْل بِكُل شَيْء من الصُّوف أَو الْخرق وَغَيرهَا لِأَن ذَلِك كُله فِي معنى الْوَصْل بالشعر ولعموم النَّهْي وسد الذريعة، وشذ اللَّيْث بن سعد فَأجَاز وَصله بالصوف وَمَا لَيْسَ بِشعر، وَهُوَ محجوج بِمَا تقدم، وأباح آخَرُونَ وضع الشّعْر على الرَّأْس، وَقَالُوا: إِنَّمَا نهى عَن الْوَصْل خَاصَّة وَهِي ظاهرية مَحْضَة وإعراض عَن الْمَعْنى، وشذ قوم فأجازوا الْوَصْل مُطلقًا وتأولوا الحَدِيث على غير وصل الشّعْر، وَهُوَ قَول بَاطِل، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَلم يَصح عَنْهَا وَلَا يدْخل فِي هَذَا النَّهْي مَا يرْبط من الشّعْر بخيوط الشّعْر الملونة وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يشبه الشّعْر لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْهِيّا عَنهُ. إِذْ لَيْسَ هُوَ بوصل إِنَّمَا هُوَ للتجمل والتحسن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَصله أَصْحَابنَا إِن وصلته بِشعر الْآدَمِيّ فَهُوَ حرَام بِلَا خلاف سَوَاء كَانَ من رجل أَو امْرَأَة لعُمُوم الْأَحَادِيث، وَلِأَنَّهُ يحرم الِانْتِفَاع بِشعر الْآدَمِيّ وَسَائِر أَجْزَائِهِ لكرامته بل يدْفن شعره وظفره وَسَائِر أَجْزَائِهِ، وَإِن وصلته بِشعر غير الْآدَمِيّ فَإِن كَانَ نجسا من ميتَة أَو شعر مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه إِذا انْفَصل فِي حَيَاته فَهُوَ حرَام أَيْضا، وَلِأَنَّهَا حاملة نَجَاسَة فِي صلَاتهَا وَغَيرهَا عمدا، وَسَوَاء فِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ الْمُزَوجَة وَغَيرهَا من النِّسَاء وَالرِّجَال، وَأما الشّعْر الطَّاهِر فَإِن لم يكن لَهَا زوج وَلَا سيد فَهُوَ حرَام أَيْضا وَإِن كَانَ فَثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: لَا يجوز لظَاهِر الحَدِيث. الثَّانِي: يجوز، وأصحها عِنْدهم إِن فعلته بِإِذن السَّيِّد أَو الزَّوْج جَازَ، وإلاَّ فَهُوَ حرَام.
5 - (بابٌ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّار وَالإيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (الْحَشْر: 9)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالَّذين تبوؤا الدَّار} أَي: الَّذين اتَّخذُوا الْمَدِينَة دَار الْإِيمَان وَالْهجْرَة وهم الْأَنْصَار أَسْلمُوا فِي دِيَارهمْ وابتنوا الْمَسَاجِد قبل قدومهم بِسنتَيْنِ، فَأحْسن الله تَعَالَى الثَّنَاء عَلَيْهِم. قَوْله: {من قبلهم} أَي: من قبل قدوم الْمُهَاجِرين عَلَيْهِم، وَقد آمنُوا {يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم} من الْمُهَاجِرين.
8884 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدَّثنا أبُو بَكْرٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْروٍ بنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ الله عنهُ أُوصِي الخَلِيفَةَ بالمُهاجِرِينَ الأوَّلِينَ أنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقْهُمْ وَأُوصِيَ الخَلِيفَةَ بِالأنْصَارِ {الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّار وَالإيمَانَ} مِنْ قَبْلِ أنْ يُهاجِرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ.(19/226)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {الَّذين تبوؤا الدَّار والأيمان} (الْحَشْر: 9) وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَأَبُو بكر هُوَ ابْن عَيَّاش، على وزن فعال بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة الْمقري، وحصين بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وبالنون ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ.
والْحَدِيث طرف من حَدِيث طَوِيل قد مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن حُصَيْن عَن عَمْرو بن مَيْمُون. الحَدِيث.
قَوْله: (بالمهاجرين الْأَوَّلين) هم الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ. قَالَه أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَابْن الْمسيب، وَقيل: هم الَّذين أدركوا بيعَة الرضْوَان. قَالَه الشّعبِيّ وَابْن سِيرِين، فعلى القَوْل الأول: هم الَّذين هَاجرُوا قبل تَحْويل الْقبْلَة سنة اثْنَتَيْنِ من الْهِجْرَة، وعَلى الثَّانِي: هم الَّذين هَاجرُوا قبل الْحُدَيْبِيَة. وَقيل: هم الَّذين شهدُوا بَدْرًا. قَوْله: (الَّذين تبوؤا الدَّار وَالْإِيمَان) ، هُوَ مثل: علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا.
6 - (بابٌ قَوْلُهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ} (الْحَشْر: 9) الآيَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل فِي مدح الْأَنْصَار فَإِنَّهُم قاسموا الْمُهَاجِرين دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ.
الخَصاصَةُ الْفَاقَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} وفسرها بالفاقة وَهِي الْفقر والاحتياج، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، فاقة، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَهَذَا قَول مقَاتل بن حَيَّان.
المُفْلِحُونَ: الْفَائِزُونَ بالخُلُودِ. وَالفَلاحُ: البقاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} (الْحَشْر: 9) وَفسّر: المفلحون بالفائزين بالخلود، وَبِه فسر الْفراء. قَوْله: (والفلاح الْبَقَاء) يَعْنِي: يَأْتِي بِمَعْنى الْبَقَاء. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَكِن لَيْسَ للدنيا فلاح)
أَي بَقَاء، وَفِي (الْمغرب) : الْفَلاح الْفَوْز بالمطلوب، ومدار التَّرْكِيب على الشق وَالْقطع.
حَيَّ عَلَى الفَلاحِ: عَجِّلْ
مُرَاده معنى الْفَلاح هُنَا وَمعنى حَيّ: عجل: أَي على الْفَوْز بالمطلوب، وَقَالَ بَعضهم: حَيّ على الْفَلاح أَي: عجل، هُوَ تَفْسِير حَيّ: أَي: معنى حَيّ على الْفَلاح، عجل قلت: لَيْسَ مُرَاد البُخَارِيّ مَا ذكره، وَإِنَّمَا مُرَاده معنى: مَا ذكرنَا لِأَنَّهُ فِي صدد تَفْسِير الْفَلاح وَلَيْسَ فِي صدد تَفْسِير معنى حَيّ وَتَفْسِير حَيّ وَقع اسْتِطْرَادًا. وَقَالَ ابْن التِّين: لم يذكرهُ أحد من أهل اللُّغَة إِنَّمَا قَالُوا: مَعْنَاهُ هَلُمَّ وَأَقْبل: قلت: يَعْنِي: لم يذكر أحد من أهل اللُّغَة أَن مَعْنَاهُ عجل، بل الَّذِي ذَكرُوهُ هَلُمَّ وَأَقْبل وَلَا يتَوَجَّه مَا ذكره لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صدد تَفْسِير حَيّ. كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا وَقع استطراد وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَمَا قَالَ وَلَكِن فِيهِ إِشْعَار بِطَلَب الإعجال، فَالْمَعْنى: أقبل مسرعا. قلت: الْحَال بِالْحَال لِأَن اعتذاره عَنهُ إِنَّمَا يجدي أَن لَو كَانَ هُوَ فِي صدد تَفْسِير: حَيّ، كَمَا ذكرنَا.
وَقَالَ الحَسَنُ: حَاجَةً حَسَدا
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا} (الْحَشْر: 9) وَفسّر: (حَاجَة) بقوله: (حسدا) وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن الْحسن.
