عِنْد الْبَيْت، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: حَتَّى وضعهما. قَوْله: (عِنْد دوحة) ، بِفَتْح الدَّال والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهِي الشَّجَرَة الْعَظِيمَة. قَوْله: (فَوق زَمْزَم) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَوق الزمزم. قَوْله: (وَفِي أَعلَى الْمَسْجِد) ، أَي: فِي أَعلَى مَكَان الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لم يكن حِينَئِذٍ بنى الْمَسْجِد. قَوْله: (جرابا) ، بِكَسْر الْجِيم، وَهُوَ الَّذِي يتَّخذ من الْجلد يوضع فِيهِ الزوادة. قَوْله: (وسقاء) بِالنّصب، عطف على: جراباً، وَهُوَ بِكَسْر السِّين، وَهُوَ قربَة صَغِيرَة، وَفِي رِوَايَة تَأتي: شنة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون، وَهِي الْقرْبَة العتيقة الْيَابِسَة. قَوْله: (ثمَّ قفى) ، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء من التقفية، وَهِي الْأَعْرَاض، والتولي. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: معنى قفَّى ولَّى، يَعْنِي: ولَّى رَاجعا إِلَى الشَّام، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: فَانْصَرف إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَى أَهله بِالشَّام وَترك إِسْمَاعِيل وَأمه عِنْد الْبَيْت. قَوْله: (مُنْطَلقًا) نصب على الْحَال. قَوْله: (فتبعته أم إِسْمَاعِيل) وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (فاتبعته) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (فَأَدْرَكته بِكَذَا) . قَوْله: (إِذن لَا يضيعنا) ، وَفِي رِوَايَة عَطاء: (لن يضيعنا) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (حسبي) ، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن كثير، فَقَالَت: (رضيت بِاللَّه) . قَوْله: (عِنْد الثَّنية) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ فِي الْجَبَل كالعقبة، وَقيل: هُوَ الطَّرِيق العالي فِيهِ، وَقيل: أَعلَى المسيل فِي رَأسه. قَوْله: (رب) ، يَعْنِي: يَا رب، ويروى: (رَبِّي) ، بِالْيَاءِ هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني: (رب) ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (رَبنَا) ، كَمَا فِي الْقُرْآن، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذِي زرع عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوى إِلَيْهِم وارزقهم من الثمرات لَعَلَّهُم يشكرون} (إِبْرَاهِيم: 73) . قَوْله: (بواد غير ذِي زرع) ، هُوَ مَكَّة. قَوْله: (الْمحرم) ، وصف الْبَيْت بالمحرم لِأَن الله تَعَالَى حرم التَّعَرُّض لَهُ والتهاون بِهِ، وَلِأَنَّهُ حرم على الطوفان، أَي: منع مِنْهُ. قَوْله: (ليقيموا الصَّلَاة عِنْد بَيْتك الْمحرم) يتَعَلَّق بقوله: أسكنت أَي: مَا أسكنتهم بِهَذَا الْوَادي الْخَلَاء البلقع إلاَّ ليقيموا الصَّلَاة عِنْد بَيْتك الْمحرم. قَوْله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس) أَي: من أَفْئِدَة النَّاس، وَهِي جمع فؤاد، وَهِي الْقُلُوب، وَقد يعبر عَن الْقلب بالفؤاد، وَقيل: جمع: وُفُود من النَّاس وَلَو قَالَ: أَفْئِدَة للنَّاس، لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، قَالَه سعيد بن جُبَير. قَوْله: (تهوي إِلَيْهِم) ، أَي: تقصدهم وتسكن إِلَيْهِم. قَوْله: (وارزقهم من الثمرات) ، أَي: الَّتِي تكون فِي بِلَاد الرِّيف حَتَّى يُحِبهُمْ النَّاس. فَقبل الله دعاءه، وَأنْبت لَهُم بِالطَّائِف سَائِر الْأَشْجَار لَعَلَّهُم يشكرون النِّعْمَة. قَوْله: (حَتَّى إِذا نفد مَا فِي السقاء) أَي: حَتَّى إِذا فرغ المَاء الَّذِي فِي السقاء. قَوْله: (وعطش ابْنهَا) أَي: إِسْمَاعِيل، بِكَسْر الطَّاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قيل: كَانَ عمره فِي ذَلِك الْوَقْت سنتَيْن، وَقيل: كَانَ لَبنهَا انْقَطع. قَوْله: (يتلوى) أَي: يتمرغ وينقلب ظهرا لبطن ويميناً وَشمَالًا، واللوى: وجع فِي الْبَطن. قَوْله: (وَقَالَ: يتلبط) بِالْبَاء الْمُوَحدَة قبل الطَّاء الْمُهْملَة أَي: يتمرغ وَيضْرب بِنَفسِهِ الأَرْض، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ أَن يُحَرك لِسَانه وشفتيه كَأَنَّهُ يَمُوت. قَالَ الْخَلِيل: لبط فلَان بفلان الأَرْض إِذا صرعه صرعاً عنيفاً، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: اللبط بِالْيَدِ والخبط بِالرجلِ، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب، فَلَمَّا ظمأ إِسْمَاعِيل جعل يضْرب الأَرْض بعقبيه، وَفِي رِوَايَة معمر والكشميهني يتلمظ بِالْمِيم والظاء الْمُعْجَمَة. قَوْله: (ثمَّ اسْتقْبلت الْوَادي) ، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب، والوادي يَوْمئِذٍ عميق. قَوْله: (تنظر) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (فَهَبَطت) بِفَتْح الْبَاء. قَوْله: (ثمَّ سعت سعي الْإِنْسَان المجهود) ، أَي: الَّذِي أَصَابَهُ الْجهد، وَهُوَ الْأَمر الْمشق. قَوْله: (سبع مَرَّات) ، وَفِي حَدِيث أبي جهم: وَكَانَ ذَلِك أول من سعى بَين الصَّفَا والمروة. قَوْله: (فَقَالَت: صه) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وبكسرها منونة، وَالْمعْنَى: لما سَمِعت الصَّوْت قَالَت لنَفسهَا: صه، أَي: أسكتي. وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن جريج: فَقَالَت: أَغِثْنِي إِن كَانَ عنْدك خير. قَوْله: (ثمَّ تسمعت) ، أَي: تكلفت فِي السماع وَاجْتَهَدت فِيهِ، وَهُوَ من بَاب التفعل وَمَعْنَاهُ التَّكَلُّف. قَوْله: (قد أسمعت) بِفَتْح التَّاء من الإسماع. قَوْله: (غواث) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَتَخْفِيف الْوَاو وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، قيل: وَلَيْسَ فِي الْأَصْوَات: فعال، بِفَتْح أَوله غَيره، وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي ضم أَوله، وَحكى ابْن قرقول كسر أَوله أَيْضا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر الضَّم، وَالْفَتْح للأصيلي، وَضَبطه الدمياطي بِالضَّمِّ، وَضَبطه ابْن التِّين بِالْفَتْح، وعَلى كل حَال هُوَ مُشْتَقّ من الْغَوْث، وَجَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن كَانَ عنْدك غواث اغثني. قَوْله: (فَإِذا هِيَ بِالْملكِ) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن جريج: فَإِذا جِبْرِيل، وَفِي حَدِيث عَليّ عِنْد الطَّبَرِيّ بِإِسْنَاد حسن: فناداها جِبْرِيل، فَقَالَ: من أَنْت؟ قَالَت: أَنا هَاجر أم ولد إِبْرَاهِيم، قَالَ: فَإلَى من وكلكما؟ قَالَت: إِلَى الله.(15/256)
قَالَ: وكلكما إِلَى كافٍ. قَوْله: (فبحث بعقبه) ، الْبَحْث طلب الشَّيْء فِي التُّرَاب وَكَأَنَّهُ حفر بِطرف رجله. قَوْله: (أَو قَالَ بجناحه) ، شكّ من الرَّاوِي، قَالَ الْكرْمَانِي: وَمعنى: قَالَ، بجناجه، أَشَارَ بِهِ، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع، فَقَالَ: بعقبه هَكَذَا، وغمز عقبه على الأَرْض، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: فركض جِبْرِيل بِرجلِهِ، وَفِي حَدِيث عَليّ: ففحص الأَرْض بإصبعه فنبعت زَمْزَم. قَوْله: (حَتَّى ظهر المَاء) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: فَفَاضَ المَاء، وَفِي رِوَايَة ابْن قَانِع: فانبثق أَي: تفجر. قَوْله: (وَجعلت تحوضه) ، أَي: تَجْعَلهُ كالحوض لِئَلَّا يذهب المَاء، وَفِي رِوَايَة ابْن قَانِع: فدهشت أم إِسْمَاعِيل فَجعلت تحفر، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني من رِوَايَة ابْن نَافِع: تحفن، بالنُّون بدل الرَّاء، وَالْأول أصوب، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: فَجعلت تفحص الأَرْض بِيَدِهَا. قَوْله: (وَتقول بِيَدِهَا) ، هَكَذَا هُوَ حِكَايَة فعلهَا، وَهَذَا من إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل. قَوْله: (عينا معينا) ، قد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَفِي رِوَايَة ابْن قَانِع: كَانَ المَاء ظَاهرا. قَوْله: (لَا تخافوا الضَّيْعَة) أَي: الْهَلَاك، ويروى: لَا تخافي، وَفِي حَدِيث أبي جهم: لَا تخافي أَن ينْفد المَاء، ويروى: لَا تخافي على أهل هَذَا الْوَادي ظمأً وَأَنَّهَا عين تشرب بهَا ضيفان الله، وَزَاد فِي حَدِيث أبي جهم: فَقَالَت: بشرك الله بِخَير. وَفِيه: أَن الْملك يتَكَلَّم مَعَ غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (يَبْنِي هَذَا الْغُلَام) ، كَذَا هُوَ بِغَيْر ذكر الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (يبنيه) ، بِإِظْهَار الْمَفْعُول. قَوْله: (كالرابية) ، وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع. قَوْله: (رفْقَة) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْفَاء وَفتح الْقَاف، وَهِي: الْجَمَاعَة المختلطون سَوَاء كَانُوا فِي سفرهم أَو لَا. قَوْله: (من جرهم) ، بِضَم الْجِيم وَالْهَاء، حَيّ من الْيمن وَهُوَ ابْن قحطان بن عَابِر بن شالخ بن إرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ جرهم وَأَخُوهُ قطورا أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ عِنْد تبلبل الألسن، وَكَانَ رَئِيس جرهم مضاض بن عَمْرو، وَرَئِيس قطورا السميدع، وَيُطلق على الْجَمِيع: جرهم، وَقيل: إِن أصلهم من العمالقة، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: وَكَانَت جرهم يَوْمئِذٍ بوادٍ قريب من مَكَّة. قَوْله: (أَو أهل بَيت من جرهم) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (مُقْبِلين) ، حَال من الإقبال، وَهُوَ التَّوَجُّه إِلَى الشَّيْء قَوْله: (من طَرِيق كداء) ، بِفَتْح الْكَاف وبالمد وَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَاعْترض بَعضهم بِأَن كداء بِالْفَتْح وَالْمدّ: مَحل فِي أَعلَى مَكَّة وَأما الَّذِي فِي أَسْفَلهَا بِضَم الْكَاف وَالْقصر، وَالصَّوَاب هُنَا هَذَا: يَعْنِي: بِالضَّمِّ وَالْقصر، ورد بِأَنَّهُ: لَا مَانع من أَن يدخلوها من الْجِهَة الْعليا وينزلوا من الْجِهَة السُّفْلى. قَوْله: (عائفاً) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالفاء، وَهُوَ الَّذِي يتَرَدَّد على المَاء ويحوم حوله وَلَا يمْضِي عَنهُ. قَالَه الْخَلِيل. والعائف: الرجل الَّذِي يعرف مَوَاضِع المَاء من الأَرْض. قَوْله: (لعهدنا) ، اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد. قَوْله: (بِهَذَا الْوَادي) ، ظرف مُسْتَقر لَا لَغْو. قَوْله: (وَمَا فِيهِ مَاء) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فأرسلوا جَريا) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الرَّسُول، وَيُطلق على الْوَكِيل والأجير، وَسمي بذلك لِأَنَّهُ يجْرِي مجْرى مرسله أَو مُوكله، أَو لِأَنَّهُ يجْرِي مسرعاً فِي حَوَائِجه. قَوْله: (أَو جريين) ، شكّ من الرَّاوِي، هَل أرْسلُوا وَاحِدًا أَو اثْنَيْنِ؟ وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: (فأرسلوا رَسُولا) . قَوْله: (فَإِذا هم بِالْمَاءِ) ، كلمة إِذا للمفاجأة. فَإِن قلت: الْمَذْكُور: جرى، بِالْإِفْرَادِ أَو جريين بالتثنة، فَمَا وَجه الْجمع؟ قلت: يحْتَمل كَون نَاس آخَرين مَعَ الجري من الخدم والأتباع. قَوْله: (فَأَقْبَلُوا) ، أَي: جرهم أَقبلُوا إِلَى جِهَة المَاء. قَوْله: (وَأم إِسْمَاعِيل عِنْد المَاء) ، جملَة حَالية أَي: كائنة عِنْد المَاء مُسْتَقِرَّة. قَوْله: (فقالو) ، أَي: جرهم قَالُوا بعد حضورهم عِنْد أم إِسْمَاعِيل. قَوْله: (فَقَالَت: نعم) ، أَي: قَالَت أم إِسْمَاعِيل: نعم أَذِنت لكم بالنزول. قَوْله: (فألفى ذَلِك) ، بِالْفَاءِ أَي: وجد. قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: وجد ذَلِك الجرهمي أم إِسْمَاعِيل محبَّة للمؤانسة بِالنَّاسِ، وَقَالَ بَعضهم: فألفى ذَلِك: أَي وجد، وَأم إِسْمَاعِيل، بِالنّصب على المفعولية، وَلم يبين فَاعل: وجد، من هُوَ كَأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَفِي على الْكرْمَانِي حَتَّى جعل فَاعل: ألفى، الجرهمي، وَالْفَاعِل لقَوْله: فألفى هُوَ قَوْله: ذَلِك، وَأم إِسْمَاعِيل مَفْعُوله، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى اسْتِئْذَان جرهم وَالْمعْنَى: فَأتى اسْتِئْذَان جرهم بالنزول أم إِسْمَاعِيل، وَالْحَال أَنَّهَا تَحت الْأنس لِأَنَّهَا كَانَت وَحدهَا وَإِسْمَاعِيل صَغِير والوحشة متمكنة، وَنَظِير مَا ذكرنَا من هَذَا نَظِير مَا فِي قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا ألفاه السَّحر عِنْدِي إلاَّ نَائِما، وَفَسرهُ ابْن الْأَثِير وَغَيره: أَي مَا أَتَى عَلَيْهِ السَّحر إلاَّ وَهُوَ نَائِم، يَعْنِي: بعد صَلَاة اللَّيْل، وَالْفِعْل فِيهِ للسحر. قَوْله: (الْأنس) ، بِضَم الْهمزَة وَيجوز بِالْكَسْرِ أَيْضا لِأَن الْأنس بِالْكَسْرِ جِنْسهَا. قَوْله: (وشب الْغُلَام) ، أَي: إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي حَدِيث أبي جهم: وَنَشَأ(15/257)
إِسْمَاعِيل بَين ولدانهم، أَي ولدان جرهم. قَوْله: (وَتعلم الْعَرَبيَّة مِنْهُم) أَي: من جرهم، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه تَضْعِيف لقَوْل من روى: أَنه أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقع ذَلِك عِنْد الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: (أول من نطق بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيل) . قلت: لَيْسَ فِيهِ تَضْعِيف ذَلِك لِأَن الْمَعْنى: أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ من أَوْلَاد إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن إِبْرَاهِيم وَأَهله كلهم لم يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ فالأولية أَمر نسبي، فبالنسبة إِلَيْهِم هُوَ أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جرهم. قَوْله: (وأنفسهم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أنفسهم، بِلَفْظ الْمَاضِي أَي: رغبهم فِيهِ وَفِي مصاهرته، يُقَال: أنفسني فلَان فِي كَذَا، أَي: رغبني فِيهِ (وأعجبهم) أَي: أعجبهم فِي نفاسته، وَقَالَ بَعضهم: أنفسهم، بِفَتْح الْفَاء بِلَفْظ أفعل التَّفْضِيل: من النفاسة أَي: كثرت رغبتهم فِيهِ انْتهى. قلت: قَوْله: أفعل التَّفْضِيل، غلط وَمَا هُوَ إلاَّ فعل ماضٍ من الإنفاس، وَالْفَاعِل فِيهِ: إِسْمَاعِيل، وَهُوَ عطف على: تعلم. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) : وَحَدِيث إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه تعلم الْعَرَبيَّة وأنفسهم أَي: رغبهم وأعجبهم وَصَارَ عِنْدهم نفيساً، يُقَال: أنفسني فِي كَذَا: أَي: رغبني فِيهِ. قَوْله: (زوجوه إمرأة مِنْهُم) ، قَالَ السُّهيْلي: اسْمهَا جداء بنت سعد. وَعَن إِبْنِ إِسْحَاق: أَن اسْمهَا عمَارَة بنت سعد بن أُسَامَة، وَفِي حَدِيث أبي جهم: أَنَّهَا بنت صدي، وَلم يسمهَا، وَقَالَ عمر بن شبة: اسْمهَا حَيَّة بنت أسعد بن عملق، وَعَن ابْن إِسْحَاق: أَن إِسْمَاعِيل خطبهَا إِلَى أَبِيهَا فَزَوجهَا مِنْهُ. قَوْله: (وَمَاتَتْ أم إِسْمَاعِيل) يَعْنِي: فِي خلال ذَلِك، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: فَقدم إِبْرَاهِيم وَقد مَاتَت هَاجر، عَلَيْهَا السَّلَام، وَكَانَ عمرها تسعين سنة، فدفنها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْحجر. قَوْله: (يطالع تركته) ، بِكَسْر الرَّاء أَي: يتفقد حَال مَا تَركه هُنَاكَ، والتركة، بِكَسْر الرَّاء وسكونها: بِمَعْنى المتروكة، وَالْمرَاد بهَا أَهله، والمطالعة النّظر فِي الْأُمُور، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا يشْعر بِأَن الذَّبِيح إِسْحَاق، لِأَن الْمَأْمُور بذَبْحه كَانَ عِنْدَمَا بلغ السَّعْي، وَقد قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: إِن إِبْرَاهِيم تَركه رضيعاً وَعَاد إِلَيْهِ وَهُوَ متزوج، فَلَو كَانَ هُوَ الْمَأْمُور بذَبْحه لذكر فِي الحَدِيث أَنه عَاد إِلَيْهِ فِي خلال ذَلِك بَين زمَان الرَّضَاع وَالتَّزْوِيج، وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نفي مَجِيئه مرّة أُخْرَى قبل مَوتهَا وتزوجه. قلت: بل لَيْسَ فِيهِ نفي الْمَجِيء أصلا، بل فِيهِ الْمَجِيء مَرَّات، فَإِنَّهُ جَاءَ فيخبر أبي جهم: كَانَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يزور هَاجر كل شهر على الْبراق، يَغْدُو غدْوَة فَيَأْتِي مَكَّة ثمَّ يرجع فيقيل فِي منزله بِالشَّام. قَوْله: (خرج يَبْتَغِي لنا) ، أَي: يطْلب لنا الرزق، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: وَكَانَ عَيْش إِسْمَاعِيل الصَّيْد، يخرج فيتصيد، وَفِي حَدِيث أبي جهم: وَلَكِن إِسْمَاعِيل يرْعَى مَاشِيَة وَيخرج متنكباً قوسه فَيَرْمِي الصَّيْد. قَوْله: (ثمَّ سَأَلَهَا عَن عيشهم) ، وَزَاد فِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب، وَقَالَ: هَل عنْدك من ضِيَافَة؟ قَوْله: (فَقَالَت: نَحن فِي ضيق وَشدَّة) ، وَفِي حَدِيث أبي جهم: فَقَالَ لَهَا: هَل من منزل؟ فَقَالَت: لَاها الله إِذا. قَالَ: فَكيف عيشكم؟ قَالَ: فَذكرت جهداً، فَقَالَت: أما الطَّعَام فَلَا طَعَام، وَأما الشَّاء فَلَا نحلب إلاَّ الْمصر، أَي: الشخب، وَأما المَاء فعلى مَا ترى من الغلظ. الشخب: بِفَتْح الشين وَسُكُون الْخَاء المعجمتين وبباء مُوَحدَة: السيلان. قَوْله: (يُغير عتبَة بَابه) ، العتبة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي أُسْكُفَّة الْبَاب، وَهِي هَهُنَا كِنَايَة عَن الْمَرْأَة. قَوْله: (جَاءَنَا شيخ كَذَا وَكَذَا) ، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: كالمستخف بِشَأْنِهِ. قَوْله: (فسألنا عَنْك) ، بِفَتْح اللَّام. قَوْله: (ذَاك أبي) أَي: ذَاك الَّذِي هُوَ أبي إِبْرَاهِيم. قَوْله: (وَتزَوج مِنْهُم أُخْرَى) ، أَي: تزوج من جرهم امْرَأَة أُخْرَى، ذكر الْوَاقِدِيّ: أَن اسْمهَا سامة بنت مهلهل، وَقيل: اسْمهَا عَاتِكَة، وَقيل: بشامة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبشين مُعْجمَة خَفِيفَة: بنت مهلهل بن سعد بن عَوْف، وَقيل: اسْمهَا نجدة بنت الْحَارِث بن مضاض، وَحكى ابْن سعد عَن إِبْنِ إِسْحَاق: أَن اسْمهَا رعلة بنت يشجب بن يعرب بن يوذان بن جرهم، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ: أَن اسْمهَا سيدة بنت مضاض، وَقَالَ الجواني: اسْمهَا هَالة بنت الْحَارِث بن مضاض، وَيُقَال: سلمى، وَيُقَال: الحنفاء. قَوْله: (نَحن بِخَير وسعة) ، وَفِي حَدِيث أبي جهم: نَحن فِي خير عَيْش بِحَمْد الله، وَنحن فِي لبن كثير وَلحم كثير وَمَاء طيب. قَوْله: (أللهم بَارك لَهُم فِي اللَّحْم وَالْمَاء) . وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: أللهم بَارك لَهُم فِي طعامهم وشرابهم. قَوْله: (فهما لَا يخلوان عَلَيْهِمَا) أَي: فاللحم وَالْمَاء لَا يعْتَمد عَلَيْهِمَا أحد بِغَيْر مَكَّة إلاَّ لم يوافقاه، وَالْغَرَض: أَن المداومة على اللَّحْم وَالْمَاء لَا يُوَافق الأمزجة وينحرف المزاج عَنْهُمَا إلاَّ فِي مَكَّة فَإِنَّهُمَا يوافقانه، وَهَذَا من جملَة بركاتها وَأثر دُعَاء إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا يخلوان، بِصِيغَة التَّثْنِيَة، يُقَال: خلوت بالشَّيْء وأختليت: إِذا لم تخلط بِهِ غَيره، وَيُقَال: أخلى الرجل(15/258)
اللَّبن إِذا غَيره، وَفِي حَدِيث أبي جهم: لَيْسَ أحد يَخْلُو على اللَّحْم وَالْمَاء بِغَيْر مَكَّة إلاَّ اشْتَكَى بَطْنه. قَوْله: (هَل أَتَاكُم من أحد؟) وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل وجد ريح أَبِيه، فَقَالَ لامْرَأَته: هَل جَاءَك أحد؟ قَالَت: نعم شيخ أحسن النَّاس وَجها وَأطيب ريحًا. قَوْله: (أَن تثبت عتبَة بابك) وَفِي حَدِيث أبي جهم: فَإِنَّهَا فلاح الْمنزل. قَوْله: (أَن أمسكك) زَاد فِي حَدِيث أبي جهم: وَلَقَد كنت عَليّ كَرِيمَة، وَلَقَد ازددت عَليّ كَرَامَة، فَولدت لإسماعيل عشرَة ذُكُور، قلت: ولدت اثْنَي عشر رجلا، وهم: نابت وقيدار وإذميل وميشى ومسمع وذوما وماش وآزر وفطور ونافش وظميا وقيدما، وَكَانَت لَهُ ابْنة تسمى: نسمَة. قَوْله: (يبري) ، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة (والنبل) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: السهْم، قبل أَن يركب فِيهِ نصله وريشه، وَهُوَ السهْم الْعَرَبِيّ. قَوْله: (دوحة) ، وَهِي الَّتِي نزل إِسْمَاعِيل وَأمه تحتهَا أول قدومهما، وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع، من رواء زَمْزَم. قَوْله: (كَمَا يصنع الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْولد بالوالد) ، يَعْنِي من الاعتناق والمصافحة وتقبيل الْيَد. قَوْله: (إِن الله أَمرنِي بِأَمْر) قيل: كَانَ عمر إِبْرَاهِيم فِي ذَلِك الْوَقْت مائَة سنة، وَعمر إِسْمَاعِيل ثَلَاثِينَ سنة. قَوْله: (وتعينني؟) قَالَ: وأعينك. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فأعينك، بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: إِن الله قد أَمرنِي أَن تعينني عَلَيْهِ، قَالَ: إِذن إفعل. بِالنّصب. قَوْله: (أكمة) بفتحين، وَهِي: الرابية. قَوْله: (على مَا حولهَا) ، يتَعَلَّق بقوله: ابْني. قَوْله: (رفعا الْقَوَاعِد) جمع قَاعِدَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس: الْقَوَاعِد الَّتِي رَفعهَا إِبْرَاهِيم كَانَت قَوَاعِد الْبَيْت قبل ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُجَاهِد عِنْد ابْن أبي حَاتِم: أَن الْقَوَاعِد كَانَت فِي الأَرْض السَّابِعَة، وَفِي حَدِيث أبي جهم: فَبلغ إِبْرَاهِيم من الأساس أس آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَجعل طوله فِي السَّمَاء تِسْعَة أَذْرع وَعرضه فِي الأَرْض، يَعْنِي: دوره ثَلَاثِينَ ذِرَاعا، كَانَ ذَلِك بذراعهم، زَاد أَبُو جهم: وَأدْخل الْحجر فِي الْبَيْت، وَكَانَ قبل ذَلِك زرباً لغنم إِسْمَاعِيل، وَإِنَّمَا بناه بحجارة بَعْضهَا على بعض وَلم يَجْعَل لَهُ سقفاً، وَجعل لَهُ بَابا وحفر لَهُ بِئْرا عِنْد بَابه خزانَة للبيت يلقِي فِيهَا مَا يهدى للبيت، وَفِي حَدِيثه أَيْضا: أَن الله أوحى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن اتبع السكينَة، فحلقت على مَوضِع الْبَيْت كَأَنَّهَا سَحَابَة فحفراه: يُرِيد أَن أساس آدم الأول. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا هناد بن السّري حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك عَن خَالِد بن عرْعرة: أَن رجلا قَامَ إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أَلا تُخبرنِي عَن الْبَيْت أهوَ أول بَيت وضع فِي الأَرْض؟ فَقَالَ: لَا، وَلكنه أول بَيت وضع للبركة مقَام إِبْرَاهِيم، وَمن دخله كَانَ آمنا، وَإِن شِئْت أَنْبَأتك كَيفَ بني: إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن ابنِ لي بَيْتا فِي الأَرْض. قَالَ: فَضَاقَ إِبْرَاهِيم بذلك ذرعاً، فَأرْسل الله السكينَة، وَهِي ريح خجوج وَلها رأسان، فَاتبع أَحدهمَا صَاحبه حَتَّى انْتَهَت إِلَى مَكَّة فتطوت على مَوضِع الْبَيْت كطي الْجحْفَة، وَأمر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِر السكينَة، فَبنى إِبْرَاهِيم وَبَقِي حجر، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لإسماعيل: إئتني حجرا كَمَا أَمرك الله. قَالَ: فَانْطَلق الْغُلَام يلْتَمس لَهُ حجرا، فَأَتَاهُ بِهِ فَوَجَدَهُ قد ركب الْحجر الْأسود فِي مَكَانَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَت، من أَتَاك بِهَذَا الْحجر؟ قَالَ: أَتَانِي بِهِ من لَا يتكل على بنائك، جَاءَ بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السَّمَاء فأتماه. وَفِي رِوَايَة السّديّ: لما بنيا الْقَوَاعِد فبلغا مَكَان الرُّكْن، قَالَ إِبْرَاهِيم لإسماعيل: يَا بني أطلب لي حجرا حسنا أَضَعهُ هَهُنَا. قَالَ: يَا أبتِ إِنِّي كسلان. قَالَ: عَليّ ذَلِك، فَانْطَلق يطْلب لَهُ حجرا،، وَجَاء جِبْرِيل بِالْحجرِ الْأسود من الْهِنْد، وَكَانَ أَبيض ياقوتة بَيْضَاء مثل الثغامة، وَكَانَ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط بِهِ من الْجنَّة فاسودَّ من خَطَايَا النَّاس، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيل بِحجر فَوَجَدَهُ عِنْد الرُّكْن، فَقَالَ: يَا أَبَت! من جَاءَك بِهَذَا؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ من هُوَ أنشط مِنْك، فَبَيْنَمَا هما يدعوان الْكَلِمَات الَّتِي ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيم ربه فَقَالَ: {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} (الْبَقَرَة: 721) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا عَمْرو بن رَافع حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن مُعَاوِيَة عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد عَن عليان ابْن أَحْمَر: أَن ذَا القرنين قدم مَكَّة فَوجدَ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل بنيا قَوَاعِد الْبَيْت من خَمْسَة أجبل، فَقَالَ: مَا لَكمَا ولأرضي؟ فَقَالَا: نَحن عَبْدَانِ مأموران، أمرنَا بِبِنَاء هَذِه الْكَعْبَة، قَالَ: فهاتا الْبَيِّنَة على مَا تدعيان، فَقَامَتْ خَمْسَة أكبش، فَقُلْنَ: نَحن نشْهد أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَبْدَانِ مأموران، أمرا بِبِنَاء هَذِه الْكَعْبَة، فَقَالَ: قد رضيت وسلمت، ثمَّ مضى. وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي (تَارِيخ مَكَّة) : أَن ذَا القرنين طَاف مَعَ إِبْرَاهِيم بِالْبَيْتِ. قلت: ريح خجوج أَي: شَدِيدَة الْمُرُور فِي غير اسْتِوَاء. قَوْله: (فتطوت) ، وَفِي رِوَايَة: (فتطوقت) . قَوْله: (مثل الثغامة) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة والغين الْمُعْجَمَة، وَهِي طير أَبيض كَبِير. قَوْله: (من خَمْسَة(15/259)
أجبل) ، وَعند ابْن أبي حَاتِم: بناه من خَمْسَة أجبل: حراء وثبير ولبنان وجبل الطّور وجبل الْخمر، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: جبل الْخمر يَعْنِي: بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة هُوَ: جبل بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن ابْن جريج عَن عَطاء: أَن آدم بناه من خَمْسَة أجبل: حراء وطور زيتا وطور سينا والجودي ولبنان، وَكَانَ ربضه من حراء، وَمن طَرِيق مُحَمَّد بن طَلْحَة اليتهمي: قَالَ: سَمِعت أَنه أسس الْبَيْت من سِتَّة أجبل: من أبي قبيس وَمن الطّور وَمن قدس وَمن ورقان وَمن رضوى وَمن أحد. قلت: حراء، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَالْمدّ وَهُوَ جبل من جبال مَكَّة مَعْرُوف، وثبير، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة جبل من جبال مَكَّة، و: لبنان، بِضَم اللاَّم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: جبل بِالشَّام من أعظم الْجبَال وَأَصله ممتد من الْحجاز إِلَى الرّوم، و: جبل الطّور، على مسيرَة سَبْعَة أَيَّام من مصر وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي كلم الله تَعَالَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَلَيْهِ. و: طور زينا: جبل بالقدس، و: الجودي، جبل مطل على جَزِيرَة ابْن عمر على دجلة فَوق الْموصل، و: طور سينا، اخْتلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ جبل بِقرب أَيْلَة، وَقيل: هُوَ جبل بِالشَّام، و: قدس، بِفَتْح الْقَاف إثنان: قدس الْأَبْيَض وَقدس الْأسود، وهما جبلان عِنْد ورقان، وورقان على وزن قطران: جبل أسود بَين العرج والرويثة على يَمِين الْمَار من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة. و: العرج، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم: قَرْيَة جَامِعَة من أَعمال الْفَرْع على أَيَّام من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة. و: الرُّوَيْثَة، بِضَم الرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: وَهِي قَرْيَة جَامِعَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة سَبْعَة عشر فرسخاً، و: رضوى، من جبل تهَامَة بَينه وَبَين الْمَدِينَة سبع مراحل وَهُوَ من الينبع على يَوْم. قَوْله: (جَاءَ بِهَذَا الْحجر) ، أَرَادَ بِهِ الْحجر الْمَشْهُور بمقام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: حَتَّى ارْتَفع الْبناء وَضعف الشَّيْخ عَن نقل الْحِجَارَة، فَقَامَ على حجر الْمقَام، وَزَاد فِي حَدِيث عُثْمَان: وَنزل عَلَيْهِ الرُّكْن وَالْمقَام، فَكَانَ إِبْرَاهِيم يقوم على الْمقَام يَبْنِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعهُ لَهُ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَمَّا بلغ الْموضع الَّذِي فِيهِ الرُّكْن وَضعه يَوْمئِذٍ مَوْضِعه، وَأخذ الْمقَام فَجعله لاصقاً بِالْبَيْتِ. قَوْله: (حَتَّى يدورا) ، من الدوران، ويروى: (حَتَّى يدورا) ، من التدوير.
5633 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا أَبُو عامِرٍ عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ ابنُ نَافِعٍ عنْ كَثِيرِ بنِ كَثير عَن سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَمَّا كانَ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وبَيْنَ أهْلِهِ مَا كانَ خَرَج بإسْمَاعِيلَ وأُمِّ إسْمَاعِيلَ ومَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيها مَاءٌ فجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا حَتَّى قَدِمَ مَكِّةَ فوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إِلَى أهْلِهِ فاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ حتَّى لَمَّا بَلَغُوا كدَاءً نادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ يَا إبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنا قَالَ إِلَى الله قالَتْ رَضِيتُ بِاللَّه قَالَ فرَجَعَتْ فجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ ويَدِرُّ لبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا حتَّى لما فَنِي الماءُ قالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أحدا قَالَ فَذَهَبتْ فصَعِدَتِ الصَّفا فنَظَرَتْ ونَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أحَداً فلَمْ تُحِسُّ أحدَاً فلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِي سَعَتْ وأتَتِ المَرْوَةَ فَفَعَلَتْ ذلِكَ أشْوَاطاً ثُمَّ قالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ مَا فَعَلَ تَعْنِي الصَّبِيَّ فذَهَبَتْ فنَظَرَتْ فإذَا هُوَ عَلَى حالِهِ كأنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ فلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُها فقالَتْ لوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أحدَاً فذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا فنَظَرَتْ ونَظَرَتْ فلَمْ تُحِسَّ أحَدَاً حتَّى أتَمَّتْ سبْعاً ثُمَّ قالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ مَا فَعَلَ فإذَا هِيَ بِصَوْتٍ فَقالَتْ أغِثْ إنْ كانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فإذَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقال بِعقِبِهِ هَكَذَا وغَمَزَ عَقِبَهُ علَى الأرْضِ قَالَ فانْبَثَقَ المَاءُ فدَهشَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ قَالَ فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ تَرَكَتْهُ كانَ المَاءُ ظِاهِرَاً قَالَ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا(15/260)
قَالَ فَمَرَّ ناسٌ مِنْ جرهم بِبَطْنِ الوَادِي فإذَا هُمْ بِطَيْرٍ كأنَّهُمْ أنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إلاَّ علَى ماءٍ فبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فنَظَرَ فإذَا هُمْ بالمَاءِ فأتاهُمْ فأخْبَرَهُمْ فأتَوْا إلَيْهَا فَقَالُوا يَا أُمَّ إسْمَاعِيلَ أتأذَنِينَ لَنَا أنْ نَكُونَ مَعَكِ أوْ نَسْكُنَ مَعَكِ فبَلَغَ ابنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمْ امْرَأةٍ قَالَ ثُمَّ إنَّهُ بدَا لإبْرَاهِيمَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لأهْلِهِ إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجاءَ فسَلَّمَ فقالَ أيْنَ إسْمَاعِيلُ فقالَتِ امْرَأتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ قَالَ قُولِي لَهُ إذَا جاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بابِكَ فلَمَّا جاءَ أخْبَرَتْهُ قَالَ أنْتِ ذَاكِ فاذْهَبِي إِلَى أهْلِكِ قَالَ ثُمَّ إنَّهُ بَدَا لإبْرَاهِيمَ فَقَالَ لأِهْلِهِ إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجاءَ فَقَالَ أيْنَ إسْمَاعِيلُ فقالَتِ امْرَأتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ فقالَتْ ألاَ تَنْزِلُ فتَطْعَمَ وتَشْرَبَ فَقَالَ وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ قالَتْ طَعَامُنا اللَّحْمُ وشَرَابُنَا الماءُ قالَ الَّلهُمَّ بارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وشَرَابِهِمْ قَالَ فَقَالَ أبُو القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برَكَةٌ بِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثُمَّ إنَّهُ بدَا لإبْرَاهِيمَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لأِهْلِهِ إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي فَجاءَ فَوَافَقَ إسْمَاعِيلَ مِنْ ورَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلاً لَهُ فَقَالَ يَا إسْمَاعِيلُ إنَّ رَبَّكَ أمَرَنِي أنْ أبْنِيَ لَهُ بَيْتَاً قَالَ أطِعْ رَبَّكَ قَالَ إنَّهُ أمَرَنِي أنْ تُعِينَنِي علَيْهُ قَالَ إذَنْ أفْعَل أوْ كَمَا قَالَ قَالَ فقاما فجَعَلَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويَقُولاَنِ رَبَّنَا تقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ قَالَ حتَّى ارْتَفَعَ البِنَاءُ وضَعُفَ الشَّيْخُ علَى نَقْلِ الحِجَارَةِ فقامَ علَى حَجَرِ المقَامِ فجَعَلَ يُناوِلُهُ الحِجَارَةَ ويَقُولانِ ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمَيعُ العَلِيمُ. .
هَذَا طَرِيق ثَالِث لحَدِيث ابْن عَبَّاس، وَعبد الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَأَبُو عَامر هُوَ الْعَقدي، وَإِبْرَاهِيم بن نَافِع المَخْزُومِي الْمَكِّيّ.
قَوْله: (وَبَين أَهله) ، يَعْنِي: سارة لما ولدت هَاجر إِسْمَاعِيل، وَقد تقدّمت قصَّتهَا. قَوْله: (مَا كَانَ) ، أَي: من جنس الْخُصُومَة الَّتِي هِيَ مُعْتَادَة بَين الضرائر. قَوْله: (لما بلغُوا) ، أَي: نادته حِين الْبلُوغ. قَوْله: (كداء) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ مَعَ الْخلاف فِي ضَبطه. قَوْله: (كَأَنَّهُ ينشغ) ، بالنُّون والشين والغين المعجمتين: وَهُوَ الشهيق من الصَّدْر حَتَّى كَاد يبلغ بِهِ الغشي، أَي: يَعْلُو نَفسه كَأَنَّهُ شهيق من شدَّة مَا يرد عَلَيْهِ. قَوْله: (فَلم تقرها نَفسهَا) ، من الْإِقْرَار فِي الْمَكَان، و: نَفسهَا، مَرْفُوع بِأَنَّهُ فَاعله. قَوْله: (فَقَالَ بعقبه) ، أَي: أَشَارَ بِهِ، وَهَذَا من الْمَوَاضِع الَّتِي يسْتَعْمل فِيهَا: قَالَ، فِي غير مَعْنَاهُ. قَوْله: (فانبثق) ، أَي: انخرق وتفجر، ومادته بَاء مُوَحدَة وثاء مُثَلّثَة وقاف. قَوْله: (وتحفر) ، بالراء، ويروى: تحفن، بالنُّون أَي: تملأ الْكَفَّيْنِ. قَوْله: (فَبلغ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَأَذنت فَكَانَ كَذَا فَبلغ. قَوْله: (بدا) ، أَي: ظهر لإِبْرَاهِيم التَّوَجُّه إِلَى هَاجر. قَوْله: (بركَة) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ بركَة، أَو بِالْعَكْسِ، أَي: زَمْزَم بركَة أَو فِي طَعَام مَكَّة وشرابها بركَة، وَسِيَاق الْكَلَام يدل عَلَيْهِ قَوْله: (عتبَة بابك) ، ويروى: (بَيْتك) . قَوْله: (على نقل الْحِجَارَة) ، ويروى: (عَن نقل الْحِجَارَة) .
6633 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسُولَ الله أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأرْضِ أوَّلَ قَالَ المَسْجِدُ الحَرَامُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أيٌّ قَالَ المسْجِدُ الأقْصَى قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أرْبَعُونَ سنَةً ثُمَّ أيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فإنَّ الفَضْلَ فيهِ. (الحَدِيث 6633 طرفه فِي: 5243) .(15/261)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْمَسْجِد الْحَرَام) لِأَنَّهُ بناه إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمرَاد بالترجمة الَّتِي فِي قَوْله: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . وَالْبَاب الْمُجَرّد الَّذِي بعده قد قُلْنَا: إِنَّه كالفصل، فالاعتبار للباب المترجم دون الْمُجَرّد.
وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ هُوَ ابْن يزِيد يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك بن طَارق التَّيْمِيّ عداده فِي أهل الْكُوفَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عمر بن حَفْص بن غياث فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان} (ص: 03) . وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي كَامِل وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَعَن عَليّ بن حجر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن بشر بن خَالِد وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَعَن عَليّ بن مَيْمُون.
قَوْله: (أول) ، بِضَم اللاَّم ضمة بِنَاء لقطعه عَن الْإِضَافَة مثل: قبل وَبعد، وَيجوز فتحهَا إِذا كَانَ غير منصرف، وَيجوز بِالنّصب إِذا كَانَ منصرفاً، وَالْمعْنَى: أَي: مَسْجِد وضع أَولا للصَّلَاة؟ قَوْله: (ثمَّ أَي) ، بِالتَّنْوِينِ، أَي: ثمَّ أَي مَسْجِد بني بعد الْمَسْجِد الْحَرَام؟ قَوْله: (قَالَ) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بني بعده الْمَسْجِد الْأَقْصَى، قيل لَهُ: الْأَقْصَى لبعد الْمسَافَة بَينه وَبَين الْكَعْبَة. وَقيل: لِأَنَّهُ لم يكن وَرَاءه مَوضِع عبَادَة وَقيل: لبعده عَن الأقذار والخبائث، فَإِنَّهُ مقدس أَي: مطهر. قَوْله: (كم بَينهمَا؟) أَي: بَين بِنَاء الْمَسْجِد الْحَرَام وَبِنَاء الْمَسْجِد الْأَقْصَى. قَوْله: (أَرْبَعُونَ سنة) ، أَي: بَينهمَا أَرْبَعُونَ سنة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ إِشْكَال، لِأَن إِبْرَاهِيم بنى الْكَعْبَة وَسليمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بنى بَيت الْمُقَدّس، وَبَينهمَا أَكثر من ألف سنة، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ: إِن الْآيَة الْكَرِيمَة والْحَدِيث لَا يدلان على أَن إِبْرَاهِيم وَسليمَان، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، ابتدآ وضعهما، بل كَانَ تجديداً لما أسس غَيرهمَا، وَقد رُوِيَ أَن أول من بنى الْبَيْت آدم، وعَلى هَذَا فَيجوز أَن يكون غَيره من وَلَده رفع بَيت الْمُقَدّس بعده بِأَرْبَعِينَ عَاما، ويوضحه من ذكره ابْن هِشَام فِي كِتَابه (التيجان) : إِن آدم لما بنى الْبَيْت أمره جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْمَسِيرِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَأَن يبنيه فبناه ونسك فِيهِ، وَقَالَ ابْن كثير: أول مَا جعله مَسْجِدا إِسْرَائِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أَمر سُلَيْمَان بتجديده وإحكامه، لَا أَنه أول من بنى. وَذكر الثَّعْلَبِيّ: أَن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بني إِسْرَائِيل أَن يتخذوا مَسْجِدا فِي صَعِيد بَيت الْمُقَدّس، فَأخذُوا فِي بنائِهِ لإحدى عشرَة سنة مَضَت من ملك دَاوُد، وَكَانَ دَاوُد ينْقل لَهُم الْحِجَارَة على عَاتِقه، فَأوحى الله إِلَى دَاوُد: إِنَّك لست بانيه وَلَكِن لَك ابْن أملكهُ بعْدك اسْمه سُلَيْمَان فأقضي إِتْمَامه على يَدَيْهِ، وَرُوِيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار: أَن سُلَيْمَان بنى بَيت الْمُقَدّس على أساس قديم كَانَ اسسه سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر أَبُو مُحَمَّد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ فِي (تَارِيخ بَيت الْمُقَدّس) : أَن سُلَيْمَان اشْترى أرضه بسبعة قناطير ذَهَبا، وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون الْمَسْجِد الْأَقْصَى أول مَا وضع بناءه بعض أَوْلِيَاء الله تَعَالَى قبل دَاوُد وَسليمَان، ثمَّ بناه دَاوُد وَسليمَان فزادا فِيهِ ووسعاه فأضيف إِلَيْهِمَا بِنَاؤُه، قَالَ: وَقد ينْسب هَذَا الْمَسْجِد إِلَى إيلياء فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ بانيه أَو غَيره، وَلست أحقق لِمَ أضيف إِلَيْهِ. وَفِي قَوْله: فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ بانيه نظر، لِأَن إيليا اسْم الْبَلَد، فأضيف إِلَى الْمَسْجِد كَمَا يُقَال: مَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد مَكَّة، وَقَالَ أَبُو عبيد فِي (مُعْجم الْبلدَانِ) : إيلياء مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس فِيهَا ثَلَاث لُغَات: مد آخِره وقصره وَحذف الْيَاء الأولى. قَوْله: (بعد) ، بِضَم الدَّال، أَي: بعد إِدْرَاك وَقت الصَّلَاة. قَوْله: (فَصله) ، الْهَاء فِيهِ للسكت، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فصل، بِلَا هَاء. قَوْله: (فَإِن الْفضل فِيهِ) أَي: فِي فعل الصَّلَاة إِذا حضر وَقتهَا.
38 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو مولى الْمطلب عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طلع لَهُ أحد فَقَالَ هَذَا جبل يحبنا ونحبه اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَإِنِّي أحرم مَا بَين لابتيها) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله أَن إِبْرَاهِيم وَعَمْرو بن أبي عَمْرو وَاسم أبي عَمْرو ميسرَة مولى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب الْقرشِي المَخْزُومِي أَبُو عُثْمَان الْمدنِي والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي آخر حَدِيث مطول فِي بَاب من غزا بصبي للْخدمَة قَوْله طلع لَهُ أَي ظهر لَهُ جبل أحد قَوْله يحبنا إِمَّا حَقِيقَة وَإِمَّا مجَازًا وَمن بَاب الْإِضْمَار أَي يحبنا أَهله قَوْله لابتيها تَثْنِيَة لابة بتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي الْحرَّة وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ(15/262)
(رَوَاهُ عبد الله بن زيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ وَأخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب بركَة صَاع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن مُوسَى عَن وهيب عَن عَمْرو بن يحيى عَن عباد بن تَمِيم الْأنْصَارِيّ عَن عبد الله بن يزِيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى آخِره -
8633 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله أنَّ ابنِ أبِي بَكْرٍ أخْبَرَ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ألَمْ تَرَيْ أنَّ قَوْمَكِ بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ألاَ تَرُدُّهَا علَى قَوَاعِدَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بالكُفْرِ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ لَئِنْ كانَتْ عائِشَةُ سَمِعَتْ هذَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أُرَى أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيانِ الحِجْرَ إلاَّ أنَّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق، وَابْن أبي بكر هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر أَخُو الْقَاسِم قتل بِالْحرَّةِ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب فضل مَكَّة وبنيانها، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وقَالَ إسْمَاعِيلُ عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْر
إِسْمَاعِيل بن أبي أويس واسْمه عبد الله إِبْنِ أُخْت مَالك بن أنس، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن إِسْمَاعِيل روى هَذَا الحَدِيث وَبَين ابْن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي فِيهِ هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيث إِسْمَاعِيل فِي التَّفْسِير.
9633 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرَنَا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَمْرِو بنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقَيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُمْ قَالُوا يَا رسولَ الله كيْفَ نُصَلِّي علَيْكَ فَقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُولُوا أللَّهُمَّ صلِّ علَى مُحَمَّدٍ وأزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتِهِ كمَا صَلَّيْتَ على آلِ إبْرَاهِيمَ وبارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ علَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. (الحَدِيث 9633 طرفه فِي: 0636) .
مطابقته للتَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله: (كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم) وَعَمْرو بن سليم، بِضَم السِّين: الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف، وَأَبُو حميد، بِضَم الْحَاء عبد الرَّحْمَن السَّاعِدِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَوَات عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي وَعَن أبي السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن عمار بن طالوت.
قَوْله: (أللهم صل على مُحَمَّد) ، مَعْنَاهُ: عظمه فِي الدُّنْيَا بإعلاء ذكره وَإِظْهَار دَعوته وإبقاء شَرِيعَته، وَفِي الْآخِرَة بتشفيعه فِي أمته وتضعيف أجره ومثوبته، وَقيل: لما أمرنَا الله بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَلم نبلغ قدر الْوَاجِب فِي ذَلِك أحلنا على الله وَقُلْنَا: أللهم صلِّ على مُحَمَّد. قَوْله: (كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم) هَذَا لَيْسَ من بَاب إِلْحَاق النَّاقِص بالكامل، بل من بَاب بَيَان حَال مَا لَا يعرف بِمَا يعرف وَمَا عرف من الصَّلَاة على إِبْرَاهِيم وَآله وَأَنه لَيْسَ إلاَّ فِي قَوْله تَعَالَى: رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم(15/263)
أهل الْبَيْت: أَنه حميد مجيد، قيل: سِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: على إِبْرَاهِيم، بِدُونِ لفظ الْآل، وَأجِيب: أَن لفظ الْآل مقحم. قَوْله: (وَبَارك على مُحَمَّد) أَي: أثبت لَهُ وأدم مَا أَعْطيته من التشريف والكرامة، وَهُوَ من برك الْبَعِير إِذا ناخ من مَوضِع وَلَزِمَه، وَتطلق الْبركَة أَيْضا على الزِّيَادَة، وَالْأَصْل الأول.
0733 - حدَّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ ومُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَا حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ حدَّثنا أبُو قُرَّةَ مُسْلِمُ بنُ سالِمٍ الهَمْدَانِيُّ قَالَ حدَّثنِي عَبْدُ الله بنُ عِيسَى سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ فقالَ أَلاَ أهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ بَلَى فأهْدِهَا لي فَقَالَ سألَنا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْنَا يَا رسولَ الله كَيْفَ الصَّلاةُ علَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ فإنَّ الله قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ قَالَ قُولُوا أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَّيْتَ على إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ أللَّهُمَّ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلىَ آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على إِبْرَاهِيم) فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَقيس بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي، وَعبد الله بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، واسْمه يسَار، وَكَعب بن عجْرَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وبالراء: البلوي، حَلِيف الْأَنْصَار شهد بيعَة الرضْوَان، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين بِالْمَدِينَةِ وَله خمس وَسَبْعُونَ سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن آدم، وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد بن يحيى، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن بنْدَار وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن مُحَمَّد بن بكار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عَمْرو عَن مُسَدّد وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قَاسم بن زَكَرِيَّاء وَعَن سُوَيْد بن نصر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَعَن بنْدَار وَقد عزى الْحَافِظ الْمزي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة هَذَا إِلَى الصَّلَاة وَهُوَ وهم مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي الصَّلَاة، واغتر بذلك صَاحب (التَّلْوِيح) وَتَبعهُ فِيهِ وَتبع صَاحب (التَّلْوِيح) صَاحب (التَّوْضِيح) أَيْضا وَقد مر تَفْسِير الحَدِيث فِيمَا قبله.
قَوْله: (أهل الْبَيْت) ، مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (فَإِن الله قد علمنَا) ، يَعْنِي: فِي التَّشَهُّد، وَهُوَ قَول الْمُصَلِّي: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
1733 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنِ المِنْهَالِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَوِّذُ الحَسَنَ والْحُسَيْنَ ويَقُولُ إنَّ أباكُمَا كانَ يُعَوِّذُ بِها إسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةْ ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن أَبَاكُمَا) وَهُوَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَجَرِير بن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، والمنهال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وباللام، ابْن عَمْرو الْأَسدي، وَإِلَى هُنَا كلهم كوفيون.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة أَيْضا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن الْمنْهَال عَن عبد الله بن الْحَارِث. قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ) مُرْسل. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ عَن أبي بكر بن خَلاد وَعَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان.(15/264)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ) إِخْبَار ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بقوله: كَانَ، يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكثر التعويذ بقوله: أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة ... إِلَى آخِره. قَوْله: (يعوذ، من التعويذ) ، يُقَال: عذت بِهِ أعوذ عوذاً وعياذاً وَمعَاذًا أَي: لجأت إِلَيْهِ، فالتعوذ والاستعاذة والتعويذ كلهَا بِمَعْنى وَاحِد، يَعْنِي: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن بقوله: أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة إِلَى آخِره، وَيَقُول لَهما: إِن أَبَاكُمَا كَانَ يعوذ بهَا، أَي: بِهَذِهِ الْكَلِمَات إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق أبنيه، وَبَين هَذِه الْكَلِمَات بقوله: أعوذ بِكَلِمَات الله ... إِلَى آخِره. قَوْله: (إِن أَبَاكُمَا) أَرَادَ بِهِ إِبْرَاهِيم كَمَا ذكرنَا، وأضيف إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا من نَسْله. قَوْله: (بِكَلِمَات الله) إِمَّا بَاقِيَة على عمومها فالمقصود هَهُنَا: كل كلمة لله، وَإِمَّا مَخْصُوصَة بِنَحْوِ المعوذتين، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الْقُرْآن. والتامة: صفة لَازِمَة، إِذْ كل كَلِمَاته تَامَّة، وَقيل: المُرَاد بالتامة الْكَامِلَة، وَقيل: النافعة، وَقيل: الشافية، وَقيل: الْمُبَارَكَة، وَقيل: القاضية الَّتِي تمْضِي وتستمر وَلَا يردهَا شَيْء وَلَا يدخلهَا نقص وَلَا عيب، وَقَالَ ابْن التِّين: التَّام فَضلهَا وبركاتها. قَوْله: (من كل شَيْطَان) قَالَ الدَّاودِيّ: يدْخل فِيهِ شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ. قَوْله: (وَهَامة) ، بتَشْديد الْمِيم وَاحِدَة الْهَوَام ذَوَات السمُوم، وَقيل: كل مَا لَهُ سم يقتل، وَأما مَا لَا يقتل فَيُقَال لَهَا: سوام، وَقيل: المُرَاد كل نسمَة تهم بِسوء، وَقَالَ ابْن فَارس: الْهَوَام حشرات الأَرْض. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الْهَوَام الْحَيَّات وكل ذِي سم يقتل، وَقد تقع الهامة على مَا يدب من الْحَيَوَان، وَمِنْه. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكعب بن عجْرَة: أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك، أَرَادَ الْقمل، سَمَّاهَا هوَام لِأَنَّهَا تهم فِي الرَّأْس وتدب. قَوْله: (لَامة) ، الْعين اللاَّمة هِيَ الَّتِي تصيب بِسوء، وَقيل: اللاَّمة الملمة، وَإِنَّمَا أَتَى بهَا على فاعلة للمزاوجة، وَيجوز أَن تكون على ظَاهرهَا بِمَعْنى: جَامِعَة للشر على المعيون، من لمه إِذا جمعه، وَقَالَ أَبُو عبيد: أَصْلهَا من أَلممْت إلماماً بالشَّيْء: نزلت بِهِ، وَلم يقل: ملمة، كَأَنَّهُ أَرَادَ بهَا ذَات لمَم، وَقَالَ الْخطابِيّ: اللامة ذَات اللمم، وَهِي كل دَاء مر، وَآفَة تلم بالإنسان من جُنُون وخبل وَنَحْوه، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ كل عين تصيب الْإِنْسَان إِذا حلت بِهِ.
11 - (بابٌ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ونَبِّئْهُمْ عنْ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ إذْ دَخَلُوا علَيْهِ. .} (الْحجر: 15) . الْآيَة: لَا تَوْجَلْ لَا تَخَفْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {ونبئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم ... } (الْحجر: 15) . الْآيَة وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قصَّة من قصَص إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي: دُخُول الْمَلَائِكَة، قَوْله: الَّذين أرْسلُوا إِلَى هَلَاك قوم لوط صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ حَتَّى حصل لَهُ الوجل مِنْهُم، وَذَلِكَ لامتناعهم من الْأكل، وَقيل لأَنهم دخلُوا بِغَيْر وَقت وَبِغير إِذن، وَتَمام الْآيَة قَوْله: {قَالُوا لَا توجل إِنَّا نبشرك بِغُلَام عليم} (الْحجر: 15) . قَوْله: (ونبئهم) ، أَي: نبيء عبَادي عَن ضيف إِبْرَاهِيم وقصته أَن الله تَعَالَى أرسل لوطاً إِلَى قومه ينهاهم عَمَّا يرتكبون من الْمعاصِي وَالْفَوَاحِش فَلم ينْتَهوا بل ازدادوا عتواً وَفَسَادًا، وَقَالُوا: ائتنا بِعَذَاب الله إِن كنت من الصَّادِقين، فَسَأَلَ لوط ربه أَن ينصره عَلَيْهِم فَأجَاب الله دعاءه وَبعث أَرْبَعَة من الْمَلَائِكَة: جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل ودردائيل، وَقيل: رفائيل لإهلاكهم، وَبشَارَة إِبْرَاهِيم بِالْوَلَدِ، فَأَقْبَلُوا مشَاة فِي صُورَة رجال مرد حسان حَتَّى نزلُوا على إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ الضَّيْف قد حبس عَنهُ خمس عشرَة لَيْلَة حَتَّى شقّ ذَلِك عَلَيْهِ، وَكَانَ لَا يَأْكُل إلاَّ مَعَ الضَّيْف مهما أمكنه، فَلَمَّا رَآهُمْ سُرَّ بهم لِأَنَّهُ رأى ضيفاً لم يضف مثلهم حسنا وجمالاً، فَقَالَ: لَا يخْدم هَؤُلَاءِ، إِلَّا أَنا فَخرج إِلَى أَهله فجَاء بعجل حنيذ، وَهُوَ المشوي بِالْحِجَارَةِ، فقربه إِلَيْهِم فأمسكوا أَيْديهم: {قَالَ: إِنَّا مِنْكُم وجلون} أَي: خائفون {قَالُوا: لَا توجل إِنَّا نبشرك بِغُلَام عليم} (الْحجر: 15) . أَي: يكون عليمياً بِالدّينِ. وَفسّر البُخَارِيّ قَوْله: (لَا توجل) بقوله: (لَا تخف) من وَجل ييجل ويوجل فَهُوَ وَجل، أَي: خَائِف فزع، وَقَرَأَ الْحسن: لَا توجل، بِضَم التَّاء من: أوجله يوجله إِذا أخافه، وقرىء لَا تأجل وَلَا تواجل. من واجله بِمَعْنى أوجله.
{ولاكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (الْبَقَرَة: 062) .
وَفِي بعض النّسخ: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيى الْمَوْتَى قَالَ أولَمْ تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} (الْبَقَرَة: 062) . وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} (الْبَقَرَة: 062) . فَقَط، وَسقط كل ذَلِك للنسفي، فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد تَكْمِلَة الْبَاب الَّذِي قبله، وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ كَذَلِك لم يذكر مِنْهُ شَيْئا، لَا لفظ الْبَاب وَلَا لفظ التَّرْجَمَة.
قَوْله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} (الْبَقَرَة: 062) . يَعْنِي: أذكر يَا مُحَمَّد حِين: {قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى؟ ... } (الْبَقَرَة: 062) . الْآيَة وَذكر الْمُفَسِّرُونَ لسؤال إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أسباباً: مِنْهَا:(15/265)
أَنه لما قَالَ لنمرود لَعنه الله رَبِّي الَّذِي يحيى وَيُمِيت أحب أَن يترقى من علم الْيَقِين إِلَى عين الْيَقِين، وَأَن يرى ذَلِك مُشَاهدَة، فَقَالَ: {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} (الْبَقَرَة: 062) . كَمَا أَن الْإِنْسَان يعلم الشَّيْء ويتيقنه وَلَكِن يحب أَن يرَاهُ عيَانًا. وَمِنْهَا: أَنه لما بشر بالخلة سَأَلَ ذَلِك ليتيقن بالإجابة لصِحَّة مَا بشر بِهِ قَالَه ابْن مَسْعُود ونمها انما سَأَلَ ليشاهد كَيْفيَّة جمع أَجزَاء الْمَوْتَى بعد تفريقها واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فَأَرَادَ أَن يجمع بَين علم الْيَقِين وَعين الْيَقِين وَحقّ الْيَقِين. وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: ذكر لنا أَن إِبْرَاهِيم أَتَى على دَابَّة توزعتها الدَّوَابّ وَالسِّبَاع، فَقَالَ: {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} (الْبَقَرَة: 062) . ليشاهد ذَلِك، لِأَن النُّفُوس متشوقة إِلَى المعاينة، يصدقهُ الحَدِيث: لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة. وَمِنْهَا: مَا قَالَه ابْن دُرَيْد: مر إِبْرَاهِيم بحوت نصفه فِي الْبر وَنصفه فِي الْبَحْر، وَالَّذِي فِي الْبَحْر تَأْكُله دَوَاب الْبَحْر، وَالَّذِي فِي الْبر تَأْكُله دَوَاب الْبر، فَقَالَ إِبْلِيس الْخَبيث: يَا إِبْرَاهِيم! مَتى يجمع الله هَذَا من بطُون هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} (الْبَقَرَة: 162) . {لِيَطمَئِن قلبِي} (الْبَقَرَة: 162) . ليسكن ويهتدي بِالْيَقِينِ الَّذِي يستيقنه، وَقَالَ ابْن الْحصار فِي (شرح القصيدة) : إِنَّمَا سَأَلَ الله أَن يحيي الْمَوْتَى على يَدَيْهِ يدل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فصرهن إِلَيْك} (الْبَقَرَة: 062) . فَأَجَابَهُ على نَحْو مَا سَأَلَ، وَعلم أَن أحدا لَا يقترح على الله مثل هَذَا فَيُجِيبهُ بِعَين مَطْلُوبه إِلَّا عَن رضَا واصطفاء. بقوله: {أَو لم تؤمن} (الْبَقَرَة: 062) . بِأَنا اصطفيناك واتخذناك خَلِيلًا؟ قَالَ: بلَى. قَوْله: كَيفَ تحيي الْمَوْتَى، لفظ: كَيفَ، اسْم لدُخُول الْجَار عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيل نَحْو قَوْلهم: على كَيفَ تبيع الأحمرين؟ وَيسْتَعْمل على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون شرطا نَحْو: كَيفَ تصنع أصنع، وَالْآخر: وَهُوَ الْغَالِب: أَن يكون استفهاماً، وَهنا كَذَلِك، وَقَالَ ابْن عَطِيَّة: السُّؤَال: بكيف؟ إِنَّمَا هُوَ سُؤال عَن حَالَة شَيْء مَوْجُود متقرر الْوُجُود عِنْد السَّائِل، فَكيف هُنَا اسْتِفْهَام عَن هَيْئَة الْإِحْيَاء، وَهُوَ متقرر. قَوْله: {قَالَ أَو لم تؤمن} (الْبَقَرَة: 062) . يَعْنِي: بإحياء الْمَوْتَى؟ وَإِنَّمَا قَالَ: أَو لَمْ تؤمن؟ مَعَ علمه بِأَنَّهُ أثبت النَّاس إِيمَانًا ليجيب بِمَا أجَاب بِهِ لما فِيهِ من الْفَائِدَة الجليلة للسامعين. قَوْله: قَالَ بلَى، أَي: بلَى آمَنت، و: بلَى، إِيجَاب لما بعد النَّفْي. قَوْله: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} (الْبَقَرَة: 162) . أَي: ليزِيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضَّرُورَة علم الِاسْتِدْلَال، لِأَن ظَاهر الْأَدِلَّة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة وَالْيَقِين، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَآخَرين: لِيَطمَئِن قلبِي للمشاهدة، كَأَن نَفسه طالبته بِرُؤْيَة ذَلِك، فَإِذا رَآهُ اطْمَأَن، وَقد يعلم الْمَرْء الشَّيْء من جِهَة ثمَّ يطْلب أَن يُعلمهُ من غَيرهَا، وَقيل: الْمَعْنى: لِيَطمَئِن قلبِي لِأَنِّي إِذا سَأَلتك أجبتني، وَقيل: كَانَ سُؤَاله على طَرِيق الْأَدَب يَعْنِي: أقدرني على إحْيَاء الْمَوْتَى لِيَطمَئِن قلبِي عَن هَذِه الأمنية، فَأَجَابَهُ الله إِلَى سُؤَاله، وَقَالَ: فَخذ أَرْبَعَة من الطير وَهِي: الغرموق والطاووس والديك والحمامة، كَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ: أَنه أَخذ وزاً ورألاً، وَهُوَ فرخ النعامة وديكاً وطاووساً. وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: كَانَت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً. وروى مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: أَن الطُّيُور كَانَت طاووساً ونسراً وغرابا وحماماً.
وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَحْوَال الدُّنْيَا: فالطاووس من الزِّينَة، والنسر من امتداد الأمل، والغراب من الغربة، وَالْحمام من النِّيَاحَة. وَقيل: مَوضِع النسْر: البط، وَمَوْضِع الْحمام: الديك، وَالْحكمَة فِي اخْتِيَار هَذِه الْأَرْبَعَة هِيَ: أَن الطاووس خَان آدم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْجنَّة، والبطَّ خَان يُونُس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قطع يقطينه، والغراب خَان نوحًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أرْسلهُ ليكشف حَال المَاء الَّذِي عَم الأَرْض فاشتغل بالجيفة، والديك خَان إلْيَاس فسلب ثَوْبه، فَلَا جرم أَن الله تَعَالَى غير صَوت الطاووس بِدُعَاء آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وسلب السّكُون على البط بِدُعَاء يُونُس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجعل رزق الْغُرَاب الجيفة بِدُعَاء نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَألقى الْعَدَاوَة بَين الديك بِدُعَاء الياس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما أَخذ إِبْرَاهِيم هَذِه الطُّيُور الْأَرْبَعَة، قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: فصرهن إِلَيْك، أَي: قطعهن، كَذَا رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ خلطهن ثمَّ اجْعَلْهَا أَرْبَعَة أَجزَاء، ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا، فَفعل إِبْرَاهِيم مثل مَا أَمر بِهِ، ثمَّ أمره الله أَن يدعوهن، فدعاهن فَجعل ينظر إِلَى الريش يطير إِلَى الريش، وَالدَّم إِلَى الدَّم، وَاللَّحم إِلَى اللَّحْم، والأجْزَاء من كل طير يقْصد بَعْضهَا بَعْضًا حَتَّى قَامَ كل طير على حِدته وأتينه يَمْشين سعياً ليَكُون أبلغ فِي الرُّؤْيَة الَّتِي سَأَلَهَا. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَكَانَ إِبْرَاهِيم قد أَخذ رؤوسهن بِيَدِهِ وَجعل كل طير يَجِيء ليَأْخُذ رَأسه من يَد إِبْرَاهِيم، فَإِذا قدَّم إِبْرَاهِيم غير رَأسه يأباه، وَإِذا قدَّم رَأسه تركب مَعَ بَقِيَّة جثته، بحول الله تَعَالَى وقوته، وَلِهَذَا قَالَ الله: وَاعْلَم أَن الله عَزِيز لَا يغلبه شَيْء، وَلَا يمْتَنع مِنْهُ شَيْء، حَكِيم فِي أَقْوَاله وأفعاله. فَإِن قلت: لِمَ خص الطير من بَين سَائِر الْحَيَوَانَات؟ قلت: لِأَن للطير مَا لسَائِر الْحَيَوَانَات، وَله زِيَادَة: الطيران، وَلِأَن الطير هوائي ومائي وأرضي، فَكَانَت الأعجوبة فِي إحيائه أَكثر، وَلذَا قَالَ عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير، فَاخْتَارَ الخفاش(15/266)
لاختصاصه بأَشْيَاء لَيست فِي الطُّيُور. الْحيض وَالْحَبل والطيران فِي الظلمَة وَعدم الرُّؤْيَة بِالنَّهَارِ وَله أَسْنَان. فَإِن قلت: لم خص أَرْبَعَة من الطير؟ قلت: لأجل الإسطقسات الْأَرْبَع الَّتِي بهَا قوام الْعَالم. وَالْجِبَال كَانَت أَرْبَعَة من جبال الشَّام، وَقيل: جبل لبنان وسينين وطور سينين وطور زينا.
2733 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخْبَرَنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ إبِي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَحْنُ أحَقّ بالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلاى ولاكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي: ويَرْحَمُ الله لُوطَاً لَقَدْ كانَ يأوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ولَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأجَبْتُ الدَّاعِيَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة الْأَصْلِيَّة ظَاهِرَة، وَأحمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن صَالح وَعَن سعيد بن تليد، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَفِي الْفَضَائِل عَن حَرْمَلَة بن يحيى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نَحن أَحَق بِالشَّكِّ) ، وَسقط فِي بعض الرِّوَايَات لفظ: الشَّك، وَمَعْنَاهُ: نَحن أَحَق بِالشَّكِّ فِي كَيْفيَّة الْإِحْيَاء لَا فِي نفس الْإِحْيَاء، وَعَن الشَّافِعِي وَغَيره: أَن الشَّك مُسْتَحِيل فِي حق إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو كَانَ الشَّك متطرقاً إِلَى الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَكُنْت أَنا أَحَق بِهِ من إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد علمْتُم أَن إِبْرَاهِيم لم يشك، فَإِذا لم أَشك أَنا وَلم أرْتَبْ فِي الْقُدْرَة عل الْإِحْيَاء فإبراهيم أولى بذلك، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن هَذَا الَّذِي تظنونه شكا فَلَيْسَ بشك، فَلَو كَانَ شكا لَكُنْت أَنا أولى بِهِ وَلكنه لَيْسَ بشك، وَلكنه تطلب لمزيد الْيَقِين، وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَنه أَرَادَ أمته الَّذين يجوز عَلَيْهِم الشَّك، أَو أَنه قَالَه تواضعاً مَعَ إِبْرَاهِيم. قَوْله: (إِذْ قَالَ) أَي: حِين قَالَ. قَوْله: (وَيرْحَم الله لوطاً) ، وَلُوط صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ ابْن هاران ابْن آزر وَهُوَ أخي إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ مِمَّن آمن بإبراهيم وَهَاجَر مَعَه إِلَى مصر ثمَّ عَاد مَعَه إِلَى الشَّام فَنزل إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فلسطين وَنزل لوط الْأُرْدُن ثمَّ أرْسلهُ الله إِلَى أهل سدوم، وَهِي عدَّة قرى، وَقَالَ مقَاتل: وبلادهم مَا بَين الشَّام والحجاز بِنَاحِيَة زغر، وَكَانَت اثْنَتَيْ عشرَة قَرْيَة وَتسَمى الْمُؤْتَفِكَات من الْإِفْك، وَكَانُوا يعْبدُونَ الْأَوْثَان ويأتون الْفَوَاحِش ويسافد بَعضهم بَعْضًا على الطَّرِيق، وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد وَذكر الله لوطاً فِي الْقُرْآن فِي سَبْعَة عشر موضعا وَهُوَ اسْم أعجمي وَفِيه العلمية والعجمة وَلكنه صرف لسكون وَسطه، وَقيل: اسْم عَرَبِيّ من: لَاطَ، لِأَن حبه لَاطَ بقلب إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: تعلق ولصق. قَوْله: (لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد) ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْآيَة الْكَرِيمَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو أَوَى إِلَى ركن شَدِيد} (هود: 08) . وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك لِأَن كَلَامه يدل على إقناط كلي ويأس شَدِيد من أَن يكون لَهُ نَاصِر ينصره، وَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اسْتغْرب ذَلِك القَوْل وعده نَادرا مِنْهُ، إِذْ لَا ركن أَشد من الرُّكْن الَّذِي كَانَ يأوي إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ إِلَى قوي أستند إِلَيْهِ وأمتنع بِهِ فيحميني مِنْكُم، شبه الْقوي الْعَزِيز بالركن من الْجَبَل فِي شدته ومنعته، وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: يجوز أَنه نسي الالتجاء إِلَى الله فِي حمايته الأضياف، أَو أَنه التجأ إِلَى الله فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَأظْهر للأضياف الْعذر وضيق الصَّدْر قَوْله: (وَلَو لَبِثت فِي السجْن مَا لبث يُوسُف) وَقد لبث سبع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام وَسبع سَاعَات. قَوْله: (لَأَجَبْت الدَّاعِي) يَعْنِي: لَأَسْرَعت إِلَى الْإِجَابَة إِلَى الْخُرُوج من السجْن وَلما قدمت الْعذر، قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ إرجع إِلَى رَبك} (يُوسُف: 05) . الْآيَة ... وَصفه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالصبرِ حَيْثُ لم يُبَادر إِلَى الْخُرُوج، وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك تواضعاً، لَا أَنه كَانَ فِي الْأَمر مِنْهُ مبادرة وعجلة لَو كَانَ مَكَان يُوسُف، والتواضع لَا يصغر(15/267)
كَبِيرا، بل يزِيدهُ إجلالاً وَقدرا، وَقيل: هُوَ من جنس قَوْله: لَا تفضلُونِي على يُونُس، وَقيل: إِنَّه كَانَ قبل أَن يعلم أَنه أفضل من الْجَمِيع، وَالله أعلم وَأحكم.
41 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالى {واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ} (مَرْيَم: 45) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي حق إِسْمَاعِيل من قَوْله قَوْله عز وَجل، وَاذْكُر فِي الْكتاب الْآيَة، وَتَمام الْآيَة {وَكَانَ رَسُولا نَبيا} (مَرْيَم: 45) . قَوْله: (وَاذْكُر) أَي: اذكر يَا مُحَمَّد (فِي الْكتاب) أَي: فِي الْقُرْآن {إِسْمَاعِيل إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ بَينه وَبَين رجل ميعاد فَأَقَامَ ينتظره مُدَّة، وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْمدَّة، فَقيل: حولا حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: إِن الْفَاجِر الَّذِي وعدته بالقعود إِبْلِيس، عَلَيْهِ اللَّعْنَة. قَوْله: {رَسُولا} أَي: إِلَى جرهم.
3733 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا حاتِمٌ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى نَفَرٍ مِنْ أسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فإنَّ أباكُمْ كانَ رَامِيَاً وَأَنا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ قَالَ فأمْسَكَ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ بأيْدِيهِمْ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ فقالُوا يَا رسوُلَ الله كَيْفَ نَرْمِي وأنْتَ معَهُمْ قَالَ ارْمُوا وَأَنا مَعَكُمْ كلِّكُمْ. (انْظُر الحَدِيث 9982 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بني إِسْمَاعِيل) وحاتم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، مر فِي الْوضُوء، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع: والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب التحريض على الرَّمْي، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
51 - (بابُ قِصَّةِ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ علَيْهِمَا السَّلاَمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر قصَّة إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، وَعَن إِبْنِ إِسْحَاق، بشر الله إِبْرَاهِيم بِإسْحَاق من سارة فَحملت وَكَانَت بنت تسعين سنة، وَإِبْرَاهِيم ابْن مائَة وَعشْرين سنة، وَقد كَانَت هَاجر حملت بِإِسْمَاعِيل فَوَضَعَتَا مَعًا، وشب الغلامان. وَنقل ابْن كثير عَن أهل الْكتاب أَن هَاجر ولدت إِسْمَاعِيل ولإبراهيم من الْعُمر سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة قبل مولد إِسْحَاق بِثَلَاث عشرَة سنة، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (أَعمار الْأَعْيَان) : إِن إِسْحَاق عَاشَ مائَة وَثَمَانِينَ سنة، وَفِي قَول وهب بن مُنَبّه: عَاشَ مائَة وَخَمْسَة وَثَمَانِينَ سنة، وَدفن عِنْد قبر أَبِيه إِبْرَاهِيم فِي مزرعة حبرون.
فيهِ ابنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ، أَي فِي الْبَاب، يَعْنِي: روى ابْن عمر فِي حق إِسْحَاق وقصته حَدِيثا فَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَيْهِ إِجْمَالا وَلم يذكرهُ بِعَيْنِه، لِأَنَّهُ لم يكن بِشَرْطِهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: لم يقف البُخَارِيّ على سَنَده فَأرْسلهُ، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا كَلَام من لم يفهم مَقَاصِد البُخَارِيّ وَنَحْوه قَول الْكرْمَانِي قلت: هَذِه مناقشة بَارِدَة لِأَن كل من لَهُ أدنى فهم يفهم أَن مَا قَالَه ابْن التِّين والكرماني هُوَ الْكَلَام الْوَاقِع فِي مَحَله، وَهَذَا الَّذِي ذكره أوجه من كَلَامه الَّذِي ذكره بِالشَّكِّ والتردد حَيْثُ قَالَ: كَأَنَّهُ يُشِير بِحَدِيث ابْن عمر إِلَى مَا سَيَأْتِي فِي قصَّة يُوسُف، وَبِحَدِيث أبي هُرَيْرَة إِلَى الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ فَلْينْظر المتأمل الحاذق فِي حَدِيث ابْن عمر الَّذِي فِي قصَّة يُوسُف: هَل يجد لما ذكره من الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَجها قَرِيبا أَو بَعيدا وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
61 - (بابٌ {أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءً إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ} إِلَى قَوْلِهِ {ونحْن لَهُ مُسْلِمُونَ} (الْبَقَرَة: 331) .)(15/268)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبدُونَ من بعدِي قَالُوا نعْبد إل هك وإل هـ آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إل هَاً وَاحِدًا وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} (الْبَقَرَة: 331) . ذكر الله تَعَالَى وَصِيَّة إِبْرَاهِيم لِبَنِيهِ بقوله) {ووصى بهَا إِبْرَاهِيم بنيه} (الْبَقَرَة: 231) . أَي: بِهَذِهِ الْملَّة، وَهِي الْإِسْلَام ووصى يَعْقُوب أَيْضا بهَا ثمَّ قَالَ محتجاً على الْمُشْركين من الْعَرَب أَبنَاء إِسْمَاعِيل وعَلى الْكفَّار من بني إِسْرَائِيل: إِن يَعْقُوب لما حَضرته الْوَفَاة وصّى بنيه بِعبَادة الله تَعَالَى وَحده لَا شريك لَهُ، فَقَالَ لَهُم: مَا تَعْبدُونَ من بعدِي؟ فَأخْبر الله تَعَالَى عَنْهُم أَنهم قَالُوا: نعْبد إل هك ... وَالْآيَة هَذِه من بَاب التغليب، لِأَن إِسْمَاعِيل عَم يَعْقُوب، وَنقل الْقُرْطُبِيّ أَن الْعَرَب تسمي الْعم أَبَا، وَقد اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة من جعل الْجد أَبَا، وحجب بِهِ الْأُخوة وَهُوَ قَول الصّديق: وَإِلَيْهِ ذهبت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، وَبِه يَقُول الْحسن الْبَصْرِيّ وطاووس وَعَطَاء، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَغير وَاحِد من عُلَمَاء السّلف وَالْخلف. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ: إِنَّه يقاسم الْإِخْوَة، وَحكى مَالك عَن عَمْرو وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن، رَحِمهم الله، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (أم كُنْتُم شُهَدَاء) هِيَ: أم، المنقطعة وَمعنى الْهمزَة فِيهَا الْإِنْكَار، وَالشُّهَدَاء: جمع شَهِيد، يَعْنِي الْحَاضِر: أَي: مَا كُنْتُم حاضرين يَعْقُوب إِذْ حَضَره الْمَوْت أَي: حِين احْتضرَ، وَالْخطاب للْمُؤْمِنين بِمَعْنى: مَا شهدتم ذَلِك وَإِنَّمَا حصل لكم الْعلم بِهِ من طَرِيق الْوَحْي، وَقيل: الْخطاب للْيَهُود لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: مَا مَاتَ نَبِي إلاَّ على الْيَهُودِيَّة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ أَيْضا: لَكِن الْوَجْه أَن تكون: أم، مُتَّصِلَة على أَن يقدر قبلهمَا مَحْذُوف، كَأَنَّهُ قيل: أَتَدعُونَ على الْأَنْبِيَاء الْيَهُودِيَّة أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت، يَعْنِي أَن أوائلكم من بني إِسْرَائِيل كَانُوا مشاهدين لَهُ إِذْ أَرَادَ بنيه على التَّوْحِيد وملة الْإِسْلَام، وَقد علمْتُم ذَلِك، فَمَا لكم تدعون على الْأَنْبِيَاء مَا هم مِنْهُ برَاء؟ .
4733 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمُ سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ سَعِيدِ بنِ أبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قِيلَ لِ لنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أكْرَمُهُمْ أتْقَاهُمْ قَالُوا يَا نَبِيَّ الله لَيْسَ عنْ هاذَا نَسْألُكَ قَالَ فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفَ نَبيُّ الله ابنُ نَبِيِّ الله ابنِ نَبِيِّ الله ابنِ خَلِيلِ الله قالُوا لَيْسَ عَنْ هاذَا نَسْألُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُونِي قالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارِكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإسْلامِ إذَا فَقِهُوا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث مُوَافق لِلْآيَةِ فِي سِيَاق نسب يُوسُف، وَالْآيَة تَضَمَّنت أَن يَعْقُوب خَاطب أَوْلَاده عِنْد مَوته بِالْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَة آنِفا. وَمن جملَة أَوْلَاد يَعْقُوب: يُوسُف، وَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاء على نسق نسب يُوسُف فَإِنَّهُ نَبِي الله ابْن نَبِي الله يَعْقُوب ابْن نَبِي الله إِسْحَاق ابْن نَبِي الله إِبْرَاهِيم، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم الرَّاوِي هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، والمعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان بن طرخان، وَعبيد الله مُصَغرًا ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، والْحَدِيث مر فِي: بَاب أَوَائِل قَول الله: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . وَمر الْكَلَام فِيهِ مستقصًى.
71 - (بابٌ {ولُوطَاً إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتَأتُونَ الْفَاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ أئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلاَّ أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فأنْجَيْنَاهُ وأهْلَهُ إلاَّ امْرَأتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وأمْطَرْنَا عَلَيهِمْ مَطَرَاً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذِرِينَ} .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {ولوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} إِلَى آخِره، و: لوطاً، مَنْصُوب بِتَقْدِير وَاذْكُر لوطاً، أَو بِتَقْدِير: أرسلنَا لوطاً بِدلَالَة قَوْله فِيمَا قبله: {وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا} (لوط: 38) . وَكلمَة: إِذْ، بدل على الأول ظرف على الثَّانِي. قَوْله: {أتأتون الْفَاحِشَة} أَي: الفعلة القبيحة الشنيعة وَهِي اللواطة. قَوْله: {وَأَنْتُم تبصرون} ، أَي: وَالْحَال أَنكُمْ تعلمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَة لم تسبقوا إِلَيْهَا، وتبصرون(15/269)
من بصر الْقلب وَالله تَعَالَى إِنَّمَا خلق الْأُنْثَى للذّكر وَلم يخلق الذّكر للذّكر وَلَا الْأُنْثَى للْأُنْثَى. وَقيل: وَأَنْتُم تبصرون أَي: يبصر بَعْضكُم بَعْضًا لأَنهم كَانُوا فِي ناديهم يرتكبونها مجاهرين بهَا لَا يستترون عتواً مِنْهُم وتمرداً وخلاعة ومجانة. قَوْله: (أئنكم لتأتون الرِّجَال؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (شهورة) أَي: لأجل الشَّهْوَة. قَوْله: (تجهلون) أَي: عَاقِبَة الْعِصْيَان وَيَوْم الْجَزَاء وَقيل: تجهلون مَوضِع قَضَاء الشَّهْوَة، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: فسرت: تبصرون، بِالْعلمِ وَبعده: بل أَنْتُم قوم تجهلون، فَكيف يكونُونَ عُلَمَاء جهلاء؟ قلت: أَرَادَ: تَفْعَلُونَ فعل الْجَاهِلين بِأَنَّهَا فَاحِشَة مَعَ علمكُم بذلك، وَاجْتمعت الْغَيْبَة والمخاطبة فِي قَوْله تَعَالَى: {بل أَنْتُم قوم تجهلون} فَغلبَتْ المخاطبة، فَقيل: تجهلون، لِأَن المخاطبة أقوى وأرسخ أصلا من الْغَيْبَة. قَوْله: (فَمَا كَانَ جَوَاب قومه) أَي: قوم لوط إلاَّ أَن قَالُوا، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: إلاَّ قَوْلهم. قَوْله: (يتطهرون) من أدبار الرِّجَال يَقُولُونَهُ استهزاء بهم وتهكما. قَوْله: (فأنجيناه) ، أَي: أنجينا لوطاً من الْعَذَاب وأنجينا أَهله إلاَّ امْرَأَته قدرناها أَي: جعلناها بتقديرنا وقضائنا عَلَيْهَا من الغابرين أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب. قَوْله: (وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا) أَي: الْحِجَارَة، فسَاء مطر الْمُنْذرين الَّذين أنذروا بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَيْنَمَا كَانَ الْمَطَر فِي كتاب الله فَهُوَ الْعقَاب، وَالْمَذْكُور فِي التَّفْسِير أَنه يُقَال: أمطر فِي الْعَذَاب، ومطر فِي الرَّحْمَة، وَأهل اللُّغَة يَقُولُونَ: مطرَت السَّمَاء وأمطرت.
5733 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَغْفِرُ الله لِلُوطٍ إنْ كانَ لَيأوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَهَؤُلَاء على هَذَا النسق مروا مرَارًا كَثِيرَة. والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب قَوْله عز وَجل {ونبِّئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم} (الْحجر: 15) . قَوْله: (إِن كَانَ) كلمة: إِن، هَذِه مُخَفّفَة من المثقلة أَي: إِنَّه كَانَ. قَوْله: (إِلَى ركن شَدِيد) أَي: إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُشِير بذلك إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد} (الْحجر:) . أَي: إِلَى عشريته لكنه لم يأوِ إلِيهم وَلكنه آوى إِلَى الله، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يجوز أَنه لما اندهش بِحَال الأضياف قَالَ ذَلِك، أَو أَنه التجأ إِلَى الله تَعَالَى فِي بَاطِنه، وَأظْهر هَذَا القَوْل للأضياف إعتذاراً وسمى الْعَشِيرَة ركنا لِأَن الرُّكْن يسْتَند إِلَيْهِ وَيمْتَنع بِهِ فشبههم بالركن من الْجَبَل لشدتهم ومنعتهم.
81 - (بابٌ {فَلَمَّا جاءَ آلُ لُوطٍ المُرْسَلُونَ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (الْحجر: 26) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ} (الْحجر: 26) . إِلَى آخِره، وفاعل جَاءَ هُوَ قَوْله: المُرْسَلُونَ، وهم الْمَلَائِكَة المُرْسَلُونَ من عِنْد الله لهلاك قوم لوط. قَوْله: (آل لوط) بِالنّصب مفعول: جَاءَ. قَوْله: (قَالَ) أَي: لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (إِنَّكُم قوم منكرون) أَي: لَا أعرفكُم، قَالُوا: بل جئْنَاك بِالْحَقِّ، أَي: الْيَقِين، وَإِنَّا لصادقون فِي قَوْلنَا، ثمَّ حكى الله تَعَالَى بَقِيَّة الْقِصَّة، بقوله: فأسرِ بأهلك ... إِلَى آخرهَا.
بِرُكْنِهِ بِمَنْ مَعَهُ لأِنَّهُمْ قُوَّتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَوَلّى بركنه وَقَالَ ساحراً أَو مَجْنُون} . وَأول الْآيَة {وَفِي مُوسَى إِذْ أرسلناه إِلَى فِرْعَوْن بسُلْطَان مُبين فَتَوَلّى بركته} . قَوْله: (وَفِي مُوسَى) عطف على قَوْله: {وَفِي الأَرْض آيَات} قَوْله: (بركنه) يَعْنِي: بقَوْمه وَمن مَعَه يَعْنِي: المنعة والعشير، وَقَالَ المُورج بجانبه وَجَمِيع بدنه وَهُوَ كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة عَن الْإِعْرَاض وَالْإِنْكَار، والركن مَا ركن إِلَيْهِ الْإِنْسَان من مَال وجند وَقُوَّة. قَوْله: {وَقَالَ سَاحر أَو مَجْنُون} . أَي: وَقَالَ فِرْعَوْن: مُوسَى سَاحر أَو مَجْنُون. وَهَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ هَهُنَا لَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ فِي قصَّة مُوسَى، والترجمة فِي قصَّة لوط، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعَ هَذَا أَن التفاسير الَّتِي ذكرهَا هُنَا لم تُوجد إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده.
تَرْكَنُوا تَمِيلُوا(15/270)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا} (هود: 311) . أَي: لَا تميلوا إِلَيْهِم، وَهَذَا أَيْضا لَا تعلق لَهُ بِقصَّة لوط، وَقيل: كَأَنَّهُ ذكره هُنَاكَ لوُجُود مَادَّة: ركن. قلت: هَذَا بعيد، حَيْثُ لم يذكرهُ بمعية مَا وَقع فِي قصَّة لوط.
فأنْكَرَهُمْ ونَكِرَهُمْ واسْتَنْكَرَهُمْ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ نكرهم} (هود: 07) . وَهَذَا أَيْضا لَا وَجه لَهُ، لِأَن هَذَا الْإِنْكَار فِي الْآيَة من إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ غير إِنْكَار لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذَلِكَ لِأَن الْمَلَائِكَة الْأَرْبَعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ عَن قريب، لما دخلُوا على إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صور مُردٍ حِسان جَاءَ إِلَيْهِم بعجل حِينَئِذٍ فأمسكوا أَيْديهم، {فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ نكرهم وأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط} (هود: 07) . وَأما إِنْكَار لوط فَفِي مَجِيء قومه إِلَيْهِم كَمَا هُوَ الْمَذْكُور فِي قصَّته.
يُهْرَعُونَ يُسْرِعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ} (هود: 87) . أَي: جَاءَ لوطاً قومه يهرعون، أَي: يسرعون ويهرولون، وَذَلِكَ أَن امْرَأَة لوط هِيَ الَّتِي أَخْبَرتهم بمجيء هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة فِي صُورَة الرِّجَال المردان، وقصته مَشْهُورَة.
دَابِرَ آخِرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر أَن دابر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع} (الْحجر: 66) . أَي: آخِرهم مَقْطُوع مستأصل.
صَيْحَةً هَلَكَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن كَانَت إلاَّ صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون} (ي س: 92) . وَهَذَا أَيْضا لَا وَجه لَهُ هَهُنَا لِأَن هَذِه الْآيَة لَا تعلق لَهَا بِقصَّة لوط.
لِلْمُتَوَسِّمِينَ لِلنَّاظِرِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} (الْحجر: 57) . وَفَسرهُ بقوله: للناظرين، وَهَكَذَا فسره الضَّحَّاك، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ للمتفرسين، وَقَالَ الْفراء: للمتفكرين وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: للمتبصرين، وَحَقِيقَته من توسمت الشَّيْء: نظرته، نظر تثبت.
لَبِسَبِيلٍ لَبِطَرِيقٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لبسبيل مُقيم} (الْحجر: 67) . وَفسّر السَّبِيل بِالطَّرِيقِ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَالضَّمِير فِي قَوْله: وَإِنَّهَا، يرجع إِلَى: مَدَائِن قوم لوط صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: إِلَى الْآيَات.
6733 - حدَّثنا مَحْمُودٌ حَدَّثَنا أَبُو أحْمَدَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قرَأ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِّرْ} (الْقَمَر: 51، 71، 22، 23، 04، و 15) . .
هَذَا قد مر فِي: بَاب قَوْله عز وَجل: {وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر} (الحاقة: 6) . وَوجه مُنَاسبَة ذكره هُنَا هُوَ أَنه ذكر فِي قصَّة لوط، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {كذبت قوم لوط بِالنذرِ} (الْقَمَر: 33) . إِلَى قَوْله: {فَذُوقُوا عَذَابي ونذرِ} (الْقَمَر: 73 و 93) . ثمَّ قَالَ: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدَّكر} (الْقَمَر: 15) . وَكَذَلِكَ ذكر عقيب قصَّة عَاد وقصة ثَمُود أَيْضا، وَكلهَا فِي سُورَة الْقَمَر. قَوْله: {فَهَل من مدكر} بِالدَّال الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة، وَأَبُو أَحْمد هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله الزبيرِي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي عَمْرو، وَالْأسود بن يزِيد وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
91 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وَإِلَى ثَمُودَ أخاهُمْ صالِحَاً} (الْأَعْرَاف: 37) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ بَيَان قَول الله عز وَجل: {وَإِلَى ثَمُود} أَي: أرسلنَا إِلَيّ ثَمُود {أَخَاهُم صَالحا} (الْأَعْرَاف: 37) . وَإِنَّمَا قَالَ: أَخَاهُم، لِأَن(15/271)
صَالحا، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ من قبيلتهم.
وَاخْتلفُوا فِي ثَمُود، فَقَالَ الْجَوْهَرِي: ثَمُود قَبيلَة من الْعَرَب الأولى، وهم قوم صَالح، وَكَذَلِكَ قَالَ الْفراء: سميت بذلك لقلَّة مَائِهِمْ، وَقَالَ الزّجاج: الثمد المَاء الْقَلِيل الَّذِي لَا مَادَّة لَهُ، وَقيل: ثَمُود اسْم رجل، وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ ثَمُود بن جَابر بن إرم بن سَام بن نوح، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: وَكَانَت هَذِه الْقَبِيلَة تنزل فِي وَادي الْقرى إِلَى الْبَحْر والسواحل وأطراف الشَّام، وَكَانَت أعمارهم طَوِيلَة وَكَانُوا يبنون الْبُنيان والمساكن، فتنهدم، فَلَمَّا طَال ذَلِك عَلَيْهِم اتَّخذُوا من الْجبَال بُيُوتًا ينحتونها وعملوها على هَيْئَة الدّور، وَيُقَال: كَانَت مَنَازِلهمْ أَولا بِأَرْض كوش من بِلَاد عالج ثمَّ انتقلوا إِلَى الْحجر بَين الْحجاز وَالشَّام إِلَى وَادي الْقرى، وخالفوا أَمر الله وعبدوا غَيره، وأفسدوا فِي الأَرْض فَبعث الله إِلَيْهِم صَالحا نَبيا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى شمط وَلم يتبعهُ مِنْهُم إلاَّ قَلِيل يستضعفون، وَصَالح هُوَ ابْن عبيد بن جاثر بن إرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: صَالح بن عبيد بن أنيف بن ماشخ بن جادر بن جاثر بن ثَمُود، قَالَه مقَاتل، وَقيل: صَالح بن كانوه، قَالَه الرّبيع، وَقيل: صَالح بن عبيد بن يُوسُف بن شالخ بن عبيد بن جاثر بن ثَمُود، قَالَه مُجَاهِد. قَالَ مُجَاهِد: كَانَ بَينه وَبَين ثَمُود مائَة سنة وَكَانَ فِي قومه بقايا من قوم عَاد على طولهم وهيئاتهم، وَكَانَ لَهُم صنم من حَدِيد يدْخل فِيهِ الشَّيْطَان فِي السّنة مرّة وَاحِدَة ويكلمهم، وَكَانَ أَبُو صَالح سادنه فغار لله وهمَّ بكسره، فناداهم الصَّنَم: اقْتُلُوا كانوه، فَقَتَلُوهُ، ورموه فِي مغارة، فَبَكَتْ عَلَيْهِ امْرَأَته مُدَّة، فَجَاءَهَا ملك فَقَالَ لَهَا: إِن زَوجك فِي المغارة الْفُلَانِيَّة، فَجَاءَت إِلَيْهِ وَهُوَ ميت فأحياه الله تَعَالَى، فَقَامَ إِلَيْهَا فَوَطِئَهَا فِي الْحَال فعلقت بِصَالح من ساعتها، وَعَاد كانوه مَيتا بِإِذن الله، وَلما شب صَالح بَعثه الله إِلَى قومه قبل الْبلُوغ، وَلكنه قد راهق، قَالَه وهب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لما تمّ لَهُ أَرْبَعُونَ سنة أرْسلهُ إِلَيْهِم وَذكره الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وَبَين قصَّته مَعَ قومه، فَلَمَّا أهلك الله قومه نزل صَالح بفلسطين وَأقَام بالرملة، وَقَالَ السّديّ: أَتَى صَالح وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ إِلَى مَكَّة وَأَقَامُوا يتعبدون حَتَّى مَاتُوا فقبورهم غربي الْكَعْبَة بَين دَار الندوة وَالْحجر، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَقَامَ صَالح فِي قومه عشْرين سنة وَمَات وَهُوَ ابْن مائَة وثمان وَخمسين سنة، وَقيل: ابْن ثَلَاثمِائَة وست وَثَلَاثِينَ سنة، وَحَكَاهُ الْخَطِيب عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ الْأَظْهر، وَيُقَال: إِن صَالحا مَاتَ فِي الْيمن وقبره بِموضع يُقَال لَهُ الشبوه، وَذكر الْفربرِي: أَن صَالحا خرج مَعَ الْمُؤمنِينَ إِلَى الشَّام فسكنوا فلسطين وَمَات بهَا، وَكَانَ بَين صَالح وَبَين هود مائَة سنة، وَبَين صَالح وَبَين إِبْرَاهِيم سِتّمائَة سنة وَثَلَاثُونَ سنة.
{كَذَبَ أصْحَابُ الْحِجْرِ} (الْحجر: 08) . الحِجْرُ مَوْضِعُ ثَمُودَ. وأمَّا حَرْثٌ حِجْرٌ حَرَامٌ وكلُّ مَمْنُوعٍ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ والْحِجْرُ كُلُّ بِناءٍ بَنَيْتَهُ ومَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ ومِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرَاً كأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومِ مِثْلُ قَتِيلٍ مِنَ مَقْتُولٍ ويُقال لِلأُنْثَاى مِنَ الخَيْلِ الْحِجْرُ ويُقالُ لِلْعَقْلِ حِجْرٌ وحِجًى وأمَّا حَجْرُ اليَمامَةِ فَهْوَ مَنْزِلٌ
قَوْله: (كذب أَصْحَاب الْحجر) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذب أَصْحَاب الْحجر الْمُرْسلين} (الْحجر: 08) . وَفسّر الْحجر بقوله: مَوضِع ثَمُود، وَهُوَ مَا بَين الْمَدِينَة وَالشَّام، وَأَرَادَ بِالْمُرْسَلين صَالحا، وَهُوَ وَإِن كَانَ وَاحِدًا فَالْمُرَاد هُوَ وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ، كَمَا قَالُوا الخبيبيون فِي ابْن الزبير وَأَصْحَابه، وَقيل: كل من كذب وَاحِدًا من الرُّسُل فَكَأَنَّمَا كذبهمْ جَمِيعًا. قَوْله: (وَأما حرث حجر حرَام) أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر} (الْأَنْعَام: 831) . وَفسّر الْحجر بقوله: حرَام، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَحذف البُخَارِيّ الْفَاء من جَوَاب: أما، وَهُوَ قَوْله: حرَام، وَهُوَ جَائِز. قَوْله: (وكل منوع فَهُوَ حجر مَحْجُور) أَي: كل شَيْء يمْنَع فَهُوَ حجر أَي: حرَام، وَمِنْه: حجر مَحْجُور، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا} (الْفرْقَان: 22) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي حَرَامًا محرما. قَوْله: (وَالْحجر كل بِنَاء بنيته) ، بتاء الْخطاب فِي آخِره، ويروي: (تبنيه) ، بتاء الْخطاب فِي أَوله. قَوْله: (فَهُوَ حجر) ، إِنَّمَا دخلت الْفَاء فِيهِ لِأَن قَوْله: (وَمَا حجرت عَلَيْهِ) ، يتَضَمَّن معنى الشَّرْط. قَوْله: (وَمِنْه سمي الْحطيم) ، أَي: وَمن قبيل هَذِه الْمَادَّة سمي حطيم الْبَيْت أَي الْكَعْبَة حجرا، وَهُوَ الْحَائِط المستدير إِلَى جَانب الْكَعْبَة. قَوْله: (كَأَنَّهُ مُشْتَقّ من محطوم مثل قَتِيل من مقتول) ، أَرَادَ: أَن الْحطيم بِمَعْنى المحطوم، كَمَا أَن الْقَتِيل بِمَعْنى الْمَقْتُول يَعْنِي فعيل، وَلكنه بِمَعْنى مفعول، وَلَيْسَ فِيهِ اشتقاق(15/272)
اصطلاحي، وَمعنى: محطوم، مكسور، وَكَأن الْحطيم سمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الأَصْل دَاخل الْكَعْبَة فانكسر بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا. قَوْله: (وَيُقَال للْأُنْثَى من الْخَيل الْحجر) وَيجمع على حجورة. قَوْله: (وَيُقَال لِلْعَقْلِ حجر) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر} (الْفجْر: 5) . أَي: لذِي عقل، لِأَنَّهُ يمْنَع صَاحبه من الْوُقُوع فِي المهالك. قَوْله: (وحجى) بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْجِيم مَقْصُور، وَهُوَ أَيْضا من أَسمَاء الْعقل، وَمِنْه: الحجى بِمَعْنى السّتْر، وَفِي الحَدِيث: (من بَات على ظهر بَيت لَيْسَ عَلَيْهِ حجى فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة) شبهه بالحجى الْعقل، لِأَن الْعقل يمْنَع الْإِنْسَان من الْفساد ويحفظه من التَّعَرُّض للهلاك، فَكَذَلِك السّتْر الَّذِي على السَّطْح يمْنَع الْإِنْسَان من التردي والسقوط. قَوْله: (وَأما حجر الْيَمَامَة فَهُوَ منزل) ، يَعْنِي: أما حجر الْيَمَامَة، بِفَتْح الْحَاء: فَهُوَ اسْم منزل ثَمُود بِنَاحِيَة الشَّام عِنْد وَادي الْقرى، وَهَذَا لَيْسَ لَهُ تعلق بِمَا قبله من الْأَلْفَاظ السِّتَّة، وَلكنه ذكره اسْتِطْرَادًا، وَمن مكسور الْحَاء غيير مَا ذكره حجر الْقَمِيص، وَفِيه جَاءَ الْكسر وَالْفَتْح أفْصح وَمِنْه حجر الْإِنْسَان، قَالَ ابْن فَارس: فِيهِ لُغَتَانِ وَيجمع على حجور، وَجَاء فِي الْحجر الَّذِي بِمَعْنى الْحَرَام الْكسر وَالضَّم وَالْفَتْح. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْكسر أفْصح، وَالْحجر بِفتْحَتَيْنِ مَعْرُوف، وَهُوَ اسْم رجل أَيْضا، وَمِنْه أَوْس بن حجر الشَّاعِر، وَالْحجر بِفَتْح الْخَاء وَسُكُون الْجِيم مصدر حجر القَاضِي عَلَيْهِ إِذا مَنعه من التَّصَرُّف فِي مَاله، وَحجر بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْجِيم: نبت مر، وَاسم رجل أَيْضا وَهُوَ حجر الْكِنْدِيّ الَّذِي يُقَال لَهُ: آكل المرار، وَحجر بن عدي الَّذِي يُقَال لَهُ: الأدبر، وَاعْلَم أَن فِي بعض النّسخ وَقع هَذَا الْبَاب عقيب قَوْله: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هوداً} (الْأَعْرَاف: 37) . وَقَالَ بَعضهم: الصَّوَاب إثْبَاته هُنَا، يَعْنِي: عقيب قَوْله: {وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هوداً} (الْأَعْرَاف: 37) . ثمَّ أيد كَلَامه بِمَا حَكَاهُ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ عَن أبي ذَر الْهَرَوِيّ: أَن نُسْخَة الأَصْل من البُخَارِيّ كَانَت وَرقا غير محبوك، فَرُبمَا وجدت الورقة فِي غير موضعهَا فنسخت على مَا وجدت فَوَقع فِي بعض التراجم إِشْكَال بِحَسب ذَلِك، وإلاَّ فقد وَقع فِي الْقُرْآن مَا يدل على أَن ثَمُود كَانُوا بعد عَاد، كَمَا أَن عاداً بعد قوم نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: الِاعْتِمَاد على هَذَا الْكَلَام مِمَّا يسْتَلْزم سوء التَّرْتِيب بَين الْأَبْوَاب وَعدم الْمُطَابقَة بَين الْأَحَادِيث والتراجم مَعَ الاعتناء الشَّديد فِي كتب البُخَارِيّ على تَرْتِيب مَا وَضعه المُصَنّف فِي تِلْكَ الْأَيَّام، وَلَا يسْتَلْزم وُقُوع قصَّة ثَمُود بعد قصَّة عَاد فِي الْقُرْآن لُزُوم رِعَايَة التَّرْتِيب فِيهِ.
7733 - حدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيَانُ حدَّثنا هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ الله بنِ زَمْعَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذَكَرَ الَّذِي عقَرَ النَّاقَةَ فَقَالَ انْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ ومَنَعَةٍ فِي قُوَّةٍ كَأبي زَمْعَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن عقر النَّاقة فِي قصَّة صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: عبد الله بن الزبير ابْن عِيسَى وَقد مر غير مرّة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن زَمعَة، بِفَتْح الزاء وَسُكُون الْمِيم وَفتحهَا: ابْن الْأسود بن الْمطلب ابْن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي الْأَسدي، أمه قريبَة بنت أبي أُميَّة ابْنة أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، وَكَانَ من أَشْرَاف قُرَيْش، وَكَانَ يَأْذَن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعد فِي أهل الْمَدِينَة، وَزَمعَة وَأَخُوهُ عقيل قتلا يَوْم بدر كَافِرين، وأبوهما الْأسود كَانَ من الْمُسْتَهْزِئِينَ، ذكرُوا أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ضرب فِي وَجهه بِوَرَقَة فَعميَ، وَكَانَ لعبد الله ابْن يُسمى: يزِيد، قَتله مُسْرِف بن عقبَة صبرا يَوْم الْحرَّة، وَقتل لَهُ بنُون أَيْضا يَوْم الْحرَّة، وَلَيْسَ لعبد الله بن زَمعَة فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو عمر وروى عَنهُ عُرْوَة ثَلَاثَة أَحَادِيث: أَحدهَا: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: يضْرب أحدكُم الْمَرْأَة ضرب العَبْد ثمَّ يضاجعها من آخر يَوْمه. وَالثَّانِي: أَنه ذكر الضرطة فوعظهم فِيهَا، فَقَالَ: لِمَ يضْحك أحدكُم مِمَّا يفعل؟ وَالثَّالِث: حَدِيث الْبَاب، وَقد جمع عُرْوَة الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث وَاحِد، كَمَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْأَدَب عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن يُوسُف. وَأخرجه البُخَارِيّ هُنَا بِحَدِيث عقر النَّاقة وَفِي الْأَدَب بِالْحَدِيثِ الأول(15/273)
والْحَدِيث الثَّانِي، وَفِي النِّكَاح بِالْحَدِيثِ الأول، وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هَارُون بن إِسْحَاق وَعَن عَبدة بن سُلَيْمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَهَارُون بن إِسْحَاق بِحَدِيث الْبَاب وَفِي عشرَة النِّسَاء بِالْحَدِيثِ الأول. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة بِالْحَدِيثِ الأول.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَذكر الَّذِي عقر النَّاقة) ، أَي: نَاقَة صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وقصتها هِيَ: أَن صَالحا لما دَعَا قومه إِلَى الله تَعَالَى اقترحوا عَلَيْهِ نَاقَة لأَنهم كَانُوا أَصْحَاب إبل وَكَانَت النوق عِنْدهم عزيزة، فَقَالُوا: لتكن النَّاقة سَوْدَاء حالكة عشراء ذَات عرف وناصية ووبر، فَسَأَلَ الله فَأوحى إِلَيْهِ: أخرج بهم إِلَى فضاء من الأَرْض، فَخَرجُوا فَقَالَ: من أَيْن تريدونها، فأشاروا إِلَى صَخْرَة، فَقَالُوا: من هَذِه فَأَشَارَ إِلَيْهَا صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: أَخْرِجِي بِإِذن الله، فتمخضت تمخض الْحَامِل وانفجرت عَن نَاقَة كَمَا طلبُوا، ثمَّ تَلَاهَا فصيل لَهَا، فَآمن خلق مِمَّن حضر مِنْهُم ملكهم جندع بن عَمْرو ورهط من قومه، وَأَرَادَ أَشْرَاف ثَمُود أَن يُؤمنُوا فنهاهم دؤاب بن عَمْرو وَصَاحب أوثانهم ورئاب بن ضمعر، وَكَانَ من أَشْرَاف ثَمُود وَفِي (تَارِيخ الْفربرِي) : قَالُوا لصالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: لن نؤمن لَك حَتَّى تخرج لنا من هَذِه الصَّخْرَة نَاقَة ذَات ألوان من أَحْمَر ناصع وأصفر فَاقِع وأسود حالك وأبيض يقق، وَيكون نظرها كالبرق الخاطف ورغاؤها كالرعد القاصف، وَيكون طولهَا مائَة ذِرَاع وعرضها كَذَلِك، ذَات ضروع أَرْبَعَة فنحلب مِنْهَا مَاء وَعَسَلًا ولبناً وخمراً، وَيكون لَهَا تبيع على صفتهَا، وَليكن حنينها بتوحيد إل هك وَالْإِقْرَار بنبوتك، فَخرجت مثل مَا قَالُوا، فَآمن الْملك وَكذب بَعضهم وَكذب أَخُو الْملك صَالحا وَملكه مِمَّن لم يُؤمن بِهِ مِنْهُم، والقصة طَوِيلَة، فآخر الْأَمر قَالُوا: قد ضايقتنا هَذِه النَّاقة فِي المَاء والكلأ، فأجمَعوا على عقرهَا كَمَا نذكرهُ. قَوْله: (انتدب لَهَا رجل) ، من نَدبه لأمر فَانْتدبَ أَي: دَعَا لَهُ فَأجَاب. قَوْله: (ذُو عز ومنعة) ، بِفَتْح الْمِيم وَالنُّون وبالعين الْمُهْملَة، وَقيل: بِسُكُون النُّون: وَهِي الْقُوَّة وَمَا يمْنَع بِهِ الْخصم. قَوْله: (فِي قُوَّة) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني والسرخسي وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي قومه. قَوْله: (كَأبي زَمعَة) ، وَهُوَ الْأسود بن الْمطلب وَكَانَ ذَا عز ومنعة فِي قومه كعاقر النَّاقة، والتشبيه فِي هَذَا، وعاقر الناقر هُوَ قدار بن سالف، وَذكر السُّهيْلي: أَنه كَانَ ولد زنا وَهُوَ أَحْمَر ثَمُود الَّذِي يضْرب بِهِ الْمثل فِي الشؤم، وَكَانَ أَحْمَر أشقر أَزْرَق سناطاً قَصِيرا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اسْمه قديرة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: اسْمه قدار بِالدَّال الْمُهْملَة وَهُوَ الْأَصَح وَقَالَ وهب: وَكَانَ فِي الْمَدِينَة ثَمَانِيَة رَهْط يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون فانضاف إِلَيْهِم قدار فصاروا تِسْعَة وَقَالَ وهب: وَكَانَت الثَّمَانِية حاكة وَكَانَ الَّذِي تولى عقرهَا قدار بن سالف، ورماها مصدع بن مهرج، وَذكرهمْ ابْن دُرَيْد فِي (الوشاح) ، فَقَالَ: قدار بن سالف بن جدع. ومصدع بن مهرج بن هزيل بن الْمحيا. وهزيل بن عنز بن غنم بن ميلع. وسبيع بن مكيف بن سيحان. وعرام بن نهبى بن لَقِيط. ومهرب بن زُهَيْر بن سبيع. وسبيع بن رغام بن ملدع، وعريد بن نجد ابْن مهان، ورعين بن عمر بن داعر.
8733 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مِسْكِينٍ أَبُو الْحَسَنِ حدَّثنا يَحْيَى بنُ حَسَّانَ بنِ حَيَّانَ أبُو زَكَرِيَّاءَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ عنْ عَبْدِ الله بنِ دِينارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا نَزَلَ الحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أمَرَهُمْ أنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا ولاَ يَسْتَقُوا مِنْهَا فقالُوا قَدْ عَجَّنَا مِنْهَا واسْتَقَيْنَا فأمَرَهُمْ أَن يَطْرَحُوا ذالِكَ العَجِينَ ويُهَرِيقُوا ذالِكَ المَاءَ. (الحَدِيث 8733 طرفه فِي: 9733) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن مِسْكين الْيَمَانِيّ شيخ الشَّيْخَيْنِ، وَيحيى بن حسان منصرفاً وَغير منصرف ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، التنيسِي مر فِي الْجَنَائِز، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب مولى الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ بربرياً.
قَوْله: (لما نزل الْحجر) أَي: منَازِل ثَمُود. قَوْله: (وَيُهرِيقُوا) ، أَي: ويريقوا من الإراقة، وَالْهَاء زَائِدَة، وَإِنَّمَا أَمرهم أَن لَا يشْربُوا من مَائِهَا خوفًا أَن يورثهم قسوة أَو شَيْئا يضرهم.(15/274)
ويُرْوَى عنْ سَبْرَةَ بنِ مَعْبَدٍ وَأبي الشَّمُوسِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَ بإلقَاءِ الطَّعَامِ
سُبْرَة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء: ابْن معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. وَقَالَ أَبُو عمر: سُبْرَة بن معبد الْجُهَنِيّ، وَيُقَال: بن عَوْسَجَة بن حَرْمَلَة بن سُبْرَة بن خديج بن مَالك بن عَمْرو الْجُهَنِيّ، يكنى أَبَا ثرية، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقَالَ أَبُو عمر: الصَّوَاب ضم الثَّاء، يَعْنِي الْمُثَلَّثَة وَفتح الرَّاء، سكن الْمَدِينَة وَله بهَا دا ثمَّ انْتقل إِلَى مرو وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَوصل حَدِيثه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عبد الْعَزِيز ابْن سُبْرَة بن معبد عَن أَبِيه عَن جده سُبْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه حِين رَاح من الْحجر: (من كَانَ عجن مِنْكُم من هَذَا المَاء عجينة أَو حاس بِهِ حَيْسًا فليلقه) ، وَأَبُو الشموس، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْمِيم وَفِي آخِره سين مُهْملَة: البلوي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام، وَلَا يعرف لَهُ اسْم، وَوصل حَدِيثه البُخَارِيّ فِي (الْأَدَب الْمُفْرد) وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مَنْدَه من طَرِيق سليم ابْن مطير عَن أَبِيه عَنهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك ... فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: فَألْقى ذُو الْعَجِين عجينة وَذُو الحيس حيسه، وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم من هَذَا الْوَجْه، وَزَاد: فَقلت: يَا رَسُول الله! قد حست حيسة أفألقمها رَاحِلَتي؟ قَالَ: نعم.
وَقَالَ أبُو ذَرٍّ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنِ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ
أَبُو ذَر اسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة. قَوْله: (من اعتجن بمائه) ، أَي: أَمر من اعتجن بمائه بالإلقاء، وَوَصله الْبَزَّار من طَرِيق عبد الله بن قدامَة عَنهُ: أَنهم كَانُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك، فَأتوا على وَاد، فَقَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّكُم بوادٍ مَلْعُون فَأَسْرعُوا، وَقَالَ: من اعتجن عجينة أَو طبخ قدرا فليكبها ... الحَدِيث، وَقَالَ: لَا نعلمهُ إلاَّ بِهَذَا الْإِسْنَاد.
9733 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِيَاضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نَافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أخْبَرَهُ أنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْضَ ثَمُودَ الحِجْرَ فاسْتَقُوا مِنْ بِئْرِهَا واعْتَجَنُوا بِهِ فأمَرَهُمْ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وأنْ يَعْلِفُوا الإبِلَ العَجِينَ وأمَرَهُمْ أنْ يَسْتَقُوا مِنَ البِئْرِ الَّتَي كانَتْ تَرِدُها النَّاقَةُ. (انْظُر الحَدِيث 8733) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ.
قَوْله: (الْحجر) ، بِالنّصب على أَنه بدل من أَرض ثَمُود. قَوْله: (وَأَن يعلفوا) ، بِفَتْح الْيَاء من: علفت الدَّابَّة علفاً، قيل: أَمر فِي الحَدِيث الْمَاضِي بالطرح، وَهَهُنَا قَالَ بالتعليف. وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بالطرح ترك الْأكل أَو الطرح عِنْد الدَّوَابّ. قَوْله: (الَّتِي كَانَت) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره الَّتِي كَانَ.
وَفِيه: كَرَاهَة الاستقاء من آبار ثَمُود، قيل: وَيلْحق بهَا نظائرها من الْآبَار والعيون الَّتِي كَانَت لمن هلك بتعذيب الله تَعَالَى على كفره، وَاخْتلف فِي الْكَرَاهَة الْمَذْكُورَة، فَقيل: للتَّحْرِيم، وَقيل: للتنزيه، وعَلى التَّحْرِيم هَل يمْتَنع صِحَة التطهر من ذَلِك المَاء أم لَا؟ وَالظَّاهِر لَا يمْتَنع.
تابَعَهُ أُسَامَةُ عنْ نافِعٍ
أَي: تَابع عبيد الله أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة اللَّيْثِيّ عَن نَافِع، يَعْنِي روى عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة حَرْمَلَة بن يحيى أَبُو حَفْص التجِيبِي الْمصْرِيّ عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي أُسَامَة بن زيد فَذكر مثل حَدِيث عبيد الله، وَفِي آخِره: فَأَمرهمْ أَن ينزلُوا على بِئْر نَاقَة صَالح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيستقوا مِنْهَا.
0833 - حدَّثني مُحَمَّدٌ أخبَرَنَا عَبْدُ الله عنْ مَعْمَرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا مَرَّ بالحِجْرِ قَالَ لاَ تَدْخُلُوا مَساكِنَ الَّذِينَ ظلَمُوا إلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ أنْ يُصِيبَكُمْ مَا أصَابَهُمْ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وهْوَ عَلَى الرَّحْلِ. .(15/275)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد هُوَ ابْن مقَاتل، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن سُوَيْد بن نصر.
قَوْله: (لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا) وَزَاد فِي رِوَايَة: أنفسهم. وَقَوله: مسَاكِن، أَعم من أَن يكون: مسَاكِن ثَمُود وَغَيرهم، مِمَّن هُوَ كصفتهم، وَإِن كَانَ السَّبَب ورد فِي ثَمُود. قَوْله: (بَاكِينَ) وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: باكيين، بياءين. قَالَ ابْن التِّين: وَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن الْيَاء الأولى مَكْسُورَة فِي الأَصْل فاسثقلت وحذفت إِحْدَى اليائين لالتقاء الساكنين. قَوْله: (الَّذين ظلمُوا) : ثَمُود وَمن فِي معناهم من سَائِر الْأُمَم الَّذين نزلت بهم المثلات. قَوْله: (أَن يُصِيبكُم) أَي: حذر أَن يُصِيبكُم، كَقَوْلِك: لَا تقرب الْأسد أَن يفترسك، و: أَن مَصْدَرِيَّة أَي: كَرَاهَة الْإِصَابَة، وَهَذَا التَّقْدِير عِنْد الْبَصرِيين، وَالتَّقْدِير عِنْد الْكُوفِيّين: لِئَلَّا يُصِيبكُم مَا أَصَابَهُم، وَهَذَا خطأ عِنْد الْبَصرِيين لأَنهم لَا يجوزون إِضْمَار: لَا. قَوْله: (ثمَّ تقنَّع) ، أَي تستر. قَوْله: (على الرحل) ، وَهُوَ رَحل الْبَعِير.
1833 - حدَّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا وهْبٌ حدَّثنا أبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سالِمٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَدْخُلُوا مَساكِنَ الَّذِينَ ظلَمُوا أنْفُسَهُمْ إلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أصَابَهُمْ. .
عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، ووهب هُوَ ابْن جرير يروي عَن أَبِيه جرير بن حَازِم الْبَصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْخَسْف حَدِيث ابْن عمر من وَجه آخر رَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تدْخلُوا على هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبين إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِن لم تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تدْخلُوا عَلَيْهِم لِئَلَّا يُصِيبكُم مَا أَصَابَهُم) . وَالله أعلم.
81 - (بابٌ {أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ} (الْبَقَرَة: 331) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {أم كُنْتُم شُهَدَاء} (الْبَقَرَة: 331) . ثبتَتْ هَذِه التَّرْجَمَة هُنَا وَهِي مكررة ذكرت قبل بِثَلَاثَة أَبْوَاب فَلذَلِك لَا تُوجد فِي كثير من النّسخ.
2833 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصِورٍ أخبرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حدَّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ الْكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ ابنِ الكريمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ علَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن يُوسُف دَاخل فِي وَصِيَّة يَعْقُوب حِين حَضَره الْمَوْت، وَإِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج الْمروزِي الْحَافِظ أَبُو يَعْقُوب، سكن نيسابور وَمَات سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وروى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ أَبَا دَاوُد وَلَهُم: إِسْحَاق بن مَنْصُور السَّلُولي الْكُوفِي روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَهُم ثَالِث: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن حَيَّان الْأَسدي الْكُوفِي روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث أَبُو سهل التنوري الْحَافِظ الْحجَّة، وروى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَهُم: عبد الصَّمد بن حبيب العوادي روى لَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ البُخَارِيّ: لين، وَعبد الصَّمد بن سُلَيْمَان الْبَلْخِي الْحَافِظ روى عَنهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة مَاتَ فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الله يروي عَن أَبِيه عبد الله بن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي آخر هَذَا الْبَاب أَيْضا عَن عَبدة بن عبد الله الصفار. وَأخرجه فِي التَّفْسِير أَيْضا. وَقَالَ عبد الله.
قَوْله: (يُوسُف) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ وَهُوَ قَوْله: (الْكَرِيم) ، ضد اللَّئِيم وكل نفس كريم هُوَ متناول للصالح الْجيد دينا وَدُنْيا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وأصل الْكَرم كَثْرَة الْخَيْر وَقد جمع يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَكَارِم الْأَخْلَاق مَعَ شرف النُّبُوَّة، وَكَونه ابْنا لثَلَاثَة أَنْبيَاء متناسلين وَمَعَ شرف رياسة الدُّنْيَا ملكهَا بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان، وَكَون قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْكَرِيم(15/276)
ابْن الْكَرِيم) إِلَى آخِره مَوْزُونا مقفى لَا يُنَافِي: {وَمَا علمناه الشّعْر} (ي س: 96) . إِذْ لم يكن هَذَا بِالْقَصْدِ بل وَقع بالِاتِّفَاقِ، أَو المُرَاد بِهِ صَنْعَة الشّعْر، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود: (يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق ذبيح الله) . وَله من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (قيل: يَا رَسُول الله! من السَّيِّد؟ قَالَ: يُوسُف بن يَعْقُوب، قَالَ: فَمَا فِي أمتك سيد؟ قَالَ: رجل أعْطى مَالا حَلَالا ورزق سماحة) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف.
91 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وإخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (يُوسُف: 17) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ فِي يُوسُف} (يُوسُف: 17) . ويوسف فِيهِ سِتَّة أوجه: ضم السِّين وَكسرهَا وَفتحهَا مَعَ الْهَمْز وَتَركه. وَاخْتلفُوا فِيهِ: هَل هُوَ أعجمى أَو عَرَبِيّ؟ فالأكثرون على أَنه أعجمي، وَلِهَذَا لم ينْصَرف. وَقيل: عَرَبِيّ مَأْخُوذ من الأسف وَهُوَ الْحزن، أَو الأسيف وَهُوَ العَبْد، وَقد اجْتمعَا فِي يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسُمي بِهِ. وَقَالَ مقَاتل: ذكر الله يُوسُف فِي الْقُرْآن فِي سَبْعَة وَعشْرين موضعا. قَوْله: (وَإِخْوَته) ، أَي: فِي خبرهم. قَوْله: (آيَات) ، أَي: عبر. قَوْله: (للسائلين) قيل: الْيَهُود، وَقيل: آيَات أَي عَلَامَات وَدَلَائِل على قدرَة الله تَعَالَى وحكمته فِي كل شَيْء، للسائلين: يَعْنِي لمن سَأَلَ عَن قصتهم، وَقيل: آيَات على نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للَّذين سَأَلُوهُ من الْيَهُود عَنْهَا فَأخْبرهُم بِالصِّحَّةِ من غير سَماع من أحد وَلَا قِرَاءَة كتاب، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقريء: لآيَة، وَفِي بعض الْمَصَاحِف: عِبْرَة.