9884 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ كَثِيرٍ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ غَزْوَانَ حدَّثنا أبُو حَازِمٍ الأشْجَعِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ الله أصابَنِي الجَهْدُ فَأرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئا فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا رَجُلٌ يُضَيِّفُ هاذا اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ الله فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ أَنا يَا رَسُولَ الله فَذَهَبَ إلَى أهْلِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ ضَيْفُ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَدَّخريهِ شَيْئا قَالَتْ وَالله مَا عِنْدِي إلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ قَالَ فَإذَا أرَادَ الصِّبْيَةُ العَشَاءَ فَنَوْمِهِمْ وَتَعَالَى فَأطْفِئي السِّرَاجَ وَنَطْوى بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ فَفَعَلْتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى(19/227)
رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَ لَقَدْ عَجِبَ الله عَزَّ وَجَلَّ أوْ ضَحِكَ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةَ فَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الْحَشْر: 9) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير ضد الْقَلِيل. الدَّوْرَقِي وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَأَبُو حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي فضل الْأَنْصَار فِي: بَاب {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد عَن فُضَيْل بن غَزوَان إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أَتَى رجل) ذكر الواحدي أَنه من أهل الصّفة وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: أَنه أَبُو هُرَيْرَة. قَوْله: (الْجهد) ، أَي: الْمَشَقَّة والجوع. قَوْله: (الأرجل) كلمة: لَا للتحضيض والحث على شَيْء يَفْعَله الرجل. قَوْله: (يضيف) بِضَم الْيَاء من الْإِضَافَة. قَوْله: (فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار) قَالَ الْخَطِيب: وَأَبُو طَلْحَة الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ ابْن بشكوال: هُوَ زدي بن سهل وَأنْكرهُ النَّوَوِيّ: وَقيل: عبد الله بن رَوَاحَة وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ والنحاس. نزلت فِي أبي المتَوَكل وَأَن الضَّيْف ثَابت بن قيس. قَوْلهمَا: نزلت فِي أبي المتَوَكل وَأَن الضَّيْف ثَابت بن قيس. قَوْلهمَا: نزلت فِي أبي المتَوَكل: وهم فَاحش لِأَن أَبَا المتَوَكل النَّاجِي تَابِعِيّ إِجْمَاعًا قَوْله: (هَذَا اللَّيْلَة) هَذَا إِشَارَة إِلَى الرجل فِي قَوْله: أَنِّي رجل (وَاللَّيْلَة) نصب على الظّرْف، ويروى: هَذِه اللَّيْلَة فالإشارة فِيهِ إِلَى اللَّيْلَة قَوْله: (يرحمه الله) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يضيف هَذَا رَحْمَة: بِالتَّنْوِينِ قَوْله: (ضيف رَسُول الله) أَي: هَذَا ضيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (لَا تدخر بِهِ شَيْئا) أَي: لَا تمسكي عَنهُ شَيْئا. قَوْله: (الصبية) بِكَسْر الصَّاد جمع صبي. قَوْله: (الْعشَاء) بِفَتْح الْعين. قَوْله: (فنوميهم) أَي: الصِبْية حَتَّى لَا يَأْكُلُوا شَيْئا وَهَذَا يحمل على أَن الصّبيان لم يَكُونُوا مُحْتَاجين إِلَى الْأكل وَإِنَّمَا تطلبه أنفسهم على عَادَة الصّبيان من غير جوع مُضر، فَإِنَّهُم لَو كَانُوا على حَاجَة بِحَيْثُ يضرهم ترك الْأكل لَكَانَ إطعامهم وَاجِبا يجب تَقْدِيمه على الضِّيَافَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ ذَلِك كَانَ فَاضلا عَن ضرورتهم. قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهَا صرحت بقولِهَا: وَالله مَا عِنْدِي إلاَّ قوت الصبية وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِنَّهَا كَانَت علمت صبرهم عَن عشائهم تِلْكَ اللَّيْلَة لِأَن الْإِنْسَان قد يصبر عَن الْأكل سَاعَة لَا يتَضَرَّر بِهِ. قَوْله: (ونطوي بطوننا اللَّيْلَة) ، أَي: نجمعها فَإِذا جَاع الرجل انطوى جلد بَطْنه. قَوْله: (عجب الله أَو ضحك) ، المُرَاد من الْعجب والضحك وَنَحْوهَا فِي حق الله عز وَجل لوازمها وغاياتها لِأَن التَّعَجُّب حَالَة تحصل عِنْد إِدْرَاك أَمر غَرِيب، والضحك ظُهُور الْأَسْنَان عِنْد أَمر عَجِيب وَكِلَاهُمَا محالان على الله تَعَالَى، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِطْلَاق الْعجب لَا يجوز على الله، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الرِّضَا، وَحَقِيقَته أَن ذَلِك الصَّنِيع مِنْهُمَا حل من الرِّضَا عِنْد الله وَالْقَبُول بِهِ ومضاعفة الثَّوَاب عَلَيْهِ مَحل الْعجب عنْدكُمْ فِي الشَّيْء التافه إِذا رفع فَوق قدره وأعظى بِهِ الْأَضْعَاف من قِيمَته، قَالَ: وَقد يكون المُرَاد بالعجب هُنَا أَن الله تَعَالَى يعجب مَلَائكَته من صنيعهما لندور مَا وَقع مِنْهُمَا فِي الْعَادة. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عبد الله يَعْنِي البُخَارِيّ: الضحك هُنَا الرَّحْمَة، وَتَأْويل الضحك بِالرِّضَا أقرب من تَأْوِيله بِالرَّحْمَةِ لِأَن الضحك من الْكِرَام يدل على الرِّضَا فَإِنَّهُم يوصفون بالبشر عِنْد السُّؤَال. انْتهى، وَلَيْسَ فِي النّسخ الَّتِي فِي أَيدي النَّاس مَا نسبه الْخطابِيّ إِلَى البُخَارِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَالله أعلم.
06 - ( {سُورَةُ المُمْتَحِنَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الممتحنة، قَالَ السُّهيْلي: هِيَ بِكَسْر الْحَاء أَي: المختبرة أضيف إِلَيْهَا الْفِعْل مجَازًا كَمَا سميت سُورَة بَرَاءَة المبعثرة والفاضحة لما كشفت عَن عُيُوب الْمُنَافِقين وَمن قَالَ بِفَتْح الْحَاء فَإِنَّهُ أضافها إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي نزلت فِيهَا وَهِي أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي ميعط، وَهِي امْرَأَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأم وَلَده إِبْرَاهِيم، وَقَالَ مقَاتل: الممتحنة اسْمهَا سبيعة، وَيُقَال: سعيدة بنت الْحَارِث الأسْلَمِيَّة. وَكَانَت تَحت صَيْفِي بن الراهب. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: كَانَت أم كُلْثُوم تَحت عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: وروى أَن الْآيَة نزلت فِي أُميَّة بنت بشر من بني عَمْرو بن عَوْف أم عبد الله بن سهل بن حنيف وَكَانَت تَحت حسان بن الدحداحية ففرت مِنْهُ وَهُوَ حِينَئِذٍ كَافِر فَتَزَوجهَا سُهَيْل بن حنيف، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هِيَ بِلَا خلاف، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الْأَحْزَاب وَقيل سُورَة النِّسَاء، وَهِي ألف وَخَمْسمِائة وَعشرَة أحرف وثلاثمائة وثمان وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَثَلَاث عشرَة آيَة وَلَيْسَت فِيهَا بَسْمَلَة عِنْد الْجَمِيع.(19/228)
وَقَالَ مُجاهِدٌ لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لَا تُعَذِّبْنا بِأيْدِيهِمْ فَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ هاؤُلاءِ عَلَى الحَقِّ مَا أصَابَهُمْ هاذا.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا} ، (الممتحنة: 5) الْآيَة. وَفسّر بقوله: (لَا تعذبنا بِأَيْدِيهِم) إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق آدم بن أبي إِيَاس عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: على شَرط مُسلم، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا} أَي: لَا تسلطهم علينا فيفتنوننا بِعَذَاب لَا طَاقَة لنا بِهِ، وَقيل: لَا تظفرهم علينا فيظنوا أَنهم على الْحق وَنحن على الْبَاطِل.
بِعِصَمِ الكَوَافِرِ أُمِرَ أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِفِراقِ نِسَائِهِمْ كِنَّ كَوَافِرَ بِمَكَّةً.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} (الممتحنة: 01) مَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى نهى عَن التَّمَسُّك بعصم الكوافر، والعصم جمع عصمَة وَهِي مَا اعْتصمَ بِهِ، يُقَال: مسكت الشَّيْء وتمسكت بِهِ، والكوافر جمع كَافِرَة نهى الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ عَن الْمقَام على نِكَاح المشركات وَأمرهمْ بفراقهن، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَقُول لَا تَأْخُذُوا بِعقد الكوافر فَمن كَانَت لَهُ امْرَأَة كَافِرَة بِمَكَّة فَلَا يعتدن بهَا فقد نقضت عصمتها مِنْهُ وَلَيْسَت لَهُ بِامْرَأَة. وَإِن جاءتكم امْرَأَة مسلمة من أهل مَكَّة وَلها بهَا زوج كَافِر فَلَا تعتدن بِهِ فقدانقضت عصمته مِنْهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لما نزلت هَذِه الْآيَة طلق عمر امْرَأتَيْنِ كَانَتَا لَهُ بِمَكَّة مشركتين قريبَة بنت أُميَّة فَتَزَوجهَا بعده مُعَاوِيَة وهما على شركهما بِمَكَّة وَالْأُخْرَى: أم كُلْثُوم الْخُزَاعِيَّة أم عبد الله فَتَزَوجهَا أَبُو جهم، وهما على شركهما، وَكَانَت عِنْد طَلْحَة بن عبيد الله أروى بنت ربيعَة فَفرق بَينهمَا الْإِسْلَام.
0984 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ دِينار قَالَ حدَّثني الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ ابنِ عَلِيٍّ أنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ الله بنَ أبِي رَافِعٍ كَاتِبَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيّا رَضِيَ الله عنهُ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَا وَالزُّبَيْرَ وَالمِقْدَادَ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإنَّ بِهَا ظَعِينَةَ مَعَهَا كِتابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَذَهَبْنَا تَعَادَي بِنا خَيْلَنا حَتَّى أتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنا أخْرِجِي الكِتابَ فَقالَتْ مَا مَعِي مِنْ كتابٍ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الكِتابَ أوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيابَ فأخْرَجَتْهُ مِنْ عِقاصِها فَأتَيْنا بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإذَا فِيهِ مِنْ حاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِمَنْ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أمْرِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هاذا يَا حَاطِبُ قَالَ لَا تَعْجِلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ الله إنِّي كُنْتُ امْرَءًا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أنْفُسِهِمْ وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِها أهْلِيهِمْ وَأمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ فَأحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أنْ أصطَنِعَ إلَيْهِمْ يَدا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرا وَلا ارْتِدَادا عَنْ دِينِي فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فأضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ إنَّهُ شَهِدَ بَدْرا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَليَّ الله عَزَّ وَجَلَّ اطلعَ عَلَى أهلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفِرْتُ لَك قَالَ عَمْرٌ ووَنَزَلَتْ فِيهِ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ قَالَ لَا أدْرِي الآيَةَ فِي الحَدِيثِ أوْ قَوْلُ عَمْرُو..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والترجمة هِيَ ذكر السُّورَة، وَوَقع لأبي ذَر على رَأس هَذَا الحَدِيث: بَاب {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} (الممتحنة: 1) فعلى هَذَا التَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث يطابقها. والْحَدِيث قد مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب الجاسوس فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بَعَثَنِي أَنا وَالزُّبَيْر والمقداد) ، وَفِي رِوَايَة رَوَاهَا الثَّعْلَبِيّ، فَبعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عليا وَعمَّارًا وَعمر وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة(19/229)
والمقداد بن الْأسود وَأَبا مرْثَد، وَكَانُوا كلهم فُرْسَانًا. قَوْله: (رَوْضَة خَاخ) ، بخاءين معجمتين لَا غير. قَوْله: (ظَعِينَة) ، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَهِي الْمَرْأَة فِي الهودج وَاسْمهَا سارة بالسمين الْمُهْملَة وَالرَّاء. قَوْله: (تعادى) ، بِلَفْظ الْمَاضِي، أَي: تتباعد وتتجارى قَوْله: (أَو لتلْقين) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد وَمُقْتَضى الْقَوَاعِد النحوية أَن يُقَال، لتلقن، بِحَذْف الْيَاء فتأويله أَنه ذكر كَذَلِك لمشاكلة لتخْرجن. قَوْله: (كنت أمرءا من قُرَيْش) أَي: بِالْحلف وَالْوَلَاء لَا بِالنّسَبِ والولادة حَتَّى لَا يُقَال بَينه وَبَين قَوْله: لم أكن من أنفسهم، تنافٍ قَوْله: (يدا) أَي: يدا مِنْهُ عَلَيْهِم وَحقّ محبَّة. قَوْله: (صدقكُم) بتَخْفِيف الدَّال أَي: قَالَ الصدْق. قَوْله: (دَعْنِي) أَي: ارتكني وَمَكني. قَوْله: (فَاضْرب) ، أَي: فَإِن اضْرِب فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا قَالَ مَعَ تَصْدِيق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحاطب فِيمَا قَالَه؟ قلت: قَالَ ذَلِك لقُوَّة دينه وصلابته فِي الْحق وَلم يجْزم بذلك فَلهَذَا اسْتَأْذن فِي قَتله، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ اسْم النِّفَاق لكَونه أقدم على شَيْء فِيهِ خلاف مَا ادَّعَاهُ. قَوْله: (لَعَلَّ الله) كلمة: لَعَلَّ. لَيست للترجي فِي حق الله بل للوقوع. قَوْله: (غفرت) أَي: الْأُمُور الأخروية وإلاَّ فَلَو توجه على أحد مِنْهُم مثلا يَسْتَوْفِي مِنْهُ قَوْله: {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ} (الممتحنة: 1) هَذَا الْمِقْدَار للأكثرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر مَعَ ذكر أَوْلِيَاء قَوْله: (قَالَ قَالَ عَمْرو) أَي: عَمْرو بن دِينَار هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة لَا أَدْرِي الْآيَة. وَهِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ} من نفس الحَدِيث هُوَ، أَو هُوَ من قَول عَمْرو بن دِينَار، وَقد شكّ فِيهِ.
حدَّثنا عَلِيٌّ قِيلَ لِسُفْيَانَ فِي هَذَا فَنَزَلَتْ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} قَالَ سُفْيَانُ هَذا فِي حَدِيثِ النَّاسِ حَفْظْتُهُ مِنْ عَمْروٍ مَا تَرَكْتُ مِنْهُ حَرْفا وَمَا أُرَى أحَدا حَفِظَهُ غَيْرِي.
عَليّ هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (فِي هَذَا) أَي: فِي أَمر حَاطِب نزلت الْآيَة. أَي: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي} الْآيَة، قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: هَذَا فِي حَدِيث النَّاس ورواياتهم، وَأما الَّذِي حفظته من عَمْرو بن دِينَار فَهُوَ الَّذِي رويته من غير ذكر النُّزُول، وَمَا تركت مِنْهُ حرفا وَلم أَظن أحدا حفظ هَذَا الحَدِيث من عَمْرو غَيْرِي، ملخص مَا قَالَه سُفْيَان: لَا أَدْرِي أَن حِكَايَة نزُول الْآيَة من تَتِمَّة الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَول عَمْرو بن دِينَار مَوْقُوفا عَلَيْهِ أدرجه هُوَ من عِنْده، وسُفْيَان لم يجْزم بِهَذِهِ الزِّيَادَة، وَقد روى النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور مَا يدل على هَذِه الزِّيَادَة مدرجة، وروى الثَّعْلَبِيّ هَذَا الحَدِيث بِطُولِهِ وَفِي آخِره فَأنْزل الله تَعَالَى فِي شَأْن حَاطِب ومكاتبته {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا} الْآيَة.
2 - (بابٌ: {إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهاجِرَاتٍ} (الممتحنة: 1)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات} الْآيَة. أَي: حَال كونهن مهاجرات من دَار الْكفْر إِلَى دَار الْإِسْلَام، وأتفقوا على نُزُولهَا بعد الْحُدَيْبِيَة. وَأَن سَببهَا مَا تقدم من الصُّلْح بَين قُرَيْش وَالْمُسْلِمين على أَن من جَاءَ من قُرَيْش إِلَى الْمُسلمين يردونه إِلَى قُرَيْش ثمَّ اسْتثْنى الله من ذَلِك النِّسَاء الْمُهَاجِرَات بِشَرْط الامتحان، وَهُوَ قَوْله: {فامتحنوهن} .
1984 - حدَّثنا إسْحَاقُ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا ابنُ أخِي ابنِ شِهابٍ عَنْ عَمِّهِ أخبرَنِي عُرْوَةُ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا زَوْجَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرَتْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِ مِنَ المُؤْمِناتِ بِهاذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِ الله: {يَا أيُّها النبيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعُنك} إلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أقَرَّ بِهاذا الشَّرْطِ مِنَ المُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى كَلاما وَلا وَالله مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي المُبَايَعَةِ مَا يُبايِعُهُنَّ إلاَّ بِقَوْلِهِ قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {كَانَ يمْتَحن من هَاجر إِلَيْهِ من الْمُؤْمِنَات} وَإِسْحَاق هُوَ ابْن مَنْصُور أَو ابْن إِبْرَاهِيم وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَاسم ابْن أخي ابْن شهَاب مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم،(19/230)
وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهُوَ عَم مُحَمَّد بن عبد الله.
والْحَدِيث أخرجه فِي الطَّلَاق أَيْضا على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (حَدثنَا يَعْقُوب) ، وَفِي وَرَايَة أبي ذَر أخبرنَا يقعوب. قَوْله: (يمْتَحن) ، أَي: يختبر وامتحانهن أَن يستحلفن مَا خرجن من بغض زوج وَمَا خرجن رَغْبَة عَن أَرض إِلَى أَرض وَمَا خرجن التماسا للدنيا. وَمَا خرجن إلاَّ حبا لله وَلِرَسُولِهِ، قَالَه ابْن عَبَّاس. قَوْله: (بِهَذِهِ الْآيَة) ، أشارت بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك} (الممتحنة: 21) الْمُبَايعَة المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره. قَوْله: (الْآيَة) ، أَي: اقْرَأ الْآيَة بِتَمَامِهَا وَهُوَ قَوْله: {على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يسرفن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن واستغفر لَهُنَّ إِن الله غَفُور رَحِيم} وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بيعَة الرِّجَال أَخذ فِي بيعَة النِّسَاء وَهُوَ على الصَّفَا وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَسْفَل مِنْهُ وَهُوَ يُبَايع النِّسَاء بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويبلغهن عَنهُ قَوْله: (فَمن أقرّ بِهَذَا الشَّرْط) وَهُوَ: {أَن لَا يشركهن بِاللَّه شَيْئا} الخ قَوْله: (قَالَ لَهَا) أَي: للمبايعة مِنْهُنَّ (قد بَايَعْتُك كلَاما) وَهُوَ مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، وَهُوَ من قَول عَائِشَة، وَالتَّقْدِير: كَانَ يُبَايع بالْكلَام وَلَا يُبَايع بِالْيَدِ كالمبايعة مَعَ الرِّجَال بالمصافحة باليدين. قَوْله: (لَا وَالله) الْقسم لتأكيد الْخَبَر أَي: مست يَده يَد امْرَأَة فِيهِ رد على مَا جَاءَ عَن أم عَطِيَّة رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن عَن جدته أم عَطِيَّة فِي قصَّة الْمُبَايعَة. قَالَت: فَمد يَده من خَارج الْبَيْت وَمَدَدْنَا أَيْدِينَا من دَاخل الْبَيْت. ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، وَكَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي بعده حَيْثُ قَالَت: فِيهِ فقبضت منا امْرَأَة يَدهَا فَإِنَّهُ يشْعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن. فَإِن قلت: مَا وَجه الرَّد هُنَا وَالْأَحَادِيث كلهَا صِحَاح؟ قلت: جابوا عَن الأول، بِأَن مد الْأَيْدِي من وَرَاء الْحجاب إِشَارَة إِلَى وُقُوع الْمُبَايعَة وَهُوَ لَا يسْتَلْزم المصافحة. وَعَن الثَّانِي بِأَن المُرَاد بِقَبض الْيَد التَّأَخُّر عَن الْقبُول أَو كَانَت الْمُبَايعَة بِحَائِل، فَافْهَم.
تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ إسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ إسْحاقُ بنُ رَاشِدٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ.
أَي: تَابع ابْن أخي ابْن شهَاب يُونُس بن زيد فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة البُخَارِيّ فِي كتاب الطَّلَاق فِي بَاب: إِذا أسلمت المشركة أَو النَّصْرَانِيَّة عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة الحَدِيث، وَوصل أَيْضا مُتَابعَة معمر بن رَاشد فِي الْأَحْكَام فِي: بَاب بيعَة النِّسَاء عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ الحَدِيث ومتابعة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الْقرشِي وَصلهَا ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق خَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ عَنهُ. قَوْله: وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاشد أَي الْجَزرِي الْحَرَّانِي يروي عَن الزُّهْرِيّ، وَالزهْرِيّ يروي عَن عُرْوَة بن الزبير وَعَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن. يَعْنِي: يجمع بَينهمَا فِي هَذِه الرِّوَايَة. وَرَوَاهُ الذهلي فِي (الزهريات) عَن عتاب بن بشير عَن إِسْحَاق بن رَاشد بِهِ.