وَأما أَسمَاء أخوة يُوسُف: فروبيل، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره لَام، وَهُوَ أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، ورويالون. ويسخر وَيُقَال: أَي ساخر. وأمهم ليا بنت لايان، وَهُوَ خَال يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وداني، ويفتالي، وجاد، وآشر، وَهَؤُلَاء من سريتين، ثمَّ توفيت ليا فَتزَوج يَعْقُوب أُخْتهَا راحيل، فَولدت لَهُ يُوسُف وبنيامين، فَالْكل إثنا عشر نَفرا.
3833 - حدَّثني عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ عَن أسَامَةَ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أخْبَرَنِي سَعِيدُ بنُ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ سُئِلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أتْقَاهُم لله قَالُوا لَيْسَ عنْ هَذَا نَسْألُكَ قَالَ فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ الله ابنُ نَبِيِّ الله ابنِ نَبِيِّ الله ابنِ خَلِيلِ الله قالُوا لَيْسَ عَنْ هاذَا نَسْألُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُونِي النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإسْلاَمِ إذَا فَقُهُوا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أكْرم النَّاس يُوسُف نَبِي الله) وَعبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب {أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت} (الْبَقَرَة: 331) . قَالَ الْعلمَاء: لما سَأَلُوا عَن أكْرم النَّاس أخبر بأكرم الْكِرَام، فَقَالَ: أَتْقَاهُم، لِأَن المتقي كَبِير فِي الْآخِرَة، فَلَمَّا قَالُوا لَا نَسْأَلك عَنهُ، فَقَالَ: يُوسُف، نَبِي الله الَّذِي جمع بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا فهم أَن مُرَادهم قبائل الْعَرَب وأصولهم. قَوْله: (فقهوا) ، بِضَم الْقَاف وَحكي كسرهَا.
حدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخبرَنَا عَبْدَةُ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ سَعيدٍ عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا
هَذَا وَجه آخر للْحَدِيث الْمَذْكُور، قَالَ: حَدثنِي ويروى: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن سَلام أخبرنَا عَبدة ويروى: أَخْبرنِي عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : لَعَلَّه المَقْبُري، وشنع عَلَيْهِ بعض من عاصره، لَا شكّ أَن سعيداً هُوَ المَقْبُري بِلَا حرف ترج، وَمثل هَذَا كَيفَ يتَصَدَّى لشرح البُخَارِيّ؟ قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث.
3833 - حدَّثني عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ عَن أسَامَةَ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أخْبَرَنِي سَعِيدُ بنُ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ سُئِلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أتْقَاهُم لله قَالُوا لَيْسَ عنْ هَذَا نَسْألُكَ قَالَ فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ الله ابنُ نَبِيِّ الله ابنِ نَبِيِّ الله ابنِ خَلِيلِ الله قالُوا لَيْسَ عَنْ هاذَا نَسْألُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُونِي النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإسْلاَمِ إذَا فَقُهُوا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أكْرم النَّاس يُوسُف نَبِي الله) وَعبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب {أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت} (الْبَقَرَة: 331) . قَالَ الْعلمَاء: لما سَأَلُوا عَن أكْرم النَّاس أخبر بأكرم الْكِرَام، فَقَالَ: أَتْقَاهُم، لِأَن المتقي كَبِير فِي الْآخِرَة، فَلَمَّا قَالُوا لَا نَسْأَلك عَنهُ، فَقَالَ: يُوسُف، نَبِي الله الَّذِي جمع بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا فهم أَن مُرَادهم قبائل الْعَرَب وأصولهم. قَوْله: (فقهوا) ، بِضَم الْقَاف وَحكي كسرهَا.
حدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخبرَنَا عَبْدَةُ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ سَعيدٍ عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا
هَذَا وَجه آخر للْحَدِيث الْمَذْكُور، قَالَ: حَدثنِي ويروى: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن سَلام أخبرنَا عَبدة ويروى: أَخْبرنِي عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : لَعَلَّه المَقْبُري، وشنع عَلَيْهِ بعض من عاصره، لَا شكّ أَن سعيداً هُوَ المَقْبُري بِلَا حرف ترج، وَمثل هَذَا كَيفَ يتَصَدَّى لشرح البُخَارِيّ؟ قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث.(15/277)
4833 - حدَّثنا بَدلُ بنُ الْمُحَبَّرِ أخْبرَنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا مُرِي أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ قالَتْ إنَّهُ رَجُلٌ أسِيفٌ مَتَى يَقُمْ مَقامَكَ رَقَّ فَعَادَتْ قَالَ شُعْبَةُ فقالَ فِي الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أبَا بَكْر. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُوسُف) . وَبدل، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالدَّال الْمُهْملَة وباللام: ابْن المحبر، بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة وبالراء: الْيَرْبُوعي الْبَصْرِيّ، وَيُقَال: الوَاسِطِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب من أسمع النَّاس تَكْبِير الإِمَام وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ وَفِي: بَاب إِذا بَكَى الإِمَام فِي الصَّلاة.
قَوْله: (مرى) ، أَمر من: أَمر يَأْمر وَأَصله: اؤمري، فحذفت الْهمزَة الثَّانِيَة تَخْفِيفًا وَاسْتغْنى عَن همزَة الْوَصْل فحذفت، فَصَارَ، مري، على وزن: عَليّ. قَوْله: (أسيف) وَفِي رِوَايَة زَائِدَة بعْدهَا: رَقِيق الْقلب سريع الْبكاء والحزن. قَوْله: (رق) ، أَي: يحصل لَهُ الرقة. قَوْله: (فَعَاد) ، أَي: فَعَاد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى كَلَامه بِأَن قَالَ (مري) قَوْله: (فَعَادَت) أَي: عَائِشَة إِلَى كَلَامهَا الأول بِأَن قَالَت: إِنَّه رجل أسيف، وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت هُنَاكَ.
5833 - حدَّثنا الرَّبِيعُ بنُ يَحْيَى البَصَرِيُّ حدَّثنا زَائِدَةُ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عنْ أبِي بُرْدَةَ بنِ أبِي مُوساى عنْ أبِيهِ قَالَ مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقالَتْ إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ فقالَ مِثْلَهُ فقالَ مُرُوهُ فإنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ فأمَّ أبُو بَكْرٍ فِي حَيَاةِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ حُسَيْنٌ عنْ زَائِدَةَ رَجُلٌ رَقِيقٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُوسُف) . وزائدة بن قدامَة وَأَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه عَامر، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ.
قَوْله: (فَقَالَت) ، أَي: عَائِشَة. قَوْله: (فَقَالَ مثله) ، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مثل مَا قَالَ فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (فَقَالَت مثله) ، أَي: فَقَالَت عَائِشَة مثل مَا قَالَت فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (فَقَالَ حُسَيْن) ، وَالْحُسَيْن هُوَ ابْن عَليّ الْجعْفِيّ وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الَّذِي فِي: بَاب أهل الْعلم الَّذِي ذكرنَا آنِفا، وَهُوَ الرَّاوِي عَن زَائِدَة فِيهِ.
6833 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبرَنَا شُعَيْبٌ حدَّثَنَا أبُو الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بنَ أبِي رَبِيعَةَ أللَّهُمَّ أنْجِ سلَمَةَ بنَ هِشَامٍ أللَّهُمَّ أنْجِ الولِيدَ بنَ الوَلِيدِ أللَّهُمَّ أنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأتَكَ عَلَى مُضَرَ ألَّلهُمَّ اجْعَلْهَا سِنينَ كَسِني يُوسُفَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَسِنِي يُوسُف) وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه على هَذَا النسق قد مر غير مرّة، وَمضى الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة مطولا فِي: بَاب يهوي بِالتَّكْبِيرِ حِين يسْجد، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
7833 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ ابنِ أخِي جُوَيْرِيَةَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنْ مالِكٍ عنِ الزُّهْرِيِّ أنَّ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيَّبِ وأبَا عُبَيْدٍ أخْبَرَاهُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْحَمُ الله لوطَاً لَقَدْ كانَ يَأوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ولَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ أتَانِي الدَّاعِي لأجَبْتُهُ. .(15/278)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا لبث يُوسُف) وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَجُوَيْرِية مصغر جَارِيَة وَهُوَ من الْأَعْلَام الْمُشْتَركَة بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث: ابْن أَسمَاء بِوَزْن حَمْرَاء الضبعِي. والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب قَوْله عز وَجل: {ونبئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم} (الْحجر: 15) . وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
8833 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخْبَرَنا ابنُ فُضَيْلٍ حدَّثنا حُصَيْنٌ عنْ شَقِيقٍ عنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سألْتُ أمَّ رُومانَ وهْيَ أمُّ عائِشَةَ عَمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ قالَتْ بَيْنَمَا أنَا مَعَ عَائِشَةَ جالِسَتَانِ إذْ ولَجَتْ عَلَيْنَا امْرَأةٌ مِنَ الأنْصَارِ وهْيَ تَقُولُ فَعَلَ الله بِفُلاَنٍ وفَعَلَ قالَتْ فَقُلْتُ لِمَ قالَتْ إنَّهُ نَمَّى ذِكْرَ الحَدِيثِ فَقالَتْ عائِشَةُ أيُّ حَدِيثٍ فأخْبَرَتْهَا قالَتْ فَسَمِعَهُ أَبُو بَكْرٍ ورسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ نَعَمْ فَخَرَّتْ مَغْشِيَّاً عَلَيْهَا فَما أفَاقَتْ إلاَّ وعَلَيْهَا حُمَّى بِنافِضٍ فَجاءَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا لِهَذِهِ قُلْتُ حُمَّى أخَذَتْها مِنْ أجْلٍ حَدِيثٍ تُحَدِّثُ بِهِ فقَعَدَتْ فقالَتْ وَالله لَئِنْ حَلَفْتُ لاَ تُصَدِّقُونِي ولَئِنِ اعْتَذَرْتُ لاَ تَعْذِرُونِي فَمَثَلِي ومَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وبَنِيهِ فَالله الْمُسْتَعَانُ علَى مَا تَصِفُونَ فانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأنْزَلَ الله مَا أنْزَلَ فأخْبَرَهَا فقالَتْ بِحَمْدِ الله لَا بِحَمْدِ أحَدٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْلهَا: (فمثلي ومثلكم كَمثل يَعْقُوب وبنيه) فَإِن فِيهِ يُوسُف أَيْضا، وَسَيَأْتِي فِي قصَّة الْإِفْك فِي سُورَة النُّور عَن عَائِشَة بِلَفْظ: والتمست اسْم يَعْقُوب فَلم أَجِدهُ، فَقلت: مَا أحد لي وَلكم مثلا، إِلَّا أَبَا يُوسُف.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام البُخَارِيّ البيكندي وَهُوَ من أَفْرَاده. الثَّانِي: مُحَمَّد بن فُضَيْل مصغر فضل ابْن غَزوَان الْكُوفِي. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عبد الرَّحْمَن الْهِلَالِي. الرَّابِع: شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي أَبُو وَائِل الْكُوفِي. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي الوادعي أَبُو عَائِشَة الْكُوفِي. السَّادِس: أم رُومَان، بِضَم الرَّاء، وَقيل: بِفَتْحِهَا بنت عَامر بن عُوَيْمِر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع ابْن دهمان بن الْحَارِث بن غنم بن مَالك بن كنَانَة، قَالَ أَبُو عمر: هَكَذَا نَسَبهَا مُصعب، وَخَالفهُ غَيره، وَالْخلاف من أَبِيهَا إِلَى كنَانَة كثير جدا، وَأَجْمعُوا أَنَّهَا من بني غنم بن مَالك بن كنَانَة، امْرَأَة أبي بكر الصّديق وَأم عَائِشَة وَعبد الرَّحْمَن ابْني أبي بكر، وَذكر فِي (التَّوْضِيح) : أم رُومَان دعد، وَيُقَال: زَيْنَب بنت عُمَيْر بن عَامر، وَقيل: بنت عَامر بن عُوَيْمِر.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا السَّنَد اخْتلف فِيهِ، فَقيل: إِنَّه مُنْقَطع. قَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة مَسْرُوق عَن أم رُومَان مُرْسلَة، وَلَعَلَّه سمع ذَلِك من عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ ابْن سعد وَأَبُو حسان الزيَادي: أم رُومَان مَاتَت فِي حَيَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سنة سِتّ، وَنزل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبرها، زَاد الزبير: فِي ذِي الْحجَّة، وَقَالَ أَبُو عمر: سنة أَربع، وَقيل: سنة خمس، فعلى هَذَا لَا يتَّجه سَماع مَسْرُوق مِنْهَا، وَيكون حَدِيثه مُنْقَطِعًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الحَدِيث مُتَّصِل، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ فِي (تَارِيخه) و (علله) : سَأَلَ مَسْرُوق أم رُومَان وَله خمس عشرَة سنة، وَمَات وَله ثَمَان وَسَبْعُونَ سنة، وَهِي أقدم من حدث عَنهُ مَسْرُوق، وَقد صلى خلف أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ أَبُو نعيم الْحَافِظ: بقيت بعد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دهراً طَويلا، فعلى هَذَا الحَدِيث مُتَّصِل، وَقَالَ الْخَطِيب: الْعجب من الْحَرْبِيّ كَيفَ خفى عَلَيْهِ اسْتِحَالَة سُؤال مَسْرُوق لَهَا مَعَ علو قدره فِي الْعلم، وأحسب الْعلَّة الَّتِي دخلت عَلَيْهِ اتِّصَال السَّنَد وثقة رِجَاله، وَلم يتفكر فِيمَا وَرَاء ذَلِك، فَهِيَ الْعلَّة الَّتِي دخلت على البُخَارِيّ حَتَّى خرجه، أما مُسلم فَلم يُخرجهُ، وَرِجَاله على شَرطه، وَأَحْسبهُ فطن لاستحالته فردَّه، وَقَول الْحَرْبِيّ: سَأَلَهَا وَله خمس عشرَة سنة، فعلى هَذَا لَو كَانَ لَهُ وَقت وَفَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضع عشرَة سنة، فَمَا الَّذِي مَنعه أَن يسمع من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَلَقَد انتصر بَعضهم للْبُخَارِيّ: بِأَنَّهُ لما ذكر رِوَايَة عَليّ بن زيد بن جدعَان عَن الْقَاسِم: مَاتَت أم رُومَان زمن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فِيهِ نظر، لضعف عَليّ وَانْقِطَاع حَدِيث الْقَاسِم. وَحَدِيث مَسْرُوق أسْند، وَقَالَ أَيْضا: الَّذِي رَوَاهُ ابْن سعد(15/279)
أَصله من الْوَاقِدِيّ وَفِيه مقَال، ورد عَلَيْهِ بِأَن الْحميدِي قَالَ: كَانَ بعض من لَقينَا من البغداديين الْحفاظ يَقُولُونَ: الْإِرْسَال فِي هَذَا الحَدِيث بيِّن. وَقَالَ الْخَطِيب: وَقع فِي كتاب فِي رِوَايَة: رَوَاهُ مَسْرُوق عَن أبي مَسْعُود عَن أم رُومَان، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه، وَكَذَا قَالَه نَاصِر السلَامِي، وَقَالَ الْخَطِيب أَيْضا: الصَّوَاب أَن يُقَال: سُئِلت أم رُومَان على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي وَهَذَا أشبه بِالصِّحَّةِ، لِأَن من النَّاس من يكْتب الْهمزَة ألفا فِي جَمِيع أحوالها الرّفْع وَالنّصب والخفض، فَلَعَلَّ بعض النقلَة كتب على صُورَة سَأَلت بِالْألف وَدون عَلَيْهِ وَرَوَاهُ؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا يَنْفَعهُ هَذَا الْعذر لما جَاءَ فِي حَدِيث الْإِفْك من الْمَغَازِي، قَالَ مَسْرُوق: حَدَّثتنِي أم رُومَان، قلت: قيل: إِنَّه وهم فِيهِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ من الْوَهم أَن أم مسطح من قُرَيْش، وَقَالَت: ولجت علينا امْرَأَة من الْأَنْصَار، وَقَالَ الْخَطِيب: الرَّاوِي عَن شَقِيق عَن مَسْرُوق هُوَ حُصَيْن، وحصين قد اخْتَلَط فِي آخر عمره، فَلَعَلَّهُ روى الحَدِيث فِي حَال اخْتِلَاطه؟ قَالَ الْخَطِيب أَيْضا: وَفِي رِوَايَة عَن مَسْرُوق: سُئِلت أم رُومَان، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَه بِالصِّحَّةِ، وَالله أعلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَمَّا قيل فِيهَا) ، أَي: فِي عَائِشَة، مَا قيل من الْإِفْك. قَوْله: (إِذا ولجت) ، أَي: دخلت. قَوْله: (فعل الله بفلان وَفعل) ، أَرَادَت الْأَنْصَارِيَّة الْمَذْكُورَة بفلان: مسطحًا، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ مسطح بن أَثَاثَة بن عباد بن الْمطلب بن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي المطلبي، يكنى أَبَا عباد، وَقَالَ أَبُو عمر: اسْمه عَوْف لَا اخْتِلَاف فِي ذَلِك، وَغلب عَلَيْهِ مسطح، وَأمه سلمى بنت صَخْر بن عَامر بن كَعْب بن سعد بن تَمِيم بن مرّة، وَهِي ابْنة خَالَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: أم مسطح سلمى بنت صَخْر بن عامرة خَالَة أبي بكر الصّديق، شهد مسطح بَدْرًا وَمَات سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْن سِتّ وَخمسين سنة، وَقد قيل: إِنَّه شهد صفّين مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَلما خَاضَ فِي الْإِفْك على عَائِشَة وَنزلت براءتها جلده رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيمَن جلد فِي ذَلِك، وَكَانَ أَبُو بكر ينْفق عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ وَفَقره، فتألَّى أَن لَا ينْفق عَلَيْهِ، فَنزلت: {وَلَا يأتلِ أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة ... } (النُّور: 22) . الْآيَة، فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله إِنِّي لأحب أَن يغْفر الله لي، فَرجع إِلَى مسطح النَّفَقَة الَّتِي كَانَ ينْفق عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَالله لَا أنزعهَا عَنهُ أبدا. قَوْله: (إِنَّه نمَّى) ، بتَشْديد الْمِيم من التنمية، وَهِي رفع الْخَبَر، يُقَال: نميت الحَدِيث أنميه: إِذا بلغته على وَجه الْإِصْلَاح وَطلب الْخَيْر، فَإِذا بلَّغته على وَجه الْإِفْسَاد والنميمة، قلت: نميته، بِالتَّشْدِيدِ، كَذَا قَالَه أَبُو عبيد وَابْن قُتَيْبَة وَغَيرهمَا من الْعلمَاء، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: نمى، مُشَدّدَة وَأكْثر الْمُحدثين يَقُولُونَهَا مُخَفّفَة، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَهَذَا لَا يجوز، يَعْنِي هَهُنَا. وَفِي (الْمطَالع) : وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (ينافض) ، أَي: ملتبسة بارتعاد، والنافض من الْحمى هُوَ ذَات الرعدة، والنفض التحريك. قَوْله: (من أجل حَدِيث) ، وَهُوَ حَدِيث الْإِفْك. قَوْله: (تحدث بِهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول صفة لحَدِيث. قَوْله: (ومثلي) أَي: صِفَتي كصفة يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ صَبر صبرا جميلاً، وَقَالَ: {وَالله الْمُسْتَعَان} (يُوسُف: 81) . قَوْله: (مَا أنزل) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين جاؤا بالإفك عصبَة مِنْكُم ... } (النُّور: 11) . الْعشْر الْآيَات، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا عَائِشَة أما الله فقد برأك، فَقَالَت أمهَا: قومِي إِلَيْهِ، فَقَالَت: وَالله لَا أقوم إِلَيْهِ فَإِنِّي وَلَا أَحْمد إلاَّ الله، عز وَجل) وَهُوَ معنى قَوْلهَا: (بِحَمْد الله لَا بِحَمْد أحد) .
9833 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلِ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرَنِي عُرْوَةُ أنَّهُ سألَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرَأيْتِ قَوْلَهُ حَتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا أوْ كُذِبُوا قالَتْ بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ فَقُلْتُ وَالله لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ ومَا هُوَ بالظِّنِّ فقالَتْ يَا عُرَيَّةُ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذالِكَ قُلْتُ فلَعَلَّهَا أوْ كُذِبُوا قالَتْ مَعَاذَ الله لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذالِكَ بِرَبِّهَا وأمَّا هاذِهِ الآيَةُ قالَتْ هُمْ أتْباعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وصَدَّقُوهُمْ وطَالَ عَلَيْهِمِ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى إذَا اسْتَيْأسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وظَنُّوا أنَّ أتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جاءَهُمْ نَصْرُ الله. .(15/280)
مَا رَأَيْت أحدا ذكر وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة، وَلَكِن لَهُ مُنَاسبَة للْحَدِيث السَّابِق من حَيْثُ مَجِيء النَّصْر فِي حق كل مِمَّن ذكر فِيهَا بعد الْيَأْس، فَيكون هَذَا مطابقاً للْحَدِيث السَّابِق من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ نقُول: المطابق للمطابق للشَّيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء.
وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبِرِينِي. قَوْله: (وَقَوله) أَي: قَول الله تَعَالَى {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا} (يُوسُف: 011) . وَتَمام الْآيَة: {جَاءَهُم نصرنَا فنجى من نشَاء وَلَا يرد بأسنا عَن الْقَوْم الْمُجْرمين} (يُوسُف: 011) . قَوْله: (إِذا استيأس الرُّسُل) من الْيَأْس وَهُوَ الْقنُوط، وَنَذْكُر بَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وظنوا) أَي: الرُّسُل ظنُّوا أَنهم كذبُوا، وَفهم عُرْوَة من ظَاهر الْكَلَام: أَن نِسْبَة الظَّن بالتكذيب لَا يَلِيق فِي حق الرُّسُل، فَقَالَت لَهُ عَائِشَة: لَيْسَ كَمَا زعمت، بل مَعْنَاهُ مَا أشارت إِلَيْهِ بقوله بِكَلِمَة الإضراب: بل كذبهمْ قَومهمْ، فِي وعد الْعَذَاب، وَقَرِيب مِنْهُ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: وظنوا حِين ضعفوا وغلبوا أَنهم قد أخْلفُوا مَا وعدهم الله من النَّصْر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وظنوا أَنهم قد كذبُوا، أَي: كذبتهم أنفسهم حِين حدثتهم بِأَنَّهُم ينْصرُونَ. قَوْله: (فَقلت) ، الْقَائِل هُوَ عُرْوَة، فَكَأَنَّهُ أشكل عَلَيْهِ قَوْله: وظنوا لأَنهم تيقنوا، وَمَا ظنُّوا، فَقَالَ: وَالله لقد استيقنوا أَن قَومهمْ كذبوهم، فَردَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَة بقولِهَا يَا عرية لقد استيقنوا بذلك، وأشارت بذلك أَن الظَّن هُنَا بِمَعْنى الْيَقِين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إلاَّ إِلَيْهِ} (التَّوْبَة: 811) . أَي: تيقنوا، ثمَّ عَاد عُرْوَة إِلَيْهَا فَقَالَ: أَو كذبُوا، بِالتَّخْفِيفِ، وَلَفظ الْقُرْآن على لفظ الْفَاعِل على معنى: وَظن الرُّسُل أَنهم قد كذبُوا فِيمَا حدثوا بِهِ قَومهمْ، فأجابت عَائِشَة بقولِهَا: معَاذ الله، لم تكن الرُّسُل تظن ذَلِك بربها، وأشارت بذلك إِلَى مَا فهمه عُرْوَة مِنْهُ، وَلما لم ترض عَائِشَة بِمَا قَالَه فِي الْمَوْضِعَيْنِ خاطبته بقولِهَا: يَا عرية بِالتَّصْغِيرِ وَلكنه تَصْغِير الشَّفَقَة والمحبة والدلال، وَلَيْسَ تَصْغِير التحقير، وَأَصلهَا: عريوة، اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (وَأما هَذِه الْآيَة) ، جَوَاب: أما مَحْذُوف تَقْدِيره: فَالْمُرَاد من الظانين فِيهَا هم أَتبَاع الرُّسُل ... إِلَى آخِره.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله اسْتَيأسُوا افْتَعَلُوا مِنْ يَئِسْتُ مِنْهُ مِنْ يُوسُفَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (افتعلوا) ، يَعْنِي: وزن استيأسوا افتعلوا وَلَيْسَ كَذَلِك، بل وَزنه: استفعلوا وَالسِّين وَالتَّاء فِيهِ زائدتان للْمُبَالَغَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: استيأسوا استفعلوا، وَفِي بعض النّسخ: افتعلوا، وغرضه بَيَان الْمَعْنى، وَأَن الطّلب لَيْسَ مَقْصُودا فِيهِ وَلَا بَيَان الْوَزْن والاشتقاق. قلت: قَالَ بَعضهم فِي كثير من الرِّوَايَات: افتعلوا، وَقَوله: إِن الطّلب لَيْسَ مَقْصُودا مِنْهُ، كَلَام واهٍ لِأَن من قَالَ: إِن السِّين فِيهِ للطلب، قَالَ: لَيْسَ إلاَّ للْمُبَالَغَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، نَص الزَّمَخْشَرِيّ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجياً} (يُوسُف: 08) . قَوْله: وَلَا بَيَان الْوَزْن، أَيْضا كَلَام واه لِأَنَّهُ إِذا لم يكن مُرَاده بَيَان الْوَزْن لِمَ قَالَ: استيأسوا افتعلوا؟ وَهَذَا عين بَيَان الْوَزْن، وَالظَّاهِر أَن مثل هَذَا من قُصُور الْيَد فِي علم التصريف.
{لَا تَيْأسُوا مِنْ رَوْحِ الله} (يُوسُف: 78) . مَعْناهُ الرَّجاءُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الرّوح فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تيأسوا من روح الله} (يُوسُف: 78) . بِمَعْنى: الرَّجَاء، وَعَن قَتَادَة: أَي لَا تيأسوا من رَحْمَة الله، كَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد بن بشير عَنهُ.
0933 - أخْبرَني عَبْدَةُ حدَّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ بنِ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ أسْحااقَ ابنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمِ السَّلامُ. (انْظُر الحَدِيث 2833 وطرفه) .
عَبدة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله أَبُو سهل الصفار الْخُزَاعِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ بالأهواز سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا عَبدة، وَفِي السِّتَّة: عَبدة بن سُلَيْمَان الْكلابِي، وَعَبدَة ابْن أبي لبَابَة تَابِعِيّ كُوفِي نزل دمشق، روى لَهُ الْجَمَاعَة مَا خلا أَبَا دَاوُد، وَعَبدَة بن سُلَيْمَان الْمروزِي نزل المصيصة صَاحب ابْن الْمُبَارك. روى عَنهُ أَبُو دَاوُد، وَقيل: روى عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا، ذكره ابْن عدي وَلم يذكر غَيره، وَعَبدَة بن عبد الرَّحِيم(15/281)
الْمروزِي روى لَهُ التِّرْمِذِيّ، مَاتَ بِدِمَشْق سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث الْبَصْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله. والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب {أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت} (الْبَقَرَة: 331) .
22 - (بابُ قَوْلِ الله تَعالى عزَّ وجَلَّ {وأيُّوبَ إذْ نادَى رَبَّهُ أنِّي مسَّنِي الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الْأَنْبِيَاء: 38) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر فِي حَال أَيُّوب فِي قَول الله تَعَالَى عز وَجل: {وَأَيوب إِذْ نَادَى ربه} (الْأَنْبِيَاء: 38) . الْآيَة. وَأَيوب: اسْم أعجمي لَا ينْصَرف للعجمة والعلمية، ذكره الله فِي الْقُرْآن فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَقَوله: وَأَيوب عطف على مَا قبله: {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} (الْأَنْبِيَاء: 87) . وَالتَّقْدِير: وَاذْكُر أَيُّوب، كَمَا أَن التَّقْدِير فِي قَوْله: وَدَاوُد: أذكر دَاوُد. وَاخْتلفُوا فِي نسبه. فَقيل: أَيُّوب ابْن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا السَّلَام، نقل هَذَا عَن كَعْب وَابْن إِسْحَاق. وَقيل: أَيُّوب ابْن أموص بن زيرح بن رعويل بن عيصو. وَقيل: أَيُّوب بن ساري بن رغوال بن عيصو، وَالْمَشْهُور الأول. وَقيل: كَانَ أَبوهُ مِمَّن آمن بإبراهيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم ألقِي فِي النَّار، وَالْمَشْهُور أَنه من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم لقَوْله تَعَالَى: {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ... } (الْأَنْعَام: 48) . الْآيَة، وَالْمَشْهُور أَن الضَّمِير عَائِد إِلَى إِبْرَاهِيم دون نوح، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت أمه من ولد لوط بن هاران، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَأمه بنت لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ أَيُّوب فِي زمن يَعْقُوب وَتزَوج ابْنة يَعْقُوب وَاسْمهَا رَحْمَة، وَقيل: دنيا، وَقيل: ليا، وَقيل: إِنَّمَا تزوج أَيُّوب رَحْمَة بنت مِيشَا بن يُوسُف بن يَعْقُوب. وَقيل: رَحْمَة بنت إفرائيم بن يُوسُف، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّبْصِرَة) : أَنه كَانَ فِي زمن يَعْقُوب وَلَكِن لم يكن نَبيا فِي زَمَانه ونبيء بعد يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: كَانَ بعد سُلَيْمَان، رُوِيَ عَن مقَاتل، وَكَانَ أَيُّوب رجلا غَنِيا وَكَانَ لَهُ خَمْسمِائَة فدان يتبعهَا خَمْسمِائَة عبد، لكل عبد امْرَأَة وَولد وَتحمل آلَة كل فدان أتان، لَكِن أتان ولد من اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَخَمْسَة وَفَوق ذَلِك. وَقيل: لَهُ سِتّ مائَة عبد وَلكُل عبد امْرَأَة وَمَال، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَة عشر ولدا وَكَانَ كثير الضِّيَافَة على مَذْهَب إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ يكفل الأرامل واليتامى وَيحمل المنقطعين وَمَا كَانَ يشْبع حَتَّى يشْبع الجائع، وَلَا يكتسي حَتَّى يكسو العاري.
قَوْله: (إِذْ نَادَى ربه) أَي: حِين نَادَى ربه، أَي: حِين دَعَا ربه: إِنِّي مسني الضّر، قَرَأَ حَمْزَة: مسني، بِسُكُون الْيَاء وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، والضر، بِالضَّمِّ: الضَّرَر فِي النَّفس من مرض وهزال، وبالفتح: الضَّرَر فِي كل شَيْء. وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: إِنِّي مسني الضّر؟ فَقيل: قَالَ ذَلِك عِنْد بيع امْرَأَته قرنا من شعرهَا لشَيْء اشتهاه فَلم يقدر عَلَيْهِ. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لما سمع نَفرا يَقُولُونَ: إِنَّمَا أُصِيب هَذَا لذنب عَظِيم فعله. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عِنْد انْقِطَاع الْوَحْي عَنهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فخاف الهجران. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عِنْد أكل الدُّود جَمِيع جسده، ثمَّ أَرَادَ الدَّب إِلَى قلبه. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عَن تَأَخّر زَوجته عَنهُ أَيَّامًا لمَرض حصل لَهَا فَلم يبْق من ينظر فِي أمره.
وَقَالَ الْحسن: أَتَى إِبْلِيس إِلَى امْرَأَته بسخلة، فَقَالَ: قولي لَهُ ليذبحها لي حَتَّى يبرأ، فَجَاءَت وحكت بذلك، فَقَالَ: كدت أَن تهلكيني. لَئِن فرج الله عني لأجلدنك مائَة، تَأْمُرِينِي أَن أذبح لغير الله ثمَّ طردها عَنهُ وَبَقِي وحيداً لَيْسَ لَهُ معِين، فَقَالَ: مسني الضّر، وَقيل غير ذَلِك. فَإِن قلت: فَلِمَ لَم يدع أول مَا نزل بِهِ الْبلَاء؟ قلت: لِأَنَّهُ علم أَمر الله فِيهِ، وَلَا تصرف للْعَبد مَعَ مَوْلَاهُ، وَأَرَادَ مضاعفة الثَّوَاب فَلم يسْأَل كشف الْبلَاء.
قَوْله: (وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ) تَعْرِيض مِنْهُ بسؤال الرَّحْمَة إِذْ أثنى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أرْحم وألطف فِي السُّؤَال حَيْثُ ذكر نَفسه بِمَا يُوجب الرَّحْمَة، وَذكر ربه بغاية الرَّحْمَة، وَلم يُصَرح بالمطلوب، وَقَالَ بَعضهم: لم يثبت عِنْد البُخَارِيّ فِي قصَّة أَيُّوب شَيْء فَاكْتفى بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي على شَرطه، قلت: إِنَّه أَرَادَ بِهِ حَدِيث الْبَاب، وَفِيمَا قَالَه نظر لعدم الدَّلِيل على عدم ثُبُوت غير هَذَا الحَدِيث عِنْده، وَلَا يلْزم من عدم ذكره غير هَذَا الحَدِيث أَن لَا يكون عِنْده شَيْء غير هَذَا الحَدِيث على شَرطه، ثمَّ قَالَ: وَأَصَح مَا ورد فِي قصَّته مَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم وَابْن جرير وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من طَرِيق نَافِع بن يزِيد عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، أَن أَيُّوب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتُلِيَ فَلبث فِي بلائه ثَلَاث عشرَة سنة فرفضه الْقَرِيب والبعيد ... الحَدِيث، وروى أَحْمد بن وهب عَن عَمه عبد الله بن وهب: أخبرنَا نَافِع عَن يزِيد عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن أنس مَرْفُوعا: أَن أَيُّوب مكث فِي بلائه ثَمَان عشرَة سنة، وَعَن خَالِد بن دريك: أَصَابَهُ الْبلَاء على رَأس ثَمَانِينَ سنة من عمره، وَعَن ابْن عَبَّاس: مكث فِي الْبلَاء سبع سِنِين وَكَانَ(15/282)
أَصَابَهُ بعد السّبْعين من عمره، وَعَن ابْن عَبَّاس: سبع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام وَسبع سَاعَات، وَقَالَ الْحسن: مكث أَيُّوب مطروحاً على كناسَة مزبلة لبني إِسْرَائِيل سبع سِنِين وأشهراً، وَقَالَ الطَّبَرِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ، رَحِمهم الله تَعَالَى: كَانَ عمره حِين مَاتَ ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة، وَقيل: عَاشَ مائَة وستاً وَأَرْبَعين سنة، وَدفن فِي الْموضع الَّذِي ذهب فِيهِ بلاؤه، وَهُوَ بالبثنية بِالشَّام، وقبره ظَاهر بهَا.
ارْكُضْ اضْرِبْ يَرْكُضُونَ يَعْدُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام: {أركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب} (ص: 24) . الْمَعْنى: اضْرِب برجلك الأَرْض وحرك هَذَا مغتسل فِيهِ إِضْمَار مَعْنَاهُ، فركض فنبعت عين، فَقيل: هَذَا مغتسل أَي: هَذَا مَاء مغتسل بَارِد وشراب أَي: يغْتَسل بِهِ وَيشْرب مِنْهُ، وَلما أمره الله بذلك ركض بِرجلِهِ الأَرْض فنبعت عين فاغتسل فِيهَا فَلم يبْق عَلَيْهِ شَيْء من الدَّاء وَعَاد إِلَيْهِ شبابه وجماله أحسن مَا كَانَ، ثمَّ ضرب بِرجلِهِ فنبعت عين أُخْرَى فَشرب مِنْهَا، فَلم يبْق فِي جَوْفه دَاء إلاَّ خرج فَقَامَ صَحِيحا وكسي حلَّة. وَقَالَ السّديّ: جَاءَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بحلة من الْجنَّة فألبسها. فَإِن قلت: كَانَ يَكْفِيهِ ركضة وَاحِدَة؟ قلت: الركضة الأولى لزوَال الضَّرَر. وَالثَّانيَِة: دَلِيل الْفَرح والطرب بالعافية بِشَربَة مِنْهَا، وَإِنَّمَا خص الرِّجل بالركض لِأَن الْعَادة جَارِيَة بِأَن تنبع المَاء من تَحت الرِّجل فَكَانَ ذَلِك معْجزَة لَهُ. قَوْله: (يركضون) أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا هم مِنْهَا يركضون} (الْأَنْبِيَاء: 21) . وَفَسرهُ بقوله: يعدُون، وَفَسرهُ الْفراء بقوله: يهربون، وَوجه ذكر هَذَا كَون: أركض ويركضون، من مَادَّة وَاحِدَة.
1933 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانَاً خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ فجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَي رَبُّهُ يَا أيّوبُ ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ ولَكِنْ لاَ غِنَى لِي عنْ بَرَكَتِكَ. (انْظُر الحَدِيث 972 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ أَن عقيب قَوْله: {رَبِّي إِنِّي مسني الضّر} (الْأَنْبِيَاء: 38) . جَاءَ الْوَحْي بقوله: {اركض برجلك} (ص: 24) . فركض فنبع المَاء فاغتسل فِيهِ، وَهُوَ عُرْيَان، فَنزل عَلَيْهِ رجل جَراد، ورواة هَذَا قد مروا غير مرّة.
والْحَدِيث مر فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب من اغْتسل عُريَانا، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
وَقد ذكرنَا غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين، فأشبعت الفتحة بِالْألف ويضاف إِلَى جملَة وَهِي: أَيُّوب مُبْتَدأ، ويغتسل خَبره، وعرياناً نصب على الْحَال. قَوْله: (خر) أَي: سقط، وَهُوَ جَوَاب: بَينا، وَقد ذكرنَا أَيْضا أَن الْأَفْصَح فِي جَوَابه أَن يكون بِلَا: إِذْ قَوْله: (رجل) ، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْجِيم وَهُوَ جمَاعَة من الْجَرَاد، كَمَا يُقَال: سرب من الظباء، وعانة من الْحمر، وَهُوَ من أَسمَاء الْجَمَاعَات الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا. قَوْله: (يحثى) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي: يَأْخُذ بيدَيْهِ جَمِيعًا فِي رِوَايَة بشير بن نهيك: يلتقط، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس: فَجعل أَيُّوب ينشر طرف ثَوْبه فَيَأْخُذ الْجَرَاد فَيَجْعَلهُ فِيهِ، فَكلما امْتَلَأت نَاحيَة نشر نَاحيَة. قَوْله: (فناداه ربه) يحْتَمل: أَن يكون بِوَاسِطَة أَو بِلَا وَاسِطَة أَو بإلهام قَوْله: (بلَى) ، أَي: أغنيتني. قَوْله: (لَا غنى لي) ، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة مَقْصُور بِلَا تَنْوِين، وَخبر: لَا، يجوز أَن يكون قَوْله: لي، أَو قَول: من بركته، ويروى: من فضلك، وَقَالَ وهب: تطاير الْجَرَاد من المَاء الَّذِي اغْتسل فِيهِ، وَكَانَ لَهُ أندران أَحدهمَا: الْقَمْح، وَالْآخر: الشّعير، فَبعث الله سحابتين، فأفرغت إِحْدَاهمَا على أندر الْقَمْح ذَهَبا، وَالْأُخْرَى فضَّة، وتطاير الْجَرَاد على الْكل، وَإِنَّمَا خص الْجَرَاد لكثرته.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دلَالَة على أَن من نثر عَلَيْهِ دَرَاهِم أَو نَحْوهَا فِي إملاك وَنَحْوه أَنه أَحَق بِمَا نثر عَلَيْهِ، وَتعقبه ابْن التِّين فَقَالَ: لَيْسَ كَمَا ذكره لِأَنَّهُ شَيْء خص الله بِهِ نبيه أَيُّوب، وَإِن ذَلِك شَيْء من فعل الْآدَمِيّ فَيكْرَه فعله، لِأَنَّهُ من السَّرف وينازع فِي كَونه خَاصّا، وَبِأَنَّهُ جَاءَ من الشَّارِع وَلَا سرف فِيهِ.(15/283)
32 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {واذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسَى إنَّهُ كانَ مُخْلِصَاً وكانَ رسُولاً نبِيَّاً ونادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُورِ الأيْمَنِ وقَرَّبْنَاهُ نَجِيَّا} كَلَّمَهُ {ووَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أخَاهُ هارُونَ نَبِيَّاً} (: 15 35) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مُوسَى وَهَارُون وَبَيَان ذَلِك فِي قَول الله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب} إِلَى آخِره، وَهَذَا كُله مَذْكُور فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: {نجياً} فَحسب. قَوْله: (وَاذْكُر) خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فِي الْكتاب) ، أَي: الْقُرْآن. قَوْله: (مخلصاً) ، قَرَأَ الْكسَائي وَحَمْزَة وَحَفْص عَن عَاصِم بِفَتْح اللَّام أَي: أخلصه الله وَجعله خَالِصا من الدنس مُخْتَارًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْر اللَّام أَي: الَّذِي وحد الله وَجعل نَفسه خَالِصَة فِي طَاعَة الله تَعَالَى غير دنسة. قَوْله: (وناديناه) ، أَي: دعوناه وكلمناه لَيْلَة الْجُمُعَة من جَانب الطّور وَهُوَ جبل بَين مصر ومدين. قَوْله: (الْأَيْمن) ، قيل: صفة للطور، وَقيل: للجانب، وَقيل: لمُوسَى فَإِنَّهُ جَاءَ النداء من يَمِين مُوسَى. قَوْله: (وقربناه نجيا) مناجياً، قيل: حَتَّى سمع صريف الْقَلَم حِين كتب لَهُ فِي الألواح. قَوْله: (من رَحْمَتنَا) ، أَي: من أجل رَحْمَتنَا لَهُ أَو بعض رَحْمَتنَا، فعلى الأولى قَوْله: أَخَاهُ، مفعول: وهبنا وعَلى الثَّانِي: بدل وَهَارُون، عطف بَيَان كَقَوْلِك: رَأَيْت رجلا أَخَاك زيدا، وَكَانَ هَارُون أكبر من مُوسَى بِثَلَاث سِنِين، وَقَالَ مقَاتل: ذكر الله تَعَالَى مُوسَى فِي الْقُرْآن فِي مائَة وَثَمَانِية عشر موضعا، وَذكر الله هَارُون فِي أحد عشر موضعا، ومُوسَى، على وزن فعلى من الموس، وَهُوَ حلق الشّعْر وَالْمِيم أَصْلِيَّة، وَقَالَ اللَّيْث: اشتقاقه من المَاء وَالشَّجر: فمو مَاء وسا شجر، لحمال التابوت: وَالْمَاء، وَهُوَ عبراني عرب، وَهُوَ ابْن عمرَان ابْن قاهث بن لاوي بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِم الصلا وَالسَّلَام وَذكر بَعضهم عاذر بعد قاهث ونكح عمرَان نجيب بنت أشمويل بن بركيا بن يقشان بن أبراهيم فَولدت لَهُ هَارُون ومُوسَى عليهماالصلاة وَالسَّلَام، وَقيل: اسْم أمهما أناجيا، وَقيل: أباذخت، قَالَ السُّهيْلي:
أباذخا، وَقَالَ ابْن اسحاق: تجيب، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ يوخايذ وَهُوَ الْمَشْهُور وَولد مُوسَى وَقد مضى من عمر عمرَان سَبْعُونَ سنة، وَجَمِيع عمر عمرَان مائَة وَسبع وَثَلَاثُونَ سنة ((يُقَال للْوَاحِد وللاثنين وللجمع نجي وَيُقَال خلصوا نجيا اعتزلوا نجيا وَالْجمع أنجيه يتناجون))
النجي: بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ المناجي وَهُوَ الْمُخَاطب للْإنْسَان الْمُحدث لَهُ، وَذكر البُخَارِيّ: أَنه يُقَال للْوَاحِد نجي وللاثنين نجي وللجمع نجي. وَفِي (الْمطَالع) : يُقَال رجل نجى ورجلان نجي وَرِجَال نحي وَمثله فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: (خلصوا نجيا) وأوله: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا} (يُوسُف: 08) . وَفَسرهُ البُخَارِيّ بقوله: وَيُقَال خلصوا نجيا: اعتزلوا نجياً أَي: فَلَمَّا يئسوا من يُوسُف خلصوا نجياً، أَي: اعتزلوا وانفردوا عَن النَّاس خالصين لَا يخالطهم سواهُم. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ذَوي نجوى أَو فوجاً نجياً، أَي: مناجياً بَعضهم بَعْضًا، قَالَ الزّجاج: انفردوا متناجين فِيمَا يعْملُونَ فِي ذهابهم إِلَى أَبِيهِم من غير أخيهم، وَذكر البُخَارِيّ هَذَا تَأْكِيدًا لما قبله من أَن النجي يُطلق على الْجمع، لِأَن نجياً فِي الْآيَة بِمَعْنى: المتناجين، ونصبه على الْحَال، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: النجي على مَعْنيين، يكون بِمَعْنى المناجي كالعشير والسمير بِمَعْنى المعاشر والمسامر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وقربناه نجياً} (مَرْيَم: 25) . وَبِمَعْنى الْمصدر الَّذِي هُوَ التناجي كَمَا قيل: النَّجْوَى بِمَعْنَاهُ، وَمِنْه قيل: قوم نجي، كَمَا قيل: هم صديق لِأَنَّهُ بزنة المصادر. قَوْله: (وَالْجمع أنجية) أَرَادَ بِهِ النجي إِذا أُرِيد بِهِ الْمُفْرد فَقَط يكون جمعه أنجية، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(وَإِذا مَا الْقَوْم كَانُوا أنجيهواضطرب الْيَوْم اضْطِرَاب الأرشيه)
قَوْله: (يتناجون) أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين نهوا عَن النَّجْوَى ثمَّ يعودون لما نهوا عَنهُ ويتناجون بالإثم والعدوان ... } (المجادلة: 8) . الْآيَة، نزلت فِي الْيَهُود، وَكَانَت بَينهم وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وسلمموادعة، فَإِذا مرَّ بهم رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَلَسُوا يتناجون فِيمَا بَينهم حَتَّى يظنّ الْمُؤمن أَنهم يتناجون بقتْله أَو بِمَا يكره، فَيتْرك الطَّرِيق عَلَيْهِم من المخافة فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فنهاهم عَن النَّجْوَى فَلم ينْتَهوا فعادوا إِلَى النَّجْوَى، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة.(15/284)
تَلَقَّفُ تَلَقَّمُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألقِ عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون} (الْأَعْرَاف: 711) . وَفَسرهُ بقوله: تلقم، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
2933 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حَدثنَا اللَّيْث قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابْن شِهابٍ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا فَرَجَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ فانْطَلَقَتْ بِهِ إلَى ورَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ وكانَ رَجُلاً تَنَصَّرَ يَقْرَأُ الإنْجِيلَ بالعَرَبِيَّةِ فَقَالَ ورَقَةُ ماذَا تَرَى فأخْبَرَهُ فَقَالَ ورَقَةُ هذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ الله عَلَى مُوساى وإنْ أدْرَكَنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرَاً مُؤَزَّرَاً. النَّامُوسُ صاحِبُ السِّرِّ الَّذِي يُطْلِعُهُ بِمَا يَسْتُرُهُ عنْ غَيْرِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هَذَا الناموس الَّذِي أنزل الله على مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) وَهَذَا قِطْعَة من الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ فِي أول الْكتاب مطولا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (والناموس) إِلَى آخِره من كَلَام البُخَارِيّ، وَقد مر تَحْقِيقه هُنَاكَ فَليرْجع إِلَيْهِ من أَرَادَ أَن يقف عَلَيْهِ.
42 - (بابُ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ {وهَلْ أتَاكَ حَديثُ مُوسَى إذْ رَأى نَارا} إِلَى قَوْلِهِ {بالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} (طه: 9 21) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى إِذْ رأى نَارا فَقَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا لعلِّي آتيكم مِنْهَا بقبس أَو أجد على النَّار هدى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس طوى} . قَوْله: (وَهل أَتَاك) أَي: قد أَتَاك، لِأَن: هَل، هُنَا لَا تلِيق أَن تكون للاستفهام، لِأَنَّهُ لَا يجوز على الله تَعَالَى. قَوْله: (إِذْ رأى) أَي: حِين رأى، عَن وهب: اسْتَأْذن مُوسَى شعيباً فِي الرُّجُوع إِلَى أمه فَخرج إِلَى أَهله فولد لَهُ فِي الطَّرِيق ابْن فِي لَيْلَة شَاتِيَة مظْلمَة مثلجة، فحاد مُوسَى عَن الطَّرِيق وقدح النَّار فَلم تور المقدحة شَيْئا، فَبينا هُوَ يزاول ذَلِك أبْصر نَارا من بعيد عَن يسَار الطَّرِيق، قيل: كَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة، فَقَالَ مُوسَى لأَهله: امكثوا مَكَانكُمْ إِنِّي آنست أَي أَبْصرت نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا أَي: من النَّار بقبس أَي: بشعلة، القبس: النَّار المقتبسة فِي رَأس عود أَو فَتِيلَة أَو غَيرهمَا. قَوْله: (أَو أجد على النَّار هدى) ، يَعْنِي: من يدلني على الطَّرِيق، أَو يَنْفَعنِي بهداه فِي أَبْوَاب الدّين. قَوْله: (فَلَمَّا أَتَاهَا) ، أَي: فَلَمَّا أَتَى مُوسَى النَّار رأى شَجَرَة خضراء من أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا كَأَنَّهَا نَار بَيْضَاء تتقد، وَسمع تَسْبِيح الْمَلَائِكَة، وَرَأى نورا عَظِيما فخاف فألقيت عَلَيْهِ السكينَة، وَنُودِيَ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك} ، قيل: سَبَب أمره بخلع نَعْلَيْه أَنَّهُمَا كَانَتَا من جلد حمَار ميت غير مدبوغ، فَخلع مُوسَى نَعْلَيْه وألقاهما من وَرَاء الْوَادي. قَوْله: (إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس) ، أَي: المطهر، طوى إسم وادٍ، قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو بِالتَّنْوِينِ منصرفاً بِتَأْوِيل الْمَكَان، وَالْبَاقُونَ بِغَيْر تَنْوِين غير منصرف بِتَأْوِيل الْبقْعَة، وَقيل للوادي الْمُقَدّس: طوى طوى، مرَّتَيْنِ أَي: قدس، مرَّتَيْنِ، وَقيل: نُودي نداءين.
آنَسْتُ أبْصَرْتُ
يَعْنِي: معنى آنست أَبْصرت من الإيناس، وَهُوَ الإبصار الْبَين الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ، وَمِنْه إِنْسَان الْعين: لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ الشَّيْء، وَالْإِنْس لظهورهم، وَقيل: الإيناس: إبصار مَا يؤنس بِهِ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ المُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ
وَقع هَذَا من قَول ابْن عَبَّاس إِلَى آخر مَا ذكره من تَفْسِير الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني(15/285)
خَاصَّة، وَلم يذكرهُ جَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ هُنَا، وَإِنَّمَا ذكرُوا بعضه فِي تَفْسِير سُورَة طه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَذكر أَمْثَال هَذَا فِي هَذَا الْكتاب الْعَظِيم الشَّأْن اشْتِغَال بِمَا لَا يعنيه، وَقَول ابْن عَبَّاس: وَصله عَليّ بن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
طُوًى اسْمُ الوَادِي
وَقد ذَكرْنَاهُ، وروى الطَّبَرِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنه سمي طوى لِأَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طواه لَيْلًا.
سِيرَتَها حالَتَهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سنعيدها سيرتها الأولى} (طه: 12) . وَفسّر السِّيرَة بالحالة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة: سيرتها: هيئتها.
والنُّهَى التُّقَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} (طه: 45 و 821) . وَفسّر النَّهْي: بالتقى، كَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: لأولي النهى، قَالَ: لأولي التقى، وَعَن قَتَادَة: لأولي الْوَرع، وَقَالَ الطَّبَرِيّ، خص أولي النهى لأَنهم أهل التفكر وَالِاعْتِبَار.
بِمَلْكِنا بأمْرِنَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أخلفنا موعدك بملكنا} (طه: 78) . وَفَسرهُ بقوله: بأمرنا، وَهَكَذَا روى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَمن طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة: بملكنا، أَي: بطاقتنا، وَكَذَا قَالَ السّديّ.
هَوَى شَقِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى} (طه: 18) . وَفَسرهُ بِلَفْظ: شقي، وَكِلَاهُمَا ماضيان، وَكَذَا رُوِيَ عَن الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم.
فارِغاً إلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا} . ثمَّ فسره بقوله: إلاَّ من ذكر مُوسَى، يَعْنِي: لم يخل قَلبهَا عَن ذكره، وَهَذَا وَصله سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي فِي تَفْسِير ابْن عُيَيْنَة من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَلَفظه: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا} . من كل شَيْء إلاَّ من ذكر مُوسَى، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ أَبُو عبيد: فَارغًا من الْحزن لعلمها أَنه لم يغرق.
رِدْءًا كَيْ يُصَدِّقَنِي
أَشَارَ بقوله (ردْءًا) إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني} (الْقَصَص: 43) . ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن التَّقْدِير فِي قَوْله: يصدقني، كي يصدقني وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ: كَيْمَا يصدقني، وَمن طَرِيق مُجَاهِد وَقَتَادَة: ردْءًا، أَي: عوناً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: معينا، يُقَال: أردأت فلَانا على عدوة أَي: أكنفته وأعنته وصرت لَهُ كنفاً.
ويُقَالُ مُغِيثاً أوْ مُعِينَاً
أَي: يُقَال فِي تَفْسِير ردْءًا مغيثاً، بالغين الْمُعْجَمَة والثاء الْمُثَلَّثَة من الإغاثة. قَوْله: (أَو معينا) أَي: أَو يُقَال معينا بِالْعينِ الْمُهْملَة من الْإِعَانَة وَهِي المساعدة.
يَبْطُشُ ويَبْطِشُ(15/286)
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن لفظ (يبطش) فِيهِ لُغَتَانِ: إِحْدَاهمَا كسر الطَّاء، وَالْأُخْرَى ضمهَا. وَهُوَ فِي قَوْله: {فَلَمَّا أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} (الْقَصَص: 91) . وَالْكَسْر هِيَ: الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة هُنَا، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . وَالضَّم قِرَاءَة الْحسن وَابْن جَعْفَر، رَحِمهم الله تَعَالَى.
يأتَمِرُونَ يَتَشَاوَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك} (الْقَصَص: 02) . وَفَسرهُ بقوله: يتشاورون، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ يَأْمر بَعضهم بَعْضًا.
والجَذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو جذوة من النَّار} (الْقَصَص: 92) . ثمَّ فَسرهَا بِمَا ذكره أَبُو عُبَيْدَة، والجذوة مُثَلّثَة الْجِيم.
سَنَشُدُّ سَنُعِينُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سنشد عضك بأخيك} (الْقَصَص: 53) . وَفَسرهُ بقوله: سنعينك، وَفَسرهُ أَبُو عُبَيْدَة بقوله: سنقويك بِهِ ونعينك، يُقَال: شدّ فلَان عضد فلَان إِذا أَعَانَهُ.
كُلَّمَا عَزَّزتَ شَيْئَاً فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدَاً
هَذَا من بَقِيَّة تَفْسِير: سنشد عضدك، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ غَيْرُهُ كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أوْ فأفَأةٌ فَهْيَ عُقْدَة
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير: عقدَة، فِي قَوْله تَعَالَى: {رب اشرح لي صَدْرِي وَيسر لي أَمْرِي واحلل عقدَة من لساني} (طه: 52 72) . وروى الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ من طَرِيق السّديّ، قَالَ: لما تحرّك مُوسَى أَخَذته آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن ترقصه ثمَّ ناولته لفرعون فَأخذ مُوسَى بلحية فِرْعَوْن فنتفها، فاستدعى فِرْعَوْن بالذباحين، فَقَالَت آسِيَة: إِنَّه صبي لَا يعقل، فَوضعت لَهُ جمراً وياقوتاً، وَقَالَت: إِن أَخذ الْيَاقُوت فاذبحه، وَإِن أَخذ الْجَمْر فاعرف أَنه لَا يعقل، فجَاء جِبْرِيل، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَطرح فِي يَده جَمْرَة، فطرحها فِي فِيهِ، فاحترقت لِسَانه، فَصَارَت فِي لِسَانه عقدَة من يَوْمئِذٍ، وَقيل: لما وضع فِرْعَوْن مُوسَى فِي حجره تنَاول لحيته ومدها ونتف مِنْهَا، وَكَانَت لحيته طَوِيلَة سَبْعَة أشبار، وَكَانَ هُوَ قَصِيرا، وَيُقَال: لطم وَجهه وَكَانَ يلْعَب بَين يَدَيْهِ، وَيُقَال: كَانَ بِيَدِهِ قضيب صَغِير يلْعَب بِهِ فَضرب بِهِ رَأسه فَعِنْدَ ذَلِك غضب غَضبا شَدِيدا وَتَطير مِنْهُ، وَقَالَ: هَذَا عدوي الْمَطْلُوب ثمَّ جرى مَا ذَكرْنَاهُ. فَإِن قلت: كَيفَ لم تحرقه النَّار يَوْم التَّنور الي ألقِي فِيهَا وأحرقت لِسَانه فِي هَذَا الْيَوْم؟ قلت: لِأَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لفرعون: يَا بَابا، فَعُوقِبَ لِسَانه وَلم تعاقب يَده لِأَنَّهَا مدت لحية فِرْعَوْن، وَلِهَذَا ظَهرت المعجزة فِي الْيَد دون اللِّسَان. {تخرج بَيْضَاء من غير سوء} (طه: 22، النَّمْل: 21، الْقَصَص: 23) . وَقيل: لم يَحْتَرِق فِي التَّنور ليدوم لَهُ الْأنس بَينه وَبَين النَّار لَيْلَة التكليم، وَقيل: إِنَّمَا لم تحترق يَده ليجاهد بهَا فِرْعَوْن بِحمْل الْعَصَا. قَوْله: (تمتمة) هِيَ التَّرَدُّد فِي النُّطْق بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، قَوْله: (أَو فأفأة) هِيَ التَّرَدُّد فِي النُّطْق بِالْفَاءِ.
أزْرِي ظَهْرِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أشدد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي} (طه: 13) . وَفسّر الأزر بِالظّهْرِ، كَذَا روى الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس.
فَيُسْحِتَكُمْ فَيُهْلِكَكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فيسحتكم بِعَذَاب وَقد خَابَ من افترى} (طه: 16) . وَفسّر: فيسحتكم، قَوْله: يهلككم، وَهَكَذَا روى الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سحت وأسحت بِمَعْنى، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: سحت أَكثر من أسحت.
الْمُثْلى تأنِيثُ الأمْثَلِ يَقُولُ بِدِينِكُمْ يُقالُ خُذِ المُثْلَى خُذِ الأمْثَلَ(15/287)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} (طه: 36) . ومثلى، على وزن: فعلى، تَأْنِيث الأمثل. قَوْله: (تَقول بدينكم) ، تَفْسِير لقَوْله: بطريقتكم المثلى، يَعْنِي: يُرِيد مُوسَى وَهَارُون أَن يذهبا بدينكم الْمُسْتَقيم، وَقيل: بسنتكم ودينكم وَمَا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَقيل: أَرَادَا أهل طريقتكم المثلى، وهم بَنو إِسْرَائِيل لقَوْل مُوسَى: أرسل معي بني إِسْرَائِيل، وَقيل: الطَّرِيقَة اسْم لوجوه النَّاس وأشرافهم الَّذين هم قدوة لغَيرهم. فَيُقَال: هم طَريقَة قَومهمْ، وَقَالَ الشّعبِيّ: مَعْنَاهُ ويصرفا وُجُوه النَّاس إِلَيْهِمَا. وَقَالَ الزّجاج: يَعْنِي المثلى والأمثل ذُو الْفضل الَّذِي بِهِ يسْتَحق أَن يُقَال: هَذَا مثل لِقَوْمِهِ.
ثُمَّ ائْتُوا صَفَّاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاجمعوا كيدكم ثمَّ ائْتُوا صفا وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى} (طه: 46) . الْخطاب لقوم فِرْعَوْن من السَّحَرَة يَعْنِي: ائْتُوا جَمِيعًا، وَقيل: صُفُوفا لِأَنَّهُ أهيب فِي صُدُور الرائين، رُوِيَ أَن الْحَسْرَة كَانُوا سبعين ألفا مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم حَبل وعصا، وَقد أَقبلُوا إقبالة وَاحِدَة.
يُقالُ هَلْ أتَيْتَ الصَّفَّ اليَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ
قَائِل هَذَا التَّفْسِير أَبُو عُبَيْدَة، فَإِنَّهُ قَالَ: المُرَاد من قَوْله: صفا، يَعْنِي: الْمصلى والمجتمع، وَعَن بعض الْعَرَب الفصحاء: مَا اسْتَطَعْت أَن آتِي الصَّفّ أمس، يَعْنِي: الْمصلى، وَوجه صِحَّته أَن يَجْعَل صفا علما لمصلى بِعَيْنِه فَأمروا بِأَن يأتوه أَو يُرَاد ائْتُوا مصلى من الْمُصَليَات.
فأوْجَسَ أضْمَرَ خَوْفاً فَذَهَبَتِ الوَاوُ مِنْ خِيفَةِ لِكَسْرَةِ الخَاءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأوجس مِنْهُم خيفة} (طه: 76) . وَفسّر أوجس بقوله: أضمر خوفًا. قَوْله: فَذَهَبت الْوَاو من خيفة لكسرة الْخَاء. قلت: اصْطِلَاح أهل التصريف أَن يُقَال: أصل خيفة خوفة، فقلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا.
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ علَى جُذُوعِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنَّكُم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) . وَأَشَارَ بقوله: على جُذُوع، أَن كلمة: فِي، فِي قَوْله: {فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) . بِمَعْنى: على، للاستعلاء، وَقَالَ: هم صلبوا الْعَبْدي فِي جُذُوع نَخْلَة.
خَطْبُكَ بالُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري} (طه: 59) . وَفسّر: خَطبك بقوله: بالك، وقصته مَشْهُورَة ملخصها: أَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبل على السامري، واسْمه مُوسَى بن ظفر، الَّذِي {أخرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار فَقَالَ هَذَا إِلَهكُم وإل هـ مُوسَى} (طه: 88) . قَالَ لَهُ: مَا خَطبك؟ أَي: مَا شَأْنك وحالك الَّذِي دعَاك وحملك على مَا صنعت؟ .
مِساسَ مَصْدَرُ ماسَّه مِساساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس} (طه: 79) . أَي: قَالَ مُوسَى للسامري: فَاذْهَبْ من بَيْننَا فَإِن لَك فِي الْحَيَاة، أَي: مَا دمت حَيا أَن تَقول: لَا مساس، أَي: لَا أمِس وَلَا أُمَس، وَهُوَ مصدر: ماسه يماسه مماسة ومساساً، فعاقبه الله فِي الدُّنْيَا بالعقوبة الَّتِي لَا شَيْء أَشد مِنْهَا، وَلَا أوحش وَذَلِكَ أَنه منع من مُخَالطَة النَّاس منعا كلياً، وَحرم عَلَيْهِم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته، وَإِذا اتّفق أَن يماس أحدا رجلا أَو امْرَأَة، حم الماس والممسوس، فتحامى النَّاس وتحاموه وَكَانَ يَصِيح: لَا مساس، وَعَن قَتَادَة: أَن بقاياهم الْيَوْم يَقُولُونَ: لَا مساس.
لَنَنْسِفَنَّهُ لَنُذْرِيَنَّهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لنحرقنه ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفاً} (طه: 79) . وَفسّر قَوْله: لننسفنه، بقوله: لنذرينه من التذرية فِي اليم،(15/288)
حُكيَ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَخذ الْعجل فذبحه فَسَالَ مِنْهُ الدَّم لِأَنَّهُ كَانَ قد صَار لَحْمًا ودماً، ثمَّ أحرقه بالنَّار وذراه فِي اليم.
الضَّحى الحَرُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّك لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى} (طه: 911) . وَفسّر الضُّحَى بِالْحرِّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا خطاب لآدَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمعنى: لَا تظمأ: لَا تعطش فِيهَا، أَي: فِي الْجنَّة وَلَا تضحى أَي: وَلَا تشرق للشمس فيؤذيك حرهَا، وَقيل: لَا يصيبك حر الشَّمْس إِذْ لَيْسَ فِيهَا شمس، وَذكر هَذَا هُنَا غير مُنَاسِب لِأَنَّهُ فِي قَضِيَّة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا تعلق لَهُ بِقصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قُصِّيهِ اتَّبِعِي أثَرَهُ وقَدْ يَكُونُ أنْ تَقُصَّ الكَلاَمَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت لأخته قصيه} (الْقَصَص: 11) . وَفسّر: قصيه، بقوله: اتبعي أَثَره، هَكَذَا فسره أهل التَّفْسِير، وَيُقَال: مَعْنَاهُ استعلمي خَبره، وَهُوَ خطاب لأخت مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من أمهَا، وَاسم أُخْته: مَرْيَم بنت عمرَان، وافقها فِي ذَلِك: مَرْيَم بنت عمرَان أم عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (وَقد يكون) إِلَى آخِره من جِهَة البُخَارِيّ، أَي: قد يكون معنى القص من: قصّ الْكَلَام، كَمَا فِي قَوْله: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص} (يُوسُف: 3) .
عنْ جُنُبٍ عنْ بُعْد
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ} (الْقَصَص: 11) . وَفسّر قَوْله: عَن جنب بقوله: عَن بعد، أَي: بصرت أُخْت مُوسَى مُوسَى عَن بعد، وَالْحَال أَن قوم فِرْعَوْن لَا يعلمُونَ بهَا.
وعَنْ جنابَةٍ وعنِ اجْتِنابٍ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى: عَن جنب، وَعَن جَنَابَة وَعَن اجْتِنَاب وَاحِد، فَيُقَال: مَا يأتينا إلاَّ عَن جَنَابَة وَاجْتنَاب، وأصل معنى هَذِه الْمَادَّة يدل على الْبعد، وَمِنْه سمي الْجنب: لبعده عَن الصَّلَاة وَعَن قِرَاءَة الْقُرْآن.
قَالَ مُجاهِدٌ عَلى قَدَرٍ عَلى مَوْعِدٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَبثت سِنِين فِي أهل مَدين ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى} (طه: 04) . وَفسّر قَوْله: على قدر، بقوله: على موعد، وَقيل: على قدر: أَي جِئْت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك، وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكث عِنْد شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي مَدين ثمانياً وَعشْرين سنة، عشر سِنِين مِنْهَا مهر امْرَأَته صفورا بنت شُعَيْب، ثمَّ أَقَامَ بعده ثَمَانِيَة عشر سنة عِنْده حَتَّى ولد لَهُ فِي مَدين، ثمَّ جَاءَ على قدر.
لاَ تَنِيَا لاَ تَضْعُفَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنيا فِي ذكري إذهبا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} (طه: 24) . وَفسّر قَوْله تَعَالَى: لَا تنيا، بقوله: لَا تضعفا، يَعْنِي: لَا تفترَّا، من: ونى يني ونياً، وَهُوَ الضعْف والفتور، وَالْخطاب فِيهِ لمُوسَى وَهَارُون.
مَكانَاً سِوًى مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك موعداً لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت مَكَانا سوى} (طه: 85) . وَفسّر قَوْله: مَكَانا سوى، بقوله: منصف بَينهم، قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَة بِضَم السِّين، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، قيل: مَعْنَاهُ سوياً لَا سَاتِر فِيهِ، وَقيل: مَكَانا عدلا بَيْننَا وَبَيْنك، وَعَن ابْن عَبَّاس مثل مَا فسره بقوله: منصف بَينهم أَي: بَين الْفَرِيقَيْنِ، أَي: يَسْتَوِي مسافته بَين الْفَرِيقَيْنِ فَتكون مَسَافَة كل فريق إِلَيْهِ كمسافة الْفَرِيق الآخر.
يَبَساً يابِساً(15/289)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبساً لَا تخَاف دركاً وَلَا تخشى} (طه: 77) . وَفسّر قَوْله: يبساً، بقوله: يَابسا، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) يبساً مصدر وصف بِهِ، يُقَال: يبس يبساً، وَنَحْوهمَا الْعَدَم والعدم، وَمن ثمَّ وصف بِهِ الْمُؤَنَّث فَقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس، أذا جف لَبنهَا.
مِنْ زِينَةِ القَوْمِ الحُلِيِّ الَّذِي استَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى السامري} (طه: 78) . وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن زيد، قَالَ: الأوزار الأثقال وَهُوَ الْحلِيّ الَّذِي استعاروه من آل فِرْعَوْن، وَلَيْسَ المُرَاد بهَا الذُّنُوب، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) وَقيل: أثاماً، أَي: حملنَا أثاماً من حلي الْقَوْم لأَنهم استعاروه ليتزينوا فِي عيد كَانَ لَهُم ثمَّ لم يردوها عَلَيْهِم عِنْد خُرُوجهمْ من مصر مَخَافَة أَن يعلمُوا بخروجهم فحملوها.
فَقذَفْتُهَا ألْقَيْتُهَا ألْقَى صَنَعَ
فسر فقذفتها بقوله ألقيتها، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فقذفناها، وَالْقُرْآن {وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى السامري فَأخْرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار} (طه: 78) . قَوْله: ألقِي أَي: السامري، يَعْنِي: ألْقى مَا كَانَ مَعَه من الْحلِيّ، وَقيل: مَا كَانَ مَعَه من تُرَاب حافر فرس جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بقوله: صنع، أخرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار.
فنَسِيَ مُوسَى هُمْ يَقُولُونَ أخْطَأَ الرَّبُّ أنْ لاَ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ قَوْلاً فِي العِجْلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا هَذَا إل هكم وإل هـ مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ أَن لَا يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا يملك لَهُم ضراً وَلَا نفعا} (طه: 88 و 98) . قَوْله: فَقَالُوا أَي: السامري وَمن وَافقه. قَوْله: (فنسي مُوسَى) أَي: أَن يُخْبِركُمْ أَن هَذَا إل هه، وَقيل: فنسي مُوسَى الطَّرِيق إِلَى ربه، وَقيل: فنسي مُوسَى إل هه عنْدكُمْ، وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر. قَوْله: (هم يَقُولُونَ) ، أَي: السامري وَمن مَعَه يَقُولُونَ: أَخطَأ مُوسَى الرب حَيْثُ تَركه هُنَا وَذهب إِلَى الطّور يَطْلُبهُ. قَوْله: (أَن لَا يرجع إِلَيْهِم) فِي الْعجل (قولا) أَي: أَنه لَا يرجع إِلَيْهِم قولا فِي الْعجل.
3933 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ حدَّثنا هَمَّامٌ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ مالِكَ بنَ صَعْصَعَةَ أَن رسوُلَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدَّثَهُمْ عنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِه حَتَّى السَّماَءَ الخَامِسَةَ فإذَا هارُونُ قَالَ هَذَا هارُونُ فسلَّمَ عَلَيْهِ فسَلَّمْتُ علَيْهِ فرَدَّ ثُمَّ قالَ مَرْحَبَاً بالأخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
وَجه ذكر هَذِه الْقطعَة من حَدِيث الْإِسْرَاء المطول الْمَاضِي غير مرّة من طَرِيق قَتَادَة عَن أنس عَن مَالك بن صعصعة الْمَذْكُورَة تَمامهَا فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة هُوَ لأجل ذكر هَارُون فِي مَوَاضِع الْأَلْفَاظ الْمُتَقَدّمَة.
تابَعَهُ ثابِتٌ وعَبَّادُ بنُ أبِي عَلِيٍّ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع قَتَادَة ثَابت الْبنانِيّ، وَعباد، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن أبي عَليّ الْبَصْرِيّ فِي روايتهما عَن أنس فِي ذكر هَارُون فِي السَّمَاء الْخَامِسَة لَا فِي جَمِيع الحَدِيث وَلَا فِي الْإِسْنَاد أَيْضا، فَإِن رِوَايَة ثَابت مَوْصُولَة فِي (صَحِيح مُسلم) من طَرِيق شَيبَان عَن حَمَّاد ابْن سَلمَة عَنهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذكر مَالك بن صعصعة، بل الْمَذْكُور فِيهَا ذكر هَارُون فِي السَّمَاء الْخَامِسَة، وَأما مُتَابعَة عباد فرواها عَنهُ هِشَام الدستوَائي وَحَمَّاد بن زيد وَخَلِيفَة بن حسان وَلم يذكرُوا مَالك بن صعصعة، وَلَيْسَ لعباد ذكر فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع.
52 - (بابٌ {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمْ إيمَانَهُ} إِلَى قولِهِ {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غَافِر: 82) .)(15/290)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب} (غَافِر: 82) . وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا بِغَيْر حَدِيث فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يذكر فِيهَا حَدِيثا وَلم يظفر بِهِ على شَرطه فَبَقيت كَذَا وَالله أعلم. قَوْله: (وَقَالَ رجل مُؤمن) فِي اسْمه سِتَّة أَقْوَال: الأول: شمعان، بالشين الْمُعْجَمَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يعرف شمعان بِالْمُعْجَمَةِ إِلَّا مُؤمن آل فِرْعَوْن. الثَّانِي: يُوشَع بن نون، وَبِه جزم ابْن التِّين، وَهُوَ بعيد لِأَن يُوشَع من ذُرِّيَّة يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يكن من آل فِرْعَوْن. الثَّالِث: حزقيل بن برحايا، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء. الرَّابِع: حابوت، وَهُوَ الَّذِي التقطه إِذْ كَانَ فِي التابوت. الْخَامِس: حبيب ابْن عَم فِرْعَوْن، قَالَه ابْن إِسْحَاق. السَّادِس: حيزور قَالَه الطَّبَرِيّ، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ قبطياً يكتم إيمَانه مائَة سنة من فِرْعَوْن، وَكَانَ لَهُ الْملك بعد فِرْعَوْن، وَكَانَ على بَقِيَّة من دين إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن خالويه فِي (كتاب لَيْسَ) : لم يُؤمن من أهل مصر إلاَّ أَرْبَعَة: آسِيَة، وحزقيل مُؤمن آل فِرْعَوْن، وَمَرْيَم بنت لابوس الْملك الَّتِي دلّت على عِظَام يُوسُف، والماشطة. قَوْله: (أَتقْتلونَ) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام الإنكاري. قَوْله: (أَن يَقُول) أَي: لِأَن يَقُول، وَهَذَا إِنْكَار مِنْهُ عَظِيم وتبكيت شَدِيد، وَهَذَا كَانَ مِنْهُ نصح عَظِيم لَهُم وَلم يقْتَصر على بَيِّنَة وَاحِدَة وَهِي قَوْله: رَبِّي الله، حَتَّى قَالَ: {وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} (غَافِر: 82) . وَحكى الله تَعَالَى عَنهُ: ثمَّ أَخذهم بالاحتجاج على طَريقَة التَّقْسِيم، فَقَالَ: لَا يَخْلُو من أَن يكون كَاذِبًا أَو صَادِقا {فَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه} (غَافِر: 82) . أَي: يعود عَلَيْهِ كذبه وَلَا يتخطاه ضَرَره. {وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} (غَافِر: 82) . إِن تعرضتم. قَوْله: (مُسْرِف) أَي: مُشْرك، قَالَ السّديّ: أَي الْكذَّاب على الله، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
62 - (بابُ قَوْلِ الله عزَّ وَجَلَّ {وهَلْ أتاكَ حِديثُ مُوسَى} (طه: 9 01) . {وكلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً} (النِّسَاء: 461) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل، وَهُوَ قَوْله: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى إِذْ رأى نَارا فَقَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بقبس أَو أجد على النَّار هدى} (طه: 9 01) . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب قبل الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: {وكل الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) . وَقَبله:} ورسلاً قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عَلَيْك وكلم الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) . وَقَبله: قَوْله: (ورسلاً) مَنْصُوب على تَقْدِير: قَصَصنَا رسلًا. وَقَوله: {قد قصصناهم} مُفَسّر لَهُ فَحذف الناصب حَتَّى لَا يجمع بَين المفسِر والمفسَر. قَوْله: (من قبل) ، أَي: من قبل هَذِه الْآيَة يَعْنِي فِي السُّور المكية وَغَيرهَا. قَوْله: (ورسلاً لم نقصصهم عَلَيْك) ، أَي: لم نسمهم لَك. قَوْله: (وكلم الله مُوسَى تلكيماً) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: لما بَين الله لمُحَمد، صلى الله عَلَيْهِ وسلمد أَمر النَّبِيين وَلم يبين أَمر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شكوا فِي نبوته، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مِنْهُم من كلم الله} (الْبَقَرَة: 352) . وكلم الله مُوسَى حَقِيقَة لَا كَمَا زعمت الْقَدَرِيَّة: أَن الله تَعَالَى خلق كلَاما فِي شَجَرَة فَسَمعهُ مُوسَى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ لَا يكون ذَلِك كَلَام الله، وَلَو كَانَ من غير التَّأْكِيد لاحتمل مَا قَالُوا، لِأَن أَفعَال الْمجَاز لَا تؤكد بِذكر المصادر، لَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار أَن يسْقط إِرَادَة، وَعلم مُوسَى أَنه كَلَام الله لِأَنَّهُ كَلَام يعجز الْخلق أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، قَالَ ابْن مرْدَوَيْه، بِإِسْنَادِهِ عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: إِن الله ناجى مُوسَى بِمِائَة ألف كلة وَأَرْبَعين ألف كلمة فِي ثَلَاثَة أَيَّام، كلهَا وَصَايَا فَلَمَّا سمع مُوسَى كَلَام الْآدَمِيّين مقتهم مِمَّا وَقع فِي مسامعه من كَلَام الرب، وجويبر ضَعِيف. وَالضَّحَّاك لم يدْرك ابْن عَبَّاس.
4933 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبَرَنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلةَ أسْرِيَ بِي رأيْتُ مُوسَى وإذَا هُوَ رَجُلً ضَرْبٌ رَجِلٌ كأنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَة ورَأيْتُ عِيسَى فإذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَة أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسَ وَأَنا أشْبَهُ ولَدِ إبْرَاهِيمَ بِهِ ثُمَّ أُتِيتُ بإنَاءَيْنِ فِي أحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الآخَرِ خَمْرٌ فَقَالَ اشْرَبْ(15/291)
أيُّهُمَا شِئْتَ فأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ أخَذْتَ الفِطْرَةَ إمَّا إنَّكَ لَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أمَّتُكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (رَأَيْت مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَعبد بن حميد: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان بِهِ.
قَوْله: (وَرَأَيْت) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: لَعَلَّ أَرْوَاحهم مثلت لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الصُّور، وَلَعَلَّ صورهم كَانَت كَذَلِك أَو صور أبدانهم كوشفت لَهُ فِي نوم أَو يقظة. قَوْله: (ضرب) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة أَي: نحيف خَفِيف اللَّحْم. قَوْله: (شنُوءَة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم النُّون وَفتح الْهمزَة: وَهُوَ حَيّ من الْيمن وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: شنائي، وَقَالَ ابْن السّكيت: أَزْد شنوة، بِالتَّشْدِيدِ غير مَهْمُوز وينسب إِلَيْهَا: شنوى. قَوْله: (ربعَة) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيجوز فتحهَا لَا طَوِيل وَلَا قصير، وأنث بِتَأْوِيل النَّفس. قَوْله: (من ديماس) بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، قَالَ الْكرْمَانِي: السرب، وَقيل: الْكن أَي: كَأَنَّهُ مخدر لم ير شمساً وَهُوَ فِي غَايَة الْإِشْرَاق والنضارة. انْتهى. وَقيل الْحمام وَقيل: لم يكن لَهُم يَوْمئِذٍ ديماس، وَإِنَّمَا هُوَ من عَلَامَات نبوته. قَوْله: (إِبْرَاهِيم) أَي: الْخَلِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْمعْنَى: أَنا أشبه بإبراهيم ... كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: كَانَ مَعْنَاهُ: أَنا أشبه ولد إِبْرَاهِيم بإبراهيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَهُنَا ثَلَاث تشبيهات كلهَا للْبَيَان، وَلَكِن الأول لمُجَرّد الْبَيَان، والأخير أَن للْبَيَان مَعَ تَعْظِيم الْمُشبه فِي مقَام الْمَدْح، وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي تَشْبِيه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: يَعْنِي فِي الطول 7 وَقَالَ الْقَزاز: مَا أَدْرِي مَا أَرَادَ البُخَارِيّ بذلك، على أَنه روى فِي صفته بعد هَذَا خلاف هَذَا، فَقَالَ: وَأما مُوسَى فآدم جسيم كَأَنَّهُ من رجال الزط. قلت: روى البُخَارِيّ هَذَا من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأَما عِيسَى فأحمر جعد عريض الصَّدْر، وَأما مُوسَى فآدم جسيم سبط، كَأَنَّهُ من رجال الزط. قلت: هَذَا لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه مُوسَى فِي حَدِيث الْبَاب وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، بقوله: كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، يَعْنِي: فِي الطول وَشبهه فِي حَدِيث ابْن عمر، بقوله: كَأَنَّهُ من رجال الزط، يَعْنِي: فِي الطول أَيْضا لِأَن الزط جنس من السودَان والهنود الطوَال. قَوْله: (ثمَّ أتيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أخذت الْفطْرَة) ، أَي: الاسْتقَامَة أَي: اخْتَرْت عَلامَة الْإِسْلَام وَجعل اللَّبن عَلامَة لكَونه سهلاً طيبا طَاهِرا نَافِعًا للشاربين، سليم الْعَاقِبَة، وَأما الْخمر فَإِنَّهَا أم الْخَبَائِث وحاملة لأنواع الشَّرّ فِي الْحَال، والمآل، ويروى: هديت الْفطْرَة، قَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي: الْفطْرَة الْأَصْلِيَّة الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا، وَجعل اللَّبن عَلامَة لذَلِك لِأَنَّهُ من أصلح الأغذية وَأول مَا بِهِ حصلت التربية.
64 - (حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا غنْدر حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة قَالَ سَمِعت أَبَا الْعَالِيَة حَدثنَا ابْن عَم نَبِيكُم يَعْنِي ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى وَنسبه إِلَى أَبِيه وَذكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ فَقَالَ مُوسَى آدم طوال كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة وَقَالَ عِيسَى جعد مَرْبُوع وَذكر مَالِكًا خَازِن النَّار وَذكر الدَّجَّال) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون قد تكَرر ذكره وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر وَأَبُو الْعَالِيَة اسْمه رفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء الريَاحي بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وروى عَن ابْن عَبَّاس أَبُو الْعَالِيَة آخر واسْمه زِيَاد بن فَيْرُوز وَيعرف بالبراء بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَة إِلَى بري السِّهَام والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن حَفْص بن عمر فِي بَاب قَول الله تَعَالَى {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين} وَيَأْتِي عَن قريب وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار وَفِي التَّوْحِيد قَالَ لي خَليفَة بن خياط وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن حَفْص بن عمر بِهِ وَقَالَ لم يسمع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة إِلَّا ثَلَاثَة أَحَادِيث وَهَذَا أَحدهَا وَقَالَ فِي مَوضِع آخر قَالَ شُعْبَة أَيْضا إِنَّمَا سمع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة أَرْبَعَة أَحَادِيث حَدِيث يُونُس بن مَتى وَحَدِيث ابْن عمر فِي الصَّلَاة وَحَدِيث الْقُضَاة ثَلَاثَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس شهد عِنْدِي رجال مرضيون قَوْله " لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى " وَيُونُس(15/292)
فِيهِ سِتَّة أوجه وَمَتى بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالألف وَهُوَ اسْم أَبِيه وَفِي جَامع الْأُصُول وَقيل هُوَ اسْم أمه وَيُقَال لم يشْتَهر نَبِي بِأُمِّهِ غير يُونُس والمسيح عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقَالَ الْفربرِي وَكَانَ مَتى رجلا صَالحا من أهل بَيت النُّبُوَّة فَلم يكن لَهُ ولد ذكر فَقَامَ إِلَى الْعين الَّتِي اغْتسل مِنْهَا أَيُّوب فاغتسل هُوَ وَزَوجته مِنْهَا وصليا ودعوا الله أَن يرزقهما رجلا مُبَارَكًا يَبْعَثهُ الله فِي بني إِسْرَائِيل فَاسْتَجَاب الله دعاءهما ورزقهما يُونُس وَتُوفِّي مَتى وَيُونُس فِي بطن أمه وَله أَرْبَعَة أشهر وَقد قيل أَنه من بني إِسْرَائِيل وَأَنه من سبط بنيامين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَهُوَ ذُو النُّون أرْسلهُ الله إِلَى أهل الْموصل وَذهب قوم إِلَى أَن نبوته بعد خُرُوجه من بطن الْحُوت وَقَالَت الْعلمَاء بأخبار القدماء كَانَ يُونُس من أهل الْقرْيَة من قرى الْموصل يُقَال لَهَا نِينَوَى وَكَانَ قومه يعْبدُونَ الْأَصْنَام وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعث الله يُونُس بن مَتى إِلَى قومه وَهُوَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة فَأَقَامَ فيهم يَدعُوهُم إِلَى الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة فَلم يُؤمن بِهِ إِلَّا رجلَانِ أَحدهمَا روبيل وَكَانَ عَالما حكيما وَالْآخر تنوخا وَكَانَ زاهدا عابدا وَقَالَ الْخطابِيّ معنى قَوْله لَا يَنْبَغِي لأحد إِلَى آخِره لَيْسَ لأحد أَن يفضل نَفسه على يُونُس وَيحْتَمل أَن يُرَاد لَيْسَ لأحد أَن يُفَضِّلُنِي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَذْهَب التَّوَاضُع والهضم من النَّفس وَلَيْسَ مُخَالفا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنا سيد ولد آدم لِأَنَّهُ لم يقل ذَلِك مفتخرا وَلَا متطاولا بِهِ على الْخلق وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك ذَاكِرًا للنعمة ومعترفا بالمنة وَأَرَادَ بالسيادة مَا يكرم بِهِ فِي الْقِيَامَة وَقيل قَالَ ذَلِك قبل الْوَحْي بِأَنَّهُ سيد الْكل وَخَيرهمْ وأفضلهم وَقيل قَالَه زجرا عَن توهم حط مرتبته لما فِي الْقُرْآن من قَوْله {وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} وَهَذَا هُوَ السَّبَب فِي تَخْصِيص يُونُس بِالذكر من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله " لَيْلَة أسرِي بِهِ " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني لَيْلَة أسرِي بِي على الْحِكَايَة قَوْله " طوال " بِضَم الطَّاء قَوْله " جعد الشّعْر " الْجَعْد خلاف السبط لِأَن السبوطة أَكْثَرهَا فِي شُعُور الْعَجم قَوْله " وَذكر مَالِكًا " أَي وَذكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ مَالِكًا خَازِن النَّار وَذكر أَيْضا الدَّجَّال وَهَذَا الحَدِيث وَاحِد عِنْد أَكثر الروَاة فَجعله بَعضهم حديثين أَحدهمَا مُتَعَلق بِيُونُس وَالْآخر بالبقية الْمَذْكُورَة -
7933 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ حدَّثَنَا أيُّوبُ السِّخْتْيَانِي عنِ ابنِ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا قدِمَ المَدِينَةَ وجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْماً يَعْنِي عاشُورَاءَ فَقالوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ وهْوَ يَوْمٌ نَجَّى الله فِيهِ مُوسَى وأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَصامُ مُوسَى شُكْرَاً لله فَقَالَ أنَا أوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصامَهُ وأمَرَ بِصِيَامِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نجى الله فِيهِ مُوسَى) وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَابْن سعيد هُوَ عبد الله بن سعيد بن جُبَير يروي عَن أَبِيه، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب صِيَام عَاشُورَاء أخرجه عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
52 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأِخِيهِ هارُونَ أخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأصْلِحْ ولاَ تَتَّبِعِ سَبِيلَ الْمُفْسِدين ولَمَّا جاءَ مُوساى لِمِيقَاتِنَا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَب أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ولَكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فإنِ اسْتَقَرَّ مكانَهُ فسَوْفَ تَرَانِي فلَمَّا تَجَلَّى رَبَّهُ لِلْجَبَلِ جعَلَهُ دَكَّاً وخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فلَمَّا أفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنَا أوَّلُ الْمُؤْمِنينَ} (الْأَعْرَاف: 241 341) .)
سَاق فِي رِوَايَة كَرِيمَة هَاتين الْآيَتَيْنِ بتمامهما قَوْله: (وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة) ، وروى أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وعد بني إِسْرَائِيل وَهُوَ بِمصْر إِن أهلك الله عدوهم أَتَاهُم بِكِتَاب من عِنْد الله فِيهِ بَيَان مَا يأْتونَ وَمَا يذرون، فَلَمَّا هلك فِرْعَوْن سَأَلَ مُوسَى ربه الْكتاب فَأمره بِصَوْم ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ شهر ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا أتم الثَّلَاثِينَ أنكر خلوف فِيهِ فَتَسَوَّكَ، فَقَالَت(15/293)
الْمَلَائِكَة: كُنَّا نَشُمُّ من فِيك رَائِحَة الْمسك فأفسدتها بِالسِّوَاكِ، فَأمره الله أَن يزِيد عَلَيْهَا عشرَة أَيَّام من ذِي الْحجَّة لذَلِك، وَهُوَ معنى قَوْله: وأتممناها بِعشر، قَوْله: (فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة) وميقات ربه: مَا وَقت لَهُ من الْوَقْت وضربه لَهُ، وَالْفرق بَين الْمِيقَات وَالْوَقْت، وَإِن كَانَا من جنس وَاحِد أَن الْمِيقَات مَا قدر لعمل، وَالْوَقْت قد لَا يقدر لعمل. قَوْله: (أَرْبَعِينَ لَيْلَة) نصب على الْحَال أَي: تمّ بَالغا هَذَا الْعدَد. قَوْله: (هَارُون) ، عطف بَيَان لِأَخِيهِ. قَوْله: (اخلفني فِي قومِي) ، يَعْنِي: كن خَليفَة عني. قَوْله: (وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين) ، يَعْنِي: إرفق بهم وَأحسن إِلَيْهِم، وَهَذَا تَنْبِيه وتذكير. وإلاَّ فهارون، عَلَيْهِ السَّلَام، نَبِي شرِيف كريم على الله لَهُ وجاهة وجلالة. قَوْله: (لِمِيقَاتِنَا) أَي: الْوَقْت الَّذِي وقتناه لَهُ وحددناه. قَوْله: (وَكَلمه ربه) أَي: من غير وَاسِطَة أَخذه الشوق حَتَّى {قَالَ: رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} فَطلب الزِّيَادَة لما رأى من لطفه تَعَالَى بِهِ. قَوْله: (لن تراني) ، يَعْنِي: أعْطى جَوَابه بقوله: لن تراني، يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا، وَقد أشكل حرف: لن، هَهُنَا على كثير من النَّاس لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لنفي التَّأْبِيد، فاستدل بِهِ الْمُعْتَزلَة على نفي الرُّؤْيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال لِأَنَّهُ قد تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الْمُؤمنِينَ يرونه فِي دَار الْآخِرَة، وَقيل: إِنَّهَا لنفي التأييد فِي الدُّنْيَا جمعا بَين هَذِه وَبَين الدَّلِيل الْقَاطِع على صِحَة الرُّؤْيَة فِي الدَّار الْآخِرَة. قَوْله: (فَإِن اسْتَقر) أَي: الْجَبَل مَكَانَهُ، وَهُوَ أعظم جبل لمدين، قَالَه الْكَلْبِيّ، يُقَال لَهُ: زبير، وَالْمعْنَى: إجعل بيني وَبَيْنك علما هُوَ أقوى مِنْك، يَعْنِي: الْجَبَل، فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ وَسكن وَلم يتضعضع فَسَوف تراني، وَإِن لم يسْتَقرّ فَلَنْ تطِيق (فَلَمَّا تجلى ربه للجبل) قَالَ ابْن عَبَّاس هُوَ ظُهُور نوره وَقَالَ الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (فَلَمَّا تجلى ربه للجبل أَشَارَ بإصبعه فَجعله دكاً) وَفِي إِسْنَاده رجل لم يسم، وروى أَيْضا عَن أنس، قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكاً) قَالَ وضع الْإِبْهَام قَرِيبا من طرف خِنْصره، قَالَ: فساخ الْجَبَل، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد وَقَالَ السّديّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: مَا تجلى إلاَّ قدر الْخِنْصر جعله دكاً، قَالَ تُرَابا، وخر مُوسَى صعقاً قَالَ: مغشياً عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَة: وَقع مَيتا، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: ساخ الْجَبَل فِي الأَرْض حَتَّى وَقع فِي الْبَحْر فَهُوَ يذهب مَعَه، وَعَن أبي بكر الْهُذلِيّ: جعله دكاً انْعَقَد فَدخل تَحت الأَرْض فَلَا يظْهر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) . وَجَاء فِي بعض الْأَخْبَار أَنه ساخ فِي الأَرْض فَهُوَ يهوي فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن أبي مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته سِتَّة أجبل فَوَقَعت ثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَة بِمَكَّة، فالتي بِالْمَدِينَةِ: أحد وورقان ورضوى، وَوَقع بِمَكَّة حراء وثبير وثور، قَالَ ابْن كثير: هَذَا حَدِيث غَرِيب بل مُنكر، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: ذكر عَن عُرْوَة بن رُوَيْم، قَالَ: كَانَت الْجبَال قبل أَن يتجلى الله لمُوسَى صماء ملساء فَلَمَّا تجلى تفطرت الْجبَال فَصَارَت الشقوق والكهوف. قَوْله: (فَلَمَّا أَفَاق) ، يَعْنِي: من غَشيته، وعَلى قَول مقَاتل: ردَّتْ عَلَيْهِ روحه، قَالَ: سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك، أَي من الْإِقْدَام على الْمَسْأَلَة قبل الْإِذْن، وَقيل: المُرَاد من التَّوْبَة الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى لَا عَن ذَنْب سبق، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك على جِهَة التَّسْبِيح، وَهُوَ عَادَة الْمُؤمنِينَ عِنْد ظُهُور الْآيَات الدَّالَّة على عظم قدرته. قَوْله: (وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ) أَي: بأنك لَا ترى فِي الدُّنْيَا، وَقيل: من بني إِسْرَائِيل، وَقيل: مِمَّن يذم باستعظام سُؤَاله الرُّؤْيَة.
يُقالُ دَكَّهُ زَلْزَلَهُ
ذكر هَذَا لقَوْله تَعَالَى: {جعله دكاً} ، وَفَسرهُ بقوله: زلزله، والدك مصدر جعل صفة، يُقَال: نَاقَة دكاء، أَي: ذَاهِبَة السنام مستوٍ ظهرهَا.
فَدُكَّتَا فَدُكِكْنَ جَعَلَ الجِبَالَ كالوَاحِدَةِ
أَشَارَ بقوله: {فدكتا} إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} (الحاقة: 41) . وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: فدككن، بِالْجمعِ لِأَن الْجبَال جمع وَالْأَرْض فِي حكم الْجمع، وَلَكِن جعل كل جمع مِنْهُمَا كواحدة، فَلذَلِك قيل: دكتا بالتثنية.
كَما قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ {إنَّ السَّماوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقاً} (الْأَنْبِيَاء: 03) . ولَمْ يَقُلْ كُنَّ رَتْقاً مُلْتَصِقَتَيْنِ
قَالَ بَعضهم: ذكر هَذَا اسْتِطْرَادًا، إِذْ لَا تعلق لَهُ بِقصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل ذكره تنظيراً لما قبله، وَلِهَذَا قَالَ: بكاف التَّشْبِيه، أَرَادَ أَن نَظِير: دكتا، الَّتِي هِيَ التَّثْنِيَة وَالْقِيَاس: دككن، كَمَا ذكره من وَجهه: {كَانَت رتقاً} (الْأَنْبِيَاء: 03) ، فَإِن الْقيَاس(15/294)
أَن يُقَال فِيهِ: كن رتقاً، لِأَن السَّمَوَات جمع وَالْأَرْض فِي حكم الْجمع، وَلكنه جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا كواحدة، فَقيل: كَانَتَا، بِلَفْظ التَّثْنِيَة وَلم يقل: كن، بِلَفْظ الْجمع. قَوْله: (ملتصقتين) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي كَانَتَا.
اشْرِبُوا ثَوْبٌ مَشَرَّبٌ مَصْبوغٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} (الْبَقَرَة: 39) . وَأَشَارَ بقوله: ثوب مشرب، أَي: مصبوغ، إِلَى أَن معنى أشربوا لَيْسَ من شرب المَاء، بل مَعْنَاهُ مثل معنى قَوْلهم: ثوب مشرب أَي: مصبوغ، يَعْنِي: اخْتَلَط بقلبهم حب الْعجل كَمَا يخْتَلط الصَّبْغ بِالثَّوْبِ، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: إِن حب الْعجل حل مَحل الشَّرَاب فِي قُلُوبهم، وعَلى كل تقدر المُرَاد الْمُبَالغَة فِي حبهم الْعجل، وَقَوله: {وَاشْرَبُوا فِي قُلُوبهم الْعجل} (الْبَقَرَة: 39) . فِيهِ الْحَذف أَي: حب الْعجل.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ انْبَجَسَتْ انْفَجَرَتْ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى قَوْله تَعَالَى: {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} (الْأَعْرَاف: 061) . انفجرت وانشقت وَقَبله: {وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر فانبجست} (الْأَعْرَاف: 061) . وَفِي سُورَة الْبَقَرَة: {وَإِذ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر فانفجرت مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} (الْبَقَرَة: 06) . وَالْفَاء فِيهِ مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: فَضرب فانبجست، فَضرب فانفجرت، وَهَذِه الْفَاء تسمى فَاء الفصيحة لَا تقع إلاَّ فِي كَلَام بليغ.
وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ رَفَعْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظله} (الْأَعْرَاف: 171) . الْآيَة. وَفسّر: نتقنا، بقوله: رفعنَا، وَيُقَال: مَعْنَاهُ قلعناه وَرَفَعْنَاهُ فَوْقهم، كَمَا فِي قَوْله: {ورفعنا فَوْقهم الطّور} (النِّسَاء: 451) . كَأَنَّهُ ظلة، وَهُوَ كل مَا أظلك من سَقِيفَة أَو سَحَاب. وقصته: أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما رَجَعَ إِلَى قومه وَقد أَتَاهُم بِالتَّوْرَاةِ أَبَوا أَن يقبلوها ويعملوا بِمَا فِيهَا من الآصار والأثقال، وَكَانَت شَرِيعَة ثَقيلَة، فَأمر الله تَعَالَى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلع جبل قدر عَسْكَرهمْ، وَكَانَ فرسخاً فِي فَرسَخ، وَرَفعه فَوق رؤوسهم مِقْدَار قامة الرجل، وَكَانُوا سِتّمائَة ألف وَقَالَ لَهُم إِن لم تقبلوها وَإِلَّا ألقيت عَلَيْكُم هَذَا الْجَبَل وَعَن ابْن عَبَّاس رفع الله فَوْقهم الطّور وَبعث نَارا من قبل وُجُوههم وأتاهم الْبَحْر الْملح من خَلفهم.
8933 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيى عنْ أبِيهِ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النَّاسُ يُصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فأكُونُ أوَّلَ منْ يُفِيقُ فإذَا أنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ فَلاَ أدْرِي أفَاقَ قَبْلِي أمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا أَنا بمُوسَى) .
وَمُحَمّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي وَهُوَ من أَفْرَاده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو بن يحيى يروي عَن أَبِيه يحيى بن عمَارَة بن أبي الْحسن الْمَازِني الْأنْصَارِيّ وَهُوَ يروي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى مطولا فِي الْأَشْخَاص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونتكلم بِبَعْض شَيْء لبعد الْعَهْد.
فَقَوله: (يصعقون) من صعق الرجل إِذا غشي عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّعق والصعقة الْهَلَاك وَالْمَوْت، وَيُقَال مِنْهُ: صعق الْإِنْسَان وصعق، بِفَتْح الصَّاد وَضمّهَا، وَأنكر بَعضهم الضَّم، وصعقتهم الصاعقة بِفَتْح الصَّاد وَالْعين وأصعقتهم، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: الصاقعة، بِتَقْدِيم الْقَاف على الْعين، وَقَالَ القَاضِي: وَهَذَا الحَدِيث من أشكل الْأَحَادِيث لِأَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قد مَاتَ فَكيف تُدْرِكهُ الصعقة؟ وَإِنَّمَا تصعق الْأَحْيَاء، وَيحْتَمل أَن هَذِه الصعقة صعقة فزع بعد الْفَزع حِين تَنْشَق السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَيُؤَيِّدهُ لفظ: يفِيق وأفاق، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَال: أَفَاق من الغشي، وَأما الْمَوْت فَيُقَال: بعث مِنْهُ، وصعقة الطّور لم تكن موتا. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَلَا أَدْرِي أَفَاق قبلي) فَيحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه قبل أَن يعلم أَنه أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض إِن كَانَ هَذَا اللَّفْظ على ظَاهره، وَأَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول شخص مِمَّن تَنْشَق عَنْهُم الأَرْض فَيكون مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من زمرة الْأَنْبِيَاء،(15/295)
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، انْتهى، حَاصِل الْكَلَام أَن الْإِفَاقَة غير الانشقاق، والصعقة تكون حِين ينْفخ فِي الصُّور النفخة الأولى، وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: فَأَكُون أول من يفِيق لَيْسَ بِمَحْفُوظ، واضطربت الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث، وَقل من يسلم مَعَه مِنْهُم من الْوَهم، وَالصَّحِيح: فَأَكُون أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض، والانشقاق غير الْإِفَاقَة، كَمَا ذكرنَا.
9933 - حدَّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّام عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ بَنُو إسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنِزِ اللَّحْمُ ولَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ. (انْظُر الحَدِيث 0333) .
هَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة أَنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} (الْبَقَرَة: 03) .
62 - (بابُ طُوفانٍ مِنَ السَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ طوفان من السَّيْل، وَلَيْسَ قَوْله: طوفان من السَّيْل، بترجمة لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد عَن التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا هُوَ كالفصل للباب الْمُتَقَدّم، وَسقط جَمِيعه من رِوَايَة النَّسَفِيّ. قَوْله: (طوفان) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم آيَات مفصلات} (الْأَعْرَاف: 331) . الْآيَة. أما الطوفان فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فقاال البُخَارِيّ: هُوَ من السَّيْل يكون من الْمَطَر الْغَالِب، وَعَن ابْن عَبَّاس: الطوفان كَثْرَة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع وَالثِّمَار، وَبِه قَالَ الضَّحَّاك وَعنهُ كَثْرَة الْمَوْت، وَبِه قَالَ عَطاء، وَقَالَ مُجَاهِد: الطوفان المَاء والطاعون، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الطوفان الْمَوْت، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: هُوَ أَمر من الله طَاف بهم.
يُقَالُ لِلْمَوْتِ الكَثِيرِ طُوفَانٌ
أَرَادَ بِهِ الْمَوْت المتتابع.
القُمَّلُ الْحَمْنانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الحَلَمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْقمل} (الْأَعْرَاف: 331) . الْمَذْكُور فِي الْآيَة، وفسرها بقولِهَا: الحمنان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالنونين: قراد يشبه صغَار الْحلم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَاللَّام، وَهُوَ جمع الحلمة وَهُوَ القراد الْعَظِيم، وَوَاحِد الحمنان: حمنانة. وَعَن ابْن عَبَّاس: الْقمل السوس الَّذِي يخرج من الْحِنْطَة، وَعنهُ أَنه الدُّبَّاء وَهُوَ الْجَرَاد الصغار الَّذِي لَا أَجْنِحَة لَهُ وَبِه قَالَ عِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَعَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير: الْقمل دَوَاب سود صغَار، وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن أسلم: الْقمل البراغيث، وَقَالَ ابْن جرير: الْقمل جمع واحده قملة، وَهِي دَابَّة تشبه الْقمل تأكلها الْإِبِل فِيمَا بَلغنِي.
حَقِيقٌ حَقٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حقيق على} (الْأَعْرَاف: 501) . وَفَسرهُ بقوله: حق، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي تَفْسِيره: (مجازه حق عَليّ أَن لَا أَقُول على الله إلاَّ الْحق) ، هَذَا على قِرَاءَة التَّشْدِيد فِي عليَّ، وَمن خففه فَمَعْنَى: حقيق محق، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: حَرِيص.
سُقِطَ كلُّ من نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلما سقط فِي أَيْديهم} (الْأَعْرَاف: 941) . وَفسّر قَوْله: سقط، بقوله: كل من نَدم فقد سقط فِي يَده، وَسقط على صِيغَة الْمَجْهُول.
72 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب وَهُوَ كالفصل لما قبله وَلَيْسَ بموجود فِي بعض النّسخ.(15/296)
حَدِيثِ الخَضِرِ مَعَ مُوساى عَلَيْهِما السَّلاَمُ
أَي: هَذَا حَدِيث الْخضر مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فارتفاع: حديثُ، على الخبرية، وَيجوز أَن يكون مجروراً بِإِضَافَة لفظ: بَاب إِلَيْهِ وَيكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَدِيث الْخضر مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.
0043 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثني أبي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ الله أخبرَهُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ تَمَارَي هُوَ والحُرُّ بنُ قَيْسٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوساى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبِيُّ بنُ كَعْبٍ فدَعَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنِّي تَمَارَيْتُ أنَا وصاحِبِي هذَا فِي صاحِبِ مُوساى الَّذِي سألَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هلْ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ شَأنَهُ قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ بَيْنَمَا مُوساى فِي مَلاَءٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ جاءَهُ رَجلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أحَدَاً أعْلَمَ مِنْكَ قَالَ لاَ فأوْحَى الله إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنا خَضِرٌ فسَألَ مُوسَى السَّبِيلَ إلَيْهِ فَجُعِلَ لَهُ الحُوتُ آيَةً وقِيلَ لَهُ إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإنَّكَ سَتَلْقَاهُ فَكانَ يَتْبَعُ الحُوتَ فِي البَحْرِ فقالَ لِمُوسَى فَتاهُ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسانِيهِ إلاَّ الشَّيْطَانُ أنْ أذْكُرَهُ فَقَالَ مُوساى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فارْتَدَّا علَى آثَارِهِمَا قَصَصاً فوَجَدَا خَضِراً فَكانَ منْ شَأنِهِمَا الَّذِي قَصَّ الله فِي كِتابِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن مُحَمَّد بن بكير النَّاقِد أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ مَاتَ بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمدنِي، كَانَ إِبْرَاهِيم بالعراق قَاضِيا يروي عَن صَالح بن كيسَان عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن قُتَيْبَة. والْحَدِيث بِعَيْنِه مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عُزَيْر الزُّهْرِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (تمارى) ، أَي: تجَادل.
1043 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ دِينارٍ قَالَ أخبرَنِي سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ ل اِبْنِ عَبَّاسٍ إنَّ نَوْفاً البِكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوساى صاحِبَ الخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ إنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ فقالَ كذَبَ عَدُوُّ الله حدَّثنا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ مُوسَى قامَ خَطِيباً فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فسُئِلَ أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ فَقَالَ أنَا فعَتَبَ الله عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العلْمَ فَقَالَ لَهُ بَلَي لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ قَالَ أيْ رَبِّ ومَنْ لِي بِهِ ورُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ أيْ رَبِّ وكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تأخُذُ حُوتاً فتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ حَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ ورُبَّمَا قَالَ فَهْوَ ثَمَّةَ وأخَذَ حُوتَاً فجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وفَتاهُ يُوشَعُ بنُ نُون حتَّى أتيَا الصَّخْرَةَ وضَعَا رُؤوسَهُمَا فرَقَدَ مُوسَى واضْطَرَبَ الحُوتُ فَخَرَجَ فسَقَطَ فِي البَحْرِ فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً فأمْسَكَ الله عنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ فَصارَ مِثْلَ الطَّاقِ فَقَالَ هَكَذَا مِثلَ الطَّاقِ فانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا ويَوْمَهُمَا حَتَّى إذَا كانَ مِنَ الغَدِ قَالَ لِفَتاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ولَمْ يَجِدْ(15/297)
مُوساى النَّصَبَ حتَّى جاوَزَ حَيْثُ أمرَهُ الله قَالَ لَهُ فَتاهُ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ ومَا أنْسَانِيهِ إلاَّ الشَّيْطَانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبَاً فكانَ لِلْحُوتِ سَرَبَاً ولَهُمَا عَجَبَاً قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فارْتَدَّا عَلى آثَارِهِما قَصَصاً رَجَعا يَقُصَّانِ آثارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فسَلَّمَ مُوساى فَرَدَّ علَيْهِ فَقَالَ وأنَّى بِأرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ أنَا مُوساى قالَ مُوساى بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتُ رَشَدَاً قَالَ يَا مُوساى إنِّي علَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله علَّمَنِيهِ الله لاَ تَعْلَمُهُ وأنْتَ علَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله علَّمَكَهُ الله لاَ أعْلَمُهُ قَالَ هَلْ أتَّبِعُكَ قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَاً وكَيْفَ تَصْبِرُ علَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرَاً إِلَى قَوْلِهِ إمْرَاً فانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى ساحِلِ البَحْرِ فمَرَّتْ بِهِمَا سَفينَةٌ كلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ فعَرَفُوا الخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نوْل فلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ فنَقَرَ فِي البَحْرِ نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَيْنِ قَالَ لَهُ الخَضِرُ يَا مُوساى مَا نَقصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله إلاَّ مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ بِمِنْقَارِه مِنَ الْبَحْرِ إذْ أخَذَ الفَأسَ فنَزعَ لَوْحاً قَالَ فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إلاَّ وقَدْ قلَعَ لَوْحَاً بالْقَدُّومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى مَا صَنَعْتَ قَوْم حَمَّلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَها لِتْغْرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرَاً قَالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَاً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ولاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْرَاً فَكانَتِ الأولَى مِنْ مُوساى نِسْيَاناً فلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلامٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فأخَذَ الخَضِرُ بِرَأسِهِ فقَلَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا وأوْمَأ سُفْيَانِ بِأطْرَاقِ أصَابِعِهِ كأنَّهُ يَقْطِفْ شَيْئَاً فَقَالَ لَهُ مُوساى أقَتَلْتَ نَفْسَاً زَكِيَّةٍ بِغَيْرٍ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرَاً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَاً قَالَ إنْ سَألْتُكَ عنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبُنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرَاً فانْطَلَقَا حتَّى إذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطعَما أهْلَها فأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارَاً يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ مائِلاً أوْمأ بِيَدِهِ هَكَذَا وأشَارَ سُفْيَانُ كأنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئَاً إِلَى فَوْقُ فلَمْ أسْمَعْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ مائِلاً إلاَّ مَرَّةٍ قَالَ قَوْمٌ أتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا ولَمْ يُضَيِّفُونَا عَمَدْتَ إِلَى حائِطِهِم لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرَاً قَالَ هاذَا فِرَاقٌ بَيْنِي وبَيْنَكَ سأُنَبِّئُكَ بِتَأوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ علَيْهِ صَبْرَاً قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ فَقَصَّ الله عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْحَمُ الله مُوسَى لَوْ كانَ صبَرَ يُقَصُّ عَلَيْنَا مِنْ أمْرِهِمَا. وقَرَأ ابنُ عَبَّاسٍ أمامَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصْبَاً وأمَّا الغُلاَمُ فَكانَ كافِرَاً وكانَ أبَوَاهُ مُؤمِنَيْنِ ثُمَّ قالَ لِي سُفْيَانُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ وحَفِظْتُهُ مِنْهُ قِيلَ لِسفْيَانَ حَفِظْتَهُ قَبْلَ أنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرِو أوْ تَحَفَّظْتَهُ مِنْ إنْسَانٍ فقالَ مِمَّنَ أتَحَفَّظُهُ. ورَواهُ أحَدٌ عنْ عَمْرٍ وغَيْرِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثَاً وحَفِظْتُهُ مِنْهُ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. . إِلَى آخِره، وَقد مر هَذَا أَيْضا(15/298)
فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ ... إِلَى آخِره، وَأخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونوف بِفَتْح النُّون منصرف وَغير منصرف الْبكالِي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْكَاف وباللام وَهُوَ الْمَشْهُور، وَقد يُقَال بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الْكَاف نِسْبَة إِلَى: بكال بن دعمي بن سعد بن عَوْف بن عدي بن مَالك بن زيد بن سدد بن زرْعَة بن سبأ.
قَوْله: (كذب عَدو الله) ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك على سَبِيل التَّغْلِيظ لَا على قصد إِرَادَة الْحَقِيقَة. قَوْله: (وَمن لي بِهِ) ، أَي: وَمن يتكفل لي بِرُؤْيَتِهِ. قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الزنبيل. قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف. قَوْله: (ثمَّة) أَي: بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق كَمَا يُقَال: رب وربة. قَوْله: (مسجى) أَي: مغطى. قَوْله: (وأنَّى) هُوَ للاستفهام، أَي: من أَيْن سَلام فِي هَذِه الأَرْض الَّتِي أَنْت فِيهَا إِذْ أَهلهَا لَا يعْرفُونَ السَّلَام؟ قَوْله: (بِغَيْر نول) أَي: بِغَيْر أُجْرَة. قَوْله: (إلاَّ مثل مَا نقص) تَشْبِيه فِي الحقارة والقلة لَا الْمُمَاثلَة من كل الْوُجُوه، وَقيل: هَذَا تَشْبِيه على التَّقْرِيب إِلَى الإفهام لَا على التَّحْقِيق قَوْله: (فَلم يفجأ) بِالْجِيم. قَوْله: (بِغُلَام) ، اسْمه جيسون، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم السِّين الْمُهْملَة وبالنون، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ بالراء بدل النُّون. قَوْله: (ملك) ، اسْمه: هدد، بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة: ابْن بدد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبفتح الدالين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَقيل بِضَم الْهَاء وَضم الْبَاء. قَوْله: (أمامهم) ، أَي: وَرَاءَهُمْ قَوْله: (أَو تحفظته؟) شكّ من عَليّ بن عبد الله، يَعْنِي: قيل لِسُفْيَان: حفظته أَو تحفظته من إِنْسَان قبل أَن تسمعه من عَمْرو؟ وَقَوله: (وَرَوَاهُ) أَي: أرواه؟ همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ محذوفة.
2043 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَعِيدٍ الأصْبَهَانِيُّ أخْبَرَنَا ابنُ الْمُبَارَكِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرَ أنَّهُ جلَسَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فإذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ. [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْخضر مَذْكُور فِيهِ، وَمُحَمّد بن سعيد أَبُو جَعْفَر يُقَال لَهُ حمدَان الإصبهاني، بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا وبالباء الْمُوَحدَة، وَفِي بعض النّسخ بِالْفَاءِ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَابْن الْمُبَارك هُوَ عبد الله.
قَوْله: (أَنه) أَي: أَن خضرًا ويروى: لِأَنَّهُ. قَوْله: (على فَرْوَة) ، بِفَتْح الْفَاء قيل: هِيَ جلدَة وَجه الأَرْض جلس عَلَيْهَا الْخضر فأنبتت وَصَارَت خضراء بعد أَن كَانَت جرداء، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الهشيم من نَبَات الأَرْض أَخْضَر بعد يبسه وبياضه، وَلما أخرج عبد الرَّزَّاق هَذَا الحَدِيث فِي (مُصَنفه) بِهَذَا الْإِسْنَاد، زَاد: الفروة الْحَشِيش الْأَبْيَض وَمَا أشبهه، وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد، بعد أَن رَوَاهُ عَن أَبِيه عَن عبد الرَّزَّاق: أَظن أَن هَذَا تَفْسِير من عبد الرَّزَّاق، وَجزم بذلك عِيَاض، وَعَن مُجَاهِد: أَنه قيل لَهُ: الْخضر، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ صلى اخضرَّ مَا حوله.
وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول فِي اسْمه، فَقَالَ مُجَاهِد: اسْمه أليسع بن ملكان بن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن إرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ مقَاتل: بليا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وبالياء آخر الْحُرُوف: ابْن ملكان بن يقطن بن فالغ ... إِلَى آخِره وَقيل: إيليا بن ملكان ... إِلَى آخِره، وَقيل: خضرون بن عماييل بن ليفر بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم السَّلَام، قَالَه كَعْب، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: إرميا بن حلقيا من سبط هَارُون بن عمرَان، وَأنْكرهُ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ: إرميا كَانَ فِي زمن بخت نصر، وَبَين بخت نصر ومُوسَى زمَان طَوِيل، وَقيل: خضرون بن قابيل بن آدم ذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي، وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس: معمر بن عبد الله ابْن نصر بن الأزد. النَّوْع الثَّانِي فِي نسبه: فَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْخضر هُوَ الرَّابِع من ولد إِبْرَاهِيم لصلبه، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ من ولد يافث وَكَانَ وَزِير ذِي القرنين، وَقيل: هُوَ من ولد رجل من أهل بابل مِمَّن آمن بالخليل وَهَاجَر مَعَه، وَقيل: إِنَّه كَانَ ابْن فِرْعَوْن صَاحب مُوسَى ملك مصر، وَهَذَا غَرِيب جدا، وَقيل: هُوَ أَخُو إلْيَاس، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وروى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر بِإِسْنَادِهِ إِلَى السّديّ: أَن الْخضر وإلياس كَانَا أَخَوَيْنِ وَكَانَ أَبوهُمَا ملكا، وَقَالَ أَيْضا: يُقَال: إِنَّه الْخضر بن آدم لصلبه، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: الْخضر ابْن آدم لصلبه ونسىء لَهُ فِي أَجله حَتَّى يكذب الدَّجَّال، وَهُوَ مُنْقَطع غَرِيب، وروى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر أَيْضا عَن سعيد بن الْمسيب: أَن أم الْخضر رُومِية وأباه فَارسي، وَقيل: كنيته أَبُو الْعَبَّاس. النَّوْع الثَّالِث فِي نبوته، فالجمهور على أَنه نَبِي، وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَن أَشْيَاء فِي قصَّته تدل على نبوته، وروى مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ نَبيا، وَقيل: كَانَ وليا، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى(15/299)
عَنهُ، أَنه كَانَ عبدا صَالحا، وَقيل: كَانَ ملكا بِفَتْح اللَّام، وَهَذَا غَرِيب جدا. النَّوْع الرَّابِع: فِي حَيَاته، فالجمهور، خُصُوصا مَشَايِخ الطَّرِيقَة والحقيقة وأرباب المجاهدات والمكاشفات، أَنه حَيّ يرْزق ويشاهد فِي الفلوات، وَرَآهُ عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم بن أدهم وَبشر الحافي ومعروف الْكَرْخِي وسري السَّقطِي وجنيد وَإِبْرَاهِيم الْخَواص وَغَيرهم، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَفِيه دَلَائِل وحجج تدل على حَيَاته ذَكرنَاهَا فِي (تاريخنا الْكَبِير) . وَقَالَ البُخَارِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ وَأَبُو الْحُسَيْن الْمُنَادِي: إِنَّه مَاتَ، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد} (الْأَنْبِيَاء: 43) . وَبِمَا روى أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته بِقَلِيل أَو بِشَهْر: مَا من نفس منفوسة أَو: مَا مِنْكُم الْيَوْم من نفس منفوسة يَأْتِي عَلَيْهَا مائَة سنة وَهِي يَوْمئِذٍ حَيَّة. وَأجَاب الْجُمْهُور عَن الْآيَة بِأَنا مَا ادعينا أَنه يخلد، وَإِنَّمَا يبْقى إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا، فَإِذا نفخ فِي الصُّور مَاتَ، لقَوْله تَعَالَى: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} (آل عمرَان: 581، الْأَنْبِيَاء: 53، العنكبوت: 75) . وَعَن حَدِيث جَابر بِأَنَّهُ مَتْرُوك الظَّاهِر لِأَن جمَاعَة عاشوا أَكثر من مائَة سنة، مِنْهُم سلمَان الْفَارِسِي، فَإِنَّهُ عَاشَ ثَلَاثمِائَة سنة، وَقد شَاهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكِيم بن حزَام عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة، وَغَيرهمَا، وَإِنَّمَا أَشَارَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى ذَلِك الزَّمَان لَا إِلَى مَا تقوم السَّاعَة، وَهُوَ الْأَلْيَق بِهِ، على أَنه قد عَاشَ بعد ذَلِك الزَّمَان خلق كثير أَكثر من مائَة سنة، وَأجَاب بَعضهم: بِأَن خضرًا، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ حِينَئِذٍ على وَجه الْبَحْر، وَقيل: هُوَ مَخْصُوص من الحَدِيث كَمَا خص مِنْهُ إِبْلِيس بالِاتِّفَاقِ.
قَالَ الحَمُّوِيُّ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ بنِ مَطَرِ الفَرَبْرِيُّ حدَّثنا علِيُّ بنُ خُشْرَمَ عنْ سُفْيَانَ بِطُولِهِ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي خَاصَّة عَن الْفربرِي. قَوْله: (قَالَ الْحَمَوِيّ) ، هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن حمويه، قَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر: حَدثنَا عَليّ بن خشرم بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحسن الْمروزِي حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَذكر الحَدِيث الْمَذْكُور مطولا.
82 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب وَقع كَذَا بِغَيْر تَرْجَمَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقد مر نَحْو هَذَا غير مرّة، وَهُوَ كالفصل لما قبله.
3043 - حدَّثني إسْحَاقِ بنُ نَصْرٍ حدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِيلَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ ادْخُلُوا البابَ سُجَّدَاً وقُولُوا حِطَّةٌ فبَدَّلُوا فدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتَاهِهِمْ وقالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تكون من حَيْثُ إِنَّه فِي قَضِيَّة بني إِسْرَائِيل، ومُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نَبِيّهم.
وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (الْبَاب) ، أَرَادَ بِهِ بَاب الْقرْيَة الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي قَوْله: {وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة} (الْبَقَرَة: 85) . وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: كَانَ الْبَاب قِبَل الْقبْلَة، وَعَن مُجَاهِد وَالسُّديّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك: هُوَ بَاب الحطة من بَاب إيليا من بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: إِن الْقرْيَة فِي الْآيَة بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ السُّهيْلي: هِيَ أريحاء، وَقيل: مصر، وَقيل: بلقاء، وَقيل: الرملة. وَالْبَاب الَّذِي أمروا بِدُخُولِهِ هُوَ الْبَاب الثَّامِن من جِهَة الْقبْلَة. قَوْله: (سجدا) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: منحنين رُكُوعًا. وَقيل: خضوعاً وشكراً لتيسير الدُّخُول، وانتصاب: سجدا على الْحَال وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ حَقِيقَة السَّجْدَة، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَقُولُوا: حطة) أَي: مغْفرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، أَو: لَا إلاه إلاَّ الله، قَالَه عِكْرِمَة، أَو: حط عَنَّا ذنوبنا، قَالَه الْحسن. أَو: أَخْطَأنَا فاعترفنا. فَإِن قلت: بِمَاذَا ارْتِفَاع حطة؟ قلت: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، تَقْدِيره: أمرنَا حطة، أَو مَسْأَلَتنَا حطة. قَوْله: (فبدلوا) ، أَي: غيروا لَفْظَة حطة بِأَن قَالُوا: حنطاً سمقاتاً، أَي: حِنْطَة حَمْرَاء اسْتِخْفَافًا بِأَمْر الله. قَوْله: (يزحفون على أستاههم) ، وَهُوَ جمع: الأست، يَعْنِي: دخلُوا من قبل أستاههم، وَفِي رِوَايَة(15/300)
للنسائي: فَدَخَلُوا يزحفون على أوراكهم، أَي: منحرفين. قَوْله: (وَقَالُوا حَبَّة فِي شَعْرَة) ، الْحبَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهَذَا كَلَام مهمل وغرضهم فِيهِ مُخَالف مَا أمروا بِهِ من الْكَلَام المستلزم للاستغفار وَطلب حطة الْعقُوبَة عَنْهُم، فَلَمَّا عصوا عاقبهم الله بالزجر وَهُوَ الطَّاعُون، هلك مِنْهُم سَبْعُونَ ألفا فِي سَاعَة وَاحِدَة.