3 - (بابٌ: {إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} (الممتحنة: 21)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك} يَعْنِي: مبايعات، وَلم يثبت لفظ الْبَاب هُنَا إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
2984 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ الله عَنْها قَالَتْ بَايَعْنا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ عَلَيْهَا أنْ لَا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئا وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَها فَقَالَتْ أسْعَدَتْنِي فُلانَةُ أُرِيدُ أنْ أجْزِيَها فَمَا قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو المقعد الْبَصَر، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد(19/231)
وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَحَفْصَة هِيَ بنت سِيرِين أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا نسيبة بنت الْحَارِث وَقد ترجمناها فِي كتاب الْجَنَائِز.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي كتاب الْأَحْكَام عَن مُسَدّد.
قَوْله: (ونهانا عَن النِّيَاحَة) ، وَهُوَ اسْم من ناحت الْمَرْأَة على الْمَيِّت إِذا ندبته، وَذَلِكَ أَن تبْكي وتعدد محاسنه. وَقيل: النوح بكاء مَعَ الصَّوْت وَمِنْه: ناح الْحمام نوحًا. قَوْله: (فقبضت امْرَأَة يَدهَا) هَذِه الْمَرْأَة هِيَ أم عَطِيَّة الْمَذْكُورَة، وَلكنهَا أبهمت نَفسهَا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: أَن امْرَأَة ساعدتني فَلَا بُد أَن أسعدها، وَفِي رِوَايَة عَاصِم: فَقلت: يَا رَسُول الله إلاَّ آل فلَان فَإِنَّهُم كَانُوا أسعدوني فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَا بُد من أَن أسعدهم. قَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: أسعدت الْمَرْأَة صاحبتها إِذا قَامَت فِي نياحة مَعهَا تراسلها فِي نياحتها، والإسعاد خَاص فِي هَذَا الْمَعْنى بِخِلَاف المساعدة فَإِنَّهَا عَامَّة فِي جَمِيع الْأُمُور. قَوْله: (فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا) ، يَعْنِي: سكت وَلم يرد عَلَيْهَا بِشَيْء، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: اذهبي فأسعديها. قَالَت: فَذَهَبت فأسعدتها ثمَّ جِئْت فَبَايَعت. وَهُوَ معنى قَوْلهَا: فَانْطَلَقت وَرجعت، يَعْنِي: انْطَلَقت وأسعدت تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي أسعدتها هِيَ ثمَّ رجعت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبايعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لأم عَطِيَّة فِي إسعاد تِلْكَ الْمَرْأَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَحْمُول على الترخيص لأم عَطِيَّة خَاصَّة، وللشارع أَن يخص من شَاءَ من الْعُمُوم، وَقيل: فِيهِ نظر إلاَّ إِن ادّعى أنَّ الَّتِي ساعدتها لم تكن أسلمت، وَجه النّظر أَن تَحْلِيل شَيْء من الْمُحرمَات لَا يخْتَص بِهِ وَأَيْضًا أخرج ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث ابْن عَبَّاس. قَالَ: لما أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النِّسَاء فبايعهن أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا الْآيَة. قَالَت خَوْلَة بنت حَكِيم: يَا رَسُول الله إِن أبي وَأخي مَاتَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَإِن فُلَانَة أسعدتني وَقد مَاتَ أَخُوهَا وَأخرج التِّرْمِذِيّ من طَرِيق سعد بن حَوْشَب عَن أم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة أَسمَاء بنت يزِيد. قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله إِن بني فلَان أسعدوني على عمي، وَلَا بُد من قضائهن، فَأبى. قَالَت: فراجعته مرَارًا فَأذن لي ثمَّ لم أنُج بعد، وَأخرج أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق مُصعب بن نوح. قَالَ: أدْركْت عجوزا لنا كَانَت فِيمَن بَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: فَأخذ علينا أَن لَا ننحن. فَقَالَت الْعَجُوز: يَا نَبِي الله إِن نَاسا كَانُوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وَأَنَّهُمْ قد أَصَابَتْهُم مُصِيبَة فَأَنا أُرِيد أَن أسعدهم قَالَ: اذهبي فكافئيهم. قَالَت: فَانْطَلَقت فكافأتهم ثمَّ أَنَّهَا أَتَت فَبَايَعته قلت: فبهذه الْأَحَادِيث اسْتدلَّ بعض الْمَالِكِيَّة على جَوَاز النِّيَاحَة، وَأَن الْمحرم مِنْهَا مَا كَانَ مَعَه شَيْء من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة من شقّ جيب وخمش خد وَنَحْو ذَلِك، وَالصَّوَاب: أَن النِّيَاحَة حرَام مُطلقًا، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء، وَالْجَوَاب الَّذِي هُوَ أحسن الْأَجْوِبَة وأقربها أَن يُقَال: إِن النَّهْي ورد أَولا للتنزيه، ثمَّ لما تمت مبايعة النِّسَاء وَقع التَّحْرِيم، فَيكون الْإِذْن الَّذِي وَقع لمن ذكر فِي الْحَالة الأولى ثمَّ وَقع التَّحْرِيم وَورد الْوَعيد الشَّديد فِي أَحَادِيث كَثِيرَة، وَالله أعلم. فَإِن قلت: فِي حَدِيث الْبَاب فقبضت يَدهَا، وَهُوَ يُعَارض حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور قبل هَذَا؟ قلت: قد ذكرنَا هُنَاكَ أَن المُرَاد بِالْقَبْضِ التَّأَخُّر عَن الْقبُول جمعا بَين الْحَدِيثين فَافْهَم.
3984 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبِي قَالَ سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ عَنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 21) قَال: إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ الله لِلنِّسَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي بعض مَا فِيهَا، وَعبد الله بن مُحَمَّد المسندي، ووهب هُوَ ابْن جرير يروي عَن أَبِيه جرير بن حَازِم، وَالزُّبَيْر بِضَم الزَّاي ابْن خريت، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَسُكُون الْبَاء آخر الْحُرُوف وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق مر فِي سُورَة الْأَنْفَال.
قَوْله: (فِي مَعْرُوف) ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ النوح، وَقيل: لَا تَخْلُو امْرَأَة بِغَيْر ذِي محرم، وَقيل: لَا تخمش وَجههَا وَلَا نشق جيبا وَلَا تَدْعُو ويلاً وَلَا تنشد شعرًا. وَقيل: الطَّاعَة لله وَلِرَسُولِهِ. وَقيل: فِي كل أَمر فِيهِ رشدهن، وَقيل: هُوَ عَام فِي كل مَعْرُوف أَمر الله تَعَالَى بِهِ. قَوْله: (للنِّسَاء) ، أَي: على النِّسَاء. قيل: وعَلى الرِّجَال أَيْضا. فَمَا وَجه التَّخْصِيص بِهن؟ أُجِيب: بِأَن مَفْهُوم اللقلب مَرْدُود.
4984 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حدَّثناهُ قَالَ حدَّثني أبُو إدْرِيسَ سَمِعَ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ رَضِي الله عنهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أتُبَايِعُونِي عَلَى(19/232)
أنْ لَا تُشْرِكُوا بِالله شَيْئا وَلا تَزْنُوا وَلا تَسْرِفُوا وَقَرَأَ آيَةَ النِّساءِ وَأكْثَرُ لَفْظِ سُفْيَانَ قَرَأَ الآيَةَ: {فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} وَمَنْ أصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَعُوْقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أصَابَ مِنْهَا شَيْئا مِنْ ذالِكَ فَسَتَرَهُ الله فَهُوَ إلَى الله إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تخفى، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَأَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْخَولَانِيّ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة الشَّامي، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي بَاب، مُجَرّد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (حدّثنَاهُ) هُوَ من تَقْدِيم الِاسْم على الْفِعْل التَّقْدِير: حَدثنَا الزُّهْرِيّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي يُرِيد أَن يذكرهُ قَوْله: (قَرَأَ الْآيَة) يَعْنِي: بِدُونِ لفظ النِّسَاء، وللكشميهني. قَرَأَ فِي الْآيَة، وَالْأولَى أوجه. قَوْله: (وَمن أصَاب مِنْهَا) أَي: من الْأَشْيَاء الَّتِي توجب الْحَد، وللكشميهني. وَمن أصَاب من ذَلِك.
تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي الآيَةِ
أَي: تَابع سُفْيَان عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه مُسلم أَولا عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ ثمَّ أخرجه عَن عبد بن حميد أخبرنَا عبد الرَّزَّاق أخبرناه معمر عَن الزُّهْرِيّ ثمَّ قَالَ بِهَذَا الْإِسْنَاد وَزَاد فِي الحَدِيث: فَتلا آيَة النِّسَاء {أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا} (الممتحنة: 21) الْآيَة قَوْله: (فِي الْآيَة) أَي: فِي تِلَاوَة الْآيَة.
5984 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حدَّثنا هَارُون بنُ مَعْرُوفٍ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ قَالَ وَأخْبَرَنِي ابنُ جُرَيْجٍ أنَّ الحَسَنْ بنَ مُسْلِمٍ أخْبَرَهُ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ شَهِدْتُ الصَّلاةَ يَوْمَ الفِطَرِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ الله عَنْهُمْ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيها قَبْلَ الخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَأَنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجْلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أقْبَلَ يَشُقُهُمْ حَتَّى أتَى النِّساءَ مَعَ بِلالٍ فَقَالَ: {يَا أيُّهَا النبيُّ إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبَايْعَنَكَ عَلَى أنْ لَا يُشْرِكْنَ بَالله شَيْئا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُنَّ وَلا يأتِينَ بِبُهْتَانٍ يفْتَرينَهُ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وَأرْجُلِهِنَّ} (الممتحنة: 21) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّها ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ أنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَة لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُها نَعَمْ يَا رَسُولَ الله لَا يَدْرِي الحَسَنُ مَنْ هِيَ قَالَ فَتَصَدَّقْنَ وَبَسَطَ بِلالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الفَتْحَ وَالخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن الملقب بصاعقة. وَهَارُون بن مَعْرُوف أَبُو عَليّ الْبَغْدَادِيّ روى عَنهُ مُسلم فِي مَوَاضِع، وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَالْحسن بن مُسلم بن بناق الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث مضى فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب موعظة الإِمَام النِّسَاء يَوْم الْعِيد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أنتن على ذَلِك) يُخَاطب بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء الَّتِي أَتَى إلَيْهِنَّ (على ذَلِك) أَي: على الْمَذْكُور فِي الْآيَة. قَوْله: (لَا يدْرِي الْحسن) أَي: حسن بن مُسلم الرَّاوِي. قَوْله: (فتصدقن) ، يحْتَمل أَن يكون مَاضِيا. وَيحْتَمل أَن يكون أمرا. قَوْله: (فَجعلْنَ) من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (الْفَتْح) بِفَتْح الْفَاء وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالخاء الْمُعْجَمَة الخواتيم الْعِظَام، وَقيل: حلق، من فضَّة لَا فص فِيهَا.