4043 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثَنَا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدَّثنا عَوْفٌ عنِ الحَسَنِ ومُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مُوسَى كانَ رَجُلاً حَيِيَّاً سِتِّيرَاً لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءًا مِنْهُ فآذَاهُ مَنْ آذاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هذَا التَّسَتُّرَ إلاَّ مِنْ عَيْبَ بِجِلْدِهِ إمَّا برَصٌ وإمَّا أُدْرَةٌ وإمَّا آفَةٌ وإنَّ الله أرَادَ أنْ يُبَرِّئَه مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْماً وحْدَهُ فوَضَعَ ثِيَابَهُ علَى الحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فلَمَّا فرَغَ أقْبَلَ إِلَى ثِيابِهِ لِيَأْخُذَهَا وإنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فأخَذَ مُوسَى عَصاهُ وطَلَبَ الحَجَرَ فَجَعَلَ يَقولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حتَّى انْتَهَى إلَى مَلاَءٍ منْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَرَأوْهُ عُرْيَانَاً أحْسَنَ مَا خلَقَ الله وأبْرَأهُ مِمَّا يَقُولُونَ وقامَ الحَجَرُ فأخَذَ ثَوْبَهُ فلَبِسَهُ وطَفِق بالحَجَرِ ضَرْبَاً بِعَصَاهُ فَوَالله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاثَاً أوْ أرْبَعَاً أوْ خَمْسَاً فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فبَرَّأهُ الله مِمَّا قَالُوا وكانَ عِنْدَ الله وجِيهاً. (الْأَحْزَاب: 96) . (انْظُر الحَدِيث 872 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ ذكر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة يُؤْخَذ الْوَجْه لذكره فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وروح بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين: أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ، وعَوْف بن أبي جميلَة الْمَعْرُوف بالأعرابي وَلَيْسَ بأعرابي، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وخلاس، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف اللَّام وَفِي آخِره سين مُهْملَة: ابْن عَمْرو الهجري الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْغسْل فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق بن نصر عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَأما الْكَلَام فِي الروَاة، فَنَقُول: أما مُحَمَّد بن سِيرِين فَإِن سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة ثَابت. وَأما الْحسن فَلم يسمع من أبي هُرَيْرَة عِنْد الْمُحَقِّقين من الْحفاظ، وَيَقُولُونَ: مَا وَقع فِي بعض الرِّوَايَات من سَمَاعه عَنهُ فَهُوَ وهم. وَأما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أخرجه عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ هُنَا مَقْرُونا بِغَيْرِهِ وَمَاله فِي الْكتاب إلاَّ هَذَا، وَله حَدِيث آخر فِي: بَدْء الْخلق، مَقْرُونا بِابْن سِيرِين أَيْضا. وَأما خلاس فَفِي سَمَاعه عَن أبي هُرَيْرَة خلاف، فَقَالَ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد: لم يسمع خلاس من أبي هُرَيْرَة، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ على شَرطه عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَحَدِيثه عَنهُ فِي التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَجزم يحيى الْقطَّان أَن رِوَايَته عَنهُ من صحيفَة، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أبي زرْعَة: كَانَ يحيى الْقطَّان يَقُول: رِوَايَته عَن عَليّ من كتاب، وَقد سمع من عمار وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قيل: إِذا ثَبت سَمَاعه من عمار وَكَانَ على شرطة عَليّ، فَكيف يمْتَنع سَمَاعه من عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يُقَال: وَقعت عِنْده صحيفَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَيْسَ بِقَوي، يَعْنِي فِي عَليّ، وَوَثَّقَهُ بَقِيَّة الْأَئِمَّة وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ أخرجه لَهُ مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وَأَعَادَهُ سنداً ومتناً فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب، وَله حَدِيث آخر أخرجه فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور مَقْرُونا بِمُحَمد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (حيياً) ، أَي: كثير الْحيَاء. قَوْله: (ستير) ، على وزن فعيل بِمَعْنى فَاعل أَي: من شَأْنه وإرادته حب السّتْر والصون. قَوْله: (أدرة) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الدَّال على الْمَشْهُور، وَحكى الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، عَن بعض مشايخه، بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الأدرة، بِالضَّمِّ نفخة فِي الخصية، يُقَال: رجل آدر بَين الأدر، بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال(15/301)
وَهِي الَّتِي تسميها النَّاس الإقليط. قَوْله: (وَإِمَّا آفَة) من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (عدا بِثَوْبِهِ) بِالْعينِ الْمُهْملَة أَي: مضى بِهِ مسرعاً. قَوْله: (ثوبي حجر) ، يَعْنِي رد ثوبي يَا حجر. قَوْله: (ضربا) أَي: يضْرب ضربا. قَوْله: (لندباً) ، بِفَتْح النُّون وَالدَّال وَهُوَ أثر الْجرْح إِذا لم يرْتَفع عَن الْجلد. قَوْله: (فوَاللَّه إِن بِالْحجرِ لندبا) ، ظَاهره أَنه بَقِيَّة الحَدِيث. وَقد بيَّن فِي رِوَايَة همام فِي الْغسْل أَنه قَول أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (ثَلَاثًا أَو أَرْبعا أَو خمْسا) ،. وَفِي رِوَايَة همام الْمَذْكُورَة سِتَّة أَو سَبْعَة، وَوَقع عِنْد ابْن مرْدَوَيْه من رِوَايَة حبيب بن سَالم عَن أبي هُرَيْرَة: الْجَزْم بست ضربات. قَوْله: (فَذَلِك قَوْله تَعَالَى) ، أَي: مَا ذكر من أَذَى بني إِسْرَائِيل مُوسَى، نزل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} (الْأَحْزَاب: 96) . خطاب لأهل الْمَدِينَة. . قَوْله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} (الْأَحْزَاب: 96) . أَي احْذَرُوا أَن تكون مؤذين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا آذَى بَنو إِسْرَائِيل مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأظهر الله بَرَاءَته مِمَّا قَالُوهُ فِيهِ من أَنه أدر، وَقيل: كَانَ إيذاؤهم إِيَّاه ادعاؤهم عَلَيْهِ قتل أَخِيه هَارُون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَكَانَ أَي مُوسَى عِنْد الله وجيهاً) أَي: ذَا جاه ومنزلة، وَقيل: وجيهاً لم يسْأَل شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ، وقرىء شاذاً: وَكَانَ عبد الله، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي الحَدِيث: إِن اغتسال بني إِسْرَائِيل عُرَاة بِمحضر مِنْهُم كَانَ جَائِزا فِي شرعهم، وَكَانَ اغتسال مُوسَى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده لكَونه حيياً يحب الاستتار.
وَفِيه: جَوَاز الْمَشْي عُريَانا للضَّرُورَة. وَفِيه: جَوَاز النّظر إِلَى الْعَوْرَة عِنْد الضَّرُورَة للمداواة وَنَحْوهَا. وَفِيه: أَن الْأَنْبِيَاء، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَسلم، منزهون عَن النقائص والعيوب الظَّاهِرَة والباطنة. وَفِيه: أَن من نسب نَبيا من الْأَنْبِيَاء إِلَى نقص فِي خلقه فقد آذاه ويخشى عَلَيْهِ الْكفْر. وَفِيه: معْجزَة ظَاهِرَة لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا سِيمَا تَأْثِير ضربه بالعصا على الْحجر مَعَ علمه بِأَنَّهُ مَا سَار بِثَوْبِهِ إلاَّ بِأَمْر من الله تَعَالَى.
5043 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الأعْمشِ قَالَ سَمِعْتُ أبَا وَائِلٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَسَم النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسْماً فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ هاذِه لَقِسْمَةٌ مَا أرِيدُ بِهَا وَجْهُ الله فأتَيْتُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرْتُهُ فغَضِبَ حتَّى رأيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ الله مُوساى قَدْ أُوذِيَ بِأكْثَرَ مِنْ هاذَا فصَبَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يرحم الله مُوسَى) ، وَبَينه وَبَين الحَدِيث السَّابِق مُنَاسبَة أَيْضا على مَا لَا يخفى، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب مَا كَانَ النَّبِي يُعْطي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
92 - (بابٌ {يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ} (الْأَعْرَاف: 831) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يعكفون على أصنام لَهُم} (الْأَعْرَاف: 831) . وَقَبله: {وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم ... } (الْأَعْرَاف: 831) . الْآيَة، وَذكرهَا وَلم يُفَسِّرهَا. قَوْله: (على قوم) قَالَ بعض الْمُفَسّرين: على قوم من الكنعانيين، وَقيل: كَانُوا من لخم، وَقَالَ ابْن جرير: وَكَانُوا يعْبدُونَ أصناماً على صُورَة الْبَقر. قَوْله: يعكفون، من عكف يعكف عكوفاً وَهُوَ الْإِقَامَة على الشَّيْء وَالْمَكَان ولزومهما، وَيُقَال: عكف يعكف من بَاب ضرب يضْرب، وَعَكَفَ يعكف من بَاب نصر ينصر، وَالْفَاعِل عاكف وَمِنْه قيل لمن لَازم الْمَسْجِد وَأقَام على الْعِبَادَة فِيهِ: عاكف ومعتكف.
مُتَبَّرٌ خُسْرَانٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّ هَؤُلَاءِ متبَّرٌ مَا هم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} (الْأَعْرَاف: 931) . وَفسّر: متَبَّرٌ بقوله: خسران، ومتبر اسْم مفعول من التتبير وَهُوَ الإهلاك، يُقَال: تبره تتبيراً إِذا كَسره وأهلكه. وَمِنْه التبار وَهُوَ الْهَلَاك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله متبر أَي: خاسر، وَقد فسر معنى الْمَفْعُول بِمَعْنى الْفَاعِل، وَهُوَ بعيد، وَكَذَلِكَ تَفْسِير البُخَارِيّ بِالْمَصْدَرِ وَتَفْسِيره الموجه متبر: مهلك وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ.(15/302)
ولِيُتَبِّرُوا يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا مَا غُلِبُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وليتبروا مَا علو تتبيراً} (الْإِسْرَاء: 7) . وَفسّر: ليتبروا، بقوله: يدمروا من التدمير من الدمار وَهُوَ الْهَلَاك، يُقَال: دمره تدميراً وَدَمرَ عَلَيْهِ بِمَعْنى، وَفسّر قَوْله: مَا علوا، بقوله: غلبوا، وَذكر هَذَا بطرِيق الإستطراد.
6043 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَجْنِي الكُبَاثَ وإنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَلَيْكُمْ بالأسْوَدِ مِنْهُ فإنَّهُ أطْيَبُهُ قَالُوا أكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ قَالَ وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ وقَدْ رعَاهَا. (الحَدِيث 6043 طرفه فِي: 3545) .
قَالَ بَعضهم: مناسبته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة. وَقَالَ آخر: لَا مُنَاسبَة أصلا، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : مناسبته ظَاهِرَة لدُخُول مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيمَن رعى الْغنم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ الْمُنَاسبَة من حَيْثُ إِن بني إِسْرَائِيل كَانُوا مستضعفين جُهَّالًا ففضلهم الله على الْعَالمين، وَسِيَاق الْآيَة يدل عَلَيْهِ أَي فِيمَا يتَعَلَّق ببني إِسْرَائِيل، فَكَذَلِك الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، كَانُوا أَولا مستضعفين بِحَيْثُ إِنَّهُم كَانُوا يرعون الْغنم. انْتهى. قلت: فِيهِ تعسف وتكلف وتوجيه غير طائل، وَيُمكن أَن تُوجد لَهُ الْمُطَابقَة وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو أَيْضا عَن بعض تكلّف من حَيْثُ إِن هَذَا الْبَاب كَانَ مِمَّن غير تَرْجَمَة، وَكَذَلِكَ وَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَهُوَ كالفصل للباب المترجم، كَمَا أَن الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة الَّتِي قبل هَذَا الْبَاب كَذَلِك بِلَا تراجم كالفصول، فتوجد الْمُطَابقَة بَين حَدِيث جَابر وَبَين الْبَاب المترجم، وَهُوَ قَوْله بَاب قَول الله تَعَالَى: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة} (الْأَعْرَاف: 241) . لِأَن فِيهِ بَيَان حَالَة من حالات مُوسَى ومُوسَى يدْخل فِي عُمُوم قَوْله. قَوْله: (مَا من نَبِي إِلَّا رعاها) ، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تُوجد الْمُطَابقَة، على أَنه وَقع التَّصْرِيح برعي مُوسَى الْغنم فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ أخرجه من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن نصر بن حزن، قَالَ: إفتخر أهل الْإِبِل وَالشَّاء، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعث مُوسَى راعي غنم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن سعيد بن عفير. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن هَارُون بن عبد الله.
قَوْله: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، هَذِه الكينونة كَانَت بمر الظهْرَان، كَذَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات، قَوْله: (نجني) ، من: جنى يجني جنياً، وَهُوَ أَخذ الثَّمر من الشّجر. قَوْله: (الكباث) ، بِفَتْح الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف ثاء مُثَلّثَة، وَهُوَ ثَمَر الْأَرَاك، وَيُقَال ذَلِك للنضيج مِنْهُ، كَذَا نَقله النَّوَوِيّ عَن أهل اللُّغَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ ثَمَر الْأَرَاك إِذا يبس وَلَيْسَ لَهُ عجم، وَقَالَ الْقَزاز: هُوَ الغض من ثَمَر الْأَرَاك والأراك هُوَ الخمط، وَقَالَ أَبُو زِيَاد: الكباث يشبه التِّين يَأْكُلهُ النَّاس وَالْإِبِل وَالْغنم. وَفِيه حرارة، وَفِي (الْمُحكم) هُوَ حمل ثَمَر الْأَرَاك إِذا كَانَ مُتَفَرقًا، واحده كباثة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ فَوق حب الكزبرة وعنقوده يمْلَأ الْكَفَّيْنِ، وَإِذا التقمه الْبَعِير فضل عَن لقمته، والنضيج مِنْهُ يُقَال لَهُ: المرد. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هُوَ حصرمه. قَوْله: (قَالُوا: كنت ترعى الْغنم؟) ، أَي: قَالَت الصَّحَابَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل كنت ترعى الْغنم؟ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن قَوْله لَهُم: (عَلَيْكُم بالأسود مِنْهُ) ، دَال على تَمْيِيزه بَين أَنْوَاعه، وَالَّذِي يُمَيّز بَين أَنْوَاع ثَمَر الْأَرَاك غَالِبا من يلازم رعي الْغنم على مَا ألفوه. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي هَذَا؟ قلت: قَالَ الْخطابِيّ: أَرَادَ أَن الله تَعَالَى لم يضع النُّبُوَّة فِي أَبنَاء الدُّنْيَا والمترفين مِنْهُم، وَإِنَّمَا جعلهَا فِي رعاء الشَّاء وَأهل التَّوَاضُع من أَصْحَاب الْحَرْف، كَمَا روى أَن أَيُّوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ خياطاً، وزكرياء كَانَ نجاراً: {وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} (الْأَنْعَام: 421) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْحِكْمَة فِيهِ أَن يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ بالتواضع وصفوا قُلُوبهم بالخلوة وينتقلوا من سياستها إِلَى سياسة أمّهم، وَقد مر بعض الْكَلَام من هَذَا الْقَبِيل فِي أَوَائِل كتاب الْإِجَارَة.
03 - (بابٌ {وإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (الْبَقَرَة: 76) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} (الْبَقَرَة: 76) . الْآيَة، وَلم يذكر فِي هَذَا الْبَاب غير بعض تَفْسِير أَلْفَاظ تتَعَلَّق بِقصَّة مُوسَى(15/303)
الَّتِي وَقعت فِي الْقُرْآن من بعض قصصه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَإِذ قَالَ) ، أَي: أذكر يَا مُحَمَّد حِين قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} (الْبَقَرَة: 76) . وقصة الْبَقَرَة مَا ذكره ابْن أبي حَاتِم، فَقَالَ: حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي، قَالَ: كَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل عقيماً لَا يُولد لَهُ وَكَانَ لَهُ مَال كثير وَكَانَ ابْن أَخِيه وَارثه فَقتله ثمَّ احتمله لَيْلًا فَوَضعه على بَاب رجل مِنْهُم، ثمَّ أصبح يَدعِيهِ عَلَيْهِم حَتَّى تسلحوا وَركب بَعضهم على بعض، فَقَالَ ذُو الرَّأْي مِنْهُم: على مَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا وَهَذَا رَسُول الله فِيكُم؟ فَأتوا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَذكرُوا ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة قَالُوا: أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} (الْبَقَرَة: 76) . قَالَ: فَلَو لم يعترضوا لأجزأت عَنْهُم أدنى بقرة، وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم حَتَّى انْتَهوا إِلَى الْبَقَرَة الَّتِي أمروا بذبحها فوجدوها عِنْد رجل لَيْسَ لَهُ بقرة غَيرهَا فَقَالَ: وَالله لَا أنقصها من ملْء جلدهَا ذَهَبا فَأَخَذُوهَا بملء جلدهَا ذَهَبا فذكوها وضربوه بِبَعْضِهَا فَقَامَ، فَقَالُوا: من قَتلك؟ قَالَ هَذَا، لِابْنِ أَخِيه، ثمَّ مَال مَيتا فَلم يُعْط من مَاله شَيْئا، فَلَو يُورث قَاتل بعده. وَرَوَاهُ ابْن جرير من حَدِيث أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عُبَيْدَة بِنَحْوِ ذَلِك، وَرَوَاهُ آدم بن أبي إِيَاس فِي (تَفْسِيره) من وَجه آخر، وَمُلَخَّصه: كَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل غَنِيا وَلم يكن لَهُ ولد وَكَانَ لَهُ قريب وَهُوَ وَارثه فَقتله ليرثه ثمَّ أَلْقَاهُ على مجمع الطَّرِيق، وأتى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهُ: إِن قريبي قتل، ونادى مُوسَى فِي النَّاس: من كَانَ عِنْده فِي هَذَا علم يُبينهُ لنا؟ فَلم يكن عِنْدهم علم، وَقَالَ الْقَاتِل: أَنْت نَبِي الله، سل لنا رَبك أَن يبين لنا. فَسَأَلَ ربه، فَأوحى الله إِلَيْهِ {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة ... } (الْبَقَرَة: 76) . الْآيَات، وَفِيه: أَنهم أعْطوا صَاحب الْبَقَرَة وَزنهَا عشر مَرَّات ذَهَبا فذبحوها وضربوه بالبضعة الَّتِي بَين الْكَتِفَيْنِ، فَعَاشَ فَسَأَلُوهُ فَبين الْقَاتِل، وَرَوَاهُ بِسَنَد من وَجه آخر عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَمُحَمّد بن قيس أَن سبطاً من بني إِسْرَائِيل لما رَأَوْا كَثْرَة شرور النَّاس بنوا مَدِينَة فاعتزلوا شرور النَّاس فَكَانُوا إِذا أَمْسوا لم يتْركُوا أحدا مِنْهُم خَارج الْمَدِينَة إلاَّ أدخلوه، فَإِذا أَصْبحُوا قَامَ رئيسهم فَنظر وتشوف فَإِذا لم يَرَ شيْئَاً فتح الْمَدِينَة فَكَانُوا مَعَ النَّاس حَتَّى يمسوا، قَالَ: وَكَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل لَهُ مَال كثير وَلم يكن لَهُ وَارِث غير أَخِيه فطالت عَلَيْهِ حَيَاته فَقتله ليرثه ثمَّ حمله فَوَضعه على بَاب الْمَدِينَة، ثمَّ كمن هُوَ وَأَصْحَابه: قَالَ: فتشوف رَئِيس الْمَدِينَة على بَاب الْمَدِينَة فَنظر فَلم ير شَيْئا، فَفتح الْبَاب فَلَمَّا رأى الْقَتِيل رد الْبَاب، فناداه أَخُو الْمَقْتُول وَأَصْحَابه: هَيْهَات، قَتَلْتُمُوهُ ثمَّ تردون الْبَاب؟ وَكَاد أَن يكون بَين أَخ الْمَقْتُول وَبَين أهل الْمَدِينَة قتال حَتَّى لبسوا السِّلَاح، ثمَّ كف بَعضهم عَن بعض، فَأتوا مُوسَى فشكوا لَهُ شَأْنهمْ، فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن يذبحوا بقرة. . الْقِصَّة. وَقَالَ ابْن كثير: الرِّوَايَات فِيهَا مُخْتَلفَة، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مَأْخُوذَة من كتب بني إِسْرَائِيل، وَهُوَ مِمَّا يجوز نقلهَا، لَكِن لَا يصدق وَلَا يكذب، فَلهَذَا لَا يعْتَمد عَلَيْهَا إلاَّ مَا وَافق الْحق.
قَالَ أَبُو العَالِيَةِ الْعَوَانُ النَّصَفُ بَيْنَ البِكْرِ والهَرِمَةِ
أَبُو الْعَالِيَة، بِالْعينِ الْمُهْملَة: رفيع بن مهْرَان الريَاحي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَهُوَ فسر الْعوَان فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك} (الْبَقَرَة: 86) . وَرَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ عَن سَلمَة عَن ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ. قَوْله: {لَا فارض وَلَا بكر} (الْبَقَرَة: 86) . يَعْنِي: لَا هرمة وَلَا صَغِيرَة {عوان بَين ذَلِك} (الْبَقَرَة: 86) . أَي: نَصف بَين الْبكر والهرمة، وَالنّصف، بِفَتْح النُّون وَالصَّاد.
فاقِعٌ صَافٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين} (الْبَقَرَة: 96) . وَهَذِه الْجُمْلَة صفة لتِلْك الْبَقَرَة الْمَأْمُور بذبحها ولونها مَرْفُوع بفاقع، وَعَن سعيد بن جُبَير: صفراء فَاقِع صَافِيَة اللَّوْن، وَكَذَا عَن قَتَادَة وَالْحسن وَنَحْوه، وَقَالَ الْعَوْفِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَاقِع لَوْنهَا شَدِيد الصُّفْرَة تكَاد صفرتها تبيض، وَعَن ابْن عمر كَانَت صفراء الظلْف، وَعَن سعيد بن جُبَير: كَانَت صفراء الْقرن والظلف، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا نصر بن عَليّ أخبرنَا أَبُو رَجَاء عَن الْحسن، فِي قَوْله: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا} (الْبَقَرَة: 96) . قَالَ: سَوْدَاء شَدِيدَة السوَاد، وَهَذَا غَرِيب. قَوْله: {تسر الناظرين} (الْبَقَرَة: 96) . أَي: تعجبهم.
لاَ ذَلُولٌ لَمْ يُذِلَّهَا العَمَلُ تُثِيرُ الأرْضَ لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الأرْضَ ولاَ تَعْمَلُ فِي الحَرْثِ(15/304)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا ذَلُول تثير الأَرْض وَلَا تَسْقِي الْحَرْث} (الْبَقَرَة: 17) . أَي: هَذِه لَا ذَلُول، يَعْنِي: لَيست مذللة بالحرث وَلَا معدة للسقي فِي السانية، بل هِيَ مكرمَة حسناء صَبِيحَة. قَوْله: (لم يذلها) ، بِضَم الْيَاء من الإذلال، وَالْعَمَل مَرْفُوع بِهِ. قَوْله: (تثير الأَرْض) يَعْنِي: لَيست بذلول فتثير الأَرْض.
مُسَلَّمَةٌ مِنَ العُيُوبِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مسلمة} (الْبَقَرَة: 17) . الْآيَة وفسرها بقوله: من الْعُيُوب، وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: مسلمة القوائم والخلق.
لاَشِيَة بَيَاضٌ
فسر الشية الَّتِي هِيَ اللَّوْن بقوله: بَيَاض، يَعْنِي: لَا بَيَاض فِيهَا، قَالَ أَبُو الْعَالِيَة والربعي وَالْحسن وَقَتَادَة: لَيْسَ فِيهَا بَيَاض، وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: لَوْنهَا وَاحِد، وروى عَن عَطِيَّة ووهب بن مُنَبّه نَحْو ذَلِك، وَقَالَ السّديّ: {لَا شية فِيهَا} (الْبَقَرَة: 17) . من بَيَاض وَلَا سَواد وَلَا حمرَة.
صَفْرَاءُ إنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ ويُقَالُ صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ غَرَضه من هَذَا الْكَلَام أَن الصُّفْرَة يحْتَمل حملهَا على مَعْنَاهَا الْمَشْهُور، وعَلى معنى السوَاد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {جمالات صفر} (المرسلات: 33) . فَإِنَّهُ فسر بسود يضْرب إِلَى الصُّفْرَة فاحمل على أَيهمَا شِئْت. قَوْله: (جمالات) جمع الْجمع لِأَنَّهُ جمع: جمالة، والجمالة جمع جمل وفسرها مُجَاهِد بسود، وَيُقَال للجمل الْأسود: أصفر، لِأَنَّهُ لَا يُوجد جمل أسود إلاَّ وَهُوَ مشرب بصفرة.
فادَّارَأْتُمْ اخْتَلَفْتُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قتلتم نفسا فادَّارَأْتُم فِيهَا} (الْبَقَرَة: 27) . وَفسّر بقوله: اختلفتم، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن أبي حُذَيْفَة عَن شبْل عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قتلتم نفسا فادَّارأتُم فِيهَا} (الْبَقَرَة: 27) . اختلفتم، وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي وَالضَّحَّاك: اختصمتم فِيهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة، وَهُوَ من التداري، وَهُوَ التدافع، وَالله أعلم.
13 - (بابُ وفاتِ مُوساى وذِكْرُهُ بَعْدُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَفَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر ذكر لفظ: بَاب، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور عِنْده: وَفَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَذكره بعد) ، بِضَم الدَّال لِأَنَّهُ مَبْنِيّ عَلَيْهِ لكَونه قطع عَن الْإِضَافَة وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان ذكره بعد ذَلِك وَفَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
7043 - حدَّثنا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَى مُوسَى علَيْهِمَا السَّلاَمُ فلَمَّا جاءَهُ صَكَّهُ فرَجَعَ إلَى رَبِّهِ فقالَ أرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ المَوْتَ قَالَ ارْجِعْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قالَ ثُمَّ المَوْتُ قَالَ فالآنَ قَالَ فَسَألَ الله أَن يُدْنِيهِ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ. رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ. (انْظُر الحَدِيث 9331) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه أَبُو زَكَرِيَّاء السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَولا مَوْقُوفا من طَرِيق طَاوُوس عَنهُ، ثمَّ أوردهُ عتيبة بِرِوَايَة همام عَنهُ مَرْفُوعا وَهُوَ الْمَشْهُور عَن عبد الرَّزَّاق، والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب من(15/305)
أحب الدّفن فِي الأَرْض المقدسة.
قَوْله: (صَكه) ، أَي: ضربه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: أجب رَبك، فلطم مُوسَى عين ملك الْمَوْت ففقأها، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: كَانَ ملك الْمَوْت يَأْتِي النَّاس عيَانًا، فَأتى مُوسَى فَلَطَمَهُ ففقأ عينه. قَوْله: (لَا يُرِيد الْمَوْت) ، وَفِي رِوَايَة همام، وَقد فَقَأَ عَيْني فَرد الله عينه، وَفِي ررواية عمار، فَقَالَ: يَا رب عَبدك مُوسَى فَقَأَ عَيْني، وَلَوْلَا كرامته عَلَيْك لشققت عَلَيْهِ. قَوْله: (فَقل لَهُ) ، أَي: لمُوسَى، يضع يَده، وَفِي رِوَايَة أبي يوسن: فَقل لَهُ: الحياةَ تُرِيدُ؟ فَإِن كنت تُرِيدُ الْحَيَاة فَإِن كنت تُرِيدُ الْحَيَاة فضع يدك. قَوْله: (على متن ثَوْر) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بِمَا غطى. قَوْله: (أَي رب) ، يَعْنِي: يَا رب. قَوْله: ثمَّ مَاذَا أَي ثمَّ مَا يكون بعد هَذَا أَي أحياة أَو موت؟ قَوْله (فَالْآن) هُوَ ظرف زمَان الْحَال بَين الْمَاضِي والمستقبل قَوْله: (ثمَّ مَاذَا) أَي ثمَّ مَا يكون بعد هَذَا أَي: أحياة أَو موت؟ قَوْله (فَالْآن) هُوَ ظرف زمَان الْحَال بَين الْمَاضِي والمستقبل قَوْله: أَن يُدْنِيه) بِضَم الْيَاء من الإدناء أَي: يقربهُ، وَوجه سُؤَاله الإدناء من الأَرْض المقدسة هُوَ شرفها وف ضيلة مَا فِيهَا من المدفونين من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَغَيرهم، فَإِن قلت: سَأَلَ الإدناء فلَمَ لَمْ يسْأَل نفس بَيت الْمُقَدّس؟ قلت: لِأَنَّهُ خَافَ أَن يكون قَبره مَشْهُورا عِنْدهم فيفتتن بِهِ النَّاس. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدّفن فِي الْمَوَاضِع الفاضلة والمواطن الْمُبَارَكَة والقرب من مدافن الصَّالِحين قَوْله (رمية) أَي قدر رمية كائنة بِحجر. قَوْله: (إِلَى جَانب الطَّرِيق) هَكَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: من جَانب الطَّرِيق. قَوْله: (الْكَثِيب) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ الرمل الْكثير الْمُجْتَمع.
وَاخْتلف أهل السّير فِي مَوضِع قَبره، فَقيل: بِأَرْض التيه وَهَارُون كَذَلِك وَلم كَذَلِك. وَلم يدْخل مُوسَى الأَرْض المقدسة إلاَّ رمية حجر، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن بن عَبَّاس، وَقَالَ: لَا يعرف قَبره، وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبهم ذَلِك بقوله: إِلَى جَانب الطَّرِيق عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر، وَلَو أَرَادَ بَيَانه لبيَّن صَرِيحًا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَو علمت الْيَهُود قبر مُوسَى وَهَارُون لاتخذوهما إل هَين من دون الله، وَقيل: بِبَاب لد بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس، وَقيل: قَبره بَين عالية وعويلة عِنْد كَنِيسَة توماء، وَقيل: بالوادي فِي أَرض مَاء بَين بُصرى والبلقاء، وَقيل: قَبره بِدِمَشْق، ذكره ابْن عَسَاكِر عَن كَعْب الْأَحْبَار، وَالأَصَح أَنه بالتيه قدر رمية حجر من الأَرْض المقدسة، وَعَن وهب: أَن الْمَلَائِكَة توَلّوا دَفنه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَأَنه عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة، وَقَالَ وهب: وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ مَوته بعد موت هَارُون بِأحد عشر شهرا، وَكَانَ بَين وَفَاة إِبْرَاهِيم ومولد مُوسَى مِائَتَان وَخَمْسُونَ سنة، وَقد مَضَت بَقِيَّة الْكَلَام فِي كتاب الْجَنَائِز.
قَالَ وأخْبرَنا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ
أَي: قَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر بن رَاشد عَن همام بن مُنَبّه نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ وَقد وهم من قَالَ: إِنَّه مُعَلّق. قلت: صورته صُورَة تَعْلِيق، وَكَونه مَوْصُولا بِالْإِسْنَادِ الأول مُحْتَمل، وَلَا يلْزم من إِخْرَاج غَيره هَذَا مَوْصُولا أَن يكون هَذَا أَيْضا مَوْصُولا، وَهُوَ فِي صُورَة التَّعْلِيق، فَافْهَم.
8043 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني أبُو سلَمَة بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ وسَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ اسْتَبَّ رجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ ورَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ والَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى العَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ اليَهُودِيُّ والَّذِي اصْطَفَى مُوسَى علَى العَالَمِينَ فرَفَعَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ يَدَهُ فلَطَمَ اليَهُودِيَّ فذَهَبَ اليَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَهُ الَّذِي كانَ مِنْ أمْرِهِ وأمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ لاَ تُخَيِّرُونِي علَى مُوسَى فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فأكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فإذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ العَرْشِ فَلاَ أدْرِي أكانَ فِيمَنْ صَعِقَ فأفَاقَ قَبْلِي أوْ كانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى الله. .
مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: وَذكره بعد، وَقد تكَرر ذكر رِجَاله على هَذَا النسق. والْحَدِيث مضى فِي(15/306)
الْخُصُومَات فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْأَشْخَاص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
9043 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَّنِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أنْتَ آدَمُ الَّذِي أخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ الله بِرِسَالَتِهِ وبِكَلاَمِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أمْرٍ قُدَّرَ علَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ. .
مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الْقرشِي الأويسي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده وَإِبْرَاهِيم ابْن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمَدِينِيّ، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن بكير. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْقدر عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن حَاتِم.
قَوْله: (احْتج مُوسَى وآدَم) أَي: تحاجَّا. إِمَّا أَن تكون أرواحهما تَحَاجَّتْ، أَو يكون ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة، وَالْأول أظهر. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَيحْتَمل أَن يحمل على ظَاهره، وأنهما اجْتمعَا بأشخاصهما. وَقد ثَبت فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اجْتمع بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَوَات وَفِي بَيت الْمُقَدّس وَصلى بهم، وَلَا يبعد أَن الله أحياهم كَمَا أَحْيَا الشُّهَدَاء، وَيحْتَمل أَن يكون جرى ذَلِك فِي حَيَاة مُوسَى، سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يرِيه آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيحاجه. قَوْله: (خطيئتك) أَي: الْأكل من الشَّجَرَة الْمنْهِي عَنْهَا بقوله: {لَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} (الْبَقَرَة: 53، الْأَعْرَاف: 91) . وَجَاز فِي مثله: أخرجتك وأخرجته بِالْخِطَابِ والغيبة نَحْو.
(أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدره.)
أَي: سمته قَوْله: (الَّذِي اصطفاك الله) ، أَي: جعلك خَالِصا صافياً عَن شَائِبَة مَا لَا يَلِيق بك. وَفِيه تلميح إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) . قَوْله: (ثمَّ تلومني) كلمة: ثمَّ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْمِيم الْمُشَدّدَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: بِمَ، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْمِيم المخففة. قَوْله: (فحج آدم) بِالرَّفْع بِاتِّفَاق الروَاة أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ وَظهر عَلَيْهِ بهَا، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي غلب بِالْحجَّةِ، بِأَن ألزمهُ أَن جملَة مَا صدر عَنهُ لم يكن هُوَ مُسْتقِلّا بهَا مُتَمَكنًا من تَركهَا، بل كَانَ أمرا مقضياً. قَوْله: (مرَّتَيْنِ) ، مُتَعَلق بقوله: قَالَ، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا حجه آدم فِي رفع اللوم إِذْ لَيْسَ لأحد من الْآدَمِيّين أَن يلوم أحدا بِهِ، وَأما الحكم الَّذِي تنازعاه فَإِنَّمَا هما فِي ذَلِك سَوَاء إِذْ لَا يقدر أحد أَن يسْقط الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقدر، وَلَا أَن يبطل الَّذِي هُوَ السَّبَب، وَمن فعل وَاحِدًا مِنْهُمَا خرج عَن الْقَصْد إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ، مَذْهَب الْقدر أَو الْجَبْر، وَفِي قَول آدم استقصار لعلم مُوسَى أَي: إِذا جعلك الله بِالصّفةِ الَّتِي أَنْت عَلَيْهَا من الاصطفاء بالرسالة وَالْكَلَام، فَكيف يسعك أَن تلومني على الْقدر الَّذِي لَا مدفع لَهُ؟ وَحَقِيقَته أَنه دفع حجَّة مُوسَى الَّتِي ألزمهُ بهَا اللوم وَذَلِكَ أَن الِاعْتِرَاض والابتداء كَانَ من مُوسَى، وعارضه بِأَمْر دفع بِهِ اللوم، فَكَانَ هُوَ الْغَالِب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّك تعلم أَنه مُقَدّر فَلَا تلمني، وَأَيْضًا اللوم شَرْعِي لَا عَقْلِي، وَإِذا تَابَ الله عَلَيْهِ وَغفر لَهُ زَالَ عَنهُ اللوم، فَمن لامه كَانَ محجوجاً بِالشَّرْعِ، فَإِن قيل: فالعاصي منَّا لَو قَالَ: هَذِه الْمعْصِيَة كَانَت بِتَقْدِير الله تَعَالَى لم تسْقط عَنهُ الْمَلَامَة قُلْنَا هُوَ باقٍ فِي دَار التَّكْلِيف جَار عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُكَلّفين، وَفِي لومه زجر لَهُ وَلغيره، وَأما آدم فميت خَارج عَن هَذِه الدَّار وَعَن الْحَاجة إِلَى الزّجر، فَلم يكن فِي هَذَا القَوْل فَائِدَة سوى التخجيل وَنَحْوه، وَقَالَ التوربشتي: لَيْسَ من معنى قَول آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب الله عَليّ، ألزمهُ إِيَّاه وأوجبه عَليّ، فَلم يكن لي فِي تنَاول الشَّجَرَة كسب وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أثْبته فِي أم الْكتاب قبل كوني، وَحكم بِأَن ذَلِك كَائِن لَا محَالة لعلمه السَّابِق، فَهَل يُمكن أَن يصدر عني خلاف علم الله، فَكيف تغفل عَن الْعلم السَّابِق؟ وتذكر الْكسْب الَّذِي هُوَ السَّبَب وتنسى الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقدر وَأَنت مِمَّن اصطفاك الله من المصطفين الأخيار الَّذين يشاهدون سر الله من وَرَاء الأستار؟(15/307)
0143 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حُصَيْنُ بنُ نُمَيْرٍ عنْ حُصَيْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ سَعِيدِ ابنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَاً قَالَ عُرِضَتْ علَيَّ الأُمَمُ ورأيْتُ سَوَادَاً كَثِيرَاً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الْأَخير مِنْهَا، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن نمير: مصغر النمر الْحَيَوَان الْمَشْهُور أَبُو محسن الوَاسِطِيّ، وَشَيْخه حُصَيْن كَذَلِك ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ أَبُو الْهُذيْل الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مطولا فِي الطِّبّ عَن مُسَدّد أَيْضا وَفِي الرقَاق عَن عمرَان بن ميسرَة وَعَن أسيد بن زيد مَقْرُونا بِحَدِيث عمرَان بن ميسرَة وَفِي الرقَاق أَيْضا عَن إِسْحَاق. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن سعيد بن مَنْصُور وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن أبي حُصَيْن عبد الله بن أَحْمد بِطُولِهِ: وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن أبي حُصَيْن بِهِ.
قَوْله: (سواداً) ، وَهُوَ الَّذِي يعبر بِهِ عَن الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة. قَوْله: (سد الْأُفق) ، والأفق بالضمتين وَاحِد آفَاق السَّمَاء وَالْأَرْض، وَهِي نواحيهما. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَيجوز أَن يكون الْأُفق وَاحِدًا وجمعاً: كالفلك، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ الحَدِيث أَن أمة مُوسَى أَكثر الْأُمَم بعد أمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: ظَاهر الحَدِيث يدل صَرِيحًا على كَثْرَة أمة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالله أعلم.
23 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {وضَرَبَ الله مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأةَ فِرْعَوْنَ} إِلَى قَوْله: {وكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التَّحْرِيم: 11) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان آسِيَة بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي قَوْله: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين وَمَرْيَم ابْنة عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه وَكَانَت من القانتين} (التَّحْرِيم: 11) . قَوْله: (ضرب الله مثلا) إِلَى آخِره، مثَّل حَال الْمُؤمنِينَ فِي أَن وصلَة الْكَافرين لَا تَضُرهُمْ وَلَا تنقص شَيْئا من ثوابهم وزلفاهم عِنْد الله بِحَال امْرَأَة فِرْعَوْن ومنزلتها عِنْد الله مَعَ كَونهَا امْرَأَة أعدى أَعدَاء الله النَّاطِق بِالْكَلِمَةِ الْعُظْمَى، وَأَرَادَ بِامْرَأَة فِرْعَوْن: آسِيَة بنت مُزَاحم، لما غلب مُوسَى سحرة فِرْعَوْن: أمنت، فَلَمَّا تبين إيمَانهَا لفرعون وَثبتت عَلَيْهِ أوتد يَديهَا ورجليها بأَرْبعَة أوتاد وَأَلْقَاهَا فِي الشَّمْس وَأمر بصخرة عَظِيمَة فَتلقى عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَتَوا بالصخرة قَالَت: رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة! فَأَبْصَرت بَيتهَا فِي الْجنَّة من درة بَيْضَاء، وانتزع الله روحها فألقيت الصَّخْرَة عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِي جَسدهَا روح، فَلم تَجِد ألماً من عَذَاب فِرْعَوْن. وَعَن الْحسن وَابْن كيسَان: رفع الله امْرَأَة فِرْعَوْن إِلَى الْجنَّة فَهِيَ فِيهَا تَأْكُل وتشرب. قَوْله: (وَمَرْيَم ابْنة عمرَان) عطف على: امْرَأَة فِرْعَوْن، أَي: وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا مَرْيَم ابْنة عمرَان وَمَا أُوتيت من الْكَرَامَة من كرامات الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والاصطفاء على نسَاء الْعَالمين مَعَ أَن قَومهَا كَانُوا كفَّارًا. قَوْله: (وَكَانَت من القانتين) أَي: من الْقَوْم القانتين، وَلذَلِك لم يقل: من القانتات، وآسية هِيَ بنت مُزَاحم ابْنة عَم فِرْعَوْن، وَقيل: إِنَّهَا من العماليق، وَقيل من بني إِسْرَائِيل من سبط مُوسَى، وَقَالَ السُّهيْلي: هِيَ عمَّة مُوسَى وَكَانَت لَهَا فراسة حِين قَالَت: قُرَّة عين لي وَلَك، وَإِنَّمَا ذكر الْآيَة المتضمنة لقضية مَرْيَم لكَونهَا مَذْكُورَة مَعَ آسِيَة. وَلَيْسَ مَقْصُوده من التَّرْجَمَة إلاَّ ذكر آسِيَة.
1143 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا وَكِيعٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ عنْ مُرَّةَ الهَمْدَانِيِّ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَملَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ آسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ومَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وإنَّ فَضْلَ عائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعَامِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا لِأَن المُرَاد من قَوْله: (امْرَأَة فِرْعَوْن) هِيَ آسِيَة. وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي وَهُوَ من أَفْرَاده، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: الْمرَادِي الْأَعْمَى الْكُوفِي، مر فِي كتاب الصَّلَاة، وَمرَّة الْهَمدَانِي هُوَ مرّة بن شرَاحِيل الْكُوفِي كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم ألف رَكْعَة، وَلما كبر كَانَ لَهُ وتد يعْتَمد عَلَيْهِ،(15/308)
وَأَبُو مُوسَى هُوَ عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل عَائِشَة عَن عَمْرو بن مَرْزُوق وَفِي الْأَطْعِمَة عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَابْن بشار وَعَن عبيد الله بن معَاذ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن قُتَيْبَة بِقصَّة مَرْيَم وآسية وَعَن عَمْرو بن عَليّ كَذَلِك وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بِقصَّة فضل عَائِشَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن بشار بِتَمَامِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كمل) ، بِضَم الْمِيم وَفتحهَا وَكسرهَا، ثَلَاث لُغَات، وَالْمرَاد من الْكَمَال: التناهي فِي جَمِيع فَضَائِل الرِّجَال، قَوْله: (وَلم يكمل من النِّسَاء إلاَّ آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم بنت عمرَان) ، وَقد اسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا على أَن آسِيَة وَمَرْيَم نبيتان، لِأَن أكمل النَّوْع الإنساني الْأَنْبِيَاء ثمَّ الْأَوْلِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء، فَلَو كَانَتَا غير نبيتين للَزِمَ أَن لَا يكون فِي النِّسَاء ولية وَلَا صديقَة وَلَا شهيدة، وَفِي نفس الْأَمر إِن هَذِه الصِّفَات مَوْجُودَة فِي كثير مِنْهُنَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لم تنبأ من النِّسَاء إِلَّا فُلَانَة وفلانة. وَمنع بِأَنَّهُ لَا يلْزم من لَفظهَا الْكَمَال نبوتهما إِذْ هُوَ يُطلق على إتْمَام الشَّيْء وتناهيه فِي بَابه، فَالْمُرَاد تناهيهما فِي جَمِيع الْفَضَائِل الَّتِي للنِّسَاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد نقل الْإِجْمَاع على عدم النُّبُوَّة للنِّسَاء. قلت: وَقد نقل عَن الْأَشْعَرِيّ أَن من النِّسَاء من نبيء وَهن سِتّ: حَوَّاء وَسَارة وَأم مُوسَى وَهَاجَر وآسية وَمَرْيَم، وَقد ثَبت مَجِيء الْملك لبعضهن فِي الْقُرْآن، وَقد قَالَ الله تَعَالَى بعد أَن ذكر مَرْيَم والأنبياء بعْدهَا: {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين} (مَرْيَم: 85) . فَدخلت فِي عُمُومه، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الصَّحِيح أَن مَرْيَم نبية لِأَن الله أوحى إِلَيْهَا بِوَاسِطَة الْملك وَأما آسِيَة فَلم يرد مَا يدل على نبوتها. قَوْله: (وَإِن فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على النِّسَاء) أَي: على نسَاء هَذِه الْأمة فِي الْفَضِيلَة وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على الْأَفْضَلِيَّة، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شبه فَضلهَا بِفضل الثَّرِيد على غَيره من الطَّعَام لما فِيهِ من تيسير المؤونة وسهولة الإساغة، وَكَانَ أجل أطعمتهم يَوْمئِذٍ، وكل هَذِه الْخِصَال لَا تَسْتَلْزِم الْأَفْضَلِيَّة لَهَا من كل وَجه.
وَقد ورد من طَرِيق صَحِيح مَا يَقْتَضِي أَفضَلِيَّة خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على غَيرهَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: خير نسائها خَدِيجَة، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَورد أَيْضا مَا يَقْتَضِي أَفضَلِيَّة خَدِيجَة وَفَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِيمَا أخرجه أَحْمد وَابْن حبَان وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو دَاوُد فِي كتاب الزّهْد وَالْحَاكِم، كلهم من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد وَمَرْيَم ابْنة عمرَان وآسية امْرَأَة فِرْعَوْن) . وَله شَاهد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَأحمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي سعيد رَفعه: فَاطِمَة سيدة نسَاء أهل الْجنَّة إلاَّ مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان. وَعَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَسبك من نسَاء الْعَالمين بِأَرْبَع: مَرْيَم بنت عمرَان وآسية امْرَأَة فِرْعَوْن وَخَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد) . رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن عَسَاكِر. وَعَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (خطّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الأَرْض أَرْبَعَة خطوط، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد وَمَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو يعلى وَابْن عَسَاكِر، وروى الإِمَام أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَاطِمَة سيدة نسَاء أهل الْجنَّة إلاَّ مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان) . وَهَذَا يدل على أَن فَاطِمَة وَمَرْيَم أفضل هَذِه الْأَرْبَع، ثمَّ يحْتَمل الِاسْتِثْنَاء أَن تكون مَرْيَم أفضل من فَاطِمَة، وَيحْتَمل أَن تَكُونَا على السوَاء فِي الْفَضِيلَة، لَكِن ورد حَدِيث، إِن صَحَّ عين الِاحْتِمَال الأول، وَهُوَ مَا رُوِيَ: أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سيدة نسَاء أهل الْجنَّة مَرْيَم بنت عمرَان ثمَّ فَاطِمَة ثمَّ خَدِيجَة ثمَّ آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن) . رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر، فَإِن كَانَ هَذَا اللَّفْظ مَحْفُوظًا: بثم، الَّتِي للتَّرْتِيب فَهُوَ مُبين لأحد الإحتمالين اللَّذين دلّ عَلَيْهِمَا الِاسْتِثْنَاء، وَيقدم على مَا تقدم من الْأَلْفَاظ الَّتِي وَردت: بواو الْعَطف الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَلَا تنفيه، وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَذكره: بواو الْعَطف لَا بثم، الَّتِي للتَّرْتِيب فخالفه إِسْنَادًا ومتناً.
قَوْله: (كفضل الثَّرِيد) هُوَ من ثردت الْخَبَر ثرداً إِذا كَسرته فَهُوَ ثريد ومثرود، وَالِاسْم: الثردة، بِالضَّمِّ(15/309)
والثريد غَالِبا لَا يكون إلاَّ بِاللَّحْمِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،: (فضل عَائِشَة على النِّسَاء) الحَدِيث قيل: لم يرد عين الثَّرِيد، وَإِنَّمَا أَرَادَ الطَّعَام الْمُتَّخذ من اللَّحْم والثريد مَعًا، لِأَن الثَّرِيد غَالِبا لَا يكون إلاَّ من اللَّحْم، وَالْعرب قَلما تَجِد طبيخاً وَلَا سِيمَا بِلَحْم.
53 - (بابٌ {إنَّ قَارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} (الْقَصَص: 67) . الْآيَة)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {إِن قَارون كَانَ من قوم مُوسَى فبغى عَلَيْهِم وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين} (الْقَصَص: 67) . قَارون: إسم أعجمي مثل هَارُون غير منصرف للعلمية والعجمة، وَلَو كَانَ وَزنه فاعولاً لانصرف. قَوْله: (من قوم مُوسَى) أَي: من عشيرته، وَفِي نسبه إِلَى مُوسَى ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ ابْن عَمه، قَالَه سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ ابْن جريج وَعبد الله بن الْحَارِث. وَالثَّانِي: ابْن خَالَته، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنه عَم مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَقيل: معنى كَونه من قومه أَنه آمن بِهِ، وَكَانَ أَقرَأ بني إِسْرَائِيل للتوراة، وَلكنه نَافق كَمَا نَافق السامري، قَالَ: إِذا كَانَت النُّبُوَّة لمُوسَى وَالذّبْح والقربان لهارون، فَمَالِي؟ فبغى عَلَيْهِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: بغيه عَلَيْهِ هُوَ قذفه مُوسَى ببغية جعل لَهَا جعلا، وَقَالَ الضَّحَّاك: بغيه عَلَيْهِ هُوَ كفره بِاللَّه، وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ كبره، وَقَالَ عَطاء: هُوَ أَنه زَاد فِي طول ثِيَابه شبْرًا. قَوْله: (وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز) أَي: الْأَمْوَال المدخرة. قَوْله: (مَا إِن مفاتحه) ، كلمة: مَا، مَوْصُولَة. قَوْله: (لتنوء) ، خبر: إِن، والمفاتح، جمع مِفْتَاح أَي: مفاتح خزائنه لتنوء أَي: لتثقل بالعصبة وتميل بهم إِذا حملوها، والعصبة: الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة، وَقيل: الْعصبَة عشرَة، وَقيل: خَمْسَة عشر، وَقيل: أَرْبَعُونَ، وَقيل: من عشرَة إِلَى أَرْبَعِينَ. قَوْله: (لتنوء) اللاَّم فِيهِ للتَّأْكِيد، وتنوء فعل مضارع من ناء نوءاً إِذا نَهَضَ بِهِ مُثقلًا، وروى أَن مفاتح خَزَائِن قَارون كَانَت وقر سِتِّينَ بغلاً غراً محجلة لكل خزانَة مِفْتَاح وَلَا يزِيد الْمِفْتَاح على إِصْبَع وَكَانَت من جُلُود الْإِبِل، وَيُقَال: كَانَت من الْحَدِيد، فَثقلَتْ عَلَيْهِ فَجَعلهَا من خشب، فَثقلَتْ عَلَيْهِ فَجَعلهَا من جُلُود الْبَقر، وَكَانَت خزائنه تحمل مَعَه حَيْثُ مَا ذهب. قَوْله: (أولي الْقُوَّة) ، صفة الْعصبَة. قَوْله: (إِذْ قَالَ لَهُ قومه) ، يَعْنِي: حِين قَالَ لَهُ قومه، وَكلمَة: إِذْ، مَنْصُوب بقوله: لتنوء، قَوْله: (لَا تفرح) ، يَعْنِي لَا تبطر إِن الله لَا يحب البطرين، وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تفْسد إِن الله لَا يحب المفسدين، وَقيل: إِن الله لَا يحب المرحين.
لَتَنُوءُ لَتُثْقِلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة} (الْقَصَص: 67) . وَفَسرهُ بقوله: لتثقل، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُولِي القُوَّةِ لَا يَرْفَعُهَا العُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي تَفْسِير: أولي الْقُوَّة، لَا يرفعها الْعصبَة من الرِّجَال، وَقد مر الْكَلَام فِي تَفْسِيره الْآن.
يُقالُ الفَرِحِينَ المَرِحِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يحب الفرحين} (الْقَصَص: 67) . أَن مَعْنَاهُ: المرحين، وَهُوَ تَفْسِير ابْن عَبَّاس، أوردهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
ويْكَأنَّ الله مِثْلُ ألَمْ تَرَ أنَّ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويْكَأنَّ الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَوْلَا أَن مَنَّ الله علينا لخسف بِنَا ويْكَأنَّهُ لَا يفلح الْكَافِرُونَ} (الْقَصَص: 28) . قلت: قَالَ الْخَلِيل: وي، وَحدهَا و: كَأَن، للتحقيق، وَقَالَ أَبُو الْحسن: وي إسم فعل، وَالْكَاف، حرف خطاب و: أَن، على إِضْمَار اللاَّم، وَالْمعْنَى أعجب: لِأَن الله. قَالَ البُخَارِيّ: إِن قَوْله: {ويكأن الله} مثل: {ألم تَرَ أَن الله} (الْقَصَص:) . وَهَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، أَرَادَ أَن مَعْنَاهُ مثل معنى قَوْله: {ألم تَرَ أَن الله} (الْقَصَص:) . وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وي، مفصولة عَن: كَأَن، وَهِي كلمة تَنْبِيه على الْخَطَأ والتندم، وَحكى الْفراء أَن أعرابية قَالَت لزَوجهَا: أَيْن ابْنك؟ فَقَالَ: ويكأنه وَرَاء البيتِ يَعْنِي: أما ترينه وَرَاء الْبَيْت؟(15/310)
{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ} (سبإ: 63) .
هَذَا فِي آيَة أُخْرَى وأولها: {قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} (سبإ: 63) . وَذكرهَا لِأَن فِيهَا مثل مَا فِي الْآيَة الأولى، وَهُوَ قَوْله: {يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر} (سبإ: 93) . ثمَّ فسر قَوْله: يبسط وَيقدر بقوله:
يُوَسِّعُ عَلَيْهِ ويُضَيِّقُ
قَوْله: (يُوسع) ، هُوَ معنى قَوْله: يبسط، وَقَوله: ويضيق، معنى قَوْله: وَيقدر، وَهُوَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} (الطَّلَاق: 7) . أَي: ضَاقَ، وَيُقَال: قدر على عِيَاله قدرا مثل قتر وَقدر على الْإِنْسَان رزقه قدرا، مثل قتل، وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ هَذِه الآثاء الْمَذْكُورَة، وَلم يثبت هَذَا إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني.
63 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {وَإِلَى مَدْيَنَ أخَاهُمْ شُعَيْبَاً} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إل هـ غَيره} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) . الْآيَة. وَشُعَيْب: اسْم عَرَبِيّ، وَقَالَ مقَاتل: ذكره الله فِي الْقُرْآن فِي تِسْعَة مَوَاضِع، وَهُوَ شُعَيْب بن بويب بن رعول بن غيفا بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: شُعَيْب بن غيفان بن بويب بن مَدين، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: شُعَيْب بن بحرون بن بويب بن مَدين، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: شُعَيْب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يَعْقُوب. وَقيل: شُعَيْب بن نويل بن رعويل بن يويب بن غيفا ابْن مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: شُعَيْب بن ضيفون بن غيفا بنبن ثَابت بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، وَيُقَال: جدته أَو أمه بنت لوط، وَكَانَ مِمَّن آمن بإبراهيم وَهَاجَر مَعَه وَدخل دمشق. قَوْله: {وَإِلَى مَدين} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) . أَي: وَإِلَى أهل مَدين وَكَانُوا قوما عربا يقطعون الطَّرِيق ويخيفون الْمَارَّة ويبخسون المكاييل والموازين، وَكَانُوا مكاسين لَا يدعونَ شَيْئا إلاَّ مكسوه وأرسله الله إِلَيْهِم فَقَالَ: {يَا قوم اعبدوا الله} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) . أَي: وحدوه، وَقد قصّ الله قصَّته فِي الْقُرْآن، وَقَالَ عُلَمَاء السّير: أَقَامَ شُعَيْب مُدَّة بعد هَلَاك قومه وَوصل إِلَيْهِ مُوسَى وزوجه بنته. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ثمَّ خرج إِلَى مَكَّة وَمَات بهَا وعمره مائَة وَأَرْبَعُونَ سنة وَدفن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام حِيَال الْحجر الْأسود. وَقَالَ سبطه: وَعند طبرية بالسَّاحل قَرْيَة يُقَال لَهَا: حطين فِيهَا قبر يُقَال أَنه قبر شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ أَبُو المفاخر، إِبْرَاهِيم بن جِبْرِيل فِي (تَارِيخه) إِن شعيباً كَانَ عمره سِتّمائَة سنة وَخمسين سنة.
إِلَى أهْلِ مَدْيَنِ لأِنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ ومِثلُهُ {وَاسْألِ القَرْيَةِ} (يُوسُف: 28) . {وَاسألِ العِيرَ} يَعْنِي أهْلَ القَرْيَةِ وأهْلَ العِيرِ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن معنى قَوْله: (إِلَى مَدين) إِلَى أهل مَدين، لِأَن مَدين بلد وَهِي مَدِينَة شُعَيْب على بَحر القلزم محاذية لتبوك على نَحْو سِتّ مراحل مِنْهَا، وَبهَا الْبِئْر الَّتِي استسقى مِنْهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لسائمة شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الْآن خراب، وَأَشَارَ بقوله: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . إِلَى أَن نَظِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً} (يُوسُف: 28) . هُوَ قَوْله: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . فِي أَن الْمُضَاف فيهمَا مَحْذُوف وَهُوَ لفظ: أهل، وَكَذَلِكَ قَوْله: واسأل العير، أَي: أهل العير، لِأَن الْقرْيَة وَالْعير لَا يَصح السُّؤَال مِنْهُمَا.
وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيَّاً لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ويُقالُ إذَا لَمْ تَقْضِ حاجَتَهُ ظَهَرْتَ حاجَتِي وجَعَلَتْنِي ظِهْرِيَّاً قَالَ الظِّهْرِيُّ أنْ تأخُذَ معَكَ دَابَّةً أوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ
أَشَارَ بقوله: {وراءكم ظهريا} (هود: 29) . إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {واتخذتموه وراءكم ظهرياً} (هود: 29) . ثمَّ فسره بقوله: لم تلتفتوا إِلَيْهِ، والظهري مَنْسُوب إِلَى الظّهْر، وَكسر الظَّاء من تغييرات النّسَب كَمَا تَقول فِي أَمْسَى، أَمْسَى بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (وَيُقَال: إِذا لم تقض حَاجته) ، يَعْنِي: إِذا لم تقض حَاجَة من سَأَلَك بهَا تَقول: ظَهرت حَاجَتي، أَي: جَعلتهَا وَرَاء ظهرك، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقَوْلهمْ: ظهر فلَان بحاجتي إِذا استخف بهَا. قَوْله: (وَجَعَلَنِي ظهرياً) ، يَعْنِي: يُقَال أَيْضا إِذا لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا قضى حَاجته: جَعَلتني ظهرياً، أَي: جَعَلتني وَرَاء ظهرك. قَوْله: (قَالَ الظهري) الظَّاهِر أَن الضَّمِير فِي: قَالَ، يرجع إِلَى البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الظهري بِصُورَة النِّسْبَة يُقَال أَيْضا لمن يَأْخُذ مَعَه دَابَّة أَو وعَاء يستظهر بِهِ، أَي: يتقوى بِهِ.(15/311)
مَكانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ واحِدٌ
هَذَا فِيهِ نظر، لِأَن فِي قصَّة شُعَيْب هَكَذَا: {وَيَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم} (الْأَنْعَام: 531، هود: 39، وَالزمر: 93) . بِمَعْنى: مَكَانكُمْ، وَأما مكانتهم فَفِي سُورَة يس وَهُوَ قَوْله: {وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم} (يس: 76) . وَفِي التَّفْسِير: المكانة وَالْمَكَان وَاحِد، كالمقامة وَالْمقَام.
يَغْنَوْا يَعِيشُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} (هود: 86، 96) . ثمَّ فسره بقوله: يعيشوا، لِأَنَّهُ لما ذكر يغنوا بِدُونِ: لم، فسر: يعيشوا أَيْضا بِدُونِ: لم، وَالْأَصْل، كَأَن لم يغنوا فِيهَا، أَي: لم يعيشوا وَلم يقيموا بهَا.
تَأسَ تَحْزَنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين} (الْمَائِدَة: 62) . وَفسّر تأس بقوله:؛ تحزن، وَلم يذكر لفظ: لَا، فِيهَا وَذكر هَذَا لَيْسَ فِي مَحَله لِأَنَّهُ فِي قصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
آسَى أحْزَنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَكيف آسى على قوم كَافِرين} (الْأَعْرَاف: 39) . وَفسّر: آسى، بقوله: إحزن، وَالْمعْنَى: كَيفَ أَحْزَن وأتندم وأتوجع؟
وَقَالَ الحَسَنُ {إنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرِّشِيدُ} (هود: 78) . يَسْتَهْزِؤنَ بهِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} (هود: 78) . يستهزؤن بِهِ: يَعْنِي أَنهم عكسوا على سَبِيل الإستعارة التهكمية إِذْ غرضهم: أَنْت السَّفِيه الغوي لَا الْحَلِيم الرشيد، وَوصل ذَلِك ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي الْمليح عَنهُ. قَوْله: (بِهِ) أَي: بشعيب.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَيْكَةُ الأيْكَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين} (الشُّعَرَاء: 671) . قَرَأَ بَعضهم: ليكة، باللاَّم على وزن: لَيْلَة، فَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ نفس الأيكة، وَقَالَ الرشاطي: الأيكة كَانَت منَازِل قوم شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من سَاحل الْبَحْر إِلَى مَدين، وَكَانَ شجرهم الْمقل والأيكة عِنْد أهل اللُّغَة الشّجر الملتف، وَكَانُوا أَصْحَاب شجر ملتف، وَيُقَال: الأيكة الغيضة، وليكة اسْم الْبَلَد حولهَا، كَمَا قبل مَكَّة: بكة، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَلَا يعلم ليكة اسْم بلد.
يَوْمَ الظِّلَّةِ إظْلاَلُ الغَمامِ العَذَابِ عَلَيْهِمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة} (الشُّعَرَاء: 981) . يرْوى أَنه حبس عَنْهُم الْهَوَاء وسلط عَلَيْهِم الْحر فَأخذ بِأَنْفَاسِهِمْ فاضطروا إِلَى أَن خَرجُوا إِلَى الْبَريَّة، فأظلتهم سَحَابَة وجدوا لَهَا بردا ونسيماً، فَاجْتمعُوا تحتهَا، فأمطرت عَلَيْهِم نَارا فاحترقوا. فَكَانَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَبْعُوثًا إِلَى أَصْحَاب مَدين وَأَصْحَاب الأية، فأهلكت مَدين بصيحة حبريل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَصْحَاب الأيكة بِعَذَاب يَوْم الظلة.
وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ لم يذكر فِي هَذَا الْبَاب غير تَفْسِير الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِيهِ، وَلم يَقع هَذَا أَيْضا إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني.(15/312)
بِسم الله الرحمان الرَّحيم
53
- (بابُ قَوْلِ الله تعَالى: {وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَهْوَ مُلِيمٍ} (الصافات: 931 241) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين إِذْ أبق إِلَى الْفلك المشحون فساهم فَكَانَ من المدحضين فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} (الصافات: 931 241) . وَيُونُس بن مَتى، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق مَقْصُور، وَقيل: مَتى أمه وَلم يشْتَهر نَبِي بِأُمِّهِ غير يُونُس والمسيح، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وروى عبد الرَّزَّاق: إِن مَتى اسْم أمه وَلَكِن الْأَصَح أَنه اسْم أَبِيه، وَكَانَ رجلا صَالحا من أهل بَيت النُّبُوَّة وَلم يكن ل ولد ذكر فَقَامَ إِلَى الْعين الَّتِي اغْتسل فِيهَا أَيُّوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فاغتسل هُوَ وَزَوجته مِنْهَا وصليا ودعوا الله تَعَالَى أَن يرزقهما ولدا مُبَارَكًا، فيبعثه الله فِي بني إِسْرَائِيل، فَاسْتَجَاب الله دعاءهما ورزقهما يُونُس، وَتُوفِّي مَتى وَيُونُس فِي بطن أمه وَله أَرْبَعَة أشهر، وَقد قيل: إِنَّه من بني إِسْرَائِيل وَإنَّهُ من سبط بنيامين، وَكَانَ من أهل قَرْيَة من قرى الْموصل يُقَال لَهَا: نِينَوَى، وَكَانَ قومه يعْبدُونَ الْأَصْنَام فَبَعثه الله إِلَيْهِم.
قَالَ مُجَاهِد مُذْنِبٌ
هُوَ تَفْسِير قَوْله: مليم، هَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق مُجَاهِد من ألام الرجل إِذا أَتَى بِمَا يلام عَلَيْهِ، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَهُوَ مليم دَاخل فِي الْمَلَامَة، يُقَال: رب لائم مليم، أَي: يلوم غَيره وَهُوَ أَحَق مِنْهُ باللوم، وَعَن الطَّبَرِيّ: المليم هُوَ المكتسب اللوم.
الْمَشْحُونُ المُوَقَرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير تَعَالَى: {إِلَى الْفلك المشحون} (الصافات: 041) . هَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد والموقر بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف المملوء وَقيل مَعْنَاهُ المشحون الْمحمل المجهز.
{فَلَوْلاَ أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ} (الصافات: 341) . الْآيَة
يَعْنِي أتم الْآيَة أَو اقْرَأ الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} (الصافات: 441) . يَعْنِي: فلولا أَن يُونُس كَانَ من المسبحين، أَي: المنزهين الذَّاكِرِينَ الله تَعَالَى قبل ذَلِك فِي الرخَاء بالتسبيح وَالتَّقْدِيس للبث فِي بطن الْحُوت إِلَى يَوْم يبعثون، يَعْنِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : الظَّاهِر لبثه حَيا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن قَتَادَة: لَكَانَ بطن الْحُوت قبراً لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ لبثه فِي بطن الْحُوت أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ الضَّحَّاك: عشْرين يَوْمًا. وَقَالَ عَطاء: سَبْعَة أَيَّام، وَقيل: ثَلَاثَة أَيَّام، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: لم يلبث إلاَّ قَلِيلا ثمَّ أخرج من بَطْنه بعيد الْوَقْت الَّذِي الْتَقم فِيهِ.
فنَبَذْناهُ العَرَاءِ} بِوَجْهِ الأرْضِ {وهْوَ سَقِيمٌ} (الصافات: 541) .(16/2)
أَي: فطرحناه، وَفسّر العراء: بِوَجْه الأَرْض، وَهَكَذَا فسره الْكَلْبِيّ، وَقَالَ مقَاتل: هُوَ ظهر الأَرْض، وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: هُوَ البرَاز من الأَرْض، وَقَالَ الْأَخْفَش: هُوَ الفضاء، وَقَالَ السّديّ: هُوَ السَّاحِل، وَيُقَال: العراء الأَرْض الخالية من الشّجر والنبات، وَمِنْه قيل للمتجرد: عُرْيَان. قَوْله: (سقيم) ، أَي: عليل مِمَّا حل بِهِ.
{وأنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (الصافات: 641) . من غَيْرِ ذَاتِ أصْلِ الدُّبَّاءِ ونَحْوِهِ
قَوْله: (عَلَيْهِ) أَي: لَهُ، وَقيل: عِنْده، واليقطين: القرع، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُقَاتِل: كل نبت يمتذ وينبسط على وَجه الأَرْض وَلَيْسَ لَهُ سَاق نَحْو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ كل نبت ينْبت ثمَّ يَمُوت فِي عَامه، وَقيل: هُوَ يفعيل من: قطن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ إِقَامَة زائل لَا إِقَامَة ثَابت، وَقيل: هُوَ الدُّبَّاء. وَفَائِدَة الدُّبَّاء: أَن الذُّبَاب لَا يجْتَمع عِنْده، وَقيل: لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّك لِتُحَبّ القرع؟ قَالَ: أجل، هِيَ شَجَرَة أخي يُونُس، وَقيل: هِيَ التِّين، وَقيل: هِيَ شَجَرَة الموز يُغطي بورقها ويستظل بأغصانها وَيفْطر على ثمارها، وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: كَانَ يستظل بِالشَّجَرَةِ. وَكَانَت وَعلة تخْتَلف إِلَيْهِ فيشرب من لَبنهَا. قَوْله: (من غير ذَات أصل) ، صفة يَقْطِين أَي: من يَقْطِين كَائِن من غير ذَات أصل. قَوْله: (الدُّبَّاء) ، بِالْجَرِّ بدل من: يَقْطِين، أَو بَيَان وَلَيْسَ هُوَ مُضَافا إِلَيْهِ. فَافْهَم. قَوْله: (وَنَحْوه) ، أَي: وَنَحْو اليقطين: القثاء والبطيخ.
{وأرْسَلْناهُ إلَى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 741) .
أَي: وَأَرْسَلْنَا يُونُس. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : يجوز أَن يكون قبل حَبسه فِي بطن الْحُوت، وَهُوَ مَا سبق من إرْسَاله إِلَى قومه من أهل نِينَوَى، وَقيل: هُوَ إرْسَال ثَان بَعْدَمَا جرى عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلين، وَالْغَرَض من قَوْله: {إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} (الصافات: 741) . الْكَثْرَة، وَقَالَ مقَاتل: مَعْنَاهُ بل يزِيدُونَ، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ وَيزِيدُونَ، وَعنهُ مبلغ الزِّيَادَة على مائَة ألف عشرُون ألفا، وَعَن الْحسن وَالربيع، بضع وَثَلَاثُونَ ألفا، وَعَن ابْن حبَان: سَبْعُونَ ألفا.
{فآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (الصافات: 841) .
يَعْنِي: فأمن قوم يُونُس عِنْد مُعَاينَة الْعَذَاب. قَوْله: (فمتعناهم إِلَى حِين) أَي: إِلَى أجل مُسَمّى إِلَى حِين انْقِضَاء آجالهم.
وَلاَ تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ إذْ نَادَى وهْوَ مَكْظُومٌ كَظِيمٌ وهْوَ مَغْمُومٌ} (الْقَلَم: 84) .
الْخطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: لَا تكن يَا مُحَمَّد كصاحب الْحُوت وَهُوَ يُونُس فِي الضجر وَالْغَضَب والعجلة. قَوْله: (إِذْ نَادَى) ، أَي: حِين دَعَا ربه فِي بطن الْحُوت وَهُوَ كظيم، أَي: مَمْلُوء غيظاً، من كظم السقاء إِذا ملأَهُ. وَأَشَارَ بقوله: كظيم، إِلَى أَن مكظوم على وزن مفعول، وَلكنه بِمَعْنى: كظيم على وزن فعيل، وَفَسرهُ بقوله: وَهُوَ مغموم، وَقيل: مَحْبُوس عَن التَّصَرُّف.
2143 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني الأعْمَشُ ح حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ إنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ زَادَ مُسَدَّدٌ يُوُنُسَ بنِ مَتَّى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش. وَالْآخر: عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير: عَن أبي نعيم وَعَن مُسَدّد عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان، قَالَ الْعلمَاء: إِنَّمَا قَالَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما خشِي على من سمع قصَّته أَن يَقع فِي نَفسه تنقيص لَهُ، فَذكره لسد هَذِه الذريعة.(16/3)
3143 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أبِي العَالِيَةِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أنْ يَقُولَ إنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى ونَسَبَهُ إِلَى أبِيهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان. والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} (طه: 9) . وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
4143 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ عنِ اللَّيْثِ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ أبِي سلَمَةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ الفَضْلِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئاً كَرِهَهُ فَقَالَ لَا والَّذِي اصْطَفى مُوسَى علَى البَشَرِ فسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقامَ فلَطَمَ وجْهَهُ وَقَالَ تَقُولُ والَّذِي اصْطَفى مُوسَى علَى البَشَرِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهرنَا فَذهب إِلَيْهِ فَقَالَ أَبَا الْقَاسِم إِن لي ذمَّة وعهدا ففما بَال فلَان لطم وَجْهي فَقَالَ لم لطمت وَجهه؟ فَذكره فَغَضب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجهه ثمَّ قَالَ لَا تفضلوا بَين أنْبِياءِ الله فإنَّهُ يُنْفَخْ فِي الصُّوَرِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَواتِ ومَنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ الله ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ أخْرَى فأكُونُ أوَّلَ مَنْ بُعِثَ فإذَا مُوسَى آخِذٌ بالْعَرْشِ فَلاَ أدْرِي أحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أمْ بُعِثَ قَبْلِي وَلاَ أقُولُ إنَّ أحدَاً أفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي آخر الحَدِيث، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب وَفَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: (يعرض) ، أَي: يبرز مَتَاعه للنَّاس لِيَرْغَبُوا فِي شِرَائِهِ فَأعْطى لَهُ بِهِ ثمنا بخساً. قَوْله: (أظهرنَا) ، مقحم، وَقد يُوَجه عدم إقحامه وَهُوَ أَنه جمع ظهر، وَمَعْنَاهُ: أَنه بَينهم على سَبِيل الِاسْتِظْهَار كَانَ ظهرا مِنْهُ قدامه وظهراً وَرَاءه، فَهُوَ مَكْنُون من جانبيه، إِذا قيل: بَين ظهرانيهم، وَمن جوانبه إِذا قيل: بَين أظهرهم. قَوْله: (ذمَّة وعهداً) ، يَعْنِي: مَعَ الْمُسلمين، فَلم أَخْفَر ذِمَّتِي وَنقض عهدي باللطم. قَوْله: (لَا تفضلوا بَين أَنْبيَاء الله) ، مَعْنَاهُ: لَا تفضلوا بَعْضًا بِحَيْثُ يلْزم مِنْهُ نقص الْمَفْضُول، أَو يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة والنزاع، أَو: لَا تفضلوا بِجَمِيعِ أَنْوَاع الْفَضَائِل، وَإِن كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل مِنْهُم مُطلقًا، إِذْ الإِمَام أفضل من الْمُؤَذّن مُطلقًا، وَإِن كَانَ فَضِيلَة التأذين غير موجدة فِيهِ، أَو: لَا تفضلوا من تِلْقَاء أَنفسكُم وأهوائكم. فَإِن قلت: نهى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التَّفْضِيل وَقد فضل هُوَ بِنَفسِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: لم يفضل، إِذْ مَعْنَاهُ: وَأَنا لَا أَدْرِي أَن هَذَا الْبَعْث فَضِيلَة لَهُ أم لَا؟ أَو جَازَ لَهُ مَا لم يجز لغيره. فَإِن قلت: السِّيَاق يَقْتَضِي تَفْضِيل مُوسَى على سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَئِن سلمنَا لَا يَقْتَضِي إلاَّ تفضيله بِهَذَا الْوَجْه وَهَذَا لَا يُنَافِي كَونه أفضل مُطلقًا من مُوسَى. قَوْله: (بصعقته يَوْم الطّور) ، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر مُوسَى صعقاً} (طه) . فَإِن قلت: إِن مُوسَى قد مَاتَ، فَكيف تُدْرِكهُ الصعقة؟ وَأَيْضًا قد ورد النَّص وَأَجْمعُوا أَيْضا على أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة؟ فَإِن قلت: المُرَاد من الْبَعْث الْإِفَاقَة بِقَرِينَة الروايا الْأُخَر حَيْثُ قَالَ: أَفَاق قبلي، وَهَذِه الصعقة هِيَ غشية بعد الْبَعْث عِنْد نفخة الْفَزع الْأَكْبَر. قَوْله: (وَلَا أَقُول) إِلَى آخِره، أَي: لَا أَقُول من عِنْد نَفسِي أَو قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تواضعا وهضما لنَفسِهِ.
78 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم قَالَ سَمِعت حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب وَالله أعلم -
63 - (بابٌ {واسألْهُمْ عنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذُ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} )
(الْأَعْرَاف: 361) .
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَول الله تَعَالَى: {واسألهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر إِذْ يعدون فِي السبت إِذْ تأتيهم(16/4)
حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون} (الْأَعْرَاف: 361) . قَوْله: (واسألهم) ، أَي: اسْأَل يَا مُحَمَّد هَؤُلَاءِ الْيَهُود الَّذين بحضرتك عَن قصَّة أَصْحَابهم الَّذين خالفوا أَمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم فِي الْمُخَالفَة، وحذر هَؤُلَاءِ من كتمان صِفَتك الَّتِي يجدونها فِي كتبهمْ لِئَلَّا يحل بهم مَا حل بإخوانهم وسلفهم. قَوْله: (عَن الْقرْيَة) هِيَ أَيْلَة وَهِي على شاطىء بَحر القلزم وَهِي على طَرِيق الْحَاج الذَّاهِب إِلَى مَكَّة من مصر وَحكى ابْن التِّين عَن الزُّهْرِيّ أَنَّهَا طبرية وَقبل هِيَ مَدين وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ ابْن زيد هِيَ قَرْيَة يُقَال لَهَا منتنا بَين مَدين وعينونا قَوْله (إِذْ يعدون) أَي: يعتدون فِيهِ ويخالفون فِيهِ أَمر الله وَهُوَ اصطيادهم فِي يَوْم السبت وَقد نهو عَنهُ، وَإِذ يعدون بدل من الْقرْيَة بدل الاشتمال، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بقوله: كَانَت، أَو بقوله: حَاضِرَة. قَوْله: (إِذْ تأتيهم) كلمة: إِذْ، مَنْصُوب بقوله: يعدون. قَوْله: (شرعا) أَي: ظَاهِرَة على المَاء، قَالَه ابْن عَبَّاس. قَوْله: (كَذَلِك نبلوهم) أَي: نختبرهم بِإِظْهَار السّمك لَهُم على ظهر المَاء فِي الْيَوْم الْمحرم عَلَيْهِم صَيْده.
يَعْدُونَ يتَعَدَّوْنَ يَتَجَاوَزُونَ فِي السَّبْتِ {إِذْ تأتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} (الْأَعْرَاف: 361) . شَوَارِعَ
فسر قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يعدون} بقوله: يتعدون يتجاوزون، وَقد فسرناه، وَقد فسر شرعا بقوله: شوارع، وَفِيه نظر، لِأَن الشَّرْع جمع شَارِع، والشوارع جمع شارعة، ومادته تدل على الظُّهُور وَمِنْه شرع الدّين: إِذا بَينه وأظهره.
إِلَى قَوْلِهِ {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (الْأَعْرَاف: 361 761) .
إِلَى: مُتَعَلق بقوله: شرعا، وَلَيْسَ هُوَ بتعلق نحوي، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إقرأ بعد قَوْله: شرعا، إِلَى قَوْله {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} وَهُوَ قَوْله: {وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى ربكُم ولعلهم يَتَّقُونَ فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس بِمَا كَانُوا يفسقون فَلَمَّا عتوا عَمَّا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ} (الْأَعْرَاف: 361 761) . قَوْله: أمة مِنْهُم، أَي: جمَاعَة من أَصْحَاب السبت وَكَانُوا ثَلَاث فرق: فرقة ارتكبت الْمَحْذُور واحتالوا على صيد السّمك يَوْم السبت. وَفرْقَة نهت عَن ذَلِك وَأنْكرت واعتزلتهم. وَفرْقَة سكتت فَلم تفعل وَلم تنه، وَلَكنهُمْ قَالُوا للمنكرة: لِمَ تَعِظُونَ قوما الله مهلكهم؟ قَوْله: (معذرة) ، قرىء بِالرَّفْع على تَقْدِير: هَذَا معذرة، وَبِالنَّصبِ على تَقْدِير: نَفْعل ذَلِك معذرة إِلَى ربكُم أَي: فِيمَا أَخذ علينا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، ولعلهم يَتَّقُونَ أَي: لَعَلَّهُم بِهَذَا الْإِنْكَار يَتَّقُونَ مَا هم فِيهِ ويتركونه ويرجعون إِلَى الله تَعَالَى تَائِبين، فَإِذا تَابُوا تَابَ الله عَلَيْهِم. قَوْله: (فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ) أَي: فَلَمَّا أبي الفاعلون الْمُنكر قبُول النَّصِيحَة (أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا) أَي: ارتكبوا الْمعْصِيَة. قَوْله: (فَلَمَّا عتوا) أَي: فَلَمَّا تكبروا. قَوْله: (قردة) ، جمع قرد، قَوْله: (خَاسِئِينَ) أَي: ذليلين حقيرين مهانين، وروى ابْن جرير من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: صَار شُبَّانهمْ قردة وشيوخهم خنازير.
بَئِيسٌ شَدِيدٌ
هَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَهَكَذَا فسره الزَّمَخْشَرِيّ يُقَال: بؤس ببؤس بَأْسا: إِذا اشْتَدَّ فَهُوَ بئيس، وقرىء: بئس، بِوَزْن حذر وَبئسَ على تَخْفيف الْعين وَنقل حركتها إِلَى الْفَاء، كَمَا يُقَال: كبد فِي كبد، وبيس على قلب الْهمزَة يَاء: كذيب، فِي ذِئْب، وبيئس على وزن فيعل بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، وبيس على وزن ريس وبيس على وزن هَين فِي هَين.
وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا.
73
- (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وآتَيْنَا داوُدَ زَبُورَاً} (النِّسَاء: 261، الْإِسْرَاء: 55) .
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وآتينا دَاوُد زبوراً} (الْأَعْرَاف: 361 761) . وَقَبله: {إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُد زبوراً} (النِّسَاء: 261، والأسراء: 55) . وَدَاوُد اسْم أعجمي، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ بالعبرانية الْقصير الْعُمر، وَيُقَال: سمي بِهِ لِأَنَّهُ داوى جراحات الْقُلُوب، وَقَالَ مقَاتل: ذكره الله فِي(16/5)
الْقُرْآن فِي اثْنَي عشر موضعا، وَهُوَ دَاوُد بن إيشا، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن عوبد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، على وزن جَعْفَر: ابْن باعر، بباء مُوَحدَة وَعين مُهْملَة مَفْتُوحَة: ابْن سَلمُون بن يارب، بياء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن رام بن حضرون، بحاء مُهْملَة وضاد مُعْجمَة: ابْن فارص، بفاء وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة ابْن يهوذا بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَمِنْهُم من زَاد بعد سَلمُون: يحشون بن عمينا ابْن دَاب بن رام، وَقيل: ارْمِ. قَوْله: (زبورا) ، هواسم الْكتاب الَّذِي أنزل الله عَلَيْهِ، وروى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أنزل الله الزبُور على دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مائَة وَخمسين سُورَة بالعبرانية، فِي خمسين مِنْهَا مَا يلقونه من بخت نصر، وَفِي خمسين مَا يلقونه من الرّوم، وَفِي خمسين مواعظ وَحكم، وَلم يكن فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام وَلَا حُدُود وَلَا أَحْكَام، وروى: أَنه نزل عَلَيْهِ فِي شهر رَمَضَان.
الزُّبُرُ الْكُتُبُ واحِدُها زَبُورٌ. زَبَرْتُ كَتَبْتُ
الزبر، بِضَم الزَّاي وَالْبَاء: جمع زبور، قَالَ الْكسَائي: يَعْنِي الْمَزْبُور، يَعْنِي: الْمَكْتُوب، يُقَال: زبرت الْوَرق فَهُوَ مزبور أَي: كتبته، فَهُوَ مَكْتُوب، وَقَرَأَ حَمْزَة: زبور، بِضَم الزَّاي وَغَيره من الْقُرَّاء بِفَتْحِهَا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ} (سبأ: 01 11) .
فضلا أَي: نبوة وكتاباً هُوَ الزبُور وصوتاً بديعاً وَقُوَّة وقدرة وتسخير الْجبَال وَالطير، قَوْله: (يَا جبال) ، بدل من قَوْله: (فضلا) بِتَقْدِير قَوْلنَا: يَا جبال، أَو هُوَ بدل من قَوْله تَعَالَى: آتَيْنَا، بِتَقْدِير: قُلْنَا يَا جبال.
قَالَ مُجَاهِدٌ سَبِّحِي مَعَهُ
هُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى أوِّبي مَعَه، يَعْنِي: يَا جبال سبحي مَعَ دَاوُد، وأوِّبي أَمر من التأويب أَي: رَجْعِيّ مَعَه التَّسْبِيح أَو رَجْعِيّ مَعَه فِي التَّسْبِيح كلما رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِذا رجعه فقد رَجَعَ، وَقيل: سبحي مَعَه إِذا سبح، وَقيل: هِيَ بِلِسَان الْحَبَشَة، وَقيل: نواحي مَعَه وَالطير تساعدك على ذَلِك، وَكَانَ إِذا نَادَى بالنياحة أَجَابَتْهُ الْجبَال بصداها وعكفت عَلَيْهِ الطير من فَوْقه، فصدى الْجبَال الَّذِي يسمعهُ النَّاس من ذَلِك الْيَوْم.
والطيْرَ
هُوَ مَنْصُوب بالْعَطْف على مَحل الْجبَال، وَقيل: مَنْصُوب على أَنه مفعول مَعَه، وَقيل: مَنْصُوب بالْعَطْف على: فضلا، يَعْنِي: وسخرنا لَهُ الطيرَ.
وألَنَّا لَهُ الحَدِيدَ
أَي: ألنَّا لداود الْحَدِيد فَصَارَ فِي يَده مثل الشمع، وَكَانَ سَأَلَ الله أَن يسبب لَهُ سَببا يَسْتَغْنِي بِهِ عَن بَيت المَال فيتقوت مِنْهُ وَيطْعم عِيَاله، فألان الله لَهُ الْحَدِيد.
أنِ اعْمَلْ سابِغَاتٍ الدُّرُوعَ
كلمة: أَن، هَذِه مفسرة بِمَنْزِلَة: أَي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك} (الْمُؤْمِنُونَ: 72) . وسابغات، مَنْصُوب بقوله: اعْمَلْ، وَفَسرهُ بقوله: الدروع، وَكَذَا فسر أَبُو عُبَيْدَة السابغات بالدروع، وَقَالَ أهل التَّفْسِير: أَي كوامل واسعات، وقرىء: صابغات، بالصَّاد.
وقَدِّرْ فِي السَّرْدِ المَسَامِيرِ والحَلَقِ وَلَا تُدِقَّ المِسْمَارَ فيَتَسَلْسَلَ ولاَ تُعَظِّمُ فَيَفْصِمَ
فسر السرد بقوله: المسامير وَالْحلق، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ معنى قَوْله: {وَقدر فِي السرد} (سبإ: 11) . أَي: لَا تجْعَل المسامير دقاقاً، وَلَا غلاظاً، وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك بقوله: وَلَا تدق بِالدَّال الْمُهْملَة، من التدقيق، وَيدل عَلَيْهِ مَا روى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) : من طَرِيق مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَقدر فِي السرد} (سبإ: 11) . لَا تدق المسامير، فيتسلل وَلَا تغلظها فيفصمها، وَقيل: وَلَا ترق، بالراء من الرقة وَهُوَ أَيْضا يُؤَدِّي ذَلِك الْمَعْنى. قَوْله: (فيتسلسل) ، ويروى: فيتسلل، ويروى: فيسلس، وَالْكل يرجع إِلَى معنى(16/6)
واحدِ، يُقَال: شَيْء سَلس، أَي: سهل، وَرجل سَلس أَي: لين منقاد بَين السلس والسلاسة. قَوْله: (وَلَا تعظم) أَي: المسمار، فَيفْصم، من الفصم: وَهُوَ الْقطع.
أفْرِغْ أنْزِلْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا أفرغ علينا صبرا} (الْبَقَرَة: 052) . وَفسّر أفرغ بقوله: أنزل من الْإِنْزَال، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، معنى قَوْله: {أفرغ علينا صبرا} أَي: أنزل علينا صبرا من عنْدك، وَهَذَا فِي قصَّة طالوت، وفيهَا قَضِيَّة دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَأَنَّهُ ذكر هَهُنَا لِأَن قضيتهما وَاحِدَة، وَقَالَ بَعضهم: أفرغ أنزل لم أعرف المُرَاد من هَذِه الْكَلِمَة هُنَا! قلت: لَيْسَ هَذَا الْموضع من الْمَوَاضِع الَّتِي يدعى فِيهَا الْعَجز، وَالْوَجْه فِيهِ من الْمَعْنى والمناسبة مَا ذَكرْنَاهُ.
((بسطة زِيَادَة وفضلا))
أإشاربه إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَهَذَا أَيْضا فِي قصَّة الْمَوْت وَالْوَجْه فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ وَقد فسر البُخَارِيّ بسطة بقوله زِيَادَة وفضلا أَي زِيَادَة فِي الْقُوَّة وفضلا فِي المَال وَفِي علم الحروب وَهَذَا وَالَّذِي قبله لم يقعا إِلَّا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده {واعْمَلُوا صالِحَاً إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سبإ: 11) .
فأجازيكم عَلَيْهِ أحسن جَزَاء وأتمه.
7143 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خُفِّفَ علَى دَاودَ السَّلاَمُ القُرْآنُ فكانَ يأمُرُ بِدَوَابِهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ القُرْآنَ قَبْلَ أنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ ولاَ يأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق ابْن نصر.
قَوْله: (خفف) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّخْفِيف. قَوْله: (الْقُرْآن) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الْقِرَاءَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقُرْآن أَي التَّوْرَاة أَو الزبُور، وَقَالَ التوربشتي: وَإِنَّمَا أطلق الْقُرْآن لِأَنَّهُ قصد بِهِ إعجازه من طَرِيق الْقِرَاءَة. وَقَالَ صَاحب (النِّهَايَة) : الأَصْل فِي هَذِه اللَّفْظَة الْجمع، وكل شَيْء جمعته فقد قرأته، وسمى الْقُرْآن قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع الْأَمر وَالنَّهْي وَغَيرهمَا، وَقد يُطلق الْقُرْآن على الْقِرَاءَة، وَقُرْآن كل نَبِي يُطلق على كِتَابه الَّذِي أوحى إِلَيْهِ، قَوْله: (فَكَأَن) أَي: دَاوُد يَأْمر بدوابه، وَفِي رِوَايَته فِي التَّفْسِير: بدابته بِالْإِفْرَادِ، وَيحمل الْإِفْرَاد على مركوبه خَاصَّة، وبالجمع مركوبه ومراكيب أَتْبَاعه. قَوْله: (قبل أَن تسرج) ، وَفِي رِوَايَة مُوسَى: فَلَا تسرج حَتَّى يقْرَأ الْقُرْآن، وَالْأول أبلغ. وَفِيه: الدّلَالَة على أَن الله تَعَالَى يطوي الزَّمَان لمن يَشَاء من عباده كَمَا يطوي الْمَكَان، وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَى إِدْرَاكه إلاَّ بالفيض الرباني، وَجَاء فِي الحَدِيث: إِن الْبركَة قد تقع فِي الزَّمن الْيَسِير حَتَّى يَقع فِيهِ الْعَمَل الْكثير، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَكثر مَا بلغنَا من ذَلِك من كَانَ يقْرَأ أَربع ختمات بِاللَّيْلِ وأربعاً بِالنَّهَارِ. انْتهى، وَلَقَد رَأَيْت رجلا حَافِظًا قَرَأَ ثَلَاث ختمات فِي الْوتر فِي كل رَكْعَة ختمة فِي لَيْلَة الْقدر. قَوْله: (وَلَا يَأْكُل إلاَّ من عمل يَده) ، وَهُوَ من ثمن مَا كَانَ يعْمل من الدروع من الْحَدِيد بِلَا نَار وَلَا مطرقة وَلَا سندان، وَهُوَ أول من عمل الدروع من زرد، وَكَانَت قبل ذَلِك صَفَائِح.
رَوَاهُ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ صَفْوانَ عنْ عطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور مُوسَى بن عقبَة عَن صَفْوَان بن سليم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة، وَوَصله البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب خلق أَفعَال الْعباد عَن أَحْمد بن أبي عَمْرو عَن أَبِيه، وَهُوَ حَفْص بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة.
8143 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّ سَعِيدَ بنَ(16/7)
المُسَيَّبِ أخْبَرَهُ وأبَا سلَمَةَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عَبْدَ الله بن ,َ عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنِّي أقولُ وَالله لأَصُومَنَّ النَّهَارَ ولأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عشْتُ فَقَالَ لَهُ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْتَ الَّذِي تقُولُ وَالله لأصُومَنَّ النَّهَارَ ولأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ قُلْتُ قَدْ قُلْتُهُ قَالَ إنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وأفْطِرْ وقُمْ ونَمْ وصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرٍ أمْثَالِهَا وذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقُلْتُ إنِّي أُطِيقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رسولَ الله قَالَ فَصُمْ يَوْمَاً وأفْطِرْ يَوْمَيْنِ قَالَ قُلْتُ إنِّي أطِيقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْماً وأفْطِرْ يَوْماً وذلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وهْوَ عَدْلُ الصِّيَامِ قُلْتُ إنِّي أطِيقُ أفْضَلَ مِنْهُ يَا رسُولَ الله قَالَ لَا أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صِيَام دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب صَوْم الدَّهْر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
9143 - حدَّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى حدَّثنا مِسْعَرٌ حدَّثنا حَبِيبُ بنُ أبِي ثابِتٍ عنْ أبي العَبَّاسِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ قَالَ قَالَ لي رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَمْ أنَبَّأ أنَّكَ تَقُومُ اللَّيْل وتَصُومُ النَّهارَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتِ العَيْنُ ونَفِهَتِ النَّفْسُ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فَذالِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ أوْ كَصَوْمِ الدَّهْرِ قُلْتُ إنِّي أجِدُ بِي قَالَ مِسْعَرٌ يَعْنِي قُوَّةً قَالَ فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ علَيْهِ السَّلامُ وكانَ يَصُومُ يَوْماً ويُفْطِرُ يَوْماً ولاَ يَفِرُّ إذَا لاَقَى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صَوْم دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . ومسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن كدام، وَأَبُو الْعَبَّاس اسْمه السَّائِب من السيب الْمَشْهُور بالشاعر، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب حق الْأَهْل فِي الصَّوْم، وَفِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب مُجَرّد من التَّرْجَمَة.
قَوْله: هجمت) ، أَي: غارت، قَالَ الْأَصْمَعِي: هجمت مَا فِي الضَّرع إِذا حلبت كل مَا فِيهِ. قَوْله: (نفهت) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء أَي: ضعفت. قَوْله: (وَلَا يفر إِذا لَاقَى) ، وَجه اتِّصَاله بِمَا قبله هُوَ بَيَان أَن صَوْمه مَا كَانَ يُضعفهُ عَن الْحَرْب.
83 - (بابٌ أحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى الله صَلاَةُ دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحَبُّ الصِّيامِ إِلَى الله صِيامُ داوُدَ كانَ يَنامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ ويَنامُ سُدُسَهُ ويَصُومُ يَوماً ويُفْطِرُ يَوْماً قَالَ عَلِيٌّ وهْوَ قَوْلُ عائِشَةَ مَا ألْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إلاَّ نائِماً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أحب الصَّلَاة ... إِلَى آخِره. قَوْله: (قَالَ عَليّ) ، الظَّاهِر أَنه عَليّ بن الْمَدِينِيّ أحد مشايخه. قَوْله: (وَهُوَ قَول عَائِشَة) ، أَي: قَوْله: (وينام سدسه) أَي: السُّدس الْأَخير مُوَافق لقَوْل عَائِشَة: (مَا ألفاه السَّحَرَ) بِالْفَاءِ أَي: مَا وجده السحر عِنْدِي إلاَّ نَائِما، أَي: إلاَّ حَال كَونه نَائِما، وَالسحر، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل الْفَاء، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب من نَام عِنْد السحر، قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد قَالَ: ذكر أبي عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، قَالَت: مَا ألفاه السحر عِنْدِي إلاَّ نَائِما يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
0243 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ عنْ عَمْرِو بنِ أوْسٍ الثَّقَفِيِّ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ عَمْرَو قَالَ قَالَ لي رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى الله صِيامُ دَاوُدَ(16/8)
كَانَ يَصُومُ يَوْماً ويُفْطِرُ يَوْمَاً وأحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى الله صَلاَةُ داوُدَ كانَ يَنامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ ويَنامُ سُدُسَهُ. .
الحَدِيث والترجمة شَيْء وَاحِد غير أَن فيهمَا تَقْدِيمًا وتأخيراً. والْحَدِيث مضى فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب من نَام عِنْد السحر، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
93 - (بابٌ {واذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ {وفَصْلِ الخِطَابِ} (ص: 71 02) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد ذَا الأيد إِنَّه أواب أَنا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق وَالطير محشورة كل لَهُ أواب وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب} (ص: 71 02) . قَوْله: (وَاذْكُر عَبدنَا) عطف على مَا قبله وَهُوَ قَوْله: {إصبر على مَا يَقُولُونَ} (ص: 71) . خَاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: إصبر على مَا يَقُولُونَ أَي: الْكفَّار، وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد فِي صبره على الْعِبَادَة وَالطَّاعَة. قَوْله: (ذَا الأيد) أَي: الْقُوَّة إِنَّه أواب أَي: رَاجع عَن كل مَا يكرههُ الله تَعَالَى. قَوْله: (بالْعَشي) ، أَي: بآخر النَّهَار وَالْإِشْرَاق أَوله. قَوْله: (وَالطير) ، أَي: وسخرنا لَهُ الطير محشورة أَي: مَجْمُوعَة. قَوْله: (كل لَهُ) أَي: كل وَاحِد من الْجبَال وَالطير لَهُ أَي: لداود أواب، أَي: مُطِيع. قَوْله: (وشددنا ملكه) ، أَي: ملك دَاوُد، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ دَاوُد أَشد مُلُوك الأَرْض سُلْطَانا كَانَ يحرس محرابه كل لَيْلَة ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألف رجل، وَعنهُ: سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألف رجل، فَإِذا أَصْبحُوا قيل: إرجعوا فقد رَضِي نَبِي الله مِنْكُم، وَقيل: ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألفا من بني إِسْرَائِيل ثمَّ يَأْتِي عوضهم، قَالَ قَتَادَة: فَكَأَن جملَة حرسه مِائَتَان وَثَلَاثُونَ ألف حرس. قَوْله: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة) يَعْنِي: النُّبُوَّة وَالزَّبُور وَعلم الشَّرَائِع والإصابة فِي الْأَمر. قَوْله: (فصل الْخطاب) ، الْفَصْل: التَّمْيِيز بَين الشَّيْئَيْنِ وَقيل: الْكَلَام الْبَين، والفصل بِمَعْنى المفصول، وَقيل: الْفَصْل بِمَعْنى الْفَاصِل، والفاصل من الْخطاب الَّذِي يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَالصَّحِيح وَالْفَاسِد، وَقيل: فصل الْخطاب هُوَ قَوْله: أما بعد، فَإِنَّهُ أول من قَالَهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ الْفَهْمَ فِي القَضاءِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد: فصل الْخطاب هُوَ الْفَهم فِي الْقَضَاء. وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي بشر عَن مُجَاهِد، قَالَ: الْحِكْمَة الصَّوَاب، وَمن طَرِيق لَيْث عَن مُجَاهِد: فصل الْخطاب: إِصَابَة الْقَضَاء وفهمه.
ولاَ تُشْطِطْ لاَ تُسْرِف
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط} (ص: 22) . وَفسّر: لَا تشطط، بقوله: لَا تسرف. قَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع هُنَا. قلت: فَكَأَنَّهُ استبعد هَذَا التَّفْسِير، وَقد فسره السّديّ هَكَذَا، وَفَسرهُ أَيْضا بقوله: لَا تحف، وَقَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ لَا تجرُ، وروى ان جرير من طَرِيق قَتَادَة فِي قَوْله: وَلَا تشطط، أَي: لَا تمل، وَعَن المورج: لَا تفرط والشطط مُجَاوزَة الْحَد، وأصل الْكَلِمَة من قَوْلهم: شطت الدَّار وأشطت إِذا بَعدت.
واهْدِنَا إلَى سَواءِ الصِّرَاطِ
هُوَ بعد قَوْله: وَلَا تشطط، وَمَعْنَاهُ: واهدنا إِلَى وسط الطَّرِيق.
{إنَّ هَذَا أخِي لَهُ تَسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَة} (ص: 32 42) .
نذْكر الْآيَة بِتَمَامِهَا ثمَّ نذْكر مَا ذكره البُخَارِيّ من أَلْفَاظ هَذِه الْآيَة وتمامها: {ولي نعجة وَاحِدَة فَقَالَ اكفلنيها وعزني فِي الْخطاب} (ص: 32 42) . وَبعد هَذِه الْآيَة: {قَالَ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى نعاجه وَإِن كثير من الخلطاء ليبغي بَعضهم على بعض إلاَّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم وَظن دَاوُد أَنما فتناه فَاسْتَغْفر ربه وخرَّ رَاكِعا وأناب} (ص: 32 42) . قَوْله: (إِن هَذَا أخي) أَي: فِي الدّين، أَو المُرَاد: أخوة الصداقة والألفة وأخوة الشّركَة، وَالْمرَاد من النعجة الْمَرْأَة، وَهَذَا من أحسن التَّعْرِيض حَيْثُ كنى بالنعاج عَن النِّسَاء، وَالْعرب تفعل هَذَا كثيرا، توري عَن النِّسَاء بالظباء وَالشَّاء وَالْبَقر.(16/9)
يُقالُ لِلْمَرْأةِ نَعْجَةٌ ويُقالُ لَهَا أَيْضا شاةٌ
هَذَا كثير فَاش فِي أشعارهم. وَقَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل، هَذَا تَعْرِيض للتّنْبِيه والتفهيم لِأَنَّهُ لم يكن هُنَاكَ نعاج، وَإِنَّمَا هَذَا مثل قَول النَّاس: مَا ضرب زيد عمرا، وَمَا كَانَ هُنَاكَ ضرب.
{ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا} (ص: 32) . مِثْلُ {وكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ} (آل عمرَان: 73) . ضَمَّها
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى الكفل الضَّم، فَلذَلِك قَالَ: إكفلنيها مثل {وكفلها زَكَرِيَّا} (آل عمرَان: 73) . أَي: ضم زَكَرِيَّاء مَرْيَم بنت عمرَان إِلَى نَفسه، وَعَن أبي الْعَالِيَة معنى: إكفلنيها ضمهَا إِلَيّ حَتَّى أكفلها. وَقَالَ ابْن كيسَان: إجعلها كفلي، أَي: نَصِيبي.
وعَزَّنِي غلَبَنِي صارَ أعَزَّ مِنِّي أعْزَرْتُهُ جَعَلْتُهُ عَزِيزاً فِي الخِطَابِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله: (وعزني فِي الْخطاب) ، أَي: صَار أعز مني فِيهِ، وَيُقَال: عزني فِي الْخطاب أَي المحاورة، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ: ظَلَمَنِي وقهرني.
يُقالُ الْمُحَاوَرَةُ
أَي: الْخطاب، يُقَال: المحاورة، بِالْحَاء الْمُهْملَة.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالٍ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} (ص: 42) .
أَي: قَالَ دَاوُد، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : لقد ظلمك، جَوَاب قسم مَحْذُوف، وَفِي ذَلِك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه. قَوْله: {بسؤال نعجتك} (ص: 42) . مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول.
وإنَّ كَثِيرَاً مِنَ الخُلَطَاءِ أَي الشُّرَكَاءِ لَيَبْغِي إِلَى قَوْلِهِ {إنَّمَا فَتَنَّاهُ} .
فسر الخلطاء بالشركاء، وَهَكَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ وَهُوَ جمع خليط. قَوْله: (ليبغي) أَي: ليظلم. قَوْله: إِلَى قَوْله: {إِنَّمَا فتناه} (ص: 42) . قد ذكرنَا الْآن تَمام الْآيَة.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى فتناه اختبرناه، وَهَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
وقَرَأ عُمَرُ: فَتناهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ
هَذِه قِرَاءَة شَاذَّة، ونقلت هَذِه الْقِرَاءَة أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي رَجَاء العطاردي.
{فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعَاً وأنابَ} (ص: 42) .
خر رَاكِعا، أَي: حَال كَونه رَاكِعا سَاجِدا، وَعبر عَن السُّجُود بِالرُّكُوعِ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى الإنحناء. قَوْله: (وأناب) أَي: رَجَعَ إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ، من الْإِنَابَة وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ، يُقَال: أناب ينيب إنابة فَهُوَ منيب إِذا أقبل وَرجع.
1243 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا سَهْلُ بنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ الْعَوَّامَ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قُلْتُ ل اِبنِ عَبَّاسٍ أنَسْجُدُ فِي ص فَقَرَأ} وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ} حتَّى أتَي {فَبِهُدَاهُمُ اقْتدِهْ} (الْأَنْعَام: 09) . فَقَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَمَّنْ أُمِرَ أنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن ذُريَّته دَاوُد) . وَمُحَمّد شَيْخه هُوَ ابْن سَلام، كَذَا جزم بِهِ بَعضهم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا مُحَمَّد ابْن سَلام، وَإِمَّا ابْن الْمثنى، وَإِمَّا ابْن بشار على مَا اخْتلفُوا فِيهِ. انْتهى. وَقيل: يُقَال إِنَّه أَبُو مُوسَى الزَّمِن وَهُوَ مُحَمَّد ابْن الْمثنى الْبَصْرِيّ، وَسَهل بن يُوسُف أَبُو عبد الله الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ، والعوام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو: ابْن حَوْشَب.
والْحَدِيث(16/10)
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة.
قَوْله: (أنسجد؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وبنون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: أأسجد، بهمزتين الأولى للاستفهام وَالثَّانيَِة للمتكلم وَحده. قَوْله: (فَقَرَأَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} (الْأَنْعَام: 48) . وَقَرَأَ بعده خمس آيَات أُخْرَى حَتَّى قَرَأَ بعْدهَا: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إلاَّ ذكرى للْعَالمين} (الْأَنْعَام: 09) . قَوْله: (فَقَالَ نَبِيكُم) أَي: فَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَفِي بعض الرِّوَايَات: فَقَالَ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (مِمَّن أَمر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَن يُقتدى بهم) أَي: بهؤلاء الرُّسُل الْمَذْكُورين فِي هَذِه الْآيَات الْمَذْكُورَة وهم سَبْعَة عشر نَبيا. قَوْله: (وَمن ذُريَّته) أَي: وَمن ذُرِّيَّة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن قبله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلاًّ هدينَا ونوحاً هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُد} (الْأَنْعَام: 48) . وَإِنَّمَا قُلْنَا: الضَّمِير يرجع إِلَى نوح لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين وَهُوَ اخْتِيَار ابْن جرير أَيْضا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِن الضَّمِير يرجع إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ الَّذِي سيق الْكَلَام من أَجله، لَكِن يشكل على هَذَا ذكر لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ لَيْسَ من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل هُوَ ابْن أَخِيه هاران بن آزر أللهم إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه دخل فِي الذُّرِّيَّة تَغْلِيبًا.
وَفِي ذكر عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم أَو نوح على القَوْل الآخر دلَالَة على دُخُول ولد الْبَنَات فِي ذُرِّيَّة الرجل، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا ينْسب الى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، بِأُمِّهِ مَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام، فَإِنَّهُ لَا أَب بِهِ.
2243 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَ يْسَ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ ورَأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ فِيهَا. (انْظُر الحَدِيث 9601) .
وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يتَضَمَّن ذكر السُّجُود فِي ص، ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، والْحَدِيث مضى فِي: أَبْوَاب سُجُود التِّلَاوَة فِي: بَاب سَجْدَة ص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم.
04 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {ووهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أوَّابٌ} (ص: 03) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر فِي قَول الله تَعَالَى {وَوَهَبْنَا ... } إِلَى آخِره وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، بل الْمَذْكُور: قَول الله تَعَالَى وَوَهَبْنَا ... إِلَى آخِره. قَوْله: (نعم العَبْد) ، الْمَخْصُوص بالمدح مَحْذُوف. قَوْله: (إِنَّه أواب) تَعْلِيل لكَونه ممدوحاً لكَونه أوَّاباً أَي رجَّاعاً إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ أَو مسبحاً مؤوباً للتسبيح ومرجعاً لَهُ، لِأَن كل مؤوب أواب.
الرَّاجِعُ المُنِيبُ
هَذَا تَفْسِير الأواب، وَفَسرهُ بِأَنَّهُ الرَّاجِع عَن الذُّنُوب، والمنيب من الْإِنَابَة وَهِي الرُّجُوع إِلَى الله بِكُل طَاعَة.
وقَوْلِهِ {هَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (ص: 53) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَول الله، فِي قَوْله: بَاب قَول الله. قَوْله: (هَب لي) أَي: أَعْطِنِي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي، يَعْنِي: من دوني، وَقَالَ ابْن كيسَان: لَا يكون لأحد من بعدِي، وَقَالَ يزِيد بن وهب: هَب لي ملكا لَا أسلبه فِي بَاقِي عمري كَمَا سلبته فِي ماضي عمري، وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: كَانَ سُلَيْمَان ملكا وَلكنه أَرَادَ بقوله: لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي تسخير الرِّيَاح وَالطير، وَقيل: إِنَّمَا سَأَلَ ذَلِك ليَكُون لَهُ علما على الْمَغْفِرَة وَقبُول التَّوْبَة حَيْثُ أجَاب الله دعاءه، ورد عَلَيْهِ ملكه وَزَاد فِيهِ.
وقَوْلِهِ {واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ علَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (الْبَقَرَة: 201) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ أَيْضا عطف على قَوْله: هَب لي ملكا. قَوْله: (وَاتبعُوا) أَي: الْيَهُود، مَا تتلو الشَّيَاطِين أَي: مَا ترويه وَتُخْبِرهُ وتحدثه الشَّيَاطِين. قَوْله: (على ملك سُلَيْمَان) وعداه: بعلى، لِأَنَّهُ ضمن معنى: تتلوا تكذب، وَقَالَ ابْن جرير: على، هُنَا بِمَعْنى: فِي، أَي: فِي ملك سُلَيْمَان، وَنَقله عَن ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق. قلت: التَّضْمِين أولى وَأحسن، وَقَالَ السّديّ مَا ملخصه: إِن الشَّيَاطِين(16/11)
كَانُوا يصعدون إِلَى السَّمَاء فيسمعون من الْمَلَائِكَة مَا يكون فِي الأَرْض فَيَأْتُونَ الكهنة فيخبرون بِهِ فتحدثه الكهنة للنَّاس فيجدونه كَمَا قَالُوا، وادخلت الكهنة فِيهِ غَيره فزادوا مَعَ كل كلمة سبعين، كلمة، فاكتتب النَّاس ذَلِك، وفشى فِي بني إِسْرَائِيل أَن الْجِنّ تعلم الْغَيْب، فَبعث سُلَيْمَان فِي النَّاس فَجمع تِلْكَ الْكتب وَجعلهَا فِي صندوق ثمَّ دَفنهَا تَحت كرسيه، وَلم يكن أحد من الشَّيَاطِين يَسْتَطِيع أَن يدنو من الْكُرْسِيّ إلاَّ احْتَرَقَ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان تمثل شَيْطَان فِي صُورَة آدَمِيّ وأتى نَفرا من بني إِسْرَائِيل فدلهم على تِلْكَ الْكتب فأخرجوها. فَقَالَ لَهُم الشَّيْطَان: إِن سُلَيْمَان كَانَ يضْبط الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير بِهَذَا السحر، ثمَّ طَار وَذهب وفشى فِي النَّاس أَن سُلَيْمَان كَانَ ساحراً فاتخذت بَنو إِسْرَائِيل تِلْكَ الْكتب، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاصموه بهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَاتبعُوا مَا تتلو الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان وَمَا كفر سُلَيْمَان} (الْبَقَرَة: 201) . الْآيَة.
ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ورَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سبأ: 21) .
أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح، وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} (ص: 63) . أَي لينَة حَيْثُ أصَاب أَي: حَيْثُ أَرَادَ. قَوْله: (غدوها) أَي: غدو الرّيح، شهر: يَعْنِي: مسير الرّيح شهر فِي غدوته وَشهر فِي روحته، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ سُلَيْمَان يَغْدُو من دمشق فيقيل باصطخر، وَيروح من اصطخر فيقيل بكابل، وَكَانَ بَين إصطخر وكابل مسيرَة شهر، وَمَا بن دمشق واصطخر مسيرَة شهر.
{وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر} (سبإ: 21) . أذَبْنا لَهُ عَيْنَ الحَدِيدِ
أسلنا من الإسالة، وَفَسرهُ بقوله: أذبنا لَهُ من الإذابة، وَفسّر عين الْقطر بالحديد، وَقَالَ قَتَادَة: عين من نُحَاس كَانَت بِالْيمن، وَقَالَ الْأَعْمَش: سيلت لَهُ كَمَا يسال المَاء، وَقيل: لم يذب للنَّاس لأحد قبله.
{ومِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إلَى قَوْلِهِ {مِنْ مَحَارِيبَ} (سبإ: 21) .
أَي: وسخرنا لَهُ {من الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب السعير يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} (سبإ: 21) . قَوْله: (وَمن يزغ) أَي: وَمن يمل من الْجِنّ عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب السعير فِي الْآخِرَة، وَقيل: فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى وكل بهم ملكا بِيَدِهِ سَوط من نَار فَمن زاغ عَن أمره ضربه ضَرْبَة أحرقته.
قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ القُصُورِ
فسر مُجَاهِد المحاريب بقوله: بُنيان مَا دون الْقُصُور، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المحاريب جمع محراب وَهُوَ مقدم كل بَيت، وَهُوَ أَيْضا الْمَسْجِد والمصلى.
وتَماثِيلَ جمع: تِمْثَال، وَهِي الصُّور، وَكَانَ عمل الصُّور فِي الجدران وَغَيرهَا سائغاً فِي شريعتهم.
{وجِفَان كالْجَوابِ} (سبإ: 21) . كالحِياضِ لِلإبِلِ، وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كالْجَوْبَةِ مِنَ الأرْضِ
الجفان جمع جَفْنَة، وَهِي الْقَصعَة الْكَبِيرَة شبهت بالجوابي وشبهت الجوابي بالحياض الَّتِي يجبى فِيهَا المَاء أَي: يجمع، وَاحِدهَا: جابية، قَالَ الْأَعْشَى:
(تروح على آل المحلق جَفْنَة كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق)
وَيُقَال: كَانَ يقْعد على جَفْنَة وَاحِدَة من جفان سُلَيْمَان ألف رجل يَأْكُلُون بَين يَدَيْهِ. قَوْله: (وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كالجوبة) أَي: الجفان كالجوبة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي مَوضِع ينْكَشف فِي الْحرَّة وَيَنْقَطِع عَنْهَا.
{وقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} إِلَى قوْلِهِ {الشَّكُورُ} (سبإ: 21) .
راسيات: أَي: ثابتات لَا يحولن وَلَا يحركن من أماكنهن لعظمهن، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَكَانَت بِالْيمن، وَمِنْه قيل للجبال: رواسي.(16/12)
قَوْله: (إِلَى قَوْله: الشكُور) ، بِعني، إقرأ إِلَى قَوْله: الشكُور، وَهُوَ قَوْله: {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} (سبإ: 31) . قَالَ النَّسَفِيّ: أَي: وَقُلْنَا: إعملوا شكرا، يَعْنِي: إعملوا بِطَاعَة الله يَا آل دَاوُد شكرا على نعمه، وشكراً فِي مَحل الْمصدر على تَقْدِير: اشكروا شكرا، لِأَن إعملوا فِيهِ معنى: اشكروا من حَيْثُ أَن معنى الْعَمَل فِيهِ للمنعم شكر لَهُ، وَقيل: انتصب: شكرا، على أَنه مفعول لَهُ، أَي: اعْمَلُوا لله واعبدوه، على وَجه الشُّكْر لنعمائه، وَقيل: انتصب على الْحَال، أَي: شاكرين، وَقيل: يجوز أَن ينْتَصب: باعملوا، مَفْعُولا بِهِ، مَعْنَاهُ: أَنا سخرنا لكم الْجِنّ يعْملُونَ لكم مَا شِئْتُم فاعملوا أَنْتُم شكرا، على طَرِيق المشاكلة. قَوْله: (الشكُور) ، المتوفر على أَدَاء الشُّكْر الْبَاذِل وَسعه فِيهِ، قد شغل بِهِ قلبه وَلسَانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً. وَعَن ابْن عَبَّاس: الشكُور من يشْكر على أَحْوَاله كلهَا، وَقَالَ السّديّ: هُوَ من يشْكر على الشُّكْر، وَقيل: من يرى عَجزه عَن الشُّكْر.
{فلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دلَّهُمْ علَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ. الأرَضَةُ تأكُلُ مِنْسَأتَهُ عَصاهُ فلَمَّا خَرَّ} إِلَى قَوْلِهِ {المُهِينِ} (سبأ: 31 41) .
أَي: فَلَمَّا حكمنَا على سُلَيْمَان بِالْمَوْتِ مَا دلّ الْجِنّ على مَوته إلاَّ دَابَّة الأَرْض وَهِي الأَرْض، وَهِي دويبة تَأْكُل الْخشب. قَوْله: (منسأته) أَي: عَصَاهُ. قَوْله: (فَلَمَّا خر) ، أَي: سقط سُلَيْمَان مَيتا. قَوْله: (إِلَى قَوْله: المهين) ، يَعْنِي: اقْرَأ إِلَى قَوْله: المهين، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {تبينت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين} (سبإ: 31 41) . قَوْله: (تبينت الْجِنّ) جَوَاب: لما، أَي: لما علمت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانُوا يدعونَ أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب. قَوْله: (فِي الْعَذَاب المهين) ، أَي: فِي الْعَذَاب الَّذِي يهين المعذب، يَعْنِي: مَا عمِلُوا مسخرين وَهُوَ ميت وهم يَظُنُّونَهُ حَيا.
حُبُّ الخَيْرِ عنْ ذِكْرِ رَبِّي مِنْ ذِكْرِ رَبِّي أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} (ص: 23) . قَوْله: (حب الْخَيْر) ، قَالَ الْفراء: الْخَيل وَالْخَيْر بِمَعْنى فِي كَلَام الْعَرَب، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمى زيد الْخَيل: زيد الْخَيْر، وَالْخَيْر: المَال أَيْضا. قَوْله: (عَن ذكر رَبِّي) ، قَالَ قَتَادَة: عَن صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (حَتَّى تَوَارَتْ) ، يَعْنِي: الشَّمْس، أَي: غَابَتْ بالحجاب وَهُوَ جبل دون الْقَاف بمسيرة سنة تغرب الشَّمْس من وَرَائه، قيل: مَعْنَاهُ حَتَّى استترت الشَّمْس بِمَا يحجبها عَن الْأَبْصَار، والإضمار قبل الذّكر يجوز إِذا جرى ذكر الشَّيْء أَو دَلِيل الذّكر، وَقد جرى هُنَا، وَهُوَ قَوْله: بالْعَشي، وَهُوَ مَا بعد الزَّوَال.
فَطَفِقَ مَسْحَاً بالسُّوقِ والأعناق يَمْسَحُ أعْرَافَ الخَيْلِ وعَرَاقِيبَهَا
أول الْآيَة: {ردوهَا عَليّ} (ص: 13) . وَهِي الْمَذْكُورَة قبله بقوله: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} (ص: 13) . وَكَانَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى الصَّلَاة الأولى ثمَّ قعد على الْكُرْسِيّ وَهِي تعرض عَلَيْهِ، فعرضت عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعمائَة وَكَانَت ألفا، وَكَانَ سُلَيْمَان غزا دمشق ونصيبين فَأصَاب مِنْهَا ألف فرس، وَقَالَ مقَاتل: ورث سُلَيْمَان عَن أَبِيه دَاوُد ألف فرس، وَكَانَ أَبوهُ أَصَابَهَا من العمالقة، وَقَالَ الْحسن: بَلغنِي أَنَّهَا كَانَت خيلاً خرجت من الْبَحْر لَهَا أَجْنِحَة، وَقبل أَن يكمل الْعرض غربت الشَّمْس ففاتته صَلَاة الْعَصْر وَلم يعلم بذلك فَاغْتَمَّ لذَلِك، فَقَالَ: {ردوهَا عَليّ فَطَفِقَ مسحاً} (ص: 13) . أَي: فَأقبل يمسح بسوقها وأعناقها بِالسَّيْفِ وينحرها تقرباً إِلَى الله تَعَالَى وطلباً لرضاه حَيْثُ اشْتغل بهَا عَن طَاعَته. قَوْله: (يمسح أعراف الْخَيل وعراقيبها) ، والعراقيب جمع عرقوب، وَهُوَ العصب الغليظ عِنْد عقب الْإِنْسَان.
والأصْفَادِ الوَثاقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد} (ص: 83) . وَفسّر الأصفاد بِالْوَثَاقِ، وروى ابْن جرير من طَرِيق السّديّ، قَالَ: مُقرنين فِي الأصفاد: أَن تجمع اليدان إِلَى الْعُنُق بالأغلال، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأصفاد والأغلال وَاحِدهَا صفد، وَيُقَال للعطاء أَيْضا: صفد. قَوْله: {وَآخَرين} (ص: 83) . عطف على قَوْله: {الشَّيَاطِين} (ص: 83) . أَي: سخرنا لَهُ الشَّيَاطِين وسخرنا لَهُ آخَرين، يَعْنِي: مَرَدَة الشَّيَاطِين مُقرنين فِي الأصفاد، يُقَال: صفده أَي: شده وأوثقه.(16/13)
قَالَ مُجَاهِدٌ الصَّافِنَاتُ صَفَنَ الفَرَس رَفَعَ إحْدى رِجْلَيْهِ حتَّى تَكُونَ علَى طَرَفِ الحَافِرِ، الجِيَادُ السِّرَاع
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} (ص: 13) . أَن الصافنات من صفن الْفرس إِلَى آخِره يَعْنِي: مُشْتَقّ مِنْهُ وَهُوَ جمع صافنة، وَقَالَ النَّسَفِيّ: الصَّافِن من الْخَيل الْقَائِم على ثَلَاث قَوَائِم، وَقد أَقَامَ الرَّابِعَة على طرف الْحَافِر، والصفون لَا يكَاد يكون فِي الهجن وَإِنَّمَا هُوَ فِي العراب الخلص، وَوصل الْفرْيَابِيّ إِلَى مُجَاهِد مَا قَالَه، لَكِن فِي رِوَايَته: يَدَيْهِ، وَالْمَوْجُود فِي أصل البُخَارِيّ: رجلَيْهِ، وَصوب القَاضِي عِيَاض مَا عِنْد الْفرْيَابِيّ. قَوْله: (الْجِيَاد السراع) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَفِي التَّفْسِير: الْجِيَاد المسرعة فِي الجري جمع جواد، وَقيل: جمع جيد، جمع لَهَا بَين وصفين محمودين.
جَسَداً شَيْطانَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . وَفسّر جسداً بقوله: شَيْطَانا، وَقَالَ الْفرْيَابِيّ: حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . قَالَ: شَيْطَانا يُقَال لَهُ آصف، قَالَ لَهُ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَيفَ تفتن النَّاس؟ قَالَ: أَرِنِي خاتمك أخْبرك، فَأعْطَاهُ فنبذه آصف فِي الْبَحْر فساخ، فَذهب سُلَيْمَان وَقعد أصف على كرسيه وَمنع الله نسَاء سُلَيْمَان فَلم يقربهن، فأنكرته أم سُلَيْمَان، وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يستطعم ويعرفهم بِنَفسِهِ فيكذبونه حَتَّى أَعطَتْهُ امْرَأَة حوتاً فطب بَطْنه فَوجدَ خَاتمه فِي بَطْنه، فَرد الله إِلَيْهِ ملكه، وفر آصف فَدخل الْبَحْر. وَرَوَاهُ ابْن جرير من وَجه آخر عَن مُجَاهِد: أَن اسْمه آصر، آخِره رَاء، وَمن طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن اسْم الْجِنّ: صَخْر، وَمن طَرِيق السّديّ كَذَلِك. انْتهى.
قلت: فِي هَذَا نظر من وُجُوه: الأول: أَنه يبعد من سُلَيْمَان أَن يناول خَاتمه لغيره ليراه مَعَ علمه أَن ملكه قَائِم بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلِيق أَن يقْعد شَيْطَان على كرْسِي نَبِي مُرْسل الَّذِي أعطي مَا لَا يعْطى غَيره من الْملك الْعَظِيم. وَالثَّالِث: أَن آصف، بِالْفَاءِ فِي آخِره: هُوَ معلم سُلَيْمَان وكاتبه فِي أَيَّام ملكه، وَالَّذِي أَظن أَن الصَّحِيح أَن سُلَيْمَان لما افْتتن بِسَبَب ابْنة ملك صيدون وَاصْطفى ابْنة ملكهَا لنَفسِهِ وأحبها صورت فِي بَيتهَا صُورَة أَبِيهَا، وَكَانَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا خرج من بَيتهَا كَانَت هِيَ وجواريها يعْبدُونَ هَذِه الصُّورَة حَتَّى أَتَى على ذَلِك أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَبلغ ذَلِك آصف بن برخياء فعتب على سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسَبَب ذَلِك، فَعِنْدَ ذَلِك سقط الْخَاتم من يَده، وَكَانَ كلما أَعَادَهُ كَانَ يسْقط، فَقَالَ لَهُ آصف: إِنَّك مفتون، ففر إِلَى الله تَائِبًا من ذَلِك وَأَنا أقوم مقامك وأسير فِي عِيَالك وَأهل بَيْتك بسيرك إِلَى أَن يَتُوب الله عَلَيْك ويردك إِلَى ملكك، ففر سُلَيْمَان هَارِبا إِلَى الله تَعَالَى، وَأخذ آصف الْخَاتم فَوَضعه فِي يَده فَثَبت وَغَابَ مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ أَن الله تَعَالَى لما قبل تَوْبَته رَجَعَ إِلَى منزله فَرد الله إِلَيْهِ ملكه وَأعَاد الْخَاتم فِي يَده. وَقيل: المُرَاد من الْجَسَد ابْنه، وَذَلِكَ أَنه لما ولد لَهُ قَالَت الشَّيَاطِين: نَقْتُلهُ وإلاَّ لَا نَعِيش مَعَه بعده، وَلما علم سُلَيْمَان ذَلِك أَمر السَّحَاب حَتَّى حملت ابْنه وعدى فِي السَّحَاب خوفًا من مضرَّة الشَّيَاطِين، فَعَاتَبَهُ الله لذَلِك، وَمَات الْوَلَد فَألْقى مَيتا على كرسيه فَهُوَ الْجَسَد الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَب والأليق من غَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه الْخَلِيل: لَا يُقَال الْجَسَد لغير الْإِنْسَان من خلق الأَرْض، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ الْخَاتم من ياقوتة خضراء أَتَاهُ بهَا جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْجنَّة مَكْتُوب عَلَيْهَا: لَا إلاه إلاَّ الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَهُوَ الْخَاتم الَّذِي ألبسهُ الله آدم فِي الْجنَّة.
رُخَاءً طَيِّبةً حَيْثُ أصابَ حَيْثُ شَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} (ص: 63) . وَفسّر رخاء بقوله: طيبَة، ويروى طيبا، بالتذكير، وَفسّر قَوْله: حَيْثُ أصَاب، بقوله: حَيْثُ شَاءَ، بلغَة حِمْيَر.
فامْنُنْ أعْطِ بِغَيْرِ حِسابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ
أول الْآيَة: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} (ص: 93) . وَفسّر قَوْله: فَامْنُنْ، بقوله: أعْط، وَالْعرب تَقول: منَّ عَليّ برغيف، أَي: أعطانيه، وَفسّر قَوْله: بِغَيْر حِسَاب، بقوله: بِغَيْر حرج، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ. رَحمَه الله: إِن الله لم يُعْط أحد أعطية إلاَّ جعل فِيهَا حسابا إلاَّ سُلَيْمَان، فَإِن الله أعطَاهُ عَطاء هَنِيئًا، فَقَالَ: هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب، قَالَ: إِن أعطي أجر، وَإِن لم يُعْط(16/14)
لم يكن عَلَيْهِ تبعة. وَقَالَ مقَاتل: هُوَ فِي أَمر الشَّيَاطِين، أَي: حل من شِئْت مِنْهُم وأوثق من شِئْت فِي وثاقك وَلَا تبعة عَلَيْك فِيمَا تتعاطاه.
3243 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطع علَيَّ صَلاَتِي فأمْكَنَنِي الله مِنْهُ فأخَذْتُهُ فأرَدْتُ أنْ أرْبُطَهُ علَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرَدَدْتُهُ خاسِئاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْأَسير يرْبط فِي الْمَسْجِد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تفلَّت) ، بتَشْديد اللَّام، أَي: تعرض لي فلتة، أَي: بَغْتَة، وَفِي قَوْله: (فَذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان)
إِلَى آخِره، دلَالَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقدر على ذَلِك، إلاَّ أَنه تَركه رِعَايَة لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
عِفْرِيتٌ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إنْسٍ أوْ جانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَّةُ
فسر: عفريتاً، بقوله: متمرد، سَوَاء كَانَ من إنس أَو من جَان، واشتقاقه من: العفر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: العفر والعفرية والعفارية والعفريت: الْقوي المتشيطن الَّذِي يعفر قرنه، وَالْيَاء فِي عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة وعذافرة، وَالْهَاء فيهمَا للْمُبَالَغَة، وَالتَّاء فِي: عفريت، للإلحاق بقنديل، وَفِي الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى يبغض العفرية التفرية، قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ الداهي الْخَبيث الشرير، وَمِنْه العفريت. قَوْله: (مثل زبنية) ، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر النُّون وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره هَاء، وَيجمع على: زَبَانِيَة. وَفِي قَوْله: (عفريت) مثل زبنية، نظر، لِأَن مثل الزبنية العفرية لَا العفريت، وَقَالَ بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف بقوله: مثل زبنية، إِنَّه قيل فِي عفريت: عفرية، وَهِي قِرَاءَة جَاءَت شَاذَّة عَن أبي بكر الصّديق وَأبي رَجَاء العطاردي، وَأبي السمال، بِالسِّين الْمُهْملَة وباللام. انْتهى. قلت: قد تقدم من قَول الزَّمَخْشَرِيّ أَن عفرية لُغَة مُسْتَقلَّة وَلَيْسَت هِيَ وعفرية لُغَة وَاحِدَة، والزبانية فِي الأَصْل إسم أَصْحَاب الشرطة واشتقاقها من الزَّبْن وَهُوَ الدّفع، وَأطلق ذَلِك على مَلَائِكَة النَّار لأَنهم يدْفَعُونَ الْكفَّار إِلَى النَّار، وَيُقَال وَاحِد الزَّبَانِيَة زبني، وَيُقَال: زابن، وَقيل: زباني، وَالْكل لَا يَخْلُو عَن نظر.
4243 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى سَبْعِينَ امْرَأةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأةٍ فارِسَاً يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله فَقَالَ لَهُ صاحِبُهُ إنْ شَاءَ الله فلَمْ يَقُلْ ولَمْ تَحْمِلْ شَيْئاً إلاَّ واحِدَاً ساقِطَاً إحْدَى شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ قالَهَا لَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله. قَالَ شُعَيْبٌ وابنُ أبِي الزِّنادِ تَسْعِينَ وهْوَ أصَحُّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم البَجلِيّ الْكُوفِي وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. قَوْله: (لأطوفن) ، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: لأطيفن، وهما لُغَتَانِ: طَاف بالشَّيْء وأطاف بِهِ، إِذا دَار خَلفه وتكرر عَلَيْهِ، وَالطّواف هُنَا كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَاللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالله لأطوفن. قَوْله: (اللَّيْلَة) ، نصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (على سبعين امْرَأَة) ، وَمضى الحَدِيث فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب من طلب الْوَلَد، وَفِيه لأطوفن اللَّيْلَة على مائَة امْرَأَة أَو تسع وَتِسْعين، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور، فَقَالَ: تسعين، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان، فَقَالَ: سبعين، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد من رِوَايَة أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة: كَانَ لِسُلَيْمَان سِتُّونَ امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي عوَانَة من طَرِيق هِشَام عَن ابْن سِيرِين، فَقَالَ: مائَة امْرَأَة، وَكَذَا(16/15)
عِنْد ابْن مرْدَوَيْه من رِوَايَة عمرَان بن خَالِد عَن ابْن سِيرِين، وَقد مر وَجه الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات فِي كتاب الْجِهَاد، وَقيل: إِن السِّتين كن حرائر وَمَا زَاد عَلَيْهِنَّ كن سراري، أَو بِالْعَكْسِ، وَعَن وهب: كَانَ لِسُلَيْمَان ألف امْرَأَة ثَلَاثمِائَة مهيرة وَسَبْعمائة سَرِيَّة، وروى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق أبي معشر عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: بلغنَا أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف بَيت من قَوَارِير على الْخشب، مِنْهَا ثَلَاثمِائَة صَرِيحَة وَسَبْعمائة سَرِيَّة. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ صَاحبه: قل: إِن شَاءَ الله تَعَالَى) ، وَفِي رِوَايَة معمر عَن طَاوُوس، على مَا سَيَأْتِي، فَقَالَ لَهُ الْملك، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن حُجَيْر: فَقَالَ لَهُ صَاحبه. قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي الْملك هَذَا يدل على أَن تَفْسِير صَاحبه بِالْملكِ لَيْسَ بمرفوع، وَوَقع فِي (مُسْند الْحميدِي) : عَن سُفْيَان: فَقَالَ لَهُ صَاحبه أَو الْملك، بِالشَّكِّ، وَمثلهَا فِي مُسلم، وَبِهَذَا كُله يرد قَول من يَقُول بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب، وَهُوَ: آصف بن برخيا، وَأبْعد من هَذَا من قَالَ: المُرَاد بِالْملكِ خاطره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: المُرَاد بِصَاحِبِهِ الْملك وَهُوَ الظَّاهِر من لَفظه، وَقيل: القرين، وَقيل: صَاحب لَهُ آدَمِيّ. قَوْله: (إلاَّ وَاحِدًا سَاقِطا شقَّه) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: فَلم تحمل مِنْهُنَّ إلاَّ امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَت بشق رجل، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: شقّ غُلَام، وَفِي رِوَايَة هِشَام عَنهُ. نصف إِنْسَان، وَفِي رِوَايَة معمر: حكى النقاش فِي (تَفْسِيره) : أَن الشق الْمَذْكُور هُوَ الْجَسَد الَّذِي ألقِي على كرسيه. قَوْله: (لَو قَالَهَا) ، أَي: لَو قَالَ سُلَيْمَان: إِن شَاءَ الله، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيل الله، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، وَزَاد فِي آخِره: فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ، وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين: لَو اسْتثْنى لحملت كل امْرَأَة مِنْهُنَّ فَولدت فَارِسًا يُقَاتل فِي سَبِيل الله، وَفِي رِوَايَة طَاوُوس: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، لم يَحْنَث وَكَانَ دركاً لِحَاجَتِهِ، أَي: كَانَ يحصل لَهُ مَا طلب، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق معمر: وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ. قَوْله: (قَالَ شُعَيْب) ، هُوَ شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَابْن أبي الزِّنَاد هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، وهما قَالَا فِي روايتهما: تسعين، على مَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور. قَوْله: (وَهُوَ الْأَصَح) ، أَي: مَا روياه من تسعين هُوَ الْأَصَح.
5243 - حدَّثني عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبي حدَّثَنا الأعْمَشُ حدثناإبْرَاهِيمُ التِيمِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسُولَ الله أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أوَّلُ قَالَ المَسْجِدُ الحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أيُّ قَالَ ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أرْبَعُونَ ثُمَّ قَالَ حَيْثُما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ والأرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ. (انْظُر الحَدِيث 6633) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تستأنس من قَوْله: (ثمَّ الْمَسْجِد الْأَقْصَى) ، لِأَن سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي بناه، وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك عَن أبي ذَر الْغِفَارِيّ. والْحَدِيث مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) . فَإِنَّهُ رُوِيَ هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (قَالَ: أَرْبَعُونَ) أَي: أَرْبَعُونَ سنة، وَقد صرح بِهِ هُنَاكَ، وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد.
6243 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبرَنَا شُعَيْبٌ حدَّثنا أَبُو الزِّنادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ مَثَلِي ومثَلُ النَّاسِ كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارَاً فجعَلَ الفَرَاشُ وهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ. وقَالَ كَانَتِ امْرَأتَانِ مَعَهُما ابناهُمَا جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابنِ إحْدَيْهِمَا فقالَتْ صاحِبَتُهَا إنَّما ذَهَبَ بابْنِكِ وقالَتِ الأخْرَى إنَّمَا ذَهَبَ بابْنِكِ فتَحَاكَما إِلَى داوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فخَرَجَتَا علَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ فأخْبَرَتاهُ فَقال ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ الله هوَ ابنُهَا فَقَضَى بِهِ للْصُّغْرَى. قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ وَالله إنْ سَمِعْتُ بالسِّكِّينِ إلاَّ يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إلاَّ المُدْيَةُ. (الحَدِيث 7243 طرفه فِي: 9676) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقَالَ كَانَت امْرَأَتَانِ) إِلَى آخِره، فَإِن فِيهِ ذكر سُلَيْمَان، وَأما تَعْلِيق الحَدِيث الأول بِحَدِيث التَّرْجَمَة(16/16)
فَهُوَ أَن الرَّاوِي ذكره مَعَه كَمَا سَمعه مَعَه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مُتَابعَة الْأَنْبِيَاء مُوجبَة للخلاص، كَمَا أَن فِي هَذَا التحاكم خلاص الْكُبْرَى من تلبسها بِالْبَاطِلِ ووباله فِي الْآخِرَة، وخلاص الصُّغْرَى من ألم فِرَاق وَلَدهَا، وخلاص الابْن من الْقَتْل، وَتَمام الحَدِيث الأول هُوَ قَوْله: فَجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فِيهَا فَذَلِك مثلي ومثلكم أَنا آخذ بِحُجزِكُمْ عَن النَّار فتغلبوني وتقتحمون فِيهَا. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز الْأَعْرَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن عمرَان بن بكار وَعَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثلي وَمثل النَّاس) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: صِفَتي وحالي وشأني فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَام المنقذ لَهُم من النَّار، وَمثل مَا تزين لَهُم أنفسهم من التَّمَادِي على الْبَاطِل كَمثل رجل. . إِلَى آخِره، وَهَذَا من تَمْثِيل الْجُمْلَة بِالْجُمْلَةِ، وَالْمرَاد من ضرب الْمثل الزِّيَادَة فِي الْكَشْف والتنبيه للْبَيَان. قَوْله: (استوقد نَارا) أَي: أوقد نَارا، يُؤَيّدهُ مَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَأحمد من حَدِيث جَابر: مثلي ومثلكم كَمثل رجل أوقد نَارا، وَقَالَ بَعضهم: زِيَادَة السِّين وَالتَّاء للْإِشَارَة إِلَى أَنه عالج إيقادها وسعى فِي تَحْصِيل آلاتها. قلت: معنى الاستفعال الطّلب، وَلَكِن قد يكون صَرِيحًا نَحْو: استكتبته، أَي: طلبت مِنْهُ الْكِتَابَة، وَقد يكون تَقْديرا نَحْو استخرجت الوتد من الْحَائِط، وَلَيْسَ فِيهِ طلب صَرِيح، واستوقد هَهُنَا من هَذَا الْقَبِيل، وَالنَّار جَوْهَر لطيف مضيء محرق حَار والنور ضوؤها. قَوْله: (الْفراش) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، قَالَ الْخَلِيل: يطير كالبعوض، وَقيل: هُوَ كصغار البق، وَقَالَ الْفراء: هُوَ غوغاء الْجَرَاد الَّذِي يتفرش ويتراكم ويتهافت فِي النَّار. قَوْله: (وَهَذِه الدَّوَابّ) ، عطف على الْفراش، وَهُوَ جمع دَابَّة، وَأَرَادَ بهَا هُنَا مثل البرغش والبعوض والجندب وَنَحْوهَا. قَوْله: (تقع فِي النَّار) خبر: جعل، لِأَن جعل، من أَفعَال المقاربة يعْمل عمل: كَانَ، فِي اقتضائه الِاسْم وَالْخَبَر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه الْمُخَالفين لَهُ بالفراش وتساقطهم فِي نَار الْآخِرَة بتساقط الْفراش فِي نَار الدُّنْيَا مَعَ حرصهم على الْوُقُوع فِي ذَلِك وَمنعه إيَّاهُم، وَالْجَامِع بَينهمَا اتِّبَاع الْهوى وَضعف التَّمْيِيز وحرص كل من الطَّائِفَتَيْنِ على هَلَاك نَفسه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هَذَا مثل كثير الْمعَانِي، وَالْمَقْصُود: أَن الْخلق لَا يأْتونَ مَا يجرهم إِلَى النَّار على قصد الهلكة، وَإِنَّمَا يأتونه على قصد الْمَنْفَعَة وَاتِّبَاع الشَّهْوَة، كَمَا أَن الْفراش يقتحم النَّار لَا ليهلك فِيهَا بل لما يَصْحَبهُ من الضياء، وَقد قيل: إِنَّهَا لَا تبصر بِحَال وَهُوَ بعيد جدا. قَوْله: (وَقَالَ كَانَت امْرَأَتَانِ) ، لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِرَفْعِهِ وَهُوَ مَرْفُوع فِي نُسْخَة شُعَيْب عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَغَيره، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش عَن شُعَيْب: حَدثنِي أَبُو الزِّنَاد مِمَّا حَدثهُ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج مِمَّا ذكر أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يحدث عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: بَينا امْرَأَتَانِ. قَوْله: (فتحاكما) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فتحاكمتا، وَفِي نُسْخَة شُعَيْب: فاختصما. قَوْله: (فَقضى بِهِ للكبرى) ، أَي: للْمَرْأَة الْكُبْرَى، قيل: إِن ذَلِك كَانَ على سَبِيل الْفتيا مِنْهُمَا لَا الحكم، فَلذَلِك سَاغَ لِسُلَيْمَان أَن ينْقضه، ورده الْقُرْطُبِيّ بِأَن فتيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كحكمه وهما سَوَاء فِي التَّنْفِيذ. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَكيف جَازَ لِسُلَيْمَان نقض حكم دَاوُد؟ قلت: إِن كَانَ حكمهمَا بِالْوَحْي فَحكم سُلَيْمَان نَاسخ لحكم دَاوُد، وَإِن كَانَ بِالِاجْتِهَادِ فاجتهاده كَانَ أقوى لِأَنَّهُ بالحيلة اللطيفة أظهر مَا فِي نفس الْأَمر، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: إِنَّمَا كَانَ بَينهمَا على سَبِيل الْمُشَاورَة، فوضح لداود صِحَة رَأْي سُلَيْمَان فأمضاه، وَقيل: إِن من شرع دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الحكم للكبرى من حَيْثُ هِيَ كبرى. ورد بِأَن هَذَا غلط، لِأَن الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى وصف طردي مَحْض لَا يُوجب شَيْء من ذَلِك تَرْجِيحا لأحد المتداعيين حَتَّى يحكم لَهُ أَو عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الطول وَالْقصر والسواد وَالْبَيَاض، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن سُلَيْمَان فعل ذَلِك تحيلاً على إِظْهَار الْحق فَلَمَّا أقرَّت بِهِ الصُّغْرَى عمل بإقرارها وَإِن كَانَ الحكم قد نفذ، كَمَا لَو اعْترف الْمَحْكُوم لَهُ بعد الحكم أَن الْحق لخصمه، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَإِنَّمَا حكما بِالِاجْتِهَادِ إِذْ لَو كَانَ بِنَصّ لما سَاغَ خِلَافه، وَهُوَ دَال على أَن الفطنة والفهم موهبة من الله تَعَالَى وَلَا الْتِفَات لقَوْل من يَقُول: إِن الإجتهاد إِنَّمَا يسوغ عِنْد فقد النَّص، والأنبياء، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يفقدون النَّص، فَإِنَّهُم متمكنون من استطلاع الْوَحْي وانتظاره، وَالْفرق بَينهم وَبَين غَيرهم قيام الْعِصْمَة بهم عَن الْخَطَأ وَعَن التَّقْصِير فِي الِاجْتِهَاد، بِخِلَاف غَيرهم. قَوْله: (لَا تفعل يَرْحَمك الله) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق وَرْقَاء عَن أبي الزِّنَاد: لَا يَرْحَمك الله، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَنْبَغِي أَن يكون على هَذِه(16/17)
الرِّوَايَة أَن يقف على: لَا، دقيقة حَتَّى يتَبَيَّن للسامع أَن مَا بعده كَلَام مستأنمف، لِأَنَّهُ إِذا وصل بِمَا بعد: لَا يتَوَهَّم للسامع أَنه دُعَاء عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاء لَهُ. قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) صورته تَعْلِيق، لَكِن ادّعى بَعضهم أَنه مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول، وَفِيه تَأمل. قَوْله: (إِن سَمِعت) ، كلمة: إِن، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون النُّون كلمة نفي. أَي: وَالله مَا سَمِعت بِلَفْظ السكين إلاَّ يَوْمئِذٍ. قَوْله: (المدية) بِضَم الْمِيم، وَقيل: الْمِيم مُثَلّثَة، سمي السكين بهَا لِأَنَّهَا تقطع مدى حَيَاة الْحَيَوَان، وَسمي السكين سكيناً لِأَنَّهُ يسكن حَرَكَة الْحَيَوَان، وَهُوَ يذكر وَيُؤَنث.
14 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {ولَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أنِ اشْكُرْ لله} إِلَى قَوْلِهِ {إنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لُقْمَان: 21 81) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي قَول الله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن أشكر لله وَمن يشْكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن الله غَنِي حميد} (لُقْمَان: 21 81) .) ، قَوْله: (إِلَى قَوْله) أَي: إقرأ إِلَى قَوْله: {إِن الله لَا يحب كل مختال فخور} (لُقْمَان: 21 81) . وَمن قَوْله: {غَنِي حميد} إِلَى قَوْله: {فخور} سِتّ آيَات. قَوْله: (الْحِكْمَة) أَي: الْعقل وَالْعلم وَالْعَمَل بِهِ والإصابة فِي الْأُمُور. قَوْله: (أَن أشكر) ، قيل: لِأَن تشكر الله، وَيجوز أَن تكون: أَن، مفسرة أَي: أشكر الله، وَالتَّقْدِير: قُلْنَا لَهُ: اشكر الله. وَقيل: بدل من الْحِكْمَة. قَوْله: (مختال) ، من الاختيال وَهُوَ أَن يرى لنَفسِهِ طولا على غَيره فيشمخ بِأَنْفِهِ. قَوْله: (فخور) ، يعدد مناقبه تطاولاً.
ولقمان بن باعور بن ناخور بن تارخ وَهُوَ آزر أَب إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ مقَاتل: لُقْمَان بن عنقًا بن سدون. وَيُقَال: لُقْمَان بن ثاران، حَكَاهُ السُّهيْلي عَن ابْن جرير والقعنبي، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: لُقْمَان بن عبقر بن مرْثَد بن صَادِق بن التوت من أهل أَيْلَة، ولد على عشر سِنِين خلت من أَيَّام دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ ابْن أُخْت أَيُّوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: ابْن خَاله، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق ثمَّ عَاشَ ألف سنة وَأدْركَ دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأخذ عَنهُ الْعلم. وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن الْمسيب: أَنه كَانَ عبدا أسود عَظِيم الشفتين مشقق الْقَدَمَيْنِ من سودان مصر ذَا مشافر، وَقَالَ الرّبيع: كَانَ عبدا نوبياً اشْتَرَاهُ رجل من بني إِسْرَائِيل بِثَلَاثِينَ دِينَارا وَنصف دِينَار، وَقَالَ السُّهيْلي: كَانَ نوبياً من أَيْلَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا نجاراً، وَقيل: كَانَ خياطاً، وَقيل: كَانَ رَاعيا، وَقيل: كَانَ يحتطب لمَوْلَاهُ حزمة حطب، وَرُوِيَ أَنه كَانَ عبدا لقصاب. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ قَاضِيا لبني إِسْرَائِيل فَكَانَ يسكن ببلدة أَيْلَة ومدين، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ اسْم أمه: تارات، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَاتفقَ الْعلمَاء أَنه كَانَ حكيماً وَلم يكن نَبيا إلاَّ عِكْرِمَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: إِنَّه كَانَ نَبيا. قَالَ الْوَاقِدِيّ وَالسُّديّ: مَاتَ بأيلة، وَقَالَ قَتَادَة: بالرملة.
ولاَ تُصَعِّرْ الإعْرَاضُ بالوَجْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصعر خدك للنَّاس} (لُقْمَان: 81) . وَفسّر: تصعر، بقوله: الْإِعْرَاض بِالْوَجْهِ، وَكَأَنَّهُ جعل الْإِعْرَاض بِمَعْنى التصغير الْمُسْتَفَاد من: لَا تصعر، وَهَكَذَا فسره عِكْرِمَة، أوردهُ عَنهُ الطَّبَرِيّ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: أصل الصعر دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فِي أعناقها حَتَّى تلفت أعناقها عَن رؤوسها فَيُشبه بِهِ الرجل المعرض عَن النَّاس المتكبر، وَقِرَاءَة عَاصِم وَابْن كثير: وَلَا تصعر، وَقِرَاءَة الْبَاقُونَ: وَلَا تصاغر، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: القراءتان مشهورتان ومعناهما صَحِيح.
8243 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله قَالَ لَ مَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ أصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيْمَانَهُ بِظُلْمٍ فنَزَلَتْ {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّه إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لُقْمَان: 31) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله تَعَالَى: {لَا تشرك بِاللَّه ... } إِلَى آخِره، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ حِكَايَة عَن لُقْمَان: {وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 31) . وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب ظلم دون ظلم، وَمر الْكَلَام فِيهِ.(16/18)
9243 - حدَّثني إسْحَاقُ أخبرَنا عِيسَى بنُ يُونُسَ حدَّثنا الأعمشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الْأَنْعَام: 28) . شَقَّ ذَلِكَ علَى المُسْلِمِينَ فَقَالُوا يَا رسوُلَ الله أيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ ألَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وهْوَ يَعِظُهُ {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّه إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
قَوْله: (إِنَّمَا هُوَ الشّرك) ، أَي: الظُّلم الْمَذْكُور فِي تِلْكَ الْآيَة هُوَ الشّرك، وَالظُّلم لفظ عَام يعم الشّرك وَغَيره، وَقد خص فِي الْآيَة بالشرك. وَمعنى: اخْتِلَاط الْإِيمَان، هُوَ أَن الْإِيمَان التَّصْدِيق بِاللَّه وَهُوَ لَا يُنَافِي جعل الْأَصْنَام آلِهَة، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إلاَّ وهم مشركون} (يُوسُف: 601) . قَوْله: (مَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ) قَالَ السُّهيْلي، اسْم ابْنه: باران، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء، وَكَذَا قَالَه الطَّبَرِيّ والعتبي، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اسْمه أنعم، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أشكم. قَوْله: (وَهُوَ يعظه) جملَة حَالية، وَالله أعلم.
24 - (بابٌ {واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أصْحَابَ القَرْيَةِ} (ي س: 31) . الْآيَة)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُم مثلا أَصْحَاب الْقرْيَة إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مرسلون} (ي س: 31) . قَوْله: (وَاضْرِبْ لَهُم مثلا) أَي: لأجلهم، وَقيل: وَاضْرِبْ لأجل نَفسك أَصْحَاب الْقرْيَة مثلا، وَحَاصِل الْمَعْنى: اذكر لَهُم قصَّة عَجِيبَة، يَعْنِي: قصَّة أَصْحَاب الْقرْيَة، وَهِي أنطاكية: {إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ} (ي س: 31) . أَي: رسل عِيسَى، وَكلمَة إِذْ، بدل من أَصْحَاب الْقرْيَة، وَكَانَ إرْسَال عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رسله فِي أَيَّام مُلُوك الطوائف.
وَاخْتلفُوا فِي اسْم الرسولين اللَّذين أرسلا أَولا، فَقَالَ ابْن إِسْحَاق: قاروص وماروص، وَقَالَ وهب: يحيى وَيُونُس، وَقَالَ مقَاتل: تومان ومالوس، وَقَالَ كَعْب: صَادِق وصدوق، وَاسم الرَّسُول الثَّالِث: شَمْعُون الصَّفَا رَأس الحواريين، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَقَالَ كَعْب: اسْمه شلوم، وَقَالَ مقَاتل: سمْعَان، وَقيل: بولص، وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا مَرْفُوعا، وَقد روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: السَّبق ثَلَاثَة: يُوشَع إِلَى مُوسَى، وَصَاحب يس إِلَى عِيسَى، وَعلي إِلَى مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي إِسْنَاده حُسَيْن بن الْحسن الْأَشْقَر وَهُوَ ضَعِيف، وَاسم صَاحب يس: حبيب النجار، وَعَن السّديّ: كَانَ قصاراً، وَقيل: كَانَ إسكافاً، وَكَانَ اسْم ملك أنطاكية أنطيخس بن أنطيخس وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام.
فَعَزَّزْنا. . قَالَ مُجَاهِدٌ شَدَّدْنَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {فعززنا} (ي س: 31) . وَحكي عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ: شددنا، يَعْنِي: قوينا الرسولين الْأَوَّلين برَسُول ثَالِث، وعَلى يَده كَانَ الْخَلَاص.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ طائِرُكُمْ مَصَائِبُكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا طائركم مَعكُمْ أئن ذكرْتُمْ بل أَنْتُم قوم مسرفون} (ي س: 91) . وَوصل ابْن أبي حَاتِم قَول ابْن عَبَّاس من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ بِهِ. قَوْله: {طائركم} وَفَسرهُ ابْن عَبَّاس بقوله: مصائبكم، وَلما قَالُوا: {إنَّا تطيرنا بكم} (ي س: 81) . يَعْنِي: تشاءمنا بكم، قَالُوا: طائركم، أَي: شؤمكم مَعكُمْ، وَهُوَ كفرهم.
34 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {كَهيَعَصَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاءَ إذْ نادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيَّاً قَالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} إِلَى قولِهِ {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّاً} (مَرْيَم: 3 7) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {كهيعص ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا} (مَرْيَم: 3 7) . إِلَى آخِره. قَوْله: (إِلَى قَوْله) ، أَي: إقرأ إِلَى قَوْله: {لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} (مَرْيَم: 3 7) . وَهُوَ قَوْله: {وَلم أكن بدعائك رب شقيا وَإِنِّي خفت الموالى من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً فَهَب لي(16/19)
من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} (مَرْيَم: 5 7) [/ ح.
قَوْله: (ذكر) ، مَرْفُوع بِأَنَّهُ خبر لقَوْله: {كهيعص} ، وَقيل: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا القَوْل الَّذِي نتلو عَلَيْك ذكر رَحْمَة رَبك، وَقيل: مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مُقَدّر تَقْدِيره، فِيمَا أُوحِي إِلَيْك ذكر رَحْمَة رَبك، و: ذكر مصدر مُضَاف إِلَى الرَّحْمَة، وَهِي فَاعله، و: عَبده، مفعولها. قَوْله: (خفِيا) أَي: خافياً يخفى ذَلِك فِي نَفسه لم يطلع عَلَيْهِ إلاَّ الله. قَوْله: (وَهن) ، يُقَال: وَهن يهن وَهنا، فَهُوَ واهن، وَقَالَ الْفراء: وَهن الْعظم، بِالْفَتْح وَالْكَسْر فِي الْهَاء: أَرَادَ أَن قُوَّة عِظَامه ذهبت لكبر سنه، وَإِنَّمَا خص الْعظم لِأَنَّهُ الأَصْل فِي التَّرْكِيب، وَقَالَ قَتَادَة: شكى ذهَاب أَضْرَاسه. قَوْله: (واشتعل الرَّأْس شيباً) أَي: من حَيْثُ الشيب شبه الشيب بشواظ النَّار فِي بياضه وإنارته وانتشاره فِي الشّعْر وفشوه فِيهِ وَأَخذه كل مَأْخَذ باشتعال النَّار، ثمَّ أخرجه مخرج الِاسْتِعَارَة، ثمَّ أسْند الاشتعال إِلَى مَكَان الشّعْر ومنبته وَهُوَ الرَّأْس، وَأخرج الشيب مُمَيّزا وَلم يضف الرَّأْس، يَعْنِي لم يقل: رَأْسِي، اكْتِفَاء بِعلم الْمُخَاطب أَنه رَأس زَكَرِيَّا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن ثمَّ فَصحت هَذِه الْجُمْلَة وَشهد لَهَا بالبلاغة. قَوْله: (وَلم أكن بدعائك رب شقياً) أَي: بدعائي إياك شقياً أَي: خائباً. قَوْله: الموَالِي، وهم الَّذين يلونه فِي النّسَب، وهم: بَنو الْعم والعصبة، وَكَانَ عَمه وعصبته شرار بني إِسْرَائِيل فخافهم على الدّين أَن يغيروه ويبدلوه وَأَن لَا يحسنوا للخلافة على أمته، فَطلب عقباً من صلبه صَالحا يُقتدى بِهِ فِي إحْيَاء الدّين. قَوْله: (عاقراً) أَي: عقيماً لَا تَلد. قَوْله: (وليا) ، أَي: ولدا صَالحا يحمل أَمر الدّين بعدِي. قَوْله: (يَرِثنِي) ، أَي: يَرث النُّبُوَّة وَقيل: الْعلم، وَقيل: يرثهما. قَوْله: (وَيَرِث من آل يَعْقُوب) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: يَرِثنِي مَالِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب النُّبُوَّة، وَعنهُ: يَرِثنِي الْعلم وَيَرِث من آل يَعْقُوب الْملك، فَأَجَابَهُ الله إِلَى وراثة الْعلم دون الْملك. قَوْله: (لم نجْعَل لَهُ من قبل سمياً) ، يَعْنِي: لم يسم أحد قبله بِيَحْيَى. فَإِن قلت: مَا وَجه المدحة باسم لم يسم أحد قبله ونرى كثيرا من الْأَسْمَاء لم يسْبق إِلَيْهَا؟ قلت: لِأَن الله تَعَالَى تولى تَسْمِيَته وَلم يكل ذَلِك إِلَى أَبَوَيْهِ فَسَماهُ باسم لم يسْبق إِلَيْهِ.
وَاعْلَم أَن فِي زَكَرِيَّا أَربع لُغَات: الْمَدّ وَالْقصر وَحذف الْألف مَعَ إبْقَاء الْبَاء مُشَدّدَة وَتَخْفِيف الْيَاء، فَإِن مددت أَو قصرت لم تصرف، وَإِن حذفت الْألف مَعَ إبْقَاء الْيَاء مُشَدّدَة صرفته. وزَكَرِيا بن آدن بن مُسلم بن صَدُوق بن نخشان بن دَاوُد بن سُلَيْمَان بن مُسلم بن صديقَة بن ناخور بن شلوم بن بهفاشاط بن أسا بن أفيا بن رَحِيم بن سُلَيْمَان بن دَاوُد، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا ذكره الثَّعْلَبِيّ، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي (تَارِيخه) : زَكَرِيَّا بن برخيا، وَيُقَال: زَكَرِيَّا بن دَان، وَيُقَال: ابْن آدن ... إِلَى آخِره، وَعَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ زَكَرِيَّا نجاراً. انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم وَابْنه يحيى من الْحَيَاة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: كَانَ يحيى أعجمياً وَهُوَ الظَّاهِر، فَمنع صرفه للتعريف والعجمة: كموسى وَعِيسَى، وَإِن كَانَ عَرَبيا فللتعريف وَوزن الْفِعْل، وَاخْتلفُوا فِيهِ لِمَ سمي يحيى؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لِأَن الله تَعَالَى أحيى بِهِ عقر أمه، وَقَالَ قَتَادَة: لِأَن الله تَعَالَى أحيى قلبه بِالْإِيمَان والنبوة، وَقيل: أَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ حَتَّى لم يعْص أصلا وَلم يهم بِمَعْصِيَة، وَاسم أم يحيى: أشياع بنت فاقوذا أُخْت حنة أم مَرْيَم، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا وَسلم، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ زَكَرِيَّا وَابْنه يحيى، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَسلم، آخر من بعث فِي بني إِسْرَائِيل من أَنْبِيَائهمْ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ مِثْلاً
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى: سمياً، مثلا فِي قَوْله تَعَالَى: {هَل تعلم لَهُ سمياً} (مَرْيَم: 56) .
يُقَالُ: رَضِيَّاً مَرْضِيَّاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير: رَضِيا فِي قَوْله: {واجعله رب رَضِيا} (مَرْيَم: 6) . بِأَنَّهُ بِمَعْنى: مرضياً. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: مرضيا ترضاه أَنْت وعبادك.
عَتِيَّاً عَصِياً عَتَا يَعْتُو
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقد بلغت(16/20)
من الْكبر عتياً} (مَرْيَم: 8) . وَفَسرهُ بقوله: عصياً، وَذكره بالصَّاد الْمُهْملَة وَالصَّوَاب بِالسِّين الْمُهْملَة، وروى الطَّبَرِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ عتياً أَو عسياً؟ يُقَال: قَرَأَ مُجَاهِد: عسياً بِالسِّين، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: عتا الشَّيْخ يعتو عتياً، بِضَم الْعين وَكسرهَا: كبر وَولى، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: عسا الشَّيْخ يعسو عسياً، ولى وَكبر مثل: عتا، وَقَالَ قَتَادَة: العتو نحول الْعظم، يُقَال: ملك عَاتٍ: إِذا كَانَ قاسي الْقلب غير لين، وَعَن أبي عُبَيْدَة: كل مبالغ فِي شَرّ أَو كفر فقد عتا وعسا، وَيُقَال: عتا الْعود وعسا من أجل الْكبر والطعن فِي السن الْعَالِيَة، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: {وَقد بلغت من الْكبر عتياً} (مَرْيَم: 8) . بِكَسْر الْعين وَالْبَاقُونَ بضَمهَا. قَوْله: (عتا يعتو) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه من بَاب فعل يفعل، مثل: غزا يَغْزُو، من معتل اللَّام الواوي.
{قالَ رَبِّ أنَّى يَكُونَ لِي غُلاَمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيَّاً} (مَرْيَم: 8 01) . ويُقَالُ صَحِيحاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً وَقد بلغت من الْكبر عتيا قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ على هَين وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ آيتك أَن لَا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سوياً} (مَرْيَم: 8 01) . قَوْله: (قَالَ رب) أَي: قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رب أنَّى يكون لي غُلَام؟ أَي: من أَيْن يكون لي غُلَام؟ وَكَيف يكون لي غُلَام وَالْحَال أَن امْرَأَتي عَاقِر وَأَنا قد بلغت من الْكبر عتياً؟ قَوْله: (قَالَ كَذَلِك) ، أَي: قَالَ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْأَمر كَذَلِك كَمَا قيل لَك من هبة الْوَلَد على الْكبر. قَوْله: (هُوَ عليَّ هيِّن) ، أَي: خلقه عليّ هيّن بِأَن أرد عَلَيْك قوتك حَتَّى تقوى على الْجِمَاع، وأفتق رحم امْرَأَتك. قَوْله: (قد خلقتك من قبل) ، أَي: أوجدتك من قبل يحيى وَلم تَكُ شَيْئا، لِأَن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء أَو شَيْئا لَا يعْتد بِهِ. قَوْله: (قَالَ: رب) ، أَي: قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رب إجعل لي آيَة أَي: عَلامَة على حمل امْرَأَتي. قَوْله: (قَالَ آيتك) أَي: قَالَ الله، عز وَجل: علامتك أَن لَا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سوياً مَنْصُوب على الْحَال، أَي: وَأَنت صَحِيح سليم الْجَوَارِح عَن سوء الْخلق مَا بك خرس وَلَا بكم، وَدلّ ذكر اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّام فِي آل عمرَان، على أَن الْمَنْع من الْكَلَام اسْتمرّ بِهِ ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن.
فخَرَجَ علَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فأوْحَى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيَّاً} (مَرْيَم: 11) . فأوْحَى فأشارَ
أَي: فَخرج زَكَرِيَّا وَكَانَ النَّاس من وَرَاء الْمِحْرَاب ينتظرون أَنه يفتح لَهُم الْبَاب فَيدْخلُونَ وَيصلونَ، إِذْ خرج إِلَيْهِم زَكَرِيَّا متغير اللَّوْن فأنكروه، فَقَالُوا لَهُ: يَا زَكَرِيَّا! مَالك؟ فَأوحى إِلَيْهِم، أَي: أَشَارَ إِلَيْهِم بِيَدِهِ وَرَأسه. قَالَه مُجَاهِد: وَعَن ابْن عَبَّاس: فَكتب إِلَيْهِم فِي كتاب، وَقيل: على الأَرْض. قَوْله: (أَن سبحوا) ، وَكلمَة: أَن، هِيَ المفسرة أَي: صلوا لله بكرَة وعشياً، وَهَذَا فِي صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي حملت امْرَأَته، فَلَمَّا حملت امْرَأَته أَمرهم بِالصَّلَاةِ إِشَارَة.
{يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ {ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيَّا} (مَرْيَم: 21 51) .
أَي: إقرأ الْآيَة إِلَى قَوْله: (وَيَوْم يبْعَث حَيا) . وَهُوَ: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا وَحَنَانًا من لدنا وَزَكَاة وَكَانَ تقياً وَبرا بِوَالِديهِ وَلم يكن جباراً عصيّاً وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يبْعَث حَيا} (مَرْيَم: 21 51) . قَوْله: (يَا يحيى) ، التَّقْدِير: فوهبنا لَهُ يحيى وَقُلْنَا لَهُ: يَا يحيى خُذ الْكتاب، أَي: التَّوْرَاة، وَكَانَ مَأْمُورا بالتمسك بهَا. قَوْله: (الحكم) ، أَي: الْحِكْمَة وَهِي الْفَهم للتوراة وَالْفِقْه فِي الدّين، صَبيا، أَي: حَال كَونه صَبيا، وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه سبع سِنِين، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: ثَلَاث سِنِين وَكَانَ ذَلِك معْجزَة بِهِ. قَوْله: (وَحَنَانًا) ، قَالَ الزّجاج: وَآتَيْنَاهُ حناناً، وَقيل: وجعلناه حناناً لأهل زَمَانه، أَي: رَحْمَة لِأَبَوَيْهِ وَغَيرهمَا، وتعطفاً وشفقة. قَوْله: (وَزَكَاة) ، أَي: زِيَادَة فِي الْخَيْر على مَا وصف، وَقيل: طَهَارَة من الذُّنُوب، وَقيل: عملا صَالحا. قَوْله: (تقياً) ، يَعْنِي: مُسلما مخلصاً مُطيعًا. قَوْله: (وبرّاً) أَي: وبارّاً بِوَالِديهِ، لطيفاً بهما، محسناً إِلَيْهِمَا، وَلم يكن جباراً متكبراً. قَوْله: (عصياً) أَي: عَاصِيا لرَبه. قَوْله: (وَسَلام عَلَيْهِ) أَي: سَلام من الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَيَّام، وَإِنَّمَا خص التَّسْلِيم وَالسَّلَام بِهَذِهِ الْأَحْوَال لِأَنَّهَا أصعب الْأَوْقَات وأوحشها.
حَفِيَّاً لَطِيفاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ بِي حفيّاً} (مَرْيَم: 74) . وَفسّر: حفياً، بقوله: لطيفاً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي محتفياً.
عاقِرَاً الذَّكَرُ والأنْثَى سَوَاءٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً} (مَرْيَم: 5 و 8) . وَقَالَ: الذّكر وَالْأُنْثَى سَوَاء، يَعْنِي: يُقَال للرجل الَّذِي لَا يلد: عَاقِر، وللمرأة الَّتِي لَا تَلد: عَاقِر.(16/21)
0343 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ حدَّثنا هَمَّامُ بنُ يَحْيَى حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ مالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدَّثَهُمْ عنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ثُمَّ صَعِدَ حتَّى أتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ ومَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وقَدْ أُرْسِلَ إلَيْهِ قَالَ نعَمْ فلَمَّا خَلَصْتُ فإذَا يَحْيَى وعِيسَى وهُمَا ابْنَا خالَةٍ قَالَ هذَا يَحْيَى وعيسَى فسَلَّم عَلَيْهِمَا فسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قالاَ مَرْحَباً بالأخِ الصَّالِحِ والنَّبيِّ الصَّالِحِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن يحيى مَذْكُور فِي قصَّة زَكَرِيَّا، وَهَذِه قِطْعَة من حَدِيث مطول قد مضى فِي: بَاب ذكر الْمَلَائِكَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (فَلَمَّا خلصت) أَي: للصعود إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة ووصلت إِلَيْهَا. قَوْله: (وهما) أَي: يحيى وَعِيسَى، وَلَعَلَّ الْقَرَابَة الَّتِي كَانَت بَينهمَا كَانَت سَببا لِكَوْنِهِمَا فِي سَمَاء وَاحِد مُجْتَمعين.
44 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِهَا مَكانَاً شَرْقِيّاً} (مَرْيَم: 61) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {وَاذْكُر ... } إِلَى آخِره، يَعْنِي: أذكر يَا مُحَمَّد فِي الْكتاب أَي: فِي الْقُرْآن مَرْيَم بنت عمرَان بن ماثان. قَوْله: (إِذا انتبذت) ، كلمة: إِذْ، بدل من: مَرْيَم، بدل الاشتمال، انتبذت أَي: اعتزلت وانفردت وَجَلَست وتخلت لِلْعِبَادَةِ من أَهلهَا مَكَانا أَي: فِي مَكَان شرقياً مِمَّا يَلِي شَرْقي الْمُقَدّس، أَو شرقياً من دارها، وَقيل: قعدت فِي مشرقة للاغتسال من الْحيض، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: اتَّخذت النَّصَارَى الْمشرق قبْلَة لِأَن مَرْيَم انتبذت مَكَانا شرقياً.
{إِذْ قالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ} (آل عمرَان: 54) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِذْ قَالَت، بدل من {وَإِذ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الله اصفاك وطهرك} (آل عمرَان: 24) . وَيجوز أَن يُبدل من: إِذْ، يختصمون، على أَن الِاعْتِصَام والبشارة وَقعا فِي زمَان. قَوْله: (بِكَلِمَة مِنْهُ) ، أَي: بِولد يكون وجوده بِكَلِمَة من الله، أَي: بقوله: كن فَيكون اسْمه الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم، يَعْنِي: يكون مَشْهُورا بِهَذَا فِي الدُّنْيَا يعرفهُ الْمُؤْمِنُونَ بذلك.
{إنَّ الله اصْطَفى آدَمَ ونُوحَاً وآلَ إبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ علَى العَالَمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمرَان: 33) .
يخبر تَعَالَى أَنه اصْطفى آدم أَي: اخْتَار آدم لِأَنَّهُ خلقه بِيَدِهِ وَنفخ فِيهِ من روحه وأسجد لَهُ مَلَائكَته وَعلمه أَسمَاء كل شَيْء وَأَسْكَنَهُ جنته وَاصْطفى نوحًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجعله أول رَسُول بَعثه إِلَى أهل الأَرْض لما عبد النَّاس الْأَوْثَان، وَاصْطفى آل إِبْرَاهِيم وَمِنْهُم سيد الْبشر وَخَاتم الْأَنْبِيَاء مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهُم آل عمرَان وَالِد مَرْيَم بنت عمرَان أم عِيسَى ابْن مَرْيَم، صلوَات الله عَلَيْهِم. قَوْله: (إِلَى قَوْله) أَي: إقرأ إِلَى قَوْله: (يرْزق من يَشَاء) ، وَهُوَ: {ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض وَالله سميع عليم} ، وَبعده ثَلَاث آيَات أُخْرَى آخرهَا: {بِغَيْر حِسَاب} (آل عمرَان: 33) .
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وآلُ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ وآلِ عِمْرَانَ وآلِ يَاسِينَ وآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ {إنَّ أوْلَى النَّاسُ بإبْرَاهِيمَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} (آل عمرَان: 86) . وهم الْمُؤْمِنُونَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان} ، عَام وَأُرِيد بِهِ الْخُصُوص، وَهُوَ أَن المُرَاد الْمُؤْمِنُونَ من آل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان، كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَآل ياسين) ، المُرَاد مِنْهُم الَّذين فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن إلْيَاس لمن الْمُرْسلين} (آل عمرَان: 86) . وَقيل: إِدْرِيس، وَقيل: غَيره. قَوْله: (يَقُول إِن أولى النَّاس بإبراهيم) إِلَى آخِره، أَي: يَقُول ابْن عَبَّاس: {أَن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ} (آل عمرَان: 86) . وهم الْمُؤْمِنُونَ وَالَّذين لم يتبعوه لَا يعدون من الْآل، وَحَاصِل هَذَا التَّأْكِيد بِأَن المُرَاد من هَذَا الْعُمُوم الْخُصُوص كَمَا ذكرنَا.(16/22)
ويُقَالُ آلَ يَعْقُوبَ أهْلُ يَعْقُوبَ فإذَا صَغَّرُوا آلَ ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأصْلِ قَالُوا أُهَيْلٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أصل: آل، أهل، ألاَ ترى أَنهم إِذا أَرَادوا أَن يصغروه يَقُولُونَ: أهيل، لِأَن التصغير يرد الإشياء إِلَى أُصُولهَا، وَلَكِن فِيهِ خلاف، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ وَالْجُمْهُور، وَقيل: أصل آل: أول، من آل يؤول إِذا رَجَعَ، لِأَن الْإِنْسَان يرجع إِلَى آله فقلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا.
1343 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخبرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إلاَّ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وابْنِهَا ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ {وإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمرَان: 63) . (انْظُر الحَدِيث 6823 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ، وَقد مضى نَحوه فِي: بَاب صفة إِبْلِيس، عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره، مَوْقُوف عَلَيْهِ.
54 - (بابٌ)
هُوَ كالفصل لما قبله، فَلذَلِك جرد عَن التَّرْجَمَة.
{وإِذْ قالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ الله اصْطَفَاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفَاكِ علَى نِسَاءِ العَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفَلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمرَان: 24) .
هَذَا إِخْبَار من الله بِمَا خاطبت بِهِ الْمَلَائِكَة مَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام، عَن أَمر الله لَهُم بذلك. قَوْله: (اصطفاك) أَي: اختارك وطهرك من الأكدار والوساوس واصطفاك ثَانِيًا مرّة بعد مرّة على نسَاء الْعَالمين. قَوْله: (اقنتي) أَمر من الْقُنُوت وَهُوَ الطَّاعَة، واسجدي واركعي، الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب، وَقيل: مَعْنَاهُ استعملي السُّجُود فِي حَالَة وَالرُّكُوع فِي حَالَة، وَقيل: على حَالَة، وَكَانَ السُّجُود مقدما على الرُّكُوع فِي شرعهم. قَوْله: {واركعي مَعَ الراكعين} أَي: لتكن صَلَاتك مَعَ الْجَمَاعَة، وَقَالَ: مَعَ الراكعين، وَقَالَ: مَعَ الراكعين، لِأَنَّهُ أَعم من الراكعات لوُقُوعه على الرِّجَال وَالنِّسَاء. قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى مَا سبق من نبأ زَكَرِيَّا وَيحيى وَمَرْيَم وَعِيسَى، يَعْنِي: أَن ذَلِك من الغيوب الَّتِي لم تعرفها إلاَّ بِالْوَحْي. قَوْله: (نوحيه إِلَيْك) أَي: نَقصه عَلَيْك. قَوْله: (وَمَا كنت لديهم) أَي: وَمَا كنت يَا مُحَمَّد عِنْدهم. قَوْله: (إِذْ يلقون أقلامهم) أَي: حِين يلقون، أَي: يطرحون أقلامهم وَهِي أقداحهم الَّتِي طرحوها فِي النَّهر مقترعين، وَقيل: هِيَ الأقلام الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بهَا التَّوْرَاة، اختاروها للقرعة تبركاً بهَا. قَوْله: (إِذْ يختصمون) ، فِي شَأْنهَا تنافساً فِي التكفل بهَا لرغبتهم فِي الْأجر.
يُقالُ: يَكْفُلُ يَضُمُّ كَفَلَهَا ضَمَّهَا مُخَفَفَةً لَيْسَ مِنْ كَفالَةِ الدُّيُونِ وشَبْهِهَا
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إيهم يكفل مَرْيَم ... } إِلَى قَوْله {وكفَّلها زَكَرِيَّا} (آل عمرَان: 73) . يَعْنِي: ضم مَرْيَم إِلَى نَفسه وَمَا ذَاك إلاَّ أَنَّهَا كَانَت يتيمة، قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ غَيره: إِن بني إِسْرَائِيل أَصَابَتْهُم سنة جَدب فكفل زَكَرِيَّا مَرْيَم لذَلِك، وَلَا مُنَافَاة بَين الْقَوْلَيْنِ. قَوْله: (مُخَفّفَة) ، أَي: حَال كَون كلمة: كفلها، بتَخْفِيف الْفَاء، وَفِي قَوْله: (لَيْسَ من كَفَالَة الدُّيُون) نظر، لِأَن فِي كَفَالَة الدُّيُون أَيْضا معنى الضَّم، لِأَن الْكفَالَة ضم الذِّمَّة إِلَى الذِّمَّة فِي الْمُطَالبَة، وَقِرَاءَة التَّخْفِيف قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَقِرَاءَة الْكُوفِيّين عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بالتثقيل، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وهم: نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر بِالتَّخْفِيفِ فِي: كفلها، وعَلى التَّشْدِيد، فينتصب(16/23)
زَكَرِيَّا على المفعولية، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يُقَال فِي: كفلها زَكَرِيَّا، بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا، وبالكسر قَرَأَ بعض التَّابِعين.
2343 - حدَّثني أحْمَدُ بنُ أبِي رَجاءٍ حدَّثنا النَّضْرُ عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرَنِي أبي قَالَ سَمِعْتُ عبدَ الله ابنَ جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّاً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ خَيْرُ نِسائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وخَيْرُ نِسائِهَا خَدِيجَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (الحَدِيث 2343 طرفه فِي: 5183) .
مطابقته للباب المترجم فِي قَوْله: (ابْنة عمرَان) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: أَحْمد بن أبي رَجَاء بِالْجِيم واسْمه عبد الله بن أَيُّوب أَبُو الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ. الثَّانِي: النَّضر بن شُمَيْل، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: هِشَام ابْن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب. السَّادِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: حَدثنِي أَحْمد، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا، بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: التحديث أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَصْحَاب هِشَام بن عُرْوَة عَنهُ، هَكَذَا وَخَالفهُم ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق فروياه عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عبد الله بن الزبير عَن عبد الله بن جَعْفَر، وَقد زَاد فِي الْإِسْنَاد: عبد الله بن الزبير، وَالصَّوَاب الأول.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل خَدِيجَة وَصدقَة بن الْفضل. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي كريب وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق ابْن هَارُون. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن حَرْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خير نسائها) ، أَي: خير نسَاء أهل الدُّنْيَا فِي زمانها، وَلَيْسَ المُرَاد أَن مَرْيَم خير نسائها، لِأَنَّهُ يصير كَقَوْلِهِم، يُوسُف أحسن إخْوَته، وَقد مَنعه النُّحَاة، وَعَن وَكِيع: أَي خير نسَاء الأَرْض فِي عصرها، وَقَالَ القَاضِي: أَي من خير نسَاء الأَرْض. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بقوله: خير نسائها مَرْيَم، نسَاء بني إِسْرَائِيل، وَبِقَوْلِهِ: خير نسائها خَدِيجَة، نسَاء الْعَرَب أَو تِلْكَ الْأمة، وَهَذِه الْأمة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد وَمَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن، وَرَوَاهُ أَبُو يعلى أَيْضا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مسقصىً فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن} (التَّحْرِيم: 11) .
64 - (بابُ قَوْلِهِ تعَالى {إِذْ قالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ} إِلَى قوْلِهِ {فإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ} (آل عمرَان: 54 84) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة ... } (آل عمرَان: 54) . إِلَى آخِره، وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَول الله تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي بَعْضهَا إِلَى قَوْله إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الْمُجَرّد الَّذِي قبل هَذَا الْبَاب. قَوْله: (إِلَى قَوْله) ، أَي: إقرأ إِلَى قَوْله: {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} (آل عمرَان: 84) . وَهُوَ قَوْله: {وجيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن المقربين ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلاً وَمن الصَّالِحين قَالَت رب أنَّى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر قَالَ كَذَلِك الله يخلق مَا يَشَاء إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} (54 84) . قَوْله: (وجيهاً) ، أَي: شريفاً ذَا جاه وَقدر. قَوْله: (وَمن المقربين) ، أَي: عِنْد الله بالثواب والكرامة. قَوْله: (ويكلم النَّاس فِي المهد) ، يَعْنِي: صَغِيرا فِي حجر أمه، وَقيل: فِي الْموضع الَّذِي مهد للنوم، رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: كنت إِذا خلوت بِهِ أحادثه ويحادثني فَإِذا شغلني عَنهُ إِنْسَان يسبح فِي بَطْني وَأَنا أسمع. وَاخْتلفُوا: هَل كَانَ نَبيا فِي وَقت كَلَامه؟ فَقيل: نعم لظُهُور المعجزة وَقيل: لَا، وَإِنَّمَا جعل ذَلِك تأسيساً لنبوته. قَوْله: (وكهلاً) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي المهد، نصب على الْحَال، و: كهلاً، عطف عَلَيْهِ بمعني: ويكلم النَّاس طفْلا وكهلاً، يَعْنِي: يكلم فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ بِكَلَام الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: {وَمن الصَّالِحين} (آل عمرَان: 54 84) . أَي:(16/24)
فِي قَوْله وَعَمله. قَوْله: {وَلم يمسسني بشر} أَي: لم يُصِبْنِي رجل. قَوْله: {إِذا قضى أمرا} أَي: إِذا أَرَادَ تكوينه {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} ، لَا يتَأَخَّر من وقته بل يُوجد عقيب الْأَمر بِلَا مهلة.
يُبَشِّرُكِ ويَبْشُرُكِ واحِدٌ
الأول: من بَاب نصر ينصر، وَهُوَ قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَالثَّانِي: من بَاب التفعيل من التبشير، والبشير هُوَ الَّذِي يخبر الْمَرْء بِمَا يسره من خير وَلَا يسْتَعْمل فِي الشَّرّ إلاَّ تهكماً.
وجِيهاً شَرِيفاً
فسر وجيهاً الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وجيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} (آل عمرَان: 54) . بقوله: شريفاً، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب، وانتصابه على الْحَال.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ المَسيحُ الصِّدِّيقُ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ الْمَسِيح الصّديق، وَكَذَا فسره سُفْيَان الثَّوْريّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى إِبْرَاهِيم، وَفِيه معَان أخر نذكرها الْآن، فَإِن قلت: الدَّجَّال أَيْضا سمى بالمسيح؟ قلت: أما مَعْنَاهُ فِي عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَفِيهِ أَقْوَال تبلغ ثَلَاثَة وَعشْرين قولا ذَكرنَاهَا فِي كتَابنَا (زين الْمجَالِس) . مِنْهَا: مَا قيل إِن أَصله الْمَسِيح على وزن مفعل، فأسكنت الْيَاء ونقلت حركتها إِلَى السِّين طلبا للخفة، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ لَا يمسح ذَا عاهة إلاَّ برىء وَلَا مَيتا إلاَّ حيى، وَعنهُ: لِأَنَّهُ كَانَ أَمسَح الرجل لَيْسَ لَهَا أَخْمص، والأخمص من لَا يمس الأَرْض من بَاطِن الرجل، وَعَن أبي عُبَيْدَة: أَظن أَن هَذِه الْكَلِمَة: مشيخاً، بالشين الْمُعْجَمَة فعربت، وَكَذَا تنطق بِهِ الْيَهُود، وَقيل: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه كَأَنَّهُ مَمْسُوح بالدهن، وَقيل: لِأَن زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَسحه. وَقيل: لحسن وَجهه إِذْ الْمَسِيح فِي اللُّغَة جميل الْوَجْه، لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض لِأَنَّهُ قد يكون تَارَة فِي الْبلدَانِ وَتارَة فِي المفاوز والفلوات، وَقَالَ الدَّاودِيّ: لِأَنَّهُ كَانَ يلبس المسوح. وَأما مَعْنَاهُ فِي الدَّجَّال، فَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض أَي يقطعهَا. فَإِن قلت: قد ذكرت هَذَا الْمَعْنى فِي عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ . قلت: إِنَّه كَانَ فِي هَذَا الْوَجْه اشْتِرَاك بِحَسب الظَّاهِر لِأَن الْمَسِيح فِي عِيسَى بِمَعْنى الْمَمْسُوح عَن الآثام وَعَن كل شَيْء فِيهِ قبح، فعيل بِمَعْنى مفعول، وَفِي الدَّجَّال: فعيل بِمَعْنى فَاعل، لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، وَقيل: لِأَنَّهُ لَا عين لَهُ وَلَا حَاجِب، وَقَالَ ابْن فَارس: مسيح أحد شقي وَجهه مَمْسُوح لَا عين لَهُ وَلَا حَاجِب، فَلذَلِك سمي بِهِ. وَقيل: الْمَسِيح الْكذَّاب وَهُوَ مُخْتَصّ بِهِ لِأَنَّهُ أكذب الْبشر، فَلذَلِك خصّه الله بالشوه والعور، وَقيل: الْمَسِيح المارد الْخَبيث وَهُوَ أَيْضا مُخْتَصّ بِهِ بِهَذَا الْمَعْنى، وَيُقَال فِيهِ: مسيخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة لِأَنَّهُ مُشَوه مثل الممسوخ، وَيُقَال فِيهِ: مسيح بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد السِّين للْفرق بَينه وَبَين الْمَسِيح ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وقالَ مُجَاهِدٌ الْكَهْلُ الحَلِيمُ
كَذَا قَالَه مُجَاهِد فِي قَوْله: {وكهلاً وَمن الصَّالِحين} (آل عمرَان: 64) . وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: هَذَا لَا يعرف فِي اللُّغَة، وَإِنَّمَا الكهل عِنْدهم من ناهز الْأَرْبَعين أَو قاربها، وَقيل: من جَاوز الثَّلَاثِينَ، وَقيل: الكهل ابْن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ.
والأكْمَهُ مَنْ يُبْصِرُ بالنَّهَارِ ولاَ يُبْصِرُ باللَّيْلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيى الْمَوْتَى بِإِذن الله} (آل عمرَان: 94) . وَقيل بعكسه، وَقيل: هُوَ الْأَعْشَى، وَقيل: الْأَعْمَش.
وَقَالَ غَيْرُهُ مَنْ يُولَدُ أعْماى
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد: الأكمه هُوَ الَّذِي يُولد أعمى، وَهُوَ الْأَشْبَه لِأَنَّهُ أبلغ فِي المعجزة وَأقوى فِي التحدي.
3343 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ(16/25)
عنْ أبِي مُوساى الأشْعَرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلى سائِرِ الطَّعَامِ كَمَنْ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ.
مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا} (التَّحْرِيم: 11) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن جَعْفَر عَن وَكِيع عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.
4343 - وقالَ ابْنُ وَهْبٍ أخْبَرَني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ نِساءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ أحْنَاهُ علَى طِفْلٍ وأرْعاهُ علَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ يقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ علَى إثْرِ ذالِكَ ولَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيراً قَطُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلم تركب مَرْيَم بنت عمرَان) . وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب إِلَى آخِره.
قَوْله: (نسَاء قُرَيْش) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله: (خير نسَاء ركبن الْإِبِل) خَبره، وَهُوَ كِنَايَة عَن نسَاء الْعَرَب. قَوْله: (أحناه على طِفْل) يَعْنِي: أشفقه وأعطفه، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: أحناهن، لَكِن قَالُوا: الْعَرَب لَا تَتَكَلَّم فِي مثله إلاَّ مُفردا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا وحد الضَّمِير ذَهَابًا إِلَى الْمَعْنى تَقْدِيره: أحنى من وجد أَو خلق أَو من هُنَاكَ، وَمثله قَوْله: أحسن النَّاس وَجها وَأحسنه خلقا، يُرِيد: أحْسنهم خلقا، وَهُوَ كثير فِي الْعَرَبيَّة، وَمن أفْصح الْكَلَام: وأحنى على وزن أفعل التَّفْضِيل من: حَنى يحنو، إو حَنى يحني، وَمِنْه الحانية، وَهِي الَّتِي تقيم على وَلَدهَا وَلَا تتَزَوَّج شَفَقَة وعطفاً، وَيُقَال: حنت الْمَرْأَة على وَلَدهَا تحنو: إِذا لم تتَزَوَّج بعد أَبِيهِم. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِي بعض الْكتب: أحناه، بتَشْديد النُّون، وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَعَلَّه مَأْخُوذ من الحنان وَهُوَ الرَّحْمَة، وَمِنْه: حنين الْمَرْأَة وَهُوَ نزاعها إِلَى وَلَدهَا وَإِن لم يكن لَهَا صَوت عِنْد ذَلِك، وَقد يكون حنينها صَوتهَا، على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث من حنين الْجذع، وَالْأَصْل فِيهِ تَرْجِيع النَّاقة صَوتهَا على إِثْر وَلَدهَا. قَوْله: (وأرعاه) كَذَلِك، أفعل التَّفْضِيل من رعى يرْعَى رِعَايَة، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: أحناه. قَوْله: (فِي ذَات يَده) ، أَي: فِي مَاله الْمُضَاف إِلَيْهِ. وَفِيه: فَضِيلَة نسَاء قُرَيْش، وَفضل هَذِه الْخِصَال وَهِي: الحنو على الْأَوْلَاد والشفقة عَلَيْهِم وَحسن تربيتهم ومراعاة حق الزَّوْج فِي مَاله وَحفظه وَالْأَمَانَة فِيهِ وَحسن تَدْبيره فِي النَّفَقَة. قَوْله: (على إِثْر ذَلِك) أَي: على عقبه: (وَلم تركب مَرْيَم بنت عمرَان بَعِيرًا قطّ) يُرِيد بِهِ: أَن مَرْيَم لم تدخل فِي النِّسَاء الْمَذْكُورَات بِمَا ذكرن، لِأَنَّهُ قَيده بركوب الْإِبِل وَمَرْيَم لم تكن مِمَّن يركب الْإِبِل. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : يُؤْخَذ من قَول أبي هُرَيْرَة هَذَا، ومِنْ ذكر البُخَارِيّ لَهُ فِي قصَّة مَرْيَم، تفضيلها على خَدِيجَة وَفَاطِمَة لِأَنَّهُمَا من الْعَرَب المخصوصين بركوب الْإِبِل.
تابَعَهُ ابنُ أخِي الزُّهْرِيِّ وإسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع يُونُس ابْن أخي الزُّهْرِيّ هُوَ أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم بن عبيد الله الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي ابْن أخي مُحَمَّد ابْن مُسلم الزُّهْرِيّ، قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَتله غلمانه بِأَمْر ابْنه، وَكَانَ سَفِيها شاطراً للميراث فِي آخر خلَافَة أبي جَعْفَر، فَوَثَبَ غلمانه بعد سِنِين فَقَتَلُوهُ أَيْضا. قَوْله: (وَإِسْحَاق) ، أَي: وَتَابعه أَيْضا إِسْحَاق بن يحيى الْكَلْبِيّ الْحِمصِي، روى لَهُ البُخَارِيّ مستشهداً فِي مَوَاضِع، أما مُتَابعَة ابْن أخي الزُّهْرِيّ فوصلها أَبُو أَحْمد بن عدي فِي (الْكَامِل) من طَرِيق الدَّرَاورْدِي عَنهُ.
وَأما مُتَابعَة اسحاق الْكَلْبِيّ فوصلها الذهلي فِي الزهريات عَن يحي بن صَالح الوحاظي عَنهُ.
74
- (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {يَا أهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تقُولُوا علَى الله إلاَّ(16/26)
الحَقَّ إنَّمَا المَسِيحُ عِيساى بنُ مَرْيَمَ رسُولُ الله وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ فآمَنُوا بِاللَّه ورُسُلِهِ ولاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرَاً لَكُمْ إنَّمَا الله إلاهٌ واحِدٌ سُبْحَانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وكَفاى بِاللَّه وَكِيلاً} (النِّسَاء: 171) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {يَا أهل الْكتاب ... } إِلَى آخِره. وَقَالَ عِيَاض: وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: {قل يَا أهل الْكتاب} وَلغيره بِحَذْف: قل، وَهُوَ الصَّوَاب قلت: نعم، الصَّوَاب حذف قل، هُنَا لِأَن الْقِرَاءَة قُرِئت بِلَفْظ: قل، فِي الْآيَة الْأُخْرَى أَعنِي فِي سُورَة الْمَائِدَة: {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق} (الْمَائِدَة: 77) . الْآيَة، وَهنا من سُورَة النِّسَاء، وَلَيْسَ فِيهِ لفظ. قل: قَوْله: (لَا تغلوا) من الغلو وَهُوَ الإفراط ومجاوزة الْحَد، وَمِنْه: غلا السّعر، وغلو النَّصَارَى قَول بَعضهم فِي عِيسَى: هُوَ الله، وهم اليعقوبية إو: ابْن الله، وهم النسطورية، أَو ثَالِث ثَلَاثَة وهم المرقوسية، وغلو الْيَهُود فِيهِ قَوْلهم: إِنَّه لَيْسَ برشيد. قَوْله: (وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق) أَي إلاَّ القَوْل الْحق، أَي: لَا تفتروا عَلَيْهِ وتجعلوا لَهُ صَاحِبَة وَولدا، ثمَّ أخبر عَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله} فَكيف يكون إل هَاً؟ قَوْله: (الْمَسِيح) ، مُبْتَدأ، و: (عِيسَى) بدل مِنْهُ أَو عطف بَيَان (رَسُول الله) خَبره. و (كَلمته) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (أَلْقَاهَا) فِي مَوضِع الْحَال. قَوْله: (وروح مِنْهُ) أَي: عبد من عباد الله وَخلق من خلقه، قَالَ لَهُ: كن فَكَانَ، وَرَسُول من رسله وأضيف الرّوح إِلَيْهِ على وَجه التشريف، كَمَا أضيفت النَّاقة وَالْبَيْت إِلَى الله. قَوْله: (فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله) أَي: آمنُوا بهم جَمِيعًا وَلَا تجْعَلُوا عِيسَى إل هَا وَلَا إبناً وَلَا ثَالِث ثَلَاثَة. قَوْله: (انْتَهوا) أَي: عَن هَذِه الْمقَالة الْفَاحِشَة. قَوْله: (خيرا لكم) ، أَي: اقصدوا خيرا لكم. قَوْله: (وَكفى بِاللَّه وَكيلا) أَي: مفوضاً إِلَيْهِ الْقيام بتدبير الْعَالم.
قَالَ أبُو عُبَيْدٍ كَلِمَتُهُ كُنْ فَكانَ
أَبُو عُبَيْدَة هُوَ الْقَاسِم بن سَلام أَرَادَ أَن أَبَا عبيد فسر قَوْله: وكلمته، بقوله: كن فَكَانَ، وَعَن قَتَادَة مثله رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ.
وَقَالَ غيْرُهُ ورُوحٌ مِنْهُ أحْيَاهُ فجَعَلَهُ رُوحاً
أَي: وَقَالَ غير أبي عبيد: الظَّاهِر أَنه أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى، يَعْنِي: معنى (وروح مِنْهُ) أَحْيَاهُ فَجعله روحاً، وَقَالَ مُجَاهِد: وروح مِنْهُ: أَي رَسُول مِنْهُ، وَقيل: محبَّة مِنْهُ.
ولاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
أَي: وَلَا تَقولُوا فِي حق الله وَعِيسَى وَأمه ثَلَاثَة آلِهَة، بل الله، إل هـ وَاحِد منزه عَن الْوَلَد والصاحبة، وَعِيسَى وَأمه مخلوقان مربوبان.
5343 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ حدَّثنَا الوَلِيدُ عنِ الأوْزَاعِيِّ قَالَ حدَّثنِي عُمَيْرُ بنُ هانِىء قَالَ حدَّثني جُنَادَةُ بنُ أبِي أُمَيَّةَ عنْ عُبَادَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ شَهِدَ أَن لَا إلاه إلاَّ الله وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ وأنَّ عِيسَى عَبْدُ الله ورسُولُهُ وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ والجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّار حق أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ علَى مَا كانَ مِنَ العَمَلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والوليد هُوَ ابْن مُسلم الدِّمَشْقِي، وَالْأَوْزَاعِيّ هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن دَاوُد بن رشيد عَن الْوَلِيد وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن خَالِد وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عمر بن عبد الْوَاحِد وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور.
قَوْله: (عَن عبَادَة) ، وَفِي رِوَايَة ابْن الْمَدِينِيّ: حَدثنِي عبَادَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن جُنَادَة حَدثنَا عبَادَة. قَوْله: (أدخلهُ الله الْجنَّة) ، جَوَاب: من، وَظَاهره يَقْتَضِي دُخُوله من أَي بَاب شَاءَ من أَبْوَاب الْجنَّة. فَإِن قلت: قد مضى حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي بَدْء الْخلق: أَن لكل دَاخل الْجنَّة بَابا معينا يدْخل مِنْهُ. قلت: إِنَّه فِي الأَصْل مُخَيّر بِظَاهِر حَدِيث الْبَاب، وَلكنه يرى أَن الَّذِي يخْتَص بِهِ أفضل فِي حَقه فيختاره فيدخله مُخْتَارًا لَا مجبوراً وَلَا مَمْنُوعًا من الدُّخُول من غَيره، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمَقْصُود من هَذَا الحَدِيث التَّنْبِيه على مَا وَقع من النَّصَارَى من الضلال وَالْفساد فِي عِيسَى وَأمه، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.(16/27)
قَالَ الوَلِيدُ حدَّثني ابنُ جَابِرٍ عنْ عُمَيْرٍ عنْ جُنادَةَ وزَادَ مِنَ أبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أيَّها شاءَ
الْوَلِيد هُوَ ابْن مُسلم الْمَذْكُور، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَابْن جَابر هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر الْأَزْدِيّ أَخُو يزِيد بن يزِيد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة. وَعُمَيْر هُوَ ابْن هانىء الْمَذْكُور، وبهذه الزِّيَادَة أخرجه مُسلم، وَلَفظه: أدخلهُ الله تَعَالَى من أَي أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية شَاءَ.
84 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {واذْكْرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِهَا} (مَرْيَم: 61) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال مَرْيَم، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم ... } (مَرْيَم: 61) . الْآيَة، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا قد تقدّمت قبل هَذَا الْبَاب ببابين، وَمضى الْكَلَام فِيهَا.
نبَذْنَاهُ ألْقَيْنَاهُ اعتَزَلَتْ شَرْقِيَّاً مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ
لفظ: نبذناه، فِي قصَّة يُونُس، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فنبذناه بالعراء وَهُوَ سقيم} (الصافات: 541) . وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {فنبذناه} قَالَ: ألقيناه، وَلَيْسَ لذكره هَهُنَا مُنَاسبَة، لِأَن الْمَذْكُور فِي قصَّة مَرْيَم، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، لفظ: انتبذت، وَمعنى: انتبذت، غير معنى: فنبذناه، على مَا لَا يخفى، وَأَشَارَ إِلَى معنى: انتبذت، بقوله: (فاعتزلت شرقياً مِمَّا يَلِي الشرق) أَي: اعتزلت وانفردت وتخلت لِلْعِبَادَةِ فِي مَكَان شَرْقي مِمَّا يَلِي شَرْقي بَيت الْمُقَدّس، أَو مَكَان شَرْقي من دارها، وَقد مر هَذَا التَّفْسِير عَن قريب.
فأجاءَهَا أفْعَلْتُ مِنْ جِئْتُ يُقَالُ ألْجَأَهَا اضْطَرَّهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فإجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة} (مَرْيَم: 32) . وَأَشَارَ بقوله: أفعلت من جِئْت، إِلَى أَن لفظ أجاء، مزِيد: جَاءَ، تَقول: جِئْت إِذا أخْبرت عَن نَفسك، ثمَّ إِذا أردْت أَن تعدى بِهِ إِلَى غَيْرك تَقول: أجأت زيدا، وَهنا كَذَلِك بالتعدية لِأَن الضَّمِير فِي أجاءها يرجع إِلَى مَرْيَم، وفاعل: أجاء، هُوَ قَوْله: الْمَخَاض، أَي: الطلق، إِلَى جذع النَّخْلَة أَي: سَاقهَا وَكَانَت نَخْلَة يابسة فِي الصَّحرَاء لَيْسَ لَهَا رَأس وَلَا ثَمَر وَلَا خضرَة، وقصتها مَشْهُورَة. قَوْله: (وَيُقَال ألجأها: اضطرها) إِشَارَة إِلَى أَن بَعضهم قَالَ: إِن معنى فأجاءها ألجأها، يَعْنِي: ألجأها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِن أجاء، مَنْقُول من: جَاءَ، إلاَّ أَن اسْتِعْمَاله تغير بعد النَّقْل إِلَى معنى الإلجاء.
تَسَاقَطُ تَسْقُطُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنياً} (مَرْيَم: 52) . وَفسّر: تساقط، بقوله: تسْقط، قَرَأَ حَمْزَة بِفَتْح التَّاء وَتَخْفِيف السِّين، وَقَرَأَ حَفْص عَن عَاصِم بِضَم التَّاء وَكسر الْقَاف، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بتَشْديد السِّين، أَصله: تتساقط، أدغمت التَّاء فِي السِّين. قَوْله: (رطبا) ، تَمْيِيز جنياً غضاً طرياً.
قَصِيَاً قاصياً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَحَملته فانتبذت بِهِ مَكَانا قصياً} (مَرْيَم: 22) . وَفسّر قصياً بقوله: قاصياً. وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قصياً أَي بَعيدا. قَالَ ابْن عَبَّاس: أقْصَى وَادي بَيت لحم فِرَارًا من قَومهَا أَن يعيروا وِلَادَتهَا من غير زوج، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَابْن أبي عبلة: قاصياً. وَقَالَ الْفراء: القاصي والقصي بِمَعْنى. قلت: أَصله من القصو وَهُوَ الْبعد، والأقصى الْأَبْعَد.
فَرِياً عَظيمَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فرياً} (مَرْيَم: 72) . وَفسّر: فريا، بقوله: عَظِيما، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : لقد جِئْت شَيْئا فرياً بديعاً، من فرى الْجلد وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل فائق من عجب أَو عمل فَهُوَ فري وَقيل: الفري، من الْوَلَد من الزِّنَا كالشيء المفترى، وَقَالَ قطرب: الفري الْجلد الْجَدِيد من الأسقية، أَي: جِئْت بِأَمْر عَجِيب أَو أَمر جَدِيد لم تسبقي إِلَيْهِ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ نِسْياً لَمْ أكُنْ شَيْئَاً وَقَالَ غَيْرُهُ النِّسْيُ الحَقِيرُ(16/28)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مَرْيَم: {قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسياً منسياً} (مَرْيَم: 32) . وَفسّر ابْن عَبَّاس قَوْله: نسياً، بقوله: لم أكن شَيْئا، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: (نسياً منسياً) ، أَي: لم أخلق وَلم أك شَيْئا. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير ابْن عَبَّاس: النسي، الحقير، وَهُوَ قَول السّديّ، وَقَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: نسياً، بِكَسْر النُّون، وَقَرَأَ حَمْزَة وَحَفْص عَن عَاصِم بِفَتْح النُّون وهما لُغَتَانِ، وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: الْكسر أَعلَى اللغتين، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي من كسر النُّون، قَالَ النسي اسْم لما ينسى بِمَنْزِلَة الْبَعْض، اسْم لما يبعض، والنسي، بِالْفَتْح إسم لما ينسى أَيْضا على أَنه مصدر نَاب عَن الإسم، وَقيل: نسياً، لم أذكر فِيمَا بَقِي.
وَقَالَ أَبُو وائِلٍ عَلِمَتْ مَرْيَمَ أنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قالَتْ إنْ كُنْتَ تَقِيَّاً
أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَذكر هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مَرْيَم: {قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيَّاً} (مَرْيَم: 81) . وَإِنَّمَا قَالَت مَرْيَم هَذَا حِين رَأَتْ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَعْنِي: إِن كنت تقياً فانته عني. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ فِي زمانها رجل، يُقَال لَهُ: تَقِيّ، وَكَانَ فَاجِرًا، فظنته أَيَّاهُ، وَقيل: كَانَ تَقِيّ رجلا من أمثل النَّاس فِي ذَلِك الزَّمَان، فَقَالَت: إِن كنت فِي الصّلاح مثل التقي، فَإِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك، كَيفَ يكون رجل أَجْنَبِي وَامْرَأَة أَجْنَبِيَّة فِي حجاب وَاحِد؟ قَوْله: (ذُو نهية) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الْهَاء أَي: ذُو عقل وانتهاء عَن فعل الْقَبِيح.
قَالَ وكِيعُ عنْ إسرَائِيلَ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ سَرِيَّاً نَهَرٌ صَغيرٌ بالسُّرْيَانِيَّةِ
وَكِيع هُوَ ابْن الْجراح الرُّؤَاسِي الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق يروي عَن جده إِسْحَاق السبيعِي واسْمه عَمْرو، وَهُوَ يروي عَن الْبَراء بن عَازِب: أَن السّري فِي قَوْله تَعَالَى: {فناداها من تحتهَا أَن لَا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سرياً} (مَرْيَم: 42) . هُوَ: النَّهر الصَّغِير بالسُّرْيَانيَّة، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الثَّوْريّ، والطبري من طَرِيق شُعَيْب كِلَاهُمَا عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء مَوْقُوفا، وَعَن ابْن جريج: هُوَ الْجَدْوَل بالسُّرْيَانيَّة، وَقيل: هُوَ نهر صَغِير.
6343 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ عِيسَى وكانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالِ لَهُ جُرَيْجٌ كانَ يُصَلِّي جاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أوْ أُصَلِّي فقالَتْ أللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حتَّى تُرِيَهُ وجوهَ المُومِسَاتِ وكانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأةٌ وكلَّمَتْهُ فَأبى فأتَتْ رَاعِيَاً فأمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فوَلَدَتْ غُلاماً فقالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فأتَوْهُ فكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وأنْزَلُوهُ وسَبُّوهُ فتَوَضَّأ وصلَّى ثُمَّ أتَى الغُلاَمَ فَقَالَ منْ أبُوكَ يَا غُلاَمُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إلاَّ مِنْ طِينٍ وكانَتِ امْرَأةٌ تُرْضِعُ ابْنَاً لَهَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فتَرَكَ ثَدْيَهَا وأقْبَلَ علَى الرَّاكِبِ فَقَالَ أللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أقْبَلَ على ثَدْيِهَا يَمَصُهُ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ كأنِّي أنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمَصُّ إصْبَعَهُ ثُمَّ مرَّ بأمَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذِهِ فتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فقالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ وهذِهِ الأمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ ولَمْ تَفْعَلْ.(16/29)
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُوجد من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِي قَضِيَّة مِيم وفيهَا التَّعَرُّض لميلاد عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه كَانَ يكلم النَّاس وَهُوَ فِي المهد صبي، وَالصَّبِيّ رَضِيع، وَالصَّبِيّ الَّذِي فِي قَضِيَّة جريج كَذَلِك، وَكَذَلِكَ كَانَ صبي الْمَرْأَة الْحرَّة، وَصبي الْأمة، وَصدر الحَدِيث الَّذِي يشْتَمل على قَضِيَّة جريج قد مر فِي الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا هدم حَائِطا فليبن مثله، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَمر أَيْضا فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب إِذا دعت الْأُم وَلَدهَا فِي الصَّلَاة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنشرح الَّذِي مَا شرح، ونكرر مَا شرح أَيْضا فِي بعض الْمَوَاضِع لطول الْعَهْد بِهِ.
قَوْله: (لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ ثَلَاثَة) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الْحصْر نظر. قلت: لَيْسَ من الْأَدَب أَن يُقَال: فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نظر، بل الَّذِي يُقَال فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر الثَّلَاثَة قبل أَن يعلم بِالزَّائِدِ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْنى لم يتَكَلَّم إلاَّ ثَلَاثَة على مَا أُوحِي إِلَيْهِ، وإلاَّ فقد تكلم من الْأَطْفَال سَبْعَة. مِنْهُم: شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس: لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ أَرْبَعَة، فَذكر مِنْهَا شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع الَّذِي قَالَ لأمه، وَهِي ماشطة بنت فِرْعَوْن، لما أَرَادَ فِرْعَوْن إِلْقَاء أمه فِي النَّار: إصبري يَا أُمَّاهُ فَأَنا على الْحق. أخرج الْحَاكِم نَحوه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع فِي قصَّة أَصْحَاب الْأُخْدُود: أَن امْرَأَة جِيءَ بهَا لتُلقى فِي النَّار، فَتَقَاعَسَتْ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ إصبري فَإنَّك على الْحق. وَمِنْهُم: يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرج الثَّعْلَبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن الضَّحَّاك أَن يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم فِي المهد. قَوْله: (جَاءَتْهُ أمه) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فَجَاءَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي رَافع: كَانَ جريج يتعبد فِي صومعته فَأَتَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: روى الحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن مَعَ أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: كَانَت أمه تَأتيه فتناديه فيشرف عَلَيْهَا فيكلمها، فَأَتَتْهُ يَوْمًا وَهُوَ فِي صلَاته، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث أبي رَافع: فَأَتَتْهُ أمه ذَات يَوْم فنادته، فَقَالَت: أَي جريج أشرف عَليّ أُكَلِّمك أَنا أمك. . قَوْله: (أجيبها أَو أُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع، فصادفته يُصَلِّي فَوضعت يَدهَا على حاجبها فَقَالَ: يَا جريج. فَقَالَ: يَا رب أُمِّي وصلاتي فَاخْتَارَ صلَاته، وَرجعت ثمَّ أَتَتْهُ فصادفته يُصَلِّي، فَقَالَت: يَا جريج أَنا أمك فكلمني. وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنَّهَا جَاءَتْهُ ثَلَاث مَرَّات تناديه فِي كل مرّة ثَلَاث مَرَّات، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَقَالَ: أُمِّي وصلاتي؟ لرَبي أوثر صَلَاتي على أُمِّي؟ فَإِن قلت: الْكَلَام فِي الصَّلَاة مُبْطل فَكيف هَذَا؟ قلت: كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي شرعهم، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام، وَقيل: إِنَّه مَحْمُول على أَنه قَالَه فِي نَفسه، لَا أَنه نطق بِهِ. قَوْله: (حَتَّى تريه وُجُوه المومسات) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: حَتَّى تنظر فِي وُجُوه المياميس، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: حَتَّى تريه المومسة، بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَغضِبت فَقَالَت: أللهم لَا يموتن جريج حَتَّى ينظر فِي وُجُوه المومسات، وَهِي جمع مومسة وَهِي الزَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَقَالَت: أَبيت أَن تطلع عَليّ وَجهك؟ لَا أماتك الله حَتَّى تنظر فِي وَجهك زواني الْمَدِينَة، فتعرضت لَهُ امْرَأَة فكلمته فَأبى، فَأَتَت رَاعيا فأمكنته من نَفسهَا. وَفِي رِوَايَة وهب بن جريج بن حَازِم عَن أَبِيه: فَذكر بَنو إِسْرَائِيل عبَادَة جريج، فَقَالَت بغي مِنْهُم: إِن شِئْتُم لأفتننه، قَالُوا: قد شِئْنَا، فَأَتَتْهُ فتعرضت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا، فأمكنت نَفسهَا من رَاع كَانَ يؤوي غنمه إِلَى أصل صومعة جريج، وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: أَنَّهَا كَانَت بنت ملك الْقرْيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: وَكَانَت تأوي إِلَى صومعته راعية ترعى الْغنم، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: وَكَانَ عِنْد صومعته راعي ضَأْن وراعية معزى فَولدت غُلَاما، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَحملت حَتَّى انْقَضتْ أَيَّامهَا فَولدت. قَوْله: (من جريج) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِير: فَسُئِلت مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: من جريج، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: هُوَ من صَاحب الدَّيْر، وَزَاد فِي رِوَايَة أَحْمد: فَأخذت وَكَانَ من زنا مِنْهُم قتل، فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ قَالَت: هُوَ من صَاحب الصومعة. وَزَاد الْأَعْرَج: نزل إِلَيّ فَأَصَابَنِي، وَزَاد أَبُو سَلمَة لي فِي رِوَايَته: فَذَهَبُوا إِلَى الْملك فأخبروه فَقَالَ أدركوه فائتوني بِهِ قَوْله وكسروا صومعته) . وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَأَقْبَلُوا بفؤسهم ومساحيهم إِلَى الدَّيْر فَنَادَوْهُ فَلم يكلمهم، فَأَقْبَلُوا يهدمون ديره، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَمَا شعر حَتَّى سمع بالفؤوس فِي أصل صومعته، فَجعل يسألهم: وَيْلكُمْ مَا لكم؟ فَلم يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَخذ الْحَبل فَتَدَلَّى. قَوْله: (فسبوه) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: وضربوه، فَقَالَ: مَا شَأْنكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّك زَنَيْت بِهَذِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع عَنهُ: فَقَالُوا: أَي جريج إنزل فَأبى وَأخذ يقبل على صلَاته، فَأخذُوا فِي هدم صومعته، فَلَمَّا رأى ذَلِك نزل، فَجعلُوا فِي عُنُقه وعنقها حبلاً فَجعلُوا يطوفون بهما فِي النَّاس، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَقَالَ لَهُ الْملك:(16/30)
وَيحك يَا جريج! كُنَّا نرَاك خير النَّاس فأحبلت هَذِه؟ اذْهَبُوا بِهِ فاصلبوه. وَفِي حَدِيث عمرَان: فَجعلُوا يضربونه وَيَقُولُونَ: مراءٍ تخادع النَّاس بعملك؟ وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا مروا بِهِ نَحْو بَيت الزواني خرجن ينظرن، فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لم يضْحك حَتَّى مر بالزواني. قَوْله: (وَتَوَضَّأ وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: فَقَامَ وَصلى ودعا، وَفِي حَدِيث عمرَان: قَالَ: فتولوا عني، فتولوا عَنهُ، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَتَى الْغُلَام، أَي: ثمَّ أَتَى جريج الْغُلَام، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك يَا غُلَام؟ قَالَ أَنا ابْن الرَّاعِي، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: ثمَّ مسح رَأس الصَّبِي، فَقَالَ: من أَبوك؟ قَالَ: راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة عِنْد أَحْمد: فَوضع إصبعه على بَطنهَا، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَأتى بِالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ وفمه فِي ثديها، فَقَالَ لَهُ جريج: يَا غُلَام من أَبوك؟ فَنزع الْغُلَام فَاه من الثدي، وَقَالَ: أبي راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا أَدخل على ملكهم قَالَ جريج أَيْن الصَّبِي الَّذِي وَلدته؟ فَأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك؟ قَالَ: فلَان، وسمى أَبَاهُ، وَقد مضى فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بِلَفْظ: قَالَ: يابابوس ... ومرَّ شَرحه هُنَاكَ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا اسْم الْغُلَام، وَفِي حَدِيث عمرَان: ثمَّ انْتهى إِلَى شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا غصناً، ثمَّ أَتَى الْغُلَام وَهُوَ فِي مهده، فَضَربهُ بذلك الْغُصْن، فَقَالَ: من أَبوك؟ فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مَانع من وُقُوع الْكل، فَكل روى بِمَا سمع وَمَا قيل بِتَعَدُّد الْقِصَّة فبعيد. قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا إلاَّ من طين) . وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: (إبنوها من طين كَمَا كَانَت) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: (نَبْنِي مَا هدمناه من ديرك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ: لَا، وَلَكِن أعيدوه كَمَا كَانَ، فَفَعَلُوا) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ إِيثَار إِجَابَة الْأُم على صَلَاة التَّطَوُّع، لِأَن إِجَابَة الْأُم وَاجِبَة فَلَا تتْرك لأجل النَّافِلَة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث يزِيد بن حَوْشَب عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَو كَانَ جريج فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أولى من عبَادَة ربه) ، أخرجه الْحسن بن سُفْيَان. قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ: حَوْشَب بن يزِيد الفِهري مَجْهُول، روى عَنهُ ابْنه يزِيد فِي ذكر جريج الراهب، وَتمسك بعض الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر الحَدِيث فِي جَوَاز قطع الصَّلَاة لإجابة الْأُم سَوَاء كَانَت فرضا أَو نفلا، وَالأَصَح عِنْدهم: أَنه على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة إِن كَانَت نفلا وَعلم تأذي الْوَالِد أَو الوالدة وَجَبت الْإِجَابَة، وَإِن كَانَت فرضا وضاق الْوَقْت لم تجب الْإِجَابَة، وَإِن لم يضق وَجَبت عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَخَالفهُ غَيره لِأَنَّهَا تلْزم بِالشُّرُوعِ، وَعند الْمَالِكِيَّة: إِن إِجَابَة الْوَالِد فِي النَّافِلَة أفضل من التَّمَادِي فِيهَا، وَحكى القَاضِي أَبُو الْوَلِيد: أَن ذَلِك يخْتَص بِالْأُمِّ دون الْأَب، وَبِه قَالَ مَكْحُول، وَقيل: لم يقل بِهِ من السّلف غَيره. وَفِيه: قُوَّة يَقِين جريج وَصِحَّة رجائه لِأَنَّهُ استنطق الْمَوْلُود مَعَ كَون الْعَادة أَنه لَا ينْطق، وَلَوْلَا صِحَة رجائه بنطقه لما استنطقه، وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جريج كَانَ نَبيا فَتكون معْجزَة. وَفِيه: عظم بر الْوَالِدين وَإجَابَة دعائهما، وَلَو كَانَ الْوَلَد مَعْذُورًا لَكِن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك بِحَسب الْمَقَاصِد وَفِيه صَاحب الصدْق مَعَ الله تَعَالَى لَا تضره الْفِتَن وَفِيه اثبات الْكَرَامَة للأولياء وَوُقُوع الْكَرَامَة لَهُم بإختيارهم وطلبهم. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالأشد فِي الْعِبَادَة لمن يعلم من نَفسه قُوَّة على ذَلِك. وَفِيه: أَن الْوضُوء لَا يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، خلافًا لمن زعم ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة الْغرَّة والتحجيل فِي الْآخِرَة. وَفِيه: أَن مرتكب الْفَاحِشَة لَا تبقى لَهُ حُرْمَة. وَفِيه: أَن الْفَزع فِي الْأُمُور المهمة إِلَى الله تَعَالَى يكون بالتوجه إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَن من شرع بني إِسْرَائِيل أَن الْمَرْأَة تصدق فِيمَا تدعيه على الرِّجَال من الْوَطْء، وَيلْحق بِهِ الْوَلَد، وَأَنه لَا ينفع الرجل جحد ذَلِك إلاَّ بِحجَّة تدفع قَوْلهَا.
قَوْله: (وَكَانَت امْرَأَة) إِلَى آخِره، قَضِيَّة أُخْرَى تشبه قَضِيَّة جريج (وَامْرَأَة) بِالرَّفْع فَاعل: كَانَت، وَهِي تَامَّة. قَوْله: (فَمر بهَا رجل) ويروى: إِذْ مر بهَا رَاكب جمل، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من خلاس عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَارس متكبر. قَوْله: (ذُو شارة) ، بالشين الْمُعْجَمَة وبالراء المخففة أَي: ذُو حسن وجمال، وَقيل: صَاحب هَيْئَة وملبس حسن يتعجب مِنْهُ ويشار إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة خلاس: (ذُو شارة حَسَنَة) . قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَفِيه الْمُبَالغَة فِي إِيضَاح الْخَبَر بتمثيله بِالْفِعْلِ. قَوْله: (ثمَّ مر بِأمة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: (بِأمة تضرب) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (تجرر ويلعب بهَا) ، وتجرر بجيم مَفْتُوحَة بعْدهَا رَاء مُشَدّدَة ثمَّ رَاء أُخْرَى، وَفِي رِوَايَة خلاس: (أَنَّهَا كَانَت حبشية أَو زنجية وَأَنَّهَا مَاتَت، فجروها حَتَّى(16/31)
ألقوها) . قَوْله: (فَقَالَت: لِمَ ذلِك؟) أَي: قَالَت الْأُم لابنها: لم قلت هَكَذَا؟ حَاصله أَنَّهَا سَأَلت مِنْهُ عَن سَبَب ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الإبن: (الرَّاكِب جَبَّار) وَفِي رِوَايَة أَحْمد، فَقَالَ: يَا أمتاه {أما الرَّاكِب ذُو الشارة فجبار من الْجَبَابِرَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَإِنَّهُ كَانَ جباراً، قَوْله: (سرقتِ زنيتِ) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا بِكَسْر التَّاء لخطاب الْمُؤَنَّث، وَالْآخر بسكونها على الْخَبَر، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (يَقُولُونَ سرقت وَلم تسرق، وزنيت وَلم تزنِ، وَهِي تَقول: حسبي الله) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (يَقُولُونَ لَهَا: تَزني؟ وَتقول: حسبي الله، وَيَقُولُونَ لَهَا: تسرقي؟ وَتقول: حسبي الله) . قَوْله: (وَلم تفعل) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنَّهَا لم تسرق وَلم تزنِ.
6343 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ عِيسَى وكانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالِ لَهُ جُرَيْجٌ كانَ يُصَلِّي جاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أوْ أُصَلِّي فقالَتْ أللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حتَّى تُرِيَهُ وجوهَ المُومِسَاتِ وكانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأةٌ وكلَّمَتْهُ فَأبى فأتَتْ رَاعِيَاً فأمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فوَلَدَتْ غُلاماً فقالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فأتَوْهُ فكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وأنْزَلُوهُ وسَبُّوهُ فتَوَضَّأ وصلَّى ثُمَّ أتَى الغُلاَمَ فَقَالَ منْ أبُوكَ يَا غُلاَمُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إلاَّ مِنْ طِينٍ وكانَتِ امْرَأةٌ تُرْضِعُ ابْنَاً لَهَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فتَرَكَ ثَدْيَهَا وأقْبَلَ علَى الرَّاكِبِ فَقَالَ أللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أقْبَلَ على ثَدْيِهَا يَمَصُهُ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ كأنِّي أنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمَصُّ إصْبَعَهُ ثُمَّ مرَّ بأمَةٍ فقالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذِهِ فتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فقالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ وهذِهِ الأمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ ولَمْ تَفْعَلْ. مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُوجد من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِي قَضِيَّة مِيم وفيهَا التَّعَرُّض لميلاد عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه كَانَ يكلم النَّاس وَهُوَ فِي المهد صبي، وَالصَّبِيّ رَضِيع، وَالصَّبِيّ الَّذِي فِي قَضِيَّة جريج كَذَلِك، وَكَذَلِكَ كَانَ صبي الْمَرْأَة الْحرَّة، وَصبي الْأمة، وَصدر الحَدِيث الَّذِي يشْتَمل على قَضِيَّة جريج قد مر فِي الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا هدم حَائِطا فليبن مثله، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَمر أَيْضا فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب إِذا دعت الْأُم وَلَدهَا فِي الصَّلَاة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنشرح الَّذِي مَا شرح، ونكرر مَا شرح أَيْضا فِي بعض الْمَوَاضِع لطول الْعَهْد بِهِ.
قَوْله: (لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ ثَلَاثَة) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الْحصْر نظر. قلت: لَيْسَ من الْأَدَب أَن يُقَال: فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نظر، بل الَّذِي يُقَال فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر الثَّلَاثَة قبل أَن يعلم بِالزَّائِدِ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْمَعْنى لم يتَكَلَّم إلاَّ ثَلَاثَة على مَا أُوحِي إِلَيْهِ، وإلاَّ فقد تكلم من الْأَطْفَال سَبْعَة. مِنْهُم: شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من حَدِيث ابْن عَبَّاس: لم يتَكَلَّم فِي المهد إلاَّ أَرْبَعَة، فَذكر مِنْهَا شَاهد يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع الَّذِي قَالَ لأمه، وَهِي ماشطة بنت فِرْعَوْن، لما أَرَادَ فِرْعَوْن إِلْقَاء أمه فِي النَّار: إصبري يَا أُمَّاهُ فَأَنا على الْحق. أخرج الْحَاكِم نَحوه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَمِنْهُم: الصَّبِي الرَّضِيع فِي قصَّة أَصْحَاب الْأُخْدُود: أَن امْرَأَة جِيءَ بهَا لتُلقى فِي النَّار، فَتَقَاعَسَتْ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ إصبري فَإنَّك على الْحق. وَمِنْهُم: يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرج الثَّعْلَبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن الضَّحَّاك أَن يحيى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم فِي المهد. قَوْله: (جَاءَتْهُ أمه) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فَجَاءَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي رَافع: كَانَ جريج يتعبد فِي صومعته فَأَتَتْهُ أمه، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: روى الحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن مَعَ أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: كَانَت أمه تَأتيه فتناديه فيشرف عَلَيْهَا فيكلمها، فَأَتَتْهُ يَوْمًا وَهُوَ فِي صلَاته، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث أبي رَافع: فَأَتَتْهُ أمه ذَات يَوْم فنادته، فَقَالَت: أَي جريج أشرف عَليّ أُكَلِّمك أَنا أمك. . قَوْله: (أجيبها أَو أُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع، فصادفته يُصَلِّي فَوضعت يَدهَا على حاجبها فَقَالَ: يَا جريج. فَقَالَ: يَا رب أُمِّي وصلاتي فَاخْتَارَ صلَاته، وَرجعت ثمَّ أَتَتْهُ فصادفته يُصَلِّي، فَقَالَت: يَا جريج أَنا أمك فكلمني. وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنَّهَا جَاءَتْهُ ثَلَاث مَرَّات تناديه فِي كل مرّة ثَلَاث مَرَّات، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَقَالَ: أُمِّي وصلاتي؟ لرَبي أوثر صَلَاتي على أُمِّي؟ فَإِن قلت: الْكَلَام فِي الصَّلَاة مُبْطل فَكيف هَذَا؟ قلت: كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي شرعهم، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام، وَقيل: إِنَّه مَحْمُول على أَنه قَالَه فِي نَفسه، لَا أَنه نطق بِهِ. قَوْله: (حَتَّى تريه وُجُوه المومسات) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: حَتَّى تنظر فِي وُجُوه المياميس، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: حَتَّى تريه المومسة، بِالْإِفْرَادِ، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَغضِبت فَقَالَت: أللهم لَا يموتن جريج حَتَّى ينظر فِي وُجُوه المومسات، وَهِي جمع مومسة وَهِي الزَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَقَالَت: أَبيت أَن تطلع عَليّ وَجهك؟ لَا أماتك الله حَتَّى تنظر فِي وَجهك زواني الْمَدِينَة، فتعرضت لَهُ امْرَأَة فكلمته فَأبى، فَأَتَت رَاعيا فأمكنته من نَفسهَا. وَفِي رِوَايَة وهب بن جريج بن حَازِم عَن أَبِيه: فَذكر بَنو إِسْرَائِيل عبَادَة جريج، فَقَالَت بغي مِنْهُم: إِن شِئْتُم لأفتننه، قَالُوا: قد شِئْنَا، فَأَتَتْهُ فتعرضت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا، فأمكنت نَفسهَا من رَاع كَانَ يؤوي غنمه إِلَى أصل صومعة جريج، وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: أَنَّهَا كَانَت بنت ملك الْقرْيَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: وَكَانَت تأوي إِلَى صومعته راعية ترعى الْغنم، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: وَكَانَ عِنْد صومعته راعي ضَأْن وراعية معزى فَولدت غُلَاما، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَحملت حَتَّى انْقَضتْ أَيَّامهَا فَولدت. قَوْله: (من جريج) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِير: فَسُئِلت مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: من جريج، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: هُوَ من صَاحب الدَّيْر، وَزَاد فِي رِوَايَة أَحْمد: فَأخذت وَكَانَ من زنا مِنْهُم قتل، فَقيل لَهَا: مِمَّن هَذَا؟ قَالَت: هُوَ من صَاحب الصومعة. وَزَاد الْأَعْرَج: نزل إِلَيّ فَأَصَابَنِي، وَزَاد أَبُو سَلمَة لي فِي رِوَايَته: فَذَهَبُوا إِلَى الْملك فأخبروه فَقَالَ أدركوه فائتوني بِهِ قَوْله وكسروا صومعته) . وَفِي رِوَايَة أبي رَافع فَأَقْبَلُوا بفؤسهم ومساحيهم إِلَى الدَّيْر فَنَادَوْهُ فَلم يكلمهم، فَأَقْبَلُوا يهدمون ديره، وَفِي حَدِيث عمرَان: فَمَا شعر حَتَّى سمع بالفؤوس فِي أصل صومعته، فَجعل يسألهم: وَيْلكُمْ مَا لكم؟ فَلم يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَخذ الْحَبل فَتَدَلَّى. قَوْله: (فسبوه) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: وضربوه، فَقَالَ: مَا شَأْنكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّك زَنَيْت بِهَذِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع عَنهُ: فَقَالُوا: أَي جريج إنزل فَأبى وَأخذ يقبل على صلَاته، فَأخذُوا فِي هدم صومعته، فَلَمَّا رأى ذَلِك نزل، فَجعلُوا فِي عُنُقه وعنقها حبلاً فَجعلُوا يطوفون بهما فِي النَّاس، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَقَالَ لَهُ الْملك: وَيحك يَا جريج} كُنَّا نرَاك خير النَّاس فأحبلت هَذِه؟ اذْهَبُوا بِهِ فاصلبوه. وَفِي حَدِيث عمرَان: فَجعلُوا يضربونه وَيَقُولُونَ: مراءٍ تخادع النَّاس بعملك؟ وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا مروا بِهِ نَحْو بَيت الزواني خرجن ينظرن، فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لم يضْحك حَتَّى مر بالزواني. قَوْله: (وَتَوَضَّأ وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: فَقَامَ وَصلى ودعا، وَفِي حَدِيث عمرَان: قَالَ: فتولوا عني، فتولوا عَنهُ، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَتَى الْغُلَام، أَي: ثمَّ أَتَى جريج الْغُلَام، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك يَا غُلَام؟ قَالَ أَنا ابْن الرَّاعِي، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: ثمَّ مسح رَأس الصَّبِي، فَقَالَ: من أَبوك؟ قَالَ: راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة عِنْد أَحْمد: فَوضع إصبعه على بَطنهَا، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَأتى بِالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ وفمه فِي ثديها، فَقَالَ لَهُ جريج: يَا غُلَام من أَبوك؟ فَنزع الْغُلَام فَاه من الثدي، وَقَالَ: أبي راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا أَدخل على ملكهم قَالَ جريج أَيْن الصَّبِي الَّذِي وَلدته؟ فَأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك؟ قَالَ: فلَان، وسمى أَبَاهُ، وَقد مضى فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بِلَفْظ: قَالَ: يابابوس ... ومرَّ شَرحه هُنَاكَ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا اسْم الْغُلَام، وَفِي حَدِيث عمرَان: ثمَّ انْتهى إِلَى شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا غصناً، ثمَّ أَتَى الْغُلَام وَهُوَ فِي مهده، فَضَربهُ بذلك الْغُصْن، فَقَالَ: من أَبوك؟ فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مَانع من وُقُوع الْكل، فَكل روى بِمَا سمع وَمَا قيل بِتَعَدُّد الْقِصَّة فبعيد. قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا إلاَّ من طين) . وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: (إبنوها من طين كَمَا كَانَت) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: (نَبْنِي مَا هدمناه من ديرك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ: لَا، وَلَكِن أعيدوه كَمَا كَانَ، فَفَعَلُوا) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ إِيثَار إِجَابَة الْأُم على صَلَاة التَّطَوُّع، لِأَن إِجَابَة الْأُم وَاجِبَة فَلَا تتْرك لأجل النَّافِلَة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث يزِيد بن حَوْشَب عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَو كَانَ جريج فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أولى من عبَادَة ربه) ، أخرجه الْحسن بن سُفْيَان. قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ: حَوْشَب بن يزِيد الفِهري مَجْهُول، روى عَنهُ ابْنه يزِيد فِي ذكر جريج الراهب، وَتمسك بعض الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر الحَدِيث فِي جَوَاز قطع الصَّلَاة لإجابة الْأُم سَوَاء كَانَت فرضا أَو نفلا، وَالأَصَح عِنْدهم: أَنه على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة إِن كَانَت نفلا وَعلم تأذي الْوَالِد أَو الوالدة وَجَبت الْإِجَابَة، وَإِن كَانَت فرضا وضاق الْوَقْت لم تجب الْإِجَابَة، وَإِن لم يضق وَجَبت عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَخَالفهُ غَيره لِأَنَّهَا تلْزم بِالشُّرُوعِ، وَعند الْمَالِكِيَّة: إِن إِجَابَة الْوَالِد فِي النَّافِلَة أفضل من التَّمَادِي فِيهَا، وَحكى القَاضِي أَبُو الْوَلِيد: أَن ذَلِك يخْتَص بِالْأُمِّ دون الْأَب، وَبِه قَالَ مَكْحُول، وَقيل: لم يقل بِهِ من السّلف غَيره. وَفِيه: قُوَّة يَقِين جريج وَصِحَّة رجائه لِأَنَّهُ استنطق الْمَوْلُود مَعَ كَون الْعَادة أَنه لَا ينْطق، وَلَوْلَا صِحَة رجائه بنطقه لما استنطقه، وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جريج كَانَ نَبيا فَتكون معْجزَة. وَفِيه: عظم بر الْوَالِدين وَإجَابَة دعائهما، وَلَو كَانَ الْوَلَد مَعْذُورًا لَكِن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك بِحَسب الْمَقَاصِد وَفِيه صَاحب الصدْق مَعَ الله تَعَالَى لَا تضره الْفِتَن وَفِيه اثبات الْكَرَامَة للأولياء وَوُقُوع الْكَرَامَة لَهُم بإختيارهم وطلبهم. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالأشد فِي الْعِبَادَة لمن يعلم من نَفسه قُوَّة على ذَلِك. وَفِيه: أَن الْوضُوء لَا يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، خلافًا لمن زعم ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة الْغرَّة والتحجيل فِي الْآخِرَة. وَفِيه: أَن مرتكب الْفَاحِشَة لَا تبقى لَهُ حُرْمَة. وَفِيه: أَن الْفَزع فِي الْأُمُور المهمة إِلَى الله تَعَالَى يكون بالتوجه إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَن من شرع بني إِسْرَائِيل أَن الْمَرْأَة تصدق فِيمَا تدعيه على الرِّجَال من الْوَطْء، وَيلْحق بِهِ الْوَلَد، وَأَنه لَا ينفع الرجل جحد ذَلِك إلاَّ بِحجَّة تدفع قَوْلهَا.
قَوْله: (وَكَانَت امْرَأَة) إِلَى آخِره، قَضِيَّة أُخْرَى تشبه قَضِيَّة جريج (وَامْرَأَة) بِالرَّفْع فَاعل: كَانَت، وَهِي تَامَّة. قَوْله: (فَمر بهَا رجل) ويروى: إِذْ مر بهَا رَاكب جمل، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من خلاس عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَارس متكبر. قَوْله: (ذُو شارة) ، بالشين الْمُعْجَمَة وبالراء المخففة أَي: ذُو حسن وجمال، وَقيل: صَاحب هَيْئَة وملبس حسن يتعجب مِنْهُ ويشار إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة خلاس: (ذُو شارة حَسَنَة) . قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَفِيه الْمُبَالغَة فِي إِيضَاح الْخَبَر بتمثيله بِالْفِعْلِ. قَوْله: (ثمَّ مر بِأمة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: (بِأمة تضرب) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (تجرر ويلعب بهَا) ، وتجرر بجيم مَفْتُوحَة بعْدهَا رَاء مُشَدّدَة ثمَّ رَاء أُخْرَى، وَفِي رِوَايَة خلاس: (أَنَّهَا كَانَت حبشية أَو زنجية وَأَنَّهَا مَاتَت، فجروها حَتَّى ألقوها) . قَوْله: (فَقَالَت: لِمَ ذلِك؟) أَي: قَالَت الْأُم لابنها: لم قلت هَكَذَا؟ حَاصله أَنَّهَا سَأَلت مِنْهُ عَن سَبَب ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الإبن: (الرَّاكِب جَبَّار) وَفِي رِوَايَة أَحْمد، فَقَالَ: يَا أمتاه! أما الرَّاكِب ذُو الشارة فجبار من الْجَبَابِرَة، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَإِنَّهُ كَانَ جباراً، قَوْله: (سرقتِ زنيتِ) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا بِكَسْر التَّاء لخطاب الْمُؤَنَّث، وَالْآخر بسكونها على الْخَبَر، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (يَقُولُونَ سرقت وَلم تسرق، وزنيت وَلم تزنِ، وَهِي تَقول: حسبي الله) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (يَقُولُونَ لَهَا: تَزني؟ وَتقول: حسبي الله، وَيَقُولُونَ لَهَا: تسرقي؟ وَتقول: حسبي الله) . قَوْله: (وَلم تفعل) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنَّهَا لم تسرق وَلم تزنِ.
7343 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبَرَنَا هِشامٌ عنْ مَعْمَرٍ. حدَّثني مَحْمودٌ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاق أخبرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني سَعيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنعَتَهُ فإذَا رَجُل حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأسِ كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ قَالَ ولَقِيتُ عِيسَى فنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رَبْعَةٌ أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِن دِيماسٍ يَعْنِي الحَمَّامَ ورَأيْتُ إبْرَاهِيمَ وأنَا أشْبَهُ ولَدِهِ بِهِ قالَ وأُتِيتُ بإنَاءَيْنِ أحَدُهُمَا لَبَنٌ والآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي خُذْ أيُّهُمَا شِئْتَ فأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الفِطْرَةَ أوْ أصَبْتَ الفِطْرَةَ أمَّا إنَّكَ لَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهَا التَّعَرُّض لعيسى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهنا صرح بِذكر عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} (طه: 9، النازعات: 51) . فَإِنَّهُ إخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أَيْضا. وَأخرجه هَهُنَا من طَرِيقين. أَحدهمَا: عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف عَن معمر. وَالْآخر: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (فنعته) ، أَي: وَصفه. قَوْله: (حسبته) الْقَائِل حسبته هُوَ عبد الرَّزَّاق. قَوْله: (مُضْطَرب) ، أَي: طَوِيل غير الشَّديد، وَقيل: الْخَفِيف اللَّحْم، وَقد تقدم فِي رِوَايَة هِشَام بِلَفْظ: ضرب، وَفسّر بالخفيف وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الْوَصْف مُغَاير لقَوْله بعد هَذَا: إِنَّه جسيم، قَالَ: وَالَّذِي وَقع نَعته بِأَنَّهُ جسيم إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّال، وَقَالَ عِيَاض: رِوَايَة من قَالَ: ضرب، أصح من رِوَايَة من قَالَ: مُضْطَرب، لما فِيهَا من الشَّك، قَالَ: وَقد وَقع فِي رِوَايَة أُخْرَى على مَا يَأْتِي الْآن: جسيم، وَهُوَ ضد الضَّرْب إلاَّ أَن يُرَاد بالجسيم الزِّيَادَة فِي الطول، وَقَالَ التَّيْمِيّ: لَعَلَّ بعض لفظ هَذَا الحَدِيث دخل فِي بعض لِأَن الجسيم ورد فِي صفة الدَّجَّال لَا فِي صفة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (ربعَة) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيجوز فتحهَا، وَهُوَ المربوع وَالْمرَاد أَنه وسط لَا طَوِيل وَلَا قصير.
8343 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثيرٍ أخْبرَنا إسْرَائِيلُ أخبَرَنا عُثْمَانُ بنُ الْمُغِيرَةِ عنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ الْنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأيْتُ عِيساى ومُوسَى وإبْرَاهِيمَ فأمَّا عِيسَى فأحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وأمَّا مُوسَى فآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كأنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ذكر لفظ عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس ابْن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَعُثْمَان هُوَ ابْن الْمُغيرَة الثَّقَفِيّ الْكُوفِي الْأَعْشَى، وَيُقَال لَهُ: عُثْمَان بن أبي زرْعَة، وَأَبُو زرْعَة هُوَ كنية الْمُغيرَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ من صغَار التَّابِعين، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَهُوَ يروي عَن مُجَاهِد عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ أَبُو مَسْعُود الْحَافِظ: أَخطَأ البُخَارِيّ فِي قَوْله: مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن كثير وَإِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات المسموعة عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ وَلَا ادري إِلَى آخر مَا قَالَه التَّيْمِيّ ثمَّ قَالَ ابو ذَر(16/32)
ابْن مَنْصُور السَّلُولي وَابْن أبي زَائِدَة وَيحيى بن آدم وَغَيرهم عَن إِسْرَائِيل عَن عُثْمَان عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الغساني: أَخطَأ البُخَارِيّ فِيمَا قَالَ: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَالصَّوَاب: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ التَّيْمِيّ: قَالَ بَعضهم: لَا أَدْرِي أهكذا حدث بِهِ البُخَارِيّ أَو غلط فِيهِ الْفربرِي، لِأَن الْمَحْفُوظ رِوَايَة ابْن كثير عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس. قلت: أَرَادَ التَّيْمِيّ من قَوْله: قَالَ بَعضهم، أَبَا ذَر: لِأَنِّي رَأَيْت فِي جَمِيع الطّرق عَن مُحَمَّد بن كثير وَغَيره عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَالَّذِي يظْهر من كَلَامهم أَن الصَّوَاب: مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَكَذَا قَالَ ابْن مَنْدَه بعد أَن أخرج الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالصَّوَاب: عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ بَعضهم: وَيَقَع فِي خاطري أَن الْوَهم فِيهِ من غير البُخَارِيّ فَإِن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرجه من طَرِيق نصر بن عَليّ عَن أبي أَحْمد، وَقَالَ فِيهِ: عَن ابْن عَبَّاس وَلم يُنَبه على أَن البُخَارِيّ قَالَ فِيهِ: عَن ابْن عمر، فَلَو كَانَ وَقع لَهُ كَذَلِك لنبه عَلَيْهِ كعادته. انْتهى. قلت: لَا يلْزم من عدم تنبيهه على هَذَا أَن يكون الْوَهم فِيهِ من غير البُخَارِيّ، إِذْ البُخَارِيّ غير مَعْصُوم. قَوْله: (جعد) ، أَي: جعد الشّعْر وَهُوَ ضد السبط لِأَن السبط أَكثر مَا فِي شُعُور الْعَجم. قَوْله: (آدم) أَي: أسمر. قَوْله: (جسيم) ، وَقد مر فِيمَا مضى: أَنه ضرب، أَي: خَفِيف اللَّحْم وَأَنه مُضْطَرب، فَهَذَا يضاد قَوْله: جسيم، وَلِهَذَا قَالَ التَّيْمِيّ: كَأَن بعض لفظ الحَدِيث دخل فِي بعض، لِأَن الجسيم إِنَّمَا ورد فِي صفة الدَّجَّال، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الجسامة كَمَا تكون فِي الشَّخْص بِاعْتِبَار السّمن تكون فِيهِ أَيْضا بِاعْتِبَار الطول، وَلِهَذَا قَالَ: (كَأَنَّهُ من رجال الزط) لِأَن الزط، بِضَم الزَّاي وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة: جنس من السودَان طوال.
9343 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ حدَّثنا مُوسَى عنْ نافِعٍ قَالَ عبْدُ الله ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَاً بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ المَسيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إنَّ الله لَيْسَ بِأعْوَرَ ألاَ إنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العَيْنِ الْيُمْنَى كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَة. وأرَاني اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنامِ فإذَا رَجُلٌ آدَمُ كأحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رأسُهُ مَاء واضِعَاً يَدَيْهِ علَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وهْوَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ فقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا المَسِيحُ بنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأيْتُ رجُلاً ورَاءَهُ جَعْدَاً قَطِطاً أعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كأشْبَهِ مَنْ رَأيْتُ بابنِ قَطَنِ واضِعاً يَدَيْهِ علَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بالْبَيْتِ فقُلْتُ مَنْ هاذَا قَالُوا المَسِيحُ الدَّجَّالُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة على مَا ذكرنَا. وَأَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم: واسْمه أنس بن عِيَاض، ومُوسَى هُوَ ابْن عقبَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن الْمسَيبِي عَن أنس بن عِيَاض، وَفِي الْفِتَن عَن مُحَمَّد ابْن عماد.
قَوْله: (بَين ظري النَّاس) ، ويروى: ظهراني النَّاس بِزِيَادَة النُّون أَي: جَالِسا فِي وسط النَّاس، وَالْمرَاد أَنه جلس بَينهم مستظهراً لَا مستخفياً، وَقد مر تَفْسِير هَذَا غير مرّة، وَيُقَال: إِن هَذِه اللَّفْظَة زَائِدَة. قَوْله: (أَلا أَن الْمَسِيح) ، كلمة ألاَ، للتّنْبِيه كَأَنَّهُ يُنَبه السامعين ليكونوا على ضبط من سَماع كَلَامه. قَوْله: (أَعور الْعين الْيُمْنَى) ، عين الجثة أَو الْجِهَة الْيُمْنَى، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن حُذَيْفَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الدَّجَّال أَعور عين الْيُسْرَى، وَالْجمع بَينهمَا أَن يقدر فِيهَا أَن إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَة وَالْأُخْرَى مَعِيبَة، فَيصح أَن يُقَال لكل وَاحِدَة: عوراء، إِذْ الأَصْل فِي العور الْعَيْب. قَوْله: (كَأَن عينه عنبة طافية) ، الطافية الناتئة عَن حد أُخْتهَا من الطفو، وَهُوَ أَن يَعْلُو المَاء مَا وَقع فِيهِ وَيُقَال: طافئة، بِالْهَمْز أَي: ذَاهِب ضوؤها، وَبِدُون الْهَمْز: أَي ناتئة بارزة، وَقَالَ الْخطابِيّ: العنبة الطافية هِيَ الْحبَّة الْكَبِيرَة الَّتِي خرجت عَن حد أخواتها. قلت: طافية بِلَا همز من طفا الشَّيْء يطفو من بَاب معتل اللَّام الواوي وبالهمزة: من طفأ يطفأ من بَاب علم يعلم، يُقَال: طفئت النَّار تطفأ طفؤاً، وأطفأتها أَنا. فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: أَنه جاحظ الْعين كَأَنَّهَا كَوْكَب، وَفِي(16/33)
أُخْرَى: أَنَّهَا لَيست بناتئة وَلَا حجراء، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم، قَالَ الْهَرَوِيّ: كَانَت اللَّفْظَة مَحْفُوظَة فمعناها أَنَّهَا لَيست بصلبة متحجرة، وَقد رويت: جحراء، بِتَقْدِيم الْجِيم، أَي: غائرة متجحرة فِي نقرتها، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة دون الْحَاء، وبالجيم فِي أَوله، وَمَعْنَاهَا: الضيقة الَّتِي لَهَا غمص ورمص، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من حَدِيث أبي بن كَعْب: إِحْدَى عَيْنَيْهِ كَأَنَّهَا زجاجة خضراء، وَعَن ابْن عمر: إِحْدَى عَيْنَيْهِ مطموسة وَالْأُخْرَى ممزوجة بِالدَّمِ كَأَنَّهَا الزهرة. قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يُقَال: إِن اخْتِلَاف الْأَوْصَاف بِحَسب اخْتِلَاف الْعَينَيْنِ. قَوْله: (وَأرَانِي) بِفَتْح الْهمزَة، أَي: أرى نَفسِي اللَّيْلَة، أَي: فِي اللَّيْلَة. قَوْله: (آدم) ، بِالْمدِّ لِأَنَّهُ أفعل من الأدمة، وَهِي السمرَة الشَّدِيدَة. قَوْله: (وَمن أَدَم الرِّجَال) ، بِضَم الْهمزَة جمع: أَدَم. قَوْله: (لمته) ، بِكَسْر اللَّام: وَهِي الشّعْر إِذا جَاوز شَحم الْأُذُنَيْنِ، سميت بذلك لِأَنَّهَا ألمت بالمنكبين فَإِذا بلغت الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جمة، وَإِذا قصرت عَنْهُمَا فَهِيَ وفرة. قَوْله: (رجل الشّعْر) ، بِكَسْر الْجِيم بِمَعْنى: منظف الشّعْر ومسرحه، ومحسنه، وَهُوَ من الترجيل وَهُوَ تَسْرِيح الشّعْر وتنظيفه، وَفِي رِوَايَة مَالك: لَهُ لمة قد رجلهَا فَهِيَ تقطر مَاء. قَوْله: (تقطر رَأسه مَاء) ، وَهُوَ المَاء الَّذِي رجلهَا بِهِ لقرب ترجيله، أَو هُوَ اسْتِعَارَة من نضارته وجماله. قَوْله: (جَعدًا) ، قد ذكرنَا أَن الجعودة تحْتَمل الذَّم والمدح بِحَسب الِاسْتِعْمَال، وَهُوَ فِي صفة عِيسَى مدح، وَفِي صفة الدَّجَّال ذمّ. قَوْله: (قططاً) ، بِفَتْح الْقَاف والطاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَقد تكسر الطَّاء الأولى، وَالْمرَاد بِهِ: شدَّة جعودة الشّعْر. قَوْله: (أَعور عين الْيُمْنَى) من بَاب إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته، وَهُوَ عِنْد الْكُوفِيّين ظَاهر، وَعند الْبَصرِيين تَقْدِيره: عين صفحة وَجهه الْيُمْنَى. قَوْله: (كأشبه من رَأَيْت) ، بِضَم التَّاء وَفتحهَا. قَوْله: (بِابْن قطن) ، بِفَتْح الْقَاف والطاء: واسْمه عبد الْعُزَّى بن قطن بن عَمْرو الجاهلي الْخُزَاعِيّ، وَأمه هَالة بنت خويلد أُخْت خَدِيجَة بنت خويلد، وَكَانَت عِنْد الرّبيع بن عبد الْعُزَّى بن عبد شمس فَولدت لَهُ أَبَا الْعَاصِ، ثمَّ خلف عَلَيْهَا بعده أَخُوهُ ربيعَة بن عبد الْعُزَّى، ثمَّ خلف عَلَيْهَا وهب بن عبد فَولدت لَهُ أَوْلَادًا، ثمَّ خلف عَلَيْهَا قطن بن عَمْرو بن حبيب بن سعد بن عَائِذ بن مَالك بن جذيمة وَهُوَ المصطلق فَولدت لَهُ عبد الْعُزَّى بن قطن. قَوْله: (وَاضِعا يَدَيْهِ) ، نضب على الْحَال.