16 - ( {سُورَةُ الصَّفِّ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الصَّفّ سمي بِهِ لقَوْله تَعَالَى: {يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا} وَتسَمى: سُورَة الحواريين، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة بِلَا خلاف، وَذكر بَان النَّقِيب عَن ابْن بشار أَنَّهَا مَكِّيَّة. وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد التغابن وَقبل الْفَتْح، وَهِي سَبْعمِائة حرف، ومائتان وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ كلمة، وَأَرْبع عشرَة آيَة.
لم ثتبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: مِنْ أنْصَارِي إلَى الله مَنْ يَتبِعْنِي إلَى الله
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم للحواريين من أَنْصَارِي إِلَى الله} (الصَّفّ: 41) وَفَسرهُ بقوله: (من يَتبعني إِلَى الله) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: من تَبِعنِي إِلَى الله بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج نَا شَبابَة نَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مجاخد، وَقيل إِلَى بِمَعْنى: مَعَ فَالْمَعْنى، من يضيف نصرته إِلَى الله قَالَ الدَّاودِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون لله وَفِي الله.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ مَرْصُوصٌ مُلْصَقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ بِالرَّصاصِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} (الصَّفّ: 4) أَي: ملصق بعضه بِبَعْض، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر ملصق بعضه إِلَى بعض، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} مُثبت لَا يَزُول ملصق بعضه بِبَعْض. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير ابْن عَبَّاس. بالرصاص: أَي: ملصق بالرصاص بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا. قَالَه بَعضهم: وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرصاص، بِالْفَتْح والعامة تَقوله بِالْكَسْرِ. قلت: لم يذكرهُ فِي دستور اللُّغَة إلاَّ بِفَتْح الرَّاء فَقَط، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي وَقَالَ يحيى: بالرصاص، بدل قَوْله. وَقَالَ غَيره، وَيحيى هُوَ ابْن زِيَاد بن عبد الله الْفراء وَهُوَ كَلَامه فِي مَعَاني الْقُرْآن.
1 - بابٌ: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدٌ} (الصَّفّ: 6)
وَقَبله: {وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَا بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} الْآيَة. سَمَّاهُ الله أَحْمد اشتقاقا من اسْمه أَو مُبَالغَة فِي الْفَاعِل، وَالْمعْنَى: من حمدني فَأَنت أَحْمد مِنْهُ، واسْمه عِنْد أهل الْإِنْجِيل: الفار قليط، من جبال فاران: روح الْحق الَّذِي لَا يتَكَلَّم من قبل نَفسه.
26 - ( {سُورَةُ الجُمْعَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْجُمُعَة وَمر الْكَلَام فِي ضبط الْجُمُعَة وَمَعْنَاهُ فِي كتاب الصَّلَاة. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة بِلَا خلاف، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد التَّحْرِيم وَقيل: التغابن، وَهِي سَبْعمِائة وَعِشْرُونَ حرفا. وَمِائَة وَثَمَانُونَ كلمة وَإِحْدَى عشرَة آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)(19/233)
لم تثبت الْبَسْمَلَة وَلَفظ سُورَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
1 - (بابٌ قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (الْجُمُعَة: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَآخَرين مِنْهُم} فِيهِ وَجْهَان من الْإِعْرَاب: أَحدهمَا: الْخَفْض على الرَّد إِلَى الْأُمِّيين مجازه: وَفِي آخَرين. الثَّانِي: النصب على الرَّد إِلَى الْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله: (وَيُعلمهُم) أَي: وَيعلم آخَرين مِنْهُم أَي: من الْمُؤمنِينَ الَّذين يدينون بِدِينِهِ. قَوْله: (لما يلْحقُوا بهم) ، أَي: لم يدركوهم، وَلَكنهُمْ يكونُونَ بعدهمْ.
وَقَرَأَ عُمَرُ: {فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ الله}(19/234)
ثَبت هَذَا هُنَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده، وَعمر هُوَ ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح حَدثنَا روح بن عبَادَة نَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان، سَمِعت سَالم بن عبد الله بن عمر قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب.
7984 - حدَّثني عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أبِي الغَيْثِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الجُمْعَةِ: {وَآخَرَينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (الْجُمُعَة: 3) قَالَ قُلْتُ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ الله فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَألَ ثَلاثا وَفِينا سَلْمانُ الفَارِسِيُّ وَضَعَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَ الإيمانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أوْ رَجُلٌ مِنْ هاؤُلاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَآخَرين مِنْهُم} وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي الْمَدِينِيّ. وثور باسم الْحَيَوَان الْمَشْهُور. ابْن زيد الديلِي وَأَبُو الْغَيْث، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالتاء الْمُثَلَّثَة: سَالم مولى عبد الله بن مُطِيع.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا عَن عبد الله بن هِلَال وَعَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي المناقب عَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فيهمَا عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (جُلُوسًا) أَي: جالسين. قَوْله: (فَنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْجُمُعَة. {وَآخَرين} ) قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ يُرِيد أنزلت عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة من سُورَة الْجُمُعَة. قلت: التَّفْسِير بِالشَّكِّ لَا يجدي، وَالْمعْنَى: مثل رِوَايَة مُسلم نزلت عَلَيْهِ سُورَة الْجُمُعَة. فَلَمَّا قَرَأَ {وَآخَرين مِنْهُم} وَهنا كَذَلِك لما قَرَأَ: {وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم} قَالَ: قلت: من هم يَا رَسُول الله؟ وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ، قَالُوا: من هم يَا رَسُول الله؟ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ. فَقَالَ لَهُ رجل، وَفِي رِوَايَة الدَّرَاورْدِي، قيل من هم وَعند التِّرْمِذِيّ: فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله من هَؤُلَاءِ الَّذين لم يلْحقُوا بِنَا. قَوْله: (فَلم يراجعوه) وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَلم يُرَاجِعهُ أَي: فَلم يُرَاجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّائِل أَي لم يعد عَلَيْهِ جَوَابه حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا. أَي: ثَلَاث مَرَّات، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، يدل عَلَيْهِ صَرِيحًا رِوَايَة الدَّرَاورْدِي. قَالَ: فَلم يُرَاجِعهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى سَأَلَ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. قَوْله: (عِنْد الثريا) هُوَ كَوْكَب مَشْهُور. قَوْله: (رجل أَو رجال) . شكّ من سُلَيْمَان بن بِلَال بِدَلِيل الرِّوَايَة الَّتِي أوردهَا بعْدهَا من غير شكّ مُقْتَصرا على قَوْله: (لَنَالَهُ رجال من هَؤُلَاءِ) ، وَكَذَا هُوَ عِنْد مُسلم وَالنَّسَائِيّ، قَوْله: (من هَؤُلَاءِ) أَي: الْفرس، بِقَرِينَة، سلمَان الْفَارِسِي. وَقَالَ: الْكرْمَانِي أَي: الْفرس يَعْنِي الْعَجم وَفِيه نظر لَا يخفى ثمَّ إِنَّهُم اخْتلفُوا فِي آخَرين مِنْهُم فَقيل: هم التابعون وَقيل: هم الْعَجم وَقيل أبناؤهم، وَقيل: كل من كَانَ بعد الصَّحَابَة. وَقَالَ أَبُو روق جَمِيع من أسلم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أحسن مَا قيل فيهم أَنهم أَبنَاء فَارس بِدَلِيل هَذَا الحَدِيث، لَنَالَهُ رجال من هَؤُلَاءِ، وَقد ظهر ذَلِك بالعيان فَإِنَّهُم ظهر فيهم الدّين وَكثر فيهم الْعلمَاء وَكَانَ وجودهم كَذَلِك دليلاا من أَدِلَّة صدقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر أَبُو عمر: أَن الْفرس من ولد لاوذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذكر عَليّ بن كيسَان النسابة وَغَيره أَنهم من ولد فَارس بن جَابر بن يافث بن نوح، وَهُوَ أصح مَا قيل فيهم. وَقَالَ الرشاطي: فَارس الْكُبْرَى ابْن كيومرت، وَيُقَال: حيومرت بن أميم بن لاوذ، وَقيل: حيومرت بن يافث، وَقيل: هُوَ فَارس بن ناسور بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَمِنْهُم من زعم أَنهم من ولد يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: من ولد هَذَا رام بن إرفخشد ابْن سَام، وَأَنه ولد بضعَة عشر رجلا كلهم كَانَ فَارِسًا شجاعا فسموا الْفرس بالفروسية. وَقيل: إِنَّهُم من ولد بوان بن إيران بن الْأسود بن سَام، وَيُقَال لَهُم بالجزيرة الحضارمة، وبالشام: الجرامقة، وبالكوفة: الأحامرة، وبالبصرة: الأساورة، وباليمن: الْأَبْنَاء والأحرار، وَفِي كتاب (الطَّبَقَات) لصاعد: كَانَت الْفرس أول أمرهَا مُوَحدَة على دين نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَن أَتَى برداسف المشرقي إِلَى طهمورس ثَالِث مُلُوك الْفرس بِمذهب الحنفاء وهم الصابئون، فَقبله مِنْهُ وَقصر الْفرس على التشرع بِهِ فاعتقدوه جَمِيعًا نَحْو ألف سنة ومائتي سنة إِلَى أَن تمجسوا جَمِيعًا بِظُهُور زرادشت فِي زمن بستاسف ملك الْفرس حِين مضى من ملكه ثَلَاثُونَ سنة، ودعى إِلَى دين الْمَجُوسِيَّة من تَعْظِيم النَّار وَسَائِر الْأَنْوَار وَالْقَوْل: بتركيب الْعَالم من النُّور والظلام واعتقاد القدماء(19/235)
الْخَمْسَة إِبْلِيس والهيولى وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَذكر آخر فَقبل مِنْهُ بستاسف وَقَاتل الْفرس عَلَيْهِ حق انقادوا جَمِيعًا إِلَيْهِ ورفضوا دين الصابئة. واعتقدوا زرادشت نَبيا مُرْسلا إِلَيْهِم، وَلم يزَالُوا على دينه قَرِيبا من ألف سنة وَثَلَاث مائَة سنة إِلَى أَن أباد الله عز وَجل. ملكهم على عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
8984 - حدَّثنا عَبْد الله بنُ عَبْدِ الوَهَابِ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ أخْبَرَنِي ثَوْرٌ عَنْ أبِي الغَيْثِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَنَا لَهُ رِجالٌ مِنْ هاؤُلاءِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَذْكُور وَأخرجه عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب أبي مُحَمَّد الحَجبي الْبَصْرِيّ عَن عبد الْعَزِيز. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم. وَكَذَا قَالَه الكلاباذي. وَقَالَ أبي نعيم والجياني: هُوَ الدَّرَاورْدِي، وَأخرجه مُسلم عَن قُتَيْبَة عَن الدَّرَاورْدِي وَجزم بِهِ الْحَافِظ الْمزي أَيْضا.