تابَعَهُ عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ
أَي: تَابع مُوسَى بن عقبَة عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة مُسلم من طَرِيق أبي أُسَامَة وَمُحَمّد بن بشر جَمِيعًا عَن عبيد الله بن عمر فِي ذكر الدَّجَّال فَقَط إِلَى قَوْله: عنبة طافية، وَلم يذكر مَا بعده.
1443 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بنَ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنِي الزُّهْرِيُّ عنْ سالِمٍ عنْ أبِيهِ قَالَ ل اَ وَالله مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعِيسَى أحْمَرُ ولَكِنْ قَالَ بَيْنَما أنَا نائِمٌ أطُوفُ بالْكَعْبَةِ فإذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعْرِ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رأسُهُ مَاء أوْ يَهْرَاقُ رأسُهُ مَاء فقُلْتُ مَنْ هاذَا قالُوا ابنُ مَرْيَمَ فذَهَبْتُ ألْتَفِتُ فإذَا رَجُلٌ أحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأسِ أعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هاذَا قَالُوا هذَا الدَّجَّالُ وأقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهَاً ابنُ قَطَنٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ابْن مَرْيَم) . وَأحمد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد أَبُو مُحَمَّد الْأَزْرَقِيّ الْمَكِّيّ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد إِبْنِ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يروي عَن أَبِيه عبد الله بن عمر. وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: قَالَ عبد الله بن عمر. قَوْله: (لَا وَالله مَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي صفة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَحْمَر، وَلَكِن قَالَ ... إِلَى آخِره. وَفِيه: جَوَاز الْيَمين على غَلَبَة الظَّن، لِأَن ابْن عمر ظن أَن الْوَصْف اشْتبهَ على الرَّاوِي، وَأَن الْمَوْصُوف بِكَوْنِهِ أَحْمَر إِنَّمَا هُوَ الدَّجَّال لَا عِيسَى،(16/34)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقرب ذَلِك أَن كلا مِنْهُمَا يُقَال لَهُ: الْمَسِيح، وَهِي صفة مدح فِي حق عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصفَة ذمّ فِي حق الدَّجَّال كَمَا ذكر، وَكَأن ابْن عمر قد تحقق سَمعه فِي وصف عِيسَى بِأَنَّهُ آدم فجوز الْحلف على غَلَبَة الظَّن، وَأَن من وَصفه بِأَنَّهُ أَحْمَر قد وهم فِيهِ. قَوْله: (بَينا أَنا نَائِم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين فأشبعت الفتحة ألفا، وَأَنه ظرف مُضَاف إِلَى جملَة، وَهَذَا يدل على أَن رُؤْيَته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذِه الْمرة غير رُؤْيَته الَّتِي ذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي مضى عَن قريب فِي هَذَا الْبَاب، فَإِن تِلْكَ كَانَت لَيْلَة الْإِسْرَاء. فَإِن قلت: الَّتِي كَانَت فِي الْإِسْرَاء على الِاخْتِلَاف فِي الْإِسْرَاء: هَل كَانَ فِي النّوم أَو فِي الْيَقَظَة؟ قلت: قد قيل: إِنَّه كَانَ فِي الْمَنَام، وَلَكِن الصَّحِيح أَن الْإِسْرَاء كَانَ فِي الْيَقَظَة، وَأَن رُؤْيَته الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَت فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، كَانَت بالأشخاص، وَإِن زعم بَعضهم أَنَّهَا كَانَت بالأرواح. فَإِن قلت: إِذا كَانَت الرُّؤْيَة فِي الْمَنَام فَلَا إِشْكَال، وَإِذا كَانَت فِي الْيَقَظَة فَفِيهِ إِشْكَال، وَيزِيد الْإِشْكَال مَا رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: (أما مُوسَى فَرجل آدم جعد على جمل أَحْمَر مَخْطُوم بخلبة كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ إِذا انحدر فِي الْوَادي) ، وَقد تقدم فِي الْحَج، وَكَذَلِكَ رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُوسَى لَيْلَة الْمِعْرَاج وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبره. قلت: لَا إِشْكَال فِي هَذَا أصلا، وَذَلِكَ أَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أفضل من الشُّهَدَاء، وَالشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم، فالأنبياء بِالطَّرِيقِ الأولى، وَلَا سِيمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد مُسلم، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَأَنِّي أنظر إِلَى مُوسَى، وَكَأَنِّي أنظر إِلَى يُونُس، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا يبعد أَن يصلوا ويحجوا ويتقربوا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعُوا مَا دَامَت الدُّنْيَا وَهِي دَار التَّكْلِيف بَاقِيَة. قَوْله: (يهادَى بَين رجلَيْنِ) أَي: يمشي بَينهمَا مائلاً إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ مُتكئا عَلَيْهِمَا. قَوْله: (ينطف) ، بِكَسْر الطَّاء وَضمّهَا أَي: يقطر (وَرَأسه) بِالرَّفْع فَاعل لَهُ، وَقَوله: (مَاء) ، يصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (أَو يهراق) ، شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ بِضَم الْيَاء وَفتح الْهَاء وسكونها. قَوْله: (أَعور عينه الْيُمْنَى) ، بِإِضَافَة أَعور إِلَى عينه من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وارتفاع: أَعور، على أَنه صفة لقَوْله: رجل بعد صفة، وروى الْأصيلِيّ بِرَفْع: عينه، بِقطع إِضَافَة أَعور عَنهُ، وَذكر بَعضهم وَجه ذَلِك بقوله: كَأَنَّهُ وقف على وَصفه بِأَنَّهُ أَعور، وابتدأ الْخَبَر عَن صفة عينه، فَقَالَ: عينه كَأَنَّهَا كَذَا، وأبرز الضَّمِير، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يصير كَأَنَّهُ قَالَ عينه كَانَ عينه انْتهى قلت لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التخبيط حَيْثُ يذكر وَجها فِي إعرابه ثمَّ يَقُول وَفِيه نظروالذي يُقَال فِيهِ على مَا ذهب إِلَيْهِ الْأصيلِيّ أَن تكون: عينه، بِالرَّفْع بدل من قَوْله: أَعور، وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: عينه الْيُمْنَى عوراء، وَتَكون هَذِه الْجُمْلَة صفة كاشفة لقَوْله: أَعور. قَوْله: (كَأَن عينه عنبة طافية) ، هَذَا على رِوَايَة الْأَكْثَرين على أَن عينه مَنْصُوبَة على أَنه اسْم: كَانَ. وَقَوله: عنبة، خَبره، وَهُوَ بِكَسْر الْعين وَفتح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة، و: طافية، صفتهَا، أَي: مُرْتَفعَة، وَعند الْأصيلِيّ: كَأَن عينه طافية، ويروى: كَأَن عنبة طافية، بِالنّصب على أَنه اسْم: كَأَن، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: كَأَن فِي وَجهه عنبة طافية، وَالْخَبَر مقدم على الإسم. قَوْله: (هَذَا الدَّجَّال) . فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَيحرم على الدَّجَّال دُخُول مَكَّة؟ قلت: ذَاك فِي زمن خُرُوجه على النَّاس، وَأَيْضًا لفظ الحَدِيث أَنه: لَا يدْخل مَكَّة، وَلَيْسَ فِيهِ نفي الدُّخُول فِي الْمَاضِي. قَوْله: (قَالَ الزُّهْرِيّ) ، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (رجل) ، أَي: ابْن قطن رجل من خُزَاعَة هلك فِي الْجَاهِلِيَّة، و: خُزَاعَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة هُوَ: ربيعَة، وَرَبِيعَة هُوَ لحي بن حَارِثَة بن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة ابْن مَازِن بن الأزد، وَقيل لَهُم: خُزَاعَة لأَنهم تخزعوا من بني مَازِن بن الأزد فِي إقبالهم مَعَهم من الْيمن، أَي: انْقَطَعُوا عَنْهُم. قَوْله: (جاهلي) ، نِسْبَة إِلَى الْجَاهِلِيَّة، وَهِي الْحَالة الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا الْعَرَب قبل الْإِسْلَام من الْجَهْل بِاللَّه وَرَسُوله وَشَرَائِع الدّين والمفاخرة بالأنساب وَالْكبر والتجبر وَغير ذَلِك.
2443 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو سلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أنَا أوْلَى النَّاسِ بابنِ مَرْيَمَ والأنْبِيَاءُ(16/35)
أوْلادُ عَلاَّتٍ لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ نَبِيٌّ. (الحَدِيث 2443 طرفه فِي: 3443) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بِابْن مَرْيَم) . وَرِجَاله بِهَذَا النسق قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أَنا أولى النَّاس بِابْن مَرْيَم) أَي: بِعِيسَى ابْن مَرْيَم، أَي: أخص النَّاس بِهِ وأقربهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بشر بِأَنَّهُ يَأْتِي من بعدِي رَسُول اسْمه أَحْمد، وَقيل: لِأَنَّهُ لَا نَبِي بَينهمَا، فكأنهما كَانَا فِي زمن وَاحِد، وَفِيه نظر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: {إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي} (آل عمرَان: 86) . قلت: الحَدِيث وَارِد فِي كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متبوعاً، وَالْقُرْآن فِي كَونه تَابعا، وَله الْفضل تَابعا ومتبوعاً. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: مساق الحَدِيث كمساق الْآيَة، فَلَا دَلِيل على هَذِه التَّفْرِقَة، وَالْحق أَنه لَا مُنَافَاة ليحتاج إِلَى الْجمع، فَكَمَا أَنه أولى النَّاس بإبراهيم، كَذَلِك هُوَ أولى النَّاس بِعِيسَى، وَذَلِكَ من جِهَة قُوَّة الِاقْتِدَاء بِهِ، وَهَذَا من جِهَة قرب الْعَهْد بِهِ. انْتهى. قلت:
. قَوْله: (علات) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق وهم الْأُخوة لأَب من أُمَّهَات شَتَّى، كَمَا أَن الْأُخوة من الْأُم فَقَط أَوْلَاد أخياف، والأخوة من الْأَبَوَيْنِ أَوْلَاد أَعْيَان، وَمَعْنَاهُ: أَن أصولهم وَاحِدَة وفروعهم مُخْتَلفَة يَعْنِي: أَنهم متفقون فِيمَا يتَعَلَّق بالاعتقاديات الْمُسَمَّاة بأصول الديانَات كالتوحيد وَسَائِر مسَائِل علم الْكَلَام، مُخْتَلفُونَ فِيمَا يتَعَلَّق بالعمليات وَهِي الفقهيات، وَيُقَال: سميت أَوْلَاد الرجل من نسْوَة شَتَّى: أخوة علات، لأَنهم أَوْلَاد ضرائر، والعلات الضرائر، وَقيل: لِأَن الَّتِي تزَوجهَا على الأولى كَانَت قبلهَا ثمَّ عل من هَذِه، والعلل الشّرْب الثَّانِي، يُقَال: علل بعد نهل، وَفِي (التَّهْذِيب) : هما أَخَوان من عِلّة، وهما ابْنا عِلّة، وهم بَنو عِلّة، وهم من علات. وَفِي (الْمُحكم) : جمع الْعلَّة العلائل. قَوْله: (لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي) أَي: وَبَين ابْن مَرْيَم، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن آدم: وَأَنا أولى النَّاس بِعِيسَى، لِأَنَّهُ لم يكن بيني وَبَينه نَبِي، وَبِه اسْتدلَّ قوم على أَنه لم يَأْتِ نَبِي بعد عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال بِهِ قَوِيا، لِأَنَّهُ قد جَاءَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جرجيس وخَالِد بن سِنَان وَكَانَا نبيين، فعلى هَذَا معنى الحَدِيث: لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي بشريعة مُسْتَقلَّة، وَقيل: مَا ورد من خبر جرجيس وخَالِد لم يثبت، والْحَدِيث الصَّحِيح يردهُ.
3443 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ حدَّثنا هِلالُ بنُ عَلِيٍّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي عَمْرَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا أوْلَى النَّاسُ بِعِيسَى بنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ والأنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ودِينُهُمْ واحِدٌ. (انْظُر الحَدِيث 2443) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق أخرجه عَن مُحَمَّد بن سِنَان بن أبي بكر الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الْأَعْمَى عَن فليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان، وفليح لقبه واسْمه: عبد الْملك عَن هِلَال بن عَليّ بن أُسَامَة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة، وَاسم أبي عمْرَة: بشير بن عَمْرو بن مُحصن، قتل مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم صفّين وَله صُحْبَة.
قَوْله: (وَدينهمْ وَاحِد) ، أَي: التَّوْحِيد دون الْفُرُوع للِاخْتِلَاف فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً} (الْمَائِدَة: 84) . وَيُقَال: دينهم أَي: أصُول الدّين وأصول الطَّاعَات وَاحِد، والكيفيات والكميات فِي الطَّاعَة مُخْتَلفَة.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ عنْ عَطاءِ بنِ يَسار عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ: قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ مُعَلّق وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله النَّيْسَابُورِي أبي عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، وَأحمد هَذَا من شُيُوخ البُخَارِيّ.
4443 - وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي(16/36)
هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَأى عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ سَرَقْتَ قَالَ كَلاَّ وَالله الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّه وكَذَّبْتُ عَيْنِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهَمَّام، بتَشْديد الْمِيم: ابْن مُنَبّه.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (سرقت) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر هَذَا أَنه خبر جازم عَمَّا فعل الرجل من السّرقَة، لِأَنَّهُ رَآهُ أَخذ مَالا من حرز فِي خُفْيَة، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون مستفهماً لَهُ عَن تَحْقِيق ذَلِك، فَحذف همزَة الِاسْتِفْهَام. قلت: رَأَيْت فِي بعض النّسخ الصَّحِيحَة: أسرقت؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، ورد بِأَنَّهُ بعيد مَعَ جزم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَن عِيسَى رأى رجلا يسرق، وَقيل: يحْتَمل حل الْأَخْذ لهَذَا الرجل بِوَجْه من الْوُجُوه، ورد بِالْجَزْمِ الْمَذْكُور. قَوْله: (كلا) ، نفي للسرقة، ثمَّ أكده بقوله: (وَالله الَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ هُوَ، وَفِي رِوَايَة غَيره: إِلَّا الله، وَفِي رِوَايَة ابْن طهْمَان عِنْد النَّسَائِيّ، قَالَ: لَا وَالَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ. قَوْله: (آمَنت بِاللَّه) أَي: صدقت من حلف بِاللَّه وكذبت مَا ظهر لي من كَون الْأَخْذ الْمَذْكُور سَرقَة، فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الرجل أَخذ مَاله فِيهِ حق أَو مَا أذن لَهُ صَاحبه فِي أَخذه، أَو أَخذه ليقلبه وَينظر فِيهِ، وَلم يقْصد الْغَصْب والاستيلاء. قَوْله: (وكذبت عَيْني) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وكذبت نَفسِي، وَفِي رِوَايَة ابْن طهْمَان: وكذبت بَصرِي، وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ عِيسَى ذَلِك على الْمُبَالغَة فِي تَصْدِيق الْحَالِف، وَقيل: أَرَادَ بالتصديق والتكذيب ظَاهر الحكم لَا بَاطِن الْأَمر، وإلاَّ فالمشاهدة أَعلَى الْيَقِين، فَكيف يصدق عينه أَو يكذب قَول الْمُدَّعِي؟ .
وَفِيه: دَلِيل على دَرْء الْحَد بِالشُّبْهَةِ، وعَلى منع الْقَضَاء بِالْعلمِ. وَالرَّاجِح عِنْد الْمَالِكِيَّة والحنابلة مَنعه مُطلقًا، وَعند الشَّافِعِيَّة جَوَازه إلاَّ فِي الْحُدُود.
5443 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ عَلى المِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ لاَ تُطْرُونِي كَما أطْرَتِ النَّصارَى ابنَ مَرْيَمَ فإنَّمَا أنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ الله ورسُولُهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ابْن مَرْيَم) عَلَيْهِمَا السَّلَام. والْحميدِي عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن عتبَة بن مَسْعُود.
والْحَدِيث طرف من حَدِيث السَّقِيفَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن أَحْمد بن منيع وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن وَغَيرهمَا، كلهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
قَوْله: (لَا تطروني) ، بِضَم التَّاء، من الإطراء وَهُوَ المديح بِالْبَاطِلِ، تَقول: أطريت فلَانا: مدحته فأفرطت فِي مدحه. وَقيل: الإطراء مُجَاوزَة الْحَد فِي الْمَدْح وَالْكذب فِيهِ. قَوْله: (كَمَا أطرت النَّصَارَى) ، أَي: فِي دَعوَاهُم فِي عِيسَى بالإل هِية وَغير ذَلِك. قَوْله: (فَإِنَّمَا أَنا عَبده) إِلَى آخِره من هضمه نَفسه وإظهاره التَّوَاضُع.
6443 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله أخبرَنا صالِحُ بنُ حَيٍّ أنَّ رَجُلاً مِنْ أهْلِ خُرَاسانَ قَالَ لِ لشَّعْبِيِّ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ أخْبرني أبُو بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أدَّبَ الرَّجُلُ أمَتَهُ فأحْسَنَ تأدِيبَهَا وعَلَّمَهَا فأحْسَنَ تَعْلِيمَها ثُمَّ أَعْتَقَهَا فتَزَوَّجَهَا كانَ لَهُ أجْرَانِ وإذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فلَهُ أجْرَانِ والعَبْدُ إذَا اتَّقى رَبَّهُ وأطَاعَ مَوَالِيَهُ فلَهُ أجْرَانِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِذا آمن بِعِيسَى) . وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَصَالح بن حَيّ بن صَالح بن مُسلم الْهَمدَانِي، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَأَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه الْحَارِث، وَقيل غير ذَلِك، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم الرجل أمته وَفِي الْعتْق وَفِي الْجِهَاد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (من أهل(16/37)
خُرَاسَان) ، وَهُوَ الإقليم الْعَظِيم الْمَعْرُوف بموطن الْكثير من عُلَمَاء الْمُسلمين. قَوْله: (قَالَ لِلشَّعْبِيِّ، فَقَالَ الشّعبِيّ) فِيهِ السُّؤَال مَحْذُوف وَقد بَينه فِي رِوَايَة ابْن حبَان بن مُوسَى عَن ابْن الْمُبَارك، فَقَالَ: إِن رجلا من أهل خُرَاسَان قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: إِنَّا نقُول عندنَا: إِن الرجل إِذا أعتق أم وَلَده ثمَّ تزَوجهَا فَهُوَ كالراكب بدنته، فَقَالَ الشّعبِيّ ... فَذكر الحَدِيث.
7443 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ المُغِيرَةِ بنِ النُّعْمَانِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْر عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تُحْشَرُونَ حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قرَأ كَمَا بَدَأنَا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وعْدَاً عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فاعِلِينَ فأوَّلُ مَنْ يُكْساى إبْرَاهِيمُ ثُمَّ يُؤخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أصْحَابِي ذاتَ اليَمِينِ وذَاتَ الشِّمالِ فأقُولُ أصْحَابِي فيُقَالُ إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ علَى أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فارَقْتَهُمْ فأقُولُ كَما قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ عِيساى بنُ مَرْيَمَ {وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدَاً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إِلَى قَوْلِهِ {العَزِيزُ الحَكِيمُ} . (الْمَائِدَة: 611 811) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عِيسَى ابْن مَرْيَم) . والْحَدِيث مر عَن قريب فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره نَحوه، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ الفِرَبْرِي ذُكِرَ عنْ أبِي عَبْدِ الله عنْ قَبِيصَةَ قَالَ: هُمُ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا علَى عَهْدِ أبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مُحَمَّد بن يُوسُف هُوَ الْفربرِي. وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقبيصَة هُوَ ابْن عقبَة أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الْجِرْجَانِيّ عَن إِسْحَاق عَن قبيصَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الْمُغيرَة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس ... الحَدِيث، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
94 - (بابُ نُزُولِ عِيساى بنِ مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نزُول عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَعْنِي: فِي آخر الزَّمَان، وَكَذَا هُوَ بِلَفْظ: بَاب، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِغَيْر لفظ: بَاب.
8443 - حدَّثنا إسْحااقُ أخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثَنا أبِي عنْ صَالِحٍ عنِ ابنِ شِهاب أنَّ سَعيدَ بنَ المُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ حَكَمَاً عَدْلاً فيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ويَقْتُلَ الخَنْزِيرَ ويَضَعَ الجِزْيَةَ ويَفِيضُ المَالُ حتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أحَدٌ حتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرَاً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ واقْرَؤا إنْ شِئْتُمْ {وإنْ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ويَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدَاً} (النِّسَاء: 951) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن رَاهَوَيْه وَعَن أبي عَليّ الجياني: إِسْحَاق إِمَّا ابْن رَاهَوَيْه وَإِمَّا ابْن مَنْصُور، وَيَعْقُوب هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن سعد بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مر فِي أَوَاخِر الْبيُوع فِي: بَاب قتل الْخِنْزِير ... إِلَى قَوْله: حَتَّى لَا يقبله أحد، وَمر الْكَلَام فِيهِ، ولنشرح مَا بَقِي مِنْهُ.
قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) ، فِيهِ الْحلف فِي الْخَبَر مُبَالغَة فِي تأكيده. قَوْله: (ليوشكن) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، وَمَعْنَاهُ: ليقربن سَرِيعا.(16/38)
قَوْله: (فِيكُم) ، خطاب لهَذِهِ الْأمة. قَوْله: (حكما) ، أَي: حَاكما بِهَذِهِ الشَّرِيعَة، فَإِن شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تنسخ، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث ابْن سعد عِنْد مُسلم: حكما مقسطاً، وَله فِي رِوَايَة: إِمَامًا مقسطاً، أَي: عادلاً، والقاسط الجائر. قَوْله: (وَيقتل الْخِنْزِير) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ، وَيقتل الْخِنْزِير والقردة. قَوْله: (وَيَضَع الْجِزْيَة) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَيَضَع الْحَرْب، وَالْمعْنَى: أَن الدّين يصير وَاحِدًا، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يقبل إلاَّ الْإِسْلَام. فَإِن قلت: وضع الْجِزْيَة مَشْرُوع فِي هَذِه الْأمة فَلم لَا يكون الْمَعْنى: تقرر الْجِزْيَة على الْكفَّار من غير مُحَابَاة، فَلذَلِك يكثر المَال؟ قلت: مَشْرُوعِيَّة الْجِزْيَة مُقَيّدَة بنزول عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد قُلْنَا أَن عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يقبل إِلَّا الْإِسْلَام وَقَالَ ابْن بطال وَإِنَّمَا قبلناها قبل نزُول عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للْحَاجة إِلَى المَال بِخِلَاف زمن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى المَال، فَإِن المَال يكثر حَتَّى لَا يقبله أحد. قَوْله: (وَيفِيض المَال) ، بِفَتْح الْيَاء وَكسر الْفَاء وبالضاد الْمُعْجَمَة، أَي: يكثر، وَأَصله من فاض المَاء، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن مينا: وليدعون إِلَى المَال فَلَا يقبله أحد، وَسَببه كَثْرَة المَال ونزول البركات وتوالي الْخيرَات بِسَبَب الْعدْل وَعدم الظُّلم، وَحِينَئِذٍ تخرج الأَرْض كنوزها وتقل الرغبات فِي اقتناء المَال لعلمهم بِقرب السَّاعَة. قَوْله: (حَتَّى تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) لأَنهم حِينَئِذٍ لَا يَتَقَرَّبُون إِلَى الله إلاَّ بالعبادات لَا بالتصدق بِالْمَالِ. فَإِن قلت: السَّجْدَة الْوَاحِدَة دَائِما خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لِأَن الْآخِرَة خير وَأبقى. قلت: الْغَرَض أَنَّهَا خير من كل مَال الدُّنْيَا، إِذْ حِينَئِذٍ لَا يُمكن التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى بِالْمَالِ، وَقَالَ التوربشتي: يَعْنِي أَن النَّاس يرغبون عَن الدُّنْيَا حَتَّى تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة أحب إِلَيْهِم من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَوْله: (ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره، مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (واقرؤا إِن شِئْتُم) ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِنَّمَا أَتَى بِذكر هَذِه الْآيَة للْإِشَارَة إِلَى مناسبتها لقَوْله: (حَتَّى تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خيرا من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . فَإِنَّهُ يُشِير بذلك إِلَى صَلَاح النَّاس وَشدَّة إِيمَانهم وإقبالهم على الْخَيْر، فهم لذَلِك يؤثرون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة على جَمِيع الدُّنْيَا، والسجدة تذكر وَيُرَاد بهَا الرَّكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: معنى الحَدِيث أَن الصَّلَاة حِينَئِذٍ تكون أفضل من الصَّدَقَة لِكَثْرَة المَال إِذْ ذَاك، وَعدم الِانْتِفَاع بِهِ حَتَّى لَا يقبله أحد. قَوْله: (وَإِن من أهل الْكتاب) ، كلمة: إِن، نَافِيَة، يَعْنِي: مَا من أهل الْكتاب من الْيَهُود وَالنَّصَارَى إلاَّ ليُؤْمِنن بِهِ.
وَاخْتلف أهل التَّفْسِير فِي مرجع الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى: بِهِ. فروى ابْن جرير من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّه يرجع إِلَى عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَذَا رُوِيَ من طَرِيق أبي رَجَاء عَن الْحسن، قَالَ: قبل موت عِيسَى: وَالله إِنَّه لحي، وَلَكِن إِذا نزل آمنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ، وَذهب إِلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم، وَرجحه ابْن جرير وَأَبُو هُرَيْرَة أَيْضا صَار إِلَيْهِ فقراءته هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تدل عَلَيْهِ، وَقيل: يعود الضَّمِير إِلَى الله، وَقيل: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالضَّمِير فِي قَوْله: (قبل مَوته) يرجع إِلَى أهل الْكتاب عِنْد الْأَكْثَرين لما روى ابْن جرير من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: (لَا يَمُوت يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ حَتَّى يُؤمن بِعِيسَى) فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَة: أَرَأَيْت إِن خر من بَيت أَو احْتَرَقَ أَو أكله السَّبع؟ قَالَ: لَا يَمُوت حَتَّى يُحَرك شَفَتَيْه بِالْإِيمَان بِعِيسَى، وَفِي إِسْنَاده: خصيف، وَفِيه ضعف، وَرجح جمَاعَة هَذَا الْمَذْهَب لقِرَاءَة أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاَّ ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوْتهمْ، أَي: قبل موت أهل الْكتاب، وَقيل: يرجع إِلَى عِيسَى، أَي: إلاَّ ليُؤْمِنن بِهِ قبل موت عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَكِن لَا ينفع هَذَا الْإِيمَان فِي تِلْكَ الْحَالة.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي نزُول عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والخصوصية بِهِ؟ قلت: فِيهِ وُجُوه. الأول: للرَّدّ على الْيَهُود فِي زعمهم الْبَاطِل أَنهم قَتَلُوهُ وصلبوه، فبيَّن الله تَعَالَى كذبهمْ، وَأَنه هُوَ الَّذِي يقتلهُمْ. الثَّانِي: لأجل دنو أَجله ليدفن فِي الأَرْض، إِذْ لَيْسَ لمخلوق من التُّرَاب أَن يَمُوت فِي غير التُّرَاب. الثَّالِث: لِأَنَّهُ دَعَا الله تَعَالَى لما رأى صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته أَن يَجعله مِنْهُم فَاسْتَجَاب الله دعاءه وأبقاه حَيا حَتَّى ينزل فِي آخر الزَّمَان ويجدد أَمر الْإِسْلَام، فيوافق خُرُوج الدَّجَّال فيقتله. الرَّابِع: لتكذيب النَّصَارَى وَإِظْهَار زيفهم فِي دَعوَاهُم الأباطيل وَقَتله إيَّاهُم. الْخَامِس: أَن خصوصيته بالأمور الْمَذْكُورَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا أولى النَّاس بِابْن مَرْيَم لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي، وَهُوَ أقرب إِلَيْهِ من غَيره فِي الزَّمَان، وَهُوَ أولى بذلك.
106 - (حَدثنَا ابْن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن نَافِع مولى أبي قَتَادَة(16/39)
الْأنْصَارِيّ أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ أَنْتُم إِذا نزل ابْن مَرْيَم فِيكُم وإمامكم مِنْكُم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَابْن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَيُونُس بن يزِيد وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَنَافِع مولى أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ هُوَ أَبُو مُحَمَّد بن عَيَّاش الْأَقْرَع قَالَ ابْن حبَان هُوَ مولى امْرَأَة من غفار وَقيل لَهُ مولى أبي قَتَادَة لملازمته لَهُ وَلَيْسَ لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة فِي الصَّحِيح سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن زُهَيْر بن حَرْب قَوْله " إِذا نزل ابْن مَرْيَم " أَي عِيسَى بن مَرْيَم وَلَفظ فِيكُم سقط من رِوَايَة أبي ذَر وَكَيْفِيَّة نُزُوله أَنه ينزل وَعَلِيهِ ثَوْبَان مُمَصَّرَانِ كَذَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو ذَر عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا والممصر من الثِّيَاب الَّتِي فِيهَا صفرَة خَفِيفَة وَفِي كتاب الْفِتَن لأبي نعيم " ينزل عِنْد القنطرة الْبَيْضَاء على بَاب دمشق الشَّرْقِي تحمله غمامة وَاضِعا يَدَيْهِ على مَنْكِبي ملكَيْنِ عَلَيْهِ ريطتان إِذا كب رَأسه يقطر مِنْهُ كالجمان فيأتيه الْيَهُود فَيَقُولُونَ نَحن أَصْحَابك فَيَقُول كَذبْتُمْ وَالنَّصَارَى كَذَلِك إِنَّمَا أَصْحَابِي الْمُهَاجِرُونَ بَقِيَّة أَصْحَاب الملحمة فيجد خليفتهم يُصَلِّي بهم فَيتَأَخَّر فَيَقُول لَهُ صل فقد رَضِي الله عَنْك فَإِنِّي إِنَّمَا بعثت وزيرا وَلم أبْعث أَمِيرا " قَالَ وبخروجه تَنْقَطِع الْإِمَارَة وَفِيه أَيْضا عَن كَعْب " يحاصر الدَّجَّال الْمُؤمنِينَ بِبَيْت الْمُقَدّس فيصيبهم جوع شَدِيد حَتَّى يَأْكُلُوا أوتار قسيهم فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ سمعُوا صَوتا فِي الْغَلَس فَإِذا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وتقام الصَّلَاة فَيرجع إِمَام الْمُسلمين فَيَقُول عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تقدم فلك أُقِيمَت الصَّلَاة فَيصَلي بهم ذَلِك الرجل تِلْكَ الصَّلَاة ثمَّ يكون عِيسَى الإِمَام بعد " وَفِيه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة " وَينزل بَين أذانين " وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا " المحاصرون بِبَيْت الْمُقَدّس إِذْ ذَاك مائَة ألف امْرَأَة وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ ألفا مُقَاتِلُونَ إِذْ غشيتهم ضَبَابَة من غمام إِذْ تنكشف عَنْهُم مَعَ الصُّبْح فَإِذا عِيسَى بَين ظهرانيهم " وروى مُسلم من حَدِيث ابْن عمر " فِي مُدَّة إِقَامَة عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْأَرْضِ بعد نُزُوله أَنَّهَا سبع سِنِين " وروى أَبُو نعيم فِي كتاب الْفِتَن من حَدِيث ابْن عَبَّاس " أَن عِيسَى إِذْ ذَاك يتَزَوَّج فِي الأَرْض فيقيم بهَا تسع عشرَة سنة " وبإسناده فِيهِ مِنْهُم عَن أبي هُرَيْرَة " يُقيم بهَا أَرْبَعِينَ سنة " وروى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن آدم عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مثله وَعَن كَعْب " يمْكث فيهم عِيسَى أَرْبعا وَعشْرين سنة مِنْهَا عشر حجج يبشر الْمُؤمنِينَ بدرجاتهم فِي الْجنَّة " وَفِي لفظ " أَرْبَعِينَ سنة " وَعَن ابْن عَبَّاس " يتَزَوَّج من قوم شُعَيْب " وَهُوَ ختن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وهم جذام فيولد لَهُ فيهم وَيُقِيم تسع عشرَة سنة لَا يكون أَمِيرا وَلَا شرطيا وَلَا ملكا " وَعَن يزِيد بن أبي حبيب " يتَزَوَّج امْرَأَة من الأزد ليعلم النَّاس أَنه لَيْسَ بإله " وَقيل يتَزَوَّج ويولد لَهُ وَيمْكث خمْسا وَأَرْبَعين سنة ويدفن مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَبره وَقيل يدْفن فِي الأَرْض المقدسة وَهُوَ غَرِيب وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر يمْكث فِي الأَرْض سبعا ويولد لَهُ ولدان مُحَمَّد ومُوسَى وَلَيْسَ فِي أَيَّامه إِمَام وَلَا قَاض وَلَا مفت وَقد قبض الله الْعلم وخلا النَّاس عَنهُ فَينزل وَقد علم بِأَمْر الله فِي السَّمَاء مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من علم هَذِه الشَّرِيعَة للْحكم بَين النَّاس وَالْعَمَل فِيهِ فِي نَفسه فيجتمع الْمُؤْمِنُونَ ويحكمونه على أنفسهم إِذْ لَا يصلح لذَلِك غَيره وَقد ذهب قوم إِلَى أَن بنزوله يرْتَفع التَّكْلِيف لِئَلَّا يكون رَسُولا إِلَى أهل ذَلِك الزَّمَان يَأْمُرهُم وينهاهم وَهُوَ مَرْدُود لِأَنَّهُ لَا ينزل بشريعة متجددة بل ينزل على شَرِيعَة نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيكون من أَتْبَاعه قَوْله " وإمامكم مِنْكُم " يَعْنِي يحكم بَيْنكُم بِالْقُرْآنِ لَا بالإنجيل قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) الْإِنْجِيل لَيْسَ فِيهِ حكم فَلَا حَاجَة إِلَى قَوْله لَا بالإنجيل وَقيل مَعْنَاهُ يُصَلِّي مَعكُمْ بِالْجَمَاعَة وَالْإِمَام من هَذِه الْأمة وَقيل وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر تَعْظِيمًا لَهُ وتربية للمهابة يَعْنِي هُوَ مِنْكُم وَالْغَرَض أَنه خليفتكم وَهُوَ على دينكُمْ كَمَا تَقول لولد زيد والدك يَأْمُرك بِكَذَا وَلَا تَقول هُوَ أَو فلَان يَأْمُرك وَقَالَ الطَّيِّبِيّ أَي يؤمكم عِيسَى حَال كَونه فِي دينكُمْ قيل يُعَكر عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث مُسلم " فَيُقَال لَهُ صل لنا فَيَقُول لَا إِن بَعْضكُم على بعض أُمَرَاء " تكرمة لهَذِهِ الْأمة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ لَو تقدم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِمَامًا لوقع فِي النَّفس إِشْكَال ولقيل أتراه تقدم نَائِبا أَو مبتدئا شرعا فصلى مَأْمُوما لِئَلَّا يتدنس بغبار الشُّبْهَة وَجه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا نَبِي بعدِي " انْتهى وَفِي صَلَاة عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خلف رجل من هَذِه الْأمة مَعَ كَونه فِي آخر الزَّمَان وَقرب قيام السَّاعَة دلَالَة للصحيح من الْأَقْوَال أَنه الأَرْض لَا تَخْلُو عَن قَائِم لله بِحجَّة(16/40)
(تَابعه عقيل وَالْأَوْزَاعِيّ) أَي تَابع يُونُس عقيل بن خَالِد وَعبد الرَّحْمَن بن عمر وَالْأَوْزَاعِيّ كِلَاهُمَا عَن ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث فمتابعة عقيل وَصلهَا ابْن مَنْدَه فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق اللَّيْث عَنهُ وَلَفظه مثل رِوَايَة أبي ذَر. ومتابعة الْأَوْزَاعِيّ وَصلهَا ابْن مَنْدَه أَيْضا وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث وَابْن الْأَعرَابِي من طَرِيقه عَنهُ وَلَفظه مثل رِوَايَة يُونُس وَالله أعلم بِالصَّوَابِ -
05 - (بابُ مَا ذُكِرَ عنْ بَنِي إسْرَائِيلَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل، أَي: عَن ذُريَّته من الْعَجَائِب والغرائب. وَإِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وأصل سَبَب تَسْمِيَة يَعْقُوب بإسرائيل مَا ذكره السّديّ: أَن إِسْحَاق أَب يَعْقُوب كَانَ قد تزوج رفقا بنت بثويل بن ناحور بن آزر بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَولدت لإسحاق عيصو وَيَعْقُوب بَعْدَمَا مضى من عمره سِتُّونَ سنة، وَلها قصَّة عَجِيبَة، وَهِي أَنه: لما قربت ولادتهما اقتتلا فِي بطن أمهما، فَأَرَادَ يَعْقُوب أَن يخرج أَولا قبل عيصو، فَقَالَ عيصو: وَالله لَئِن خرجت قبلي لأعترضن فِي بطن أُمِّي لأقتلها، فَتَأَخر يَعْقُوب وَخرج عيصو قبله، فَسُمي عيصو لِأَنَّهُ عصى، وَسمي يَعْقُوب لِأَنَّهُ خرج آخرا بعقب عيصو، وَكَانَ يَعْقُوب أكبرهما فِي الْبَطن، وَلَكِن عيصو خرج قبله، فَلَمَّا كبرا كَانَ عيصو أحبهما إِلَى أَبِيه، وَكَانَ يَعْقُوب أحبهما إِلَى أمه، فَوَقع بَينهمَا مَا يَقع بَين الْأَخَوَيْنِ فِي مثل ذَلِك، فخافت أمه عَلَيْهِ من عيصو أَن يُوقع بِهِ فعلا، فَقَالَت: يَا ابْني إلحق بخالك فاكمن عِنْده، خشيَة أَن يقْتله عيصو، فَانْطَلق يَعْقُوب إِلَى خَاله فَكَانَ يسري بِاللَّيْلِ ويكمن بِالنَّهَارِ، فَلذَلِك سمي: إِسْرَائِيل، وَهُوَ أول من سرى بِاللَّيْلِ، فَأتى خَاله لابان بِبَابِل، وَقيل: بحران.
0543 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا أبُو عَوانَةَ حدَّثنا عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ عنْ رِبْعِيِّ بنِ حِرَاشٍ قَالَ قَالَ عُقْبَةُ بنُ عَمْرِو لِحُذَيْفَةَ ألاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ إنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إذَا خَرَجَ مَاء ونارَاً فأمَّا الَّذي يراى النَّاسُ أنَّها النَّارُ فَماءٌ بارِدٌ وأمَّا الذِي يرَى النَّاسُ أنَّهُ ماءٌ بارِدٌ فَنارٌ تُحْرِقُ فَمَنْ أدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَراى أنَّهَا نارٌ فإنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ. قالَ حُذَيْفَةُ وسَمِعْتُهُ يَقُولُ إنَّ رَجُلاً كانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ أتاهُ المَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ قَالَ مَا أعْلَمُ قِيلَ لَهُ انْظُرْ قَالَ مَا أعْلَمُ شَيْئاً غَيْرَ أنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا فأُجَازِيهِمْ فأُنْظِرُ المُوسِرَ وأتَجاوَزُ عنِ المُعْسِرِ فأدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ. فقَالَ وسَمِعْتُهُ يَقُولُ إنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ المَوْتُ فلَمَّا يَئِسَ مِنَ الحَياةِ أوْصاى أهْلَهُ إذَا أَنا مُتُّ فاجْمَعُوا لِي حَطَبَاً كَثِيرَاً وأوْقِدُوا فِيهِ نَارَاً حَتَّى إذَا أكَلَتْ لَحْمِي وخَلَصَتْ إلَى عَظْمِي فامْتَحَشَتْ فَخُذُوهَا فاطْحَنُوهَا ثُمَّ انْظُرُوا يَوْماً رَاحا فاذْرُوهُ فِي اليَمِّ ففَعَلُوا فَجَمَعَهُ الله فَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَغَفَرَ الله لَهُ: قَالَ عُقْبَةُ بنُ عَمْرُو وأنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ وكانَ نبَّاشَاً.
هَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحَادِيث: الأول: حَدِيث الدَّجَّال. وَالثَّانِي وَالثَّالِث: فِي رجلَيْنِ كل وَاحِد فِي رجل، والمطابقة للتَّرْجَمَة فِي الثَّانِي وَالثَّالِث والْحَدِيث الثَّانِي قد مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب من أنظر مُوسِرًا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن مَنْصُور عَن ربعي بن خرَاش ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَهنا أخرج الثَّلَاثَة: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن أبي عوَانَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي وَعَن عبد الْملك بن عُمَيْر الْكُوفِي عَن ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة: ابْن حِرَاش، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: الْغَطَفَانِي، وَكَانَ من العبّاد يُقَال: إِنَّه تكلم بعد الْمَوْت، وَعقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ المعروب بالبدري، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ثمَّ إِن البُخَارِيّ روى(16/41)
هَذَا الحَدِيث عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة كَمَا رَأَيْته، وَهُوَ الصَّوَاب، كَمَا قَالَ أَبُو ذَر لَا كَمَا وَقع فِي بعض نسخه: حَدثنَا مُسَدّد، وَوَقع فِي كَلَام الجياني: أَنه سَاقه أَولا بِكَمَالِهِ عَن مُسَدّد، ثمَّ سَاق الْخلاف فِي لَفظه من الْمَتْن عَن مُوسَى، وَالَّذِي فِي الْأُصُول مَا ذكره سِيَاقَة وَاحِدَة، لَا كَمَا قَالَه، وَهَذَا الْموضع مَوضِع تنبه وتيقظ.
قَوْله: (مَاء) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: إِن، و: نَارا، عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (يرى) بِفَتْح الْيَاء وَضمّهَا، هَذَا من جملَة فتنته امتحن الله بهَا عباده فيحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل، ثمَّ يَفْضَحهُ وَيظْهر للنَّاس عَجزه. قَوْله: (قَالَ حُذَيْفَة) ، شُرُوع فِي الحَدِيث الثَّانِي. قَوْله: (وسمعته يَقُول) ، أَي: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول. قَوْله: (فأجازيهم) ، أَي: أتقاضاهم الْحق، والمجازي المتقاضي، يُقَال: تجازيت ديني عَن فلَان إِذا تقاضيته، وَحَاصِله أَخذ مِنْهُم وَأعْطى، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وأجازفهم، من المجازفة، وَوَقع فِي أُخْرَى: وأحاربهم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء، وَكِلَاهُمَا تَصْحِيف. قَوْله: (فَقَالَ، وسمعته) ، شُرُوع فِي الحَدِيث الثَّالِث، ويروى: وَقَالَ، بِالْوَاو. قَوْله: (وخلصت) ، بِفَتْح اللَّام أَي: وصلت. قَوْله: (فامتحشت) ، أَي: احترقت، وَهُوَ على صِيغَة بِنَاء الْفَاعِل، كَذَا ضَبطه الْكرْمَانِي، وَضَبطه بَعضهم على بِنَاء صِيغَة الْمَجْهُول، وَله وَجه وَهُوَ من الامتحاش ومادته: مِيم وحاء مُهْملَة وشين مُعْجمَة، والمحش: احتراق الْجلد وَظُهُور الْعظم. قَوْله: (يَوْمًا رَاحا) أَي: يَوْمًا شَدِيد الرّيح، وَإِذا كَانَ طيب الرّيح يُقَال: يَوْم ريِّح، بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: يَوْم رَاح أَي: ذُو ريح، كَمَا يُقَال: رجل مَال، أَي: ذُو مَال. قَوْله: (فاذروه) أَمر من الإذراء، يُقَال: ذرته الرّيح وأذرته تَذْرُوهُ وتذريه أَي: أطارته. قَوْله: (قَالَ عقبَة بن عَمْرو) ، وَهُوَ أَبُو مَسْعُود البدري (وَأَنا سمعته) يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِي أَن الَّذِي سَمعه أَبُو مَسْعُود هُوَ الحَدِيث الْأَخير فَقَط، لَكِن رِوَايَة شُعْبَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر نبئت أَنه سمع الْجَمِيع، فَإِنَّهُ أوردهُ فِي الْفِتَن فِي قصَّة الَّذِي كَانَ يُبَايع النَّاس من حَدِيث حُذَيْفَة، وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ أَبُو مَسْعُود وَأَنا سمعته، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث الَّذِي أوصى بنيه، كَمَا ستقف عَلَيْهِ فِي حَدِيث فِي أَوَاخِر هَذَا الْبَاب. قَوْله: (وَكَانَ نباشاً) ظَاهره أَنه من زِيَادَة أبي مَسْعُود فِي الحَدِيث، لَكِن أوردهُ ابْن حبَان من طَرِيق ربعي عَن حُذَيْفَة، قَالَ: توفّي رجل كَانَ نباشاً، فَقَالَ لأولاده: أحرقوني، فَدلَّ على أَن قَوْله: (وَكَانَ نباشاً) من رِوَايَة حُذَيْفَة وَأبي مَسْعُود، مَعًا وَالله أعلم.
4543 - حدَّثني بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرَنا عبْدُ الله أخْبَرَنِي مَعْمَرٌ ويُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله أنَّ عائِشَةَ وابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم قالاَ لَ مَّا نَزَلَ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلى وجْهِهِ فإذَا اغْتَمَّ كشَفَهَا عنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وهْوَ كذَلِكَ لَعْنَةُ الله علَى اليَهُودِ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (لعنة الله على الْيَهُود) لأَنهم من بني إِسْرَائِيل، وهم أقدم من النَّصَارَى. وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب الصَّلَاة فِي الْبيعَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ قَوْله: (لما نزل برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي: الْمَوْت.
5543 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ فُرَاتٍ القَزَّازِ قَالَ سَمِعْتُ أبَا حازِمٍ قَالَ قاعَدْتُ أبَا هُرَيْرَةً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ خَمْسَ سِنِينَ فسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلفه نَبِي وإنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قالُوا فَمَا تأمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الأوَّلِ فالأوَّلِ أعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فإنَّ الله سائِلُهُم عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ.(16/42)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد بن بشار هُوَ بنْدَار، وَمُحَمّد بن جَعْفَر هُوَ غنْدر، وفرات، بِضَم الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: ابْن أبي عبد الرَّحْمَن الْقَزاز، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الزَّاي الأولى الْبَصْرِيّ ثمَّ الْكُوفِي، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعبد الله ابْن براد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (قاعدت أَبَا هُرَيْرَة) إِنَّمَا ذكره بِبَاب المفاعلة ليدل على قعوده مُتَعَلقا بِأبي هُرَيْرَة وَلأَجل تعلقه بِالْآخرِ جَاءَ مُتَعَدِّيا، لِأَن أَصله لَازم كَمَا فِي قَوْلك: كارمت زيدا، فَإِن أَصله لَازم نَحوه، قَوْله: (تسوسهم الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام) أَي: تتولى أُمُورهم: كَمَا تفعل الْأُمَرَاء والولاة بالرعية، والسياسة الْقيام على الشَّيْء بِمَا يصلحه وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا إِذا أظهرُوا الْفساد بعث الله نَبيا يزِيل الْفساد عَنْهُم وَيُقِيم لَهُم أَمرهم ويزيل مَا غيروا من حكم التَّوْرَاة. قَوْله: (خَلفه نَبِي) ، بِفَتْح اللَّام المخففة، يَعْنِي: يقوم مقَام الأول، وَالْخلف، بِفَتْح اللَّام وسكونها: كل من يَجِيء بعد من مضى إلاَّ أَنه بِالتَّحْرِيكِ فِي الْخَيْر، وبالسكون فِي الشَّرّ. قَالَ الله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة} (الْأَعْرَاف: 961) . قَوْله: (لَا نَبِي بعدِي) ، يَعْنِي: لَا يَجِيء بعدِي نَبِي فيفعل مَا يَفْعَلُونَ. قَوْله: (خلفاء) ، جمع خَليفَة. قَوْله: (فيكثرون) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة من الْكَثْرَة، وَحكى عِيَاض عَن بَعضهم بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ تَصْحِيف، وَوجه بِأَن المُرَاد إكبار قبايح فعلهم. قَوْله: (فوا) بِالضَّمِّ أَمر لجَماعَة من: وفى يَفِي، وَالْأَمر مِنْهُ: فِ، فيا فوا، وَأَصله: أَوْفوا، وَأَصله أوفيوا، نقلت حَرَكَة الْيَاء إِلَى مَا قبلهَا، فَالتقى ساكنان فحذفت الْيَاء فَصَارَ أَوْفوا، ثمَّ حذفت الْوَاو اتبَاعا لحذفها فِي الْمُضَارع لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، فَصَارَ: أفوا، ثمَّ حذفت الْهمزَة للاستغناء عَنْهَا، فَصَارَ: فوا، على وزن: عوا. قَوْله: (بيعَة الأول فَالْأول) مَعْنَاهُ: إِذا بُويِعَ لخليفة بعد خَليفَة فبيعة الأول صَحِيحَة يجب الْوَفَاء بهَا، وبيعة الثَّانِي بَاطِلَة يحرم الْوَفَاء بهَا سَوَاء عقدوا للثَّانِي عَالمين بِعقد الأول أَو جاهلين، وَسَوَاء كَانَا فِي بلدين أَو أَكثر، وَسَوَاء كَانَ أَحدهمَا فِي بلد الإِمَام الْمُنْفَصِل أم لَا، وَلم يبين حكم الثَّانِي فِي هَذَا، وَهُوَ مُبين فِي رِوَايَة أُخْرَى: فاضربوا عُنُقه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنا من كَانَ. قَوْله: (أعطوهم حَقهم) ، أَي: أطيعوهم وعاشروهم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، فَإِن الله يحاسبهم بِالْخَيرِ وَالشَّر عَن حَال رعيتهم.
6543 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ قَالَ حدَّثني زَيْدُ بنُ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي سَعيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرَاً بِشِبْرٍ وذِرَاعاً بِذِراع حتَّى لَوْ سلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لسَلَكْتُمُوهُ قُلْنا يَا رسُولَ الله اليَهُودَ والنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ. (الحَدِيث 6543 طرفه فِي: 0237) .
وَجه الْمُطَابقَة بَين حَدِيث الْبَاب وَبَين التَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (سنَن مَنْ قَبلَكم) لِأَنَّهُ يَشْمَل بني إِسْرَائِيل وَغَيرهم. وَسَعِيد بن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: واسْمه مُحَمَّد بن مطرف، مر فِي الصَّلَاة، وَأَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام: عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن سُوَيْد بن سعيد، وَهَذَا من الْأَحَادِيث المقطوعة فِي مُسلم لِأَنَّهُ قَالَ فِي كتاب الْقدر: وحَدثني عدَّة من أَصْحَابنَا عَن سعيد بن أبي مَرْيَم الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ عَنهُ، وَوَصله عَنهُ رَاوِي كِتَابه إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم.
قَوْله: (لتتبعن) ، بِضَم الْعين وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (سنَن من قبلكُمْ) ، أَي: طَرِيق الَّذين كَانُوا قبلكُمْ، وَالسّنَن بِفَتْح السِّين: السَّبِيل والمنهاج، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِالضَّمِّ. قَوْله: (شبْرًا بشبر) ، نصب بِنَزْع الْخَافِض تَقْدِيره: لتتبعن سنَن من قبلكُمْ اتبَاعا بشبر ملتبس بشبر وذراع ملتبس بِذِرَاع، وَهَذَا كِنَايَة عَن شدَّة الْمُوَافقَة لَهُم فِي المخالفات والمعاصي، لَا فِي الْكفْر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لَو سلكوا جُحر ضَب) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء، والضب: دويبة تشبه الورن تَأْكُله الْأَعْرَاب، وَالْأُنْثَى ضبة، وَتقول الْعَرَب: هُوَ قَاضِي الطير والبهائم، يَقُولُونَ: اجْتمعت إِلَيْهِ أول مَا خلق الله الْإِنْسَان فوصفته لَهُ، فَقَالَ الضَّب: تَصِفِينَ خلقا ينزل الطير من السَّمَاء وَيخرج الْحُوت من المَاء، فَمن كَانَ لَهُ جنَاح فليطر، وَمن كَانَ ذَا(16/43)
مخلب فليحتفر، وَوجه التَّخْصِيص: بجحر الضَّب، لشدَّة ضيقه ورداءته، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُم لاقتفائهم آثَارهم واتباعهم طرائقهم لَو دخلُوا فِي مثل هَذَا الضّيق الرَّدِيء لوافقوهم. قَوْله: (الْيَهُود) ، يَعْنِي: قَالُوا: يَا رَسُول الله! هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى. قَوْله: (قَالَ فَمن؟) أَي: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَمن غَيرهم، وَهَذَا اسْتِفْهَام على وَجه الْإِنْكَار، أَي: لَيْسَ المُرَاد غَيرهم.
7543 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ ذَكَرُوا النَّارَ والنَّاقُوسَ فذَكَرُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى فَأمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وأنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ. .
ذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا يُمكن أَن يكون لأجل ذكر الْيَهُود فِيهِ، وهم من بني إِسْرَائِيل، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب بَدْء الْأَذَان بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن عَن عمرَان بن ميسرَة، وَكَذَلِكَ مضى مُخْتَصرا من غير هَذَا الطَّرِيق عَن أنس فِي: بَاب الآذان مثنى مثنى، وَبَاب الْإِقَامَة وَاحِدَة، و: عبد الْوَارِث الثَّقَفِيّ، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد.
8543 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها كانَتْ تَكْرَهُ أنْ يَجْعَلَ يَدَهُ فِي خاصِرَتهِ وتَقُولُ إنَّ اليَهُودَ تَفْعَلُهُ.
وَجه ذكر هَذَا هُنَا هُوَ الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش بن سُلَيْمَان وَأَبُو الضُّحَى، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة مَقْصُور: هُوَ مُسلم بن صبيح.
قَوْله: (أَن يَجْعَل) ، أَي: الْمُصَلِّي، وَهَذَا مُطلق وَلكنه مُقَيّد بِحَال الصَّلَاة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم من طَرِيق أَحْمد بن الْفُرَات عَن مُحَمَّد بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ فِيهِ بِلَفْظ: أَنَّهَا كرهت الِاخْتِصَار فِي الصَّلَاة، وَقَالَت: إِنَّمَا يفعل ذَلِك الْيَهُود، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ بِهَذَا الْإِسْنَاد، يَعْنِي: وضع الْيَد على الخاصرة، وَهُوَ فِي الصَّلَاة، والخاصرة الشاكلة، وَيُقَال هُوَ: فعل الْجَبَابِرَة، وَيُقَال: هُوَ استراحة أهل النَّار، وَيُقَال هُوَ فعل من دهته مُصِيبَة، وَيُقَال: لما طرد الشَّيْطَان نزل إِلَى الأَرْض مُخْتَصرا.
تابَعَهُ شُعْبَةُ عنِ الأعْمَشِ
أَي: تَابع سُفْيَان شُعْبَة فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة ابْن أبي شيبَة من طَرِيقه.
9543 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا لَ يْثٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّما أجَلُكُمْ فِي أجَلِ مَنْ خَلاَ مِنَ الأممِ مَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وإنَّما مَثَلُكُمْ ومَثَلُ اليَهُودِ والنَّصَارَى كرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلاَةٍ العَصْرِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلاةِ العَصْرِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ قالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ علَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالَ ألاَ فأنْتُمْ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ علَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ألاَ لَكُمْ الأجْرُ مَرَّتَيْنِ فغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى فقالُوا نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً وأقَلُّ عَطَاءً قَالَ الله هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئَاً قالُوا لاَ قَالَ فإنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ. .
وَجه الْمُطَابقَة مَا ذكر فِيمَا قبله، وَمثل هَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر فَإِنَّهُ أخرجه(16/44)
هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن مُسلم بن عبد الله عَن أَبِيه. قَوْله: (من خلا) أَي: من مضى. قَوْله: (عمالاً) ، بِضَم الْعين: جمع عَامل.
0643 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وعنْ طَاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قاتَلَ الله فُلاناً ألَمْ يَعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَعَنَ الله اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوها فَبَاعُوهَا. (انْظُر الحَدِيث 3222) .
وَجه الْمُطَابقَة فِي ذكر الْيَهُود. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب لَا يذاب شَحم الْميتَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (قَاتل الله) ، أَي: لعن الله. قَوْله: (فجملوها) ، بِالْجِيم أَي: أذابوها.
تابَعَهُ جابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع ابْن عَبَّاس جَابر بن عبد الله. وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَوَاخِر الْبيُوع فِي: بَاب بيع الْميتَة والأصنام. قَوْله: (وَأَبُو هُرَيْرَة) ، أَي: وَتَابعه أَبُو هُرَيْرَة أَيْضا، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب لَا يذاب شَحم الْميتَة، فَإِنَّهُ أخرجه عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن يُونُس إِلَى آخِره.
1643 - حدَّثنا أبُو عاصِمِ الضَّحَّاكُ بنُ مَخْلَدٍ أخبرَنا الأوْزَاعِيُّ حدَّثنا حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ عنْ أبِي كَبْشَةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَلِّغُوا عَنِّي ولَوْ آيَةً وحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ولاَ حَرَجَ ومنْ كَذَبَ علَيَّ مُتَعَمِّدَاً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وَأَبُو كَبْشَة السَّلُولي اسْمه هُوَ كنيته.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَعَن عبد الرَّحْمَن بن ثَابت.
وَقَوله: (وَلَو آيَة) ، أَي: عَلامَة ظَاهِرَة فَهُوَ تتميم ومبالغة، أَي: وَلَو كَانَ الْمبلغ فعلا أَو إِشَارَة وَنَحْوهَا، قَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّمَا قَالَ: آيَة، أَي: من الْقُرْآن، وَلم يقل: حَدِيثا، فَإِن الْآيَات مَعَ تكفل الله بحفظها وَاجِبَة التَّبْلِيغ، فتبليغ الحَدِيث يفهم مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: آيَة، ليسارع كل سامع إِلَى تَبْلِيغ مَا وَقع لَهُ من الْآي، وَلَو قل ليشْمل بذلك نقل جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَحَدثُوا عَن بني إِسْرَائِيل) يَعْنِي: مِمَّا وَقع لَهُم من الْأُمُور العجيبة والغريبة، وَقيل: المُرَاد ببني إِسْرَائِيل أَوْلَاد إِسْرَائِيل نَفسه، وهم أَوْلَاد يَعْقُوب، وَالْمرَاد: حدثوا عَنْهُم بقصتهم مَعَ أخيهم يُوسُف، وَهَذَا بعيد وَفِيه تضييق. وَقَالَ مَالك: المُرَاد جَوَاز التحديث عَنْهُم بِمَا كَانَ من أمرٍ حسن، وَأما مَا علم كذبه فَلَا. وَقيل: الْمَعْنى حدثوا عَنْهُم مثل مَا ورد فِي الْقُرْآن والْحَدِيث الصَّحِيح، وَقيل: المُرَاد جَوَاز التحدث عَنْهُم بِأَيّ صُورَة وَقعت من انْقِطَاع أَو بَلَاغ لتعذر الإتصال فِي التحديث عَنْهُم، بِخِلَاف الْأَحْكَام الإسلامية، فَإِن الأَصْل فِي التحديث بهَا الِاتِّصَال وَلَا يتَعَذَّر ذَلِك لقرب الْعَهْد. قَوْله: (وَلَا حرج) أَي: وَلَا ضيق عَلَيْكُم فِي الحَدِيث عَنْهُم، وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَا حرج، لِأَنَّهُ كَانَ قد تقدم مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزّجر عَن الْأَخْذ عَنْهُم وَالنَّظَر فِي كتبهمْ، ثمَّ حصل التَّوَسُّع فِي ذَلِك، وَكَانَ النَّهْي قبل اسْتِقْرَار الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَالْقَوَاعِد الدِّينِيَّة خشيَة الْفِتْنَة، ثمَّ لما زَالَ الْمَحْذُور وَقع الْإِذْن فِي ذَلِك لما فِي ذَلِك من الِاعْتِبَار عِنْد سَماع الْأَخْبَار الَّتِي وَقعت فِي زمانهم. وَقيل: لَا حرج أَي: لَا تضيق صدوركم بِمَا سمعتموه عَنْهُم من الْأَعَاجِيب فَإِن ذَلِك وَقع لَهُم كثيرا. وَقيل: لَا حرج فِي أَن لَا تحدثُوا عَنْهُم، لِأَن قَوْله أَولا: حدثوا، صِيغَة أَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب، فَأَشَارَ إِلَى عدم الْوُجُوب، وَإِن الْأَمر فِيهِ للْإِبَاحَة، بقوله: وَلَا حرج، أَي: فِي ترك التحديث عَنْهُم. وَقيل: المُرَاد رفع الْحَرج عَن حاكي ذَلِك لما فِي أخبارهم من الْأَلْفَاظ المستبشعة، نَحْو قَوْلهم: {إذهب أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} (الْمَائِدَة: 42) . وَقَوْلهمْ: {إجعل لنا إل هَا} (الْأَعْرَاف: 831) . قَوْله: صِيغَة أَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب، لَيْسَ ذَلِك على إِطْلَاقه، وَإِنَّمَا الْأَمر إِنَّمَا يَقْتَضِي الْوُجُوب بصيغته إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن، وَهنا قَوْله: وَلَا حرج، قرينَة على أَنه(16/45)
لَيْسَ بِوَاجِب وَلَا هُوَ للنَّدْب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأَمر للْإِبَاحَة إِذْ لَا وجوب وَلَا ندب فِيهِ بِالْإِجْمَاع. قَوْله: (وَمن كذب عَليّ) إِلَى آخِره، قد مر نَحوه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب إِثْم من كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن البُخَارِيّ روى فِي هَذَا الْبَاب عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة، وهم: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام، وَأنس بن مَالك، وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع، وَأَبُو هُرَيْرَة. وروى أَيْضا فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا يكره من النِّيَاحَة عَن الْمُغيرَة، وروى أَيْضا هَهُنَا عَن عبد الله بن عَمْرو، وَقد تكلمنا هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة. قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ) بِكَسْر اللَّام هُوَ الأَصْل وبالسكون هُوَ الْمَشْهُور وَهُوَ أَمر من التبوء، وَهُوَ اتِّخَاذ المباءة، أَي: الْمنزل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تبوأت منزلا أَي: نزلته.
2643 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمان إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ إنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ اليَهُودَ والنَّصارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ. (الحَدِيث 2643 طرفه فِي: 9985) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْيَهُود) . وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن عبيد الله بن سعد بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (لَا يصبغون) ، أَي: شيب الشّعْر، وَهُوَ مَنْدُوب إِلَيْهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بمخالفتهم. فَإِن قلت: ورد النَّهْي عَن إِزَالَة الشيب؟ قلت: لَا تعَارض بَينهمَا هُنَا لِأَن الصَّبْغ لَا يَقْتَضِي الْإِزَالَة. وَقيل: المُرَاد بالإزالة النتف، وَسُئِلَ مَالك عَن النتف؟ فَقَالَ: مَا أعلمهُ حَرَامًا وَتَركه أحب إِلَيّ، وَالْإِذْن فِيهِ مُقَيّد بِغَيْر السوَاد، لما روى مُسلم من حَدِيث جَابر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: غيروه وجنبوه السوَاد. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (يكون قوم فِي آخر الزَّمَان يخضبون كحواصل الْحمام لَا يَجدونَ ريح الْجنَّة) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا وَصَححهُ. والْحَدِيث صَحِيح، وَلَكِن الْكَلَام فِي رَفعه وَوَقفه وعَلى تَقْدِيره تَرْجِيح وَقفه، فَمثله لَا يدْرك بِالرَّأْيِ، فَحكمه الرّفْع وَلِهَذَا اخْتَار النَّوَوِيّ أَن الصَّبْغ بِالسَّوَادِ يكره كَرَاهَة تَحْرِيم. وَعَن الْحَلِيمِيّ: أَن الْكَرَاهَة خَاصَّة بِالرِّجَالِ دون النِّسَاء، فَيجوز ذَلِك للْمَرْأَة لأجل زَوجهَا. وَقَالَ مَالك: الْحِنَّاء والكتم وَاسع والصبغ بِغَيْر السوَاد أحب إِلَيّ، وَيسْتَثْنى من ذَلِك الْمُجَاهِد اتِّفَاقًا.
وَقد اخْتلف: هَل كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصْبغ؟ فَقَالَ ابْن عمر فِي الْمُوَطَّأ: أما الصُّفْرَة فَرَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بهَا، وَأَنا أحب أَن أصبغ، وَقيل: كَانَ يصفر لحيته، وَقيل: أَرَادَ بالصفرة فِي حَدِيث ابْن عمر صفرَة الثِّيَاب، وَقيل: صبغ مرّة، وَقَالَ مَالك: لم يصْبغ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا عَليّ وَلَا أبي بن كَعْب وَلَا ابْن الْمسيب، وَلَا السَّائِب بن يزِيد، وَلَا ابْن شهَاب. قَالَ: وَالدَّلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصْبغ أَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يصْبغ، فَلَو كَانَ صبغ لبدأت بِهِ. وَقَالَ مَالك: والصبغ بِالسَّوَادِ مَا سَمِعت فِيهِ شَيْئا، وَغَيره من الصَّبْغ أحب إِلَيّ، والصبغ بِالْحِنَّاءِ والكتم وَاسع.
3643 - حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثني حَجَّاجٌ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الحَسَنِ حدَّثنا جُنْدُبُ بنُ عَبْدِ الله فِي هاذَا المَسْجِدِ وَمَا نَسِينَا مُنْذُ حَدثنَا وَمَا نَخْشَى أنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ علَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْجٌ فجَزِعَ فأخَذَ سِكِّينَاً فَحَزَّ بِها يَدَهُ فَما رَقأ الدَّمُ حتَّى ماتَ قَالَ الله تَعَالَى بادرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ علَيْهِ الجَنَّةَ. (انْظُر الحَدِيث 4631) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ) ، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون من بني إِسْرَائِيل أَو من غَيرهم، وَمُحَمّد شيخ البُخَارِيّ، قَالَ ابْن السكن: هُوَ مُحَمَّد بن معمر بن ربعي الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر كَذَا نَقله عَن الْفربرِي، وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وحجاج هُوَ ابْن منهال، وَجَرِير هُوَ ابْن حَازِم، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي قَاتل نَفسه، بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي هَذَا الْمَسْجِد) أَرَادَ بِهِ: مَسْجِد الْبَصْرَة. قَوْله: (مُنْذُ حَدثنَا)(16/46)
بِفَتْح الدَّال، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تحَققه لما حدث بِهِ. قَوْله: (وَمَا نخشى أَن يكون جُنْدُب كذب) ، فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الصَّحَابَة عدُول، وَأَن الْكَذِب مَأْمُون من قبلهم، وَلَا سِيمَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِهِ جرح) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الرَّاء، وَتقدم فِي الْجَنَائِز بِلَفْظ: بِهِ جراح، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أَن رجلا خرجت بِهِ قرحَة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء، وَهِي: حَبَّة تخرج فِي الْبدن، وَكَأَنَّهُ كَانَ بِهِ جرح ثمَّ صَار قرحَة، أَو كَانَ كِلَاهُمَا، قَوْله: (فجزع) ، أَي: لم يصبر على الْأَلَم. قَوْله: (فحز) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي، أَي: قطع. قَوْله: (فَمَا رقأ) ، بِالْقَافِ والهمز، أَي: لم يَنْقَطِع الدَّم، يُقَال: رقأ أَي: سكن وَانْقطع. قَوْله: (بادرني عَبدِي بِنَفسِهِ) كِنَايَة عَن استعجاله الْمَوْت. قَوْله: (حرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) ، تَغْلِيظ، أَو كَانَ اسْتحلَّ فَكفر، أَو المُرَاد جنَّة مُعينَة كالفردوس مثلا، أَو الْمَعْنى: حرمت عَلَيْهِ الْجنَّة إِن شِئْت اسْتِمْرَار ذَلِك.
15 - (حدِيثُ أبْرَصَ وأقْرَعَ وأعْمَى فِي بَنِي إسْرَائِيلَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَدِيث أبرص وأقرع، وَهُوَ الَّذِي ذهب شعر رَأسه من آفَة. قَوْله: (فِي بني إِسْرَائِيل) ، أَي: الكائنين فِي بني إِسْرَائِيل، وَفِي بعض النّسخ: بَاب حَدِيث أبرص ... إِلَى آخِره.
4643 - حدَّثني أحْمَدُ بنُ إسْحَاقَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ عاصِمٍ حدَّثنا هَمَّامٌ حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي عَمْرَةَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحدَّثنِي مُحَمَّدٌ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجاءٍ أخبرَنَا هَمَّامٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله قَالَ أخبرَني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي عَمْرَةَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ ثَلاثَةً فِي بَنِي إسْرَائِيلَ أبْرَصَ وأقْرَعَ وأعْمَى بدَا لله أنْ يَبْتَلِيَهُمْ فبَعَثَ إلَيْهِمْ مَلَكَاً فأتَى الأبْرَص فَقَالَ أيُّ شَيءٍ أحَبُّ إلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجلد حسن قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فذَهَبَ عَنْهُ فأعْطِيَ لَوْناً حَسَناً وجِلْدَاً حَسَنَاً فَقَالَ أيُّ المَالِ أحَبُّ إلَيْكَ قَالَ الإبِلُ أوْ قالَ البَقَرُ هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ أنَّ الأبْرَصَ والأقْرَعَ قَالَ أحَدُهُمَا الإبِلُ وَقَالَ الآخَرُ البَقَرُ فأعْطَى ناقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وأتَى الأقْرَعَ فَقَالَ أيَّ شَيءٍ أحَبُّ إلَيْكَ قَالَ شَعْرٌ حَسَنٌ ويَذْهَبُ عَنِّي هذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فذَهَبَ وأُعْطِيَ شَعَرَاً حسَنَاً قَالَ فأيُّ المَالِ أحَبُّ إلَيْكَ قَالَ البَقَرُ قالَ فأعْطَاهُ بَقَرَةً حامِلاً وَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا وأتَى الأَعْمَى فَقَالَ أيُّ شَيْءٍ أحَبُّ إلَيُكَ قَالَ يَرُدُّ الله إلَيَّ بَصَرِي فأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ فمَسَحَهُ فرَدَّ الله إلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فأيُّ المالِ أحَبُّ إلَيْكَ قَالَ قَالَ الغَنَمْ فأعْطَاهُ شَاة والِداً فانْتِجَ هاذَانِ وولَّدَ هَذا فَكانَ لِهَذَا وادٍ مِنْ إبِلٍ ولِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ ولِهَذَا وادٍ مِنَ الغَنَمِ ثُمَّ إنَّهُ أتَى الأبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وهَيْئَتِهِ فقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلا بَلاغَ اليَوْمَ إلاَّ بِاللَّه ثُمَّ بِكَ أسْألُكَ بالَّذِي أعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ والجِلْدَ الحَسَنَ والمَالَ بَعِيراً أتَبَلَّغُ علَيْهِ فِي سَفَرِي فقَالَ لَهُ إنَّ الحُقوقَ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ كأنِّي أعْرِفُكَ ألَمْ تَكُنْ أبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرَاً فأعْطَاكَ الله فَقَالَ لَقَدْ ورِثْتُ كابِرَاً عنْ كابِرٍ فَقَالَ إنَّ كُنْتَ كاذِبَاً فَصَيَّرَكَ الله إِلَى مَا كُنْت وأتى الأقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا فَردَّ علَيْهِ مِثْلَ(16/47)
مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا فقالَ إنْ كُنْتَ كاذِبَاً فَصَيَّرَكَ الله إِلَى مَا كُنْتَ وأتَى الأعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وابنُ سَبِيلٍ وتقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بلاَغَ اليَوْمَ إلاَّ بِاللَّه ثُمَّ بِكَ أسْألُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاة أتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فقالَ قَدْ كُنْتُ أعْمَى فرَدَّ الله بَصَرِي وفَقِيرَاً فَقَدْ أغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فَوَالله لاَ أجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أخَذْتَهُ لله فقالَ أمْسِكْ مالَكَ فإنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِي الله تَعَالَى عنكَ وسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ. (الحَدِيث 4643 طرفه فِي: 3566) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من لفظ الحَدِيث. وَأخرجه من طَرِيقين.
ورجالهما ثَمَانِيَة الأول: أَحْمد بن إِسْحَاق بن الْحصين أَبُو إِسْحَاق السّلمِيّ السرماري، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة، وَقيل بسكونها نِسْبَة إِلَى: سرمارة، قَرْيَة من قرى بُخَارى، وَهُوَ من أَقْرَان البُخَارِيّ وأفراده، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لست ليالٍ بَقينَ من شهر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، الثَّانِي: عَمْرو، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: ابْن عَاصِم بن عبيد الله الْقَيْسِي الْكلابِي الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: همام بن يحيى العوذي الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي التَّوْحِيد. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة، واسْمه: عَمْرو بن مُحصن الْأنْصَارِيّ النجاري، قَاضِي أهل الْمَدِينَة. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّابِع: فِي السَّنَد الثَّانِي: مُحَمَّد، كَذَا مُجَردا، قَالَ الجياني: لَعَلَّه مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَيُقَال: إِنَّه البُخَارِيّ نَفسه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه روى عَن عبد الله بن رَجَاء وَهُوَ أحد مشايخه، روى عَنهُ فِي اللّقطَة وَغَيرهَا بِلَا وَاسِطَة. الثَّامِن: عبد الله بن رَجَاء بن الْمثنى الْبَصْرِيّ أَبُو عمر، وَمَات سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور وَقَالَ: عَن عَمْرو بن عَاصِم، وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن شَيبَان بن فروخ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بدا لله) بتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة بِغَيْر همزَة، كَذَا ضَبطه بَعضهم، ثمَّ قَالَ: أَي سبق فِي علم الله فَأَرَادَ إِظْهَاره، وَلَيْسَ المُرَاد أَنه ظهر لَهُ بعد أَن كَانَ خافياً، لِأَن ذَلِك محَال فِي حق الله تَعَالَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد روى بَعضهم: بدا الله، وَهُوَ غلط، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : ضبطناه على متقني شُيُوخنَا بِالْهَمْزَةِ، أَي: ابْتَدَأَ الله أَن يبتليهم، قَالَ: وَرَوَاهُ كثير من الشُّيُوخ بِغَيْر همز وَهُوَ خطأ، وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: قضى الله أَن يبتليهم، لِأَن الْقَضَاء سَابق، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن شَيبَان بن فروخ عَن همام بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظ: أَرَادَ الله أَن يبتليهم، أَي: يختبرهم. ويروى: يبليهم بِإِسْقَاط التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. قَوْله: (قد قذرني النَّاس) بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة أَي: كرهني النَّاس، ويروى: قذروني النَّاس من بَاب: أكلوني البراغيث، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قَوْله: (فمسحه) أَي: مسح على جِسْمه. قَوْله: (فَأعْطِي) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَقَالَ واي المَال؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أَي المَال؟ بِلَا وَاو. قَوْله: (أَو قَالَ الْبَقر) شكّ فِي ذَلِك، وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم أَن الَّذِي شكّ هُوَ إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة رَاوِي الحَدِيث. قَوْله: (فَأعْطى نَاقَة) أَي: الَّذِي تمنى الْإِبِل أعطي نَاقَة عشراء بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ممدوداً، وَهِي: الْحَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي حملهَا عشرَة أشهر من يَوْم طرقها الْفَحْل، وَقيل: يُقَال لَهَا ذَلِك إِلَى أَن تَلد، وَبَعْدَمَا تضع وَهِي من أنفس المَال. قَوْله: (يُبَارك لَك فِيهَا) ، كَذَا وَقع بِضَم الْيَاء وَفِي رِوَايَة شَيبَان: بَارك الله، بِلَفْظ الْفِعْل الْمَاضِي وَإِظْهَار الْفَاعِل، قَوْله: (فمسحة) أَي: فَمسح على عَيْنَيْهِ. قَوْله: (شَاة وَالِد) ، أَي: ذَات ولد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: شَاة وَالِد، أَي: حَامِل، وَالشَّاة تذكر وتؤنث، وَفُلَان كثير الشَّاة وَهُوَ فِي معنى الْجمع. قَوْله: (فأنتج هَذَانِ) أَي: صَاحب الْإِبِل وَالْبَقر، كَذَا وَقع، أنتج، وَهِي لُغَة قَليلَة، والفصيح عِنْد أهل اللُّغَة: نتجت النَّاقة، بِضَم النُّون، ونتج الرجل النَّاقة، أَي: حمل عَلَيْهَا الْفَحْل، وَقد سمع: أنتجت الْفرس، أَي ولدت فَهِيَ نتوج، وَلَا يُقَال: منتج. قَوْله: (وَولد هَذَا) ، بتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة أَي: صَاحب الشَّاة، وراعي عرف الِاسْتِعْمَال حَيْثُ قَالَ فِي الْإِبِل وَالْبَقر: أنتج، وَفِي الْغنم: ولد. قَوْله: (من الْغنم) ، ويروى: من غنم. قَوْله: (فِي صورته) أَي: فِي الصُّورَة(16/48)
الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لما اجْتمع بِهِ وَهُوَ أبرص، قَوْله: (رجل مِسْكين) زَاد شَيبَان: وَابْن سَبِيل، قَالَ ابْن التِّين: قَوْله: الْملك لَهُ رجل مِسْكين ... إِلَى آخِره، أَرَادَ: أَنَّك كنت هَكَذَا، وَهُوَ من المعاريض، وَالْمرَاد بِهِ ضرب الْمثل ليتيقظ الْمُخَاطب. قَوْله: (الحبال) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا بَاء مُوَحدَة مُخَفّفَة: جمع حَبل، أَرَادَ بِهِ الْأَسْبَاب الَّتِي يقطعهَا فِي طلب الرزق وَقيل: العقبات، قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِالْجِيم، وَقيل: هُوَ تَصْحِيف وَفِي (التَّوْضِيح) : ويروى الْحِيَل جمع حِيلَة، يَعْنِي: لم يبْق لي حِيلَة. قَوْله: (أتبلغ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أتبلغ بِهِ، وَهُوَ بالغين الْمُعْجَمَة من: الْبلْغَة، وَهِي الْكِفَايَة، وَالْمعْنَى: أتوصل بِهِ إِلَى مرادي، يُقَال: تبلغ بِكَذَا، أَي: اكْتفى بِهِ. قَوْله: (يقذرك النَّاس) بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة لِأَنَّهُ من بَاب علم يعلم. قَوْله: (فَقِيرا) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (كَابِرًا عَن كَابر) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لكابر عَن كَابر، وَفِي رِوَايَة شَيبَان: إِنَّمَا ورثت هَذَا المَال كَابِرًا عَن كَابر، قَالَ بَعضهم: أَي: كَبِيرا عَن كَبِير فِي الْعِزّ والشرف. قلت: أَخذه من كَلَام الْكرْمَانِي، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: ورثت هَذَا المَال عَن آبَائِي وأجدادي حَال كَون كل وَاحِد مِنْهُم كَابِرًا عَن كَابر، أَي: كَبِيرا ورث عَن كَبِير. قَوْله: (فصيرك الله) ، وَإِنَّمَا أوردهُ بِلَفْظ الْفِعْل الْمَاضِي لإِرَادَة الْمُبَالغَة فِي الدُّعَاء عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أدخلت الْفَاء فِيهِ لِأَنَّهُ دُعَاء. قَوْله: (فوَاللَّه لَا أجهدك الْيَوْم) بِالْجِيم وَالْهَاء، كَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَأكْثر رِوَايَات مُسلم أَي: لَا أشق عَلَيْك فِي رد شَيْء تطلبه مني أَو تَأْخُذهُ. وَقَالَ عِيَاض: رِوَايَة البُخَارِيّ لم تخْتَلف، أَنه: لَا أحمدك، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْمِيم، يَعْنِي: لَا أحمدك على ترك شَيْء تحْتَاج إِلَيْهِ من مَالِي. وَقَوله: رِوَايَة البُخَارِيّ لم تخْتَلف، لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن رِوَايَة كَرِيمَة بِالْجِيم والحاء، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ عِيَاض: لم يَتَّضِح هَذَا الْمَعْنى لبَعض النَّاس، فَقَالَ: لَعَلَّه: لَا أحدك، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الدَّال بِغَيْر مِيم، أَي: لَا أمنعك. قَالَ: وَهَذَا تكلّف، وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا حَاصله: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون قَوْله: لَا أحمدك، بتَشْديد الْمِيم أَي: لَا أطلب مِنْك الْحَمد، فَيكون من قَوْلهم: فلَان يتحمد عَليّ، أَي: يمتن، وَيكون الْمَعْنى هُنَا: لَا أمتن عَلَيْك، يُقَال: من أنْفق مَاله على نَفسه فَلَا يتحمد بِهِ على النَّاس. قَوْله: (إِنَّمَا ابتليتم) أَي: إِنَّمَا امتحنتم. قَوْله: (فقد رضى الله عَنْك) إِلَى آخِره، ويروى: وَرَضي عَنْك، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَكَذَلِكَ سخط مثله وَكَانَ الْأَعْمَى خير الثَّلَاثَة. قَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله: وَلَا شكّ أَن مزاجه كَانَ أقرب إِلَى السَّلامَة من مزاجهما، لِأَن البرص لَا يحصل إلاَّ من فَسَاد المزاج وخلل فِي الطبيعة، وَكَذَلِكَ ذهَاب الشّعْر أَيْضا، بِخِلَاف الْعَمى فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم فَسَاده فقد يكون من أَمر خارجي.
25 - (بابٌ {أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصْحَابَ الكَهْفِ والرَّقِيمِ} (الْكَهْف: 9) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {أم حسبت ... } إِلَى آخِره، وَلم يذكر فِي الْبَاب إلاَّ تَفْسِير بعض مَا وَقع فِي قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني لفظ: بَاب، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لَا بَاب وَلَا غَيره من التَّرْجَمَة، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِأَن الْكتاب فِي الحَدِيث لَا فِي التَّفْسِير.
الكَهْفُ الفَتْحُ فِي الجَبَلِ
هُوَ قَول الضَّحَّاك أخرجه عَنهُ ابْن أبي حَاتِم، وَاخْتلف فِي مَكَان الْكَهْف، فَقيل: بَين أَيْلَة وفلسطين، وَقيل: بِالْقربِ من أَيْلَة، وَقيل: بِأَرْض نِينَوَى، وَقيل: بالبلقاء، وَالْأَخْبَار الَّتِي تكاثرت أَنه بِبِلَاد الرّوم، وَهُوَ الصَّحِيح، فَقيل: بِالْقربِ من طرسوس، وَقيل: بِالْقربِ من إيلستين، وَكَانَ اسْم مدينتهم إفسوس، وَاسم ملكهم: دقيانوس، وَقَالَ السُّهيْلي: مدينتهم يُقَال إِنَّهَا على سِتَّة فراسخ من الْقُسْطَنْطِينِيَّة، وَكَانَت قصتهم قبل غَلَبَة الرّوم على يونان، وَأَنَّهُمْ سيحجون الْبَيْت إِذا نزل عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَذكر ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) : من حَدِيث حجاج بن أَرْطَأَة عَن الحكم بن عتيبة عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: أَصْحَاب الْكَهْف أعوان الْمهْدي، وَذكر مقَاتل فِي (تَفْسِيره) اسْم الْكَهْف: مانجلوس.
والرَّقِيمُ الكِتابُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير الرقيم، فَالَّذِي فسره مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث(16/49)
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ. قَوْله: (من الرقم) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن اشتقاق الرقيم والمرقوم من الرقم، وَهُوَ الْكِتَابَة، وَفِي الرقيم أَقْوَال أُخر. فَعَن أبي عُبَيْدَة: الرقيم الْوَادي الَّذِي فِيهِ الْكَهْف، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: اسْم الْقرْيَة، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ، وَعَن أنس: أَن الرقيم اسْم الْكَلْب، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم، وَكَذَا روى عَن سعيد بن جُبَير، وَقيل: الرقيم اسْم الصَّخْرَة الَّتِي أطبقت على الْوَادي الَّذِي فِيهِ الْكَهْف، وَقيل: هُوَ الْغَار، وَعَن ابْن عَبَّاس: الرقيم لوح من رصاص كتبت فِيهِ أَسمَاء أَصْحَاب الْكَهْف لما توجهوا عَن قَومهمْ وَلم يدروا أَيْن توجهوا.
{رَبَطْنا علَى قُلُوبِهِم} (الْكَهْف: 41) . ألهَمْنَاهُمْ صَبْرَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وربطنا على قُلُوبهم إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبنَا رب السَّمَوَات وَالْأَرْض} (الْكَهْف: 41) . وَفسّر: ربطنا، بقوله: ألهمناهم صبرا، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
شَطَطَاً إفْرَاطَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لن نَدْعُو من دونه إل هَا لقد قُلْنَا إِذا شططاً} (الْكَهْف:) . قَوْله: (شططا) ، مَنْصُوب على أَنه صفة مصدر مَحْذُوف تَقْدِيره: لقد قُلْنَا إِذا قولا شططاً، أَي: ذَا شطط، وَهُوَ الإفراط فِي الظُّلم والإبعاد، من شط إِذا بعد، وَعَن أبي عُبَيْدَة: شططاً أَي جوراً وغلواً.
الوَصِيدُ الفِناءُ وجَمْعُهُ وصائِدُ ووُصْدٌ ويُقالُ الوَصِيدُ البابُ مُؤْصَدَةٌ مُطْبَقَةٌ أصَدَ البابَ وأوْصَدَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وكلبهم باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} (الْكَهْف: 81) . وَفسّر الوصيد بقوله: الفناء، بِكَسْر الْفَاء وَالْمدّ، وَهَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَكَذَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الوصيد الفناء، وَقيل: العتبة، وَقيل: الْبَاب. قَوْله: (وَجمعه) أَي: وَجمع الوصيد وصائد ووصد، بِضَم الْوَاو وَسُكُون الصَّاد، وَيُقَال: الأصيد كالوصيد، روى ابْن جرير عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَن أهل الْيمن وتهامة يَقُولُونَ: الوصيد، وَأهل نجد يَقُولُونَ: الأصيد. قَوْله: (مؤصدة) إِشَارَة إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَار مؤصدة} (الْبَلَد: 02) . وَفَسرهُ بقوله: مطبقة، وَهَذَا ذكره اسْتِطْرَادًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي سُورَة الْكَهْف، وَلكنه لما كَانَ الِاشْتِقَاق بَينهمَا من وادٍ واحدٍ ذكره هُنَا، وَالَّذِي ذكره هُوَ الْمَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة. قَوْله: (أصد الْبَاب) ، أَي: أغلقة، وَيُقَال فِيهِ: أوصد أَيْضا بِمَعْنى يُقَال بالثلاثي وبالمزيد.
بَعَثْنَاهُمْ أحْيَيْنَاهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ بعثناهم ليتساءلوا بَينهم} (الْكَهْف: 91) . الْآيَة، وَفَسرهُ بقوله: أحييناهم، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
أزْكَى أكْثَرُ رَيْعاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلْينْظر أَيهَا أزكى طَعَاما فليأتكم برزق مِنْهُ} (الْكَهْف: 91) . وَفسّر أزكى بقوله: أَكثر ريعاً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَيهَا، أَي أَي: أَهلهَا، كَمَا فِي قَوْله: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . أزكى طَعَاما أحل، وَأطيب، أَو أَكثر وأرخص.
فَضَرَبَ الله عَلَى آذَانِهِمْ فَنامُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فضربنا على آذانهم فِي الْكَهْف سِنِين عددا} (الْكَهْف: 11) . وَفِي الْحَقِيقَة أَخذ لَازم الْقُرْآن، وَفَسرهُ بلازمه: إِذْ لَيْسَ الَّذِي ذكره لفظ الْقُرْآن وَلَا ذَلِك مَعْنَاهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: ضربنا عَلَيْهَا حِجَابا من أَن تسمع، يَعْنِي: أنمناهم إنامة ثَقيلَة لَا تنبههم فِيهَا الْأَصْوَات.
{رِجْمَاً بالْغَيْبِ} (الْكَهْف: 22) . لَمْ يَسْتَبِنْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سيقولون ثَلَاثَة رابعهم كلبهم وَيَقُولُونَ خَمْسَة سادسهم كلبهم رجماً بِالْغَيْبِ} (الْكَهْف: 22) . وَفسّر الرَّجْم بِالْغَيْبِ بقوله: لم يستبن، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ: قذفا بِالظَّنِّ، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الرَّجْم مَا لم تستيقنه من الظَّن.(16/50)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَقْرِضُهُمْ تَتْرُكُهُمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: (تقرضهم) ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَترى الشَّمْس إِذا طلعت تزاور عَن كهفهم ذَات الْيَمين وَإِذا غربت تقرضهم ذَات الشمَال ... } (الْكَهْف: 71) . الْآيَة، وَفسّر: تقرضهم، بقوله: تتركهم، وأصل الْقَرْض الْقطع والتفرقة من قَوْلك قرضته بالمقراض أَي: قطعته، وَالْمعْنَى هُنَا: تعدل عَنْهُم وتتركهم، قَالَه الْأَخْفَش والزجاج، وَقيل: تصيبهم يَسِيرا، مَأْخُوذ من قراضة الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْهَا بالمقراض أَي: تعطيهم الشَّمْس الْيَسِير من شعاعها، وَقيل: مَعْنَاهُ تحاذيهم، وَهُوَ قَول الْكسَائي وَالْفراء.
35 - (بَاب حَدِيثُ الغَارِ)
أَي: هَذَا بَيَان حَدِيث الْغَار الَّذِي آوى إِلَيْهِ ثَلَاثَة نفر مِمَّن كَانُوا قبلنَا، قيل: وَجه الْمُنَاسبَة فِي ذكر حَدِيث الْغَار عقيب حَدِيث أبرص وأقرع وأعمى هُوَ أَنه ورد أَن الرقيم الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: {أم حسبت أَن أَصْحَاب الْكَهْف والرقيم} (الْكَهْف: 9) . هُوَ الْغَار الَّذِي آوى إِلَيْهِ الثَّلَاثَة المذكورون، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن عَن النُّعْمَان بن بشير أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر الرقيم، قَالَ: إنطلق ثَلَاثَة فَكَانُوا فِي كَهْف فَوَقع الْحَبل على بَاب الْكَهْف فأوصد عَلَيْهِم ... الحَدِيث. قلت: يحْتَمل أَنه ذكر هَذَا عقيب ذَاك لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانُوا فِي زمن بني إِسْرَائِيل، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن عقبَة بن عَامر: أَن ثَلَاثَة نفر من بني إِسْرَائِيل، الحَدِيث، ذكره فِي الدُّعَاء.
5643 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ خَلِيلٍ أخْبرَنَا عليُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إذْ أصَابَهُمْ مَطَرٌ فأوَوْا إلَى غَارٍ فانْطَبَقَ علَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إنَّهُ وَالله يَا هاؤُلاءِ لاَ يُنْجِيكُمْ إلاَّ الصِّدْقُ فَلْيَدْعُ كلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ فَقَالَ واحِدٌ مِنْهُمْ أللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ كانَ لِي أجِيرٌ عمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أرُزٍّ فذَهَبَ وتَرَكَهُ وأنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فزَرَعْتُهُ فَصارَ مِنْ أمْرِهِ أنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرَاً وأنَّهُ أتَانِي يَطْلُبُ أجْرَهُ فقُلْتُ لَهُ اعْمِدْ إلَى تِلْكَ البَقَرِ فسُقْهَا فَقالَ لِي إنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ لَهُ اعْمِدْ إلَى تِلْكَ البَقَرِ فإنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الفَرَقِ فَساقَها فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجُ عَنَّا فانْسَاخَتْ عنهُمُ الصَّخْرَةُ فقالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ كانَ لِي أبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ فَكُنْتُ آتِيهِما كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فأبْطَأتُ عَلَيْهِمَا فَجِئْتُ وقَدْ رَقَدَا وأهْلِي وعِيَالِي يتَضَاغَوْنَ مِنَ الجُوعِ فَكُنْتُ لاَ أسْقِيهِمْ حتَّى يَشْرَبَ أبَوَايَ فكَرِهْتُ أنْ أوقِظَهُمَا وكَرِهْتُ أنْ أدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا فلَمْ أزَلْ أنْتَظِرُ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فانْسَاخَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ حتَّى نَظَرُوا إلَى السَّماءِ فَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ كانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ وإنِّي رَاوَدْتُهَا عنْ نَفْسِها فأبَتْ إلاَّ أنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينارٍ فطَلَبْتُهَا حتَّى قَدَرْتُ فأتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُها إلَيْهَا فأمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا فلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فقالَتِ اتَّقِ الله ولاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاَّ بِحَقِّهِ فَقُمْتُ وتَرَكْتُ المِائَةَ دِينارٍ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ(16/51)
فَفَرِّجْ عَنَّا ففَرَّجَ الله عَنْهُمْ فخَرَجُوا. .
وَجه الْمُطَابقَة قد ذكر الْآن. وَإِسْمَاعِيل بن خَلِيل أَبُو عبد الله الْخُزَاعِيّ الْكُوفِي، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْإِجَارَة فِي: بَاب من اسْتَأْجر أَجِيرا فَترك أجره، أخرجه عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، وَمضى أَيْضا فِي الْبيُوع فِي: بَاب إِذا اشْترى شَيْئا لغيره عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَمضى أَيْضا فِي الْبيُوع فِي: بَاب إِذا زرع بِمَال قوم عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أبي ضَمرَة عَن مُوسَى ابْن عقبَة عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، وَلم يخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث إلاَّ من رِوَايَة ابْن عمر، وَكَذَلِكَ مُسلم، وَفِي الْبَاب عَن أنس عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَعَن أبي هُرَيْرَة عِنْد ابْن حبَان، وَعَن النُّعْمَان بن بشير عِنْد أَحْمد وَعَن عَليّ وَعقبَة بن عَامر وَعبد الله ابْن عَمْرو ابْن الْعَاصِ وَعبد الله بن أبي أوفى عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَقد ذكرنَا فِي كل مَوضِع بِمَا فتح الله تَعَالَى، وَنَذْكُر هُنَا بعض شَيْء وَمَا علينا إِن وَقع بعض تكْرَار، فَإِن التكرير يُفِيد تكْرَار الْمسك عِنْد التضوع.
قَوْله: (مِمَّن كَانَ قبلكُمْ) ، يَعْنِي من بني إِسْرَائِيل كَمَا فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا. قَوْله: (يَمْشُونَ) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ، وَهُوَ قَوْله: ثَلَاثَة نفر، وأضيف: بَيْنَمَا إِلَى هَذِه الْجُمْلَة. وَقَوله: (إِذا أَصَابَهُم) جَوَاب: بَيْنَمَا. قَوْله: (فآووا إِلَى غَار) ، بقصر الْهمزَة، يُقَال: آوى بِنَفسِهِ مَقْصُور، وآويته أَنا بِالْمدِّ، وَقيل: يجوز هُنَا الْقصر وَالْمدّ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَأبي يعلى وَالْبَزَّار: فَدَخَلُوا غاراً فَسقط عَلَيْهِم حجر يتجافى حَتَّى مَا يرَوْنَ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عِنْد البُخَارِيّ: حَتَّى أواهم الْمبيت، بِنصب الْمبيت على المفعولية، ووجهوه بِأَن دُخُول الْغَار من فعلهم فَحسن أَن ينْسب الإيواء إِلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة مُسلم من هَذَا الْوَجْه: فآواهم المبيتُ بِرَفْع الْمبيت على الفاعلية. قَوْله: (فانطبق عَلَيْهِم) ، أَي: بَاب الْغَار، وَمضى فِي الْمُزَارعَة: فانحطت على فَم غارهم صَخْرَة من الْجَبَل فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة سَالم: فدخلوه فانحدرت صَخْرَة من الْجَبَل فَسدتْ عَلَيْهِم الْغَار، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير: إِذْ وَقع الْحجر من الْجَبَل مِمَّا يهْبط من خشيَة الله حَتَّى سد فَم الْغَار. قَوْله: (إِنَّه) أَي: الشَّأْن. قَوْله: (فليدعُ كل رجل مِنْكُم) ، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة: أنظروا أعمالاً عملتموها صَالِحَة لله، وَمثله فِي رِوَايَة مُسلم وَفِي الْبيُوع: أدعوا الله بِأَفْضَل عمل عملتموه، وَفِي رِوَايَة سَالم: أَنه لَا ينجيكم إلاَّ أَن تدعوا الله بِصَالح أَعمالكُم. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأنس جَمِيعًا، فَقَالَ بَعضهم: عفى الْأَثر وَوَقع الْحجر وَلَا يعلم بمكانكم إلاَّ الله، أدعوا الله بأوثق أَعمالكُم. وَفِي حَدِيث النُّعْمَان بن بشير إِنَّكُم لن تَجدوا شَيْئا خيرا لكم من أَن يَدْعُو كل امرىء مِنْكُم بِخَير عمل عمله قطّ. قَوْله: (فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت والنسفي: وَقَالَ: أللهم، بِدُونِ ذكر لفظ: وَاحِد مِنْهُم. قَوْله: (إِن كنت تعلم) ، على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، لأَنهم كَانُوا جازمين بِأَن الله عَالم بذلك فَلَا مجَال لحرف الشَّك فِيهِ، وَأجِيب: بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا عَالمين بِأَن لأعمالهم اعْتِبَارا عِنْد الله، وَلَا جازمين، فَقَالُوا: إِن كنت تعلم لَهَا اعْتِبَارا ففرِّج عَنَّا. قَوْله: (على فرق) ، بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء بعْدهَا قَاف، وَقد تسكن الرَّاء و: هُوَ مكيال يسع ثَلَاثَة آصَع. قَوْله: (من أرز) فِيهِ سِتّ لُغَات، قد ذَكرنَاهَا فِيمَا مضى. قَوْله: (عَمَدت) أَي: قصدت. قَوْله: (اشْتريت مِنْهُ بقرًا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فِيهِ صِحَة بيع الْفُضُولِيّ؟ قلت: هَذَا شرع من قبلنَا، ثمَّ لَيْسَ فِيهِ أَن الْفرق كَانَ معينا، وَلم يكن فِي الذِّمَّة وَقَبضه الْأَجِير وَدخل فِي ملكه، بل كَانَ هَذَا تَبَرعا مِنْهُ لَهُ. انْتهى. قلت: لَا حَاجَة أصلا إِلَى هَذَا السُّؤَال، لِأَن بيع الْفُضُولِيّ يجوز إِذا أجَازه صَاحب الْمَتَاع، فَلَا يُقَال من أول الْأَمر: إِن البيع غير صَحِيح. قَوْله: (فانساخت) أَي: انشقت، وَأنْكرهُ الْخطابِيّ لِأَن معنى: انساخ، بِالْمُعْجَمَةِ وَيُقَال: انصاخ، بالصَّاد الْمُهْملَة بدل السِّين أَي: انْشَقَّ من قبل نَفسه، قَالَ: وَالصَّوَاب: انساحت، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: اتسعت، وَمِنْه: ساحة الدَّار. قَالَ: وانصاح، بالصَّاد الْمُهْملَة بدل السِّين، أَي: تصدع يُقَال للبرق، قيل؛ الرِّوَايَة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة صَحِيحَة، وَهِي بِمَعْنى: انشقت، وَإِن كَانَ أَصله بالصَّاد فالصاد قد قلبت سيناً، وَلَا سِيمَا مَعَ الْخَاء الْمُعْجَمَة: كالصخر والسخر، وَوَقع فِي حَدِيث سَالم: فانفرجت شَيْئا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوج، وَفِي حَدِيث النُّعْمَان بن بشير: فانصدع الْجَبَل حَتَّى رَأَوْا الضَّوْء، وَفِي حَدِيث عَليّ: فانصدع الْجَبَل حَتَّى طمعوا فِي الْخُرُوج وَلم يستطيعوا، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأنس فَزَالَ ثلث الْحجر، قَوْله: (أللهم إِن كنت تعلم أَنه كَانَ لي) ، كَذَا فِي(16/52)
رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِحَذْف: أَنه، قَوْله: (أَبَوَانِ) ، من بَاب التغليب وَالْمرَاد الْأَب وَالأُم، وَصرح بذلك فِي حَدِيث ابْن أبي أوفى. قَوْله: (شَيْخَانِ كبيران) ، وَزَاد فِي رِوَايَة أبي ضَمرَة عَن مُوسَى بن عقبَة: ولي صبية صغَار فَكنت أرعى عَلَيْهِم، وَفِي حَدِيث عَليّ: أَبَوَانِ ضعيفان فقيران لَيْسَ لَهما خَادِم وَلَا رَاع وَلَا ولي غَيْرِي فَكنت أرعى لَهما بِالنَّهَارِ وآوي إِلَيْهِمَا بِاللَّيْلِ. قَوْله: (فأبطأت عَنْهُمَا لَيْلَة) ، وَفِي رِوَايَة سَالم: فنأي بِي طلب شَيْء يَوْمًا فَلم أرح عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، وَالشَّيْء لم يُفَسر مَا هُوَ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقد بَين فِي روايه مُسلم من طَرِيق أبي ضَمرَة، وَلَفظه: وَأَنه نأي بِي ذَات يَوْم الشّجر، وَالْمرَاد أَنه بعد عَن مَكَانَهُ الَّذِي يرْعَى فِيهِ على الْعَادة لأجل الْكلأ، فَذَلِك أَبْطَأَ، ويفسره أَيْضا حَدِيث عَليّ: فَإِن الْكلأ تناءى عَليّ: أَي: تبَاعد، والكلأ: العشب الَّذِي يرْعَى الْغنم مِنْهُ. قَوْله: (وَأَهلي) مُبْتَدأ (وعيالي) عطف عَلَيْهِ، وَخَبره: (يتضاغون) بضاد وغين معجمتين من الضغاء بِالْمدِّ وَهُوَ الصياح، وَقَالَ الدَّاودِيّ: يُرِيد بالأهل والعيال: الزَّوْجَة وَالْأَوْلَاد وَالرَّقِيق وَالدَّوَاب، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن التِّين، فَقَالَ: لَا معنى للدواب هُنَا. قلت: تدخل الدَّوَابّ فِي الْعِيَال بِالنّظرِ إِلَى الْمَعْنى اللّغَوِيّ، لِأَن معنى قَوْلهم: عَال فلَان، أَي: أنْفق عَلَيْهِ، وَجَاء فِي رِوَايَة سَالم: وَكنت لَا أغبق قبلهمَا أَهلا وَلَا مَالا. فَهَذَا يُقَوي مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (من الْجُوع) ، أَي: بِسَبَب الْجُوع. وَفِيه: رد على مَا قَالَ: لَعَلَّ صِيَاحهمْ كَانَ بِسَبَب آخر غير الْجُوع. قَوْله: (فَكرِهت أَن أوقظهما) ، وَفِي حَدِيث عَليّ: ثمَّ جَلَست عِنْد رؤوسهما بإنائي كَرَاهِيَة أَن أوقظهما أَو أؤذيهما، وَفِي حَدِيث أنس: كَرَاهِيَة أَن أرد وسنهما، وَفِي حَدِيث ابْن أبي أوفى: وكرهت أَن أوقظهما من نومهما، فَيشق ذَلِك عَلَيْهِمَا. قَوْله: (ليستكنا) من الاستكانة أَي: ليضعفا لِأَنَّهُ عشاؤهما وَترك الْعشَاء يهرم. قَوْله: (لشربتهما) ، أَي: لأجل عدم شربهما، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: ليستكنا، يَعْنِي بتَشْديد النُّون، أَي: يلبثا فِي كنهما منتظرين لشربهما. قَوْله: (فَأَبت) ، أَي: امْتنعت، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة: فَقَالَت: لَا تنَال ذَلِك مِنْهَا، حَتَّى قَوْله: (بِمِائَة دِينَار) وَفِي رِوَايَة سَالم: فأعطيتها عشْرين وَمِائَة دِينَار وَطلب الْمِائَة مِنْهَا وَالزِّيَادَة من قبل نَفسه أَو الرَّاوِي الَّذِي لم يذكر الزِّيَادَة طرحها، وَفِي حَدِيث ابْن أبي أوفى: مَالا ضخماً. قَوْله: (فَلَمَّا قعدت بَين رِجْلَيْهَا) ، وَفِي حَدِيث ابْن أبي أوفى: وَجَلَست مِنْهَا مجْلِس الرجل من الْمَرْأَة. قَوْله: (لَا تفض) ، بالفاى وَالضَّاد الْمُعْجَمَة أَي: لَا تكسر (والخاتم) كِنَايَة عَن عذرتها وَكَأَنَّهَا كَانَت بكرا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث النُّعْمَان مَا يدل على أَنَّهَا لم تكن بكرا. قلت: يحمل على أَنَّهَا أَرَادَت بالخاتم الْفرج، وَالْألف واللاَّم فِي: الْخَاتم، عوض عَن الْيَاء أَي: خَاتمِي. قَوْله: (إلاَّ بِحقِّهِ) أَي: الْحَلَال، أَرَادَت أَنَّهَا لَا تحل لَهُ إلاَّ بتزويج صَحِيح، وَوَقع فِي حَدِيث عَليّ: فَقَالَت: أذكرك الله أَن لَا ترتكب مني مَا حرم الله عَلَيْك. قَالَ: أَنا أَحَق أَن أَخَاف رَبِّي، وَفِي حَدِيث النُّعْمَان بن بشير: فَلَمَّا أمكنتني من نَفسهَا، بَكت، فَقلت: مايبكيك؟ قَالَت: فعلت هَذَا من الْحَاجة، فَقلت: إنطلقي. وَفِي حَدِيث ابْن أبي أوفى: فَلَمَّا جَلَست مِنْهَا مجْلِس الرجل من الْمَرْأَة ذكرت النَّار، فَقُمْت عَنْهَا.
45 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ كالفصل لما قبله، وَلَيْسَ فِي أَكثر النّسخ لفظ: بَاب.
6643 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبرنَا شُعَيْبٌ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنْ عبدِ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ بَيْنَا امْرَأةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وهْيَ تُرْضِعُهُ فقالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْ ابْنِي حتَّى يَكُونَ مِثْلَ هذَا فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ رَجعَ فِي الثَّدْيِ ومُرَّ بامْرَأةٍ تُجَرَّرُ ويُلْعَبُ بِهَا فقالَتْ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فقالَ أمَّا الرَّاكِبُ فإنَّهُ كافِرٌ وأمَّا المَرْأةُ فإنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي وتَقولُ حَسْبِيَ الله ويَقُولونَ تَسْرِقُ وتَقولُ حَسْبِيَ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن وَقع هَذَا كَانَ فِي أَيَّام بني إِسْرَائِيل، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز(16/53)
الْأَعْرَج، وَمضى الحَدِيث فِي: بَاب {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم} (مَرْيَم: 61) . عَن قريب، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (مر) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول. قَوْله: (تجرر) ، بالراء.
7643 - حدَّثنا سعَيدُ بنُ تَليدٍ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخبرَنِي جَرِيرُ ابنُ حازِمٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ إذْ رأتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ فنزَعَتْ مُوقَها فسَقَتْهُ فنُفِرَ لَهَا بِهِ. (انْظُر الحَدِيث 1233) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَعِيد هُوَ سعيد بن عِيسَى بن سعيد بن تليد، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر اللَّام: أَبُو عُثْمَان الرعيني الْمصْرِيّ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان
قَوْله: (يطِيف) بِضَم أَوله من أطاف يطِيف بعنى: طَاف يطوف طوفاً، وَهُوَ الدوران حول الشَّيْء. قَوْله: (بركية) بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْكَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهِي الْبِئْر مطوية كَانَت أَو غير مطوية، وَغير المطوية يُقَال لَهَا: جب، وقليب، وَقيل: الركي، الْبِئْر قبل أَن تطوى، فَإِذا طويت فَهِيَ الطوى. قَوْله: (بغي) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء: وَهِي الزَّانِيَة، وَتجمع على: بَغَايَا، قَوْله: (موقها) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره قَاف، قَالَ بَعضهم: هُوَ الْخُف. قلت: لَا بل الموق هُوَ الَّذِي يلبس فَوق الْخُف وَيُقَال لَهُ: الجرموق أَيْضا وَهُوَ فَارسي مُعرب (بِهِ) فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَيْسَ هُوَ فِي رِوَايَة غَيره، وَقد مضى فِي كتاب الشّرْب عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو هَذَا، وَلَكِن الْقَضِيَّة للرجل، وَكَذَا وَقع فِي الطَّهَارَة فِي شَأْن الرجل. قَالَ بَعضهم: يحْتَمل تعدد الْقَضِيَّة. قلت: بل يقطع بِأَنَّهُ قضيتان: إِحْدَاهمَا للرجل، الْأُخْرَى: للْمَرْأَة، وَإِنَّمَا يُقَال: يحْتَمل تعدد الْقَضِيَّة أَن لَو كَانَت لوَاحِد، فَافْهَم.
8643 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عَن حُمَيْدِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهُ سَمِعَ مُعاوِيَةَ بنِ أبِي سُفْيانَ عامَ حَجَّ علَى المِنْبَرِ فتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ فَقَالَ يَا أهْلَ المَدِينَةِ أيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْهَى عنْ مِثْلِ هَذِهِ ويَقُولُ إنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ حينَ اتَّخَذَهَا نَسَاؤُهُم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا هَلَكت بَنو إِسْرَائِيل) .
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي التَّرَجُّل عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَام حج) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ عَن سعيد بن الْمسيب: آخر قدمة قدامها، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَهِي آخر حجَّة حَجهَا مُعَاوِيَة فِي خِلَافَته. قَوْله: (على الْمِنْبَر) ، حَال من مُعَاوِيَة، وَالْمرَاد بِهِ: مِنْبَر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قُصة) ، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: وَهِي شعر الرَّأْس من جِهَة الناصية. وَهنا المُرَاد مِنْهُ قِطْعَة، من: قصصت الشّعْر أَي: قطعته. قَوْله: (حرسي) مَنْسُوب إِلَى الحراس أحد الحرس وهم الَّذين يَحْرُسُونَ السُّلْطَان. قَالَ الْكرْمَانِي: الْوَاحِد حرسي لِأَنَّهُ قد صَار اسْم جنس فنسب إِلَيْهِ، وَلَا تقل حارس إلاَّ أَن تذْهب بِهِ إِلَى معنى الحراسة دون الْجِنْس، وَيُطلق الحرسي وَيُرَاد بِهِ الجندي. قَوْله: (فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة) أَي: يَا أهل الْمَدِينَة. وَفِي أَكثر النّسخ لفظ: يَا، غير محذوفة. قَوْله: (أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟) قَالَ بَعضهم: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْعلمَاء إِذْ ذَاك فيهم كَانُوا قَلِيلا وَهُوَ كَذَلِك، لِأَن غَالب الصَّحَابَة يَوْمئِذٍ كَانُوا قد مَاتُوا وَكَانَ رَأْي جهال عوامهم صَنَعُوا ذَلِك، فَأَرَادَ أَن يذكر علماءهم ويؤنبهم بِمَا تَرَكُوهُ من الْإِنْكَار فِي ذَلِك. قلت: إِن كَانَ غَالب الصَّحَابَة مَاتُوا فِي ذَلِك الْوَقْت فقد قَامَ مقامهم أَكثر مِنْهُم جمَاعَة من التَّابِعين الْكِبَار(16/54)
وَالصغَار وأتباعهم، وَلم يكن مُعَاوِيَة قصد هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا كَانَ قَصده الْإِنْكَار عَلَيْهِم بإهمالهم إِنْكَار مثل هَذَا الْمُنكر وغفلتهم عَن تَغْيِيره، وَفِي هَذَا اعتناء الْوُلَاة بِإِزَالَة الْمُنْكَرَات وتوبيخ من أهملها. قَوْله: (وَيَقُول) ، عطف على قَوْله: (وَينْهى) أَي: يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِنَّمَا هَلَكت بَنو إِسْرَائِيل حِين اتخذها) أَي: حِين اتخذ الْقِصَّة نِسَاؤُهُم، وَكَانَ هَذَا سَببا لهلاكهم، فَدلَّ على أَن ذَلِك كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِم، فَلَمَّا فَعَلُوهُ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك مِمَّا ارتكبوا من الْمعاصِي هَلَكُوا. وَفِيه: معاقبة الْعَامَّة بِظُهُور الْمُنكر.
9643 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّهُ قَدْ كانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ وإنَّهُ إنْ كانَ فِي أُمَّتِي هَذهِ مِنْهُمْ فإنَّهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ. (الحَدِيث 9643 طرفه فِي: 9863) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِيمَا مضى قبلكُمْ من الْأُمَم) . وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الْقرشِي الأويسي الْمَدِينِيّ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد يروي عَن أَبِيه سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد يروي عَن عَمه أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن يحيى بن قزعة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن رَافع وَالْحسن بن مُحَمَّد.
قَوْله: (إِنَّه) أَي: إِن الشَّأْن قد كَانَ فِيمَا مضى قبلكُمْ من الْأُمَم، أَرَادَ: بني إِسْرَائِيل. قَوْله: (محدثون) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة جمع: مُحدث، قَالَ الْخطابِيّ: الْمُحدث الملهم الَّذِي يلقِي الشَّيْء فِي روعه فَكَأَنَّهُ قد حدث بِهِ يظنّ فَيُصِيب، ويخطر الشَّيْء بِبَالِهِ فَيكون، وَهِي منزلَة جليلة من منَازِل الْأَوْلِيَاء، وَقيل: الْمُحدث هُوَ من يجْرِي الصَّوَاب على لِسَانه، وَقيل: من تكَلمه الْمَلَائِكَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: أَخْبرنِي بعض أَصْحَاب أبي عُيَيْنَة، قَالَ: محدثون، يَعْنِي: مفهمون. وَقَالَ ابْن وهب: ملهمون، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يصيبون إِذا ظنُّوا وَحَدثُوا. وَقَالَ ابْن التِّين: يَعْنِي متفرسون. وَقَالَ النَّوَوِيّ حاكياً عَن البُخَارِيّ: يجْرِي الصَّوَاب على ألسنتهم، وَهَذِه الْمعَانِي مُتَقَارِبَة. قَوْله: (وَإنَّهُ) أَي: وَإِن الشَّأْن أَن كَانَ فِي أمتِي مِنْهُم، أَي: من الْمُحدثين، فَإِنَّهُ عمر بن الْخطاب قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك على سَبِيل التوقع، وَقد وَقع ذَلِك بِحَمْد الله تَعَالَى. وَفِيه منقبة عَظِيمَة لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ
وَفِيه: كَرَامَة الْأَوْلِيَاء وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِع إِلَى يَوْم الدّين.
0743 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي عَدِيٍّ عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ أبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رجُلٌ قتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ إنْسَاناً ثُمَّ خَرَجَ يَسْألُ فأتَى رَاهِبَاً فسَألَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لاَ فقَتَلَهُ فجَعَلَ يَسْألُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وكَذَا فأدْرَكَهُ المَوْتُ فَناءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فاخْتَصَمَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلاَئِكَةُ العَذَابِ فأوْحَى الله إِلَى هاذِهِ أنْ تَقَرَّبِي وأوْحَى الله إلَى هَذِهِ أنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى هَذِهِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فغُفِرَ لَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الصّديق، بِكَسْر الْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْديد الثَّانِيَة: واسْمه بكر بن قيس، أَو: بكر بن عَمْرو النَّاجِي، بالنُّون وَتَخْفِيف الْجِيم وَتَشْديد الْيَاء نِسْبَة إِلَى: نَاجِية بنت غَزوَان أُخْت عتبَة بن لؤَي وَهِي قَبيلَة كَبِيرَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن بنْدَار بِهِ وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (ثمَّ خرج يسْأَل) ، أَي: عَن التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة، يسْأَل عَن أعلم أهل الأَرْض؟ فَدلَّ على رَاهِب. قَوْله: (فَأتى رَاهِبًا) ، الراهب وَاحِد رُهْبَان النَّصَارَى وَهُوَ الْخَائِف والمتعبد. قيل: فِيهِ إِشْعَار بِأَن ذَلِك كَانَ بعد رفع عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن الرهبانية إِنَّمَا ابتدعها أَتْبَاعه(16/55)
كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ: هَل من تَوْبَة؟) يَعْنِي: فَقَالَ للراهب: هَل من تَوْبَة لي؟ وَفِي بعض النّسخ فَقَالَ: لَهُ تَوْبَة؟ وَقَالَ بعض شراحه: حذف أَدَاة الإستفهام، وَفِيه تَجْرِيد لِأَن حق الْقيَاس أَن يَقُول: أَلِي تَوْبَة؟ قلت: لَيْسَ هَذَا بتجريد، وَإِنَّمَا هُوَ الْتِفَات. وَقَوله: لِأَن حق الْقيَاس، غير موجه لِأَنَّهُ لَا قِيَاس هُنَا، وَإِنَّمَا يُقَال فِي مثل هَذَا: لِأَن مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يُقَال كَذَا. قَوْله: (فَقتله) أَي: قتل الراهب الَّذِي سَأَلَهُ وأجابه بِلَا. قَوْله: (فَجعل يسْأَل) أَي: من النَّاس ليدلوه على من يَأْتِي إِلَيْهِ فيسأله عَن التَّوْبَة. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ رجل: ائتِ قَرْيَة كَذَا وَكَذَا) ، وَزَاد فِي رِوَايَة هِشَام فَإِن بهَا أُنَاسًا يعْبدُونَ الله فاعبد الله مَعَهم وَلَا ترجع إِلَى أَرْضك فَإِنَّهَا أَرض سوء، فَانْطَلق حَتَّى إِذا كَانَ نصف الطَّرِيق أَتَاهُ الْمَوْت. قَوْله: (فأدركه الْمَوْت) ، أَي: فِي الطَّرِيق، وَالْفَاء فِيهِ فصيحة تَقْدِيره: فَذهب إِلَى تِلْكَ الْقرْيَة فأدركه الْمَوْت، وَالْمرَاد إِدْرَاك أَمَارَات الْمَوْت. قَوْله: (فنَاء) بنُون وَمد وَبعد الْألف همزَة، أَي: مَال بصدره إِلَى نَاحيَة تِلْكَ الْقرْيَة الَّتِي توجه إِلَيْهَا للتَّوْبَة وَالْعِبَادَة، وَقيل: فنى، على وزن سعى بِغَيْر مد أَي بعد، فعلى هَذَا الْمَعْنى بَعُدَ عَن الأَرْض الَّتِي خرج مِنْهَا. وَقيل: قَوْله فنَاء بصدره مدرج، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ فِي آخر الحَدِيث: قَالَ قَتَادَة: قَالَ الْحسن: ذكر لنا أَنه لما أَتَاهُ الْمَوْت ناء بصدره. قَوْله: (فاختصمت فِيهِ) ، وَزَاد فِي رِوَايَة هِشَام. فَقَالَت مَلَائِكَة الرَّحْمَة: جَاءَنَا تَائِبًا مُقبلا بِقَلْبِه إِلَى الله تَعَالَى. وَقَالَت مَلَائِكَة الْعَذَاب: إِنَّه لم يعْمل خيرا قطّ، فَأَتَاهُم ملك فِي صُورَة آدَمِيّ فجعلوه حكما بَينهم فَقَالَ: قيسوا مَا بَين الْأَرْضين، فَإلَى أَيهمَا كَانَ أدنى فَهُوَ لَهَا. قَوْله: (فَأوحى الله إِلَى هَذِه) أَي: إِلَى الْقرْيَة المتوجه إِلَيْهَا (أَن تقربي) كلمة أَن، تفسيرية. قَوْله: (وَأوحى إِلَى هَذِه) أَي: إِلَى الْقرْيَة المتوجه مِنْهَا: (أَن تباعدي) . قَوْله: (قيسوا مَا بَينهمَا) أَي: مَا بَين القريتين، وَقَالَ بَعضهم مُتَعَجِّبا: وَقعت لي تَسْمِيَة القريتين المذكورتين من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي (الْكَبِير) للطبراني، قَالَ: فِيهِ أَن اسْم الْقرْيَة الصَّالِحَة نصْرَة وَاسم الْقرْيَة الْآخِرَة كفرة. قلت: هَذَا لَيْسَ مَحل التَّعَجُّب والاستغراب فَإِن اسْمهَا مَذْكُور فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَقد ذكرهَا أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي (تَنْبِيه الغافلين) . قَوْله: (فَوجدَ إِلَى هَذِه) ، أَي: إِلَى الْقرْيَة الَّتِي توجه إِلَيْهَا. قَوْله: (فغفر لَهُ) أَي: غفر الله لَهُ. فَإِن قيل: حُقُوق الْآدَمِيّين لَا تسْقط بِالتَّوْبَةِ بل لَا بُد من الاسترضاء. وَأجِيب: بِأَن الله تَعَالَى إِذا قبل تَوْبَة عَبده يرضى خَصمه.
وَفِي الحَدِيث: مَشْرُوعِيَّة التَّوْبَة من جَمِيع الْكَبَائِر حَتَّى من قتل النَّفس، وَقَالَ القَاضِي: مَذْهَب أهل السّنة أَن التَّوْبَة تكفر الْقَتْل كَسَائِر الذُّنُوب، وَمَا رُوِيَ عَن بَعضهم من تَشْدِيد فِي الزّجر وتقنيط عَن التَّوْبَة، فَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِك لِئَلَّا تجترىء النَّاس على الدِّمَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} (النِّسَاء: 84 و 611) . فَكل مَا دون الشّرك يجوز أَن يغْفر لَهُ. وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} (النِّسَاء: 39) . فَمَعْنَاه: جَزَاؤُهُ أَن جازاه وَقد لَا يجازى بل يعْفُو عَنهُ، وَإِذا اسْتحلَّ قَتله بِغَيْر حق وَلَا تَأْوِيل فَهُوَ كَافِر يخلد فِي النَّار إِجْمَاعًا. وَفِيه: فضل الْعَالم على العابد، لِأَن الَّذِي أفتاه أَولا بِأَن لَا تَوْبَة لَهُ غلبت عَلَيْهِ الْعِبَادَة، فاستعظم وُقُوع مَا وَقع من ذَلِك الْقَاتِل من استجرائه على قتل هَذَا الْعدَد الْكثير، وَأما الثَّانِي فغلب عَلَيْهِ الْعلم فأفتاه بِالصَّوَابِ ودله على طَرِيق النجَاة. وَفِيه: حجَّة من أجَاز التَّحْكِيم، وَأَن المحكمان إِذا رَضِيا جَازَ عَلَيْهِمَا الحكم. وَفِيه: أَن للْحَاكِم، إِذا تَعَارَضَت عِنْده الْأَحْوَال وتعذرت الْبَينَات، أَن يسْتَدلّ بالقرائن على التَّرْجِيح. وَفِيه: من جَوَاز الِاسْتِدْلَال على أَن فِي بني آدم من يصلح للْحكم بَين الْمَلَائِكَة. وَفِيه: رَجَاء عَظِيم لأَصْحَاب العظائم.