2 - (بَابٌ: {وَإذَا رَأوْا تِجَارَةٍ} (الْجُمُعَة: 11)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الْآيَة. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر. (وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا) قَوْله: (إِلَيْهَا) ، أَي: إِلَى التِّجَارَة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: رد الْكِنَايَة إِلَى التِّجَارَة لِأَنَّهَا أهم وَأفضل، وَقَالَ ابْن عَطِيَّة: لِأَن التِّجَارَة سَبَب اللَّهْو من غير عكس. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ لِأَن الْعَطف بِأَو لَا يثنى مَعَه الضَّمِير. قلت: لَا تسلم هَذَا فَمَا الْمَانِع من ذَلِك؟ وَالْمَذْكُور شَيْئَانِ على أَنه قرىء إِلَيْهِمَا وَالْجَوَاب فِيهِ مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، تَقْدِيره: إِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ فَحذف أَحدهمَا لدلَالَة الْمَذْكُور عَلَيْهِ.
9984 - حدَّثني حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا خَالِدُ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا حُصَيْنٌ عنْ سَالِمِ بنِ أبِي الجَعْدِ وَعَنْ أبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ الله عنهُما قَالَ أقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الجُمْعَةِ وَنَحْنُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَثَارَ النَّاسُ إلاَّ اثْنا عَشَرَ رَجُلاً فَأَنْزَلَ الله: {وَإذَا رَأوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْقَضُّوا إلَيْهَا} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي بَيَان سَبَب نُزُولهَا، وَحَفْص بن عمر الحوضي، وخَالِد بن عبد الله الطَّحَّان الوَاسِطِيّ، وحصين بِضَم الْحَاء ابْن عبد الرَّحْمَن، وَأَبُو سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، وَأَبُو سُفْيَان كِلَاهُمَا رويا عَن جَابر والاعتماد على رِوَايَة سَالم، وَأَبُو سُفْيَان لَيْسَ على شَرط إِنَّمَا أخرج لَهُ مَقْرُونا.
والْحَدِيث قد مر فِي الْجُمُعَة فِي: بَاب إِذا نفر النَّاس عَن الإِمَام فِي صَلَاة الْجُمُعَة.
قَوْله: (عير) ، بِكَسْر الْعين وَهِي: الْإِبِل الَّتِي تحمل الْميرَة. قَوْله: (وثار النَّاس) ، من ثار يثور إِذا انْتَشَر وارتفع، وَالْمعْنَى: تفَرقُوا.
36 - ( {سُورَةُ المُنافِقِينَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْمُنَافِقين، وَهِي مَدَنِيَّة وَهِي سَبْعمِائة وَسِتَّة وَسَبْعُونَ حرفا، وَمِائَة وَثَمَانُونَ كلمة وَإِحْدَى عشرَة آيَة.
(بِسم الله ارحمن الرَّحِيم)
لَيْسَ فِي ثُبُوت الْبَسْمَلَة هُنَا خلاف.
1 - (بابٌ قَوْلِهِ: {إذَا جَاءَكَ المُنافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أنَّكَ لَرَسُولُ الله} إلَى {لَكَاذِبُونَ} (المُنَافِقُونَ: 1)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله} الْآيَة. هَذَا الْمِقْدَار فِي رِوَايَة أبي ذَر، وسَاق غَيره إِلَى قَوْله: {الْكَاذِبُونَ} .
0094 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجَاءٍ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنْ زَيْدٍ بنِ أرْقَمَ قَالَ كُنْتُ فِي غُزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ يَقُولُ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْقَضُّوا مِنْ(19/236)
حَوْلِهِ وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ فَذَكَرْتُ ذالِكَ لِعَمِّي أوْ لِعُمَرَ فَذَكَرَهُ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى عَبْدِ الله بنِ أُبَيٍّ وَأصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَنِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَدَّقَهُ فأصابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي البَيْتِ فَقَالَ لِي عَمِّي مَا أَرَدْتَ إلَى أنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَقْتَكَ فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} فَبَعَثَ إلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ فَقَالَ إنَّ الله قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. لِأَنَّهُ يبين سَبَب نُزُولهَا. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن آدم وَعبيد الله بن مُوسَى فهم ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْرَائِيل وَعَن عَمْرو بن خَالِد وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي داودالحراني.
قَوْله: (فِي غزَاة) ، هِيَ غَزْوَة تَبُوك على مَا وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل الْمَغَازِي أَنَّهَا غَزْوَة بني المصطلق، وَذكر أَبُو الْفرج أَنَّهَا الْمُريْسِيع سنة خمس، وَقيل: سِتّ وَقَالَ مُوسَى: سنة أَربع. قَوْله: (عبد الله بن أبي) ، ابْن سلول رَأس الْمُنَافِقين وَالِابْن الثَّانِي صفة لعبد الله فَهُوَ بِالنّصب وسلول غير منصرف لِأَنَّهُ اسْم أم عبد الله فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأَبَوَيْنِ. قَوْله: (يَقُول لَا تنفقوا) ، إِلَى قَوْله: (الْأَذَل) هُوَ كَلَام عبد الله بن أبي وَلم يقْصد الرَّاوِي بِهِ التِّلَاوَة، وَقَالَ بَعضهم: وَغلط بعض الشُّرَّاح فَقَالَ. هَذَا وَاقع فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: أَرَادَ بِهِ صَاحب (التَّلْوِيح) وَلكنه لم يقل هَكَذَا وَإِنَّمَا قَالَ. قَوْله: حَتَّى يَنْفضوا من حوله، بِكَسْر الْمِيم وجر اللَّام، وَكَذَا هُوَ فِي السَّبْعَة. قَالَ النَّوَوِيّ: وقرىء فِي الشاذ من حوله، بِالْفَتْح هَذَا الَّذِي ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) نعم قَوْله: كَذَا هُوَ فِي السَّبْعَة، فِيهِ نظر. قَوْله: (وَلَئِن رَجعْنَا) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَو رَجعْنَا. قَوْله: (لِعَمِّي أَو لعمر) ، كَذَا بِالشَّكِّ، وَفِي سَائِر الرِّوَايَات الَّتِي تَأتي: لعمى، بِلَا شكّ وَكَذَا عِنْد التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي سعيد الْأَزْدِيّ عَن زيد، وَوَقع عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه: أَن المُرَاد بِعَمِّهِ سعد بن عبَادَة وَلَيْسَ عَمه حَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ سيد قومه الْخَزْرَج، وَعم زيد بن أَرقم الْحَقِيقِيّ ثَابت بن قيس لَهُ صُحْبَة وَعَمه زوج أمه عبد الله بن رَوَاحَة خزرجي أَيْضا وَفِي كَلَام الْكرْمَانِي أَنه عبد الله بن رَوَاحَة وَهُوَ عَمه الْمجَازِي لِأَنَّهُ كَانَ فِي حجره وأنهما من أَوْلَاد كَعْب الخزرجي، وَقَالَ الغساني: الصَّوَاب عمي لَا عمر، على مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة. قَوْله: فَذكره للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: فَذكره عمي وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي ليلى عَن زيد، فَأخْبرت بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا وَقع فِي مُرْسل قَتَادَة، والتوفيق بَينهمَا أَنه يحمل على أَنه أرسل أَولا ثمَّ أخبر بِهِ بِنَفسِهِ. قَوْله: (فَكَذبنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (وَصدقه) أَي: وَصدق عبد الله بن أبي. قَوْله: (فَأَصَابَنِي هم لم يُصِبْنِي مثله قطّ) يَعْنِي: فِي الزَّمن الْمَاضِي، وَوَقع فِي رِوَايَة زُهَيْر: فَوَقع فِي نَفسه شدَّة، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي سعد الْأَزْدِيّ عَن زيد. فَوَقع على من الْهم مَا لم يَقع على أحد، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب فَرَجَعت إِلَى الْمنزل فَنمت، زَاد التِّرْمِذِيّ رِوَايَة: فَنمت كئيبا حَزينًا. وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ليلى: حَتَّى جَلَست فِي الْبَيْت مَخَافَة إِذْ رَآنِي النَّاس أَن يَقُولُوا: كذبت. قَوْله: (مَا أردْت إِلَى أَن كَذبك) بِالتَّشْدِيدِ، أَي: مَا قصدت منتهيا إِلَيْهِ. أَي: مَا حملك عَلَيْهِ قَوْله: (ومقاك) من مقته مقتا إِذا أبغضه بغضا. وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب: فلامني الْأَنْصَار، وَعند النَّسَائِيّ من طَرِيقه ولامني قومِي. قَوْله: (فَأنْزل الله) وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد ابْن كَعْب، فَإِنِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: الْوَحْي، وَفِي رِوَايَة زُهَيْر: حَتَّى أنزل الله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود عَن عُرْوَة فَبَيْنَمَا هم يَسِيرُونَ أبصروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوحى إِلَيْهِ فَنزلت، وَفِي رِوَايَة أبي سعد عَن زيد قَالَ: فَبَيْنَمَا إِنَّا أَسِير مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خَفَقت برأسي من الْهم أَتَانِي فَعَرَكَ أُذُنِي فَضَحِك فِي وَجْهي فلحقني أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَنِي فَقلت لَهُ: أبشر ثمَّ لَحِقَنِي عمر رَضِي اللهغنه ذَلِك. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُورَة الْمُنَافِقين، قَوْله: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} زَاد آدم بن أبي إِيَاس إِلَى قَوْله: هم الَّذين يَقُولُونَ: لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قَوْله: ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل.(19/237)
2 - (بابٌ: {اتَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُنَّةً يَجْتَنُّونَ بِها} (المُنَافِقُونَ: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم} أَي: اتَّخذُوا المُنَافِقُونَ أَيْمَانهم {جنَّة يجتنون بهَا} يَعْنِي: يستترون بهَا.