1743 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أقْبَلَ علَى النَّاسِ فَقالَ بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذْ رَكِبَهَا فضَرَبَهَا فقالَتْ إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهاذَا إنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ فقالَ النَّاسُ سُبْحَانَ الله بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فإنِّي أُومِنُ بِهَذَا أنَا وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وَمَا هُما ثَمَّ وبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إذْ عَدَا الذِّئْبُ فذَهَبَ مِنْهَا بِشاةٍ فطَلَبَ حتَّى كأنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا(16/56)
اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمنْ لَها يَوْمَ السَّبْعُ يَوْمَ لاَ رَاعِيَ غَيْرِي فقالَ النَّاسُ سُبْحَانَ الله ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ قَالَ فإنِّي أومِنُ بِهَذَا أنَا وأبُو بَكْر وعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بَينا رجل) و (بَيْنَمَا رجل) لِأَنَّهُمَا من بني إِسْرَائِيل. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز يروي عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ من رِوَايَة الأقران، وَذكر أَبُو مَسْعُود أَن أَبَا سَلمَة سقط من رِوَايَة عَليّ بن عبد الله، وَذكر خلف وَغَيره أَنه لم يسْقط.
والْحَدِيث مضى فِي الْمُزَارعَة فِي: بَاب اسْتِعْمَال الْبَقر للحراثة عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن سعد عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ فِيهِ الْأَعْرَج، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (إِذْ ركبهَا) جَوَاب: بَينا. قَوْله: (وَمَا هما ثمَّ) ، أَي: لَيْسَ أَبُو بكر وَعمر حاضرين هُنَاكَ. قَوْله: (هَذَا) أَي: هَذَا الذِّئْب (استنقذتها) ويروى: استنقذها، وَيكون الْمَعْنى: هَذَا الرجل. قَوْله: (من لَهَا يَوْم السَّبع؟) ، أَي: من لَهَا يَوْم الْفِتَن حِين يَتْرُكهَا النَّاس هملاً لَا راعي لَهَا نهبة فَيبقى السَّبع رَاعيا لَهَا؟ وَقد مضى بَقِيَّة الْكَلَام فِي الْمُزَارعَة.
وحدَّثنا عَلِيٌّ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مِسْعَرٍ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِثْلِهِ
هَذَا طَرِيق آخر أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه سَمعه من شَيْخه عَليّ بن عبد الله مفرقاً، ولسفيان فِيهِ شَيْخَانِ أَحدهمَا: أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج. وَالْآخر: عَن مسعر، بِكَسْر الْمِيم: ابْن كدام عَن سعد بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن أبي سَلمَة وَفِي كل من الإسنادين رِوَايَة القرين عَن قرينه، لِأَن الْأَعْرَج قرين أبي سَلمَة، لِأَنَّهُ شَاركهُ فِي أَكثر شُيُوخه، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة قرين مسعر لِأَنَّهُ شَاركهُ فِي أَكثر شُيُوخه، وَأَن كَانَ مسعر أكبر سنا من سُفْيَان.
2743 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ أخبرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقارَاً لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ ولَمْ أبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ إنَّمَا بِعْتُكَ الأرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحاكَمَا إلَيْهِ ألَكُمَا ولَدٌ قَالَ أحَدُهُمَا لِي غُلامٌ وقالَ الآخَرُ لِي جارِيَةٌ قَالَ انْكِحُوا الغلاَمَ الجارِيَةَ وأنْفِقُوا علَى أنْفُسِهِما مِنْهُ وتَصَدَّقَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجلَيْن الْمَذْكُورين فِيهِ من بني إِسْرَائِيل. وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (عقارا) : الْعقار أصل المَال من الأَرْض وَمَا يتَّصل بهَا، وعقر الشَّيْء أَصله، وَمِنْه عقر الأَرْض بِفَتْح الْعين وَضمّهَا. وَقيل: الْعقار الْمنزل والضيعة، وَخَصه بَعضهم بِالنَّخْلِ، وَقَالَ ابْن التِّين: الْعقار الضّيَاع، وعقار الرجل ضيعته. قَوْله: (جرة) ، وَهِي من الفخار مَا يصنع من الْمدر. قَوْله: (وَلم أبتعْ مِنْك) أَي: وَلم أشترِ مِنْك الذَّهَب. قَوْله: (فتحاكما إِلَى رجل) ، ظَاهره أَنَّهُمَا حكما ذَلِك الرجل، لَكِن فِي حَدِيث إِسْحَاق بن بشير التَّصْرِيح بِأَنَّهُ كَانَ حَاكما مَنْصُوبًا للنَّاس. قَوْله: (ألكما ولد؟) بِفَتْح الْوَاو وَاللَّام وَالْمرَاد بِهِ جنس الْوَلَد، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يكون للرجلين جَمِيعًا ولد وَاحِد، وَالْمعْنَى: ألكل وَاحِد مِنْكُمَا ولد؟ وَيجوز بِضَم الْوَاو وَسُكُون اللَّام وَهُوَ صِيغَة جمع، فَيكون الْمَعْنى ألكما أَوْلَاد؟ وَيجوز كسر الْوَاو أَيْضا. فَإِن قلت: جَاءَ: أَنْفقُوا وَأنْكحُوا بِصِيغَة الْجمع. وَقَوله: (تصدقا) بِصِيغَة التَّثْنِيَة. قلت: لِأَن العقد لَا بُد فِيهِ من شَاهِدين فيكونان مَعَ الرجلَيْن أَرْبَعَة وَهُوَ جمع، وَالنَّفقَة قد يحْتَاج فِيهَا إِلَى الْمعِين كَالْوَكِيلِ فَيكون أَيْضا جمعا. وَأما وَجه التَّثْنِيَة فِي الصَّدَقَة فَلِأَن(16/57)
الزَّوْجَيْنِ مخصوصان بذلك.
وَفِي الحَدِيث: إِشَارَة إِلَى جَوَاز التَّحْكِيم، وَفِي هَذَا الْبَاب خلاف، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن وَافق رَأْي الْمُحكم رَأْي قَاضِي الْبَلَد نفذ وإلاَّ فَلَا، وَأَجَازَهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ بِشَرْط أَن يكون فِيهِ أَهْلِيَّة الحكم وَأَن يحكم بَينهمَا بِالْحَقِّ سَوَاء وَافق ذَلِك رَأْي قَاضِي الْبَلَد أم لَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الرجل الَّذِي تحاكما إِلَيْهِ لم يصدر مِنْهُ حكم على أحد مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا أصلح بَينهمَا لما ظهر لَهُ من ورعهما وَحسن حَالهمَا، وَلما ارتجى من طيب نسلهما وَصَلَاح ذريتهما. وَحكى الْمَازرِيّ خلافًا عِنْدهم فِيمَا إِذا ابْتَاعَ أَرضًا فَوجدَ فِيهَا شَيْئا مَدْفُونا، هَل يكون ذَلِك للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي؟ فَإِن كَانَ من أَنْوَاع الأَرْض: كالحجارة والعمد والرخام فَهُوَ للْمُشْتَرِي، وَإِن كَانَ كالذهب وَالْفِضَّة فَإِن كَانَ من دَفِين الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ ركاز، وَإِن كَانَ من دَفِين الْمُسلمين فَهُوَ لقطَة، وَإِن جهل ذَلِك كَانَ مَالا ضائعاً، فَإِن كَانَ هُنَاكَ بَيت مَال يحفظ فِيهِ وإلاَّ صرف إِلَى الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَفِيمَا يستعان بِهِ على أُمُور الدّين، وَفِيمَا أمكن من مصَالح الْمُسلمين. وَقَالَ ابْن التِّين: فَإِن كَانَ من دفائن الْإِسْلَام فَهُوَ لقطَة، وَإِن كَانَ من دفائن الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ مَالك: هُوَ للْبَائِع، وَخَالفهُ ابْن الْقَاسِم فَقَالَ: إِن مَا فِي داخلها بِمَنْزِلَة مَا فِي خَارِجهَا، وَقَول مَالك أحسن لِأَن من ملك أَرضًا باختطاط ملك مَا فِي بَاطِنهَا، وَلَيْسَ جَهله بِهِ حِين البيع يسْقط ملكه فِيهِ.
3743 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ وعنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ الله عنْ عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبِي وقَّاصٍ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَهُ يَسْألُ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ ماذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الطَّاعُونِ فَقال أُسَامَةُ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ علَى طائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أوْ علَى مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ فَإذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وإذَا وقَعَ بِأرْضٍ وأنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارَاً مِنْهُ. قالَ أبُو النَّضْرِ لاَ يُخْرِجُكُمْ إلاَّ فِرَارَاً مِنْهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل) . وَأَبُو النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم وَهُوَ ابْن أبي أُميَّة مولى عمر بن عبيد الله بن معمر الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ترك الْحِيَل عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ وَعَن جمَاعَة آخَرين. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن أبي الْقَاسِم عَن مَالك.
قَوْله: (فِي الطَّاعُون) أَي: فِي حَال الطَّاعُون وشأنه وَهُوَ على وزن: فاعول، من الطعْن غير أَنه عدل عَن أَصله وَوضع دَالا على الْمَوْت الْعَام الْمُسَمّى بالوباء وَقَالَ الْخَلِيل: الوباء هُوَ الطَّاعُون، وَقيل: هُوَ كل مرض عَام يَقع بِكَثِير من النَّاس نوعا وَاحِدًا، بِخِلَاف سَائِر الْأَوْقَات، فَإِن أمراضهم فِيهَا مُخْتَلفَة. فَقَالُوا: كل طاعون وباء، وَلَيْسَ كل وباء طاعوناً، وَقيل: الطَّاعُون هُوَ الْمَوْت الْكثير. وَقيل: بثر وورم مؤلم جدا يخرج مَعَ لهيب ويسود مَا حوله أَو يخضر وَيحصل مَعَه خفقان الْقلب والقيء وَيخرج فِي المراق والآباط. قَوْله: (رجز) ، أَي: عَذَاب كَائِن على من كَانَ قبلنَا، وَهُوَ رَحْمَة لهَذِهِ الْأمة كَمَا صرح بِهِ فِي حَدِيث آخر. قَوْله: (فَلَا تقدمُوا) ، بِفَتْح الدَّال عَلَيْهِ أَي: على الطَّاعُون الَّذِي وَقع بِأَرْض، وَذَلِكَ لِأَن الْمقَام بالموضع الَّذِي لَا طاعون فِيهِ أسكن للقلوب. قَوْله: (فِرَارًا مِنْهُ) أَي: لأجل الْفِرَار من الطَّاعُون.
وَذكر ابْن جرير الْخلاف عَن السّلف فِي الْفِرَار مِنْهُ، وَذكر عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه: كَانَ يبْعَث بنيه إِلَى الْأَعْرَاب من الطَّاعُون، وَعَن الْأسود بن هِلَال ومسروق، أَنَّهُمَا كَانَا يفران مِنْهُ، وَعَن عَمْرو بن الْعَاصِ، أَنه قَالَ: تفَرقُوا فِي هَذَا الرجز فِي الشعاب والأودية ورؤوس الْجبَال، فَبلغ معَاذًا فَأنكرهُ. وَقَالَ: بل هُوَ شَهَادَة وَرَحْمَة ودعوة نَبِيكُم، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ طاعون فَخرج الْمُغيرَة مِنْهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي حضار بني عَوْف طعن فَمَاتَ. وَأما عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ رَجَعَ من سرع وَلم يقدم عَلَيْهِ حِين قدم الشَّام وَذَلِكَ لدفع الأوهام المشوشة لنَفس الْإِنْسَان، وَتَأَول من فر أَنه لم ينهَ عَن الدُّخُول أَو الْخُرُوج مَخَافَة أَن يُصِيبهُ غير الْمُقدر، وَلَكِن مَخَافَة الْفِتْنَة أَن يَظُنُّوا أَن هَلَاك القادم إِنَّمَا حصل بقدومه، وسلامة الفار إِنَّمَا كَانَت بفراره، وَهَذَا من نَحْو النَّهْي(16/58)
عَن الطَّيرَة. وَعَن ابْن مَسْعُود: هُوَ فتْنَة على الْمُقِيم والفار، وَأما الفار فَيَقُول: فَرَرْت فنجوت، وَأما الْمُقِيم فَيَقُول: أَقمت فمت وَإِنَّمَا فر من لم يأتِ أَجله، وَأقَام من حضر أَجله. وَقَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (الْفِرَار مِنْهُ كالفرار من الزَّحْف) . وَيُقَال: قَلما فر أحد من الوباء فَسلم. وَيَكْفِي فِي ذَلِك موعظة قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت ... } (الْبَقَرَة: 342) . الْآيَة، قَالَ الْحسن: خَرجُوا حذرا من الطَّاعُون فأماتهم الله فِي سَاعَة وَاحِدَة، وهم أَرْبَعُونَ ألفا. وَذكر أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه: كَانَت الْعَرَب تَقول إِذا دخل أحد بَلَدا وفيهَا وباء فَإِنَّهُ ينهق نهيق الْحمار قبل دُخُوله فِيهَا إِذا فل أَمن من الوباء. فَإِن قلت: عدم الْقدوم عَلَيْهِ تَأْدِيب وَتَعْلِيم، وَعدم الْخُرُوج إِثْبَات التَّوَكُّل وَالتَّسْلِيم، وهما ضدان يُؤمر وَينْهى عَنهُ. قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِنَّه لم يُؤمن على القادم عَلَيْهِ أَن يظنّ إِذا أَصَابَهُ أَن ذَلِك على سَبِيل الْعَدْوى الَّتِي لَا صنع للْعُذْر فِيمَا نهي عَن ذَلِك، فكلا الْأَمريْنِ مُرَاد لإِثْبَات الْعذر وَترك التَّعَرُّض لما فِيهِ من تزلزل الْبَاطِن. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا نهى عَن الْخُرُوج لِأَنَّهُ إِذا خرج الأصحاء وَهلك المرضى فَلَا يبْقى من يقوم بأمرهم.
قَوْله: (قَالَ أَبُو النَّضر: لَا يخرجكم إلاَّ فِرَارًا مِنْهُ) ، كَذَا هُوَ بِالنّصب، وَيجوز رَفعه، واستشكلهما الْقُرْطُبِيّ لِأَنَّهُ يُفِيد بِحكم ظَاهره أَنه لَا يجوز لأحد أَن يخرج من الوباء إلاَّ من أجل الْفِرَار، وَهَذَا محَال، وَهُوَ نقيض الْمَقْصُود من الحَدِيث، فَلَا جرم قَيده بعض رُوَاة الْمُوَطَّأ بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْفَاء، ورد هَذَا بِأَنَّهُ لَا يُقَال: أفر إفراراً، وَإِنَّمَا يُقَال: فر فِرَارًا وَقيل: أَلا هَهُنَا غلط من الرَّاوِي؟ وَالصَّوَاب حذفهَا، وَقيل: إِنَّهَا زَائِدَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} (الْأَعْرَاف: 21) . أَي: مَا مَنعك أَن تسْجد؟ وَوجه طَائِفَة النصب على الْحَال، وَجعلُوا: ألاَّ، للْإِيجَاب لَا للاستثناء، وَتَقْدِيره: لَا تخْرجُوا إِذا لم يكن خروجكم إلاَّ فِرَارًا مِنْهُ، فأباح الْخُرُوج لغَرَض آخر كالتجارة وَنَحْوهَا.
4743 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا دَاوُدُ بنُ أبِي الفُرَاتِ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ سألْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الطَّاعُونِ فأخْبَرَنِي أنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ الله علَى مَنْ يَشاءُ وأنَّ الله جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صابِرَاً مُحْتَبِساً يَعْلَمُ أنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إلاَّ مَا كتَبَ الله لَهُ إلاَّ كانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ.
هَذَا الحَدِيث من جنس الحَدِيث السَّابِق، فَلذَلِك ذكره عَقِيبه فَتَقَع الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه مُطَابق للمطابق والمطابق للمطابق للشَّيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء.
وَدَاوُد بن أبي الْفُرَات، بِضَم الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق: الْمروزِي ثمَّ الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَعبد الله بن بُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مصغر بردة: ابْن الْحصيب بالمهملتين قَاضِي مرو، تقدم فِي الْحيض، وَيحيى بن يعمر، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وبالراء: الْبَصْرِيّ النَّحْوِيّ القَاضِي أَيْضا بمرو التَّابِعِيّ الْجَلِيل.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَيْضا وَفِي الطِّبّ عَن إِسْحَاق عَن حبَان بن هِلَال وَفِي الْقدر عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن النَّضر بن شُمَيْل، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن الْعَبَّاس ابْن مُحَمَّد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يُونُس.
قَوْله: (لَيْسَ من أحد) كلمة: من، زَائِدَة. قَوْله: (فيمكث فِي بَلَده) ، أَي: يسْتَقرّ فِيهِ وَلَا يخرج. قَوْله: (صَابِرًا) ، حَال وَكَذَا قَوْله: (محتسباً) إِمَّا من الْأَحْوَال المترادفة أَو المتداخلة، وَكَذَلِكَ قَوْله: (يعلم) حَال. قَوْله: (إلاَّ كَانَ لَهُ) ، اسْتثِْنَاء من قَوْله: أحد.
وَفِيه: بَيَان عناية الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْأمة المكرمة حَيْثُ جعل مَا وعد عذَابا لغَيرهم رَحْمَة لَهُم.
5743 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا لَ يْثٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ قُرَيْشَاً أهَمَّهُمْ شأنُ المَرْأةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سرَقَتْ فَقَالُوا ومنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالُوا ومنْ يَجْتَرِي علَيْهِ إلاَّ أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ(16/59)
رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله ثُمَّ قامَ فاخْتطَبَ ثُمَّ قالَ إنَّمَا أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أنَّهُمْ كانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وإذَا سرَقَ فِيهِم الضَّعِيفُ أقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ وايْمُ الله لَوْ أنَّ فاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا أهلك الَّذين من قبلكُمْ) لِأَن المُرَاد مِنْهُم بَنو إِسْرَائِيل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله فِي بعض طرقه: إِن بني إِسْرَائِيل كَانُوا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل أُسَامَة عَن قُتَيْبَة وَفِي الْحُدُود عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن يزِيد بن خَالِد وقتيبة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ وَالنَّسَائِيّ فِي الْقطع جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحُدُود عَن مُحَمَّد بن رمح.
قَوْله: (أَهَمَّهُمْ) ، أَي: أحزنهم. قَوْله: (شَأْن الْمَرْأَة) ، أَي: حَال الْمَرْأَة المخزومية، وَهِي فَاطِمَة بنت الْأسود بن عبد الْأسد بنت أخي أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد وَكَانَت سرقت حليا وَكَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة الْفَتْح. وَقتل أَبوهَا كَافِرًا يَوْم بدر، وَكَانَ حلف ليكسرن حَوْض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقاتل حَتَّى وصل إِلَيْهِ فأدركه حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ يكسرهُ فَقتله، فاختلط دَمه بِالْمَاءِ. قَوْله: (فَقَالُوا) ، أَي: قُرَيْش. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي الْمَرْأَة المخزومية، أَي: لأَجلهَا. قَوْله: (وَمن يجترىء عَلَيْهِ؟) أَي: وَمن يتجاسر عَلَيْهِ؟ بطرِيق الإدلال. قَوْله: (حب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: أَي مَحْبُوب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَتَشفع) ، الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (أَنهم) بِفَتْح الْهمزَة. قَوْله: (وأيم الله) اخْتلف فِي همزته: هَل هِيَ للوصل أَو للْقطع؟ وَهُوَ من أَلْفَاظ الْقسم نَحْو: لعمر الله، وعهد الله، وَفِيه لُغَات كَثِيرَة وتفتح همزته وتكسر. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وهمزتها همزَة وصل، وَقد تقطع، وَأهل الْكُوفَة من النُّحَاة يَزْعمُونَ أَنه جمع يَمِين، وَغَيرهم يَقُول: هُوَ اسْم مَوْضُوع للقسم.
وَفِيه: النَّهْي عَن الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود وَلَكِن ذَلِك بعد بُلُوغه إِلَى الإِمَام. وَفِيه: منقبة ظَاهِرَة لأسامة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
6743 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّال بنَ سَبْرَةَ الهِلاَلِيَّ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلاً قرَأ وسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ خِلافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرْتُهُ فعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ وَقَالَ كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ وَلاَ تَخْتَلِفُوا فإنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا. (انْظُر الحَدِيث 0142 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن من كَانَ قبلكُمْ اخْتلفُوا) . وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَعبد الْملك ميسرَة ضد الميمنة، والنزال، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الزَّاي وباللام، سبق مَعَ الحَدِيث فِي كتاب الْخُصُومَات فَإِنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك بن ميسرَة ... إِلَى آخِره. قَوْله: (قَرَأَ) ويروى: قَرَأَ آيَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
131 - (حَدثنَا عمر بن حَفْص حَدثنَا أبي حَدثنَا الْأَعْمَش قَالَ حَدثنِي شَقِيق قَالَ عبد الله كَأَنِّي أنظر إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْكِي نَبيا من الْأَنْبِيَاء ضربه قومه فأدموه وَهُوَ يمسح الدَّم عَن وَجهه وَيَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله نَبيا من الْأَنْبِيَاء وَالظَّاهِر أَنه من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل وَقَالَ النَّوَوِيّ هَذَا النَّبِي الَّذِي حكى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا جرى لَهُ من الْمُتَقَدِّمين وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون هُوَ نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِن قومه كَانُوا يبطشون بِهِ فيخنقونه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ فَإِذا أَفَاق قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ (قلت) على قَوْله لَا مُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة فَإِن التَّرْجَمَة فِي بني إِسْرَائِيل ونوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل بني إِسْرَائِيل بِمدَّة متطاولة وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الحاكي والمحكي (قلت) هَذَا أَيْضا نَحوه وَعمر بن حَفْص شيخ البُخَارِيّ يروي(16/60)
عَن أَبِيه حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها وَهُوَ يروي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن نمير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن ابْن نمير بِهِ -
8743 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا أبُو عَوانَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ عُقْبَةَ بنِ عَبْدِ الغافِرِ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَجُلاً كانَ قَبْلَكُمْ رغَسَهُ الله مَالا فَقَالَ لِبَنِيه لَمَّا حُضِرَ أيَّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا خَيْرَ أبٍ قَالَ فإنِّي لَمْ أعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ فإذَا مُتُّ فأحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْم عاصِفٍ ففَعَلُوا فَجَمَعَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ قَالَ مَخافَتَكَ فتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَن رجلا كَانَ قبلكُمْ) . وَأَبُو الْوَلِيد هُوَ هِشَام بن عبد الْملك، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين: الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَعقبَة بن عبد الغافر أَبُو نَهَار الْأَزْدِيّ الْكُوفِي وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر مضى فِي الْوكَالَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّوْحِيد عَن عبد الله ابْن أبي الْأسود، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أبي مُوسَى وَعَن ابْن أبي شيبَة.
قَوْله: (رغسه الله) ، بِفَتْح الرَّاء والغين الْمُعْجَمَة وَالسِّين الْمُهْملَة، أَي: أعطَاهُ الله، وَقيل: أَي أَكثر مَاله وَبَارك فِيهِ، وَهُوَ من الرغس وَهُوَ الْبركَة والنماء وَالْخَيْر، وَرجل مرغوس كثير المَال وَالْخَيْر، وَقيل: رغس كل شَيْء أَصله، فَكَأَنَّهُ جعل لَهُ أصلا من المَال. وَقيل: يرْوى: رَأسه الله مَالا، بِالسِّين الْمُهْملَة. وَقَالَ ابْن التِّين، هَذَا غلط، فَإِن صَحَّ فَهُوَ بشين مُعْجمَة من الريش والرياش وَهُوَ المَال. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم: راشه الله، بالراء والشين الْمُعْجَمَة من الريش وَهُوَ المَال. قَوْله: (لما حضر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لما حَضَره الْمَوْت. قَوْله: (فِي يَوْم عاصف) ، أَي: عاصف رِيحه أَي: شَدِيد. قَوْله: (مَا حملك؟) أَي: أَي شَيْء حملك على هَذِه الْوَصِيَّة؟ قَوْله: (مخافتك) أَي: حَملتنِي مخافتك، أَي: لأجل الْخَوْف مِنْك، فَيكون ارْتِفَاع مخافتك بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ارتفاعه بِأَنَّهُ مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، أَو بِالْعَكْسِ، ويروى بِالنّصب على نزع الْخَافِض أَي: لأجل مخافتك. قلت: الَّذِي ذَكرْنَاهُ أوجه وأنسب على مَا لَا يخفى على المعرب. قَوْله: (فَتَلقاهُ) ، بِالْقَافِ عِنْد أبي ذَر أَي: استقبله برحمته، وَقَالَ ابْن التِّين: لَا أعلم للفاء وَجها إلاَّ أَن يكون أَصله: فتلففه رَحمته، فَلَمَّا اجْتمعت الفاآت الثَّلَاث أبدلت الْأَخِيرَة ألفا فَصَارَ: تلفاه، ويروى: فتلافاه، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني.
وَقَالَ مُعاذٌ حدَّثَنَا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بنَ عَبْدِ الغَافِرِ سَمِعْتُ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم عَن عبيد الله بن معَاذ الْعَنْبَري عَن أَبِيه حَدثنَا أبي حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة سمع عقبَة بن عبد الغافر يَقُول: سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن رجلا فِيمَن كَانَ قبلكُمْ راشه الله تَعَالَى مَالا وَولدا، فَقَالَ لوَلَده: لتفعلن مَا آمركُم بِهِ أَو لأولين ميراثي غَيْركُمْ إِذا أَنا مت، فأحرقوني، وأكبر ظَنِّي أَنه قَالَ ثمَّ اسحقوني واذروني فِي الرّيح، فَإِنِّي لم ابتهر عِنْد الله خيرا، وَإِن الله يقدر على أَن يُعَذِّبنِي، قَالَ: فَأخذ مِنْهُم ميثاقاً فَفَعَلُوا ذَلِك بِهِ وذري، فَقَالَ الله تَعَالَى: مَا حملك على مَا فعلت؟ قَالَ: مخافتك، قَالَ: فَمَا تلافاه غَيرهَا) .
9743 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عنْ رِبْعِيِّ بنِ حِرَاشٍ قَالَ قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ ألاَ تُحَدِّثُنا مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إنَّ رَجُلاً(16/61)
حَضَرَهُ المَوْتُ لَمَّا أيِسَ مِنَ الحَيَاةِ أوْصَى أهْلَهُ إذَا مِتُّ فاجْمَعُوا لِي حَطَباً كَثِيرَاً ثُمَّ أوْرُوا نارَاً حتَّى إذَا أكَلَتْ لَحْمِي وخَلَصَتْ إلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي فِي اليَمِّ فِي يَوْمٍ حارٍّ أوْ رَاح فجَمَعَهُ الله فَقَالَ لِمَ فَعَلْتَ قَالَ خَشْيَتِكَ فغَفَرَ لَهُ قَالَ عُقْبَةُ وأنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ. (انْظُر الحَدِيث 2543 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَن رجلا حَضَره الْمَوْت) وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي أول: بَاب مَا ذكر عَن بن إِسْرَائِيل، بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة عَن عبد الله بن عُمَيْر عَن ربعي بن حِرَاش ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة الوضاح، وَهَذَا هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَأَبُو ذَر صوب رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَهِي: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَذكر أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : أَنه عَن مُوسَى ومسدد جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا قد سمعا من أبي عوَانَة، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا تيَسّر لنا من لطف الله وفضله، فلنذكر هُنَا مَا يجلب من الْفَوَائِد أحْسنهَا وأخصرها.
فَقَوله: (قَالَ عقبَة) هُوَ عقبَة بن عَمْرو أَبُو مَسْعُود البدري، لَا عقبَة بن عبد الغافر الْمَذْكُور آنِفا. وَلَا يلتبس عَلَيْك. قَوْله: (ألاَ تحدثنا) ، كلمة: أَلا، هُنَا للعرض والتحضيض، ومعناهما طلب الشَّيْء، وَلَكِن الْعرض طلب بلين والتحضيض طلب بحث وإلاَّ هَذِه تختيص بالفعلية. قَوْله: (قَالَ سمعته) أَي: قَالَ عقبَة: سَمِعت حُذَيْفَة، يَقُول: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أوصى إِلَى أَهله) ويروى (أوصى أَهله) قَوْله: (صم أوروا) أَمر للْجمع بِفَتْح الْهمزَة من أورى يوري إيراءً، يُقَال: ورى الزند يري: إِذا خرجت ناره، وأوراه غَيره إِذا استخرج ناره. قَوْله: (وَإِذا خلصت) بِفَتْح اللاَّم أَي: وصلت. قَوْله: (فذروني) ، بِضَم الذَّال وَتَشْديد الرَّاء من: ذروت الشَّيْء أذروه ذَروا: إِذا فرقته. قَوْله: (فِي اليم) ، أَي: فِي الْبَحْر. قَوْله: (فِي يَوْم حَار أَو رَاح) هَذَا على الشَّك فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَعند أبي الْهَيْثَم: حَار فَقَط بالراء أَي: شَدِيد الْحر. قَالَ الْجَوْهَرِي: حر النَّهَار فِيهِ لُغَتَانِ تَقول: حررت يَا يَوْم بِالْفَتْح وحررت بِالْكَسْرِ وأحر النَّهَار لُغَة فِيهِ سَمعهَا الْكسَائي. قَوْله: (أَو رَاح) ، أَي: ذِي ريح شَدِيدَة، وَفِي رِوَايَة الْمروزِي: حَاز، بحاء مُهْملَة وزاي مُشَدّدَة وَمَعْنَاهُ: يحز بِبرْدِهِ أَو حره، وَكَذَا قَيده الْأصيلِيّ وَأَبُو ذَر، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: فِي يَوْم حَان، بالنُّون، وَاقْتصر ابْن التِّين على هَذِه الرِّوَايَة، ثمَّ نقل عَن ابْن فَارس: الحون ريح يحن كحنين الْإِبِل، قَالَ: فعلى هَذَا يقْرَأ: فِي يَوْم حَان بتَشْديد النُّون، يُرِيد حَان رِيحه. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَتَبعهُ بعض شُيُوخنَا فاقتصر عَلَيْهِ فِي شَرحه وأهمل الْبَاقِي. قَوْله: (فَجَمعه الله) أَي: جمع جسده لِأَن التحريق والتفريق إِنَّمَا وَقع عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يجمع ويعاد عِنْد الْبَعْث، وَفِي حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي عِنْد أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) : فَقَالَ الله: كن، فَكَانَ كأسرع من طرف الْعين. قَوْله: (فَقَالَ: لِمَ فعلت) أَي: فَقَالَ الله تَعَالَى لذَلِك الرجل: لِمَ فعلت هَذَا؟ (قَالَ: من خشيتك) ، أَي: من أجل خَشْيَتِي مِنْك. قَوْله: (فغفر لَهُ) فَإِن قلت: إِن كَانَ هَذَا الرجل مُؤمنا فلِمَ شَك فِي قدرَة الله تَعَالَى؟ حَيْثُ قَالَ: فوَاللَّه لَئِن قدر عَليّ رَبِّي ليعذبني عذَابا مَا عذبه أحدا، على مَا يَأْتِي عَن قريب فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِن لم يكن، فَكيف غفر لَهُ؟ قلت: كَانَ مُؤمنا بِدَلِيل الخشية، وَمعنى: قدر، مخففاً ومشدداً: حكم وَقضى، أَو ضيق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: أَيْضا: إِنَّه على ظَاهره، وَلَكِن قَالَه غير ضَابِط لنَفسِهِ وقاصد لمعناه، بل قَالَه فِي حَالَة غلب عَلَيْهِ فِيهَا الدهش وَالْخَوْف بِحَيْثُ ذهب تدبره فِيمَا يَقُوله، فَصَارَ كالغافل وَالنَّاسِي لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِمَا، أَو أَنه كَانَ فِي زمَان يَنْفَعهُ مُجَرّد التَّوْحِيد، أَو كَانَ فِي شرعهم جَوَاز الْعَفو عَن الْكَافِر. وَقَالَ الْخطابِيّ: فَإِن قلت: كَيفَ يغْفر لَهُ وَهُوَ مُنكر للقدرة على الْإِحْيَاء؟ قلت: لَيْسَ بمنكر، إِنَّمَا هُوَ رجل جَاهِل ظن أَنه إِذا صنع بِهِ هَذَا الصَّنِيع ترك فَلم ينشر وَلم يعذب، وَحَيْثُ قَالَ: من خشيتك، علم أَنه أَنه رجل مُؤمن فعل مَا فعل من خشيَة الله، ولجهله حسب أَن هَذِه الْحِيلَة تنجيه. قَوْله: (وَقَالَ عقبَة) ، أَي: عقبَة بن عَمْرو أَبُو مَسْعُود البدري: (وَأَنا سمعته يَقُول) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
حدَّثنا مُوسَى حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ حدَّثنا عَبْدُ المَلِكِ وَقَالَ فِي يَوْمٍ رَاحٍ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي خَالف مُسَددًا فِي لَفظه من الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهِي قَوْله: فِي يَوْم رَاح، لِأَن فِي رِوَايَة مُسَدّد: فِي يَوْم حَار، على مَا مر عَن قريب.(16/62)
0843 - حدَّثنا عبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ رَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إذَا أتَيْتَ مُعْسِرَاً فتَجَاوَزَ عنْهُ لَعَلَّ الله أنْ يَتَجاوَزَ عَنَّا قَالَ فَلَقِيَ الله فتَجَاوَزَ عَنْهُ. (انْظُر الحَدِيث 8702) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أول الحَدِيث، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْبيُوع فِي: بَاب من أنظر مُعسرا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن هِشَام بن عمار عَن يحيى بن حَمْزَة عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله ... إِلَى آخِره نَحوه، غير أَن فِيهِ: كَانَ تَاجِرًا يداين النَّاس.
1843 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا هِشَامٌ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ إذَا أنَا مُتُّ فأحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فَوَالله لَئِنْ قَدَرَ علَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابَاً مَا عَذَّبَهُ أحَدَاً فلَمَّا ماتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فأمَرَ الله الأرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فإذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ علَى مَا صَنَعْتَ قَالَ يَا رَبِّ خَشَيْتُكَ فغَفَرَ لَهُ وَقَالَ غَيْرَهُ مَخافَتُكَ يَا رَبِّ. (الحَدِيث 1843 طرفه فِي: 6057) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكَانَ رجل مُسْرِف على نَفسه) . وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ، وَكَانَ قاضيها. قَوْله: (ثمَّ ذروني) ، بِفَتْح الذَّال وَتَخْفِيف الرَّاء أَي: اتركوني، وَهُوَ أَمر من: يذر، وَالْعرب أماتوا ماضيه، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ثمَّ أذروني، بِفَتْح الْهمزَة فِي أَوله من: أذرت الرّيح الشَّيْء: إِذا فرقته بهبوبها. قَوْله: (فوَاللَّه لَئِن قدر عَليّ) قد مضى مَعْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (فعل بِهِ ذَلِك) أَي: الَّذِي أوصى بِهِ الرجل. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) المُرَاد من لفظ: الْغَيْر، هُوَ عبد الرَّزَّاق، فَإِن هشاماً روى عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِلَفْظ: خشيتك، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِلَفْظ: مخافتك بدل خشيتك، ومعناهما وَاحِد، وَبَقِيَّة مَعَاني أَلْفَاظ الحَدِيث قد مرت عَن قريب.
2843 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عُذِّبَتْ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حتَّى ماتَتْ فدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لاَ هِيَ أطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ سَقَتْهَا إذْ حَبَسَتْهَا ولاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرْضِ. (انْظُر الحَدِيث 5632 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن وضع الحَدِيث هُنَا يدل على أَن تِلْكَ الْمَرْأَة من بني إِسْرَائِيل وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء بن عبيد بن مِخْرَاق الضبعِي الْبَصْرِيّ ابْن أخي جوَيْرِية بن أَسمَاء وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَجُوَيْرِية مصغر جَارِيَة بِالْجِيم ابْن أَسمَاء بن عبيد ابْن مِخْرَاق الضبعِي الْبَصْرِيّ، والْحَدِيث مر فِي أَوَاخِر بَدْء الْخلق فِي: بَاب خمس من الدَّوَابّ، وَمر أَيْضا نَحوه فِي الصَّلَاة فِي: بَاب مَا يقْرَأ بعد التَّكْبِير. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان وَفِي الْأَدَب عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَذْكُور وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فِي هرة) ، أَي: بِسَبَب هرة، وَقد تَجِيء كلمة: فِي، للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي نَحْو: فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل. قَوْله: (خشَاش الأَرْض) بالمعجمات وَفتح الْخَاء، وَهِي: حشرات الأَرْض وهوامها.(16/63)
3843 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُوُنُسَ عَنْ زُهَيْرٍ حدَّثنا مَنْصُورٌ عَن رِبْعِيِّ ابنِ حِرَاشٍ حدَّثنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُبوَّةِ إذَا لَمْ تَسْتَحِي فافْعَلْ مَا شِئْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من أول الحَدِيث لِأَن المُرَاد من النَّاس الْأَوَائِل، وَهُوَ يَشْمَل بني إِسْرَائِيل وَغَيرهم فَافْهَم. وَأحمد ابْن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس اليربرعي الْكُوفِي، وَزُهَيْر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْكُوفِي، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر الْكُوفِي، وَربع ابْن حِرَاش مر عَن قريب، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو البدري، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ وَحكى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد عَن مَنْصُور عَن عبد الْملك فَقَالَ: عَن ربعي عَن حُذَيْفَة، وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو مَالك الْأَشْجَعِيّ عَن ربعي بن حِرَاش عَن حُذَيْفَة. قيل: لَا يبعد أَن يكون ربعي سَمعه من أبي مَسْعُود وَمن حُذَيْفَة جَمِيعًا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن عَمْرو بن رَافع.
قَوْله: (إِن مِمَّا أدْرك النَّاس) بِالرَّفْع وَالنّصب، أَي: مِمَّا أدْركهُ النَّاس أَو مِمَّا بلغ النَّاس. قَوْله: (من كَلَام النُّبُوَّة) أَي: مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاء، أَي: إِنَّه مِمَّا ندب إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاء وَلم ينْسَخ فِيمَا نسخ من شرائعهم. لِأَنَّهُ أَمر أطبقت عَلَيْهِ الْعُقُول، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَأحمد وَغَيرهمَا: من كَلَام النُّبُوَّة الأولى، وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ هَكَذَا أَيْضا. قَوْله: (فافعل مَا شِئْت) ويروى: فَاصْنَعْ مَا شِئْت.
وَفِيه: أوجه: أَحدهَا: إِذا لم تستح من العتب وَلم تخش الْعَار فافعل مَا تحدثك بِهِ نَفسك، حسنا كَانَ أَو قبيحاً، وَلَفظه أَمر وَمَعْنَاهُ توبيخ. الثَّانِي: أَن يحمل الْأَمر على بَابه تَقول: إِذا كنت آمنا فِي فعلك أَن تَسْتَحي مِنْهُ لجريك فِيهِ على الصَّوَاب وَلَيْسَ من الْأَفْعَال الَّتِي يستحي مِنْهَا فَاصْنَعْ مَا شِئْت. الثَّالِث: مَعْنَاهُ الْوَعيد أَي: إفعل مَا شِئْت تجازى بِهِ. كَقَوْلِه عز وَجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} (فصلت: 04) . الرَّابِع: لَا يمنعك الْحيَاء من فعل الْخَيْر. الْخَامِس: هُوَ على طَرِيق الْمُبَالغَة فِي الذَّم، أَي: تَركك الْحيَاء أعظم مِمَّا تَفْعَلهُ، وَاعْلَم أَن الْجُمْلَة أَعنِي قَوْله: إِذا لم تستح إسم: إِن، على تَقْدِير القَوْل، أَو خَبره على تَأْوِيل من التبعيضية بِلَفْظ الْبَعْض، وَلَفظ: إصنع، أَمر بِمَعْنى الْخَبَر أَو أَمر تهديدي، أَي: إصنع مَا شِئْت فَإِن الله يجْزِيك.
5843 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرَنا عُبَيْدُ الله أخبرَنا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ أخبرَني سالِمٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ حدَّثَهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما رجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ فَهْوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأرْضِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. (الحَدِيث 5843 طرفه فِي: 0975) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من لفظ الحَدِيث، لِأَن الرجل الَّذِي فِيهِ من الْأَوَائِل وَهُوَ يَشْمَل بني إِسْرَائِيل وَغَيرهم، وَقيل: هَذَا الرجل هُوَ قَارون وَهُوَ من بني إِسْرَائِيل. وَبشر. بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله ابْن عمر. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن وهب بن بَيَان.
قَوْله: (بَيْنَمَا) ظرف مُضَاف إِلَى جملَة فَيحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَجَوَابه هُوَ قَوْله: (خسف بِهِ) . قَوْله: (من الْخُيَلَاء) هُوَ التكبر والتبختر مَعَ الْإِعْجَاب. قَوْله: (يتجلجل) أَي: يَتَحَرَّك فِي الأَرْض، والجلجلة الْحَرَكَة مَعَ صَوت، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: كل شَيْء خلطت بعضه بِبَعْض فقد جلجلته. وَعَن ابْن فَارس: هُوَ أَن يسيخ فِي الأَرْض مَعَ اضْطِرَاب شَدِيد وتدافع من شقٍ إِلَى شقٍ.
تابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع يونُسَ عبدُ الرَّحْمَن بن خَالِد فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن هَذَا هُوَ أَبُو خَالِد الفهمي مولى اللَّيْث ابْن سعد بن عَوْف، روى عَنهُ اللَّيْث، وَكَانَ والياً لهشام على مصر سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وعزل سنة تسع عشرَة، وَتُوفِّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة الذهلي فِي (الزهريات) عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن.
5843 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرَنا عُبَيْدُ الله أخبرَنا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ أخبرَني سالِمٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ حدَّثَهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما رجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنَ الخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ فَهْوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأرْضِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. (الحَدِيث 5843 طرفه فِي: 0975) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من لفظ الحَدِيث، لِأَن الرجل الَّذِي فِيهِ من الْأَوَائِل وَهُوَ يَشْمَل بني إِسْرَائِيل وَغَيرهم، وَقيل: هَذَا الرجل هُوَ قَارون وَهُوَ من بني إِسْرَائِيل. وَبشر. بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله ابْن عمر. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن وهب بن بَيَان.
قَوْله: (بَيْنَمَا) ظرف مُضَاف إِلَى جملَة فَيحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَجَوَابه هُوَ قَوْله: (خسف بِهِ) . قَوْله: (من الْخُيَلَاء) هُوَ التكبر والتبختر مَعَ الْإِعْجَاب. قَوْله: (يتجلجل) أَي: يَتَحَرَّك فِي الأَرْض، والجلجلة الْحَرَكَة مَعَ صَوت، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: كل شَيْء خلطت بعضه بِبَعْض فقد جلجلته. وَعَن ابْن فَارس: هُوَ أَن يسيخ فِي الأَرْض مَعَ اضْطِرَاب شَدِيد وتدافع من شقٍ إِلَى شقٍ.
تابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع يونُسَ عبدُ الرَّحْمَن بن خَالِد فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن هَذَا هُوَ أَبُو خَالِد الفهمي مولى اللَّيْث ابْن سعد بن عَوْف، روى عَنهُ اللَّيْث، وَكَانَ والياً لهشام على مصر سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وعزل سنة تسع عشرَة، وَتُوفِّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة الذهلي فِي (الزهريات) عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن.(16/64)
6843 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثَنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثني ابْن طاوُوسٍ عنْ أبِيِه عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْدَ كلِّ أُمَّةٍ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنَا وأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ فهَذَا اليَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فغَدَاً لِلْيَهُودِ وبَعْدُ غَدٍ لِلْنَّصَارَى. عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ يَوْمٌ يَغْسِلُ رأسَهُ وجَسَدَهُ. (انْظُر الحَدِيث 798 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا) لأَنهم من بني إِسْرَائِيل وَغَيرهم. وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله، يروي عَن أَبِيه طَاوُوس.
والْحَدِيث مضى فِي أول كتاب الْجُمُعَة من وَجه آخر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج أَنه: سمع أَبَا هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره، وَهنا زِيَادَة على ذَلِك، وَهُوَ قَوْله: على كل مُسلم ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (نَحن الْآخرُونَ) أَي: فِي الدُّنْيَا (السَّابِقُونَ) فِي الْآخِرَة. قَوْله: (بيد) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة، وَمَعْنَاهُ: غير، يُقَال، فلَان كثير المَال بيد أَنه بخيل، وَيَجِيء بِمَعْنى: إلاَّ، وَبِمَعْنى: لَكِن، وَقَالَ الْمَالِكِي: الْمُخْتَار عِنْدِي فِي: بيد أَن يَجْعَل حرف اسْتثِْنَاء بِمَعْنى: لَكِن، لِأَن معنى إلاَّ مَفْهُوم مِنْهَا، وَلَا دَلِيل على إسميتها. وَالْمَشْهُور اسْتِعْمَالهَا متلوة بِأَن كَمَا فِي الحَدِيث، وَالْأَصْل فِيهِ: بيد أَن كل أمة ... فَحذف أَن، وَبَطل عَملهَا. قَالَ أَبُو عبيد: وَفِيه لُغَة أُخْرَى: ميد، بِالْمِيم وَجَاء فِي الحَدِيث: أَنا أفْصح الْعَرَب ميد أَنِّي من قُرَيْش، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قيل: معنى: بيد، على أَنه، وَعَن الْمُزنِيّ: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول بيد من أجل قَوْله اخْتلفُوا فِيهِ، معنى الِاخْتِلَاف فِيهِ أَنه فرض يَوْم للْجمع لِلْعِبَادَةِ، ووكل إِلَى اختيارهم فمالت الْيَهُود إِلَى السبت وَالنَّصَارَى إِلَى الْأَحَد، وهدانا الله إِلَى يَوْم الْجُمُعَة الَّذِي هُوَ أفضل الْأَيَّام. قَوْله: (على كل مُسلم) إِلَى آخِره، المُرَاد بِهِ: يَوْم الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْم، وإشار بقوله: (يغسل رَأسه وَجَسَده) إِلَى الِاغْتِسَال يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُ لَهُ فضلا عَظِيما حَتَّى صرح فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنه وَاجِب وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَآخَرُونَ.
8843 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ قدِمَ مُعاوِيَةُ بنُ أبِي سُفْيَانَ المَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنا فأخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ مَا كُنْتُ أرَى أنَّ أحَدَاً يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ اليَهُودِ وإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الوِصَالَ فِي الشَّعَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْيَهُود) لأَنهم من بني إِسْرَائِيل وَقد مر نَحوه من حَدِيث مُعَاوِيَة عَن قريب فِي هَذَا الْبَاب، غير أَنه من وَجه آخر. قَوْله: (قدمة) ، بِفَتْح الْقَاف وَكَانَ ذَلِك فِي سنة إِحْدَى وَخمسين. قَوْله: (كبة) ، بِضَم الْكَاف وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة من الْغَزل، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الكبة الْجَرّ وَهُوَ من الْغَزل، تَقول مِنْهُ: كببت الْغَزل، أَي: جعلته كبباً، وَفِي الحَدِيث الَّذِي مضى قصَّة من شعر. قَوْله: (سَمَّاهُ الزُّور) ، الزُّور الْكَذِب والتزيين بِالْبَاطِلِ وَلَا شكّ أَن وصل الشّعْر مِنْهُ وَفِيه طَهَارَة شعر الْآدَمِيّ.
تابَعَهُ غُنْدَرٌ عنْ شُعْبَةَ
أَي: تَابع آدَمَ شيخ البُخَارِيّ غندرُ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال وَفِي آخِره رَاء، وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر فِي رِوَايَة الحَدِيث الْمَذْكُور عَن شُعْبَة، وَوصل مُسلم هُنَا الْمُتَابَعَة وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا غنْدر عَن شُعْبَة وَحدثنَا ابْن الْمثنى وَابْن بشار، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن سعيد بن الْمسيب (قَالَ: قدم مُعَاوِيَة الْمَدِينَة فَخَطَبنَا وَأخرج كبة من شعر، فَقَالَ: مَا كنت أرى أَن أحدا يَفْعَله إلاَّ الْيَهُود، إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغه فَسَماهُ الزُّور) . وَقَالَ مُسلم: وَجَاء رجل بعصا على رَأسهَا خرقَة، قَالَ مُعَاوِيَة: وَهَذَا الزُّور، قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي مَا يكثر النِّسَاء أشعارهن من الْخرق، وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
بِسم الله الرحْمان الرَّحِيم(16/65)
16 - (كِتابُ المَناقِبِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان المناقب، وَهُوَ جمع المنقبة، وَهِي ضد المثلبة، وَوَقع فِي بعض النّسخ: بَاب المناقب، وَالْأول أولى، لِأَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب وَفِيه أَبْوَاب كَثِيرَة تتَعَلَّق بأَشْيَاء كَثِيرَة على مَا لَا يخفى.
1 - (بابُ قَوْلِ الله تَعالى {يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقَاكُمْ} (الحجرات: 31) . وَقَولُهِ {واتَّقُوا الله الَّذي تَسَّاءَلُونَ بِهِ الأرْحَامَ إنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً} (النِّسَاء: 1) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس ... } (الحجرات: 31) . إِلَى آخِره، ذكر هَذَا ليبني عَلَيْهِ تَفْسِير الشعوب والقبائل وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَاعْلَم أَن هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِي ثَابت بن قيس، وَقَوله للرجل الَّذِي لم يفسح لَهُ: ابْن فُلَانَة، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من الذاكر فُلَانَة؟ فَقَامَ ثَابت بن قيس. فَقَالَ: أَنا يَا رَسُول الله! قَالَ: أنظر فِي وُجُوه الْقَوْم، فَنظر إِلَيْهَا. فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا رَأَيْت يَا ثَابت؟ قَالَ: رَأَيْت أَبيض وأسود وأحمر، قَالَ: فَإنَّك لَا تفضلهم إلاَّ فِي الدّين وَالتَّقوى، فَأنْزل الله فِي ثَابت هَذِه الْآيَة.
قَوْله: (من ذكر آدم عَلَيْهِ السَّلَام، وَأُنْثَى) ، حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام، وَقيل: خلقنَا كل وَاحِد مِنْكُم من أَب وَأم فَمَا مِنْكُم أحد إلاَّ وَهُوَ يُدْلِي مَا يُدْلِي بِهِ الآخر سَوَاء بِسَوَاء، فَلَا وَجه للتفاخر والتفاضل فِي النّسَب. قَوْله: (وجعلناكم شعوباً) ، وَهِي رُؤُوس الْقَبَائِل وجمهورها، قيل: ربيعَة وَمُضر والأوس والخزرج، وَاحِدهَا: شعب، بِفَتْح الشين، والشعب الطَّبَقَة الأولى من الطَّبَقَات السِّت الَّتِي عَلَيْهَا الْعَرَب، وَهِي: الشّعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة. فالشعب يجمع الْقَبَائِل، والقبائل تجمع العمائر، والعمائر تجمع الْبُطُون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل. خُزَيْمَة شعب، وكنانة قَبيلَة، وقريش عمَارَة، وقصي بطن، وهَاشِم فَخذ، وَالْعَبَّاس فصيلة، وَسميت الشعوب: شعوباً لِأَن الْقَبَائِل تتشعب مِنْهَا. وَقَالَ صَاحب (المنتهي) : مَا تشعب من قبائل الْعَرَب والعجم، والشعوب الْأُمَم الْمُخْتَلفَة، فالعرب شعب وَفَارِس شعب وَالروم شعب وَالتّرْك شعب. وَفِي (الموعب) : الشّعب مِثَال كَعْب وَعَن ابْن الْكَلْبِيّ: بِالْكَسْرِ، وَفِي (نَوَادِر الهجري) : لم يسمع فصيحاً بِكَسْر الشين، وَفِي (الْمُحكم) : الشّعب هُوَ الْقَبِيلَة نَفسهَا وَقد غلبت الشعوب بِلَفْظ الْجمع على جيل الْعَجم، وَفِي (تَهْذِيب) الْأَزْهَرِي: أخذت الْقَبَائِل من قبائل الرَّأْس لاجتماعها، وَفِي (الصِّحَاح) قبائل الرَّأْس هِيَ الْقطع المشعوب بَعْضهَا إِلَى بعض تصل بهَا الشؤون، وَقَالَ الزّجاج: الْقَبِيلَة من ولد إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كالسبط من ولد إِسْحَاق، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سموا بذلك ليفرق بَينهمَا، وَمعنى: الْقَبِيلَة من ولد إِسْمَاعِيل معنى الْجَمَاعَة، يُقَال: لكل جمَاعَة من وَاحِد: قَبيلَة، وَيُقَال لكل جمع على شَيْء وَاحِد: قبيل، أَخذ من قبائل الشَّجَرَة وَهِي أَغْصَانهَا، وَذكر ابْن الهبارية فِي كِتَابَة تِلْكَ الْمعَانِي: أَن الْقَبَائِل من ولد عدنان مِائَتَان وَسبع وَأَرْبَعُونَ قَبيلَة، والبطون من وَلَده مِائَتَان وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ بَطنا والأفخاذ خَمْسَة عشر فخذاً غير أَوْلَاد أبي طَالب. وَذكر أهل اللُّغَة: أَن الشعوب مثل مُضر وَرَبِيعَة، والقبائل دون ذَلِك مثل قُرَيْش وَتَمِيم، ثمَّ العمائر جمع عميرَة، ثمَّ الْبُطُون جمع بطن، ثمَّ الأفخاذ جمع فَخذ، وَقسم الجواني الْعَرَب إِلَى عشر طَبَقَات: الجذم ثمَّ الْجُمْهُور ثمَّ الشّعب ثمَّ الْقَبِيلَة ثمَّ الْعِمَارَة ثمَّ الْبَطن ثمَّ الْفَخْذ ثمَّ الْعَشِيرَة ثمَّ الفصيلة ثمَّ الرَّهْط. قَوْله: (لتعارفوا) ، أَي: ليعرف بَعْضكُم بَعْضًا فِي قرب النّسَب وَبعده، فَلَا يعتري إِلَى غير آبَائِهِ لَا أَن يتفاخروا بِالْآبَاءِ والأجداد، ويدَّعوا التَّفَاضُل والتفاوت فِي الْأَنْسَاب، ثمَّ بيَّن الْفَضِيلَة الَّتِي بهَا يفضل الْإِنْسَان على غَيره ويكتسب الشّرف وَالْكَرم عِنْد الله تَعَالَى فَقَالَ: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} وَقَالَ مُجَاهِد: (لتعارفوا) ليقال فلَان ابْن فلَان، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: لتعرفوا، وَأنْكرهُ بعض أهل اللُّغَة. قَوْله: (وَقَوله تَعَالَى: {وَاتَّقوا الله الَّذِي} (النِّسَاء: 1) . إِلَى آخِره أَي: اتَّقوا الله بطاعتكم إِيَّاه. قَالَ إِبْرَاهِيم وَمُجاهد وَالْحسن وَالضَّحَّاك وَالربيع وَغير وَاحِد: الَّذِي تساءلون بِهِ، أَي: كَمَا يُقَال: أَسأَلك بِاللَّه وبالرحم، وَعَن الضَّحَّاك: وَاتَّقوا الله الَّذِي بِهِ تعاقدون وتعاهدون، وَاتَّقوا الْأَرْحَام أَن تقطعوها، وَلَكِن زوروها وصلوها، والأرحام جمع: رحم، وَقَرَأَ عبد الله بن يزِيد المقريء و: الأرحامُ، بِالضَّمِّ على الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: الأرحامُ مِمَّا يتقى بِهِ، وَالْجُمْهُور على النصب على تَقْدِير: وَاتَّقوا الْأَرْحَام، وقرىء بِالْجَرِّ أَيْضا عطفا على قَوْله: بِهِ، وَفِيه خلاف فَأَجَازَهُ(16/66)
الْكُوفِيُّونَ وَمنعه البصريون لِأَنَّهُ لَا يجوز عِنْدهم الْعَطف على الضَّمِير الْمَجْرُور إلاَّ بِإِعَادَة الْجَار. قَوْله: {إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيباً} (النِّسَاء: 1) . أَي: مراقباً لجَمِيع أَعمالكُم وأحوالكم.
وَمَا يُنْهَى عنْ دَعْوَى الجاهِلِيَّةِ
عطف على قَوْله: وَقَول الله الَّذِي هُوَ عطف على قَول الله الْمَجْرُور بِإِضَافَة الْبَاب إِلَيْهِ، أَي: بَاب فِيمَا ينْهَى عَن دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، وَهِي الندبة على الْمَيِّت والنياحة، وَقيل: قَوْلهم: يَا لفُلَان، وَقيل: الانتساب إِلَى غير أَبِيه، وَقد عقد لَهُ بَابا عَن قريب يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الشُّعُوبُ النَّسَبُ البَعِيدُ: والقَبَائِلُ دُونَ ذَلِكَ
أَرَادَ بِالنّسَبِ الْبعيد مثل مُضر وَرَبِيعَة، هَذَا قَول مُجَاهِد وَالضَّحَّاك. قَوْله: (والقبائل دون ذَلِك) ، مثل قُرَيْش وَتَمِيم.
9843 - حدَّثنا خالِدُ بنُ يَزِيدَ الكاهِلِيُّ حدَّثنا أبُو بَكْرٍ عنْ أبِي حُصِينٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا: قالَ الشُّعُوبُ القَبائِلُ العْظَامُ والقَبَائِلُ البُطُونُ.
مطابقته لِلْآيَةِ الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا الشعوب والقبائل، وَقد فسر ابْن عَبَّاس الشعوب بالقبائل الْعِظَام، وَفسّر الْقَبَائِل بالبطون، وَذَلِكَ لِأَن الشعوب تجمع الْقَبَائِل، وَذكر عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا: أَن الْقَبَائِل الأفخاذ، فعلى هَذَا أَن الْقَبَائِل الَّتِي فَسرهَا بالبطون تجمع الأفخاذ. وخَالِد بن يزِيد أَبُو الْهَيْثَم المقرىء الْكَاهِلِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، والكاهلي نِسْبَة إِلَى كَاهِل، بِكَسْر الْهَاء: ابْن الْحَارِث بن تَمِيم بن سعد بن هُذَيْل بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر، بطن من هُذَيْل، وَالظَّاهِر أَنه مَنْسُوب إِلَى كَاهِل بن أَسد بن خُزَيْمَة بن مدركة لِأَن جمَاعَة كَثِيرَة من أهل الْكُوفَة ينتسبون إِلَيْهِ، وَأَبُو بكر هُوَ ابْن عَيَّاش ابْن سَالم الْأَسدي الْكُوفِي الحناط، بالنُّون وَفِي اسْمه أَقْوَال كَثِيرَة، وَالأَصَح أَن اسْمه كنيته، وَأَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: اسْمه عُثْمَان بن عَاصِم بن حُصَيْن الْأَسدي الْكُوفِي.
0943 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني سَعِيدُ بنُ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قِيلَ يَا رسولَ الله مَنْ أكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عنْ هاذَا نَسْألُكَ قَالَ فيُوسُفُ نَبيُّ الله. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ أَتْقَاهُم) . وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ، وَسَعِيد يروي عَن أَبِيه أبي سعيد كيسَان المَقْبُري. والْحَدِيث مر فِي: بَاب {أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت} (الْبَقَرَة: 331) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا أطلق على يُوسُف: أكْرم النَّاس لكَونه رَابِع نَبِي فِي نسق وَاحِد وَلَا يعلم غَيره بذلك.
3 - (حَدثنَا قيس بن حَفْص حَدثنَا عبد الْوَاحِد حَدثنَا كُلَيْب بن وَائِل قَالَ حَدَّثتنِي ربيبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَيْنَب ابْنة أبي سَلمَة قَالَ قلت لَهَا أَرَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكَانَ من مُضر قَالَت فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا من مُضر من بني النَّضر بن كنَانَة) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله إِلَّا من مُضر فَإِنَّهُ من الشعوب وَقيس بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد وكليب مصغر كلب ابْن وَائِل بِالْهَمْز تَابِعِيّ وسط كُوفِي وَأَصله من الْمَدِينَة وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث قَوْله " أَرَأَيْت " أَي أَخْبِرِينِي قَوْله " أَكَانَ من مُضر " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام قَوْله " فَمِمَّنْ كَانَ " بِالْفَاءِ رِوَايَة الْكشميهني وَرِوَايَة(16/67)
غَيره بِلَا فَاء وَيَجِيء تَفْسِيره عَن قريب
4 - (حَدثنَا مُوسَى حَدثنَا عبد الْوَاحِد حَدثنَا كُلَيْب حَدَّثتنِي ربيبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأظنها زَيْنَب قَالَت نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الدُّبَّاء والحنتم والمقير والمزفت وَقلت لَهَا أَخْبِرِينِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّن كَانَ من مُضر كَانَ قَالَت فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا من مُضر كَانَ من ولد النَّضر بن كنَانَة) هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي قَوْله " وأظنها زَيْنَب " الظَّاهِر أَن قَائِله مُوسَى لِأَن قيس بن حَفْص فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة قد جزم بِأَنَّهَا زَيْنَب وشيخهما وَاحِد (فَإِن قلت) قد أخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة حبَان بن هِلَال عَن عبد الْوَاحِد قَالَ وَلَا أعلمها إِلَّا زَيْنَب قلت فعلى هَذَا الشَّك فِيهِ من شَيْخه عبد الْوَاحِد كَانَ يجْزم بهَا تَارَة ويشك فِيهَا أُخْرَى قَوْله قَالَت نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا ذكرت النَّهْي عَن هَذِه الْأَشْيَاء هُنَا لِأَنَّهَا رَوَت الحَدِيث على هَذِه الصُّورَة قَوْله " الدُّبَّاء " بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد القرع وَاحِدهَا دباة والحنتم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره مِيم وَهِي جرار مدهونة خضر كَانَت تحمل فِيهَا الْخمر إِلَى الْمَدِينَة وَاحِدهَا حنتمة والمقير المطلي بالقار وَهُوَ الزفت وَعَن أبي ذَر صَوَابه النقير بالنُّون وَكسر الْقَاف قَوْله " أَخْبِرِينِي " خطاب من كُلَيْب لِزَيْنَب قَوْله " النَّبِي " مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله مِمَّن كَانَ يَعْنِي من أَي قَبيلَة قَوْله " من مُضر " كَأَن همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة أَي أَمن مُضر كَانَ وَمُضر بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة هُوَ ابْن نزار بن معد بن عدنان واشتقاق مُضر من المضيرة وَهُوَ شَيْء يصنع من اللَّبن سمي بِهِ لبياض لَونه وَالْعرب تسمي الْأَبْيَض أَحْمَر فَلذَلِك سميت مُضر الْحَمْرَاء وَقَالَ ابْن سَيّده سمي مُضر لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعا بِشرب اللَّبن الماضر أَي الحامض وَهُوَ أول من سنّ للْعَرَب الحداء لِلْإِبِلِ لِأَنَّهُ كَانَ حسن الصَّوْت فَسقط يَوْمًا من بعيره فَوَثَبت يَده فَجعل يَقُول وايداه وايداه فأعنقت لَهُ الْإِبِل وَأمه سَوْدَة بنت عك وَقيل حَبِيبَة بنت عك وَكَانَ على دين إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ ابْن حبيب حَدثنَا أَبُو جَعْفَر عَن أبي جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ مَاتَ أدد وَالِد عدنان وعدنان ومعد وَرَبِيعَة وَمُضر وَقيس غيلَان وَتَمِيم وَأسد وضبة على الْإِسْلَام على مِلَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا تذكروهم إِلَّا كَمَا يذكر بِهِ الْمُسلمُونَ وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا تسبوا مُضر فَإِنَّهُ كَانَ مُسلما على مِلَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعند الزبير بن بكار من حَدِيث مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ لَا تسبوا مُضر وَلَا ربيعَة فَإِنَّهُمَا كَانَا مُسلمين وَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اخْتلف النَّاس فَالْحق مَعَ مُضر وَرُوِيَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِن الله عز وَجل اخْتَار هَذَا الْحَيّ من مُضر قَوْله " فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا من مُضر " كلمة إِلَّا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع أَي لَكِن كَانَ من مُضر أَو الِاسْتِثْنَاء من مَحْذُوف أَي لم يكن إِلَّا من مُضر والهمزة محذوفة من كَانَ وَمِمَّنْ كَانَ كلمة مُسْتَقلَّة أَو الِاسْتِفْهَام للإنكار قَوْله " كَانَ من ولد النَّضر " النَّضر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن كنَانَة بِكَسْر الْكَاف ابْن خُزَيْمَة بن مدركة بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل ابْن الياس بن مُضر وَهَذَا بَيَان لَهُ لِأَن مُضر قبائل وَهَذَا بطن مِنْهُ وَالنضْر اسْمه قيس سمي بالنضر لوضاءته وجماله وإشراق وَجهه وَالنضْر هُوَ الذَّهَب الْأَحْمَر وَهُوَ النضار وَأمه برة بنت مر بن أد بن طابخة وكنية النَّضر أَبُو يخلد كني بِابْنِهِ يخلد وَعلم من هَذَا أَن معرفَة الْأَنْسَاب لَا يسْتَغْنى عَنْهَا وَقد جَاءَ الْأَمر بتعلمها وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث الْعَلَاء بن خَارِجَة الْمدنِي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تعلمُوا من أنسابكم مَا تصلونَ بِهِ أَرْحَامكُم " وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثله وَصَححهُ وَقَالَ أَبُو عمر رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ " كفر بِاللَّه ادِّعَاء نسب لَا يعرف وَكفر بِاللَّه تبرؤ من نسب وَإِن دق " وَرُوِيَ عَن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مثله وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من ادّعى إِلَى غير أَبِيه أَو انْتَمَى إِلَى غير موَالِيه فَعَلَيهِ لعنة الله " وَقد رُوِيَ من الْوُجُوه الصِّحَاح عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يدل على مَعْرفَته بأنساب الْعَرَب وروى التِّرْمِذِيّ مصححا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي يَده الْيُمْنَى(16/68)
كتاب وَفِي الْيُسْرَى كتاب فَقَالَ هَذَا كتاب من رب الْعَالمين فِيهِ أَسمَاء أهل الْجنَّة وَأَسْمَاء آبَائِهِم وقبائلهم وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الرشاطي الحض على معرفَة الْأَنْسَاب ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَبَالغ ابْن حزم فِي ذَلِك وَقَالَ لَا يُنكر حق معرفَة النّسَب إِلَّا جَاهِل أَو معاند وَفرض أَن يعلم الْمَرْء أَن سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله القريشي الْهَاشِمِي الَّذِي كَانَ بِمَكَّة ورحل مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة فَمن يشك فِيهِ أهوَ قريشي أَو يماني أَو تميمي أَو أعجمي فَهُوَ كَافِر غير عَارِف بِدِينِهِ إِلَّا أَن يعْذر بِشدَّة ظلمَة الْجَهْل فَيلْزمهُ أَن يتَعَلَّم ذَلِك وَيلْزم من بِحَضْرَتِهِ تَعْلِيمه وَمن الْفَرْض فِي علم النّسَب أَن يعرف الْمَرْء أَن الْخلَافَة لَا تجوز إِلَّا من ولد فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة وَأَن يعرف كل من يلقاه بِنسَب فِي رحم محرمه ليجتنب مَا حرم عَلَيْهِ وَأَن يعرف كل من يتَّصل بِهِ برحم يُوجب مِيرَاثا أَو صلَة أَو نَفَقَة أَو عقدا أَو حكما فَمن جهل هَذَا فقد أضاع فرضا وَاجِبا عَلَيْهِ لَازِما لَهُ من دينه وَأما الَّذِي يكون مَعْرفَته من النّسَب فضلا فِي الْجَمِيع وفرضا على الْكِفَايَة فمعرفة أَسمَاء أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وأكابر الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار الَّذين حبهم فرض فقد صَحَّ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ آيَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار وَآيَة الْمُنَافِق بغض الْأَنْصَار -
3943 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ أخْبَرَنَا جَرِيرٌ عنْ عُمَارَةَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإسْلاَمَ إذَا فُقِهُوا وتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأنِ أشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً وتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَيْنِ الَّذِي يأْتِي هاوُلاءِ بِوَجْهٍ ويأتِي هاؤُلاءِ بِوَجْهٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَعمارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع، وَأَبُو زرْعَة اسْمه هرم، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عَمْرو.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل بِتَمَامِهِ وَفِي الْأَدَب بِقصَّة ذِي الْوَجْهَيْنِ.
قَوْله: (معادن) ، أَي: كمعادن، والْحَدِيث الآخر يُوضحهُ: النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَوجه التَّشْبِيه اشْتِمَال الْمَعَادِن على جَوَاهِر مُخْتَلفَة من نَفِيس وخسيس، كَذَلِك النَّاس من كَانَ شريفاً فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده الْإِسْلَام إلاَّ شرفاً، فَإِن تفقه وصل إِلَى غَايَة الشّرف، وَكَانَت لَهُم أصُول فِي الْجَاهِلِيَّة يستنكفون عَن كثير من الْفَوَاحِش. قَوْله: (إِذا فقهوا) يَعْنِي: إِذا فَهموا أُمُور الدّين، وَالْفِقْه فِي الأَصْل الْفَهم، يُقَال: فقه الرجل، بِكَسْر الْقَاف، يفقه، بِفَتْحِهَا إِذا فهم وَعلم، وَفقه يفقه بِضَم الْقَاف فيهمَا: إِذا صَار فَقِيها عَالما، وَقد جعله الْعرف خَاصّا بِعلم الشَّرِيعَة وتخصيصاً بِعلم الْفُرُوع مِنْهُمَا. قَوْله: (تَجِدُونَ خير النَّاس فِي هَذَا الشَّأْن) أَي: فِي الْخلَافَة أَو فِي الْإِمَارَة. قَوْله: (أَشَّدهم) بِالنّصب على أَنه مفعول ثَان: لتجدون. قَوْله: (لَهُ) أَي: لهَذَا الشَّأْن. قَوْله: (كَرَاهِيَة) ، نصب على التَّمْيِيز ويروى: كَرَاهَة. فَإِن قلت: كَيفَ يصير خير جَمِيع النَّاس بِمُجَرَّد كَرَاهَته لذَلِك؟ قلت: المُرَاد إِذا تساووا فِي سَائِر الْفَضَائِل، أَو يُرَاد من النَّاس الْخُلَفَاء أَو الْأُمَرَاء، أَو مَعْنَاهُ من خَيرهمْ بِقَرِينَة الحَدِيث الَّذِي بعده، فَإِن فِيهِ تَجِدُونَ من خير النَّاس بِزِيَادَة كلمة: من، كَأَنَّهُ قَالَ: تَجِدُونَ أكره النَّاس فِي هَذَا الْأَمر من خيارهم، وَالْكَرَاهَة بِسَبَب علمه بصعوبة الْعدْل فِيهَا، والمطالبة فِي الْآخِرَة، وَهَذَا فِي الَّذِي ينَال الْخلَافَة أَو الْإِمَارَة من غير مَسْأَلَة، فَإِذا نالها بِمَسْأَلَة فَأمره أعظم لِأَنَّهُ لَا يعان عَلَيْهَا، وَهَذَا الْقسم أَكثر فِي هَذَا الزَّمَان. قَوْله: (ذَا الْوَجْهَيْنِ) مفعول ثَان لقَوْله: (تَجِدُونَ شَرّ النَّاس) وَذُو الْوَجْهَيْنِ: هُوَ الْمُنَافِق وَهُوَ الَّذِي يمشي بَين الطَّائِفَتَيْنِ بِوَجْهَيْنِ يَأْتِي لإحداهما بِوَجْه وَيَأْتِي لِلْأُخْرَى بِخِلَاف ذَلِك، وَقَالَ الله تَعَالَى: {مذبذبين بَين ذَلِك لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (النِّسَاء: 341) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مذبذبين، يَعْنِي: الْمُنَافِقين متحيرين بَين الْإِيمَان وَالْكفْر فَلَا هم مَعَ الْمُؤمنِينَ ظَاهرا وَبَاطنا ولاهم مَعَ الْكفَّار ظَاهرا وَبَاطنا، بل ظواهرهم مَعَ الْمُؤمنِينَ وبواطنهم مَعَ الْكَافرين، وَمِنْهُم من يَعْتَرِيه الشَّك، فَتَارَة يمِيل إِلَى هَؤُلَاءِ وَتارَة يمِيل إِلَى هَؤُلَاءِ، وروى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مثل الْمُنَافِق كَمثل الشَّاة العائرة بَين الْغَنَمَيْنِ تعير إِلَى هَذِه مرّة وَإِلَى هَذِه مرّة، لَا تَدْرِي أَيَّتهمَا تتبع.
5943 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا المُغِيرَةُ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي(16/69)
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشأنِ مُسْلِمُهُمْ تبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وكافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ. والنَّاسُ مَعَادِنُ خيارُهُمْ فِي الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ فِي الإسْلاَمِ إذَا فَقُهُوا تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أشَدَّ النَّاسِ كَراهِيَةً لِهَذَا الشَّأنِ حتَّى يَقَعَ فِيهِ. (انْظُر الحَدِيث 3943 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور، رَوَاهُ مُخْتَصرا وَمُطَولًا. والمغيرة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي، وَفِيه وَفِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة. قَوْله: (النَّاس تبع لقريش) قَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد بقوله: تبع لقريش، تَفْضِيلهمْ على سَائِر الْعَرَب وتقديمهم فِي الْإِمَارَة. وَبِقَوْلِهِ: (مسلمهم تبع لمسلمهم) الْأَمر بطاعتهم أَي: من كَانَ مُسلما فليتبعهم وَلَا يخرج عَلَيْهِم، وَأما معنى (كافرهم تبع لكافرهم) ، فَهُوَ إِخْبَار عَن حَالهم فِي مُتَقَدم الزَّمَان، يَعْنِي: أَنهم لم يزَالُوا متبوعين فِي زمَان الْكفْر، وَكَانَت الْعَرَب تقدم قُريْشًا وتعظمهم وَكَانَت دَارهم موسماً، وَلَهُم السدَانَة والسقاية والرفادة يسقون الحجيج ويطعمونهم فحازوا بِهِ الشّرف والرياسة عَلَيْهِم، وَيُرِيد بقوله: (خيارهم إِذا فقهوا) أَن من كَانَت لَهُ مأثرة وَشرف فِي الْجَاهِلِيَّة وَأسلم وَفقه فِي الدّين فقد أحرز مأثرته الْقَدِيمَة وشرفه الثَّابِت إِلَى مَا استفاده من المزية بِحَق الدّين، وَمن لم يسلم فقد هدم شرفه وضيع قديمه، ثمَّ أخبر أَن خِيَار النَّاس هم الَّذين يَجدونَ الْإِمَارَة ويكرهون الْولَايَة حَتَّى يقعوا فِيهَا، وَهَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنهم إِذا وَقَعُوا فِيهَا عَن رَغْبَة وحرص زَالَت عَنْهُم محَاسِن الأخيار، أَي: صفة الْخَيْرِيَّة، كَقَوْلِه: من ولي الْقَضَاء فقد ذبح بِغَيْر سكين. وَالْآخر: أَن خِيَار النَّاس هم الَّذين يكْرهُونَ الْإِمَارَة حَتَّى يقعوا فِيهَا، فَإِذا وَقَعُوا فِيهَا وتقلدوها زَالَ معنى الْكَرَاهَة، فَلم يجز لَهُم أَن يكرهوها وَلم يقومُوا بِالْوَاجِبِ من أمورها، أَي: إِذا وَقَعُوا فِيهَا فَعَلَيْهِم أَن يجتهدوا فِي الْقيام بِحَقِّهَا فعْلَ الرَّاغِب فِيهَا غير كَارِه لَهَا.
(بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب وَهُوَ كالفصل لما قبله.
7943 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ حدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما {إلاَّ الموَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 32) . قالَ فقالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْش إلاَّ وفِيهِ قَرَابَةٌ فنَزَلَتْ عَلَيْهِ {إلاَّ أنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ بَينِي وبَيْنَكُم} (الشورى: 32) . (الحَدِيث 7943 طرفه فِي: 8184) .
وَجه ذكر هَذِه عقيب الحَدِيث السَّابِق أَن الْمَذْكُور فِيهِ أَن النَّاس تبع لقريش، وَفِيه تَفْضِيلهمْ على غَيرهم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا أَنه لم يكن بطن من قُرَيْش إلاَّ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ قرَابَة، فَيَقْتَضِي هَذَا تفضيله على الْكل، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبد الْملك هُوَ ابْن ميسرَة أَبُو زيد الزراد.
وَهَذَا الحَدِيث ذكره فِي التَّفْسِير فِي {حم عسق} (الشورى: 1) . حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الْملك بن ميسرَة، قَالَ: سَمِعت طاوساً عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن قَوْله: {إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) . فَقَالَ سعيد بن جُبَير: قربى آل مُحَمَّد، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: عجلت، إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن بطن من قُرَيْش إلاَّ كَانَ لَهُ فيهم قرَابَة، فَقَالَ: إلاَّ أَن تصلوا مَا بيني وَبَيْنكُم من الْقَرَابَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن ابْن بشار بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن غنْدر بِهِ.
قَوْله: {إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) . وَقَبله: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) . لما أوحى الله تَعَالَى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْكتاب الشريف، قَالَ: قل لَهُم يَا مُحَمَّد: لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ، أَي: لَا أطلب من هَذَا التَّبْلِيغ المَال والجاه وَلَا نفعا عَاجلا وَلَا مَطْلُوبا حَاضرا لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطْلب من هَذَا التَّبْلِيغ حظاً من الحظوظ، وَعَن قَتَادَة اجْتمع الْمُشْركُونَ فِي مجمع لَهُم، فَقَالَ: بَعضهم لبَعض: أَتَرَوْنَ أَن مُحَمَّدًا يسْأَل على مَا يتعاطاه أجرا؟(16/70)
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة يحثهم على مودته ومودة أقربائه. قَوْله: {إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) . يجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا، أَي: لَا أَسأَلكُم أجرا إلاَّ هَذِه، وَهُوَ أَن لَا تُؤْذُوا أهل قَرَابَتي وَلم يكن هَذَا أجرا فِي الْحَقِيقَة، لِأَن قرَابَته قرابتهم، وَكَانَت صلتهم لَازِمَة لَهُم فِي الْمَوَدَّة، وَيجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا، أَي: لَا أَسأَلكُم أجرا قطّ، وَلَكِن أَسأَلكُم أَن تودوا قَرَابَتي الَّذين هم قرابتك وَلَا تؤذوهم.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِك على أَقْوَال: أَحدهَا: محبَّة قرَابَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم: أهل بَيته من آل هَاشم فَمن بعدهمْ من أهل الْبَيْت. وَالثَّانِي: مَوَدَّة قُرَيْش. الثَّالِث: المُرَاد عَليّ وَفَاطِمَة وولداها، ذكر فِي ذَلِك عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس. وَالرَّابِع: قَالَه عِكْرِمَة: كَانَت قُرَيْش تصل الرَّحِم، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قطعته. فَقَالَ: (صلوني كَمَا تَفْعَلُونَ) ، فَالْمَعْنى لَكِن أذكركم قَرَابَتي. وَالْخَامِس: مَوَدَّة من يتَقرَّب إِلَى الله، عز وَجل، وَهُوَ رأى الصُّوفِيَّة.
قَوْله: (إلاَّ أَن تصلوا) أَي: إلاَّ صلَة الْأَرْحَام. قَوْله: (فَنزلت عَلَيْهِ) أَي: على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: هَذَا لم ينزل؟ قلت: نزل مَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) . وَتَقْدِيره: إلاَّ الْمَوَدَّة ثَابِتَة فِي أهل الْقُرْبَى، وَقيل: الضَّمِير فِي نزلت رَاجع إِلَى الْآيَة الَّتِي فِيهَا {إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) . وَقَوله: (إلاَّ أَن تصلوا) تَفْسِير لَهَا.
8943 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ بنِ أبِي مَسْعُودٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مِنْ هَهُنَا جاءَتِ الفِتَنُ نَحْوَ المَشْرِقِ والجَفَاءُ وغِلْظَ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ عِنْدَ أصُولِ أذْنابِ الإبِلِ والبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ ومُضَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: فِي ربيعَة وَمُضر، فَإِنَّهُمَا قبيلتان، وَلما فسر الْكرْمَانِي هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبتهما بالترجمة؟ قلت: ضَرُورَة أَن النَّاس بِاعْتِبَار الصِّفَات كالقبائل، وَكَون الأتقى مِنْهُم فِيهَا أكْرم، وَفِي الْقلب مِنْهُ مَا لَا يخفى على الفطن.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد، وَقيس هُوَ أبي حَازِم البَجلِيّ، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري.
قَوْله: (يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، إِنَّمَا قَالَ كَذَلِك لِأَنَّهُ أَعم من أَنه: سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من غَيره عَنهُ. قَوْله: (نَحْو الْمشرق) ، هُوَ بَيَان أَو بدل لقَوْله: هَهُنَا. قَوْله: (فِي الْفَدادِين) بِالتَّشْدِيدِ، وهم الَّذين تعلوا أَصْوَاتهم فِي حروثهم ومواشيهم، وبالتخفيف: هِيَ الْبَقَرَة الَّتِي تحرث، وَاحِدهَا: فدان مشدداً. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: فدا الرجل يفد فديداً إِذا اشْتَدَّ صَوته، وَقيل: الفدادون هم المكثرون من الْإِبِل، وَقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان. قَوْله: (أهل الْوَبر) أَي: أهل الْبَوَادِي، والوبر، بِفَتْح الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: هُوَ وبر الْإِبِل سمي بذلك لأَنهم يتخذون بُيُوتهم مِنْهُ. قَوْله: (عِنْد أصُول أَذْنَاب الْإِبِل) ، هُوَ عبارَة عَن جلبتهم عِنْد سوقها. قَوْله: (فِي ربيعَة وَمُضر) ، بدل من الْفَدادِين.
9943 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ الفَخْرُ والخُيَلاَءُ فِي الفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ والسَّكِينَةِ فِي أهِّلِ الغنَمِ والإيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ. .
مر الْكَلَام فِي وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الحَدِيث السَّابِق، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الله ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان.
قَوْله: (وَالْخُيَلَاء) بِضَم الْخَاء وَكسرهَا: الْكبر وَالْعجب، يُقَال: فِيهِ خُيَلَاء ومخيلة أَي: كبر، وَمِنْه اختال فَهُوَ مختال. وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: (وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء فِي الْفَدادِين) ، وهم، وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهِم الْجفَاء وهما فِي أَصْحَاب الْخَيل. قَوْله: (والسكينة) ، هُوَ السّكُون وَالْوَقار. قَوْله: (يمَان) ، أَصله: يمني، حذف إِحْدَى الياءين وَعوض مِنْهُمَا الْألف فَصَارَ: يمَان، وَهِي اللُّغَة الفصحى، ثمَّ: يمنى، ثمَّ يماني بِزِيَادَة الْألف، ذكرهَا سِيبَوَيْهٍ، وَحكى الْجَوْهَرِي وَصَاحب (الْمطَالع)(16/71)
وَغَيرهمَا من سِيبَوَيْهٍ أَنه حكى عَن بعض الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: الْيَمَانِيّ، بِالْيَاءِ الْمُشَدّدَة. وَقَالَ القَاضِي وَغَيره: قد صرفُوا قَوْله: الْإِيمَان يمَان، عَن ظَاهره من حَيْثُ إِن مبدأ الْإِيمَان من مَكَّة، ثمَّ من الْمَدِينَة.
وَحكى أَبُو عبيد فِيهِ أقوالاً: أَحدهَا: أَنه أَرَادَ بذلك مَكَّة، فَإِنَّهُ يُقَال: إِن مَكَّة من تهَامَة وتهامة من أَرض الْيمن. وَالثَّانِي: المُرَاد مَكَّة وَالْمَدينَة فَإِنَّهُ يرْوى مَا فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ بتبوك، وَمَكَّة ومدينة حِينَئِذٍ بَينه وَبَين الْيمن، فَأَشَارَ إِلَى نَاحيَة الْيمن وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدينَة، فَقَالَ: الْإِيمَان يمَان ونسبها إِلَى الْيمن لكَونهَا حِينَئِذٍ من نَاحيَة الْيمن، كَمَا قَالُوا: الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَهُوَ بِمَكَّة لكَونه إِلَى نَاحيَة الْيمن. وَالثَّالِث: مَا ذهب إِلَيْهِ كثير من النَّاس وَهُوَ أحْسنهَا أَن المُرَاد بذلك الْأَنْصَار لأَنهم يمانيون فِي الأَصْل، فنسب الْإِيمَان إِلَيْهِم لكَوْنهم أنصاره. وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح، فَقَالَ مَا ملخصه: إِنَّه لَو نظر إِلَى طرق الْأَحَادِيث لما ترك ظَاهر الحَدِيث. مِنْهَا: قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (أَتَاكُم أهل الْيمن) وَالْأَنْصَار من جملَة المخاطبين بذلك، فهم إِذا غَيرهم. وَمِنْهَا: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (جَاءَ أهل الْيمن) ، وَإِنَّمَا جَاءَ حِينَئِذٍ غير الْأَنْصَار، فَحِينَئِذٍ لَا مَانع من إِجْرَاء الْكَلَام على ظَاهره، وَحمله على الْحَقِيقَة لِأَن من اتّصف بِشَيْء وَقَوي قِيَامه بِهِ نسب ذَلِك الشَّيْء إِلَيْهِ إشعاراً بتمييزه بِهِ، وَكَمَال حَاله فِيهِ، وَهَكَذَا كَانَ حَال أهل الْيمن حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَان، وَلَيْسَ فِي ذَلِك نفي لَهُ عَن غَيرهم، فَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْإِيمَان ليأرز إِلَى الْحجاز) . ويروى: (الْإِيمَان فِي أهل الْحجاز) ، لِأَن المُرَاد بذلك الْمَوْجُود مِنْهُم حِينَئِذٍ لَا كل أهل الْيمن فِي كل زمَان، فَإِن اللَّفْظ لَا يَقْتَضِيهِ.
قَوْله: (وَالْحكمَة يَمَانِية) الْحِكْمَة عبارَة عَن الْعلم المتصف بِالْأَحْكَامِ الْمُشْتَمل على الْمعرفَة بِاللَّه عز وَجل المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النَّفس وَتَحْقِيق الْحق وَالْعَمَل بِهِ والصد عَن اتِّبَاع الْهوى وَالْبَاطِل، والحكيم من لَهُ ذَلِك، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: كل كلمة وعظتك أَو زجرتك أَو دعتك إِلَى مكرمَة أَو نهتك عَن قَبِيح فَهِيَ حِكْمَة، وَحكم، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من الشّعْر حِكْمَة) وَفِي بعض الرِّوَايَات: حكما.
قالَ أبُو عَبْدِ الله سُمِّيَتِ اليَمَنَ لأنَّهَا عنْ يَمِينِ الكَعْبَةِ والشَّأمَ عنْ يَسارِ الكَعْبَةِ والْمَشْأمَةُ المَيْسَرَةُ واليَدُ اليُسْرَى الشُّؤْمَى والجانِبُ الأيْسَرُ الأشْأمُ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظ بمذكور فِي بعض النّسخ. قَوْله: (سميت الْيمن) ، لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة هَذَا قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ الرشاطي: سمي بذلك قبل أَن تعرف الْكَعْبَة لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس، وَقيل: سمي بيمن بن قحطان، وَقيل: سمي بيعرب بن قحطان، لِأَن يعرب اسْمه يمن، فَلذَلِك قيل: أَرض يمن. قَوْله: (والشأم) أَي: سميت الشَّام لِأَنَّهَا عَن يسَار الْكَعْبَة، وَقيل: سمي بشامات هُنَاكَ حمر وسود، وَقيل: سمي بسام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ أول من اختطه، وَكَانَ اسْم سَام: شام بالشين الْمُعْجَمَة، فعرب فَقيل: سَام بِالسِّين الْمُهْملَة، وَقيل: شام إسم أعجمي من لُغَة بني حام، وَتَفْسِيره بالعربي: خير طيب. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الشَّام مَهْمُوز وَقد لَا يهمز، فِي (الْمطَالع) : قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن سراج: الشَّام، بِهَمْزَة مَمْدُود وأباه أَكْثَرهم فِيهِ إلاَّ فِي النّسَب، أَعنِي: فتح الْهمزَة، كَمَا اخْتلف فِي إِثْبَات الْيَاء مَعَ الْهمزَة الْمَمْدُود فَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهٍ وَمنعه غَيره، لِأَن الْهمزَة عوض من يَاء النّسَب، فعلى هَذَا يُقَال: شَامي وشآم فِي الرجل، كَمَا يُقَال: يماني ويمان. قَوْله: (والمشأمة الميسرة) الْمِيم فيهمَا زَائِدَة لِأَن اشتقاقهما يدل على ذَلِك، لِأَنَّهُمَا من الشؤم واليسار. قَالَ الْجَوْهَرِي: المشأمة الميسرة، وَكَذَلِكَ الشأمة والشؤم نقيض الْيمن. قَوْله: (وَالْيَد الْيُسْرَى) ، يَعْنِي: تسمى بالشؤمى، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَكَذَلِكَ قَالَ للجانب الْأَيْسَر الأشأم، ومادة الْكل من الشؤم وَهُوَ نقيض الْيمن، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
2 - (بابُ مَناقِبِ قُرَيْشٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَنَاقِب قُرَيْش وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول من هُوَ الَّذِي تسمى بِقُرَيْش من أجداد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ الزبير: قَالُوا: قُرَيْش اسْم فهر بن مَالك وَمَا لم يلد فهر فَلَيْسَ من قُرَيْش، قَالَ الزبير: قَالَ عمي: فهر هُوَ قُرَيْش اسْمه وفهر لقبه، وَعَن ابْن شهَاب اسْم فهر الَّذِي سمته أمه قُرَيْش، وَإِنَّمَا نَبَذته بِهَذَا كَمَا يُسمى الصَّبِي: غرارة وشملة وَأَشْبَاه ذَلِك، وَقَالَ(16/72)
ابْن دُرَيْد: الفهر الْحجر الأملس يمْلَأ الْكَفّ، وَهُوَ مؤنث، وَقَالَ أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ: يذكر وَيُؤَنث، وَقَالَ السُّهيْلي: الفهر من الْحِجَارَة الطَّوِيل، وكنية فهر أَبُو غَالب وَهُوَ جماع قُرَيْش، وَقَالَ ابْن هِشَام: النَّضر هُوَ قُرَيْش، فَمن كَانَ من وَلَده فَهُوَ قريشي، وَمن لم يكن من وَلَده فَلَيْسَ بقريشي، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور لحَدِيث الْأَشْعَث بن قيس أَنه قَالَ: أتيت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَفد من كِنْدَة، قَالَ: فَقلت: يَا رَسُول الله {إِنَّا نزعم أَنكُمْ منا} قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نَحن بَنو النَّضر بن كنَانَة لَا نقفوأ منا وَلَا ننتفي من أَبينَا) . قَالَ: فَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس: فوَاللَّه لَا أسمع أحدا نفى قُريْشًا من النَّضر بن كنَانَة إلاَّ جلدته الْحَد. رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَابْن مَاجَه. قَوْله: (لَا نقفوأ منا) من قَوْلهم: قَفَوْت الرجل إِذا قَذَفته صَرِيحًا، وقفوت الرجل أَقْفُوهُ قفواً إِذا رميته باسم قَبِيح، وَقيل: قصي هُوَ قُرَيْش، وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان: سَمِعت أَن قصياً كَانَ يُقَال لَهُ قُرَيْش، وَلم يسم أحد قُريْشًا قبله، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ حَكَاهُمَا غير وَاحِد من أَئِمَّة علم النّسَب كَأبي عمر بن عبد الله وَالزُّبَيْر بن بكار وَمصْعَب وَأبي عُبَيْدَة، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: هُوَ النَّضر، وَقيل الصَّحِيح: هُوَ فهر.
النَّوْع الثَّانِي: فِي وَجه التَّسْمِيَة بِقُرَيْش، وَفِيه خَمْسَة عشر قولا. الأول: أَنه من التقرش وَهُوَ التكسب وَالتِّجَارَة، وَكَانَت قريس يتقرشون فِي الْبياعَات، وَهَذَا قَالَه ابْن هِشَام. الثَّانِي: مَا قَالَه ابْن إِسْحَاق: إِنَّمَا سميت قُرَيْش قُريْشًا لتجمعها من تفرقها، يُقَال للتجمع: التقرش. الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ النَّضر يُسمى قُريْشًا لِأَنَّهُ كَانَ يقرش عَن خلة النَّاس وحاجاتهم فيسدها، وَكَانَ بنوه يقرشون أهل الْمَوْسِم، أَي: يفتشون عَن حاجاتهم فيرفدونهم بِمَا يبلغهم إِلَى بِلَادهمْ. الرَّابِع: أَن لفظ قُرَيْش تَصْغِير قِرْش، وَهُوَ دَابَّة فِي الْبَحْر لَا تمر بِشَيْء من الغث والسمين إلاَّ أَكلته، قَالَه ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. الْخَامِس: أَنه جَاءَ النَّضر بن كنَانَة فِي ثوب لَهُ مجتمعاً، قَالُوا: قد تقرش فِي ثَوْبه. السَّادِس: أَنه جَاءَ إِلَى قومه فَقَالُوا: كَأَنَّهُ جمل قُرَيْش، أَي: شَدِيد. السَّابِع: قَالَه الزُّهْرِيّ: إِنَّه نَبَذته أمه بِقُرَيْش، كَمَا ذَكرْنَاهُ. الثَّامِن: قَالَه الزبير: سمي نضر قُريْشًا بِرَجُل يُقَال لَهُ: قُرَيْش بن بدر بن مخلد بن النَّضر، كَانَ دَلِيل بني كنَانَة فِي تجاراتهم. التَّاسِع: مَا قيل: إِن قصياً قرشها أَي جمعهَا فَسُمي قُريْشًا ومجمعاً أَيْضا. الْعَاشِر: سميت قُرَيْش بذلك لتجمعهم فِي الْحرم. الْحَادِي عشر: من تقرش الرجل إِذا تنزه عَن مدانس الْأُمُور. الثَّانِي عشر: من تقارشت الرماح إِذا تداخلت فِي الْحَرْب. الثَّالِث عشر: من أقرش بِهِ إِذا سعى بِهِ وَوَقع فِيهِ. الرَّابِع عشر: من أقرشت الشَّجَّة إِذا صدعت الْعظم وَلم تهشمه. الْخَامِس عشر: من تقرش فلَان الشَّيْء إِذْ أَخذه أَولا فأولاً.
النَّوْع الثَّالِث: فِيمَا جَاءَ فيهم فَروِيَ عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من يُرِيد هوان قُرَيْش أهانه الله) ، وَعَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله اصْطفى كنَانَة من ولد إِسْمَاعِيل، وَاصْطفى قُريْشًا من كنَانَة، وَاصْطفى هاشماً من قُرَيْش وَاصْطَفَانِي من بني هَاشم) ، رَوَاهُ مُسلم وَكَانَت لقريش فِي الْجَاهِلِيَّة مَكَارِم مِنْهَا: السِّقَايَة والعمارة والرفادة وَالْعِقَاب والحجابة والندوة واللواء والمشورة والأشناق والقبة والأعنة والسفارة والأيسار والحكومة وَالْأَمْوَال المحجرة، وَكَانُوا يسمون: آل الله وجيران الله، وَالنِّسْبَة إِلَى قُرَيْش: قريشي، وَعَن الْخَلِيل: قرشي أَيْضا، فَإِن أردْت بِقُرَيْش الْحَيّ صرفته، وَإِن أردْت بِهِ الْقَبِيلَة لم تصرفه.
0053 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ كانَ مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أنَّهُ بلَغَ مُعاوِيَةَ وهْوَ عِنْدَهُ فِي وفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ يُحَدِّثُ أنَّهُ سيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فغَضِبَ مُعاوِيَةُ فقَامَ فأثْناى علَى الله بَما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ رِجالاً مِنْكُمْ يتَحَدَّثُونَ أحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله ولاَ تُؤْثَرُ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فإيَّاكُمْ والأمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أهْلَهَا فإنِّي سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ هاذَا الأمْرَ فِي قُرَيْش لاَ يُعَادِيهِمْ أحَدٌ إلاَّ كَبَّهُ الله عَلَى وَجْهِهِ مَا أقَامُوا الدِّينَ. (الحَدِيث 0053 طرفه فِي: 9317) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهره، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم مَعَ بيانهم، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن خَالِد بن حلى.
قَوْله: (وَهُوَ عِنْده) ، حَال من مُحَمَّد بن جُبَير. قَوْله:(16/73)
(فِي وَفد من قُرَيْش) أَيْضا حَال. قَوْله: (أَن عبد الله) ، بِفَتْح أَن، وَالْعَامِل فِيهِ قَوْله: بلغ، قَوْله: (من قحطان) هُوَ ابْن عَامر ابْن شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، واسْمه: مهزم، قَالَه ابْن مَاكُولَا، وَقيل: قحطان بن هود، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: هُوَ هود، وَقيل: أَخُوهُ، وَقيل: من ذُريَّته، وَقيل: هُوَ من سلالة إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَكَاهُ ابْن إِسْحَاق وَغَيره، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ قحطان بن الهميسع بن تيمن بن قيذار بن نبت بن إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَبَنُو قحطان هم الْعَرَب العاربة، وعرب الْيمن وهم حمير الْمَشْهُور أَنهم من قحطان، وَالْعرب ثَلَاثَة فرق: عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، فَأَما الْعَرَب العاربة فهم تسع قبائل من ولد إرم بن سَام بن نوح: عَاد وَثَمُود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار. وَأما الْعَرَب المتعربة فهم: بَنو قحطان، وَالْعرب المستعربة هم بَنو إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَزَعَمت الْعَرَب أَن قحطان ولد يعرب، وَإِنَّمَا سميت الْعَرَب بِهِ إِذْ هُوَ أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ وَنزل أَرض الْيمن، وَأول من قيل لَهُ: أَبيت اللَّعْن، وَأول من قيل لَهُ: عَم صباحاً. قَوْله: (وَلَا تُؤثر) أَي: وَلَا تروى. قَوْله: (والأماني) جمع أُمْنِية. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَمَانِي بِمَعْنى التِّلَاوَة كَأَن الْمَعْنى: إيَّاكُمْ وَقِرَاءَة مَا فِي الصُّحُف الَّتِي تُؤثر عَن أهل الْكتاب مَا لم يَأْتِ بِهِ الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ ابْن عَمْرو قَرَأَ التَّوْرَاة. ويحكى: عَن أَهلهَا إلاَّ أَنه حدث بِهِ عَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ لَو حدث عَنهُ لما اسْتَطَاعَ أحد رده، لِأَنَّهُ لم يكن مُتَّهمًا. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنْكَار مُعَاوِيَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حمل حَدِيثه على ظَاهِرَة وَقد يخرج القحطاني فِي نَاحيَة من نواحي الْإِسْلَام وَيحمل حَدِيث مُعَاوِيَة على الْأَكْثَر. قَوْله: (إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش) أَرَادَ بِهِ الْخلَافَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَمَا قَوْلك فِي زمانننا حَيْثُ لَيْسَ الْحُكُومَة لقريش؟ قلت: فِي بِلَاد الْعَرَب الْخلَافَة فيهم، وَكَذَا فِي مصر خَليفَة. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ بِشَيْء، فَمن قَالَ: إِن فِي بِلَاد الْعَرَب خلَافَة، وَمن هُوَ هَذَا الْخَلِيفَة؟ وَلَيْسَ فِي مصر إلاَّ من يُسمى خَليفَة بالإسم، وَلَيْسَ لَهُ حل وَلَا ربط، وَلَئِن سلمنَا صِحَة مَا قَالَه فَيلْزم مِنْهُ تعدد الْخلَافَة فَلَا يجوز إلاَّ خَليفَة وَاحِد، لِأَن الشَّارِع أَمر ببيعة الإِمَام وَالْوَفَاء ببيعته، ثمَّ من نازعه أَمر بِضَرْب عُنُقه. وروى الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن سفينة مولى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تكون ملكا، وَفِي رِوَايَة: ثمَّ يُؤْتِي الله ملكه من يَشَاء، وَهَكَذَا وَقع. فَإِن خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سنتَانِ وَأَرْبَعَة أشهر إلاَّ عشر لَيَال، وَخِلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عشر سِنِين وَسِتَّة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام، وَخِلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إثنا عشر سنة إلاَّ اثْنَي عشر يَوْمًا، وَخِلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ خمس سِنِين إلاَّ شَهْرَيْن، وتكملة الثَّلَاثِينَ بخلافة الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُما نَحوا من سِتَّة أشهر حَتَّى نزل عَنْهَا لمعاوية عَام أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة. فَإِن قلت: يُعَارض حَدِيث سفينة مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: لَا يزَال هَذَا الدّين قَائِما مَا كَانَ اثْنَي عشرَة خَليفَة، كلهم من قُرَيْش ... الحَدِيث. قلت: قيل: إِن الَّذين لم يزل قَائِما حَتَّى ولَّي اثْنَي عشر خَليفَة كلهم من قُرَيْش، وَأَرَادَ بِهَذَا خلَافَة النُّبُوَّة وَلم يرد أَنه لَا يُوجد غَيرهم، وَقيل: هَذَا الحَدِيث فِيهِ إِشَارَة بِوُجُود إثني عشر خَليفَة عادلين من قُرَيْش، وَإِن لم يوجدوا على الْوَلَاء وَإِنَّمَا اتّفق وُقُوع الْخلَافَة المتتابعة بعد النُّبُوَّة فِي ثَلَاثِينَ سنة، ثمَّ قد كَانَ بعد ذَلِك خلفاء راشدون مِنْهُم: عمر بن عبد الْعَزِيز، وَمِنْهُم الْمُهْتَدي بِأَمْر الله العباسي، وَمِنْهُم الْمهْدي المبشر بِوُجُودِهِ فِي آخر الزَّمَان. قَوْله: (إلاَّ كبَّه الله) ، وَهَذَا الْفِعْل من الشواذ، لِأَن الْفِعْل يتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، وَهَذَا الْفِعْل ثلاثيه مُتَعَدٍّ ورباعيه لَازم، قَالَ الله تَعَالَى: {أَفَمَن يمشي مكباً على وَجهه} (الْملك: 22) . قَوْله: (مَا أَقَامُوا الدّين) أَي: مُدَّة إقامتهم الدّين، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: أَنهم إِن لم يقيموه فَلَا تسمع لَهُم، وَقيل: يحْتَمل أَن لَا يُقَام عَلَيْهِم، وَإِن كَانَ لَا يجوز بقاؤهم. وَقد أَجمعُوا على أَنه إِذا دَعَا إِلَى كفر أَو بِدعَة يُقَام عَلَيْهِ، وَإِن غصب الْأَمْوَال وانتهك الْحرم فَاخْتلف فِيهِ: هَل يُقَام عَلَيْهِ؟ فَقَالَ الْأَشْعَرِيّ مرّة: نعم، وَمرَّة: لَا.
1053 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا عَاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ أبي عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَزالُ هاذَا الأمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ. (الحَدِيث 1053 طرفه فِي: 0417) .(16/74)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ منقبة لقريش. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك، وَعَاصِم بن مُحَمَّد يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد ابْن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب الْعَدوي الْقرشِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أَحْمد ابْن يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن يُونُس.
قَوْله: (هَذَا الْأَمر) أَي: الْخلَافَة. قَوْله: (مَا بَقِي مِنْهُم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: مَا بَقِي من النَّاس، وَلما كَانَ النَّاس تبعا لقريش فِي الْجَاهِلِيَّة ورؤساء الْعَرَب كَانُوا أَيْضا تبعا لَهُم فِي الْإِسْلَام، وهم أَصْحَاب الْخلَافَة، وَهِي مستمرة لَهُم إِلَى آخر الدُّنْيَا مَا بَقِي من النَّاس إثنان، وَقد ظهر مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن زَمَنه إِلَى الْآن الْخلَافَة فِي قُرَيْش من غير مزاحمة لَهُم فِيهَا، وَإِن كَانَ المتغلبون ملكوا الْبِلَاد، وَلَكنهُمْ معترفون أَن الْخلَافَة فِي قُرَيْش، فاسم الْخلَافَة باقٍ وَلَو كَانَ مُجَرّد التَّسْمِيَة.
2053 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ الْمُسَيَّبِ عنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعَمٍ قَالَ مَشَيْتُ أنَا وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله أعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وإنَّمَا نَحْنُ وهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ واحِدَةٍ فَقَالَ النِّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّما بَنُو هاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. (انْظُر الحَدِيث 0413 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قد مضى فِي الْخمس فِي: بَاب وَمن الدَّلِيل، على أَن الْخمس للْإِمَام غير أَنه أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن اللَّيْث بن سعد، وَهنا: عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ وَزَاد فِيهِ: وَقَالَ اللَّيْث: وحَدثني يُونُس وَزَاد قَالَ جُبَير: وَلم يقسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبني عبد شمس وَلَا لبني نَوْفَل ... إِلَى آخِره.
3053 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني أبُو الأسْوَدِ مُحَمَّدٌ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ ذَهَبَ عبْدُ الله بنُ الزُّبَيْرِ معَ أناسٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ إِلَى عائِشَةَ وكانَتْ أرَقَّ شَيْءٍ لِقَرَابَتهِمْ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا التَّعْلِيق مُخْتَصر من حَدِيث يَأْتِي بعد حَدِيث وَاحِد ذكره مُتَّصِلا، فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف حَدثنَا اللَّيْث قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْأسود. . إِلَى آخِره، وَأخرجه أَبُو نعيم أَيْضا عَن أبي أَحْمد عَن قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا اللَّيْث فَذكره.
قَوْله: (من بني زهر) ، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء: واسْمه الْمُغيرَة بن كلاب بن مرّة فِيمَا ذكره ابْن الْكَلْبِيّ، وَوَقع فِي (الصِّحَاح) و (معارف ابْن قُتَيْبَة) : أَن زهرَة امْرَأَة نسب إِلَيْهَا وَلَدهَا دون الْأَب، وَهُوَ غَرِيب لإِجْمَاع أهل النّسَب على خِلَافه، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: وزهرة، فعلة من الزهر وَهُوَ زهر الأَرْض وَمَا أشبهه، وَيكون من الشَّيْء الزَّاهِر المضيء من قَوْلهم: أَزْهَر النَّهَار إِذا أَضَاء. قَوْله: (وَكَانَت) أَي: عَائِشَة (أرق شَيْء لقرابتهم) أَي: لقرابة بني زهرَة (من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَذَلِكَ من جِهَة أَن أمه كَانَت مِنْهُم لِأَنَّهَا بنت وهب بن عبد منَاف بن زهرَة، وسيتضح معنى هَذَا الحَدِيث فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي بعد حَدِيث وَاحِد فِي هَذَا الْبَاب.
4053 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ سَعْدٍ ح قَالَ يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا أبي عنْ أبِيهِ قَالَ حدَّثني عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ هُرْمُزَ الأعْرَجُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُرَيْشٌ والأنْصَارُ وجُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأسْلَمُ وأشْجَعُ وغِفارُ مَوَالِيَّ لَيْس لَهُمْ مَوْلًى دُونَ الله ورَسُولِهِ. (الحَدِيث 4053 طرفه فِي: 2153) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد، وَإِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه سعد بن إِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقَالَ ابْن مَسْعُود الدِّمَشْقِي: رِوَايَة يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم لهَذَا الحَدِيث تخَالف رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ فِي الْمَتْن والإسناد، لِأَن الثَّوْريّ يرويهِ عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَيَعْقُوب يرويهِ عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن الْأَعْرَج بِاللَّفْظِ الَّذِي يَأْتِي بعد هَذِه التَّرْجَمَة، وَلَا يرويهِ عَن أَبِيه عَن جده سعد عَن إِبْرَاهِيم(16/75)
عَن الْأَعْرَج كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عقيب حَدِيث الثَّوْريّ، وَفِيه نظر، لِأَن إِبْرَاهِيم بن سعد وَالِد يَعْقُوب مَعْرُوف بالرواية عَن صَالح ابْن كيسَان وَعَن الْأَعْرَج، فَيحْتَمل أَنه رَوَاهُ عَن هَذَا تَارَة كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَعَن هَذَا تَارَة كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه)
قَوْله: (وَقَالَ يَعْقُوب) ، وَقع فِي بعض النّسخ قبل هَذَا: قَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ يَعْقُوب، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وعلق رِوَايَة يَعْقُوب بن ابراهيم وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من دريق البُخَارِيّ نَفسه مُعَلّقا. قَوْله: (قُرَيْش) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَالْأَنْصَار) ، يُرِيد بالأنصار: الْأَوْس والخزرج ابْني حَارِثَة بن ثَعْلَبَة العنقاء بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف ابْن امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة بن مَازِن، وَهُوَ جماع غَسَّان بن الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سباء بَان يشجب بن يعرب بن قحطان، وَاسم الأزد: دراء، بِكَسْر الدَّال وبالمد وَالْقصر وَقد تفتح الدَّال من قَوْلهم أزدي إِلَيْهِ دراء يدا وَكَانَ معطاء فَكثر استعمالهم إِيَّاه حَتَّى جَعَلُوهُ إسماً، وَالْأَصْل: أسدي، فقلبوا السِّين: زاياً، ليطابق الدَّال فِي الْجَهْر. وَعَن يَعْقُوب وَأبي عبيد: أَسد أفْصح من الأزد، وَقَالَ يحيى بن معِين: هما سَوَاء وَهِي جرثومة من جراثيم قحطان وبابهم وَاسع وَفِيهِمْ قبائل وعمائر وبطون وأفخاذ لخزاعة وغسان وبارق والعتيك وغامد وَشبههَا. قَوْله: (وجهينة) ، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: ابْن زيد بن لَيْث بن سود، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة: ابْن أسلم، بِضَم اللَّام، ابْن ألحاف يُقَال الحافي بن قضاعة، واسْمه: عَمْرو بن مَالك بن عَمْرو بن مرّة بن زيد بن مَالك ابْن حمير بن سبإ، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: جُهَيْنَة من الجهن وَهُوَ الغلظ فِي الْوَجْه والجسم، وَبِه سمي جُهَيْنَة. قَوْله: (وَمُزَيْنَة) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: هِيَ بنت كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرَان بن الحاني ابْن قضاعة، وَهِي أم عُثْمَان وَأَوْس بن عَمْرو بن أد بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأولادهما ينسبون إِلَى مزينة. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: مزينة تَصْغِير مزنة وَهِي السحابة الْبَيْضَاء وَالْجمع: مزن. قَوْله: (وَأسلم فِي خُزَاعَة) ، وَهُوَ ابْن أفصى وَهُوَ خُزَاعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر بن حَارِثَة بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد. وَفِي مذْحج: أسلم بن أَوْس الله بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج. وَفِي بجيلة: أسلم بن عَمْرو بن لؤَي بن رهم بن مُعَاوِيَة بن أسلم بن أحمس بن الْغَوْث، وَالله أعلم من أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله هَذَا. قَوْله: (وَأَشْجَع) ، هُوَ ابْن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن غيلَان بن مُضر، وَأَشْجَع من الشجع وَهُوَ الطول، يُقَال: رجل أَشْجَع وَامْرَأَة شجعاء، والأشجع العقد الثَّانِي من الْأَصَابِع، وَالْجمع أشاجع. قَوْله: (وغفار) ، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وَفِي آخِره رَاء: هُوَ ابْن مليل بن ضَمرَة بن بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة. وَأما الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ الصَّحَابِيّ فَهُوَ من ولد نفيلة بن مَكِيل أخي غفار فنسب إِلَى أخي جده، وَكَثِيرًا تصنع الْعَرَب ذَلِك إِذا كَانَ أشهر من جده، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ من غفر إِذا ستر، وَمِنْه قَوْلهم: يغْفر الله لَك. قَوْله: (موَالِي) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْله: (قُرَيْش) وَمَا بعد قُرَيْش عطف عَلَيْهِ، أَي: أَنْصَارِي والمختصون بِي، وَقَالَ أَبُو الْحسن: رُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالتَّخْفِيف إِمَّا أَن يكون بِغَيْر يَاء أَو يضيفهم إِلَى نَفسه بتَشْديد الْيَاء، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَرَادَ من أُسِرَ من هَذِهِ القَبائِلَ لم يجْرِ عَلَيْهِ رق وَلَا وَلَاء، وَقيل: قَوْله موَالِي، لأَنهم مِمَّن بَادرُوا إِلَى الْإِسْلَام وَلم يسبوا فيرقوا كغيرهم من قبائل الْعَرَب. وَقَالَ يُونُس: أَي: هم أَوْلِيَاء الله مثلا، وَإِن الْكَافرين لَا مولى لَهُم، أَي: لَا نَاصِر لَهُم، قَوْله: (لَيْسَ لَهُم مولى دون الله وَرَسُوله) ، أَي: غير الله وَرَسُوله، وَالْمولى، وَإِن كَانَ لَهُ معانٍ كَثِيرة، لَكِن الْمُنَاسب هُنَا: النَّاصِر، وَالْوَلِيّ والمتكفل بمصالحهم وَالْمُتوَلِّيّ لأمورهم.
5053 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنِي أبُو الأسْوَدِ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ كانَ عَبْدُ الله بنُ الزُّبَيْرِ أحَبَّ البَشَرِ إِلَى عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَكْرٍ وكانَ أبَرَّ النَّاسِ بِهَا وكانَتْ لاَ تُمْسِكُ شَيْئاً مَمَّا جاءَهَا مِنْ رِزْقِ الله إِلَّا تَصَدَّقَتْ فَقَالَ ابنُ الزُّبَيْرِ يَنْبَغِي أنْ يُؤْخَذَ علَى يَدَيْهَا فقالَتْ أيُؤْخَذُ علَى يَدَيَّ علَىَّ نَذْرٌ إنْ كلَّمْتُهُ فاسْتَشْفَعَ إلَيْهَا بِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ وبِأخْوَالِ(16/76)
رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاصَّةً فامْتَنَعَتْ فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّونَ أخْوَالُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمانِ ابنُ الأسْوَدِ بنِ عَبْدِ يَغُوثَ والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ إذَا اسْتأذَنَّا فاقْتَحِمِ الحِجَابَ فَفَعَلَ فأرْسَلَ إلَيْهَا بِعَشْرِ رِقَابٍ فأعْتَقَتْهُمْ ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُعْتِقُهُمْ حَتَّى بَلَغَتْ أرْبَعِينَ فقالَتْ ودِدْتُ أنِّي جعَلْتُ حِينَ حَلَفْتُ عَمَلاً أعْمَلُهُ فأفْرُغَ مِنْهُ. (انْظُر الحَدِيث 3053 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث الْمُتَّصِل يُوضح الحَدِيث الْمُعَلق الْمَذْكُور قبل الحَدِيث السَّابِق على هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ قَوْله: وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي أَبُو الْأسود مُحَمَّد عَن عُرْوَة بن الزبير ... إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ بقولنَا: وسيتضح معنى هَذَا الحَدِيث فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي بعد حَدِيث وَاحِد فِي هَذَا الْبَاب. وتوضيحه من الْخَارِج: أَن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام هُوَ ابْن أُخْت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِأَن أمه أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأمّهَا أم الْعُزَّى قيلة أَو قتيلة بنت عبد الْعُزَّى، وَأم عَائِشَة أم رُومَان بنت عَامر، فأسماء أُخْت عَائِشَة من الْأَب، وَكَانَت عَائِشَة تحب عبد الله بن الزبير غَايَة الْمحبَّة، وَكَانَ أحب النَّاس إِلَيْهَا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ عبد الله يبر إِلَيْهَا كثيرا، وَكَانَت عَائِشَة كَرِيمَة جدا لَا تمسك شَيْئا. وَبَلغهَا أَن عبد الله قَالَ: وَالله لتنتهين عَائِشَة أَو لأحجرن عَلَيْهَا، فَقَالَت: عليَّ نذر إِن كَلمته، وَبَقِيَّة الْكَلَام تظهر من تَفْسِير الحَدِيث.
قَوْله: (أَبُو الْأسود) هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل بن الْأسود بن نَوْفَل بن خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى الْقرشِي الْأَسدي الْمَدِينِيّ يَتِيم عُرْوَة بن الزبير لِأَن أَبَاهُ أوصى بِهِ إِلَيْهِ فَقيل لَهُ: يَتِيم عُرْوَة لذَلِك. قَوْله: (يَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ على يَديهَا) ، أَي: تمنع من الْإِعْطَاء ويحجر عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ تَأتي فِي الْأَدَب: وَالله لتنتهين عَائِشَة أَو لأحجرن عَلَيْهَا. قَوْله: (فَقَالَت: أيؤخذ على يَدي؟) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: وَلما بلغ عَائِشَة مَا قَالَه عبد الله بن الزبير من الْحجر عَلَيْهَا، قَالَت: أيؤخذ على يَدي؟ يَعْنِي: أيحجر عبد الله عَليّ؟ فَغضِبت من ذَلِك، فَقَالَت: (عَليّ نذر إِن كَلمته) قَوْله: (فاستشفع) أَي: عبد الله إِلَيْهَا، أَي: إِلَى عَائِشَة، وَفِيه حذف أَيْضا تَقْدِيره: وَلما بلغ عبد الله بن الزبير غضبُ عائِشَة من كَلَام عبد الله وبلغه نذرها بترك الْكَلَام لَهُ، خَافَ على نَفسه من غَضَبهَا فاستشفع إِلَيْهَا لترضى عَلَيْهِ، فامتنعت عَائِشَة وَلم ترض بذلك. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ الزهريون) ، أَي: فَلَمَّا امْتنعت عَائِشَة عَن قبُول الشَّفَاعَة قَالَ لعبد الله الْجَمَاعَة الزهريون، وهم المنسوبون إِلَى زهرَة، واسْمه: الْمُغيرَة بن كلاب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (أخوال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِأَن أمه، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَت من بني زهرَة، لِأَنَّهَا بنت وهب بن عبد منَاف بن زهرَة. قَوْله: (مِنْهُم) ، أَي: من الزهريين (عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن عبد يَغُوث) بن وهب بن عبد منَاف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، وَأمه آمِنَة بنت نَوْفَل بن أهيب بن عبد منَاف بن زهرَة. وَهُوَ ابْن خَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تصح لَهُ رُؤْيَة وَلَا صُحْبَة، ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) . قَوْله: (والمسور بن مخرمَة) ، بِكَسْر الْمِيم فِي الإبن وَبِفَتْحِهَا فِي الْأَب: ابْن نَوْفَل بن أهيب بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب الْقرشِي الزُّهْرِيّ، لَهُ ولأبيه صُحْبَة. قَوْله: (إِذا استاذنا) ، يَعْنِي إِذا استأذنا على عَائِشَة فِي الدُّخُول عَلَيْهَا فاقتحم الْبَاب، أَي: إرم نَفسك فِيهِ من غير اسْتِئْذَان وَلَا روية، يُقَال: اقتحم الْإِنْسَان الْأَمر الْعَظِيم وتقحمه إِذا رمى نَفسه فِيهِ من غير تثبت وَلَا روية، وَأَرَادَ بالحجاب الستارة الَّتِي تضرب بَين عَائِشَة وَبَين المستأذنين للدخول عَلَيْهَا. قَوْله: (فَفعل) ، أَي: فعل عبد الله بن الزبير مَا قَالَه الزهريون من اقتحام الْبَاب. قَوْله: (فَأرْسل إِلَيْهَا بِعشر رِقَاب) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: لما شفع الزهريون فِي عبد الله عِنْد عَائِشَة رضيت عَلَيْهِ، ثمَّ أرسل عبد الله بِعشر عبيد وجوارٍ إِلَيْهَا لأجل أَن تعْتق مَا أَرَادَت مِنْهُم كَفَّارَة ليمينها، فأعتقت عَائِشَة جَمِيعهم، ثمَّ لم تزل عَائِشَة تعْتق حَتَّى بلغ عتقهَا أَرْبَعِينَ رَقَبَة للإحتياط فِي نذرها. قَوْله: (فَقَالَت وددت) إِلَى آخِره، مَعْنَاهُ: إِنِّي نذرت مُبْهما. وَهُوَ يحْتَمل أَن يُطلق على أَكثر مِمَّا فعلت، فَلَو كنت نذرت نذرا معينا لَكُنْت تيقنت بِأَنِّي أديته وبرئت ذِمَّتِي، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَنَّهَا تمنت لَو كَانَ بدل قَوْلهَا: عَليّ نذر، عَليّ إِعْتَاق رَقَبَة أَو صَوْم شهر وَنَحْوه من الْأَعْمَال الْمعينَة حَتَّى تكون كفارتها مَعْلُومَة مُعينَة وتفرغ مِنْهَا بالإتيان بِهِ، بِخِلَاف لفظ: عَليّ نذر، فَإِنَّهُ مُبْهَم لم يطمئن قَلبهَا بِإِعْتَاق رَقَبَة أَو رقبتين، وأرادت الزِّيَادَة عَلَيْهِ فِي كَفَّارَته، وَذكر الْكرْمَانِي هُنَا وَجْهَيْن آخَرين: أَحدهمَا أَن عَائِشَة تمنت أَن يَدُوم لَهَا الْعَمَل الَّذِي عملته لِلْكَفَّارَةِ، يَعْنِي يكون دَائِما مِمَّن أعتق العَبْد لَهَا. وَالْآخر: أَنَّهَا قَالَت: يَا لَيْتَني كفرت حِين حَلَفت وَلم تقع الْهِجْرَة والمفارقة(16/77)
فِي هَذِه الْمدَّة. وَقَالَ بَعضهم: أبعد من قَالَ هذَيْن الْوَجْهَيْنِ. قلت: لم يبين هَذَا الْقَائِل وَجه الْبعد فيهمَا، وَلَيْسَ فيهمَا بعد، بل الْأَقْرَب هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّة دين عَائِشَة وَغَايَة ورعها على مَا لَا يخفى. قَوْله: (أعمله) صفة لقَوْله: (عملا) قَوْله: (فأفرغ مِنْهُ) يجوز بِالرَّفْع أَي: فَأَنا أفرغ مِنْهُ، وَيجوز بِالنّصب أَي: فَإِن أفرغ مِنْهُ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي النّذر الْمُبْهم الْمَجْهُول، فَذهب مَالك إِلَى أَنه: ينْعَقد وَيلْزم بِهِ كَفَّارَة يَمِين، وَقَالَ الشَّافِعِي مرّة: يلْزمه أقل مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم، وَقَالَ مرّة: لَا ينْعَقد هَذَا الْيَمين، وَصحح فِي مُسلم: كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين، وَفِي لفظ لَهُ: من نذر نذرا وَلم يسمه فَعَلَيهِ كَفَّارَة يَمِين، وَلَعَلَّ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لم يبلغهَا هَذَا الحَدِيث، وَلَو كَانَ بلغَهَا لم تقل هَكَذَا، وَلم تعْتق أَرْبَعِينَ رَقَبَة، أَو تأولت. وَقَالَ ابْن التِّين: وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قبل تَمام الثَّلَاث: أَي: ثَلَاثَة أَيَّام من الهجر، وَكَيف وَقع الْحِنْث عَلَيْهَا بِمُجَرَّد دُخُول عبد الله بن الزبير دون الْكَلَام إلاَّ أَن يكون لما سلم الزهريون عَلَيْهَا ردَّتْ السَّلَام، وَعبد الله فِي جُمْلَتهمْ، فَوَقع الْحِنْث قبل أَن أقتحم الْحجاب، قيل: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ كَانَ يجوز لَهَا رد السَّلَام عَلَيْهِم إِذا نَوَت إِخْرَاج عبد الله فَلَا تَحنث بذلك.
3 - (بابٌ نَزَلَ القُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه نزل الْقُرْآن بِلِسَان قُرَيْش، أَي: بلغتهم.
6053 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَسٍ أنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بنَ ثابِتٍ وعَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ وسَعِيدَ بنَ العَاصِ وعَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ فنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ. وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ إذَا اخْتَلَفْتُمْ أنْتُمْ وزيْدُ بنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فإنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ ففَعَلُوا ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الْقرشِي الأويسي الْمدنِي، وَهُوَ من أَفْرَاده وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن الْهَيْثَم ابْن أَيُّوب.
قَوْله: (وَسَعِيد بن الْعَاصِ) بن أحيحة الْقرشِي الْأمَوِي الْمَدِينِيّ قَالَ ابْن سعد: قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن تسع سِنِين، وَقَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز: إِن عَرَبِيَّة الْقُرْآن أُقِيمَت على لِسَانه، وَهُوَ أحد الَّذين كتبُوا الْمُصحف لعُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم الْقرشِي المَخْزُومِي، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ ابْن عشر سِنِين حِين قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فنسخوها) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الصُّحُف الَّتِي كَانَت عِنْد حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا يُقَال: إِنَّه إِضْمَار قبل الذّكر، لِأَن هَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث آخر طَوِيل أخرجه البُخَارِيّ فِي الْفَضَائِل، وَفِيه: فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة: أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف، ثمَّ نردها إِلَيْك، فَأرْسلت بهَا حَفْصَة إِلَى عُثْمَان، فَأمر زيد بن ثَابت وَعبد الرَّحْمَن بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام فنسخوها فِي الْمَصَاحِف. . الحَدِيث، والمصاحف: جمع مصحف، والمصحف الكرَّاسة وحقيقتها: مجمع الصُّحُف. قَوْله: (للرهط القرشيين) هم عبد الله بن الزبير وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث. وَأما زيد بن ثَابت فَهُوَ لَيْسَ بقرشي بل هُوَ أَنْصَارِي خزرجي. قَوْله: (إِذا اختلفتم أَنْتُم وَزيد بن ثَابت) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي إِذا اختلفتم فِيهِ من الهجاء لَيْسَ من الْإِعْرَاب، وَقَالَ أَبُو الْحسن: أَرَادَ: إِذا اختلفتم فِي إعرابه، وَلَا يبعد أَنه أَرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ، أَلا ترى أَن لُغَة أهل الْحجاز {مَا هَذَا بشرا} ولغة تَمِيم {بشر} قَوْله: (فاكتبوه) أَي: فَاكْتُبُوا الَّذِي اختلفتم فِيهِ بِلِسَان قُرَيْش، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إلاَّ بِلِسَان قومه} (إِبْرَاهِيم: 4) . وَقوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قُرَيْش فَيكْتب بلسانهم. قَوْله: (فَإِنَّمَا نزل بلسانهم) ، أَي: فَإِن الْقُرْآن إِنَّمَا نزل بِلِسَان قُرَيْش. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَلما اخْتلفُوا فِي التابوت، فَقَالَ زيد ابْن ثَابت التابوه، وَقَالَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَة التابوت، أَمرهم عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ، أَن يكتبوه بِلِسَان قُرَيْش: التابوت. قَوْله: (فَفَعَلُوا ذَلِك) أَي: مَا أَمرهم بِهِ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(16/78)
4 - (بابُ نِسْبَةِ اليَمَنِ إِلَى إسْمَاعِيلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نِسْبَة أهل الْيمن إِلَى إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَنسبَة ربيعَة وَمُضر إِلَى إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، مُتَّفق عَلَيْهَا، وَأما الْيمن فجماع نسبتهم تنتهى إِلَى قحطان، وَقد مر الْكَلَام فِي قحطان عَن قريب.
منْهُمْ أسْلَمُ بن أقْصَى بنُ حارِثَةَ بنِ عَمْرِو بنِ عامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ
أَي: من أهل الْيمن أسلم، بِفَتْح اللَّام: ابْن أفصى، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْفَاء بعْدهَا صَاد مُهْملَة مَقْصُورَة، قيل: وَقع فِي رِوَايَة الْجِرْجَانِيّ: أَفْعَى، بِعَين مُهْملَة بدل الصَّاد وَهُوَ تَصْحِيف ابْن حَارِثَة بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَامر بن حَارِثَة ابْن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب ابْن قحطان، وَقَالَ الرشاطي: يُقَال الأزد بالزاي، والأسد بِالسِّين. قَوْله: (من خُزَاعَة) فِي مَحل النصب على الْحَال من أسلم بن أفصى، وأفصى هُوَ خُزَاعَة، وَبِهَذَا احْتَرز عَن أسلم الَّذِي فِي مذْحج، وَفِي بجيلة. وَقَالَ الرشاطي: أسلم، بِفَتْح الَّلام ابْن أفصى، وَهُوَ خُزَاعَة بن حَارِثَة، وَسَاقه مثل مَا ذكرنَا الْآن، أما الَّذِي فِي مذْحج فَهُوَ أسلم بن أَوْس الله بن سعد الْعَشِيرَة ابْن مذْحج، وَأما الَّذِي فِي بجيلة فَهُوَ: أسلم بن عَمْرو بن لؤَي بن رهم بن مُعَاوِيَة بن أسلم بن أحمس بن الْغَوْث بن بجيلة.
7053 - حدَّثنا مُسددٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ يَزِيدَ بن أبِي عُبَيْدٍ حَدثنَا سلَمَةُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ خَرَجَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى قَوْمٍ مِنْ أسْلَمَ يتَنَاضَلُونَ بالسُّوقِ فقالَ ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فإنَّ أبَاكُمْ كانَ رَامِيَاً وَأَنا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ لأِحَدِ الفَرِيقَيْنِ فأمْسَكُوا بأيْدِيهِمْ فَقَالَ مَا لَهُمْ قالُوا وكَيْفَ نَرْمِي وأنْتَ مَعَ بَنِي فُلانٍ قَالَ ارْمُوا وأنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ. (انْظُر الحَدِيث 9882 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع يروي عَن مَوْلَاهُ سَلمَة. والْحَدِيث مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى {وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل} (مَرْيَم: 45) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن حَاتِم عَن يزِيد إِلَى آخِره. قَوْله: يتناضلون، أَي: يترامون.
5 - (بابٌ)
هَذَا كالفصل لما قبله، وَلَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ.
8053 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا عبْدُ الوَارِثِ عنِ الْحُسَيْنِ عنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ أنَّ أبَا الأسْوَدِ الدِّيلِيَّ حدَّثَهُ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أبِيهِ وهْوَ يَعْلَمُهُ إلاَّ كَفَرَ ومَنِ ادَّعاى قَوْمَاً لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. (الحَدِيث 8053 طرفه فِي: 5406) .
مطابقته للباب المترجم من حَيْثُ التضاد والمقابلة، لِأَن: بالضد تتبين الْأَشْيَاء، لِأَن فِي الحَدِيث ذكر النّسَب الْحَقِيقِيّ الصَّحِيح، وَفِي هَذَا ذكر النّسَب الْبَاطِل، وَفِيه زجر وتوبيخ لمدعيه، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَالْحُسَيْن هُوَ ابْن الواقد الْمعلم وَعبد الله بن بُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَيحيى بن يعمر، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم وَفتحهَا وَفِي آخِره رَاء، وَأَبُو الْأسود ظَالِم بن عَمْرو، وَيُقَال: عَمْرو بن ظَالِم، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: اسْمه عُوَيْمِر بن ظويلم، وَقيل غير ذَلِك، قَاضِي الْبَصْرَة وَهُوَ أول من تكلم فِي النَّحْو، والديلي بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وبفتح الْهمزَة، وبضم الدَّال وَإِسْكَان الْوَاو وبفتح الْهمزَة، أَربع لُغَات، وَأَبُو ذَر جُنْدُب بن جُنَادَة الْغِفَارِيّ.
وَفِي الْإِسْنَاد: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد.
والْحَدِيث(16/79)
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي معمر أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن زُهَيْر بن حَرْب.
قَوْله: (عَن الْحُسَيْن) وَفِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنَا حُسَيْن الْمعلم. قَوْله: (عَن أبي ذَر) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي أَبُو ذَر. قَوْله: (لَيْسَ من رجل) ، كلمة من: زَائِدَة، وَذكر الرجل بِاعْتِبَار الْغَالِب، وإلاَّ فالمرأة كَذَلِك. قَوْله: (ادّعى) أَي: انتسب لغير أَبِيه ويروي: (إِلَى غير أَبِيه) . قَوْله: (وَهُوَ يُعلمهُ) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنه يعلم أَنه غير أَبِيه، وَإِنَّمَا قيد بذلك لِأَن الْإِثْم يتبع الْعلم، وَفِي بعض النّسخ: (إلاَّ كفر بِاللَّه) ، وَلم تقع هَذِه اللَّفْظَة فِي رِوَايَة مُسلم وَلَا فِي غير رِوَايَة أبي ذَر، فَالْوَجْه على عدم هَذِه اللَّفْظَة أَن المُرَاد بالْكفْر: كفران النِّعْمَة، أَو لَا يُرَاد ظَاهر اللَّفْظ، وَإِنَّمَا المُرَاد الْمُبَالغَة فِي الزّجر والتوبيخ، أَو المُرَاد أَنه فعل فعلا يشبه فعل أهل الْكفْر، وَالْوَجْه على تَقْدِير وجود هَذِه اللَّفْظَة فَهُوَ أَن يحمل على أَنه إِن كَانَ مستحلاً مَعَ علمه بِالتَّحْرِيمِ. قَوْله: (وَمن ادّعى قوما) أَي: وَمن انتسب إِلَى قوم. قَوْله: (لَيْسَ لَهُ فيهم نسب) ، أَي: لَيْسَ لهَذَا الْمُدَّعِي فِي هَذَا الْقَوْم نسب، أَي: قرَابَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْكشميهني لَفْظَة: نسب، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَمن ادّعى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ منا) ، وَهَذِه أَعم من رِوَايَة البُخَارِيّ، وَلَكِن يحْتَاج فِيهَا إِلَى تَقْدِير، وَأولى مَا يقدر فِيهِ لفظ: نسب، لوُجُوده فِي بعض الرِّوَايَات. قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده) ، أَي: لينزل منزله (من النَّار) أَو فليتخذ منزلا بهَا، وَهُوَ إِمَّا دُعَاء وَإِمَّا خبر بِلَفْظ الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: هَذَا جَزَاؤُهُ، وَقد يجازى وَقد يُعْفَى عَنهُ. وَقد يَتُوب فَيسْقط عَنهُ هَذَا فِي الْآخِرَة، أما فِي الدُّنْيَا فَإِن جمَاعَة قَالُوا: إِذا كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا تقبل تَوْبَته. مِنْهُم أَحْمد بن حَنْبَل وَعبد الله بن الزبير الْحميدِي وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي وَأَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ.
وَفِي الحَدِيث تَحْرِيم الانتفاء من النّسَب الْمَعْرُوف والإدعاء إِلَى غَيره. وَفِيه: لَا بُد من الْعلم للبحث فِيمَا يرتكبه الرجل من النَّفْي أَو الْإِثْبَات. وَفِيه: جَوَاز إِطْلَاق لفظ الْكفْر على الْمعاصِي لأجل الزّجر والتغليظ.
9053 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَيَّاشٍ حدَّثنا حَرِيزٌ قَالَ حدَّثَنِي عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ عَبْدِ الله النَّصْرِيُّ قَالَ سَمِعْتُ واثِلَةَ بنَ الأسْقَعِ يقُولُ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مِنْ أعْظَمِ الفِرَي أنَّ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إلَى غَيْرِ أبِيهِ أوْ يُرَيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أوْ يَقُولُ علَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَمْ يَقُلْ.
وَجه الْمُطَابقَة فِيهِ مثل الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ على رَأس الحَدِيث الْمَاضِي، وَعلي بن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: الْأَلْهَانِي الْحِمصِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وحريز، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء: ابْن عُثْمَان الْحِمصِي من صغَار التَّابِعين، وَعبد الْوَاحِد بن عبد الله الدِّمَشْقِي النصري، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة: مَنْسُوب إِلَى نصر بن مُعَاوِيَة بن بكر ابْن هوَازن وَهُوَ أَيْضا من صغَار التَّابِعين. وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وجده كَعْب بن عُمَيْر، وَيُقَال: بشر بن كَعْب، وَعبد الْوَاحِد هَذَا ولي إمرة الطَّائِف لعمر بن عبد الْعَزِيز، ثمَّ ولي إمرة الْمَدِينَة ليزِيد بن عبد الْملك وَكَانَ مَحْمُود السِّيرَة وَمَات وعمره مائَة وبضع سِنِين.
وَمن لطائف هَذَا الْإِسْنَاد أَنه: من عوالي البُخَارِيّ، وَأَن فِيهِ رِوَايَة القرين عَن القرين من التَّابِعين، وَأَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (الفرا) بِكَسْر الْفَاء مَقْصُور وممدود، جمع: فِرْيَة وَهِي الْكَذِب والبهت، تَقول: فرى بِفَتْح الرَّاء فلَان كَذَا إِذا اختلق، يفري، بِفَتْح أَوله فرًى بِالْفَتْح، وافترى اختلق. قَوْله: (أَن يَدعِي الرجل) ، أَي: أَن ينتسب إِلَى غير أَبِيه. قَوْله: (أَو يري عينه) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الرَّاء من: الإراءة، وعينه مَنْصُوبَة بِهِ. قَوْله: (مَا لم ترَ) مفعول ثَان وَضمير الْمَنْصُوب فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا لم تره، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن يَدعِي أَن عَيْنَيْهِ رأتا فِي الْمَنَام شَيْئا وَمَا رأتاه، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من وَجه آخر عَن وَاثِلَة: أَن يفتري الرجل على عَيْنَيْهِ فَيَقُول: رَأَيْت، وَلم تُرِهِ فِي الْمَنَام شَيْئا. فَإِن قلت: إِن كذبه فِي الْمَنَام لَا يزِيد على كذبه فِي الْيَقَظَة، فَلم زَادَت عُقُوبَته؟ قلت: لِأَن الرُّؤْيَا جُزْء من النُّبُوَّة والنبوة لَا تكون إلاَّ وَحيا، والكاذب فِي الرُّؤْيَا يَدعِي أَن الله أرَاهُ مَا لم يره وَأَعْطَاهُ جُزْءا من النُّبُوَّة وَلم يُعْطه، والكاذب على الله أعظم فِرْيَة مِمَّن كذب على غَيره. قَوْله: (أَو يَقُول) ، من مضارع: قَالَ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي (أَو تَقول) ، على وزن: تفعل، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة وَمَعْنَاهُ: افترى. قَوْله: (مَا لم يقل) ، مفعول: يَقُول أَي: مَا لم يقل الرَّسُول.
وَفِي الحَدِيث: تَشْدِيد الْكَذِب فِي هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة.(16/80)
0153 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقُولُ قَدِمَ وفْدُ عبْدِ القَيْسِ علَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا يَا رسُولَ الله إنَّا مِنْ هَذَا الحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنا وبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ فَلَسْنَا نَخْلُصُ إلَيْكَ إلاَّ فِي كلِّ شَهْرٍ حَرَامٍ فلَوْ أمَرْتَنَا بأمْرٍ نأخُذُهُ عَنْكَ ونُبَلِّغُهُ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بأرْبَعٍ وأنْهَاكُمْ عنْ أرْبَعٍ الإيمَانِ بِاللَّه شَهَادَةِ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وإقَامِ الصَّلاَةِ وإيتَاءِ الزَّكَاةِ وأنْ تُؤَدُّوا إِلَى الله خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ وأنْهَاكُمْ عنِ الدُّبَاءِ والحَنْتَمِ والنَّقِيرِ والمُزَفَّتِ. .
لَيْسَ فِيهِ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة إلاَّ أَن يسْتَأْنس فِي ذَلِك بِذكر ربيعَة وَمُضر، فَإِن نسبتهما إِلَى إِسْمَاعِيل لَا كَلَام فِيهَا. والْحَدِيث مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، وَهُوَ بِالْجِيم وَالرَّاء: واسْمه نضر بن عمرَان الضبعِي.
1153 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ وهْوَ علَى المِنْبَرِ ألاَ إنَّ الفِتْنَةَ هاهُنَا يُشِيرُ إِلَى المَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ. .
لَيْسَ لذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا مُنَاسبَة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَقد تكَرر ذكره، وَكَذَلِكَ شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَكِلَاهُمَا حمصيان، والْحَدِيث مر عَن قريب فِي: بَاب صفة إِبْلِيس، عَلَيْهِ اللَّعْنَة.
6 - (بابُ ذِكْرِ أسْلَمَ وغَفَارَ ومُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ وأشْجَعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر أسلم ... إِلَى آخِره، وَهَذِه خمس قبائل كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فِي الْقُوَّة والمكانة دون غَيرهَا من الْقَبَائِل، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَانُوا أسْرع دُخُولا فِيهِ، فَصَارَ الشّرف إِلَيْهِم بِسَبَب ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام فيهم عَن قريب.
2153 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُرَيْشٌ والأنصَارُ وجُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأسْلَمُ وغِفَارُ وأشْجَعُ مَوَالِي لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ الله ورسُولِهِ. (انْظُر الحَدِيث 4053) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَسعد هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز هُوَ الْأَعْرَج. والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَنَاقِب قُرَيْش، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
3153 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ غَرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِيهِ عنْ صَالِحٍ حدَّثنا نافِعٌ أنَّ عَبْدَ الله أخْبَرَهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ علَى المِنْبَرِ غِفارُ غَفَرَ الله لَهَا وأسْلَمُ سالَمَها الله وعُصَيَّةُ عَصَتِ الله ورسُولَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن غرير، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبتكرار الرَّاء: ابْن الْوَلِيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمدنِي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن صَالح بن كيسَان عَن نَافِع مولى ابْن عمر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل: عَن زُهَيْر بن(16/81)
حَرْب.
قَوْله: (غفار) بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة: يصرف بِاعْتِبَار الْحَيّ وَلَا يصرف بِاعْتِبَار الْقَبِيلَة. قَوْله: (غفر الله لَهَا) إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ الدُّعَاء، وَإِمَّا على بَابه خبر. قَوْله: (وَأسلم سَالَمَهَا الله) من المسالمة وَترك الْحَرْب، أَو هُوَ دُعَاء بِأَن الله يصنع بهم مَا يوافقهم، أَو سَالَمَهَا بِمَعْنى: سلمهَا الله، نَحْو: قَاتله الله بِمَعْنى: قَتله الله، وَفِيهِمَا من جناس الِاشْتِقَاق مَا يلذ على السّمع لسهولته وَهُوَ من الاتفاقات اللطيفة، وَقَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَعَا لهاتين القبيلتين لِأَن دخولهما فِي الْإِسْلَام كَانَ من غير حَرْب وَكَانَت غفار تتهم بِسَرِقَة الْحَاج، فَأحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمحو عَنْهُم تِلْكَ المسبة، وَأَن يعلم أَن مَا سلف مِنْهُم مغْفُور لَهُم. قَوْله: (وَعصيَّة) بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهِي قَبيلَة، وَلكنه: ابْن خفاف، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وَفِي آخِره فَاء أُخْرَى ابْن امرىء الْقَيْس بن بهثة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وبالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن سليم بِضَم السِّين، وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَصَتْ الله وَرَسُوله) لأَنهم الَّذين قتلوا الْقُرَّاء ببئر مَعُونَة، بَعثهمْ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَرِيَّة فَقَتَلُوهُمْ وَكَانَ يقنت عَلَيْهِم فِي صلَاته ويلعن رعلاً وذكوان، وَيَقُول: (عصية عَصَتْ الله وَرَسُوله) .
4153 - حدَّثني مُحَمَّدٌ أخبرنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَن ايوب عَن مُحَمَّد عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أسْلَمُ سالمَها الله وغِفَارُ غفَرَ الله لَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد هُوَ ابْن السَّلَام، كَذَا ثَبت عِنْد أبي عَليّ بن السكن فِي غير هَذَا الحَدِيث. وَفِي (التَّلْوِيح) : قيل: هُوَ ابْن سَلام، وَقيل: ابْن يحيى الذهلي، قيل: قَوْله: ابْن يحيى، وهمٌ لِأَن الذهلي لم يدْرك عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ. قلت: هَذَا نفي يحْتَاج إِلَى بَيَان. وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره.
24 - (حَدثنَا قبيصَة حَدثنَا سُفْيَان وحَدثني مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَأَيْتُم إِن كَانَ جُهَيْنَة وَمُزَيْنَة وَأسلم وغفار خيرا من بني تَمِيم وَبني أَسد وَمن بني عبد الله بن غطفان وَمن بني عَامر بن صعصعة فَقَالَ رجل خابوا وخسروا فَقَالَ هم خير من بني تَمِيم وَمن بني أَسد وَمن بني عبد الله بن غطفان وَمن بني عَامر بن صعصعة) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين أَحدهمَا عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر بن سُوَيْد بن حَارِثَة الْكُوفِي كَانَ على قَضَاء الْكُوفَة بعد الشّعبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث بن كلدة وَالثَّانِي عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخِره والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب عَن بنْدَار عَن غنْدر وَفِي النذور عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن وهب بن جرير وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي بكرَة وَابْن الْمثنى وَآخَرين وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مَحْمُود بن غيلَان قَوْله " أَرَأَيْتُم " أَي أخبروني وَالْخطاب للأقرع بن حَابِس على مَا يَأْتِي عقيب هَذَا الحَدِيث قَوْله " من بني تَمِيم " هُوَ ابْن مر بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء ابْن أد بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الدَّال ابْن طابخة بن الياس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَفِيهِمْ بطُون كَثِيرَة جدا قَوْله " وَبني أَسد " هُوَ ابْن خُزَيْمَة بن مدركة بن الياس بن مُضر وَكَانُوا أعدادا كثيرا وَارْتَدوا بعد وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ طَلْحَة بن خويلد وارتد بَنو تَمِيم أَيْضا مَعَ سجَاح الَّتِي ادَّعَت النُّبُوَّة قَوْله " وَمن بني عبد الله بن غطفان " بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْفَاء وَهُوَ ابْن سعد بن قيس غيلَان بن مُضر وَكَانَ اسْم عبد الله بن غطفان فِي الْجَاهِلِيَّة عبد الْعُزَّى فصيره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عبد الله وَبَنوهُ يعْرفُونَ ببني المحولة قَوْله " وَمن(16/82)
بني عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْملَة وَالْفَاء ابْن قيس غيلَان وَقَالَ ابْن دُرَيْد هوَازن ضرب من الطير وَفِيه بطُون كَثِيرَة وأفخاذ قَوْله " فَقَالَ رجل " هُوَ الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي قَوْله " فَقَالَ هم خير " أَي فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هم خير أَي جُهَيْنَة وَمُزَيْنَة وَأسلم وغفار خير من بني تَمِيم إِلَى آخِره وخيريتهم بسبقهم إِلَى الْإِسْلَام وَبِمَا كَانَ فيهم من مَكَارِم الْأَخْلَاق ورقة الْقُلُوب -
6153 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي يَعْقُوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي بَكْرَةَ عنْ أبِيهِ أنَّ الأقْرَعَ بنَ حابِسِ قَالَ لِ لنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا بايَعَكَ سُرَّاقُ الحَجِيجِ مِنْ أسْلَمَ وغِفَارَ ومُزَيْنَةَ وأحْسِبُهُ وجُهَيْنَةَ: ابنُ أبِي يَعْقُوبَ شَكَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرَأيْتَ إنْ كانَ أسْلَمُ وغِفَارُ ومُزَيْنَةُ وأحْسِبُهُ وجُهَيْنَةُ خَيْرَاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وبَنِي عامِرٍ وأسَدٍ وغَطَفَانَ خابُوا وخَسِرُوا قَالَ نَعَمْ قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُمْ لَخَيْرٌ مِنْهُمْ. (انْظُر الحَدِيث 5153 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي يَعْقُوب، نسب إِلَى جده الضَّبِّيّ الْبَصْرِيّ من بني تَمِيم.
قَوْله: (إِنَّمَا بَايَعَك) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف، ويروى: تابعك، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة. قَوْله: (ابْن أبي يَعْقُوب شكّ) ، هُوَ مقول شُعْبَة، أَي: مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب الْمَذْكُور هُوَ الَّذِي شكّ فِي قَوْله: وجهينة، فَظهر من هَذَا أَن الرِّوَايَة الأولى بِلَا شكّ، وَأَن ذَلِك ثَابت فِي الْخَبَر. قَوْله: (أَرَأَيْت) ، أَي: أَخْبرنِي، وَالْخطاب للأقرع بن حَابِس. قَوْله: (إِن كَانَ أسلم) خبر: إِن، هُوَ قَوْله: خابوا وخسروا، وَلَكِن همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة، تَقْدِيره: أخابوا وخسروا؟ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مُسلم بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. قَوْله: (قَالَ: نعم) أَي: قَالَ الْأَقْرَع: نعم خابوا وخسروا. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم) أَي: إِن أسلم وغفار وَمُزَيْنَة وجهينة (لخير مِنْهُم) أَي: من بني تَمِيم وَبني عَامر وَأسد وغَطَفَان. قَوْله: (لخير مِنْهُم) ، وَفِي رِوَايَة: لأخير مِنْهُم، على وزن أفعل التَّفْضِيل وَهِي لُغَة قَليلَة، وَالْمَشْهُور: الْخَيْر، وَكَذَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم خير مِنْهُم، بِدُونِ لَام التَّأْكِيد، وَلَفظ: خير، على أَصله بِدُونِ نَقله إِلَى أفعل التَّفْضِيل، وَلم أرَ أحدا من شرَّاح البُخَارِيّ حرر هَذَا الْموضع كَمَا يَنْبَغِي، فَمنهمْ من ترك حل التَّرْكِيب أصلا وَطَاف من بعيد، وَمِنْهُم من كَاد أَن يخبط فَللَّه الْحَمد والْمنَّة على مَا اتَّضَح لنا مِنْهُ المُرَاد.
3253 - ح دَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ أسْلَمُ وغِفَارُ وشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ أوْ قَالَ شَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ أوْ مُزَيْنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ الله أوْ قالَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن أسَدٍ وتَمِيمٍ وهَوَازِنَ وغَطَفَانَ.
هَذَا طَرِيق مَوْقُوف على أبي هُرَيْرَة.
وَأخرجه مُسلم مَرْفُوعا فَقَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِي قَالَا: حَدثنَا إِسْمَاعِيل يعنيان: ابْن علية حَدثنَا أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لأسلم وغفار وَشَيْء من مزينة وجهينة أَو شَيْء من جُهَيْنَة أَو مزينة خير عِنْد الله قَالَ: أَحْسبهُ قَالَ: يَوْم الْقِيَامَة من أَسد وغَطَفَان وهوازن وَتَمِيم. انْتهى.
وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
قَوْله: (قَالَ: قَالَ أسلم) الظَّاهِر أَن فَاعل: قَالَ، الأول أَبُو هُرَيْرَة، وفاعل: قَالَ، الثَّانِي هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن لم يذكرهُ أَبُو هُرَيْرَة، فلأجل هَذَا جَاءَ فِي صُورَة الْمَوْقُوف، وَقَالَ الْخَطِيب وَابْن الصّلاح: اصْطِلَاح مُحَمَّد بن سِيرِين إِذا قَالَ عَن أبي هُرَيْرَة: قَالَ قَالَ، وَلم يسم فَاعل: قَالَ، الثَّانِي، فَالْمُرَاد بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَحِينَئِذٍ يكون الحَدِيث مَرْفُوعا، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم، فَإِنَّهُ صرح فِي رِوَايَته بفاعل: قَالَ، الثَّانِي كَمَا ذكر. قَوْله: (أسلم) مُبْتَدأ، وَمَا بعده(16/83)
عطف عَلَيْهِ. وَقَوله: (خير عِنْد الله) خَبره. قَوْله: (وَشَيْء من مزينة وجهينة) يَعْنِي: بَعْضًا مِنْهُم، وَهَذَا تَقْيِيد لما أطلق فِي حَدِيث أبي بكرَة الْمَاضِي قبله. قَوْله: (أَو قَالَ شَيْء من جُهَيْنَة أَو مزينة) شكّ من الرَّاوِي، يَعْنِي، قَالَ: شَيْء مِنْهُمَا، أَو قَالَ: شَيْء إِمَّا من هَذَا، وَإِمَّا من ذَلِك، يَعْنِي: شكّ فِي أَنه جمع بَينهمَا أَو اقْتصر على أَحدهمَا. قَوْله: (أَو قَالَ: يَوْم الْقِيَامَة) شكّ من الرَّاوِي: هَل قَالَ: خير عِنْد الله؟ أَو قَالَ: خير يَوْم الْقِيَامَة؟ وَهَذَا أَيْضا تَقْيِيد لما أطلق فِي حَدِيث أبي بكرَة، لِأَن ظُهُور الْخَيْرِيَّة إِنَّمَا يكون يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (من أَسد) يتَعَلَّق بقوله: خير، لِأَن اسْتِعْمَال لفظ: خير، بِكَلِمَة: من، فِي أَكثر الْمَوَاضِع كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، فَافْهَم.
41 - (بابٌ ابنُ أُخْتِ القَوْمِ ومَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن ابْن أُخْت الْقَوْم وَمولى الْقَوْم مِنْهُم، قَالَ بَعضهم: أَي: فِيمَا يرجع إِلَى المناصرة والتعاون وَنَحْو ذَلِك، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاث فَفِيهِ نزاع، انْتهى. قلت: ظَاهر الْكَلَام مُطلق يتَنَاوَل الْكل، وَهَذَا الْبَاب وَقع هَهُنَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا، وَكَذَا فِي نسختنا الْمُعْتَمد عَلَيْهَا، وَوَقع عِنْد أبي ذَر قبل: بَاب قصَّة الْحَبَش.
8253 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأنْصَارَ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ قالُوا لاَ إلاَّ ابنُ أُختٍ لَنَا فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ. .
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَلم يذكر حَدِيث: مولى الْقَوْم مِنْهُم، مَعَ ذكره فِي التَّرْجَمَة، فَقيل: لِأَنَّهُ لم يَقع لَهُ حَدِيث على شَرطه، ورد على هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ قد أورد فِي الْفَرَائِض من حَدِيث أنس وَلَفظه: مولى الْقَوْم من أنفسهم، وَالْمرَاد بِهِ الْمولى الْأَسْفَل لَا الْأَعْلَى، فَيكون عدم ذكره إِيَّاه هُنَا اكْتِفَاء بِمَا ذكره هُنَاكَ.
ورواة الحَدِيث الْمَذْكُور قد مضوا غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن بنْدَار عَن غنْدر وَعَن آدم عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن بنْدَار بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَنْصَار) ، ويروى: الْأَنْصَار خَاصَّة. قَوْله: (إلاَّ ابْن أُخْت لنا) وَهُوَ النُّعْمَان بن مقرن، كَمَا أخرجه أَحْمد من طَرِيق شُعْبَة عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة فِي حَدِيث أنس هَذَا. قَوْله: (ابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم) ، استدلت بِهِ الْحَنَفِيَّة فِي تَوْرِيث الْخَال وَذَوي الْأَرْحَام إِذا لم يكن عصبَة وَلَا صَاحب فرض مُسَمّى، وَبِه قَالَ أَحْمد أَيْضا، وَهُوَ حجَّة على مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي تحريمهما الْخَال وَذَوي الْأَرْحَام.
وللحنفية أَحَادِيث أخر: مِنْهَا: مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عتبَة بن غَزوَان: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْمًا لقريش: (هَل فِيكُم من لَيْسَ مِنْكُم؟ قَالُوا: لَا! إلاَّ ابْن أُخْتنَا عتبَة بن غَزوَان، فَقَالَ: ابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم) . وَمِنْهَا: مَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن عَوْف: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (دخل بَيته قَالَ: ادخُلُوا عَليّ وَلَا يدْخل عَليّ إلاَّ قرشي. فَقَالَ لَهُم: هَل مَعكُمْ أحد غَيْركُمْ؟ قَالُوا: مَعنا ابْن الْأُخْت وَالْمولى. قَالَ: حَلِيف الْقَوْم مِنْهُم، وَمولى الْقَوْم مِنْهُم) . وَأخرج أَحْمد نَحوه من حَدِيث أبي مُوسَى، وَالطَّبَرَانِيّ نَحوه من حَدِيث أبي سعيد. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة: (الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ) . أخرجه البُخَارِيّ، وَفِي الْبَاب أَيْضا حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
01 - (بابُ قصَّة زمْزَم وَفِيه بَاب قصَّة إسْلامُ أبي ذَرّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قصَّة زَمْزَم، وَفِي ذكر إِسْلَام أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا الْبَاب وَقع هُنَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا، وَوَقع عِنْد أبي ذَر قبل: بَاب قصَّة الْحَبَش.
2253 - حدَّثنا زَيْدٌ هُوَ ابنُ أخْزَمَ قَالَ أبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ حدَّثنِي مُثَنَّى بنُ سَعِيدٍ القَصِيرُ قَالَ حدَّثني أبُو جَمْرَةَ قَالَ قَالَ لَنا ابنُ عَبَّاسٍ ألاَ أخْبِرُكُمْ بإسْلاَمِ أبي ذَرٍّ قَالَ قُلْنَا بَلاى قَالَ قَالَ(16/84)
أبُو ذَرٍّ كُنْتُ رَجُلاً مِنْ غِفارَ فبَلَغَنَا أنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعَمُ أنَّهُ نَبِي فَقُلْتُ لأِخِي انْطَلِقْ إلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وائْتِنِي بِخَبَرِهِ فانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ فقُلْتُ مَا عِنْدَكَ فَقَالَ وَالله لَقَدْ رأيْتُ رَجُلاً يَأمُرُ بالخَيْرِ ويَنْهَى عنِ الشَّرِّ فَقُلْتُ لَهُ لَمْ تَشْفِنِي مِنَ الخَبَرِ فأخَذْتُ جِرَابَاً وعَصاً ثُمَّ أقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فجَعَلْتُ لاَ أعْرِفُهُ وأكْرَهُ أنْ أسْألَ عَنْهُ وأشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وأكُونُ فِي المَسْجِدِ قَالَ فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فقَالَ كأنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ قالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فانْطَلِقْ إلَى المَنْزِلِ قَالَ فانْطَلَقْتُ مَعَهُ لاَ يَسْألُنِي عنْ شَيْءٍ ولاَ أُخْبِرُهُ فلَمَّا أصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى المَسْجِدِ لأِسْألَ عَنْهُ ولَيْسَ أحَدٌ يُخْبِرُنِي عنهُ بِشَيْءٍ قَالَ فَمَرَّ بِي عَلِيُّ فقالَ أما نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ انْطَلِقْ مَعِي قَالَ فَقَالَ مَا أمْرُكَ وَمَا أقْدَمَكَ هَذِهِ البَلْدَةَ قَالَ قُلْتُ لَهُ إنْ كَتَمْتَ علَيَّ أخْبَرْتُكَ قَالَ فإنِّي أفْعَلُ قَالَ قُلْتُ لَهُ بلَغَنَا أنَّهُ قَدْ خَرَجَ هاهُنَا رَجُلٌ يَزْعَمُ أنَّه نَبِيٌّ فأرْسَلْتُ أخِي لِيُكَلِّمَهُ فرَجَعَ ولَمْ يَشْفنِي مِنَ الخَبَرِ فأرَدْتُ أنْ ألْقَاهُ فَقَالَ لَهُ أمَا إنَّكَ قَدْ رَشِدْتَ هَذَا وجْهِي إلَيْهِ فاتَّبِعْنِي ادْخُلُ حَيْثُ أدْخُلُ فإنِّي إنْ رَأيْتُ أحَدَاً أخافُهُ علَيْكَ قُمْتُ إلَى الحَائِطِ كأنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي وامْضِ أنْتَ فمَضَي ومَضَيْتُ مَعَهُ حتَّى دخَلَ ودَخَلْتُ معَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ لَهُ اعْرَضْ عَلَيَّ الإسْلاَمَ فعَرَضَهُ فأسْلَمْتُ مَكَانِي فَقَالَ لي يَا أبَا ذَرٍّ أكْتُمْ هاذَا الأمْرَ وارْجِعْ إِلَيّ بَلَدِكَ فإذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنًّا فأقْبِلْ فقُلْتُ والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ لأصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أظْهُرِهِمْ فجَاءَ إلَى المَسْجِدِ وقُرَيْشٌ فِيهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنِّي أشْهَدُ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ فقالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِىء فقامُوا فَضُرِبْتُ لأِمُوتَ فأدْرَكَنِي العَبَّاسُ فأكَبَّ علَيَّ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفارَ ومَتْجَرُكُمْ ومَمَرُّكُمْ علَى غِفَارٍ فأقْلَعُوا عَنِّي فلَمَّا أنْ أصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بالأمْسِ فَقَالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِىءِ فَصُنِعَ بِي مِثْلُ مَا صُنِعَ بالأمْسِ وأدْرَكَنِي العَبَّاسُ فأكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مقَالَتهِ بالأمْسِ قَالَ فَكانَ هَذَا أوَّلَ إسْلاَمِ أبِي ذَرُ رَحِمَهُ الله. (الحَدِيث 2253 طرفه فِي: 1683) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أما قصَّة زَمْزَم فَلِأَن فِيهِ ذكر زَمْزَم، وَاكْتفى أَبُو ذَر بِهِ فِي الْمدَّة الَّتِي أَقَامَ فِيهَا بِمَكَّة، وَأما قصَّة إِسْلَامه فظاهرة من هَذَا الْبَاب، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده: ذكر قصَّة إِسْلَام أبي بكر فَقَط، وَوَقع هَذَا الْبَاب أَيْضا عِنْد أبي ذَر بعد قصَّة خُزَاعَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: زيد بن أخزم، بِسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الزَّاي: أَبُو طَالب الطَّائِي الْحَافِظ الْبَصْرِيّ، قتلته الزنج زمَان خُرُوجهمْ فِي الْبَصْرَة سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. الثَّانِي: سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن قُتَيْبَة مصغر القتبة بِفَتْح الْقَاف وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو قُتَيْبَة الشعيري الْخُرَاسَانِي، سكن بصرة وَمَات بهَا فِي حُدُود الْمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: مثنى ضد الْمُفْرد ابْن سعيد الْقصير ضد الطَّوِيل القسام الضبعِي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو جَمْرَة، بِفَتْح الْجِيم: واسْمه نصر بن عمرَان الضبعِي الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن الْعَبَّاس(16/85)
عَن ابْن مهْدي. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عرْعرة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَلا أخْبركُم) كلمة: ألاَ، للتّنْبِيه على شَيْء يُقَال. قَوْله: (من غفار) ، قد ذكرنَا أَنه إِذا أُرِيد بِهِ الْحَيّ ينْصَرف، وَإِذا أُرِيد بِهِ الْقَبِيلَة لَا ينْصَرف. قَوْله: (فَبَلغنَا أَن رجلا قد خرج بِمَكَّة) وَفِي رِوَايَة مُسلم: لما بلغ أَبَا ذَر مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَكَّة. قَالَ لِأَخِيهِ ... الحَدِيث. قَوْله: (يزْعم أَنه نَبِي) ، حَال من: رجلا، لَا يُقَال: إِنَّه نكرَة. فَلَا يَقع الْحَال مِنْهُ، لأَنا نقُول: قد تخصص بِالصّفةِ، وَهُوَ قَوْله: قد خرج بِمَكَّة. قَوْله: (فَقلت لأخي: إنطلق إِلَى هَذَا الرجل) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ لِأَخِيهِ: إركب إِلَى هَذَا الْوَادي فَاعْلَم لي علم هَذَا الرجل الَّذِي يزْعم أَنه يَأْتِيهِ الْخَبَر من السَّمَاء، واسمع قَوْله ثمَّ ائْتِنِي. وَاسم أَخِيه: أنيس. قَوْله: (كلمة) ، فِيهِ حدف تَقْدِيره: فَإِذا رَأَيْته واجتمعتَ بِهِ كَلمه وآتني بِخَبَرِهِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: واسمع قَوْله ثمَّ ائْتِنِي. قَوْله: (فَانْطَلق) ويروى: فَانْطَلق الْأَخ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَانْطَلق الآخر، وَهُوَ أَخُوهُ أنيس. قَالَ عِيَاض: وَوَقع عِنْد بَعضهم فَانْطَلق الْأَخ الآخر، وَالصَّوَاب الِاقْتِصَار على أَحدهمَا فَإِنَّهُ لَا يعرف لأبي ذَر إلاَّ أَخ وَاحِد وَهُوَ أنيس. قَوْله: (فَلَقِيَهُ) ، أَي: فلقي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رَجَعَ إِلَى أَخِيه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَانْطَلق الآخر حَتَّى قدم مَكَّة، وَسمع من قَوْله ثمَّ رَجَعَ إِلَى أبي ذَر. قَوْله: (رَأَيْت رجلا يَأْمر بِالْخَيرِ وَينْهى عَن الشَّرّ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: رَأَيْته يَأْمر بمكارم الْأَخْلَاق وكلاماً مَا هُوَ بالشعر. قَوْله: (فَقلت لَهُ) أَي: لأخي: (لم تشفني من الْخَبَر) من الشِّفَاء أَي: لم تجئني بِجَوَاب يشفيني من مرض الْجَهْل. قَوْله: (فَأخذت جراباً) بِالْجِيم (وعصا) وَفِي رِوَايَة مُسلم: مَا شفيتني فِيمَا أردْت، فتزود وَحمل شنة لَهُ فِيهَا مَاء حَتَّى قدم مَكَّة. قَوْله: (ثمَّ أَقبلت إِلَى مَكَّة فَجعلت لَا أعرفهُ) ، يَعْنِي: لَا تَدْرِي بِهِ قُرَيْش فيؤذوه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَأتى الْمَسْجِد فالتمس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يعرفهُ وَكره أَن يسْأَل عَنهُ حَتَّى أدْركهُ، يَعْنِي اللَّيْل فاضطجع. قَوْله: (فَمر بِي عَليّ) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ: عَليّ بن أبي طَالب (فَقَالَ: كَأَن الرجل غَرِيب) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَرَآهُ عَليّ فَعرف أَنه غَرِيب. قَوْله: (قَالَ: فَانْطَلق إِلَى الْمنزل) ، أَي: قَالَ عَليّ لَهُ: انْطلق معي إِلَى منزلنا، قَالَ أَبُو ذَر: (فَانْطَلَقت مَعَه لَا يسألني عَن شَيْء وَلَا أخبرهُ) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَلَمَّا رَآهُ تبعه فَلم يسْأَل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه عَن شَيْء حَتَّى أصبح. قَوْله: (فَلَمَّا أَصبَحت غَدَوْت إِلَى الْمَسْجِد لأسأل عَنهُ) ، أَي: عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَيْسَ أحد يُخْبِرنِي عَنهُ بِشَيْء) وَفِي رِوَايَة مُسلم بعد قَوْله: حَتَّى أصبح، ثمَّ احْتمل قربته وزاده إِلَى الْمَسْجِد فظل ذَلِك الْيَوْم وَلَا يرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَمْسَى، فَعَاد إِلَى مضجعه، قَوْله: (قَالَ فَمر بِي عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أما نَالَ للرجل يعرف منزله؟) يُقَال: نَالَ لَهُ إِذا آن لَهُ، ويروى: مَا أَنى، وَفِي رِوَايَة مُسلم: مَا آن أَن يعلم منزله، ويروى بِدُونِ همزَة الِاسْتِفْهَام فِي اللَّفْظَة، أَي: مَا جَاءَ الْوَقْت الَّذِي يعرف بِهِ منزل الرجل بِأَن يكون لَهُ مسكن معِين يسكنهُ؟ ويروى: يعرف، بِلَفْظ الْمَبْنِيّ للْفَاعِل، وَيحْتَمل أَن يُرِيد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَذَا القَوْل دَعوته إِلَى بَيته للضيافة، وَيكون إِضَافَة الْمنزل إِلَيْهِ بملابسة إِضَافَته لَهُ فِيهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(ذَرِينِي، قلت بِاللَّه حلفة لتغني عني ذَا أَنا بك أجمعا)
أَو يُرِيد إرشاده إِلَى مَا قدم لَهُ وقصده، يَعْنِي: أما جَاءَ وَقت إِظْهَار الْمَقْصُود والاشتغال بِهِ، كالاجتماع برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلا وكالدخول فِي منزله وَنَحْوه؟ وَإِنَّمَا قَالَ: لَا، فِي قَوْله: قلت: لَا، على التَّقْدِير الأول، إِذْ لم يكن قَصده التوطن ثمَّة، وعَلى الثَّانِي إِذْ كَانَ عِنْده أَمر أهم من ذَلِك، وَهُوَ التفتيش عَن مَقْصُوده، وعَلى الثَّالِث: إِذْ خَافَ من الْإِظْهَار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَاذَا فَاعل نَالَ؟ قلت: يعرف فِي تَقْدِير الْمصدر نَحْو: تسمع بالمعيدي خير من أَن تراهُ قلت: التَّقْدِير: أَن تسمع بالمعيدي، أَي: سماعك بالمعيدي خير من رُؤْيَته، وَهنا التَّقْدِير: مَا نَالَ للرجل أَن يعرف منزله؟ قَوْله: مَا أَمرك وَمَا أقدمك هَذِه الْبَلدة؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم: ألاَ تُحَدِّثنِي مَا الَّذِي أقدمك هَذَا الْبَلَد؟ قَوْله: (إِن كتمت عَليّ أَخْبَرتك) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِن أَعْطَيْتنِي عهدا وميثاقاً لترشدني فعلت. قَوْله: (قَالَ: فَإِنِّي أفعل) ، أَي: قَالَ عَليّ: فَإِنِّي أفعل مَا ذكرته، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَفعل. قَوْله: (قد رشدت) ، من: رشد يرشد من بَاب علم يعلم رَشَدَاً بِفتْحَتَيْنِ، ورشد يرشد من بَاب نصر ينصر رُشْدَاً بِضَم الرَّاء وَسُكُون الشين، وأرشدته أَنا، والرشد خلاف الغي. قَوْله: (هَذَا وَجْهي إِلَيْهِ) ، أَي: هَذَا تَوَجُّهِي إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتبعني، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَقَالَ: إِنَّه حق، وَهُوَ(16/86)
رَسُول الله فَإِذا أَصبَحت فاتبعني. قَوْله: (أُدخل حَيْثُ أَدخل) ، أَمر، وأَدخل مضارع. قَوْله: (قُمْت إِلَى الْحَائِط كَأَنِّي أصلح نَعْلي وامضِ أنْتَ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم، فَإِنِّي إِن رَأَيْت شَيْئا أَخَاف عَلَيْك قُمْت كَأَنِّي أريق المَاء. فَإِن مضيت فاتبعني حَتَّى تدخل مدخلي. قَوْله: (فَمضى) ، أَي: عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (فمضيت مَعَه حَتَّى دخل) أَي: عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بَين ظُهُورهمْ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: بَين ظهرانيهم. قَوْله: (وقريش) فِيهِ حَال أَي: فِي الْمَسْجِد. قَوْله: (إِلَى هَذَا الصابىء) من صَبأ يصبؤ إِذا انْتقل من شَيْء إِلَى شَيْء وَكَانُوا يسمون من أسلم صابئاً. قَوْله: (فَضربت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله: (لأموت) أَي: لِأَن أَمُوت، يَعْنِي: ضربوه ضرب الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فضربوه حَتَّى اضجعوه. قَوْله: (فأكب عَليّ) أَي: رمى نَفسه عَليّ، قَوْله: (فأقلعوا) أَي: كفوا عني.
وَفِي الحَدِيث: دلَالَة على تقدم إِسْلَام أبي ذَر، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه بعد الْبَعْث بِمدَّة طَوِيلَة لما فِيهِ من الْحِكَايَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من مخاطبته لأبي ذَر وتضيفه إِيَّاه، وَالأَصَح أَن سنه حِين الْبَعْث كَانَ عشر سِنِين، وَقيل: أقل من ذَلِك، فَظهر من ذَلِك أَن إِسْلَام أبي ذَر بعد الْبَعْث بِمدَّة بِأَكْثَرَ من سنتَيْن بِحَيْثُ يتهيأ لعَلي مَا فعله، وروى عبد الله بن الصَّامِت إِسْلَام أبي ذَر عَن نفس أبي ذَر، أخرجه مُسلم مطولا جدا، وَفِيه مُغَايرَة كَثِيرَة لسياق ابْن عَبَّاس، وَلَكِن الْجمع بَينهمَا مُمكن بِاعْتِبَار ان ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اقْتصر فِي حكايته عَن ذَلِك، وَالله أعلم.
7 - (بابُ ذِكْرِ قَحْطانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر قحطان مُجَردا عَن الْكَلَام فِيهِ: هَل هُوَ من ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أم لَا؟ وَعَن ذكر نسبه، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى عَن قريب.
7153 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنِي سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ عنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدٍ عنْ أبي الغَيْثِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ. (الحَدِيث 7153 طرفه فِي: 7117) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ذكر اسْم قحطان، وثور بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَعْرُوف ابْن زيد الديلِي الْمدنِي، مر فِي الْجُمُعَة، وَأَبُو الْغَيْث. وَهُوَ الْمَطَر اسْمه سَالم مولى عبد الله بن مُطِيع الْأسود الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن عبد الْعَزِيز أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (رجل) لم يدر اسْمه عِنْد الْأَكْثَرين، لَكِن الْقُرْطُبِيّ جزم أَنه: جَهْجَاه، الَّذِي وَقع ذكره فِي (صَحِيح مُسلم) من طَرِيق آخر عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا تذْهب الْأَيَّام والليالي حَتَّى يملك رجل يُقَال لَهُ: الجهجاه، وَأخرجه عقيب حَدِيث القحطاني. قَوْله: (يَسُوق النَّاس بعصاه) كِنَايَة عَن تسخير النَّاس واسترعائهم كسوق الرَّاعِي الْغنم بعصاه، وَفِي (التَّوْضِيح) : حَدِيث القحطان يدل على أَنه خَليفَة وَلكنه يحمل على تغلبه، وروى نعيم بن حَمَّاد فِي (الْفِتَن) : عَن أَرْطَأَة بن الْمُنْذر، أحد التَّابِعين من أهل الشَّام: أَن القحطاني يخرج بعد الْمهْدي ويسير على سيرة الْمهْدي، وَأخرج أَيْضا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن قيس بن جَابر الصَّدَفِي عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: يكون بعد الْمهْدي القحطاني، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا هُوَ دونه. قيل: هَذَا الثَّانِي، مَعَ كَونه مَرْفُوعا، ضَعِيف الْإِسْنَاد، وَالْأول مَعَ كَونه مَوْقُوفا أصلح إِسْنَادًا مِنْهُ فَإِن ثَبت ذَلِك فَهُوَ فِي زمن عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، إِذا نزل يجد الْمهْدي إِمَام الْمُسلمين. انْتهى. قلت: إِذا كَانَ القحطاني فِي زمن عِيسَى، كَيفَ يَسُوق النَّاس بعصاه وَكَيف يملك مَعَ وجود عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ على أَن فِي رِوَايَة أَرْطَأَة ابْن الْمُنْذر: أَن القحطاني يعِيش فِي الْملك عشْرين سنة.
8 - (بابُ مَا يُنْهَى عنْ دَعْوَى الجاهِلِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ مَا ينْهَى من دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، وَينْهى على صِيغَة الْمَجْهُول، وَدَعوى الْجَاهِلِيَّة هِيَ الاستغاثة عِنْد إِرَادَة الْحَرْب، كَانُوا يَقُولُونَ: يَا آل فلَان، يَا آل فلَان، فيجتمعون وينصرون الْقَاتِل وَلَو كَانَ ظَالِما، فجَاء الْإِسْلَام بِالنَّهْي عَن ذَلِك.(16/87)
8153 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبَرَنَا مَخْلَدُ بنُ يَزِيدَ أخبرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَاً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ ثابَ معَهُ ناسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حتَّى كَثُرُوا وكانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلً لعَّابٌ فَكَسَعَ أنْصَارِيَّاً فغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غضَبَاً شَدِيدَاً حتَّى تدَاعَوْا وقالَ الأنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فَما بالُ دَعْوَى أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ مَا شَأنُهُمْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيِّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهَا فإنَّهَا خَبِيثَةٌ وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ بنُ سَلُولَ أقَدْ تدَاعَوْا علَيْنَا {لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} (المُنَافِقُونَ: 8) . فَقَالَ عُمَرُ ألاَ نَقْتُلُ يَا رسُولَ الله هَذَا الخَبِيثَ لِعَبْدِ الله فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّهُ كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، كَذَا وَقع مُحَمَّد غير مَنْسُوب عِنْد جَمِيع الروَاة، وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام نَص عَلَيْهِ فِي (الْمُسْتَخْرج) وَكَذَا قَالَه أَبُو عَليّ الجياني، وَجزم بِهِ الدمياطي أَيْضا. الثَّانِي: مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي الْجَزرِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار الْقرشِي الْأَثْرَم الْمَكِّيّ. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُما. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (غزونا) ، هَذِه الْغَزْوَة هِيَ عزوة الْمُريْسِيع وَفِي مُسلم: قَالَ سُفْيَان: يروون أَن هَذِه الْغَزْوَة غَزْوَة بني المصطلق، وَهِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، وَكَانَت فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة. قَوْله: (ثاب) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي اجْتمع مَعَه نَاس، وَقَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ خرج، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل اللُّغَة أَن معنى: ثاب رَجَعَ. قَوْله: (لعاب) ، قيل: مَعْنَاهُ مطال، وَقيل: كَانَ يلْعَب بالحراب كَمَا تصنع الْحَبَشَة، وَقيل: مزاح، واسْمه: جَهْجَاه بن قيس الْغِفَارِيّ، وَكَانَ أجِير عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَكَسَعَ) ، بِفَتْح الْكَاف وَالسِّين الْمُهْملَة وَالْعين الْمُهْملَة: من الكسع، وَهُوَ أَن تضرب بِيَدِك أَو برجلك دبر إِنْسَان، وَيُقَال: هُوَ أَن تضرب عجز إِنْسَان بقدمك، وَقيل: هُوَ ضربك بِالسَّيْفِ على مؤخره. وَفِي (الموعب) : كسعته بِمَا سَاءَهُ: إِذا تكلم فرميته على إِثْر قَوْله بِكَلِمَة تسوؤه بهَا. قَوْله: (أَنْصَارِيًّا) ، أَي: رجلا أَنْصَارِيًّا وَهُوَ: سِنَان بن وبرة، حَلِيف بني سَالم الخزرجي. قَوْله: (حَتَّى تداعوا) ، أَي: حَتَّى اسْتَغَاثُوا بالقبائل يستنصرون بهم فِي ذَلِك، وَالدَّعْوَى الانتماء، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ينتمون بالاستغاثة إِلَى الْآبَاء، وتداعوا، بِصِيغَة الْجمع وَعَن أبي ذَر: تداعوا: بالتثنية. قَالَ بَعضهم: وَالْمَشْهُور فِي هَذَا: تداعياً بِالْيَاءِ عوض الْوَاو. قلت: الَّذِي قَالَ بِالْوَاو أخرجه على الأَصْل. قَوْله: (يَا للْأَنْصَار) ، ويروى: يَا آل الْأَنْصَار. قَالَ النَّوَوِيّ: كَذَا فِي مُعظم نسخ البُخَارِيّ بلام مفصولة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا يوصلها، وَفِي بَعْضهَا: يَا آل، بِهَمْزَة ثمَّ لَام مفصولة وَاللَّام فِي الْجَمِيع مَفْتُوحَة وَهِي لَام الاستغاثة، قَالَ: وَالصَّحِيح بلام مَوْصُولَة، وَمَعْنَاهُ: ادعو الْمُهَاجِرين واستغيث بهم. قَوْله: (مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة؟) يَعْنِي: لَا تداعوا بالقبائل بل تداعوا بدعوة وَاحِدَة بِالْإِسْلَامِ، ثمَّ قَالَ: مَا شَأْنهمْ؟ أَي: مَا جرى لَهُم وَمَا الْمُوجب فِي ذَلِك؟ قَوْله: (دَعُوهَا) ، أَي: دعوا هَذِه الْمقَالة، أَي: اتركوها أَو: دعوا هَذِه الدَّعْوَى، ثمَّ بيَّن حِكْمَة التّرْك بقوله: (فَإِنَّهَا خبيثة) أَي: فَإِن هَذِه الدعْوَة خبيثة أَي قبيحة مُنكرَة كريهة مؤذية لِأَنَّهَا تثير الْغَضَب على غير الْحق، والتقاتل على الْبَاطِل، وَتُؤَدِّي إِلَى النَّار. كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: (من دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَلَيْسَ منا وليتبوأ مَقْعَده من النَّار) ، وتسميتها: دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، لِأَنَّهَا كَانَت من شعارهم وَكَانَت تَأْخُذ حَقّهَا بالعصبية فجَاء الْإِسْلَام بِإِبْطَال ذَلِك وَفصل الْقَضَاء بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة إِذا تعدى إِنْسَان على آخر حكم الْحَاكِم بَينهمَا وألزم كلاَّ مَا لزمَه. وَقَالَ السُّهيْلي: من دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة يتَوَجَّه للفقهاء فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: يجلد من اسْتَجَابَ لَهَا بِالسِّلَاحِ خمسين سَوْطًا، اقْتِدَاء بِأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ، فِي جلده النَّابِغَة الْجَعْدِي خمسين سَوْطًا حِين سمع: يَا لعامر. .(16/88)
الثَّانِي: فِيهِ الْجلد دون الْعشْرَة أسواط لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجلد أحد فَوق عشرَة أسواط. الثَّالِث: يُوكل إِلَى إجتهاد الإِمَام على حسب مَا يرَاهُ من سد الذريعة وإغلاق بَاب الشَّرّ، إِمَّا بالوعيد، وَإِمَّا بالسجن، وَإِمَّا بِالْجلدِ قيل: فِي القَوْل الأول الَّذِي ذكره السُّهيْلي فِيهِ نظر، لِأَن أَبَا الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ وهيره ذكرُوا أَن النَّابِغَة لما سمع: يَا لعامر، أَخذ عَصَاهُ وَجَاء مغيثاً، والعصا لَا تعد سِلَاحا يقتل. قَوْله: وَقَالَ عبد الله بن أبي سلول ... إِلَى آخِره، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ عمر بن الْخطاب أَجِيرا لَهُ من غفار يُقَال لَهُ جِعَال كَانَ مَعَه فرس يَقُودهُ فحوض لعمر حوضاً فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم على الْحَوْض إِذْ أقبل رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ وبرة بن سِنَان الْجُهَنِيّ، وَسَماهُ أَبُو عمر: سِنَان بن تَمِيم، وَكَانَ حليفاً لعبد الله بن أبي، فقاتله، فتداعيا بقبائلهما، فَقَالَ عبد الله بن أبي: أقد تداعوا علينا؟ {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الأعزُ مِنها الأذلَ} (الْمُنَافِقين: 8) . وَأما قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْمُنَافِقين: {يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} (الْمُنَافِقين: 8) . فقد قَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : يَقُولُونَ، أَي: المُنَافِقُونَ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه: وَالله لَئِن رَجعْنَا من غزَاة بني لحيان ثمَّ بني المصطلق، وَهُوَ حَيّ من هُذَيْل، إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز عَنى بِهِ نَفسه مِنْهَا: من الْمَدِينَة، الْأَذَل: يَعْنِي مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد كذب عَدو الله. قَوْله: (فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَلاَ نقْتل؟) بالنُّون، ويروى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. قَوْله: (هَذَا الْخَبيث) أَرَادَ بِهِ عبد الله ابْن أبي، وَقد بَينه بقوله لعبد الله، وَاللَّام فِيهِ يتَعَلَّق بقوله: قَالَ عمر، أَي: قَالَ لأجل عبد الله، وَقَالَ الْكرْمَانِي أَو اللاَّم للْبَيَان، نَحْو: هيت لَك، وَفِي بَعْضهَا يَعْنِي: عبد الله، وَقَالَ بَعضهم: اللَّام بِمَعْنى: عَن قلت: قَالَ هَذَا بَعضهم فِي قَوْله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} (الْأَحْقَاف: 11) . ورده ابْن مَالك وَغَيره، وَقَالُوا: اللَّام، هَهُنَا للتَّعْلِيل، وَقيل غير ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا) أَي: لَا نقْتل. قَوْله: (يتحدث النَّاس) إِلَى آخِره، كَلَام مُسْتَقل وَلَيْسَ لَهُ تعلق: بِكَلِمَة: لَا، فَافْهَم. قَوْله: (أَنه) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ يقتل أَصْحَابه) ويتنفر النَّاس عَن الدُّخُول فِي الْإِسْلَام، وَيَقُول بَعضهم لبَعض: مَا يؤمنكم إِذا دَخَلْتُم فِي دينه أَن يَدعِي عَلَيْكُم كفر الْبَاطِن فيستبيح بذلك دماءكم وَأَمْوَالكُمْ؟ فَلَا تسلموا أَنفسكُم إِلَيْهِ للهلاك، فَيكون ذَلِك سَبِيلا لنفور النَّاس عَن الدّين.
9153 - حدَّثنا ثابِتُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ عَبْدِ الله بنُ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وثابت بن مُحَمَّد أَبُو إِسْمَاعِيل العابد الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من ضرب الخدود، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
عنْ سُفْيَانَ عنْ زُبَيْدٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش، فِي الحَدِيث السَّابِق، فَيكون مَوْصُولا وَلَيْسَ بمعلق وزبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، مَسْرُوق هُوَ ابْن الأجدع، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من شقّ الْجُيُوب، حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا سُفْيَان قَالَ: زبيد اليامي عَن إِبْرَاهِيم عَن مَسْرُوق عَن عبد الله ... إِلَى آخِره.
9153 - حدَّثنا ثابِتُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ عَبْدِ الله بنُ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وثابت بن مُحَمَّد أَبُو إِسْمَاعِيل العابد الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من ضرب الخدود، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
عنْ سُفْيَانَ عنْ زُبَيْدٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش، فِي الحَدِيث السَّابِق، فَيكون مَوْصُولا وَلَيْسَ بمعلق وزبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، مَسْرُوق هُوَ ابْن الأجدع، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من شقّ الْجُيُوب، حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا سُفْيَان قَالَ: زبيد اليامي عَن إِبْرَاهِيم عَن مَسْرُوق عَن عبد الله ... إِلَى آخِره.
9 - (بابُ قِصَّةِ خزَاعَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصَّة خُزَاعَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالزاي المخففة وَفتح الْعين الْمُهْملَة. قَالَ الرشاطي: خُزَاعَة هُوَ عَمْرو بن ربيعَة، وَرَبِيعَة هَذَا هُوَ لحي بن حَارِثَة بن عَمْرو مزيقيا بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن ابْن الأزد، هَذَا مَذْهَب من يرى أَن خُزَاعَة من الْيمن، وَمن يرى أَن خُزَاعَة من مُضر يَقُول: هُوَ عَمْرو بن ربيعَة بن قمعة، ويحتج بِحَدِيث(16/89)
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأكثم ابْن أبي الجون الْخُزَاعِيّ: (رَأَيْت عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه فِي النَّار) وَجمع بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ، أَعنِي نِسْبَة خُزَاعَة إِلَى الْيمن وَإِلَى مُضر، فَزعم أَن حَارِثَة بن عَمْرو لما مَاتَ قمعة بن خندف كَانَت امْرَأَته حَامِلا بِلحي فولدته وَهِي عِنْد حَارِثَة فَتَبَنَّاهُ فنسب إِلَيْهِ، فعلى هَذَا هُوَ من مُضر بِالْولادَةِ، وَمن الْيمن بالتبني، وَقَالَ صَاحب (الموعب) : خُزَاعَة اسْمه عَمْرو بن لحي، ولحي اسْمه: ربيعَة، سمي خُزَاعَة لِأَنَّهُ انخزع فَلم يتبع عَمْرو بن عَامر حِين ظعن عَن الْيمن بولده، وَسمي عَمْرو: مزيقيا، لِأَنَّهُ مزق الأزد فِي الْبِلَاد، وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ يمزق كل يَوْم حلَّة. وَفِي (التيجان) لِابْنِ هِشَام: انخزعت خُزَاعَة فِي أَيَّام ثَعْلَبَة العنقاء بن عَمْرو بعد وَفَاة عمر، وَفِي (التَّلْوِيح) : قيل لَهُم ذَلِك لأَنهم تخزعوا من بني مَازِن بن الأزد فِي إقبالهم مَعَهم أَيَّام سيل العرم لما صَارُوا إِلَى الْحجاز، فافترقوا، فَصَارَ قوم إِلَى عمان وَآخَرُونَ إِلَى الشَّام، قَالَ حسان بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
(فَلَمَّا قَطعنَا بطن مر تخزعت ... خُزَاعَة منا فِي جموع كراكر)
وانخزعت أَيْضا بَنو أفصى بن حَارِثَة بن عَمْرو، وأفصى هُوَ عَم عَمْرو بن لحي، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سموا خُزَاعَة لِأَن بني مَازِن ابْن الأزد لما تَفَرَّقت الأزد بِالْيمن نزل بَنو مَازِن على مَاء عِنْد زبيد يُقَال لَهُ غَسَّان، فَمن شرب مِنْهُ فَهُوَ غساني. وَأَقْبل بَنو عَمْرو بن لحي فانخزعوا من قَومهمْ فنزلوا مَكَّة، ثمَّ أقبل بَنو أسلم وَملك وملكان بَنو أفصى بن حَارِثَة فانخزعوا أَيْضا، فسموا خُزَاعَة، وتفرق سَائِر الأزد، وَأول من سماهم هَذَا الِاسْم: جدع بن سِنَان الَّذِي يُقَال فِيهِ: خُذ من جدع مَا أَعْطَاك، وَذَلِكَ أَنه لما رَآهُمْ قد تفَرقُوا قَالَ: أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم كلما أَعجبتكُم بَلْدَة أَقَامَت مِنْكُم طَائِفَة كَيْفَمَا انخزعت خزاعتكم هَذِه أوشكتم أَن يأكلكم أقل حَيّ وأذل قبيل.
0253 - حدَّثني إسحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ آدَم أخبرَنا إسْرائِيلُ عنْ أبِي حَصِين عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَمْرُو بنُ لُحَيِّ بنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدَفَ أبُو خُزَاعَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ مَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه، وَيحيى بن آدم بن سُلَيْمَان أَبُو زَكَرِيَّا الْقرشِي الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، واسْمه: عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (عَمْرو بن لحي) ، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (أَبُو خُزَاعَة) . ولحي، بِضَم اللَّام وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (ابْن قمعة) ، بِفَتْح الْقَاف وَالْمِيم وتخفيفها وبإهمال الْعين، وَقيل: بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد الْمِيم بِفَتْحِهَا وَكسرهَا، وَقيل: بِفَتْحِهَا مَعَ سُكُون الْمِيم. قَوْله: (ابْن خندف) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَفتحهَا وبالفاء، وَهِي أم الْقَبِيلَة فَلَا تَنْصَرِف، وقمعة، مَنْسُوب إِلَى الْأُم، وإلاَّ فأبوه اسْمه: الياس بن مُضر. قَالَ قَائِلهمْ:
(أمهتي خندف وإلياس أبي)
وَاسم خندف: ليلى بنت حلوان بن عمرَان بن ألحاف من قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها بالخندفة وَهِي الهرولة، واشتهر بنوها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا دون أَبِيهِم. قَوْله: (أَبُو خُزَاعَة) أَي: هُوَ حَيّ من الأزد.
1253 - حدَّثنا أَبُو اليمانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَعيدَ بنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ البَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّواغِيتِ ولاَ يَحْلُبُهَا أحَدٌ مِنَ النَّاسِ: والسَّائِبَةُ الَّتِي كانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآِلِهَتِهِمْ فَلاَ يُحْمَلُ علَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأيْتُ عمْرَو بنَ عامِرِ بنِ لُحَيٍّ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وكانَ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. (الحَدِيث 1253 طرفه فِي: 3264) .
أول هَذَا الحَدِيث مَوْقُوف على سعيد بن الْمسيب رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي عَن شُعَيْب بن(16/90)
أبي حَمْزَة الْحِمصِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، وَآخره عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا نذْكر مفصلا.
أما الْبحيرَة فَهِيَ الَّتِي يمْنَع درها أَي: لَبنهَا للطواغيت، أَي: لأَجلهَا، وَهِي جمع: طاغوت، وَهُوَ الشَّيْطَان وكل رَأس فِي الضلال، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا أنتجت النَّاقة خَمْسَة أبطن آخرهَا ذكر بحروا أذنها، أَي: شَقوا وحرموا ركُوبهَا ودرها فَلَا تطرد عَن مَاء وَلَا عَن مرعًى لتعظيم الطواغيت، وَتسَمى تِلْكَ النَّاقة الْبحيرَة. وَأما السائبة فَهِيَ: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَقُول: إِذا قدمت من سَفَرِي أَو بَرِئت من مرضِي فناقتي سائبة، وَجعلهَا كالبحيرة فِي تَحْرِيم الِانْتِفَاع بهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَقد خصصه البُخَارِيّ بقوله: والسائبة الَّتِي كَانُوا يسيبونها لآلهتهم، أَي: لأصنامهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها، وَبعد ذَلِك لَا يحمل عَلَيْهَا شَيْء. وَفِي (التَّلْوِيح) : والسائبة هِيَ الْأُنْثَى من أَوْلَاد الْأَنْعَام كلهَا، كَانَ الرجل يسيِّب لآلهته مَا شَاءَ من إبِله وبقره وغنمه وَلَا يسيب إلاَّ أُنْثَى، فظهورها وَأَوْلَادهَا وأصوافها وأوبارها للآلهة، وَأَلْبَانهَا ومنافعها للرِّجَال دون النِّسَاء، قَالَه مقَاتل. وَقيل: هِيَ النَّاقة إِذا تابعت بَين عشر إِنَاثًا لم يركب ظهرهَا وَلم يجز وبرها وَلم يشرب لَبنهَا إلاَّ ضيف، فَمَا نتجت بعد ذَلِك من أُنْثَى شقّ أذنها ثمَّ خلي سَبِيلهَا مَعَ أمهَا فِي الْإِبِل فَلم يركب ظهرهَا وَلم يجز وبرها وَلم يشرب لَبنهَا إلاَّ ضيف كَمَا فعل بأمها، فَهِيَ الْبحيرَة بنت السائبة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: هِيَ أَنهم كَانُوا إِذا نتجت النَّاقة خَمْسَة أبطن، فَإِن كَانَ الْخَامِس ذكرا نحروه وَأكله الرِّجَال(16/91)
وَالنِّسَاء جَمِيعًا، وَإِن كَانَت أُنْثَى شَقوا أذنها وَتلك الْبحيرَة لَا يجز لَهَا وبر وَلَا يذكر عَلَيْهَا اسْم الله، عز وَجل، إِن ركبت وَلَا إِن حمل عَلَيْهَا، وَحرمت على النَّاس فَلَا يذقن من لَبنهَا شَيْئا، وَلَا ينتفعن بهَا، وَكَانَ لَبنهَا ومنافعها خَاصَّة للرِّجَال دون النِّسَاء حَتَّى تَمُوت، فَإِذا مَاتَت اشْترك الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي أكلهَا.
قَوْله: (قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة) أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (يجر قصبه) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، وَهِي: الأمعاء. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقصب بِالضَّمِّ المعاء وَجمعه أقصاب، وَقيل: الْقصب اسْم للأمعاء كلهَا، وَقيل: هُوَ مَا كَانَ أَسْفَل الْبَطن من الأمعاء. قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: عَمْرو بن عَامر (أول من سيب السوائب) ، وَهُوَ جمع، وروى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِسَنَد صَحِيح: عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: أَن أَبَا صَالح السمان حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأكتم: رَأَيْت عَمْرو بن لحي يجر قصبه فِي النَّار، إِنَّه أول من غير دين إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فنصب الْأَوْثَان وسيب السائبة وبحر الْبحيرَة وَوصل الوصيلة وَحمى الحامي قَالَ: وحَدثني بعض أهل الْعلم: أَن عَمْرو بن لحي خرج من مَكَّة إِلَى الشَّام، فَلَمَّا قدم مآب من أَرض البلقاء وَبهَا يَوْمئِذٍ العماليق، فَرَآهُمْ يعْبدُونَ الْأَصْنَام فَقَالَ لَهُم: مَا هَذِه الْأَصْنَام الَّتِي أَرَاكُم تَعْبدُونَ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِه نعبدها ونستمطر بهَا فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فَقَالَ لَهُم: أَفلا تعطوني مِنْهَا صنماً فأسير بِهِ إِلَى أَرض الْعَرَب فيعبدونه؟ فَأَعْطوهُ صنماً يُقَال لَهُ: هُبل، فَقدم بِهِ مَكَّة فنصبه وَأمر النَّاس بِعِبَادَتِهِ وتعظيمه. وَيُقَال: كَانَ عَمْرو بن لحي، حِين غلبت خُزَاعَة على الْبَيْت ونفت جرهم عَن مَكَّة، جعلته الْعَرَب رَبًّا لَا يبتدع لَهُم بِدعَة إِلَّا اتَّخَذُوهَا شرعة، لِأَنَّهُ كَانَ يطعم النَّاس ويكسو فِي المواسم، فَرُبمَا نحر فِي الْمَوْسِم عشرَة آلَاف بَدَنَة وكسا عشرَة آلَاف حلَّة حَتَّى إِنَّه اللاَّت الَّذِي يلت السويق للحجيج على صَخْرَة مَعْرُوفَة تسمى صَخْرَة اللاَّت، وَيُقَال: إِن اللاَّت كَانَ من ثَقِيف، فَلَمَّا مَاتَ قَالَ لَهُم عَمْرو: إِنَّه لم يمت وَلكنه دخل فِي الصَّخْرَة، ثمَّ أَمرهم بعبادتها وَأَن يبنوا عَلَيْهَا بَيْتا يُسمى اللاَّت، ودام أَمر عَمْرو وَأمر وَلَده عَليّ هَذَا بِمَكَّة ثَلَاثمِائَة سنة، وَذكر أَبُو الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ فِي (أَخْبَار مَكَّة) : أَن عمرا فَقَأَ عين عشْرين بَعِيرًا وَكَانُوا من بلغت إبِله ألفا فَقَأَ عين بعير، وَإِذا بلغت أَلفَيْنِ فَقَأَ الْعين الْأُخْرَى، قَالَ الراجز:
(وَكَانَ شكر الْقَوْم عِنْد المننكي الصحيحات وفقأ الْأَعْين)
وَهُوَ الَّذِي زَاد فِي التَّلْبِيَة: إلاَّ شَرِيكا هُوَ لَك تملكه، وَملك، وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان تمثل فِي صُورَة شيخ يُلَبِّي مَعَه، فَقَالَ عَمْرو: لبيْك لَا شريك لَك، قَالَ الشَّيْخ: إلاَّ شَرِيكا هُوَ لَك، فَأنْكر ذَلِك عَمْرو بن لحي، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ الشَّيْخ: تملكه وَمَا ملك، فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، فَقَالَهَا عَمْرو فدانت بهَا الْعَرَب.
وَأما تَفْسِير الوصيلة فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: فَهِيَ الشَّاة إِذا ولدت سَبْعَة أبطن، فَإِن كَانَ السَّابِع ذكرا ذبحوه وأهدوه للآلهة، وَإِن كَانَت انثى استحيوها، وَإِن كَانَت ذكرا وَأُنْثَى اسْتَحْيوا الذّكر من أجل الْأُنْثَى. وَقَالُوا: وصلت أخاها، فَلم يذبحوهما. وَقَالَ مقَاتل: وَكَانَت الْمَنْفَعَة للرِّجَال دون النِّسَاء، فَإِن وضعت مَيتا اشْترك فِي أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن يكن ميتَة فهم فِيهِ شُرَكَاء} (الْأَنْعَام: 931) . وَأما الحام: فَهُوَ الْفَحْل إِذا ركب ولد وَلَده فَبلغ ذَلِك عشرَة أَو أقل من ذَلِك قيل: حمي ظَهره، فَلَا يركب وَلَا يحمل عَلَيْهِ وَلَا يمْنَع من مَاء وَلَا مرعى وَلَا ينْحَر أبدا إِلَى أَن يَمُوت فتأكله الرِّجَال وَالنِّسَاء.
21 - (بابُ قِصَّةِ زَمْزَمَ وجَهْلِ العَرَبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قصَّة زَمْزَم وَجَهل الْعَرَب، هَكَذَا وَقع لأبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره مَا وَقع إلاَّ: بَاب جهل الْعَرَب، فَقَط، وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ أصلا زَمْزَم، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، وَقد وَقع فِي بعض النّسخ: بَاب قصَّة إِسْلَام أبي ذَر قبل هَذَا الْبَاب.
4253 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ عنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا قَالَ إذَا سَرَّكَ أنْ تَعْلَمَ جَهْلَ العَرَبِ فاقْرَأ مَا فَوْقَ الثلاَثِينَ ومِائَةٍ فِي سُورَةِ الأنْعَامِ {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَهَاً بِغَيْرِ عَلْمٍ} (الْأَنْعَام: 041) . إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كانُوا مُهْتَدِينَ} (الْأَنْعَام: 041) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جهل الْعَرَب) وَأما الْجُزْء الأول مِنْهَا فَلَا ذكر لَهُ هُنَا أصلا كَمَا ذكرنَا آنِفا. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد ابْن الْفضل السدُوسِي وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية واسْمه إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
قَوْله: (إِذا سرك) ، من سره الْأَمر سُرُورًا، إِذا فَرح بِهِ. قَوْله: {قد خسر الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفهاً بِغَيْر علم وحرموا مَا رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين} ) وَقد أخبر الله تَعَالَى: {أَن الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفهاً بِغَيْر علم} (الْأَنْعَام: 041) . أَي: من غير علم أَتَاهُم فِي ذَلِك {وحرموا مَا رزقهم الله} (الْأَنْعَام: 041) . من الْأَنْعَام والحرث {إفتراء على الله} (الْأَنْعَام: 041) . حَيْثُ قَالُوا: إِن الله أَمركُم بِهَذَا قد ضلوا فِي ذَلِك وخسروا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَأما فِي الدُّنْيَا: فخسروا أَوْلَادهم بِقَتْلِهِم وضيقوا عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم وحرموا أَشْيَاء ابتدعوها من تِلْقَاء أنفسهم. وَأما فِي الْآخِرَة: فيصيرون إِلَى شَرّ الْمنَازل بكذبهم على الله وافترائهم، وَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت هَذِه الْآيَة فِي ربيعَة وَمُضر وَالَّذين كَانُوا يدفنون بناتهم أَحيَاء فِي الْجَاهِلِيَّة من الْعَرَب، قَالَ قَتَادَة: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقتلُون بناتهم مَخَافَة السَّبي عَلَيْهِم والفاقة، إلاَّ مَا كَانَ من بني كنَانَة فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك.
31 - (بابُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإسْلاَمِ أوْ الجاهِلِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز انتساب من انتسب إِلَى آبَائِهِ الَّذين مضوا فِي الْإِسْلَام أَو فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكره بَعضهم ذَلِك مُطلقًا، وَمحل الْكَرَاهَة إِنَّمَا كَانَ إِذا ذكره على طَرِيق الْمُفَاخَرَة والمشاجرة، وَقد روى الإِمَام أَحْمد وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي رَيْحَانَة رَفعه: من انتسب إِلَى تِسْعَة آبَاء كفار، يزيدهم عزا وكرامة فَهُوَ عاشرهم فِي النَّار.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ وأبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الكَرِيمَ ابنَ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمُ ابنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الله
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (فِي الْإِسْلَام) ، ظَاهِرَة لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نسب يُوسُف إِلَى آبَائِهِ كَانَ ذَلِك دَلِيلا على جَوَازه لغيره فِي مثل ذَلِك، وَأما تَعْلِيق عبد الله بن عَمْرو أبي هُرَيْرَة فقد مر كِلَاهُمَا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.(16/92)
وَقَالَ البَرَاءُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انتسب إِلَى جده عبد الْمطلب، وَتَعْلِيق الْبَراء قِطْعَة من حَدِيث مضى مطولا مَوْصُولا فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب من صف أَصْحَابه عِنْد الْهَزِيمَة.
5253 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبي حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَ مَّا نَزَلَتْ {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) . جعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنادي يَا بَني فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ بِبُطُونِ قُرَيْشٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشيرته بِنِسْبَة كل قَبيلَة إِلَى آبائها.
وَحَفْص بن غياث بن طلق أَبُو عمر النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها، يروي عَن الْأَعْمَش وَهُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن عبد الله وَمُحَمّد بن سَلام فرقهما وَعَن أبي يُوسُف بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة وَعَن أبي بكر وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد وَأحمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب وَفِيه وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي كريب.
قَوْله: (يَا بني فهر) ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْهَاء: ابْن مَالك ابْن النَّضر بن كنَانَة، بطن من قُرَيْش، وَكَذَا: بَنو عدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: ابْن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر رَهْط عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (ببطون قُرَيْش) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لبطون قُرَيْش، بِاللَّامِ، وَقد أَمر الله تَعَالَى نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإنذار الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من قومه، وَبَدَأَ فِي ذَلِك بِمن هُوَ أولى بالبدء، ثمَّ بِمن يَلِيهِ، وَأَن يقدم إِنْذَارهم على إنذار غَيرهم، وَهَذَا الحَدِيث من مرسلات ابْن عَبَّاس لِأَن الْآيَة نزلت فِي مَكَّة وَابْن عَبَّاس ولد بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، وَالله أعلم.
6253 - وقَالَ لَنَا قَبيصَةُ أخبرنَا سُفْيانُ عنْ حَبِيبِ بنِ أبِي ثابِتٍ عنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَ مَّا نَزَلَتْ {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) . جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبائِلَ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا قَالَ: (قَالَ لنا قبيصَة) لِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ فِي المذاكرة. وَقبيصَة، بِفَتْح الْقَاف: هُوَ ابْن عقبَة وَقد تكَرر ذكره، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وحبِيب بن أبي ثَابت اسْمه قيس بن دِينَار أَبُو يحيى الْكُوفِي. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن غيلَان. قَوْله: (يَدعُوهُم) أَي: يَدْعُو عشيرته. (قبائل قبائل) بِأَن قَالَ: يَا بني فلَان، يَا بني فلَان، بِمَا يعرف بِهِ كل قَبيلَة، كَمَا يَأْتِي تَوْضِيحه فِي الحَدِيث الْآتِي.
7253 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرَنَا شُعَيْبٌ أخبَرَنا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ عَمَّة رسولِ الله يَا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْترِيا أنْفُسَكُمَا مِنَ الله لاَ أمْلِكُ لَكُمَا مِنَ الله شَيْئَاً سَلاَنِي مِنْ مالِي مَا شِئْتُمَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (اشْتَروا) إِنَّمَا قَالَ: اشْتَروا أَنفسكُم، مَعَ أَنهم البائعون، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم} (التَّوْبَة: 111) . لأَنهم مشترون أنفسهم بِاعْتِبَار التخليص من الْعَذَاب، بائعون بِاعْتِبَار تَحْصِيل الثَّوَاب. قَوْله: (عمَّة رَسُول الله) عطف بَيَان من قَوْله: أم الزبير، وَاسْمهَا: صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب.
وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناداهم طبقَة بعد طبقَة الى أَن انْتهى الى ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا
وَفِيه: أَن قُريْشًا كلهم من الْأَقْرَبين. وَفِيه: بداءته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقَوْمه، فَإِذا قَامَت(16/93)
حجَّة عَلَيْهِم قَامَت على من سواهُم مِمَّن أَمر بتبليغه. وَفِيه: فضل صَفِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: تكنية الْمَرْأَة حَيْثُ قَالَ: يَا أم الزبير بن الْعَوام.
51 - (بابُ قِصَّةِ الحَبَشِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصَّة الْحَبَش، وَلم يذكر فِيهِ إلاَّ شَيْئا نزراً من قصَّة الْحَبَشَة، وَذكر ابْن إِسْحَاق قصتهم مُطَوَّلَة، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَليرْجع إِلَى كِتَابه، والحبش والحبشة جنس من السودَان، وَالْجمع: الحبشان مثل حمل وحملان، قَالَه الْجَوْهَرِي وهم من أَوْلَاد حام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانُوا سبع أخوة: السَّنَد والهند والزنج والقبط والحبش والنوبة وكنعان، والحبش على أَنْوَاع: الدهلك وناصع والزيلع والكوكر والفافور واللابة والقوماطين ودرقلة والقرنة، والحبش بن كوش بن حام وهم مجاورون لأهل الْيمن يقطع بَينهم الْبَحْر، وَقد غلبوا على الْيمن قبل الْإِسْلَام، وقصتهم مَشْهُورَة.
وقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا بَنِي أرْفِدَةَ
وَقَول، مجرور لِأَنَّهُ عطف على: قَوْله قصَّة الْحَبَش، وأرفدة، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْفَاء: اسْم جدٍ لَهُم، وَقيل: أرفدة، اسْم أمه، وَقد مضى هَذَا اللَّفْظ فِي حَدِيث طَوِيل فِي كتاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، وَفِيه: وَكَانَ يَوْم عيد يلْعَب فِيهِ السودَان، فإمَّا سَأَلت يَعْنِي: عَائِشَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِمَّا قَالَ: تشتهين تنظرين؟ فَقلت: نعم، فأقامني وَرَاءه خدي على خَدّه، وَهُوَ يَقُول: دونكم يَا بني أرفدة، حَتَّى إِذا مللت، قَالَ: حَسبك! قلت: نعم، قَالَ: فاذهبي.
9253 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثَنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ دخَلَ علَيْهَا وعِنْدَهَا جارِيَتانِ فِي أيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ وتُدَفِّفَانِ وتَضْرِبَانِ والنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ فانْتَهَرَهُمَا أبُو بَكْرٍ فكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ وَجْهِهِ فَقَالَ دَعْهُمَا يَا أبَا بَكْرٍ فإنَّهَا أيَّامُ عَيدٍ وتِلْكَ الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى. وقالَتْ عائِشَةُ رأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتُرُنِي وأنَا أنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ وهُمْ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ فزَجَرَهُمْ عُمَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْهُمْ أمْناً بَني أرْفِدَةَ يَعْنِي مِنَ الأمْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة الأولى فِي قَوْله: (إِلَى الْحَبَشَة) وَفِي الثَّانِيَة فِي قَوْله: (بني أرفدة) وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي أَيَّام منى تُغنيَانِ) ويروى: فِي أَيَّام منى تدفعان وتضربان، وَلَيْسَ فِيهِ: تُغنيَانِ. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن أَيَّام منى (أَيَّام عيد) أَيَّام فَرح وسرور، وَقيل: هَذَا يدل على أَن أَيَّام الْعِيد أَرْبَعَة أَيَّام، ورد بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك الْيَوْم ثَانِي يَوْم الْعِيد أَو ثالثه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ من أَيَّام منى، وَلَا يُقَال: إِنَّه على عُمُومه، لِأَن دَعْوَى الْعُمُوم فِي الْأَفْعَال غير صَحِيحَة عِنْد الْأَكْثَرين لِأَنَّهَا قصَّة عين. قَوْله: (متغش) ويروى: متغشي، وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد من قَوْلهم: تغشى، أَي: تغطى بِثَوْبِهِ. قَوْله: (فزجرهم) أَي: فزجر أَبُو بكر الْحَبَشَة الَّذين يَلْعَبُونَ. قَوْله: (دعهم) أَي: أتركهم آمِنين، وَيجوز أَن يكون: (أمنا) مَفْعُولا مُطلقًا أَي: إئمنوا أمنا لَيْسَ لأحد أَن يمنعكم، وَنَحْوه. قَوْله: (بني أرفدة) أَي: يَا بني أرفدة. قَوْله: (يَعْنِي من الْأَمْن) وَالْغَرَض من ذكر لفظ: يَعْنِي، بَيَان أَنه مُشْتَقّ من الْأَمْن الَّذِي هُوَ ضد الْخَوْف، لَا من الْإِيمَان.
61 - (بابُ منْ أحبَّ أنْ لاَ يُسُبَّ نَسَبَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحب أَن لَا يسب أَي: لَا يشْتم نسبه، أَي: أهل نسبه.
1353 - حدَّثني عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ حدَّثنا عَبْدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتِ اسْتأذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هجاءِ المُشْرِكِينَ فقَالَ كَيْفَ بِنَسَبِي فَقَالَ حسَّانٌ لأسُلَّنَّكَ(16/94)
مِنْهُم كَمَا تُسَلَّ الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِينِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ: كَيفَ بنسبي؟) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد أَن يهجى نسبه مَعَ هجو الْكفَّار، وَعَبدَة هُوَ ابْن سُلَيْمَان، وَهِشَام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة أَيْضا، وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة.
قَوْله: (كَيفَ بنسبي؟) أَي: كَيفَ بنسبي مجتمعاً بنسبهم؟ يَعْنِي: كَيفَ تهجو قُريْشًا مَعَ اجتماعي مَعَهم فِي النّسَب؟ وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن مُعظم طرق الهجو النَّقْص من الْآبَاء. قَوْله: (لأسلَّنَّكَ مِنْهُم) أَي: لأخلصنَّ نسبك مِنْهُم، أَي: من نسبهم، بِحَيْثُ يخْتَص الهجو بهم دُونك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي: لأتلطفن فِي تَخْلِيص نسبك من هجوهم بِحَيْثُ لَا يبْقى جُزْء من نسبك فِيمَا ناله الهجو. قَوْله: (كَمَا تسل الشعرة) ، ويروى: (الشّعْر) ، وَإِنَّمَا عين الشّعْر والعجين لِأَنَّهُ إِذا سل من الْعَجِين لَا يتَعَلَّق بِهِ شَيْء وَلَا يَنْقَطِع لنعومته، بِخِلَاف مَا إِذا سل من شَيْء صلب فَإِنَّهُ رُبمَا يَنْقَطِع وَيبقى مِنْهُ بَقِيَّة، وروى أَنه: لما اسْتَأْذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هجاء الْمُشْركين قَالَ لَهُ: إئتِ أَبَا بكر فَإِنَّهُ أعلم قُرَيْش بأنسابها حَتَّى يخلص لَك نسبي، فَأَتَاهُ حسان ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَهُ: قد خلص لي نسبك.
وعنْ أبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عائِشَةَ فقالَتْ لاَ تَسُبُّهُ فإنَّهُ كانَ يُنافِحُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: وَعَن أبي هِشَام وَهُوَ عُرْوَة بن الزبير وَهَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَى عُرْوَة وَلَيْسَ بمعلق وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن عبد الله بِهَذَا الْإِسْنَاد وَقَالَ فِيهِ وَعَن هِشَام عَن أَبِيه فَذكر الزِّيَادَة وَكَذَلِكَ أخرجه فِي الْأَدَب الْمُفْرد قَوْله: (كَانَ ينافح) بِكَسْر الْفَاء بعْدهَا حاء مُهْملَة وَمَعْنَاهُ يدافع يُقَال نافحت عَن فلَان أَي خَاصَمت عَنهُ. وَيُقَال نفحت الدَّابَّة إِذا رمحت بحوافرها ونفحه بِالسَّيْفِ إِذا تنَاوله من بعيد وأصل النفح بِالْمُهْمَلَةِ الضَّرْب وَقيل للعطاء نفح كَانَ الْمُعْطى يضْرب السَّائِل بِهِ.
71 - (بابُ مَا جاءَ فِي أسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من أَسمَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي بعض النّسخ: فِي أَسمَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وقَوْلِ الله تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله والَّذِينَ معَهُ أشِدَّاءُ علَى الكُفَّارِ} (الْفَتْح: 92) . وقَوْلِهِ {مِنْ بَعْدِيَ اسْمُهُ أحْمَدَ} (الصَّفّ: 6) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: مَا جَاءَ، وَقَوله: (وَقَوله: من بعدِي اسْمه أَحْمد) بِالْجَرِّ أَيْضا عطفا على: قَول الله، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِمَا ذكر من بعض الْآيَتَيْنِ إِلَى أَن أشهر أَسمَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد وَأحمد، فمحمد من بَاب التفعيل للْمُبَالَغَة، وَأحمد من بَاب التَّفْضِيل، وَقيل: مَعْنَاهُمَا إِذا حمدني أحد فَأَنت أَحْمد، وَإِذا حمدت أحد فَأَنت مُحَمَّد، وَقَالَ عِيَاض: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْمد قبل أَن يكون مُحَمَّدًا، كَمَا وَقع فِي الْوُجُود، لِأَن تَسْمِيَته أَحْمد وَقعت فِي الْكتب السالفة، وتسميته مُحَمَّدًا وَقعت فِي الْقُرْآن الْعَظِيم، وَذَلِكَ أَنه حمد ربه قبل أَن يحمده النَّاس، وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَة يحمد ربه فيشفعه فيحمده النَّاس، وَقد خص: بِسُورَة الْحَمد، ولواء الْحَمد، وبالمقام الْمَحْمُود، وَشرع لَهُ الْحَمد بعد الْأكل وَبعد الشّرْب وَبعد الدُّعَاء وَبعد الْقدوم من السّفر، وَسميت أمته: الحمادين، فَجمعت لَهُ مَعَاني الْحَمد وأنواعه، وَقيل: اسْمه فِي السَّمَوَات أَحْمد وَفِي الْأَرْضين مَحْمُود، وَفِي الدُّنْيَا مُحَمَّد، وَقيل: الْأَنْبِيَاء كلهم حمادون لله تَعَالَى وَنَبِينَا أَحْمد، أَي: أَكثر حمداً لله مِنْهُم، وَقيل: الْأَنْبِيَاء كلهم محمودون وَنَبِينَا أَحْمد، أَي: أَكثر مناقباً، وَأجْمع للفضائل. قَوْله: (مُحَمَّد رَسُول الله) ، مُحَمَّد، إِمَّا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ مُحَمَّد، لتقدم قَوْله: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله} (التَّوْبَة: 33، الْفَتْح: 82، والصف: 9) . وَإِمَّا مُبْتَدأ، وَرَسُول الله، عطف بَيَان {وَالَّذين مَعَه} أَي: أَصْحَابه عطف على الْمُبْتَدَأ. وَقَوله: {أَشد} خبر عَن الْجَمِيع، وَيجوز أَن يكون استئنافاً: مُحَمَّد مُبْتَدأ وَرَسُول الله خَبره، وَالَّذين مَعَه مُبْتَدأ، وأشداء خَبره، وَيجوز أَن يكون: وَالَّذين مَعَه فِي مَحل الْجَرّ عطفا على قَوْله: بِاللَّه، فِي قَوْله: {وَكفى بِاللَّه} . وَالْجُمْهُور على أَن المُرَاد من قَوْله: وَالَّذين مَعَه رسل الله، فَيحسن الْوَقْف على: مَعَه. قَوْله: (أشداء) ، جمع شَدِيد وَمَعْنَاهُ: يغلظون على الْكفَّار وعَلى من(16/95)
خَالف دينهم، وَإِن كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم. قَوْله: (من بعدِي اسْمه أَحْمد) ، وَقَبله: {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} (الصَّفّ: 6) . وَعَن كَعْب: أَن الحواريين قَالُوا لعيسى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا روح الله! فَهَل بَعدنَا من أمة؟ قَالَ: نعم أمة مُحَمَّد، حَكَاهُ عُلَمَاء أبرار أتقياء.
39 - (حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنِي معن عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لي خَمْسَة أَسمَاء أَنا مُحَمَّد وَأحمد وَأَنا الماحي الَّذِي يمحو الله بِهِ الْكفْر وَأَنا الحاشر الَّذِي يحْشر النَّاس على قدمي وَأَنا العاقب) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ومعن بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون ابْن عِيسَى الْقَزاز مر فِي الْوضُوء والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن زُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عَمْرو عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب وَعَن عبد بن حميد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَفِي الشَّمَائِل عَن غير وَاحِد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن شُعَيْب الْبَغْدَادِيّ عَن معن بن عِيسَى بِهِ قَوْله " عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه " كَذَا وَقع مَوْصُولا عِنْد معن بن عِيسَى عَن مَالك وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جُبَير مُرْسلا وَوَافَقَ مَعنا على وَصله عَن مَالك جوَيْرِية بن أَسمَاء عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَمُحَمّد بن الْمُبَارك وَعبد الله بن نَافِع عِنْد أبي عوَانَة وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي الغرائب عَن آخَرين عَن مَالك وَقَالَ إِن أَكثر أَصْحَاب مَالك أَرْسلُوهُ وَرَوَاهُ مُسلم مَوْصُولا من رِوَايَة يُونُس بن يزِيد وَعقيل وَمعمر وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا مَوْصُولا فِي التَّفْسِير من رِوَايَة شُعْبَة وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا مَوْصُولا من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة كلهم عَن الزُّهْرِيّ قَوْله " لي خَمْسَة أَسمَاء " فِيهِ سؤالان الأول أَنه قصر أسماءه على خَمْسَة وأسماؤه أَكثر من ذَلِك وَقد قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ عَن بَعضهم أَن لله تَعَالَى ألف اسْم وَكَذَا للرسول. وَالثَّانِي أَن قَوْله الماحي وَنَحْوه صفة لَا اسْم. الْجَواب عَن الأول أَن مَفْهُوم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ فَلَا يَنْفِي الزِّيَادَة وَقيل إِنَّمَا اقْتصر عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْكتب الْقَدِيمَة ومعلومة للأمم السالفة وَزعم بَعضهم أَن الْعدَد لَيْسَ من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا ذكره الرَّاوِي بِالْمَعْنَى ورد عَلَيْهِ لتصريحه فِي الحَدِيث بذلك وَقيل مَعْنَاهُ ولي خَمْسَة أَسمَاء لم يسم بهَا أحد قبلي وَقيل مَعْنَاهُ أَن مُعظم أسمائي خَمْسَة. وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي أَن الصّفة قد يُطلق عَلَيْهَا الِاسْم كثيرا قَوْله " أَنا مُحَمَّد " هَذَا هُوَ الأول من الْخَمْسَة وَقَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض لَا يعرف فِي الْعَرَب من تسمى مُحَمَّدًا قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا ثَلَاثَة مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع وَمُحَمّد بن أحيحة بن الجلاح وَمُحَمّد بن حمْرَان بن ربيعَة وَقد رد عَلَيْهِ وَمِنْهُم من عد سِتَّة ثمَّ قَالَ وَلَا سَابِع لَهُم ثمَّ عدهم فَذكر مِنْهُم هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة وَزَاد عَلَيْهِم مُحَمَّد بن خزاعي السّلمِيّ وَمُحَمّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن برَاء الْبكْرِيّ ورد عَلَيْهِ أَيْضا بِجَمَاعَة تسموا بِمُحَمد وهم مُحَمَّد بن عدي بن ربيعَة السَّعْدِيّ روى حَدِيثه الْبَغَوِيّ وَابْن سعد وَابْن شاهين وَغَيرهم وَمُحَمّد بن اليحمد الْأَزْدِيّ ذكره المفجع الْبَصْرِيّ فِي كتاب المنقذ وَمُحَمّد بن خولي الْهَمدَانِي ذكره ابْن دُرَيْد وَمُحَمّد بن حرماز ذكره أَبُو مُوسَى فِي الزيل وَمُحَمّد بن عَمْرو بن مُغفل بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء وباللام وَمُحَمّد الأسيدي وَمُحَمّد الْفُقيْمِي وَمُحَمّد بن يزِيد بن ربيعَة وَمُحَمّد بن أُسَامَة وَمُحَمّد بن عُثْمَان وَمُحَمّد بن عتوارة اللَّيْثِيّ قَوْله " وَأَنا أَحْمد " هَذَا هُوَ الثَّانِي من الْخَمْسَة ويروى وَأَنا مُحَمَّد وَأحمد بِغَيْر لَفْظَة وَأَنا قَوْله " وَأَنا الماحي " هَذَا هُوَ الثَّالِث من الْخَمْسَة قيل أَرَادَ بقوله الَّذِي يمحو الله بِي الْكفْر من جَزِيرَة الْعَرَب وَقَالَ الْكرْمَانِي محو الْكفْر إِمَّا من بِلَاد الْعَرَب وَنَحْوهَا وَفِيه نظر لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة عقيل وَمعمر يمحو الله بِي الْكَفَرَة وَفِي رِوَايَة نَافِع بن جهير وَأَنا الماحي فَإِن الله يمحو بِهِ سيئات من اتبعهُ (قلت) قَوْله هَذَا عَام يتَنَاوَل كفر كل أحد فِي كل أَرض قَوْله " وَأَنا الحاشر " هَذَا هُوَ الرَّابِع من الْخَمْسَة وَقد فسره بقوله الَّذِي يحْشر النَّاس على قدمي أَي على أثري أَي أَنه يحْشر قبل(16/96)
النَّاس ويوافق هَذَا لقَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يحْشر النَّاس على عَقبي وَيُقَال مَعْنَاهُ على زماني وَوقت قيامي على الْقدَم بِظُهُور عَلَامَات الْحَشْر وَيُقَال مَعْنَاهُ لَا نَبِي بعدِي قَوْله " قدمي " ضبطوه بتَخْفِيف الْيَاء وتشديدها مُفردا ومثنى قَوْله " وَأَنا العاقب " هَذَا هُوَ الْخَامِس وَزَاد يُونُس بن يزِيد فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ الَّذِي لَيْسَ بعده أحد وَقد سَمَّاهُ الله رؤفا رحِيما وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل قَوْله " وَقد سَمَّاهُ الله " إِلَى آخِره مدرج من قَول الزُّهْرِيّ وَفِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ العاقب يَعْنِي الْخَاتم وَفِي لفظ الماحي والخاتم وَفِي لفظ فَأَنا حاشر فَبعثت مَعَ السَّاعَة نذيرا لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد وَعند مُسلم فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَنَبِي التَّوْبَة وَنَبِي الملحمة وَعَن أبي صَالح قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا أَنا رَحْمَة مهداة " وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا الْعَنْبَري لنبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَة أَسمَاء فِي الْقُرْآن الْعَظِيم قَالَ الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله} وَقَالَ {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} وَقَالَ {وَأَنه لما قَامَ عبد الله} يَعْنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة الْجِنّ وَقَالَ (طه) وَقَالَ (يس) يَعْنِي يَا إِنْسَان وَالْإِنْسَان هُنَا الْعَاقِل وَهُوَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَزَاد عَبدة وَسَماهُ فِي الْقُرْآن رَسُولا نَبيا أُمِّيا وَسَماهُ {شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا} وَسَماهُ مذكرا وَرَحْمَة وَجعله نعْمَة وهاديا عَن كَعْب قَالَ الله عز وَجل لمُحَمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَبدِي المتَوَكل الْمُخْتَار وَعَن حُذَيْفَة بِسَنَد صَحِيح يرفعهُ " أَنا المقفى وَنَبِي الرَّحْمَة " وَعَن مُجَاهِد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنا رَسُول الرَّحْمَة أَنا رَسُول الله الملحمة بعثت بالحصاد وَلم أبْعث بالزراع " وَفِي كتاب الشِّفَاء وَأَنا رَسُول الرَّاحَة وَرَسُول الْمَلَاحِم وَأَنا قثم والقثم الْجَامِع فِي الْكَامِل وَفِي الْقُرْآن المزمل والمدثر والنور وَالْمُنْذر والبشير وَالشَّاهِد والشهيد وَالْحق والمبين والأمين وَقدم الصدْق ونعمة الله والعروة الوثقى والصراط الْمُسْتَقيم والنجم الثاقب والكريم وداعي الله والمصطفى والمجتبى والحبيب وَرَسُول رب الْعَالمين وَالشَّفِيع والمشفع والمتقي والمصلح وَالظَّاهِر والصادق والمصدوق وَالْهَادِي وَسيد ولد آدم وَسيد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وقائد الغر المحجلين وحبِيب الله وخليل الرَّحْمَن وَصَاحب الْحَوْض المورود والشفاعة وَالْمقَام الْمَحْمُود وَصَاحب الْوَسِيلَة والفضيلة والدرجة الرفيعة وَصَاحب التَّاج والمعراج واللواء والقضيب وراكب الْبراق والناقة والنجيب وَصَاحب الْحجَّة وَالسُّلْطَان والعلامة والبرهان وَصَاحب الهراوة والنعلين وَالْمُخْتَار ومقيم السّنة والمقدس وروح الْقُدس وروح الْحق وَهُوَ معنى البارقليط فِي الْإِنْجِيل وَقَالَ ثَعْلَب البارقليط الَّذِي يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وماذماذ مَعْنَاهُ طيب طيب والبرقليطس بالرومية وَقَالَ ثَعْلَب الْخَاتم الَّذِي ختم الْأَنْبِيَاء والخاتم أحسن الْأَنْبِيَاء خلقا وخلقا وَيُسمى بالسُّرْيَانيَّة مشفح والمنحمنا وَفِي التَّوْرَاة أحيد ذكره ابْن دحْيَة بِمد الْألف وَكسر الْحَاء وَمَعْنَاهُ أحيد أمتِي عَن النَّار وَقيل مَعْنَاهُ الْوَاحِد وَقَالَ عِيَاض وَمَعْنَاهُ صَاحب الْقَضِيب أَي السَّيْف وَفِي الدّرّ المنظم للعرقي من أَسْمَائِهِ الْمُصدق الْمُسلم الإِمَام المُهَاجر الْعَامِل اذن خير الْآمِر الناهي الْمُحَلّل الْمحرم الْوَاضِع الرافع المجير وَقَالَ ابْن دحْيَة أسماؤه وَصِفَاته إِذا بحث عَنْهَا تزيد على الثلاثمائة وَقد ذكرنَا عَن ابْن الْعَرَبِيّ أَن أسماءه بلغت ألفا كأسماء الله تَعَالَى -
3353 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفُيانُ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ الله عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّماً ويَلْعَنُونَ مُذَمَّماً وأنَا مُحَمَّدٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَنا مُحَمَّد) ، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (أَلا تعْجبُونَ؟) كلمة ألاَ للتّنْبِيه، وَكَانَ الْكفَّار من قُرَيْش من شدَّة كراهتهم فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسمونه باسمه الدَّال على الْمَدْح فيعدلون إِلَى ضِدّه، فيقولوا: مذمم ومذمم، لَيْسَ باسمه، وَلَا يعرف بِهِ فَكَانَ الَّذِي يَقع مِنْهُم فِي ذَلِك مصروفاً إِلَى غَيره، وَأَنا أسمي مُحَمَّد، كثير الْخِصَال الحميدة، وألهم الله أَهله أَن يسموه بِهِ لما علم من حميد صِفَاته، وَفِي الْمثل الْمَشْهُور: الألقاب تنزل من السَّمَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث من أسقط حد الْقَذْف بالتعريض، وهم الْأَكْثَرُونَ خلافًا لمَالِك، وَأجَاب بِأَنَّهُ لم يَقع فِي الحَدِيث أَنه: لَا شَيْء عَلَيْهِم فِي ذَلِك، بل الْوَاقِع أَنهم عوقبوا على ذَلِك، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يدل على النَّفْي وَلَا على الْإِثْبَات، فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ.(16/97)
81 - (بابُ خاتَمِ النَّبِيِّينَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
98
- أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان معنى الْخَاتم من أَسْمَائِهِ: أَنه خَاتم النَّبِيين.
4353 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ حدَّثنا سَلِيمٌ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ مِيناءَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْده الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثَلِي ومثَلُ الأنْبِيَاءِ كمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارَاً فأكْمَلَهَا وأحْسَنَها إلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فجَعَلَ النَّاسَ يَدْخُلُونَها ويتَعَجَّبُونَ ويَقُولُونَ لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ، لِأَن فِي طَرِيق من طرق الحَدِيث عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عُثْمَان عَن سليم بن حَيَّان: فَأَنا مَوضِع اللبنة جِئْت فختمت الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَمُحَمّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف نون أُخْرَى: أَبُو بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وَهُوَ من أَفْرَاده، وسليم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللاَّم: ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَسَعِيد بن ميناء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون: ممدوداً ومقصوراً.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (مثلي) ، مُبْتَدأ (وَمثل الْأَنْبِيَاء) عطف عَلَيْهِ. وَقَوله: (كَمثل رجل) خَبره، والمثل مَا يضْرب بِهِ الْأَمْثَال، وَفِي (الجمهرة) : الْمثل النظير والمشبه هُنَا وَاحِد والمشبه بِهِ مُتَعَدد فَكيف يَصح التَّشْبِيه؟ وَوَجهه أَنه جعل الْأَنْبِيَاء كلهم كواحد فِيمَا قصد فِي التَّشْبِيه، وَهُوَ أَن الْمَقْصُود من تعيينهم مَا تمّ إلاَّ بِاعْتِبَار الْكل، فَكَذَلِك الدَّار لم يتم إلاَّ بِجَمِيعِ اللبنات، وَيُقَال: إِن التَّشْبِيه هُنَا لَيْسَ من بَاب تَشْبِيه الْمُفْرد بالمفرد بل هُوَ تَشْبِيه تمثيلي، فَيُؤْخَذ وصف من جَمِيع أَحْوَال الْمُشبه وَيُشبه بِمثلِهِ من أَحْوَال الْمُشبه بِهِ، فَيُقَال: شبه الْأَنْبِيَاء وَمَا بعثوا بِهِ من إرشاد النَّاس إِلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق بدار أسس قَوَاعِده وَرفع بُنْيَانه وَبَقِي مِنْهُ مَوضِع لبنة، فنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث لتتميم مَكَارِم الْأَخْلَاق كَأَنَّهُ هُوَ تِلْكَ اللبنة الَّتِي بهَا إصْلَاح مَا بَقِي من الدَّار، قَوْله: (إلاَّ مَوضِع لبنة) ، بِفَتْح الَّلام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَجَاز إسكانها مَعَ فتح اللَّام وَكسرهَا، وَهِي الْقطعَة من الطين تعجن وتيبس ويبنى بهَا بِنَاء، فَإِذا أحرقت تسمى آجرَّة. قَوْله: (لَوْلَا مَوضِع اللبنة) ، بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَي: لَوْلَا مَوضِع اللبنة يُوهم النَّقْص لَكَانَ بِنَاء الدَّار كَامِلا، كَمَا فِي قَوْلك: لَوْلَا زيد لَكَانَ كَذَا أَي: لَوْلَا زيد مَوْجُود لَكَانَ كَذَا، وَيجوز أَن تكون: لَوْلَا، تخصيصية لَا امتناعية، وَفعله مَحْذُوف أَي: لَوْلَا ترك مَوضِع اللبنة أَو سوى، وَيجوز مَوضِع بِالنّصب أَي: لَوْلَا تركت أَيهَا الرجل موضعهَا وَنَحْو ذَلِك، وَوَقع فِي رِوَايَة همام عِنْد أَحْمد. ألاَ وضعت هَهُنَا لبنة فَيتم بنيانك؟
5353 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ عبْدِ الله بنِ دِينارٍ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ مَثَلِي ومثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتَاً فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ إلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فجَعَلَ النَّاسَ يَطُوفُونَ بِهِ ويَعْجَبُونَ لَهُ ويَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنا اللَّبِنَةُ وأنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (من زَاوِيَة) ، قَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الرُّكْن، وَفِي رِوَايَة همام عِنْد مُسلم: إلاَّ مَوضِع لبنة من زَاوِيَة من زواياها فَظهر أَن المُرَاد أَنَّهَا مكملة محسنة وإلاَّ لاستلزم أَن يكون الْأَمر بِدُونِهَا نَاقِصا وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن شَرِيعَة كل نَبِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَامِلَة، فَالْمُرَاد مِنْهُ هُنَا النّظر إِلَى الْأَكْمَل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَة المحمدية مَعَ مَا خص بِهِ من الشَّرَائِع.
وَفِيه: ضرب الْأَمْثَال للتقريب للأفهام، وَفضل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَائِر الْأَنْبِيَاء، وَأَن الله ختم بِهِ الْمُرْسلين وأكمل بِهِ شرائع الدّين.(16/98)
91 - (بابُ وفاةِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي باين وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة عِنْد أبي ذَر، وَسَقَطت من رِوَايَة النَّسَفِيّ.
6353 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلِ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تُوُفِّيَ وهْوَ ابنُ ثَلاثٍ وسِتِّينَ وَقَالَ ابنُ شِهَابٍ وأخْبَرَنِي سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ مِثْلَهُ. (الحَدِيث 6353 طرفه فِي: 6644) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده بِهِ.
قَوْله: (توفّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ) ، هَذَا هُوَ الْأَصَح فِي سنه، وَقد ذكره البُخَارِيّ فِي آخر الْغَزَوَات، وَترْجم عَلَيْهِ هَذِه التَّرْجَمَة أَيْضا، وَرُوِيَ أَيْضا هَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أنس، وروى عَن أنس: (أَنه توفّي على رَأس السِّتين) ، وَصَححهُ الْحَاكِم فِي (الإكليل) وأسنده ابْن سعد من طَرِيقين عَنهُ، وَبِه قَالَ عُرْوَة وَيحيى بن جعدة وَالنَّخَعِيّ، وروى مُسلم من حَدِيث عمار بن أبي عَامر عَن ابْن عَبَّاس: (أَنه توفّي وَهُوَ ابْن خمس وَسِتِّينَ) ، وَصَححهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ أَيْضا فِي (تَارِيخه) . وَأما البُخَارِيّ فَذكره فِي (تَارِيخه الصَّغِير) : عَن عمار، ثمَّ قَالَ: وَلَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَكَانَ شُعْبَة يتَكَلَّم فِي عمار وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن ابْن أبي خَيْثَمَة ذكره أَيْضا من حَدِيث عَليّ بن زيد عَن يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن سعد عَن سعيد بن سُلَيْمَان عَن هشيم حَدثنَا عَليّ ... فَذكره، وَلَو أعله البُخَارِيّ مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث حَمَّاد عَن عمار عَن ابْن عَبَّاس، لَكَانَ صَوَابا، لِأَن شُعْبَة، وَإِن تكلم فِيهِ فقد أثنى عَلَيْهِ غير وَاحِد. وَفِي (تَارِيخ ابْن عَسَاكِر) : ثِنْتَانِ وَسِتُّونَ سنة وَنصف، وَفِي كتاب عمر بن شُعْبَة: إِحْدَى أَو اثْنَتَانِ، لَا أرَاهُ بلغ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ. وروى الْبَزَّار من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: توفّي فِي إِحْدَى وَعشْرين من رَمَضَان، وَلما ذكر الطَّبَرِيّ قَول الْكَلْبِيّ وَأبي محيف: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، توفّي فِي ثامن ربيع الأول، قَالَ هَذَا القَوْل: وَإِن كَانَ خلاف قَول الْجُمْهُور فَإِنَّهُ لَا يبعد أَن كَانَت الثَّلَاثَة الْأَشْهر الَّتِي قبله كَانَت تِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهَذَا قَول أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمُحَمّد بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ والمعتمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه وَأبي معشر عَن مُحَمَّد بن قيس، قَالُوا ذَلِك أَيْضا، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن كَامِل فِي (الْبُرْهَان) . وَقَالَ السُّهيْلي فِي (الرَّوْض) : اتَّفقُوا أَنه توفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وَقَالُوا كلهم: فِي ربيع الأول غير أَنهم قَالُوا، أَو قَالَ أَكْثَرهم: فِي الثَّانِي عشر من الشَّهْر أَو الثَّالِث عشر أَو الرَّابِع عشر أَو الْخَامِس عشر، لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن وَقْفَة عَرَفَة فِي حجَّة الْوَدَاع كَانَت يَوْم الْجُمُعَة، وَهُوَ التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، فَدخل ذُو الْحجَّة يَوْم الْخَمِيس، فَكَانَ الْمحرم إِمَّا الْجُمُعَة وَإِمَّا السبت وَإِمَّا الْأَحَد، فَإِن كَانَ الْجُمُعَة فقد كَانَ صفر إِمَّا السبت وَإِمَّا الْأَحَد، فَإِن كَانَ السبت فقد كَانَ الرّبيع إِمَّا الْأَحَد وَإِمَّا الْإِثْنَيْنِ، وَكَيف مَا دارت الْحَال على هَذَا الْحساب فَلم يكن الثَّانِي عشر من ربيع الأول يَوْم الْإِثْنَيْنِ بِوَجْه، وَعَن الْخَوَارِزْمِيّ: توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أول يَوْم من ربيع الأول، قَالَ: وَهَذَا أقرب إِلَى الْقيَاس، وَعَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مرض يَوْم السبت لاثْنَيْنِ وَعشْرين لَيْلَة من صفر، بَدَأَ بِهِ وَجَعه عِنْد وليدته ريحاته، وَتوفى فِي الْيَوْم الْعَاشِر) ، وَعند أبي معشر عَن مُحَمَّد بن قيس: اشْتَكَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَرْبَعَاء لإحدى عشرَة بقيت من صفر فِي بَيت زَيْنَب بنت جحش، فَمَكثَ ثَلَاثَة عشر يَوْمًا. وَعند الْوَاقِدِيّ: عَن أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه بدىء بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَعه فِي بَيت مَيْمُونَة زَوجته) ، وَقَالَ أهل الصَّحِيح بِإِجْمَاع: إِنَّه توفّي يَوْم الْإِثْنَيْنِ، قَالَ أهل السّير: مثل الْوَقْت الَّذِي دخل فِيهِ الْمَدِينَة، وَذَلِكَ حِين ارْتَفع الضُّحَى، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت مُدَّة علته اثْنَي عشر يَوْمًا، وَقيل: أَرْبَعَة عشر يَوْمًا. قَوْله: (وَقَالَ ابْن شهَاب) ، وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ (وَأَخْبرنِي سعيد بن الْمسيب مثله) أَي: مثل مَا أخبر عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَهُوَ موصل بِالْإِسْنَادِ الأول الْمَذْكُور، وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن ابْن شهَاب(16/99)
بالإسنادين مَعًا مفرقاً وَهُوَ من مُرْسل سعيد بن الْمسيب، وَيحْتَمل أَن يكون سعيد أَيْضا سَمعه من عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالله تَعَالَى أعلم.
02 - (بابُ كُنْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كنية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الكنية، بِضَم الْكَاف وَسُكُون النُّون: مَأْخُوذ من الْكِنَايَة، تَقول: كنيت عَن الْأَمر بِكَذَا إِذْ ذكرته بِغَيْر مَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ صَرِيحًا، وَقد شاعت الكنى بَين الْعَرَب وَبَعضهَا يغلب على الإسم: كَأبي طَالب وَأبي لَهب وَنَحْوهَا، وَقد يكنى وَاحِد بكنية وَاحِدَة فَأكْثر وَمِنْهُم من يشْتَهر باسمه وكنيته جَمِيعًا، فالكنية وَالِاسْم واللقب كلهَا من الْأَعْلَام، وَلَكِن الكنية مَا يصدر بأب أَو أم، واللقب مَا يشْعر بمدح أَو ذمّ، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكنى: بِأبي الْقَاسِم وَهُوَ أكبر أَوْلَاده، وَعَن ابْن دحْيَة: كنى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي الْقَاسِم لِأَنَّهُ يقسم الْجنَّة بَين الْخلق يَوْم الْقِيَامَة، ويكنى أَيْضا بِأبي إِبْرَاهِيم، باسم وَلَده إِبْرَاهِيم الَّذِي ولد فِي الْمَدِينَة من مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أنس: أَنه لما ولد إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَارِيَة جَارِيَته كَاد يَقع فِي نفس رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُ حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك أَبَا إِبْرَاهِيم، وَفِي رِوَايَة يَا أَبَا إِبْرَاهِيم، وَذكره ابْن سعد أَيْضا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَله كنية ثَالِثَة وَهُوَ: أَبُو الأرامل.
7353 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السِّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا القَاسِمِ فالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سَمُّوا باسْمِي ولاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي. (انْظُر الحَدِيث 0212 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا ذكر فِي الْأَسْوَاق، أخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن آدم بن مَالك. وَالْآخر: عَن إِسْمَاعِيل، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
8353 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبرَنا شُعْبَةُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سالِمٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَسَمَّوْا باسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَسَالم هُوَ ابْن أبي الْجَعْد، والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي الْخمس فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {فَإِن لله خمسه} (الْأَنْفَال: 14) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة؛ وَالْآخر: عَن مُحَمَّد ابْن يُوسُف عَن سُفْيَان.
9353 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ عنْ أيُّوبَ عنِ ابنِ سِيريِنَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمُّوا باسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث أخرجه فِي الْأَدَب عَن عَليّ بن عبد الله أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَمْرو النَّاقِد وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد وَأبي بكر بن أبي شيبَة. قَوْله: (قَالَ أَبُو الْقَاسِم) ، وَفِيه نُكْتَة لَطِيفَة على مَا لَا يخفى على الفطن. قَوْله: (سموا باسمي) ، بِفَتْح السِّين وَتَشْديد الْمِيم المضمومة، أَمر للْجَمَاعَة من التَّسْمِيَة، وَالله أعلم.
12 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، إِذا قَدرنَا هَكَذَا يكون معرباً، وإلاَّ فَلَا، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ فِي التَّرْكِيب، وَهَذَا وَقع كَذَا بِغَيْر تَرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا لَا يصلح أَن يكون فصلا من الَّذِي قبله، بل هُوَ طرف من الحَدِيث الَّذِي بعده، وَلَعَلَّ هَذَا من تصرف الروَاة.(16/100)
انْتهى. قلت: لَا نسلم أَنه لَا يصلح أَن يكون فصلا من الَّذِي قبله، بل هُوَ صَالح جيد لذَلِك، لِأَن الْأَلْفَاظ الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُخَاطب بهَا: يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، يَا رَسُول الله، وَالْأَدب بل الْأَحْسَن أَن يُخَاطب: بيا رَسُول الله، وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن هَذَا فَلهُ تعلق بِمَا قبله من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: نعم، وَجهه بعض شُيُوخنَا فَإنَّا أَشَارَ إِلَى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ذَا أَسمَاء وكنية، لَكِن لَا يَنْبَغِي أَن يُنَادى بِشَيْء مِنْهَا، يُقَال لَهُ: يَا رَسُول الله، كَمَا خاطبته خَالَة السَّائِب لما أَتَت بِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يخفى تكلفه. انْتهى. قلت: أَرَادَ بِبَعْض شُيُوخه: صَاحب (التَّوْضِيح) : الشَّيْخ سراج الدّين بن الملقن، وَقَوله: وَلَا يخفى تكلفه، تكلّف بل هُوَ قريب مِمَّا ذكرنَا، وَهُوَ تَوْجِيه حسن، وَهَذَا أحسن من نسبته إِلَى تصرف الروَاة.
0453 - حدَّثني إسْحاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ أخْبرَنا الفَضْلُ بنُ مُوسَى عنِ الجُعَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ رأيْتُ السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ ابنَ أرْبَعٍ وتِسْعِينَ جَلْدَاً مُعْتَدِلاً فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُ مَا مُتِّعْتُ بِهِ سَمْعِي وبَصَرِي إلاَّ بِدُعَاءِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خالَتِي ذَهَبَتْ بِي ألَيْهِ فقالَتْ يَا رسُولَ الله إنَّ ابنَ اخْتِي شاكٍ فادْعُ الله قَالَ فدَعَا لِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
توجه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين الْبَاب المترجم قبله بِمَا ذكرنَا الْآن. وَإِسْحَاق هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَالْفضل بن مُوسَى الشَّيْبَانِيّ، وشيبان قَرْيَة من قرى مرو، الْمروزِي والجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: ابْن عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال: الْجَعْد أَيْضا الْكِنْدِيّ الْمدنِي، والسائب بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن سعد الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: الْأَسدي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ، وَيُقَال: الْهُذلِيّ، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ من الأزد عداده فِي كنَانَة لَهُ ولأبيه صُحْبَة، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَهُوَ ابْن سِتّ وَتِسْعين، وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن إِسْحَاق لم يذكر إلاَّ هُنَا فَقَط، بِخِلَاف الحَدِيث الْآتِي على مَا نبينه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (ابْن أَربع وَتِسْعين) هَذَا يدل على أَنه رَآهُ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين، فَيكون عَاشَ بعد ذَلِك سنتَيْن، وَهُوَ الْأَشْهر. وَأبْعد من قَالَ: إِنَّه مَاتَ قبل التسعين، وَقَالَ ابْن أبي دَاوُد: وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (جلدا) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون اللَّام أَي: قَوِيا صلباً. قَوْله: (معتدلاً) أَي: معتدل الْقَامَة مَعَ كَونه معمراً. قَوْله: (مَا متعت بِهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (سَمْعِي) بدل من الضَّمِير الَّذِي فِي: بِهِ (وبصري) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (شَاك) فَاعل من الشكوى وَهُوَ الْمَرَض. قَوْله: (فَادع الله) أَي: أدع الله لَهُ، وَهَكَذَا يرْوى أَيْضا، وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: كَانَ مقدم رَأسه أسود وَهُوَ هُوَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسحه، وَأمه علية بنت شُرَيْح الحضرمية، ومخرمة ابْن شُرَيْح خَاله.