1094 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنْ زَيْدٍ بنِ أرْقَمَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنِ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ يَقُولُ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يَنْفَضُّوا وَقَالَ أيْضا لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْها الأذَلَّ فَذَكَرْتُ ذالِكَ نِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى عَبْدِ الله بنِ أُبَيٍّ وَأصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَّبَنِي فأصابَنِي هَم لَمْ يَصِبْنِي مِثْلُهُ قَطٌّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} (المُنَافِقُونَ: 1) إلَى قَوْلِهِ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله} (المُنَافِقُونَ: 7) إلَى قَوْلِهِ: {لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلُّ} (المُنَافِقُونَ: 8) فأرْسَلَ إلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأها عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ إنَّ الله قَدْ صَدَقَكَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث زيد بن أَرقم الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي يرْوى عَن جده أبي إِسْحَاق، وَمر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بَأنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (المُنَافِقُونَ: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ذَلِك بِأَنَّهُم} الْآيَة. قَوْله: (ذَلِك) أَشَارَ مَا وصف من حَال الْمُنَافِقين فِي النِّفَاق وَالْكذب بِالْإِيمَان، أَي ذَلِك كُله بِسَبَب أَنهم آمنُوا أَي نطقوا بِكَلِمَة الشَّهَادَة وفعلوا كَمَا يفعل من يدْخل فِي الْإِسْلَام ثمَّ كفرُوا ثمَّ ظهر كفرهم بعد ذَلِك، فطبع على قُلُوبهم حَتَّى لَا يدخلهم الْإِيمَان جَزَاء على نفاقهم فهم لَا يفقهُونَ صِحَة الْإِيمَان وإعجاز الْقُرْآن كَمَا يفهمهُ الْمُؤْمِنُونَ.
2094 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ كَعْبٍ القُرَظِيَّ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بنَ أرْقَمَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ لَمَا قَالَ عَبدُ الله بنُ أُبَيٍّ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله وَقَالَ أيْضا لَئِنْ رَجَعْنا إلَى المَدِينَةِ أخْبَرْتُ بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلامَنِي الأنْصارُ وَحَلَفَ عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ مَا قَالَ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ إلَى المَنْزِلِ فَنِمْتُ فَدَعَانِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ إنَّ الله قَدْ صَدَقَكَ وَنَزَلَ {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا} الآيَةَ. وَقَالَ ابنُ أبِي زَائِدَةَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ عَمْروٍ عنْ ابنِ أبِي لَيْلَى عَنْ زَيْدٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث زيد أخرجه عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة عَن الحكم، بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة مصغر عتبَة الْبَاب.
قَوْله: (سَمِعت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ) ، زَاد التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة. قَوْله: (أخْبرت بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ بَعضهم: أَي: على لِسَان عمي، جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل الَّذِي يُخَالف ظَاهر الْكَلَام بل الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن يُقَال: إِنَّه أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَن أنكر عبد الله بن أبي ذَلِك. قَوْله: (فدعاني) ، أَي: فطلبني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (وَقَالَ ابْن أبي زَائِدَة) ، وَهُوَ يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن زيد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ابْن أبي ليلى إِذا أطلقهُ المحدثون يعنون بِهِ عبد الرَّحْمَن، وَإِذا أطلقهُ الْفُقَهَاء يُرِيدُونَ بِهِ ابْنه مُحَمَّدًا القَاضِي الإِمَام، وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) .(19/238)
(بابٌ: {وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجْسَامُهُمْ وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِمْ كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسِبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ الله أَنى يُؤْفَكُونَ} (المُنَافِقُونَ: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا رَأَيْتهمْ} الْآيَة ... وَهِي قَوْله يأفكون. سَاقهَا الْأَكْثَرُونَ. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَإِذا رَأَيْتهمْ} إِلَى قَوْله: تسمع لقَولهم) الْآيَة قَوْله
{إِذا رَأَيْتهمْ} أَي: الْمُنَافِقين: تعجبك أجسامهم لِاسْتِوَاء خلقهَا وَحسن صورها وَطول قامتها، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ عبد الله بن أبي رجلا جسيما صَحِيحا صبيحا ذلق اللِّسَان، وَقوم من الْمُنَافِقين فِي صفته وهم رُؤَسَاء الْمَدِينَة كَانُوا يحْضرُون مجْلِس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيستندون فِيهِ وَلَهُم جهارة المناظر وفصاحة الألسن وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن حضر يعْجبُونَ بهَا كلهم، فَإِذا قَالُوا سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَولهم: قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن يَقُولُوا نسْمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} أشباح بِلَا أَرْوَاح وأجسام بِلَا أَحْلَام شبهوا فِي استنادهم وَمَا هم إِلَّا أجر أم خَالِيَة عَن الْإِيمَان، وَالْخَيْر بالخشب المسندة إِلَى الْحَائِط لِأَن الْخشب إِذا انْتفع بِهِ كَانَ فِي سقف أَو جِدَار أَو غَيرهمَا من مظان الِانْتِفَاع، وَمَا دَامَ متروكا فَارغًا غير منتفع بِهِ أسْند إِلَى الْحَائِط فشبهوا بِهِ فِي عدم الِانْتِفَاع. وَقيل: يجوز أَن يُرَاد بالخشب المسندة الْأَصْنَام المنحونة من الْخشب المسندة إِلَى الْحِيطَان، شبهوا بهَا فِي حسن صورهم وَقلة جدواهم. قَوْله: (يحسبون) ، أَي: من خبثهمْ وَسُوء ظنهم، وَقلة يقينهم كل صَيْحَة وَاقعَة عَلَيْهِم وضارة لَهُم، قَالَ مقَاتل: إِن نَادَى مُنَادِي فِي الْعَسْكَر أَو انفلتت دَابَّة أَو نشدت ضَالَّة ظنُّوا أَنهم يرادون لما فِي قُلُوبهم من الرعب. قَوْله: (هم الْعَدو) ، مُبْتَدأ وَخبر أَي: الكاملون فِي الْعَدَاوَة. قَوْله: (فَاحْذَرْهُمْ) ، أَي: فَلَا تَأْمَنهُمْ وَلَا تغتر بظاهرهم. قَوْله: (قَاتلهم الله) دَعَا عَلَيْهِم باللعن والخزي. قَوْله: (أَنى يؤفكون) أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق، تَعَجبا من جهلهم وضلالهم.
397 - (حَدثنَا عَمْرو بن خَالِد حَدثنَا زُهَيْر بن مُعَاوِيَة حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق. قَالَ سَمِعت زيد بن أَرقم: قَالَ خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سفر أصَاب النَّاس فِيهِ شدَّة فَقَالَ عبد الله بن أبي لأَصْحَابه لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا من حوله وَقَالَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته فَأرْسل إِلَى عبد الله بن أبي فَسَأَلَهُ فاجتهد يَمِينه مَا فعل قَالُوا كذب زيد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَقع فِي نَفسِي مِمَّا قَالُوا شدَّة حَتَّى أنزل الله عز وَجل تصديقي فِي إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ فَدَعَاهُمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليَسْتَغْفِر لَهُم فلووا رُؤْسهمْ. وَقَوله خشب مُسندَة قَالَ كَانُوا رجَالًا أجمل شَيْء) هَذَا أَيْضا طَرِيق آخر فِي حَدِيث زيد بن أَرقم أخرجه عَن عَمْرو بن خَالِد الْجَزرِي عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَق عَمْرو السبيعِي قَوْله " شدَّة " أَي من جِهَة قلَّة الزَّاد قَوْله " فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته " قَالَ الْكرْمَانِي قَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم فَذكرت لِعَمِّي فَذكره للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي بَينهمَا تناف ثمَّ أجَاب أَن الْإِخْبَار أَعم من أَن يكون بِنَفسِهِ أَو بالواسطة قلت الْإِخْبَار هُنَا لَا يدل على الْعُمُوم مَعَ قَوْله فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد ذكرنَا الْجَواب عَن هَذَا عَن قريب قَوْله " فاجتهد يَمِينه " أَي بذل وَسعه فِي الْيَمين وَبَالغ فِيهَا قَوْله " مَا فعل " أَي مَا قَالَ أطلق الْفِعْل على القَوْل لِأَن الْفِعْل يعم الْأَفْعَال والأقوال قَوْله " كذب زيد رَسُول الله " بِالتَّخْفِيفِ قَوْله " فلووا بِالتَّشْدِيدِ " أَي حركوا وقرىء بِالتَّخْفِيفِ أَيْضا قَوْله " خشب مُسندَة " تَفْسِير لقَوْله تعجبك أجسامهم وَوَقع هَذَا فِي نفس الحَدِيث وَلَيْسَ مدرجا وَأخرجه أَبُو نعيم من وَجه آخر عَن عَمْرو بن خَالِد شيخ البُخَارِيّ فِيهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَة وخشب بِضَمَّتَيْنِ فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ وَالْأَعْمَش بِإِسْكَان الشين قَوْله " قَالَ كَانُوا رجَالًا أجمل شَيْء " أَي قَالَ الله تَعَالَى كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة مَعَ أَنهم كَانُوا رجَالًا من أجمل النَّاس وَأَحْسَنهمْ وَقد ذكرنَا وَجه الشّبَه فِيهِ عَن قريب -(19/239)
4 - (بابٌ قَوْلِهِ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (المُنَافِقُونَ: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا} إِلَى آخر الْآيَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا: يسْتَغْفر لكم رَسُول الله) إِلَى قَوْله: {وهم يَسْتَكْبِرُونَ} قَوْله: (وَإِذا قيل لَهُم) ، أَي: لِلْمُنَافِقين. قَوْله: (لووا رؤوسهم) أَي: أمالوها وأعرضوا بِوُجُوهِهِمْ إِظْهَارًا للكراهية. قَرَأَ نَافِع: لووا رؤوسهم بتَخْفِيف الْوَاو وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (يصدون) أَي: يعرضون عَمَّا دعوا إِلَيْهِ {هم مستكبرون} لَا يَسْتَغْفِرُونَ.
حَرَّكُوا اسْتَهْزَؤُا بِالنبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا تَفْسِير قَوْله: {لووا رؤوسهم} وهم: يستهزئون ويستكبرون ويعرضون عَن الْإِجَابَة.
وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ لَوَيْتُ
أَي: يقْرَأ قَوْله: {لووا} بتَخْفِيف الْوَاو وَهِي قِرَاءَة نَافِع كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (من لويت) يُشِير بِهِ أَنه من بَاب لوى، معتل الْعين وَاللَّام، وَمَعْنَاهُ: أمال. يُقَال: لويت رَأْسِي أَي: أملتها.
4094 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عنِ أبِي إسْحَاقَ عَنْ زَيْدٍ بنِ أرْقَمَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنِ أُبَيٍّ ابنَ سَلولَ يَقُولُ لَا تُنْفِضُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلَئِنْ رَجَعْنا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلُّ فَذَكَرْتُ ذالِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَهُ عَمِّي للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَدَّقَهُمْ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأرْسَلَ إلَى عَبْدِ الله بنِ أُبَيٍّ وَأصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا وَكَذَّبَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأصَابَنِي غَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي: وَقَالَ عَمِّي مَا أرَدْت إلَى أنْ كَذَّبكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَقَتَكَ فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ الله} (المُنَافِقُونَ: 1) وَأَرْسَلَ إلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأها: وَقَالَ إنَّ الله قَدْ صَدَّقَكَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. وَقد اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّيَاق الَّذِي أوردهُ خُصُوص مَا ترْجم بِهِ، وَأجِيب بِأَن عَادَته جرت بِالْإِشَارَةِ إِلَى أصل الحَدِيث، وَوَقع فِي مُرْسل الْحسن: فَقَالَ قوم لعبد الله بن أبي لَو أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْتَغْفر لَك فَجعل يلوي رَأسه، فَنزلت: وَهَا أَنْت قد رَأَيْت أخرج البُخَارِيّ حَدِيث زيد بن أَرقم من خَمْسَة طرق وَترْجم على رَأس كل حَدِيث مِنْهَا: أَرْبَعَة مِنْهَا عَن أبي إِسْحَاق عَن زيد بن أَرقم وَوَاحِد عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَنهُ فَفِي ثَلَاثَة، روى أَبُو إِسْحَاق بالعنعنة، وَفِي وَاحِد بِالسَّمَاعِ، وَفِي ثَلَاثَة رَوَاهُ إِسْرَائِيل عَن جده أبي إِسْحَاق. وَفِي وَاحِد زُهَيْر ابْن مُعَاوِيَة عَنهُ.
5 - (بابٌ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ إنَّ الله لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (المُنَافِقُونَ: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {سَوَاء عَلَيْهِم} إِلَى آخر الْآيَة، كَذَا للأكثرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر {سَوَاء عَلَيْهِم استغفرت لَهُم} الْآيَة أَي: سَوَاء عَلَيْهِم الاسْتِغْفَار وَعَدَمه لأَنهم لَا يلتفتون إِلَيْهِ وَلَا يعتدون بِهِ لِأَن الله لَا يغْفر لَهُم.
399 - (حَدثنَا عَليّ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ عَمْرو سَمِعت جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غزَاة. قَالَ سُفْيَان مرّة فِي جَيش فَكَسَعَ رجل من الْمُهَاجِرين رجلا من الْأَنْصَار فَقَالَ الْأنْصَارِيّ يَا للْأَنْصَار وَقَالَ الْمُهَاجِرِي يَا للمهاجرين فَسمع ذَاك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ(19/240)
مَا بَال دَعْوَى جَاهِلِيَّة قَالُوا يَا رَسُول الله كسع رجل من الْمُهَاجِرين رجلا من الْأَنْصَار فَقَالَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة فَسمع بذلك عبد الله بن أبي فَقَالَ فَعَلُوهَا أما وَالله لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل فَبلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ عمر فَقَالَ يَا رَسُول الله دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعه لَا يتحدث النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه وَكَانَت الْأَنْصَار أَكثر من الْمُهَاجِرين حِين قدمُوا الْمَدِينَة ثمَّ إِن الْمُهَاجِرين كَثُرُوا بعد قَالَ سُفْيَان فحفظته من عَمْرو قَالَ عَمْرو سَمِعت جَابِرا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله فَسمع بذلك عبد الله بن أبي إِلَى قَوْله الْأَذَل فوجهه أَن الْآيَة الْمَذْكُورَة نزلت فِيهِ فَمن هَذَا الْوَجْه تَأتي الْمُطَابقَة وَقد أخرج عبد بن حميد من طَرِيق قَتَادَة وَمن طَرِيق مُجَاهِد وَمن طَرِيق عِكْرِمَة أَنَّهَا نزلت فِي عبد الله بن أبي وَعلي هُوَ ابْن عبد الله بن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن الْحميدِي وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عَمْرو وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عبد الْجَبَّار وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور قَوْله " فِي غزَاة " وَهِي غَزْوَة بني المصطلق قَالَه ابْن إِسْحَاق قَوْله " فَكَسَعَ " من الكسع وَهُوَ ضرب الدبر بِالْيَدِ أَو بِالرجلِ وَيُقَال هُوَ ضرب دبر الْإِنْسَان بصدر قدمه وَنَحْوه وَالرجل الْمُهَاجِرِي هُوَ جَهْجَاه بن قيس وَيُقَال ابْن سعيد الْغِفَارِيّ وَكَانَ مَعَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُود فرسه وَالرجل الْأنْصَارِيّ هُوَ سِنَان بن وبرة الْجُهَنِيّ حَلِيف الْأَنْصَار قَوْله " يَا للْأَنْصَار " اللَّام فِيهِ لَام الاستغاثة وَهِي مَفْتُوحَة وَمَعْنَاهَا أغيثوني قَوْله " مَا بَال دَعْوَى جَاهِلِيَّة " أَي مَا شَأْنهَا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة إِنْكَار وَمنع عَن قَول يَا لفُلَان وَنَحْوه قَوْله " دَعُوهَا " أَي اتْرُكُوا هَذِه الْمقَالة وَهِي دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وَهِي قبل الْإِسْلَام قَوْله " فَإِنَّهَا مُنْتِنَة " بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من النتن أَي أَنَّهَا كلمة قبيحة خبيثة وَكَذَا ثَبت فِي بعض الرِّوَايَات قَوْله " فَقَالَ فَعَلُوهَا " أَي أفعلوها بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام فحذفت أَي فعلوا الأثرة أَي تركناهم فِيمَا نَحن فِيهِ فأرادوا الاستبداد بِهِ علينا وَفِي مُرْسل قَتَادَة فَقَالَ رجل مِنْهُم عَظِيم النِّفَاق مَا مثلنَا وَمثلهمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِل سمن كلبك يَأْكُلك قَوْله " دَعه " أَي اتركه قَوْله " لَا يتحدث النَّاس " بِرَفْع يتحدث على الِاسْتِئْنَاف وَيجوز الْكسر على أَنه جَوَاب قَوْله دَعه قَوْله " فحفظته من عَمْرو " كَلَام سُفْيَان أَي حفظت الحَدِيث من عَمْرو بن دِينَار وَعَمْرو قَالَ سَمِعت جَابِرا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْغُزَاة -
6 - (بابٌ قَوْلُهُ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا وَيَتَفَرَّقُوا وَلله خَزَائِنُ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (المُنَافِقُونَ: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هم الَّذين} إِلَى آخِره، هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى قَوْله: {حَتَّى يَنْفضوا} قَوْله: (ويتفرقوا) ، لَيْسَ من الْقُرْآن بل هُوَ تَفْسِير يَنْفضوا وَسقط فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ الصَّوَاب.
6094 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْد الله. قَالَ حدَّثني إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ. قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ الفَضْلِ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ فَكَتَبَ إلَى زَيْدُ بنُ أرْقَمَ وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْنِي يَذْكُرُ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأنْصَارِ وَشَكَّ ابنُ الفَضْلِ فِي أبْنَاءِ أبْنَاءِ(19/241)