22 - (بابُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة خَاتم النُّبُوَّة، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَين كَتِفي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ من علاماته الَّتِي كَانَ أهل الْكتاب يعرفونه بهَا.
1453 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله حدَّثنا حاتِمٌ عنِ الجُعَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ سَمِعْتُ السَّائبَ بنَ يَزيدَ قَالَ ذَهَبَتْ بِي خالَتِي إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسُولَ الله إنَّ ابنَ أُخْتِي وَقِعُ فمَسَحَ رأسِي ودَعَا لي بالبَرَكَةِ وتَوَضَّأ فشَرِبْتُ مِنْ وُضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فنَظَرْتُ إلَى خاتَمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَنَظَرت إِلَى خَاتم بَين كَتفيهِ) . وَمُحَمّد بن عبد الله بِالتَّصْغِيرِ أَبُو ثَابت الْمدنِي، مَشْهُور بكنيته، وَهُوَ من أَفْرَاده، وحاتم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمَكْسُورَة بعد الْألف: ابْن إِسْمَاعِيل أَبُو إِسْمَاعِيل(16/101)
الْكُوفِي، سكن الْمَدِينَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. (وَقع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْقَاف، أَي: وجع وَقد مضى فِي كتاب الطَّهَارَة بِلَفْظ: وجع، وَقيل: يشتكي رجله، ويروى بِلَفْظ الْمَاضِي.
قَالَ ابنُ عُبَيْدِ الله الحُجْلَةُ مِنْ حُجَلِ الفَرَسِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ. قَالَ إبْرَاهِيم بنُ حَمْزَةَ مِثْلَ زرِّ الحَجَلَةِ
ابْن عبيد الله، هُوَ شَيْخه مُحَمَّد بن عبيد الله الْمَذْكُور آنِفا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه فسر الحجلة الَّتِي وَقع فِي هَذَا الحَدِيث لِأَن فِيهِ: فَنَظَرت إِلَى خَاتمه بَين كَتفيهِ مثل زر الحجلة، على مَا يَأْتِي فِي: بَاب الدُّعَاء للصبيان، من كتاب الدُّعَاء. فَإِن قلت: لم تقع هَذِه اللَّفْظَة هُنَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، فَمَا وَجه تَفْسِيرهَا هُنَا؟ قلت: الظَّاهِر أَنه لما روى هَذَا الحَدِيث عَن شَيْخه مُحَمَّد بن عبيد الله، وَقع السُّؤَال فِي الْمجْلس عَن كَيْفيَّة الْخَاتم؟ فَقَالَ هُوَ: أَعنِي ابْن عبيد الله، أَو غَيره، وَهُوَ مثل زر الحجلة، فَسئلَ هُوَ عَن معنى الحجلة، فَقَالَ: من حجل الْفرس الَّذِي بَين عَيْنَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه فِي هَذَا وَلَيْسَ مثل مَا قَالَ بَعضهم: هَكَذَا وَقع، وَكَأَنَّهُ سقط مِنْهُ شَيْء لِأَنَّهُ يبعد من شَيْخه مُحَمَّد ابْن عبيد الله أَن يُفَسر الحجلة وَلم يَقع لَهَا فِي سِيَاقه ذكر، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مثل زر الحجلة ثمَّ فَسرهَا كَذَلِك. انْتهى. قلت: قَوْله: كَأَنَّهُ سقط، لَيْسَ مَوضِع الشَّك، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي نفس حَدِيث السَّائِب بن يزِيد، وَلكنهَا لَيست بمذكورة هَهُنَا، وَهِي مَذْكُورَة فِيهِ فِي الطَّرِيق الآخر الَّذِي أخرجه فِي كتاب الدَّعْوَات فِي: بَاب الدُّعَاء للصبيان، فَلَا معنى لقَوْله: وَكَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مثل زر الحجلة، لِأَنَّهُ لَا مَحل للشَّكّ، وَالْوَجْه فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ، فَافْهَم. وَمَعَ هَذَا تَفْسِيره: من حجل الْفرس الَّذِي بَين عَيْنَيْهِ بِمَعْنى الْبيَاض، فِيهِ نظر، لِأَن الْمَعْرُوف الَّذِي بَين عَيْني الْفرس إِنَّمَا هُوَ غرَّة، وَالَّذِي فِي قوائمه هُوَ التحجيل، وَلَئِن سلمنَا أَن يكون هَذَا التَّفْسِير صَحِيحا فَلَيْسَ لَهُ معنى إِن أَرَادَ الْبيَاض، لِأَنَّهُ لَا يبْقى فَائِدَة لذكر الزر. قَوْله: (وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة) هُوَ أَبُو إِسْحَاق الزبيرِي الْأَسدي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ أَيْضا من مَشَايِخ البُخَارِيّ، روى عَنهُ فِي غير مَوضِع، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَنه روى هَذَا الحَدِيث كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن عبيد الله الْمَذْكُور، إلاَّ أَنه خَالفه فِي هَذِه اللَّفْظَة، فَقَالَ: (مثل زر الحجلة) مثل مَا وَقع فِي نفس الحَدِيث، وَسَيَأْتِي عَنهُ مَوْصُولا فِي كتاب الطِّبّ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد أمعنا فِي هَذَا الْبَاب الْكَلَام فِي كتاب الطَّهَارَة، فَليرْجع إِلَيْهِ هُنَاكَ من أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
32 - (بابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي: فِي خَلقه وخُلقه.
2453 - حدَّثنا أبُو عاصمٍ عنْ عُمَرَ بنَ سَعِيدِ بنِ أبِي حُسَيْنٍ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ ابنِ الحارِثِ قَالَ صَلَّى أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ العَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي فرَأى الحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فحَمَلَهُ علَى عاتِقِهِ وَقَالَ بِأبِي شَبِيهٌ بالنَّبِيِّ لاَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ وعَلِيٌّ يَضْحَكُ. (الحَدِيث 2453 طرفه فِي: 0573) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا بكر شبه الْحسن بِالنَّبِيِّ فِي خلقه، بِالْفَتْح وَهِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد الْمَشْهُور بالنبيل. الثَّانِي: عَمْرو بن سعيد بن أبي حُسَيْن النَّوْفَلِي الْقرشِي. الثَّالِث: عبد الله بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم. الرَّابِع: عقبَة بن الْحَارِث بن عَامر الْقرشِي النَّوْفَلِي أَبُو سروعة الْمَكِّيّ ...
...
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ بَصرِي والبقية كلهم مكيون. وَفِيه: عَن ابْن أبي مليكَة وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي ابْن أبي مليكَة، وَفِي أُخْرَى: حَدثنِي. وَفِيه: عَن عقبَة بن الْحَارِث، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي عقبَة بن الْحَارِث.
والْحَدِيث أخرجه(16/102)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن عَبْدَانِ عَن ابْن الْمُبَارك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله المخرمي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ خرج يمشي) ، وَزَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَة: بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بليالي، وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يمشي إِلَى جَانِبه. قَوْله: (وَقَالَ بِأبي) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: بِأبي، أَي: أفديه بِأبي، أَو: هُوَ مفدى بِأبي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِأبي قسم، وَفِيه نظر. قَوْله: (شَبيه بِالنَّبِيِّ) ، أَي: هُوَ شَبيه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا شَبيه بعلي) يَعْنِي: أَبَاهُ ابْن أبي طَالب. قَوْله: (وَعلي يضْحك) جملَة حَالية، وضحكه يدل على أَنه وَافق أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على أَن الْحسن كَانَ يشبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانَ المشبهون برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة، وهم: جَعْفَر بن أبي طَالب، وَالْحسن بن عَليّ، وَقثم بن الْعَبَّاس، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث، والسائب ابْن عبيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد قيل فِي ذَلِك شعر:
(بِخَمْسَة شبه الْمُخْتَار من مُضر ... يَا حسن مَا خولوا من شبهه الْحسن)
(بِجَعْفَر وَابْن عَم الْمُصْطَفى قثم ... وسائب وَأبي سُفْيَان وَالْحسن)
وَفِي (عُيُون الْأَثر) : وَمِمَّنْ كَانَ يُشبههُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عبد الله بن عَامر بن كَعْب بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس، رَآهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَغِيرا، فَقَالَ: هَذَا يشبهنا، وَذكر فِي (الْمرْآة) : مِنْهُم مُسلم بن معتب، وَأنس بن ربيعَة بن مَالك البياضي الْبَصْرِيّ من بني أُسَامَة بن لؤَي، وَكَانَ أشبه النَّاس برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خلقه وخلقه، وَكَانَ أنس بن مَالك إِذا رَآهُ عانقه وَبكى، وَقَالَ: من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلْينْظر إِلَى هَذَا، وَبلغ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان خَبره فاستقدمه، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَامَ واعتنقه وَقبل مَا بَين عَيْنَيْهِ وأقطعه مَالا وأرضاً، فَرد المَال وَقبل الأَرْض.
وَفِي الحَدِيث: فَضِيلَة أبي بكر ومحبته لآل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: ترك الصَّبِي الْمُمَيز يلْعَب لِأَن الْحسن إِذْ ذَاك كَانَ ابْن سبع سِنِين، وَقد سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحفظ عَنهُ، ولعبه مَحْمُول على مَا يَلِيق لمثله فِي ذَلِك الزَّمَان من الْأَشْيَاء الْمُبَاحَة، بل يحمل على مَا فِيهِ تمرين وتنشيط وَنَحْو ذَلِك.
4453 - حدَّثني عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا ابنُ فُضَيْلٍ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبي خالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكانَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ علَيْهِمَا السَّلامُ يُشْبِهُهُ قُلْتُ لأِبِي جُحَيْفَةَ صِفْهُ لِي قَالَ كانَ أبْيَض قَدْ شَمِطَ وأمَرَ لَنَا النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثَلاَثَ عَشْرَةَ قَلُوصاً قَالَ فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ أنْ نَقْبِضَهَا. (انْظُر الحَدِيث 3453) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بأتم مِنْهُ أخرجه عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر بن أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل بِالتَّصْغِيرِ إِلَى آخِره.
قَوْله: (قد شمط) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم: أَي صَار شعر رَأسه السوَاد مخالطاً بالبياض. قَوْله: (فَأمر لنا) أَي: لَهُ ولقومه من بني سواءة، وَكَانَ أَمر لَهُم بذلك على سَبِيل جَائِزَة الْوَفْد. قَوْله: (بِثَلَاث عشرَة) ويروى(16/103)
بِثَلَاثَة عشر، وَقَالَ ابْن التِّين: وَكَانَ حَقه أَن يَقُول: ثَلَاث عشرَة، وَهُوَ ظَاهر قَوْله: (قلوصاً) بِفَتْح الْقَاف وَضم اللَّام، وَهِي الْأُنْثَى من الْإِبِل، وَقيل: هِيَ الطَّوِيلَة القوائم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الثَّنية من الْإِبِل. قَوْله: (فَقبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن نقبضها) أَي: قبل أَن نقبض تِلْكَ القلائص.
وَفِيه: إِشْعَار أَن ذَلِك كَانَ قرب وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: نعم، روى الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن الفضيل بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور: فذهبنا نقبضها فَأَتَانَا مَوته فَلم يعطونا شَيْئا، فَلَمَّا قَامَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من كَانَت لَهُ عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِدَةٌ، فليجىء، فَقُمْت إِلَيْهِ فَأَخْبَرته فَأمر لنا بهَا.
5453 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجاءٍ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنْ وَهْبٍ أبي جُحَيْفَةَ السُّوَائِيِّ قَالَ رَأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأيْتُ بَيَاضَاً منْ تَحْتِ شَفَتِهِ السُّفْلَى العَنْفَقَةَ.
هَذَا طَرِيق آخر عَن عبد الله بن رَجَاء بن الْمثنى الفداني الْبَصْرِيّ عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس عَن جده أبي إِسْحَاق السبيعِي، واسْمه عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي.
قَوْله: (العنفقة) ، بِالْجَرِّ على أَنه بدل من: الشّفة، وَيجوز بِالنّصب على أَن يكون بَدَلا من قَوْله: (بَيَاضًا) . قَالَ ابْن سَيّده فِي (الْمُخَصّص) : هِيَ مَا بَين الذقن وطرف الشّفة السُّفْلى كَأَن عَلَيْهَا شعر أَو لم يكن، وَقيل: هُوَ مَا كَانَ نبت على الشّفة السُّفْلى من الشّعْر، وَقَالَ الْقَزاز: هِيَ تِلْكَ الْهمزَة الَّتِي بَين الشّفة السُّفْلى والذقن، وَقَالَ الْخَلِيل: هِيَ الشعيرات بَينهمَا، وَلذَلِك يَقُولُونَ فِي التحلية: نقي العنفقة، وَقَالَ أَبُو بكر: العنفقة خفَّة الشَّيْء وقلته، وَمِنْه اشتقاق: العنفقة، فَدلَّ هَذَا على أَن العنفقة الشّعْر، وَأَنه سمي بذلك لقلته وَخِفته، وَفِي هَذَا الحَدِيث بيَّن مَوضِع الْبيَاض والشمط.
6453 - حدَّثنا عِصامُ بنُ خالِدٍ حدَّثنا حَرِيزُ بنُ عُثْمَانَ أنَّهُ سَألَ عبْدَ الله بنَ بُسْرٍ صاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرَأيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ شَيْخَاً قَالَ كانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعصام، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة: ابْن خَالِد أَبُو إِسْحَاق الْحِمصِي الْحَضْرَمِيّ، مَاتَ سنة بضع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ وَلَيْسَ لَهُ عَنهُ فِي (الصَّحِيح) غَيره، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، و: حريز، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره زَاي: ابْن عُثْمَان السَّامِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَعبد الله بن بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء.
والْحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ، الثَّالِث عشر مِنْهَا، وَمن أَفْرَاده أَيْضا.
قَوْله: (أَرَأَيْت النَّبِي) يجوز فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون أَرَأَيْت بِمَعْنى أَخْبرنِي، وَيكون لفظ: النَّبِي، مَرْفُوعا على الإبتداء. وَقَوله: (أَكَانَ شَيخا) ، خَبره على تَأْوِيل: هَل يُقَال فِيهِ: كَانَ شَيخا؟ وأعربه بَعضهم بِأَن النَّبِي مَرْفُوع على أَنه اسْم: كَانَ، وَفِيه مَا فِيهِ، وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون: أَرَأَيْت؟ استفهاماً تَقْدِيره: هَل رَأَيْت النَّبِي أَكَانَ شَيخا؟ فَيكون النَّبِي مَنْصُوبًا على المفعولية، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر عَن حريز بن عُثْمَان، قَالَ: رَأَيْت عبد الله بن بسر صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحمص وَالنَّاس يسألونه، فدنوت مِنْهُ وَأَنا غُلَام، فَقلت: أَنْت رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم، قلت: أشيخ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم شَاب؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ. وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقلت لَهُ: أَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صبغ؟ قَالَ: يَا ابْن أخي، لم يبلغ ذَلِك. قَوْله: (شَعرَات بيض) ، الشعرات جمع شَعْرَة، وَالْبيض بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جمع أَبيض، وَقَالَ الْكرْمَانِي: شَعرَات جمع قلَّة فَلَا يكون زَائِدا على عشرَة. قلت: سَمِعت بعد الأساتذة الْكِبَار: أَن عدد الشعرات الْبيض الَّتِي كَانَت على عنفقته سَبْعَة عشر شَعْرَة، وَالله أعلم.
7453 - حدَّثني ابنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ عنْ خالِدٍ عنْ سَعيدِ بنِ أبِي هِلالٍ عنْ رَبِيعَةَ ابنِ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يَصِفُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ رَبْعَةً مِنَ القَوْمِ لَيْسَ بالطَّوِيلِ ولاَ بالْقَصِيرَ أزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بأبْيَضَ أمْهَقَ ولاَ آدَمَ لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطِطٍ ولاَ سَبْطٍ رَجُلٍ أُنْزِلَ علَيْهِ وهْوَ ابنُ أرْبَعِينَ فلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنَزَّلُ علَيْهِ وبالمَدِينَةِ عَشْرَ(16/104)
سِنِينَ ولَيْسَ فِي رأسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعرَةً بَيْضَاءَ قَالَ رَبِيعَةُ فرَأيْتُ شَعَرَاً مِنْ شَعَرِهِ فإذَا هُوَ أحْمَرُ فَسَألْتُ فَقيلَ احْمَرَّ مِنَ الطَّيب.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن بِكَسْر هُوَ يحيى بن بكير تَصْغِير بكر وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى جده لِأَنَّهُ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد الْمصْرِيّ، وخَالِد هُوَ ابْن يزِيد الجُمَحِي الإسْكَنْدراني أَبُو عبد الرَّحِيم الْفَقِيه الْمُفْتِي، وَسَعِيد بن أبي هِلَال اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن بن فروخ الْفَقِيه الْمدنِي الْمَعْرُوف بربيعة الرَّأْي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك وَفِي اللبَاس عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّاء. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ ربعَة) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مربوعاً، والتأنيث بِاعْتِبَار النَّفس، يُقَال: رجل ربعَة وَامْرَأَة ربعَة. قَوْله: (لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير) ، تَفْسِير ربعَة، أَي: لَيْسَ بالطويل الباين المفرط فِي الطول مَعَ اضْطِرَاب الْقَامَة، قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ عيب فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث الْبَراء عَن قريب أَنه كَانَ مربوعاً، وَوَقع فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد الذهلي. فِي (الزهريات) بِإِسْنَاد حسن: كَانَ ربعَة وَهُوَ إِلَى الطول أقرب. قَوْله: (أَزْهَر اللَّوْن) أَي: أَبيض مشرب بحمرة، وَقد وَقع ذَلِك صَرِيحًا فِي مُسلم من حَدِيث أنس من وَجه آخر، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبيض مشرباً بياضه بحمرة، وَقيل: الْأَزْهَر أَبيض اللَّوْن ناصعاً. قَوْله: (لَيْسَ بأبيض أمهق) ، كَذَا وَقع فِي الْأُصُول، وَوَقع عِنْد الدَّاودِيّ تبعا لرِوَايَة الْمروزِي: أمهق لَيْسَ بأبيض، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أمهق أَبيض لَا فِي الْغَايَة، وَهُوَ معنى لَيْسَ بأبيض. وَقَالَ رؤبة: المهق خضرَة المَاء، وَلم يُوجد لفظ أمهق فِي بعض النّسخ وَهُوَ الْأَظْهر. وَفِي (الموعب) : الأمهق الْبيَاض الجصي، وَكَذَلِكَ الأمقه، وَقيل: هُوَ بَيَاض فِي زرقة، وَامْرَأَة مهقاء ومقهاء، وَقَالَ بَعضهم: هما الشديدا الْبيَاض، وَعَن ابْن دُرَيْد: هُوَ بَيَاض سمج لَا يخالطه حمرَة وَلَا صفرَة. وَفِي (التَّهْذِيب) : بَيَاض لَيْسَ بنير. وَفِي (الْجَامِع) : بَيَاض شَدِيد مفتح، وَقيل: هُوَ شدَّة الخضرة. وَقَالَ عِيَاض: من روى أَنه لَيْسَ بالأبيض وَلَا الآدم فقد وهم، وَلَيْسَ بصواب، ورد عَلَيْهِ بِأَن المُرَاد أَنه لَيْسَ بالأبيض الشَّديد الْبيَاض، وَلَا بالآدم الشَّديد الأدمة، وَإِنَّمَا يخالط بياضه الْحمرَة، وَالْعرب قد تطلق على من كَانَ كَذَلِك أسمر، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أنس أخرجه أَحْمد وَالْبَزَّار وَابْن مَنْدَه بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ أسمر) ، وَفِي رِوَايَات كَثِيرَة مُخْتَلفَة، فَعِنْدَ النّظر يظْهر من مجموعها أَن المُرَاد بالسمرة: الْحمرَة الَّتِي تخالط الْبيَاض، وَأَن المُرَاد بالبياض الْمُثبت مَا يخالط الْحمرَة، والمنفي مَا لَا يخالطه، وَهُوَ الَّذِي تكرههُ الْعَرَب وتسميه أمهق، وَبِهَذَا يظْهر أَن رِوَايَة الْمروزِي: أمهق، لَيْسَ بأبيض، مَقْلُوبَة على أَنه يُمكن تَوْجِيهه بِمَا ذَكرْنَاهُ عَن الْكرْمَانِي آنِفا. قَوْله: (لَيْسَ بجعد قطط) ، الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، والقطط بِفتْحَتَيْنِ والجعودة فِي الشّعْر أَن لَا يتكسر وَلَا يسترسل، والقطط شَدِيد الجعودة. وَفِي (التَّلْوِيح) : الشّعْر القطط شَبيه بِشعر السودَان. قَوْله: (وَلَا سبط) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: من السبوطة وَهِي ضد الجعودة، وَالْحَاصِل أَنه: وسط بَين الجعودة والسبوطة، وَيُقَال: يَعْنِي شعره لَيْسَ بِهَاتَيْنِ الصفتين وَإِنَّمَا فِيهِ جعدة بصقلة. قَوْله: (رجل) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْجِيم وَقيل بِفَتْحِهَا وَقيل بسكونها، وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ رجل، أَي: مسترسل، وَقيل: منسرح. وَفِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَلم يكن بالجعد القطط وَلَا بالسبط، كَانَ جَعدًا رجلا. وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ: رجل، بِالْجَرِّ. قيل: إِنَّه وهم وَيُمكن تَوْجِيهه على أَنه جر بالمجاورة، ويروى فِي بعض الرِّوَايَات: رجل، بِفَتْح اللَّام وَتَشْديد الْجِيم، على أَنه فعل مَاض، فَإِن صحت هَذِه الرِّوَايَة فَلَا يظْهر وَجه وُقُوعه هَكَذَا إلاَّ بتعسف. قَوْله: (أنزل عَلَيْهِ) ، يَعْنِي: الْوَحْي، وَفِي رِوَايَة مَالك: بَعثه الله. قَوْله: (وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة) ، جملَة حَالية يَعْنِي: وعمره أَرْبَعُونَ سنة، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين، وَقيل: أنزل عَلَيْهِ الْوَحْي بعد أَرْبَعِينَ سنة وَعشرَة أَيَّام، وَقيل: وشهرين، وَذَلِكَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لسبع عشرَة خلت من شهر رَمَضَان، وَقيل:(16/105)
لسبع، وَقيل: لأَرْبَع وَعشْرين لَيْلَة مِنْهُ، فِيمَا ذكره ابْن عَسَاكِر، وَعَن أبي قلَابَة: نزل عَلَيْهِ الْوَحْي لثمان عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان، وَعند المَسْعُودِيّ: يَوْم الْإِثْنَيْنِ لعشر خلون من ربيع الأول، وَعند إِبْنِ إِسْحَاق: ابْتَدَأَ بالتنزيل يَوْم الْجُمُعَة من رَمَضَان بَغْتَة، وعمره أَرْبَعُونَ سنة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَهُوَ تَاسِع شباط لسبعمائة وَأَرْبَعَة وَعشْرين عَاما من سني ذِي القرنين، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان خلون من ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين من الْفِيل، وَقيل: فِي أول ربيع، وَفِي (تَارِيخ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْفَسَوِي) : على رَأس خمس عشرَة سنة من بُنيان الْكَعْبَة، وَعَن مَكْحُول: أُوحِي إِلَيْهِ بعد اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين سنة، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وَابْن أبي عَاصِم والدولابي فِي (تَارِيخه) : نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة. وَفِي (تَارِيخ أبي عبد الرَّحْمَن العتقي) : وَهُوَ ابْن خمس وَأَرْبَعين سنة لسبع وَعشْرين من رَجَب، قَالَه الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال، وَالْأول بِأَن ذَلِك حِين حمي الْوَحْي وتتابع، وَعند الْحَاكِم مصححاً: أَن إسْرَافيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وكل بِهِ ثَلَاث سِنِين، قبل جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأنكر ذَلِك الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ: أهل الْعلم ببلدنا يُنكرُونَ أَن يكون وكل بِهِ غير جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزعم السُّهيْلي إِن إسْرَافيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تدرباً وتدريجاً لجبريل كَمَا كَانَ أول نبوته الرُّؤْيَا الصادقة. قَوْله: (فَلبث بِمَكَّة عشر سِنِين ينزل عَلَيْهِ) أَي: الْوَحْي، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه عَاشَ سِتِّينَ سنة، وَأخرج مُسلم من وَجه آخر عَن أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة، وَهُوَ مُوَافق لحَدِيث عَائِشَة الَّذِي مضى عَن قريب، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَالله أعلم. قَوْله: (وَلَيْسَ فِي رَأسه ولحيته عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء) ، يَعْنِي: دون ذَلِك. فَإِن قلت: روى ابْن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر: (كَانَ شيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحوا من عشْرين شَعْرَة بَيْضَاء فِي مقدمه) ، فَهَذَا وَحَدِيث أنس يَقْتَضِي أَن يكون أَكثر من عشرَة إِلَى مَا دون عشْرين، وَحَدِيث عبد الله بن بسر الْمَاضِي يدل على أَنَّهَا كَانَت عشرَة، لِأَنَّهُ قَالَ: عشر شَعرَات بِصِيغَة جمع الْقلَّة، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن جمع الْقلَّة لَا يزِيد على عشرَة. قلت: التَّوْفِيق بَين هَذَا أَن حَدِيث ابْن بسر فِي شَعرَات عنفقته، وَمَا زَاد على ذَلِك يكون فِي صدغيه، كَمَا فِي حَدِيث الْبَراء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَإِن قلت: روى ابْن سعد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن حميد عَن أنس فِي أثْنَاء حَدِيث، قَالَ: لم يبلغ مَا فِي لحيته من الشّعْر عشْرين شَعْرَة، قَالَ حميد: وَأَوْمَأَ إِلَى عنفقته سبع عشرَة، وروى أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ثَابت عَن أنس، قَالَ: (مَا كَانَ فِي رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولحيته إلاَّ سبع عشرَة أَو ثَمَان عشرَة) ، وروى ابْن أبي خَيْثَمَة من حَدِيث حميد عَن أنس: لم يكن فِي لحية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء، قَالَ حميد: كن سبع عشرَة، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن أنس، قَالَ: لَو عددت مَا أقبل من شَيْبه فِي رَأسه ولحيته مَا كنت أزيدهن على إِحْدَى عشرَة. قلت: هَذِه أَربع رِوَايَات عَن أنس كلهَا تدل على أَن شعراته الْبيض لم تبلغ عشْرين شَعْرَة، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة توضح بِأَن مَا دون الْعشْرين كَانَ سبع عشرَة أَو ثَمَان عشرَة، فَيكون كَمَا ذكرنَا الْعشْرَة على عنفقته وَالزَّائِد عَلَيْهَا يكون فِي بَقِيَّة لحيته، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الرِّوَايَة الثَّالِثَة: لم يكن فِي لحية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء، واللحية تَشْمَل العنفقة وَغَيرهَا، وَكَون الْعشْرَة على العنفقة بِحَدِيث عبد الله بن بسر، والبقية بالأحاديث الْأُخَر فِي بَقِيَّة لحيته، وَكَون حميد أَشَارَ إِلَى عنفقته سبع عشرَة لَيْسَ يفهم ذَلِك من نفس الحَدِيث، والْحَدِيث لَا يدل إلاَّ على مَا ذكرنَا من التَّوْفِيق، وَأما الرِّوَايَة الرَّابِعَة الَّتِي رَوَاهَا الْحَاكِم فَلَا تنَافِي كَون الْعشْرَة على العنفقة وَالْوَاحد على غَيرهَا، وَهَذَا الْموضع مَوضِع تَأمل. قَوْله: (قَالَ ربيعَة) ، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَسَأَلت) ، قيل: يُمكن أَن يكون المسؤول عَنهُ أنسا، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَاه مُحَمَّد ابْن عقيل: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ لأنس: هَل خضب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنِّي رَأَيْت شعرًا من شعره قد لون؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا الْأَثر قد لون من الطّيب الَّذِي كَانَ يطيب بِهِ شعر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ الَّذِي غير لَونه فَيحْتَمل أَن يكون ربيعَة سَأَلَ أنسا عَن ذَلِك فَأَجَابَهُ بقوله: أَحْمَر من الطّيب، يَعْنِي لم يخضب، وَالله أعلم.
8453 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبَرَنَا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بالطَّوِيلِ البائِنِ ولاَ بالقَصِيرِ وَلَا بالأبْيَضِ الأمْهَقِ ولَيْسَ بالآدَمِ ولَيْسَ بالجَعْدِ القطَطِ ولاَ بالسَّبْطِ بَعَثَهُ(16/106)
الله علَى رأسِ أرْبَعِينَ سَنَةً فأقامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنينَ وبِالمَدِينَةِ عَشْرِ سِنينَ فتَوَفَّاهُ الله ولَيْسَ فِي رَأسِهِ ولِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ. (انْظُر الحَدِيث 7453 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَهَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس من رِوَايَة ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن. وَالْكَلَام فِيهِ قد مر عَن قريب، وَهَذَا الحَدِيث يَقْتَضِي أَنه عَاشَ سِتِّينَ سنة، وروى مُسلم من وَجه آخر عَن أنس: أَنه عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة، وَهَذَا مُوَافق لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عنهَا الْمَاضِي عَن قريب. وَهَذَا قَول الْجُمْهُور، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا بُد أَن يكون الصَّحِيح أَحدهمَا قلت: كِلَاهُمَا صَحِيح، وَيحمل رِوَايَة السِّتين على إِلْغَاء الْكسر.
9453 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ سَعِيدٍ أبُو عَبْدِ الله حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدَّثَنا إبْرَاهِيمُ ابنُ يُوسُفَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ يقُولُ كانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْسَنَ النَّاسِ وجْهاً وأحْسَنَهُ خَلْقاً لَيْسَ بالطَّوِيلِ البائِنِ وَلَا بالقَصِيرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأحمد بن سعيد بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله الْمروزِي الْمَعْرُوف بالرباطي، مَاتَ يَوْم عَاشُورَاء أَو النّصْف من محرم سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا وَإِسْحَاق بن مَنْصُور أَبُو عبد الله السَّلُولي الْكُوفِي وَإِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن إِسْحَاق يروي عَن أَبِيه يُوسُف بن إِسْحَاق، ويوسف يروي عَن جده أبي إِسْحَاق السبيعِي، واسْمه: عَمْرو بن عبد الله، لِأَن إِسْحَاق يُقَال: إِنَّه مَاتَ قبل أَبِيه أبي إِسْحَاق!
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي كريب.
قَوْله: (وَأحسنه خلقا) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَضَبطه ابْن التِّين بِضَم أَوله، وَاسْتشْهدَ بقوله تَعَالَى: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} (الْقَلَم: 4) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (وَأحسنه خلقا وخلقاً) . قَوْله: (الْبَائِن) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة من: بَان، أَي: ظهر على غَيره أَو فَارق من سواهُ.
0553 - حدَّثنا أبُو نَعَيْمٍ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سألْتُ أنَسَاً هَلْ خَضَبَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ إنَّمَا كانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَهَمَّام بن يحيى العوذي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن أبي مُوسَى. قَوْله: (شَيْء) ، أَي: من الشيب، يُرِيد أَنه لم يبلغ الخضاب لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ شَيْء من الشيب إلاَّ قَلِيلا فِي صدغيه لم يحْتَج إِلَى التخضيب. قَوْله: (فِي صدغيه) ، الصدغ مَا بَين الْأذن وَالْعين، وَيُسمى أَيْضا الشّعْر المتدلي عَلَيْهِ صدغاً. فَإِن قلت: روى ابْن عمر فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصْبغ من الصُّفْرَة. قلت: صبغ فِي وَقت وَتَركه فِي مُعظم الْأَوْقَات، فَأخْبر كل بِمَا رأى، وَكِلَاهُمَا صادقان. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث يدل على أَن بعض الشيب كَانَ فِي صدغيه، وَفِي حَدِيث عبد الله بن بسر: كَانَ على عنفقته؟ قلت: يجمع بَينهمَا بِمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس، قَالَ: (لم يخضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَانَ الْبيَاض فِي عنفقته وَفِي الصدغين وَفِي الرَّأْس نبذ، أَي: متفرق) ، فَإِن قلت: أخرج الْحَاكِم من حَدِيث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (مَا شانه الله ببيضاء) . قلت: هَذَا مَحْمُول على أَن تِلْكَ الشعرات الْبيض لم يتَغَيَّر بهَا شَيْء من حسنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
1553 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرْبُوعَاً بَعيد مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أذُنِهِ رأيْتُهُ فِي حُلَّة حَمْرَاءَ لَمْ أرَ شَيْئاً قَطُّ أحْسَنَ مِنْهُ قَالَ يُوسُفُ بنُ أبِي إسْحَاقَ عنْ أبِيهِ إلَى مَنْكِبَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو إِسْحَاق مر الْآن، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن أبي الْوَلِيد مُخْتَصرا.(16/107)
وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس عَن حَفْص بن عمر بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان وَالْأَدب عَن بنْدَار بِبَعْضِه، وَفِي الشَّمَائِل عَن بنْدَار بِتَمَامِهِ وَعَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن عَليّ بن الْحُسَيْن وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي.
قَوْله: (مربوعاً) وَهُوَ معنى قَوْله: (ربعَة) فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة. قَوْله: (بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ) ، أَي عريض أَعلَى الظّهْر، وَوَقع فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد ابْن سعد: رحب الصَّدْر. قَوْله: (أُذُنه) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أُذُنَيْهِ) بالتثنية، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: تكَاد جمته تصيب شحمة أُذُنَيْهِ. قَوْله: (قَالَ يُوسُف بن أبي إِسْحَاق) ، نسبه إِلَى جده لِأَنَّهُ ذكر الْأَب وَأَرَادَ الْجد مجَازًا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الضَّمِير فِي أَبِيه يرجع إِلَى إِسْحَاق لَا إِلَى يُوسُف، لِأَن يُوسُف لَا يروي إلاَّ عَن الْجد. قَوْله: (إِلَى مَنْكِبَيْه) ، أَي: يبلغ الجمة إِلَى مَنْكِبَيْه، وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ قبل عَن أَحْمد بن سعد عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن يُوسُف حَدثنَا أبي عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء، وَلكنه اخْتَصَرَهُ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله (يبلغ شحمة أُذُنَيْهِ) ، مُغَاير لقَوْله: مَنْكِبَيْه، ورد بِأَن المُرَاد أَن مُعظم شعره كَانَ عِنْد شحمة أُذُنه، وَمَا استرسل مِنْهُ مُتَّصِل إِلَى الْمنْكب، أَو يحمل على حالتين.
2553 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا زُهَيْرٌ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سُئِلَ البَرَاءُ أكانَ وجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَ السَّيْفِ قَالَ لَا بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَزُهَيْر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن سُفْيَان بن وَكِيع.
قَوْله: (أَكَانَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الإستخبار. قَوْله: (مثل السَّيْف) ، يحْتَمل أَنه أَرَادَ: مثل السَّيْف فِي الطول، قَالَ الْبَراء: لَا بل مثل الْقَمَر فِي التدوير، وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ مثل السَّيْف فِي اللمعان والصقال، فَقَالَ الْبَراء: لَا بل مثل الْقَمَر الَّذِي فَوق السَّيْف فِي ذَلِك، لِأَن الْقَمَر يَشْمَل التدوير واللمعان، بل التَّشْبِيه بِهِ أبلغ لِأَن التَّشْبِيه بالقمر لوجه الممدوح شَائِع ذائع، وَكَذَا بالشمس، وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: أَن رجلا قَالَ لَهُ: أَكَانَ وَجه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل السَّيْف؟ قَالَ: لَا بل مثل الشَّمْس وَالْقَمَر مستديراً، وَقد أَشَارَ بقوله: مستديراً، إِلَى أَنه جمع التدوير مَعَ كَونه مثل الشَّمْس وَالْقَمَر فِي الْإِشْرَاق واللمعان والصقال، فَكَأَنَّهُ نبه فِي حَدِيثه أَنه جمع الْحسن والاستدارة، وَهَذَا الحَدِيث يُؤَيّد الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورين.
3553 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مَنْصُورٍ أبُو عَلِيٍّ حدَّثنَا حَجَّاحُ بنُ مُحَمَّدٍ الأعْوَرُ بالمَصِّيصَةِ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ قَالَ خَرَجَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالهاجِرَةِ إِلَى البَطْحَاءِ فتَوَضَّأ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وبَيْنَ يَدَيْهِ عنْزَةٌ وزَادَ فيهِ عَوْنٌ عنْ أبِيهِ عنْ أبي جُحَيْفَةَ قَالَ كانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا المَارَّةُ وقامَ الْنَّاسُ فجَعَلُوا يأخُذُونَ يَدَيْهِ فيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ قَالَ فأخَذْتُ بِيَدِهِ فوَضَعْتُهَا علَى وَجْهِي فإذَا هِيَ أبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وأطْيَبُ رائِحَةً مِنَ المِسْكِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن مَنْصُور أَبُو عَليّ الصُّوفِي الْبَغْدَادِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَلم يخرج عَنهُ غير هَذَا الحَدِيث، وَالْحكم، بِفتْحَتَيْنِ: ابْن عتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر غير مرّة، وَهَذَا الحَدِيث مر فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة إِلَى آخِره، وَمر أَيْضا فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة إِلَى العنزة، فَأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة، قَالَ: حَدثنَا عون بن أبي جُحَيْفَة، قَالَ سَمِعت أبي قَالَ: (خرج علينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بِالْمصِّيصَةِ) بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة وَكسرهَا وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الصَّاد الثَّانِيَة وَفِي آخرهَا هَاء: وَهِي مَدِينَة مَشْهُورَة بناها أَبُو(16/108)
جَعْفَر الْمَنْصُور على نهر جيحان وَهُوَ الَّذِي تسميه الْقَوْم جاهان. وَقَالَ الْبكْرِيّ: ثغر من ثغور الشَّام. قلت: رَأَيْتهَا فِي سفرتي إِلَى بِلَاد الرّوم وغالبها خراب، وَهِي فِي بِلَاد الأرمن بِالْقربِ من مَدِينَة تسمى أذنة، وَإِنَّمَا قَالَ: بِالْمصِّيصَةِ، لِأَن حجاج بن مُحَمَّد سكن المصيصة وَأَصله ترمذي وَمَات بِبَغْدَاد سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ. قَوْله: (بالهاجرة) ، وَهِي: نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر. قَوْله: (إِلَى الْبَطْحَاء) ، وَهُوَ المسيل الْوَاسِع الَّذِي فِيهِ دقاق الْحَصَى. قَوْله: (عنزة) ، بِفَتْح النُّون: أطول من الْعَصَا وأقصر من الرمْح وَفِيه زج. قَوْله: (قَالَ شُعْبَة) ، هُوَ مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (وَزَاد فِيهِ عون) ، أَي: زَاد الحكم فِي إِسْنَاد الحَدِيث: حَدثنَا عون عَن أَبِيه عَن أبي جُحَيْفَة، وَيَأْتِي هَذَا فِي آخر الْبَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَمَا وَقع فِي بعض النّسخ: عون عَن أَبِيه عَن أبي جُحَيْفَة، سَهْو لِأَن عوناً هُوَ ابْن أبي جُحَيْفَة، وَالصَّوَاب نقص الْأَب. قلت: فِي كتاب الصَّلَاة الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: حَدثنَا عون ابْن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت أبي، قَالَ: خرج علينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث، وَهنا عون عَن أَبِيه عَن أبي جُحَيْفَة، فَلفظ: عَن أَبِيه، حَشْو لَا طائل تَحْتَهُ، وَالصَّوَاب ترك هَذِه اللَّفْظَة. قَوْله: (فَإِذا هِيَ) ، أَي: يَده أبرد من الثَّلج، وَالْحكمَة فِيهِ أَن برودة يَده تدل على سَلامَة جسده من الْعِلَل والعوارض. قَوْله: (وَأطيب رَائِحَة من الْمسك) ، قَالَت الْعلمَاء: كَانَت هَذِه الرّيح الطّيبَة صفته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن لم يمس طيبا، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يسْتَعْمل الطّيب فِي كثير من الْأَوْقَات مُبَالغَة فِي طيب رِيحه لملاقاة الْمَلَائِكَة وَأخذ الْوَحْي الْكَرِيم ومجالسة الْمُسلمين، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث وَائِل بن حجر: (أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدَلْو من مَاء فَشرب مِنْهُ ثمَّ مج فِي الدَّلْو ثمَّ فِي الْبِئْر، ففاح مِنْهَا ريح الْمسك) . وروى أَبُو يعلى وَالْبَزَّار بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا مر فِي طَرِيق من طرق الْمَدِينَة وجد مِنْهُ رَائِحَة الْمسك، فَيُقَال: مر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الطَّرِيق) .
4553 - حدَّثنا عَبْدَانُ حدَّثنا عَبْدُ الله أخبَرَنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجْوَدَ النَّاسِ وأجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رمَضَانَ حِينَ يلْقَاهُ جِبرِيلُ وكانَ جِبْرِيلُ علَيْهِ السَّلامُ يَلْقَاهُ فِي كلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ فلَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المرْسَلَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوْصُوفا بالجود. وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَهَذَا الحَدِيث مر فِي أَوَائِل: بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الْوَحْي، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: أَحدهمَا عَن عَبْدَانِ أَيْضا إِلَى آخِره، نَحوه. وَالْآخر: عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الصّيام فِي: بَاب أَجود مَا يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون فِي رَمَضَان، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره. قَوْله: (أَجود النَّاس) أَي: أَعْطَاهُم وَأكْرمهمْ. قَوْله: (من الرّيح الْمُرْسلَة) أَي: المبعوثة لنفع النَّاس.
555 - حدَّثنا يَحْيَى حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرنِي ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ علَيْهَا مَسْرُوراً تَبْرُقُ أسَارِيرُ وجْهِهِ فَقَالَ ألَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ المُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وأُسَامَةَ ورَأي أقْدَامَهُمَا إنَّ بَعْضَ هاذِهِ الأقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تبرق أسارير وَجهه) فَإِن هَذَا من جملَة صِفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحيى: إِمَّا ابْن مُوسَى بن عبد ربه السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَإِمَّا يحيى بن جَعْفَر ابْن أعين البيكندي، وَكِلَاهُمَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَكِلَاهُمَا رويا عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.(16/109)
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق.
قَوْله: (مَسْرُورا) حَال، أَي: فرحان. قَوْله: (تبرق) بِضَم الرَّاء، أَي: تضيء وتستنير من الْفَرح، قَوْله: (أسارير وَجهه) الأسارير جمع الْأَسْرَار، وَهُوَ جمع السرر: وَهِي الخطوط الَّتِي تكون فِي الجبين، وبرقانها يكون عِنْد الْفَرح. قَوْله: (ألم تسمعي) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة: ألم تسمعي مَا قَالَ المدلجي؟ بِضَم الْمِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالجيم، واسْمه: مجزز، بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم وَكسر الزَّاي الأولى الْمُشَدّدَة، ونسبته إِلَى مُدْلِج بن مرّة بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، بطن من كنَانَة كَبِير مَشْهُور بالقيافة، والقائف هُوَ من يتتبع الْآثَار ويعرفها وَيعرف شبه الرجل بأَخيه وَأَبِيهِ، وَالْجمع: الْقَافة، يُقَال: فلَان يقوف الْأَثر ويقتافه قيافة، مثل: قفا الْأَثر واقتفاه، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تقدح فِي نسب أُسَامَة بن زيد لكَونه أسود وَزيد أَبيض، فَمر بهما مجزز وهما تَحت قطيفة قد بَدَت أقدامهما من تحتهَا، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض، فَلَمَّا قضى هَذَا الْقَائِف بإلحاق نسبه، وَكَانَت الْعَرَب تعتمد قَول الْقَائِف ويعترفون بحقية القيافة، فَرح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكَونه زجرا لَهُم عَن الطعْن فِي النّسَب، وَكَانَت أم أُسَامَة بركَة حبشية سَوْدَاء، وَكَانَ أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب بن عبد الْعُزَّى، وَأمه أم أَيمن حاضنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُسمى حب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَاخْتلفُوا فِي الْعَمَل بقول الْقَائِف: فأثبته الشَّافِعِي وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث، وَالْمَشْهُور عَن مَالك إثْبَاته فِي الْإِمَاء ونفيه فِي الْحَرَائِر، ونفاه أَبُو حنيفَة مُطلقًا لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} (الْإِسْرَاء: 63) . وَلَيْسَ فِي حَدِيث المدلجي دَلِيل على وجوب الحكم بقول الْقَافة لِأَن أُسَامَة كَانَ نسبه ثَابتا من زيد قبل ذَلِك، وَلم يحْتَج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك إِلَى قَول أحد، وَإِنَّمَا تعجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِصَابَة مجزز كَمَا يتعجب من ظن الرجل الَّذِي يُصِيب ظَنّه حَقِيقَة الشَّيْء الَّذِي ظَنّه، وَلَا يثبت الحكم بذلك، وَترك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يتعاطَ فِي ذَلِك إِثْبَات مَا لم يكن ثَابتا.
6553 - حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ عَبْدِ الله بنِ كَعْبٍ أنَّ عبْدَ الله بنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بنَ مالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عنْ تبُوكَ قَالَ فلَمَّا سلَّمْتُ علَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ يَبْرُقُ وجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وكانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حتَّى كأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وكُنَّا نَعْرِفُ ذالِكَ مِنْهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استنار وَجهه) إِلَى آخِره، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ الْمَدِينِيّ، يكنى أَبَا الْخطاب، عبد الله بن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ رُوِيَ عَن أَبِيه كَعْب بن مَالك بن أبي كَعْب بن الْقَيْن بن كَعْب بن سَواد بن غنم ابْن كَعْب بن سَلمَة السّلمِيّ الخزرجي الْأنْصَارِيّ الْمدنِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مصريان، وعقيلاً أيلي، والبقية مدنيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد وهم: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الله، وَعبد الله بن كَعْب. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب عَن الْجد.
وَحَدِيث كَعْب هَذَا قِطْعَة من تَوْبَته، وَسَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي الْمَغَازِي. وَأخرجه فِي مَوَاضِع مُخْتَصرا وَمُطَولًا، فَفِي الْمَاضِي أخرج فِي الْوَصَايَا قِطْعَة وَفِي الْجِهَاد قِطْعَة، وَفِي الَّذِي يَأْتِي فِي وُفُود الْأَنْصَار وَفِي موضِعين من الْمَغَازِي وَفِي أَرْبَعَة مَوَاضِع من التَّفْسِير وَفِي الْأَحْكَام مطولا ومختصراً، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي الطَّاهِر وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن أبي الطَّاهِر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان وَعَن مُحَمَّد بن جبلة وَمُحَمّد بن يحيى وَمُحَمّد بن معدان.
قَوْله: (فَلَمَّا سلمت) ، وَجَوَابه مَحْذُوف تَقْدِيره: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا. وَقَوله: (وَهُوَ يَبْرق وَجهه) ، جملَة حَالية وَمعنى: يَبْرق، يلمع. قَوْله: (إِذا سر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من السرُور. قَوْله: (استنار) ، أَي: أَضَاء وتنور، قَوْله: (كَأَنَّهُ قِطْعَة قمر) ، أَي: كَأَن الْموضع الَّذِي تبين فِيهِ السرُور، وَهُوَ جَبينه قِطْعَة قمر.(16/110)
7553 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ عَمْرو عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرونِ بَنِي آدَمَ قَرْناً فَقَرْناً حتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فيهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي كَونه من خير قُرُون، وَهُوَ صفة من صِفَاته، وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْقَارِي من القارة حَلِيف بني زهرَة أَصله مدنِي سكن الْإسْكَنْدَريَّة، وَعَمْرو هُوَ ابْن أبي عَمْرو، واسْمه: ميسرَة مولى الْمطلب. والْحَدِيث لم يُخرجهُ إلاَّ هُوَ.
قَوْله: (قُرُون) جمع قرن وَهُوَ: النَّاس المجتمعون فِي عصر وَاحِد، وَقيل: مائَة سنة، وَقيل: سَبْعُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاثُونَ سنة. قَوْله: (قرنا فقرناً) ، أَي: نقيت من خير الْقُرُون أَو أفضلهَا، واعتبرت قرنا فقرناً من أَوله إِلَى آخِره، فَهُوَ حَال للتفضيل، فَخير الْقُرُون قرنه ثمَّ قرن الصَّحَابَة ثمَّ قرن التَّابِعين. قَوْله: (كنت فِيهِ) ، ويروى: كنت مَعَه.
8553 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله ابنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ وكانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرِقُونَ رُؤُوسَهُمْ فَكانَ أهْلُ الكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُؤُوسَهُمْ وكانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَبُّ مُوافَقَةَ أهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ فَرَقَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأسَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه فِي الْأَخِيرَة فرق رَأسه، وَهُوَ صفة من صِفَاته، وَرِجَاله مروا عَن قريب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك، وَفِي اللبَاس عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم وَمُحَمّد بن جَعْفَر، وَعَن أبي الطَّاهِر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي التَّرَجُّل عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن سُوَيْد بن نصر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (يسدل شعره) ، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الدَّال، وَيجوز ضمهَا أَي: يتْرك شعر ناصيته على جَبينه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: المُرَاد إرْسَاله على الجبين واتخاذه كالقصة، بِضَم الْقَاف وبالصاد الْمُهْملَة. قَوْله: (وَكَانَ الْمُشْركُونَ يفرقون) ، بِضَم الرَّاء وَكسرهَا، أَي: يلقون شعر رَأْسهمْ إِلَى جانبيه وَلَا يتركون مِنْهُ شَيْئا على جبهتهم. قَوْله: (يحب مُوَافقَة أهل الْكتاب) لأَنهم أقرب إِلَى الْحق من الْمُشْركين عَبدة الْأَوْثَان، وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بِاتِّبَاع شريعتهم فِيمَا لم يُوح إِلَيْهِ فِيهِ شَيْء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: احْتج بِهِ بَعضهم على أَن شرع من قبلنَا شرع لنا، وَهُوَ ضَعِيف لِأَنَّهُ قَالَ: كَانَ يحب من الْمحبَّة، وَلَو كَانَ شرعهم شَرعه لكَانَتْ الْمُوَافقَة وَاجِبَة. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه ضَعِيف، لِأَن الْمُحَقِّقين من الْعلمَاء قَالُوا: شرع من قبلنَا يلْزمنَا إلاَّ إِذا قصه الله بالإنكار. قَوْله: (ثمَّ فرق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَأسه) أَي: شعر رَأسه، يَعْنِي أَلْقَاهُ إِلَى جَانِبي رَأسه فَلم يتْرك مِنْهُ شَيْئا على جَبهته. وَقد روى ابْن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: (أَنا فرقت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه) أَي: شعر رَأسه على يَافُوخه.
9553 - حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبِي حَمْزَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وائلٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عَمْرو رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَمْ يَكنِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاحِشَاً ولاَ مُتَفَحِّشاً وكانَ يَقُولُ إنَّ منْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي الْمروزِي، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، ومسروق بن بالأجدع.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن حَفْص بن عمر وَعَن قُتَيْبَة وَعَن عمر بن حَفْص. وَأخرج حَدِيث حَفْص بن عمر فِي مَنَاقِب عبد الله بن(16/111)
مَسْعُود. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن أبي سعيد الْأَشَج. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن مَحْمُود بن غيلَان.
قَوْله: (لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاحِشا) من الْفُحْش، وَأَصله الزِّيَادَة بِالْخرُوجِ عَن الْحَد. قَوْله: (وَلَا متفحشاً) أَي: وَلَا متكلفاً فِي الْفُحْش، حَاصله أَنه لم يكن الْفُحْش لَهُ لَا جبلياً وَلَا كسبياً. وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي عبد الله الجدلي، قَالَ: سَأَلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن خلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: (لم يكن فَاحِشا وَلَا متفحشاً، وَلَا سخاباً فِي الْأَسْوَاق، وَلَا يجزىء بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة، وَلَكِن يعْفُو ويصفح) . قَوْله: (أحسنكم أَخْلَاقًا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أحاسنكم) ، وَحسن الْخلق اخْتِيَار الْفَضَائِل فِيهِ وَترك الرذائل، وَهُوَ صفة الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، والأولياء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعند مُسلم من حَدِيث عَائِشَة (كَانَ: خلقه الْقُرْآن يغْضب لغضبه ويرضى لرضاه) .
0653 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّها قالَتْ مَا خُيِّرَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ أمْرَيْنِ إلاَّ أخَذَ أيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمَاً فَإِن كانَ إثْمَاً كانَ أبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِنَفْسِهِ إلاَّ أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله فيَنْتَقِمَ لله بِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن يحيى بن يحيى وقتيبة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي بِهِ مُخْتَصرا.
قَوْله: (مَا خير) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بَين أَمريْن) ، أَي: من أُمُور الدُّنْيَا، يدل عَلَيْهِ قَوْله: (مَا لم يكن إِثْمًا) ، لِأَن أُمُور الدّين لَا إِثْم فِيهَا. قَوْله: (أيسرهما) ، أَي: أسهلهما. قَوْله: (مَا لم يكن إِثْمًا) أَي: مَا لم يكن الأسهل إِثْمًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يخْتَار الأشق. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يُخَيّر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمريْن أَحدهمَا إِثْم؟ قلت: التَّخْيِير إِن كَانَ من الْكفَّار فَظَاهر، وَإِن كَانَ من الله وَالْمُسْلِمين فَمَعْنَاه: مَا لم يؤد إِلَى إِثْم، كالتخيير فِي المجاهدة فِي الْعِبَادَة والاقتصاد فِيهَا، فَإِن المجاهدة بِحَيْثُ ينجر إِلَى الْهَلَاك لَا تجوز. قَوْله: (وَمَا انتقم لنَفسِهِ) ، أَي: خَاصَّة. فَإِن قلت: أَمر بقتل عقبَة بن أبي معيط وَعبد الله بن خطل وَغَيرهمَا مِمَّن كَانَ يُؤْذِيه؟ قلت: كَانُوا مَعَ أذاهم لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا ينتهكون حرمات الله تَعَالَى، وَقيل: أَرَادَ أَنه لَا ينْتَقم إِذا أوذي فِي غير السَّبَب الَّذِي يخرج إِلَى الْكفْر، كَمَا عَفا عَن ذَلِك الْأَعرَابِي الَّذِي جَفا فِي رفع صَوته عَلَيْهِ، وَعَن ذَاك الآخر الَّذِي جبذ بردائه حَتَّى أثر فِي كتفه، وَحمل الدَّاودِيّ عدم الانتقام على مَا يخْتَص بِالْمَالِ، قَالَ: وَأما الْعرض فقد اقْتصّ مِمَّن نَالَ مِنْهُ. قَوْله: (إلاَّ أَن تنتهك) ، هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، أَي: لَكِن إِذا انتهكت حُرْمَة الله انتصر لله تَعَالَى وانتقم مِمَّن ارْتكب ذَلِك، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ: (وَمَا انتقم لنَفسِهِ إلاَّ أَن تنتهك حُرْمَة الله فَإِن انتهكت حُرْمَة الله كَانَ أَشد النَّاس غَضبا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله تَعَالَى) .
وَفِي الحَدِيث: الْأَخْذ بالأسهل والحث على الْعَفو والانتصار للدّين وَأَنه يسْتَحبّ للحكام التخلق بِهَذَا الْخلق الْكَرِيم فَلَا ينْتَقم لنَفسِهِ وَلَا يهمل حق الله تَعَالَى.
1653 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثَنا حَمَّادٌ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مَا مَسِسْتُ حَرِيرَاً ولاَ دِيبَاجَاً ألْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ شَمِمْتُ رِيحاً قَطُّ أوْ عَرْفَاً قَطُّ أطْيَبُ مِنْ رِيحِ أوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ من صِفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَفِي بعض النّسخ وَقع هَكَذَا، والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَأخرجه مُسلم بِمَعْنَاهُ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَنهُ.
قَوْله: (مَا مسست) ، بسينين مهملتين الأولى مَكْسُورَة وَيجوز فتحهَا وَالثَّانيَِة سَاكِنة وَكَذَا الْكَلَام فِي (شممت) . قَوْله: (وَلَا ديباجاً) وَفِي (الْمغرب) : الديباج(16/112)
الثَّوْب الَّذِي سداه وَلحمَته إبريسم، وَعِنْدهم اسْم للمنقش وَالْجمع: ديابيج. قلت: فعلى هَذَا يكون عطفه على الْحَرِير من عطف الْخَاص على الْعَام. قَوْله: (أَلين من كف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: أنعم. فَإِن قلت: هَذَا يُعَارضهُ مَا روى من حَدِيث هِنْد بن أبي هَالة الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن فِيهِ أَنه كَانَ شش الْكَفَّيْنِ والقدمين، أَي: غليظهما فِي خشونة. قلت: قيل: اللين فِي الْجلد والغلظ فِي الْعِظَام فيجتمع لَهُ نعومة الْبدن مَعَ الْقُوَّة، وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَزَّار من حَدِيث معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أردفني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلفه فِي سفر فَمَا مسست شَيْئا قطّ أَلين من جلده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (أَو عرفا) ، هُوَ شكّ من الرَّاوِي، لِأَن الْعرف، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا فَاء: هُوَ الرّيح أَيْضا. قَوْله: (من ريح أَو عرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهَذَا أَيْضا شكّ من الرَّاوِي. وَقَوله: (من ريح) ، بِكَسْر الْحَاء بِلَا تَنْوِين لِأَنَّهُ فِي حكم الْمُضَاف، تَقْدِيره: من ريح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو من عرفه، وَهَذَا كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(بَين ذراعي وجبهة الْأسد)
تَقْدِيره: بَين ذراعي الْأسد وجبهته، فقد أَدخل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ شَيْئا، وَالْأَصْل عَدمه. قيل: وَوَقع فِي بعض النّسخ: أَو عرقاً، بِفَتْح الرَّاء وبالقاف، وَكلمَة: أَو، وعَلى هَذَا تكون للتنويع دون الشَّك، وَالْمَعْرُوف من الرِّوَايَة هِيَ الأولى.
2653 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبي عُتْبَةَ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشَدَّ حَياءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ صفة من صِفَاته الْعَظِيمَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبد الله بن أبي عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: مولى أنس بن مَالك، مر فِي الْحَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن بنْدَار عَن يحيى وَابْن مهْدي وَفِي الْأَدَب عَن عَليّ بن أبي الْجَعْد وَعَن عَبْدَانِ عَن عبيد الله. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى وَأحمد بن سِنَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن بنْدَار.
قَوْله: (حَيَاء) ، نصب على التَّمْيِيز وَهُوَ تغير وانكسار عِنْد خوف مَا يعاب أَو يذم (والعذراء) الْبكر لِأَن عذرتها وَهِي: جلدَة الْبكارَة بَاقِيَة. قَوْله: (فِي خدرها) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: أَي: فِي سترهَا، وَيُقَال: الخدر ستر يَجْعَل للبكر فِي جنب الْبَيْت. فَإِن قلت: مبْنى أَمر الْعَذْرَاء على السّتْر، فَمَا فَائِدَة قَوْله: (فِي خدرها؟) قلت: هَذَا من بَاب التَّعْمِيم للْمُبَالَغَة لِأَن الْعَذْرَاء فِي الْخلْوَة يشْتَد حياؤها أَكثر مِمَّا تكون خَارِجَة عَن الخدر لكَون الْخلْوَة مَظَنَّة وُقُوع الْفِعْل بهَا، ثمَّ مَحل الْحيَاء فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غير حُدُود الله، وَلِهَذَا قَالَ للَّذي اعْترف بِالزِّنَا: أنكتها؟ وَلم يكنِ.
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا يَحْيَى وابْنُ مَهْدِيٍّ قالاَ حدَّثنا شُعْبَةُ مِثْلَهُ وإذَا كَرِهَ شَيْئَاً عُرِفَ فِي وَجْهِهِ
هَذَا طَرِيق فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار وَهُوَ عَن بنْدَار عَن يحيى الْقطَّان وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي كِلَاهُمَا رويا عَن شُعْبَة. قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور سنداً ومتناً. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي مُوسَى مُحَمَّد ابْن الْمثنى عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بِسَنَدِهِ، وَقَالَ فِيهِ: سَمِعت عبد الله بن أبي عتبَة يَقُول: سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يَقُول ... إِلَخ. . قَوْله: (وَإِذا كره شَيْئا عرف فِي وَجهه) ، هَذِه زِيَادَة مُحَمَّد بن بشار على رِوَايَة مُسَدّد الْمَذْكُورَة، وَمعنى: عرف فِي وَجهه، أَنه لَا يواجه أحدا بِمَا يكرههُ بل يتَغَيَّر وَجهه فَيعرف أَصْحَابه كَرَاهَته لذَلِك.
3653 - حدَّثني عَلِيُّ بنُ الْجَعْدِ أخبرَنا شُعْبَةُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مَا عابَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعامَاً قَطُّ إنِ اشْتَهَاهُ أكَلَهُ وإلاَّ تَرَكَهُ. (الحَدِيث 3653 طرفه فِي: 9045) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ من جملَة صِفَاته الْحَسَنَة. وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ وَلَيْسَ هُوَ أَبَا حَازِم سَلمَة بن دِينَار صَاحب سهل بن سعد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن(16/113)
كثير. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أَحْمد بن يُونُس وَعَن أبي كريب وَابْن الْمثنى وَعَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر بن حَرْب. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن أَحْمد بن مُحَمَّد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يشتهه (تَركه) وَهُوَ من جملَة خصاله الشَّرِيفَة.
4653 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا بَكْرُ بنُ مُضَرَ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةَ عنِ الأعْرَجِ عنْ عبْدِ الله بنِ مالِكٍ بنِ بُحَيْنَةَ الأسْدِيِّ قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى نَرَى إبْطَيْهِ قَالَ وَقَالَ ابنُ بُكَيْرٍ حدَّثَنا بَكْرٌ بَياضَ إبْطَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 093 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بَيَاض إبطَيْهِ) لِأَن هَذَا أَيْضا من صِفَاته الجميلة. والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَمضى الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب يُبْدِي ضبعيه ويجافي فِي السُّجُود.
قَوْله: (مَالك) ، بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (ابْن بُحَيْنَة) ، صفة لعبد الله لَا لمَالِك، و: بُحَيْنَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: وَهُوَ اسْم أم عبد الله، فَجمع فِي نسبه بَين الْأَب وَالأُم. قَوْله: (الْأَسدي) ، بِسُكُون السِّين وَيُقَال فِيهِ: الْأَزْدِيّ بالزاي الساكنة، وَهَذَا مَشْهُور فِي هَذِه النِّسْبَة، يُقَال: بالزاي وبالسين. قَوْله: (فرج بَين يَدَيْهِ) ، يَعْنِي: فتح وَلم يضم مرفقيه إِلَيْهِ، وَهَذِه سنة السُّجُود. قَوْله: (حَتَّى نرى) ، بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر. قَوْله: (وَقَالَ ابْن بكير) ، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، قَالَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (بكر) ، هُوَ بكر بن مُضر الْمَذْكُور، أَرَادَ أَن يحيى بن بكير زَاد لَفْظَة: بَيَاض، على لَفْظَة: إبطَيْهِ، وَفِي رِوَايَة قُتَيْبَة: حَتَّى نرى إبطَيْهِ، بِدُونِ لَفْظَة: بَيَاض، قيل: المُرَاد بِوَصْف إبطَيْهِ بالبياض أَنه لم يكن تحتهما شعر فَكَانَا كلون جسده، وَقيل: لدوام تعاهده لَهُ لَا يبْقى فِيهِ شعر. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة مُسلم: حَتَّى رَأينَا عفرَة إبطَيْهِ؟ قلت: لَا تنَافِي بَينهمَا لِأَن العفرة هِيَ الْبيَاض لَيْسَ بالناصع، وَهَذَا شَأْن المغابن يكون لَوْنهَا فِي الْبيَاض دون لون بَقِيَّة الْجَسَد.
5653 - حدَّثنا عبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ قَتادَةَ أنَّ أنَسَاً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُمْ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلاَّ فِي الاسْتِسْقَاءِ فإنَّهُ كانَ يَرْفَعُ يدَيْهِ حَتَّى يُرَي بَياضُ إبْطَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 1301 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ) وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الاسْتِسْقَاء فِي: بَاب رفع الإِمَام يَده فِي الاسْتِسْقَاء.
قَوْله: (كَانَ لَا يرفع) إِلَى آخِره، ظَاهره أَنه لم يرفع إلاَّ فِي الاسْتِسْقَاء، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل ثَبت الرّفْع فِي الدُّعَاء فِي مَوَاطِن فيؤول على أَنه لم يرفع الرّفْع البليغ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إلاَّ فِي الاسْتِسْقَاء، فَإِنَّهُ كَانَ يرفع الرّفْع البليغ حَتَّى يُرى بَيَاض إبطَيْهِ.
وَقَالَ أبُو مُوساى دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَفَعَ يَدَيْهُ ورَأيْتُ بَياضَ إبْطَيْهِ
أَبُو مُوسَى هُوَ مُحَمَّد بن الْمثنى يعرف بالزمن الْعَنْبَري شيخ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَهَذَا طرف علقه من حَدِيث سَيَأْتِي مَوْصُولا فِي المناقب فِي تَرْجَمَة أبي عَامر الْأَشْعَرِيّ.
6653 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سابِقٍ حدَّثنا مالِكُ بنُ مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَوْنَ بنِ أبِي جُحَيْفَةَ ذَكَرَ عَنْ أبِيهِ قَالَ دُفِعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ بالأبْطَحِ فِي قُبَّةِ كانَ بالْهَاجِرَةِ خَرَجَ بِلالٌ فناداى بالصَّلاَةِ ثُمَّ دَخَلَ فأخْرَجَ فَضْلَ وَضُوءٍ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوقَعَ النَّاسُ علَيْهِ يأخُذُونَ مِنْهُ ثُمَّ دَخَلَ فأخْرَج العَنْزَةَ وخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كأنِّي أنْظُرُ إِلَى وَبِيص(16/114)
ساقَيْهِ فرَكَزَ العَنْزَةَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهُرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الحِمارُ والمَرْأةُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَأَنِّي أنظر إِلَى وبيض سَاقيه) بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة: وَهُوَ البريق وزنا وَمعنى. وَالْحسن بن الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي بعض النّسخ: الْحسن ابْن الصَّباح الْبَزَّار، بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، وَهُوَ واسطي سكن بَغْدَاد، وَمُحَمّد بن سَابق أَيْضا من شُيُوخ البُخَارِيّ روى عَنهُ هُنَا بالواسطة، وروى عَنهُ بِدُونِ الْوَاسِطَة فِي الْوَصَايَا حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَابق أَو الْفضل بن يَعْقُوب عَنهُ، وَمَالك بن مغول بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة: ابْن عَاصِم أَبُو عبد الله البَجلِيّ الْكُوفِي، وَأَبُو جُحَيْفَة اسْمه وهب وَقد مر عَن قريب، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس.
قَوْله: (دفعت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على صِيغَة الْمَجْهُول، يَعْنِي: وصلت إِلَيْهِ من غير قصد. قَوْله: (وَهُوَ بِالْأَبْطح) جملَة حَالية، والأبطح أبطح مَكَّة وَهُوَ مسيل واديها وَيجمع على البطاح والأباطح. قَوْله: (فِي قبَّة) أَيْضا حَال. قَوْله: (بالهاجرة) وَهُوَ نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر. قَوْله: (فَأخْرج) من الْإِخْرَاج. قَوْله: (فضل وضوء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (فَأخْرج العنزة) وَهُوَ مثل نصف الرمْح أَو أكبر شَيْئا. وفيهَا سِنَان مثل سِنَان الرمْح، والعكازة قريب مِنْهَا.
7653 - حدَّثني الحَسَنُ بنُ صَبَّاحٍ البَزَّارُ حدَّثنَا سُفْيَانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُحَدِّثُ حَدِيثَاً لَوْ عَدَّهُ الْعادُّ لأحْصَاهُ. (الحَدِيث 7653 طرفه فِي: 8653) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن من صِفَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الَّذِي سمع كَلَامه لَو أَرَادَ أَن يعد كَلِمَاته أَو مفرداته أَو حُرُوفه لعَدهَا، وَالْمرَاد بذلك الْمُبَالغَة فِي الترتيل والتفهيم.
وَالْحسن بن الصَّباح هَذَا هُوَ الَّذِي مضى فِي الحَدِيث السَّابِق، وَقيل: لَا بل غَيره، لِأَن الْحسن بن الصَّباح الَّذِي قبله هُوَ الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح الزَّعْفَرَانِي، نِسْبَة إِلَى جده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي نَحوه وَذكر فِيهِ قصَّة أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (لَو عدَّهُ العادُّ) ، لَو عَدَّ الْعَاد حَدِيثه، أَي: كَلِمَات حَدِيثه، لعده أَي: لقدر على عده، فَالشَّرْط وَالْجَزَاء متحدان ظَاهرا وَلكنه من قبيل قَوْله: {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها} (إِبْرَاهِيم: 47، النَّحْل: 81) . وَقد فسر: بِلَا تُطِيقُوا عدهَا وبلوغ آخرهَا.
8653 - وقالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّهُ قَالَ أخبرَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ أنَّهَا قالَتْ ألاَّ يُعْجِبُكَ أبُو فُلانٍ جاءَ فجَلَسَ إِلَى جانِبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْمِعُنِي ذالِكَ وكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقامَ قَبْلَ أنْ أقْضِيَ سُبْحَتِي ولَوْ أدْرَكْتُهُ لرَدَدْتُ علَيْهُ إنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كسَرْدِكُمْ. (انْظُر الحَدِيث 7653) .
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الذهلي فِي (الزهريات) عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث.
قَوْله: (أَبُو فلَان) كَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أَبَا فلَان، أما الرِّوَايَة الأولى فَلَا إِشْكَال فِيهَا، وَأما الثَّانِيَة فعلى لُغَة من قَالَ: (لَا وَلَو رَمَاه بأبا قبيس، قيل: المُرَاد بِهِ أَبُو هُرَيْرَة، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث ابْن وهب عَن يُونُس: أَلا يُعْجِبك أَبُو هُرَيْرَة جَاءَ فَجَلَسَ ... وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد وَمُسلم وَأبي دَاوُد من هَذَا الْوَجْه: أَلا أعْجبك من أبي هُرَيْرَة، وَوَقع للقابسي: أَتَى فلَان فَأتى، فعل مَاض من الْإِتْيَان، وَفُلَان فَاعله، وَهُوَ تَصْحِيف قَالَه بَعضهم، ثمَّ علل بقوله: لِأَنَّهُ تبين أَنه بِصِيغَة الكنية. قلت: نظر لَا يخفى. قَوْله: (وَكنت أسبح) يجوز أَن يكون على ظَاهره من التَّسْبِيح الَّذِي هُوَ الذّكر، وَيجوز أَن يكون مجَازًا عَن صَلَاة التَّطَوُّع. قَوْله: (لم يكن يسْرد) أَي: لم يكن يُتَابع الحَدِيث استعجالاً، أَي: كَانَ يتَكَلَّم بِكَلَام متتابع مَفْهُوم وَاضح على سَبِيل التأني لِئَلَّا يلتبس على المستمع، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس: إِنَّمَا كَانَ حَدِيث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلا يفهمهُ الْقُلُوب، وَاعْتذر عَن أبي هُرَيْرَة بِأَنَّهُ كَانَ وَاسع الرِّوَايَة كثير الْمَحْفُوظ، فَكَانَ(16/115)
لَا يتَمَكَّن من الْمهل عِنْد إِرَادَة التحديث، كَمَا قَالَ بعض البلغاء: أُرِيد أَن أقتصر فتزدحم القوافي عَليّ.
42 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ كالفصل لما قبله.
كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنامُ قَلْبُهُ رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ مِينَاءَ عنْ جابِرٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا وَصله البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن عبَادَة عَن يزِيد بن هَارُون عَن سليم بن حَيَّان عَن سعيد بن ميناء عَن جَابر فِي كتاب الِاعْتِصَام. وَسَعِيد بن ميناء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون ممدودة: أَبُو الْوَلِيد الْمَكِّيّ.
قَوْله: (تنام عينه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: تنام عَيناهُ، بالتثنية، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب قيام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ، فِي حَدِيث عَائِشَة مطولا. وَفِيه: (فَقلت: يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {: أتنام قبل أَن توتر؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَة} إِن عَيْني تنامان وَلَا ينَام قلبِي) .
9653 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ سَعيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهُ سألَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا كَيْفَ كانَتْ صَلاَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَمَضَانَ قالَتْ مَا كانَ يَزِيدُ فِي رمَضَانَ ولاَ فِي غَيْرِهِ علَى إحْداى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أرْبَعَ رَكْعَاتٍ فَلاَ تَسْألْ عنْ حُسْنِهِنَّ وطولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أرْبَعَاً فَلاَ تَسْألْ عنْ حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثاً فقُلْتُ يَا رسولَ الله تَنامُ قَبْلَ أنْ تُوتِرَ قَالَ تَنامُ عَيْنِي وَلَا يَنامُ قَلْبِي. (انْظُر الحَدِيث 7411 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن نوم عينه وَعدم نوم قلبه من الصِّفَات الْعَظِيمَة والخصال الجليلة. وَهَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد وَهَذَا الْمَتْن قد مضى فِي كتاب التَّهَجُّد كالحديث الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن.
0753 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي نَمِرٍ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يُحَدِّثُنَا عنْ لَ يْلَةَ أُسْرِيَ بالنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ جاءَ ثلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أنْ يُوحاى إلَيْهُ وهْوَ نائِمٌ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ فَقَالَ أوَّلُهُمْ أيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ وَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيرَهُمْ فَكانَتْ تِلْكَ فلَمْ يَرَهُمْ حتَّى جاؤُوا لَيْلَةً أُخْراى فِيما يَرَى قَلْبُهُ والنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نائِمَةٌ عَيْنَاهُ ولاَ يَنامُ قَلْبُهُ وكَذالِكَ الأنْبِيَاءُ تَنامُ أعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَتَوَلاَّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ أَبُو بكر بن عبد الحميد، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي.
قَوْله: (ثَلَاثَة نفر) هم الْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: الَّذِي يظْهر لي أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانُوا: جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل. لِأَنِّي رَأَيْت فِي كتب كَثِيرَة مَخْصُوصَة بالمعراج أَنهم نزلُوا عَلَيْهِ والبراق مَعَهم. قَوْله: (قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ) ، قيل: لَيْسَ فِي أَكثر الرِّوَايَات هَذِه اللَّفْظَة، وَأَن تِلْكَ مَحْفُوظَة فَلم يَأْته عقيب تِلْكَ اللَّيْلَة، بل بعْدهَا بِسنتَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أسرِي بِهِ قبل الْهِجْرَة بِثَلَاثَة سِنِين، وَقيل: بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِسنة. قَوْله: (أَيهمْ هُوَ) ، أَي: الثَّلَاثَة مُحَمَّد، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَائِما بَين اثْنَيْنِ أَو أَكثر، وَقد قيل: كَانَ نَائِما بَين عَمه حَمْزَة وَابْن عَمه جَعْفَر بن أبي طَالب. قَوْله: (وأوسطهم) هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ نَائِما بَينهمَا. قَوْله: (خُذُوا خَيرهمْ) أَي: لأجل أَن يعرج بِهِ إِلَى السَّمَاء. قَوْله: (فَكَانَت تِلْكَ) أَي: كَانَت الْقِصَّة تِلْكَ الْحِكَايَة لم يَقع شَيْء آخر. قَوْله: (فِيمَا يرى قلبه) أَي: بَين النَّائِم وَالْيَقظَان. فَإِن قلت: ثَبت فِي الرِّوَايَات الْأُخْرَى أَنه فِي الْيَقَظَة. قلت: أَن قُلْنَا بتعدده(16/116)
فَظَاهر، وَإِن قُلْنَا باتحاده فَيمكن أَن يُقَال: كَانَ ذَلِك أول وُصُول الْملك إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على كَونه نَائِما فِي الْقِصَّة كلهَا، وَالله سبخانه وَتَعَالَى أعلم.
52 - (بابُ عَلاَماتِ النُّبُوَّةِ فِي الإسْلاَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عَلَامَات النُّبُوَّة، والعلامات جمع عَلامَة، إِنَّمَا لم يقل: معجزات النُّبُوَّة لِأَن الْعَلامَة أَعم مِنْهَا، وَمن الْكَرَامَة، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، لِأَن المعجزة لَا تكون إلاَّ عِنْد التحدي بِخِلَاف الْكَرَامَة. قَوْله: (فِي الْإِسْلَام) ، أَي: فِي زمن الْإِسْلَام.
1753 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا سَلْمُ بنُ زَرِيرٍ سَمِعْتُ أبَا رَجاءٍ قَالَ حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ أنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسِيرٍ فأدْلَجُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إذَا كانَ وَجْهُ الصِّبْحِ عَرَّسُوا فغَلَبَتْهُمْ أعْيُنُهُمْ حتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ فَكانَ أوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنامِهِ أبُو بَكْرٍ وكانَ لَا يُوقِظِ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ مَنَامِهِ حتَّى يَسْتَيْقِظَ فاسْتَيْقَظَ عُمَرُ فقَعَدَ أبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأسِهِ فجَعَلَ يُكَبِّرُ ويَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنَزَلَ وصَلَّى بِنَا الغَدَاةَ فاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا فلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا فُلانُ مَا يَمْنَعُكَ أنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا قَالَ أصَابَتْنِي جَنابَة فأمَرَهُ أنْ يَتَيَمَّمَ بالصَّعِيدِ ثُمَّ صَلَّى وجَعَلَنِي رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رُكُوبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وقَدْ عَطِشْنَا عَطَشَاً شَدِيداً فبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إذَا نَحْنُ بامْرَأةٍ سادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ فَقُلْنَا لَهَا أيْنَ المَاءُ فقالَتْ إيهِ لَا مَاءَ فقُلْنَا كَمْ بَيْنَ أهْلِكِ وبَيْنَ المَاءِ قالَتْ يَوْم ولَيْلَةٌ فَقُلْنَا انْطَلِقِي إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ ومَا رَسُولُ الله فلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أمْرِهَا حتَّى اسْتَقْبَلْنَا بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَدَّثْتُهُ بِمِثْلِ الَّذِي حدَّثَتْنَا غيْرَ أنَّهَا حَدَّثَتْهُ أنَّهَا مُؤْتِمَةٌ فأمَرَ بِمَزَادَتَيْهَا فمَسَحَ فِي العزْلاَوَيْنِ فشَرِبْنَا عِطَاشاً أرْبَعِينَ رَجُلاً حتَّى رَوِينَا فمَلأْنا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وإدَاوَةٍ غَيْرَ أنَّهُ لَمْ نَسْق بَعِيراً وَهْيَ تَكادُ تَنِضُّ مِنَ المِلْءِ ثُمَّ قَالَ هاتُوا مَا عِنْدَكُمْ فَجُمِعَ لَهَا مِنَ الْكِسَرِ والتَّمْرِ حَتَّى أتَتْ أهْلَهَا قالَتْ لَقِيتُ أسْحَرَ النَّاسِ أوْ هُوَ نَبِيٌّ كَمَا زَعَمُوا فَهَداى الله ذَلِكَ الصِّرْمَ بِتِلْكَ المَرْأةِ فأسْلَمَتْ وأسْلَمُوا. (انْظُر الحَدِيث 443 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي تَكْثِير المَاء الْقَلِيل ببركته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَسلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن زرير، بِفَتْح الزَّاي وَكسر الرَّاء الأولى، وَقد مر فِي بَدْء الْخلق، وَأَبُو رَجَاء ضد الْخَوْف عمرَان بن ملْحَان العطاردي الْبَصْرِيّ، أدْرك زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسلم بعد الْفَتْح وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُهَاجر إِلَيْهِ.
والْحَدِيث مر فِي كتاب التَّيَمُّم فِي: بَاب الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم، بأتم مِنْهُ وأطول، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فأدلجوا) ، من الإدلاج يُقَال: أدْلج الْقَوْم إِذا سَارُوا أول اللَّيْل، وَإِذا سَارُوا فِي آخر اللَّيْل يُقَال: أدلجوا، بتَشْديد الدَّال. قَوْله: (عرسوا) ، من التَّعْرِيس وَهُوَ: نزُول الْقَوْم آخر اللَّيْل يقفون فِيهِ وَقْفَة للاستراحة. قَوْله (وَكَانَ لَا يوقظ) على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله: (فَجعل يكبر) أَي: فَجعل أَبُو بكر يكبر رَافعا صَوته، وَقد تقدم فِي كتاب التَّيَمُّم: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ الَّذِي كَانَ يكبر وَيرْفَع صَوته حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا وَقع فِي مُسلم فِي الصَّلَاة من حَدِيث عَوْف الْأَعرَابِي عَن أبي رَجَاء: أَن عمر كَانَ رجلا جليداً، فَكبر وَرفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا مُنَافَاة، إِذْ لَا منع للْجمع بَينهمَا لاحْتِمَال أَن كلاًّ مِنْهُمَا فعل ذَلِك. قَوْله: (فِي ركُوب) ، بِالضَّمِّ جمع: رَاكب، وَبِفَتْحِهَا: مَا يركب. قَوْله: (سادلة) ، أَي:(16/117)
مُرْسلَة رِجْلَيْهَا، يُقَال: سدل ثَوْبه إِذا أرخاه. قَوْله: (مزادتين) ، تَثْنِيَة مزادة، بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الزَّاي وَهِي: الراوية، وَسميت بهَا لِأَنَّهَا يُزَاد فِيهَا جلد آخر من غَيرهَا، وَلِهَذَا قيل: إِنَّهَا أكبر من الْقرْبَة. قَوْله: (إيه) ، بِلَفْظ الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ ويروي: أَيهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَمن الْعَرَب من يَقُول: أَيهَا، بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى: هَيْهَات، ويروى: أيهات، على وزن: هَيْهَات، وَمَعْنَاهُ. قَوْله: (مؤتمة) ، من أيتمت الْمَرْأَة إِذا صَار أَوْلَادهَا أيتاماً فَهِيَ مؤتمة، بِكَسْر التَّاء، ويروى بِفَتْحِهَا. قَوْله: (فَمسح فِي العزلاوين) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فسمح بالعزلاوين، وَهِي تَثْنِيَة: عزلاء، بِسُكُون الزَّاي وبالمد، وَهُوَ: فَم الْقرْبَة، قَالَه بَعضهم قلت: العزلاء فَم المزادة الْأَسْفَل. قَوْله: (فشربنا عطاشاً) ، أَي شربنا حَالَة كوننا عطاشا قَوْله (اربعين) بِالنّصب رِوَايَة الْكشميهني وَوجه النصب أَن بَيَان لقَوْله (عطاشا) ويروى: أَرْبَعُونَ، بِالرَّفْع أَي: وَنحن أَرْبَعُونَ نفسا. قَوْله: (حَتَّى روينَا) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْوَاو: من الرّيّ. قَوْله: (تبض) ، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا الضَّاد الْمُعْجَمَة المثقلة: أَي تسيل وَقَالَ ابْن التِّين: تبض أَي: تَنْشَق فَيخرج مِنْهُ المَاء، يُقَال: بض المَاء من الْعين إِذا نبع، وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن بعض الروَاة بالصَّاد الْمُهْملَة: من البصيص، وَهُوَ اللمعان، وَفِيه بعد، ويروى: تنض، بالنُّون عوض الْبَاء الْمُوَحدَة، وروى أَبُو ذَر عَن الْكشميهني: تنصب، من الانصباب، ويروى: تنضرج، من الضرج بالضاد الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالْجِيم، وَهُوَ: الشق، ويروى: تيصر، بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة وصاد مُهْملَة وَرَاء، ذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن: أَن مَعْنَاهُ تَنْشَق. قَالَ: وَمِنْه: صير الْبَاب، أَي: شقَّه، ورده ابْن التِّين وَهُوَ أَجْدَر بِالرَّدِّ لِأَن فِيهِ تكلفاً من جِهَة الصّرْف، وَغير مَوْجُود فِي شَيْء من الرِّوَايَات. قَوْله: (ذَلِك الصرم) ، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء: وَهُوَ أَبْيَات مجتمعة نزُول على المَاء.
2753 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا ابنُ أبِي عَدِيُ عنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإنَاءٍ وهْوَ بالزَّوْرَاءِ فوَضَعَ يَدَهُ فِي الإنَاءِ فجَعَلَ المَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أصابِعِهِ فَتوَضَّأ الْقَوْمُ قَالَ قَتَادَةُ قُلْتُ لأِنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَلاثَمِائَةٍ أوْ زُهاءٍ ثَلاثِمِائَةٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن أبي عدي هُوَ مُحَمَّد بن أبي عدي. واسْمه إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أبي مُوسَى.
قَوْله: (وَهُوَ بالزوراء) ، جملَة حَالية، والزوراء بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْوَاو وبالراء وبالمد: مَوضِع بسوق الْمَدِينَة، وَوَقع فِي رِوَايَة همام عَن قَتَادَة عَن أنس: (شهِدت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ أَصْحَابه عِنْد الزَّوْرَاء وَعند بيُوت الْمَدِينَة) . أخرجه أَبُو نعيم، وَعند أبي نعيم من رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن أنس: أَنه هُوَ الَّذِي أحضر المَاء وَأَنه أحضرهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَيت أم سَلمَة، وَأَنه رده بعد فراغهم إِلَى أم سَلمَة. قَوْله: (وَالْمَاء يَنْبع) ، إِمَّا أَنه يخرج من نفس الإصبع وينبع من ذَاتهَا، وَإِمَّا أَنه يكثر فِي ذَاته فيفور من بَين أَصَابِعه، وَهُوَ أعظم فِي الإعجاز من نبعه من الْحجر، لِأَن خُرُوج المَاء من الْحِجَارَة مَعْهُود بِخِلَاف خُرُوجه من بَين اللَّحْم وَالدَّم، وَيجوز فِي بَاء: يَنْبع، الضَّم وَالْفَتْح وَالْكَسْر. قَوْله: (زهاء) ، بِضَم الزاء ممدوداً: الْمِقْدَار.
3753 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ قَالَ رأيْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحَانَتْ صَلاةُ العَصْرِ فالْتُمِسَ الوَضُوءُ فلَمْ يَجِدُوهُ فأُتِيَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَضُوءٍ فوَضَعَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإنَاءِ فأمَرَ النَّاسَ أنْ يَتَوَضَّؤا مِنْهُ فرَأيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أصَابِعِهِ فتَوضَّأ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّؤا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس. وَقد مضى هَذَا فِي كتاب الطهار فِي: بَاب التمَاس الْوضُوء إِذا حانت الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره نَحوه. قَوْله: (من عِنْد آخِرهم) كلمة: من، هَهُنَا بِمَعْنى: إِلَى، وَهِي لُغَة. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يجوز مُطلقًا وضع حُرُوف الْجَرّ بَعْضهَا مقَام بعض.(16/118)
4753 - حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ مُبَارَكٍ حدَّثنا حَزْم قَالَ سَمِعْتُ الحَسَنَ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْضِ مَخارِجِهِ ومعَهُ نَاس مِنْ أصْحَابِهِ فانْطَلَقُوا يَسِيرُونَ فحَضَرَتِ الصَّلاةُ فلَمْ يَجِدُوا مَاء يتَوَضَّؤنَ فانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فجَاءَ بِقَدَحٍ مِنْ ماءٍ يَسيرٍ فأخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتَوَضَّأ ثُمَّ مَدَّ أصَابِعَهُ الأرْبَعَ على القَدَحِ ثُمَّ قالَ قُومُوا فَتَوَضَّؤا فَتَوَضَّأ الْقَوْمُ حَتَّى بَلَغُوا فيمَا يُرِيدُونَ مِنَ الوَضُوءِ وكانُوا سَبْعِينَ أوْ نَحْوَهُ. .
هَذَا الحَدِيث لأنس أَيْضا من وَجه آخر عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك بن عبد الله الْعَبْسِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، ويروي عَن حزم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي: ابْن أبي حزم واسْمه مهْرَان، مَاتَ سنة خمس وَسبعين وَمِائَة. وَهُوَ يروي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض مخارجه) أَرَادَ بِهِ بعض أَسْفَاره. قَوْله: (وَمَعَهُ) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال.
5753 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ أخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ حَضَرَتِ الصَّلاةُ فقامَ مَنْ كانَ قَرِيبَ الدَّارِ مِنَ المَسْجِدِ يَتَوَضَّأ وبَقِي قَوْمٌ فأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فيهِ ماءٌ فوَضَعَ كَفَّهُ فَصَغُرَ المِخْضَبُ أنْ يَبْسُطَ فيِهِ كَفَّهُ فَضَمَّ أصَابِعَهُ فوَضَعَهَا فِي المِخْضَبِ فتَوَضَّأ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ جَمِيعَاً قُلْتُ كَمْ كَانُوا قَالَ ثَمَانُونَ رَجُلاً. .
هَذَا طَرِيق رَابِع فِي حَدِيث أنس الأول عَن قَتَادَة، وَالثَّانِي عَن إِسْحَاق، وَالثَّالِث عَن الْحسن، وَالرَّابِع عَن حميد، فَفِيهَا مُغَايرَة وَاضِحَة فِي الْمَتْن وَتَعْيِين الْمَكَان وَعدد من حضر وَغير ذَلِك، فَدلَّ هَذَا كُله على تعدد الْقَضِيَّة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قصَّة نبع المَاء من أَصَابِعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَكَرَّرت مِنْهُ فِي عدَّة مَوَاضِع فِي مشَاهد عَظِيمَة، ووردت من طرق كَثْرَة يُفِيد مجموعها الْعلم الْقطعِي الْمُسْتَفَاد من التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ، قَالَ: وَلم يسمع بِمثل هَذِه المعجزة من غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ نبع المَاء من بَين عصبه وعظبه ولحمه وَدَمه.
وَعبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون: الْمروزِي، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن هَارُون بن زادان أَبُو خَالِد الوَاسِطِيّ، والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (بمخضب) ، بِكَسْر الْمِيم وبالمعجمتين: المركن، وَهُوَ إِنَاء من حِجَارَة يغسل فِيهَا الثِّيَاب وَيُسمى الإجانة أَيْضا.
6753 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ مُسْلِمٍ حدَّثنا حُصَيْنٌ عنْ سالِمِ بنِ أبِي الجَعْدِ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ والنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فتَوَضَّأ فجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ مَا لَكُمْ قالُوا لَيْسَ عِنْدَنا ماءٌ نَتَوَضَّأُولاَ نَشْرَبُ إلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ فوَضَعَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فجَعَلَ الماءُ يَثُورُ بَيْنَ أصَابِعِهِ كأمْثَالِ العُيُونِ فَشَرِبْنَا وتَوَضَّأنَا قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ ألْفٍ لكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْعَزِيز بن مُسلم أَبُو زيد الْقَسْمَلِي الْمروزِي، سكن الْبَصْرَة، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ الْكُوفِي، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: واسْمه رَافع الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن يُوسُف بن عِيسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَعَن رِفَاعَة ابْن الْهَيْثَم وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن الْحُسَيْن.
قَوْله: (يَوْم(16/119)
الْحُدَيْبِيَة) ، وَهِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة وَكَانَت فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ بِلَا خلاف، وَالْحُدَيْبِيَة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة مِثَال دويهية وَهِي بِئْر على مرحلة من مَكَّة مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: سميت الْحُدَيْبِيَة بشجرة حدباء كَانَت هُنَاكَ، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: خرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي الْقعدَة مُعْتَمِرًا لَا يُرِيد حَربًا، وَخرج مَعَه نَاس من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَمن لحق بِهِ من الْعَرَب، وَكَانَ مَعَه من الْهَدْي سَبْعُونَ بَدَنَة، وَكَانُوا خمس عشرَة مائَة على مَا ذكره جَابر. وَعَن الْبَراء: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع عشرَة مائَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا على مَا يَجِيء الْآن. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانُوا سَبْعمِائة، وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِك تفقهاً من تِلْقَاء نَفسه من حَيْثُ إِن الْبدن كَانَت سبعين بَدَنَة. قَوْله: (بَين يَدَيْهِ ركوة) بِفَتْح الرَّاء وَهِي: إِنَاء صَغِير من جلد يشرب مِنْهَا المَاء، وَالْجمع: ركا. قَوْله: (فجهش النَّاس) بِفَتْح الْجِيم وَالْهَاء بعْدهَا شين مُعْجمَة، وَهُوَ فعل مَاض، وَالنَّاس فَاعله، وَمَعْنَاهُ: أَسْرعُوا إِلَى أَخذ المَاء، وَالْفَاء فِي أَوله رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره بِدُونِ الْفَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وجهش من الجهش وَهُوَ أَن يفزع الْإِنْسَان إِلَى غَيره وَيُرِيد الْبكاء، كَالصَّبِيِّ يفزع إِلَى أمه وَقد تهَيَّأ للبكاء. قَوْله: (يثور) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يفور، بِالْفَاءِ مَوضِع الثَّاء، وهما بِمَعْنى وَاحِد.
7753 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنْ البَرَاءِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كُنَّا يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ أرْبَعَ عَشْرَةَ مائَةً والحدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فنَزَحْنَاهَا حتَّى لَمْ نَتْرُكْ فيهَا قَطْرَةً فجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى شَفِيرِ البِئْرِ فدَعَا بِمَاءٍ فمَضْمَضَ ومَجَّ فِي البِئْرِ فمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حتَّى رَوِينَا ورَوِيَتْ أوْ صَدَرَتْ ركابُنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله عَن الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أَربع عشرَة مائَة) كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: ألفا وَأَرْبَعمِائَة، لَكِن قد يسْتَعْمل بترك الْألف وَاعْتِبَار المئات أَيْضا. وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي رِوَايَة جَابر: كُنَّا خمس عشرَة مائَة، وَالْقِيَاس أَن يُقَال: ألفا وَخَمْسمِائة، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث إِيَاس بن سَلمَة عَن أَبِيه. قَالَ: قدمنَا الْحُدَيْبِيَة مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن أَربع عشرَة مائَة، وَفِي (التَّوْضِيح) فِي قَول جَابر: كُنَّا خمس عشرَة مائَة، قَالَ ابْن الْمسيب: هَذَا وهم، وَكَانُوا أَربع عشرَة مائَة، وعَلى هَذَا مَالك وَأكْثر الروَاة. وَقيل: كَانُوا ثَلَاث عشرَة مائَة، فَإِذا كَانَ أَكثر الروَاة على أَربع عشرَة مائَة يحمل قَول من يزِيد على هَذَا مائَة أَو ينقص مائَة على عدد من انْضَمَّ إِلَى الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من الْعَرَب، فَمنهمْ من جعل المضافين إِلَيْهِم مائَة، وَمِنْهُم من جعل الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ثَلَاث عشرَة مائَة، وَلم يعدوا المضافين إِلَيْهِم لكَوْنهم أتباعاً. قَوْله: (على شَفير الْبِئْر) أَي: حَده وطرفه. قَوْله: (وَرويت) بِكَسْر الْوَاو. قَوْله: (أَو صدرت) أَي: رجعت. قَوْله: (رِكَابنَا) بِكَسْر الرَّاء أَي: الْإِبِل الَّتِي تحمل الْقَوْم.
8753 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِك يَقُولُ أبُو طَلْحَةَ لأِمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَعِيفاً أعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ فهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ قالَتْ نَعَمْ فأخْرَجَتْ أقْرَاصَاً مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أخْرَجَتْ خِمَارَاً لَهَا فلَفتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي ولاَ ثْتنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَذَهَبْتُ بِهِ فوَجَدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْجِدِ ومعَهُ النَّاسُ فقُمْتُ علَيْهِمْ فَقَالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ فقُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِطَعامٍ فقُلْتُ نعَمْ فقالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمَنْ معَهُ قُومُوا فانْطَلَقَ وانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حتَّى جِئْتُ أبَا طَلْحَةَ فأخْبَرْتُهُ فَقَالَ أبُو طَلْحَة يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قدْ جاءَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّاسِ ولَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ(16/120)
فقالَتِ الله ورسُولُهُ أعْلَمُ فانْطَلَقَ أبُو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأقْبَلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو طلْحَةَ مَعَهُ فَقَالَ رسوُلُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ فأتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزَ فَأمَرَ بِهِ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفُتَّ وعَصَرَتْ أمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فأدْمَتْهُ ثُمَّ قالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ مَا شاءَ الله أنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ ائْذِنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لَهُمْ فأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قالَ ائْذَنْ لِعَشَرَة فأذِنَ لَهُمْ فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قالَ ائْذِنْ لِعَشَرَةٍ فأذِنَ لَهُمْ فأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فأكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ حتَّى شَبِعُوا والقَوْمُ سَبْعُونَ أوْ ثَمَانُونَ رَجُلاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو طَلْحَة هُوَ زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ زوج أم سليم وَالِدَة أنس، وَقد اتّفقت الطّرق على أَن الحَدِيث الْمَذْكُور من مُسْند أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْمَاعِيل وَفِي النذور عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى ابْن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ضَعِيفا أعرف فِيهِ الْجُوع) فِيهِ الْعَمَل بالقرائن، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن أنس: أَن أَبَا طَلْحَة رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طاوياً، وَفِي رِوَايَة أبي يعلى عَن أنس: أَن أَبَا طَلْحَة بلغه أَنه لَيْسَ عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَام، فَذهب فأجر نَفسه بِصَاع من شعير، فَعمل بَقِيَّة يَوْمه ذَلِك ثمَّ جَاءَ بِهِ. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أنس، قَالَ: رأى أَبُو طَلْحَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجعا يتقلب ظهرا لبطن، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن أنس، قَالَ: جِئْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدته جَالِسا مَعَ أَصْحَابه يُحَدِّثهُمْ وَقد عصب بَطْنه بعصابة، فَسَأَلت بعض أَصْحَابه فَقَالُوا: من الْجُوع. فَذَهَبت إِلَى أبي طَلْحَة فَأَخْبَرته، فَدخل على أم سليم، فَقَالَ: هَل من شَيْء ... الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم عَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن أنس: جَاءَ أَبُو طَلْحَة إِلَى أم سليم فَقَالَ: أعندك شَيْء فَإِنِّي مَرَرْت على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يقرىء أَصْحَاب الصّفة سُورَة النِّسَاء وَقد ربط على بَطْنه حجرا من الْجُوع. قَوْله: (فأخرجت أقراصاً من شعير) . وَعند أَحْمد من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن سِيرِين عَن أنس قَالَ: عَمَدت أم سليم إِلَى نصف مد من شعير فطحنته. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ تَأتي عَن أنس: أَن أمه أم سليم عَمَدت إِلَى مد من شعير جرشته ثمَّ عملته، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَمُسلم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن أنس: أَتَى أَبُو طَلْحَة بمدين من شعير فَأمر بِهِ فَصنعَ طَعَاما. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: لَا مُنَافَاة لاحْتِمَال تعدد الْقِصَّة: أَو أَن بعض الروَاة حفظ مَا لم يحفظه الآخر، وَقيل: يُمكن أَن يكون الشّعير من الأَصْل كَانَ صَاعا فأفردت بعضه لِعِيَالِهِ وَبَعضه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ولاثتني) ، من الإلتياث، وَهُوَ الِالْتِفَات، وَمِنْه: لاث الْعِمَامَة على رَأسه أَي: عصبها وَأَصله من: اللوث، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ اللف وَمِنْه: لاث بِهِ النَّاس إِذا استداروا حوله، وَالْحَاصِل أَنَّهَا لفت بعضه على رَأسه وَبَعضه على أبطه، وَفِي الْأَطْعِمَة للْبُخَارِيّ: عَن إِسْمَاعِيل بن أويس عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث: فلفت الْخبز بِبَعْضِه ودست الْخبز تَحت ثوبي وردتني بِبَعْضِه، يُقَال: دس الشَّيْء يدسه دساً إِذا أدخلهُ فِي الشَّيْء بقهر وَقُوَّة. قَوْله: (قَالَ: فَذَهَبت بِهِ) ، أَي: قَالَ أنس: فَذَهَبت بالخبز الَّذِي أرْسلهُ أَبُو طَلْحَة وَأم سليم. قَوْله: (أرسلك أَبُو طَلْحَة) . بِهَمْزَة ممدودة للاستفهام على وَجه الاستخبار. قَوْله: (فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لمن مَعَه) أَي: من الصَّحَابَة: (قومُوا) ظَاهر هَذَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم أَن أَبَا طَلْحَة استدعاه إِلَى منزله، فَلذَلِك قَالَ لمن مَعَه: قومُوا. فَإِن قلت: أول الْكَلَام يَقْتَضِي أَن أَبَا طَلْحَة وَأم سليم أرسلا الْخبز مَعَ أنس. قلت: يجمع بَينهمَا بِأَنَّهُمَا أَرَادَا بإرسال الْخبز مَعَ أنس أَن يَأْخُذهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيأكله، فَلَمَّا وصل أنس وَرَأى كَثْرَة النَّاس حول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استحيى وَظهر لَهُ أَن يَدْعُو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقوم مَعَه وَحده إِلَى الْمنزل. وَهنا وَجه آخر، وَهُوَ أَنه: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك على رَأْي من أرْسلهُ عهد إِلَيْهِ أَنه إِذا رأى كَثِيرَة النَّاس أَن يَسْتَدْعِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده خشيَة أَن لَا يكفيهم ذَلِك الشَّيْء، وَقد عرفُوا إِيثَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه لَا يَأْكُل وَحده، وَرِوَايَات مُسلم تَقْتَضِي: أَن أَبَا طَلْحَة استدعى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْوَاقِعَة، فَفِي رِوَايَة سعد بن سعيد عَن أنس: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأدعوه، وَقد جعل لَهُ طَعَاما، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن(16/121)
أنس: أَمر أَبُو طَلْحَة أم سليم أَن تصنع للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنَفسِهِ خَاصَّة، ثمَّ أرسلتني إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس: فَدخل أَبُو طَلْحَة على أُمِّي، فَقَالَ: هَل من شَيْء؟ فَقَالَت: نعم عِنْدِي كسر من خبز، فَإِن جَاءَنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده أشبعناه، وَإِن جَاءَ أحد مَعَه قلَّ عَنْهُم. وروى أَبُو نعيم من حَدِيث يَعْقُوب بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس، قَالَ لي أَبُو طَلْحَة: يَا أنس إذهب فَقُمْ قَرِيبا من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا قَامَ فَدَعْهُ حَتَّى يتفرق أَصْحَابه ثمَّ اتبعهُ حَتَّى إِذا قَامَ على عتبَة بَابه، فَقل لَهُ: إِن أبي يَدْعُوك. وروى أَحْمد من حَدِيث النَّضر بن أنس عَن أَبِيه، قَالَت لي أم سليم: إذهب إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقل لَهُ: إِن رَأَيْت أَن تغدى عندنَا فافعل، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب، فَقَالَ: (يَا بني {إذهب إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَادعه وَلَا تدع مَعَه غَيره وَلَا تفضحني) . قَوْله: (وَلَيْسَ عندنَا مَا نطعمهم) ، أَي: قدر مَا يكفيهم. قَوْله: (فَقَالَت: الله وَرَسُوله أعلم) كَأَنَّهَا عرفت أَنه فعل ذَلِك عمدا لتظهر الْكَرَامَة فِي تَكْثِير ذَلِك الطَّعَام، وَدلّ ذَلِك على فطنة أم سليم ورجحان عقلهَا. قَوْله: (فَانْطَلق أَبُو طَلْحَة حَتَّى لَقِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة مبارك بن فضَالة: فَاسْتَقْبلهُ أَبُو طَلْحَة. فَقَالَ: (يَا رَسُول الله} مَا عندنَا إلاَّ قرص عملته أم سليم) . وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن عبد الله فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: إِنَّمَا هُوَ قرص. فَقَالَ: إِن الله سيبارك فِيهِ. وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب. فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: يَا رَسُول الله! إِنَّمَا أرْسلت أنسا يَدْعُوك وَحدك وَلم يكن عندنَا مَا يشْبع من أرى. فَقَالَ: أدخِل، فَإِن الله سيبارك فِيمَا عنْدك. وَفِي رِوَايَة النَّضر بن أنس عَن أَبِيه: فَدخلت عَليّ أم سليم وَأَنا مندهش، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى: أَن أَبَا طَلْحَة قَالَ: يَا أنس فضحتنا. وللطبراني فِي (الْأَوْسَط) : فَجعل يرميني بِالْحِجَارَةِ. قَوْله: (هَلُمِّي يَا أم سليم) ، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة: هَلُمَّ، وَهِي لُغَة حجازية، فَإِن عِنْدهم لَا يؤنث وَلَا يثنى وَلَا يجمع، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} (الْأَحْزَاب: 81) . وَالْمرَاد بذلك طلب مَا عِنْدهَا. قَوْله: (عكة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْكَاف: إِنَاء من جلد مستدير يَجْعَل فِيهِ السّمن غَالِبا وَالْعَسَل، وَفِي رِوَايَة مبارك بن فضَالة: فَقَالَ: هَل من سمن؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: قد كَانَ فِي العكة شَيْء، فجَاء بهَا فَجعلَا يعصرانها حَتَّى خرج، ثمَّ مسح رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبابته، ثمَّ مسح القرص فانتفخ وَقَالَ: بِسم الله، فَلم يزل يصنع ذَلِك والقرص ينتفخ حَتَّى رَأَيْت القرص فِي الْجَفْنَة يتميع. قَوْله: (فأدمته) ، أَي: جعلته أداماً للمفتوت تَقول: أَدَم دلان الْخبز بِاللَّحْمِ يأدمه، بِالْكَسْرِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: أدمته، أَي: أصلحته بالأدام. قَوْله: (إئذن لعشرة) ، أَي: إئذن بِالدُّخُولِ لعشرة أنفس، إِنَّمَا أذن لعشرة عشرَة ليَكُون أرْفق بهم، فَهَذَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل منزل أبي طَلْحَة وَحده، وَجَاء بذلك صَرِيحًا فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَلَفظه: فَلَمَّا انْتهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْبَاب، فَقَالَ لَهُم: اقعدوا، وَدخل. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة يَعْقُوب: أَدخل عَليّ ثَمَانِيَة، فَمَا زَالَ حَتَّى دخل عَلَيْهِ ثَمَانُون رجلا، ثمَّ دَعَاني ودعا أُمِّي ودعا أَبَا طَلْحَة فأكلنا حَتَّى شبعنا. قلت: هَذَا يحمل على تعدد الْقِصَّة، وَأكْثر الرِّوَايَات: عشرَة عشرَة، سوى هَذِه، فَإِنَّهُ أدخلهم ثَمَانِيَة ثَمَانِيَة، وَالله أعلم. قَوْله: (فَأَكَلُوا) ، وَفِي رِوَايَة مبارك بن فضَالة: فَوضع يَده فِي وسط القرص، قَالَ: كلوا بِسم الله، فَأَكَلُوا من حوالي الْقَصعَة حَتَّى شَبِعُوا، وَفِي رِوَايَة بكر بن عبد الله: فَقَالَ لَهُم: كلوا من بَين أصابعي. قَوْله: (وَالْقَوْم سَبْعُونَ أَو ثَمَانُون) ، كَذَا وَقع بِالشَّكِّ، وَفِي غير هَذَا الْموضع الْجَزْم بالثمانين، وَفِي رِوَايَة مبارك بن فضَالة: حَتَّى أكل مِنْهُ بضعَة وَثَمَانُونَ رجلا، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد: كَانُوا نيفاً وَثَمَانِينَ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عبد الله بن أبي طَلْحَة: وأفضلوا مَا بلغُوا جيرانهم، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن عبد الله: وفضلت فضلَة فأهدينا لجيراننا، وَفِي رِوَايَة لسعد بن أبي سعيد: ثمَّ أَخذ مَا بَقِي فَجَمعه ثمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبركَةِ، فَعَاد كَمَا كَانَ.
9753 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى حدَّثنا أبُو أحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الآياتِ بَرَكَةً وأنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفاً كُنَّا مَعَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فَقَلَّ المَاءُ فَقَالَ اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ فَجاؤُا بإنَاءٍ فِيهِ ماءٌ قَلِيلٌ فأدْخَلَ يَدَهُ فِي الإنَاءِ ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ والبَرَكَةُ مِنَ الله فلَقَدْ رأيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وهْوَ يُؤْكَلُ.(16/122)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي نبع المَاء من بَين أَصَابِعه وَفِي تَسْبِيح الطَّعَام بَين يَدَيْهِ وهم يسمعونه، وَأَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيرِي الْأَسدي الْكُوفِي، وَقد مر غير مرّة، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن الْقَيْس، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (كُنَّا نعد الْآيَات) وَهِي الْأُمُور الخارقة للْعَادَة. قَوْله: (وَأَنْتُم تعدونها تخويفاً) أَي: لأجل التخويف، فَكَأَن ابْن مَسْعُود أنكر عَلَيْهِم عد جَمِيع الْآيَات تخويفاً، فَإِن بَعْضهَا يَقْتَضِي بركَة من الله: كشبع الْخلق الْكثير من الطَّعَام الْقَلِيل، وَبَعضهَا يَقْتَضِي تخويفاً من الله: ككسوف الشَّمْس وَالْقَمَر. قَوْله: (فِي سفر) ، جزم الْبَيْهَقِيّ أَنه فِي الْحُدَيْبِيَة، لَكِن لم يخرج مَا يُصَرح بِهِ، وَعند أبي نعيم فِي (الدَّلَائِل) : أَن ذَلِك كَانَ فِي غَزْوَة خَيْبَر، فَأخْرج من طَرِيق يحيى بن سَلمَة بن كهيل عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة خَيْبَر، فَأصَاب النَّاس عَطش شَدِيد، فَقَالَ: يَا عبد الله إلتمس لي مَاء، فَأَتَيْته بِفضل ماءٍ فِي إداوة. قَوْله: (حَيّ على الطّهُور) أَي: هلموا إِلَى الطّهُور، وَهُوَ بِفَتْح الطَّاء، وَالْمرَاد بِهِ المَاء، وَيجوز ضمهَا وَيُرَاد الْفِعْل، أَي: تطهروا. قَوْله: (وَالْبركَة) ، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره. قَوْله: (من الله) وَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَن الإيجاد من الله تَعَالَى. قَوْله: (لقد كُنَّا نسْمع تَسْبِيح الطَّعَام وَهُوَ يُؤْكَل) ، أَي: فِي حَالَة الْأكل، وَذَلِكَ فِي عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
0853 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حدَّثني عامِرٌ قَالَ حدَّثني جابِرٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ أباهُ تُوُفِّيَ وعلَيْهِ دَيْنٌ فأتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ إنَّ أبي تَرَكَ علَيْهُ دَيْناً ولَيْسَ عِنْدِي إلاَّ مَا يُخْرِجُ نَخْلَهُ ولاَ يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ سَنَتَيْنِ مَا عَلَيْهِ فانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْلاَ يُفْحِشَ علَيَّ الغُرَمَاءُ فمَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ فدَعَا ثُمَّ آخَرَ ثُمَّ جَلَسَ علَيْهِ فَقَالَ انْزِعُوهُ فأوْفَاهُمْ الَّذِي لَهُمْ وبَقِيَ مِثْلُ مَا أعْطَاهُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ حُصُول الْبركَة الزَّائِدَة بمشيه حول البيادر حَتَّى بلغ مَا أخرج نخله ماعليه، وَفضل مثل ذَلِك، وَهَذِه أَيْضا من معجزاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وزكرياء هُوَ ابْن أبي زَائِدَة، وعامر هُوَ الشّعبِيّ.
والْحَدِيث مضى مطولا ومختصراً فِي مَوَاضِع فِي الاستقراض وَفِي الْجِهَاد وَفِي الشُّرُوط وَفِي الْبيُوع وَفِي الْوَصَايَا وَمر الْكَلَام فِي الْجَمِيع.
قَوْله: (إلاَّ مَا يخرج نخله) من الْإِخْرَاج، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَلَا يبلغ مَا يخرج) من الْإِخْرَاج. قَوْله: (سنتَيْن) ، أَي: فِي مُدَّة سنتَيْن، وَهِي تَثْنِيَة سنة، ويروى بِصِيغَة الْجمع. قَوْله: (مَا عَلَيْهِ) ، مفعول قَوْله: (وَلَا يبلغ) أَي: مَا على أبي من الدّين. قَوْله: (لكيلا يفحش) ، من الإفحاش. قَوْله: (عليَّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (الْغُرَمَاء) ، بِالرَّفْع فَاعل يفحش. قَوْله: (فَمشى حول بيدر) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَقَالَ: نعم، فَانْطَلق فوصل إِلَى الْحَائِط فَمشى حول بيدر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة: كالجرن للحب. قَوْله: (فَدَعَا) ، أَي: فِي ثمره بِالْبركَةِ. قَوْله: (ثمَّ آخر) أَي: ثمَّ مَشى حول بيدر آخر فَدَعَا. قَوْله: (فَقَالَ: انزعوه) أَي: إنزعوه من البيدر. قَوْله: (وَبَقِي مثل مَا أَعْطَاهُم) ، أَي: مثل مَا أعْطى أَصْحَاب الدُّيُون، وَفِي رِوَايَة مُغيرَة: وَبَقِي تمري كَأَنَّهُ لم ينقص مِنْهُ شَيْء، وَوَقع فِي رِوَايَة وهب بن كيسَان: فأوفاهه ثَلَاثِينَ وسْقا وفضلت لَهُ سَبْعَة عشر وسْقا. وَيجمع بِالْحملِ على تعدد الْغُرَمَاء فَكَأَن أصل الدّين كَانَ مِنْهُ لِلْيَهُودِيِّ ثَلَاثُونَ وسْقا من صنف وَاحِد فأوفاه وَفضل من ذَلِك البيدر سَبْعَة عشر وسْقا، وَكَانَ مِنْهُ لغير ذَلِك الْيَهُودِيّ أَشْيَاء أخر من أَصْنَاف أُخْرَى فأوفاهم وَفضل من الْمَجْمُوع قدر الدّين الَّذِي أوفاه.
1853 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عَن أبِيهِ حدَّثنا أبُو عُثْمَانَ أنَّهُ حدَّثَهُ عبْدُ الرِّحمانِ ابنُ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ أصْحَابَ الصُّفَةِ كانُوا أُنَاسَاً فُقَرَاءَ وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَرَّةً مَنْ كانَ عِنْدَهُ طَعامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ ومَنْ كانَ عِنْدَهُ طَعامُ أرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أوْ سادِسٍ أوْ كَما قالَ وأِنَّ أبَا بَكْرٍ جاءَ بِثَلاَثَةٍ وانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(16/123)
بِعَشَرَةٍ وأبُو بَكْرٍ وثَلاثَةٍ قَالَ فَهْوَ أَنا وأبِي وأُمِّي ولاَ أدْرِي هَلْ قَالَ امْرَأتِي وخادِمِي بَيْنَ بَيْتِنَا وبَيْنَ بَيْتِ أبِي بَكْرٍ وأنَّ أبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ لَبِثَ حتَّى صَلَّى العِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فلَبِثَ حتَّى تَعَشَّى رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ الله قالَتْ لَهُ امْرَأتُهُ مَا حَبَسَكَ عنْ أضْيَافِكَ أوْ ضَيْفِكَ قَالَ أوَ عَشَّيْتِهِمْ قالَتْ أبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عَرَضُوا علَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ فَذَهَبْتُ فاخْتَبَأتُ فَقَالَ يَا غُنْثَر فَجَدَّعَ وسَبَّ وَقَالَ كُلُوا وَقَالَ لَا أطْعَمُهُ أبَدَاً قَالَ وايْمُ الله مَا كُنَّا نأخُذُ مِنَ اللُّقْمَةِ إلاَّ رَبَا مِنْ أسْفَلِهَا أكْثَرُ مِنْهَا حتَّى شَبِعُوا وصارَتْ أكْثَرَ مِمَّا كانَتْ قَبْلُ فنَظَرَ أبُو بَكْرٍ فإذَا شَيءٌ أوْ أكْثَرُ قَالَ لإمْرَأتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ قالَتْ لاَ وقُرَّةِ عَيْنِي لَهْيَ الآنَ أكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ فأكَلَ مِنْهَا أبُو بَكْرٍ وَقَالَ إنَّمَا كانَ الشَّيْطَانُ يَعْنِي يَمينَهُ ثُمَّ أكَلَ مِنْهَا لُقْمَة ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَيّ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصْبَحَتْ عِنْدَهُ وكانَ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فمَضَي الأجَلُ ففَرَّقْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاٍ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ الله أعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجلٍ غَيْرَ أنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ قَالَ أكَلُوا مِنْهَا أجْمَعُونَ أوْ كَمَا قَالَ.
قيل: لَا مُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة هُنَا، لِأَن التَّرْجَمَة فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، والْحَدِيث فِي كَرَامَة الصّديق. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجوز أَن تظهر المعجزة على يَد الْغَيْر، أَو أستفيد الإعجاز من آخِره حَيْثُ قَالَ: أكلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ.
ومعتمر يروي عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن طرخان وَهُوَ من صغَار التَّابِعين، وَفِي رِوَايَة أبي النُّعْمَان الَّتِي مَضَت فِي كتاب الصَّلَاة: حَدثنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان حَدثنَا أبي وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب السمر مَعَ الْأَهْل والضيف.
قَوْله: (إِن أَصْحَاب الصّفة) هِيَ مَكَان فِي مُؤخر الْمَسْجِد النَّبَوِيّ مظلل أعد لنزول الغرباء فِيهِ مِمَّن لَا مأوى لَهُ وَلَا أهل، وَكَانُوا يكثرون فِيهِ ويقلون بِحَسب من يتَزَوَّج مِنْهُم أَو يَمُوت أَو يُسَافر. قَوْله: (فليذهب بثالث) ، أَي: من أهل الصّفة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فليذهب بِثَلَاثَة، قَالَ عِيَاض: وَهُوَ غلط وَالصَّوَاب رِوَايَة البُخَارِيّ لموافقتها لسياق بَاقِي الحَدِيث. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن حمل على ظَاهره فسد الْمَعْنى لِأَن الَّذِي عِنْده طَعَام إثنين إِذا ذهب مَعَه بِثَلَاثَة لزم أَن يَأْكُلهُ فِي خَمْسَة وَحِينَئِذٍ لَا يكفيهم وَلَا يسد رمقهم، بِخِلَاف مَا إِذا ذهب مَعَه بِوَاحِد فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْكُلهُ من ثَلَاثَة، وَأجَاب النَّوَوِيّ عَنهُ: بِأَن التَّقْدِير فليذهب بِمن يتم من عِنْده ثَلَاثَة، أَو فليذهب بِتمَام ثَلَاثَة. قَوْله: (وَأَبُو بكر وَثَلَاثَة) أَي: وَانْطَلق أَبُو بكر وَثَلَاثَة مَعَه، وَإِنَّمَا كرر بِثَلَاثَة لِأَن الْغَرَض من الأول الْإِخْبَار بِأَن أَبَا بكر كَانَ من المكثرين مِمَّن عِنْده طَعَام أَرْبَعَة فَأكْثر، وَأما الثَّانِي فَهُوَ مِمَّا يَقْتَضِي سوق الْكَلَام على تَرْتِيب الْقِصَّة، ذكره. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر. قَوْله: (فَهُوَ أَنا) أَي: الشَّأْن أَنا وَأبي وَأمي فِي الدَّار، وَالْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان أَن فِي منزله هَؤُلَاءِ، فَلَا بُد أَن يكون عِنْده طعامهم، وَأم عبد الرَّحْمَن هِيَ أم رُومَان مَشْهُورَة بكنيتها وَاسْمهَا زَيْنَب، وَقيل: وَعلة بنت عَامر بن عُوَيْمِر كَانَت تَحت الْحَارِث بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ فَمَاتَ بعد أَن قدم مَكَّة وَخلف مِنْهَا ابْنه الطُّفَيْل، فَتَزَوجهَا أَبُو بكر فَولدت لَهُ عبد الرَّحْمَن وَعَائِشَة، وَأسْلمت أم رُومَان قَدِيما وَهَاجَرت وَعَائِشَة مَعهَا، وَأما عبد الرَّحْمَن فَتَأَخر إِسْلَامه وهجرته إِلَى هدنة الْحُدَيْبِيَة، فَقدم فِي سنة سبع أَو أول سنة ثَمَان، وَاسم امْرَأَته أُمَيْمَة بنت عدي بن قيس السهمية، وَهِي وَالِدَة أكبر أَوْلَاد عبد الرَّحْمَن أبي عَتيق مُحَمَّد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَوْله: (وَلَا أَدْرِي هَل قَالَ) الْقَائِل هُوَ أَبُو عُثْمَان الرَّاوِي عَن عبد الرَّحْمَن، كَأَنَّهُ شكّ فِي ذَلِك. قَوْله: (وخادمي) بِالْإِضَافَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بِغَيْر إِضَافَة. قَوْله: (بَين بيتنا وَبَيت أبي بكر) يَعْنِي: خدمتها مُشْتَركَة بَين بيتنا وَبَيت أبي بكر. وَقَوله: (بَين) طرف للخادم. قَوْله: (إِن أَبَا بكر تعشي عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي مُسلم، قَالَ: وَإِن أَبَا بكر، أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن: وَإِن أَبَا بكر تعشى عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثمَّ لبث) ، أَي:(16/124)
مكث عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى صلى الْعشَاء، وَفِيمَا تقدم فِي: بَاب السمر مَعَ الْأَهْل: ثمَّ لبث حَتَّى صليت الْعشَاء الْآخِرَة وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (ثمَّ رَجَعَ) ثمَّ رَجَعَ أَبُو بكر إِلَى منزله، هَذَا الَّذِي يفهم من ظَاهر الرِّوَايَة، والرواة مَا اتَّفقُوا على هَذَا، لِأَن فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ثمَّ ركع، بِالْكَاف، أَي: ثمَّ صلى النَّافِلَة، وَالْحَاصِل على هَذَا أَن أَبَا بكر مكث عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى صلى الْعشَاء ثمَّ صلى النَّافِلَة فَلبث أَبُو بكر عِنْده حَتَّى تعشى أَو حَتَّى نعس، يَعْنِي أَخذ فِي النّوم على مَا نذكرهُ الْآن. قَوْله: (فَلبث) مَعْنَاهُ: فَلبث عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد أَن رَجَعَ إِلَيْهِ حَتَّى تعشى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ثمَّ رَجَعَ فَلبث حَتَّى نعس رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من النعاس الَّذِي هُوَ مُقَدّمَة النّوم، وَقَالَ بَعضهم: شرح الْكرْمَانِي: يَعْنِي هَذَا الْموضع بِأَن المُرَاد: أَنه لما جَاءَ بِالثَّلَاثَةِ إِلَى منزله لبث فِي منزله إِلَى وَقت صَلَاة الْعشَاء، ثمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلبث عِنْده حَتَّى تعشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا لَا يَصح، لِأَنَّهُ يُخَالف صَرِيح قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب: وَإِن أَبَا بكر تعشى عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى. قلت: لم يقل الْكرْمَانِي هَذَا مثل الَّذِي ذكره، وَإِنَّمَا قَالَ فَإِن قلت: هَذَا يشْعر بِأَن التعشي عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بعد الرُّجُوع إِلَيْهِ وَمَا تقدم بِأَنَّهُ كَانَ بعده قلت: الأول: بَيَان حَال أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي عدم احْتِيَاجه إِلَى الطَّعَام عِنْد أَهله، وَالثَّانِي: هُوَ سوق الْقِصَّة على التَّرْتِيب الْوَاقِع. أَو الأول: تعشى الصّديق وَالثَّانِي تعشى الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو الأول: من الْعشَاء، بِكَسْر الْعين، وَالثَّانِي: مِنْهُ بِفَتْحِهَا. انْتهى. هَذَا لفظ الْكرْمَانِي فَلْينْظر المتأمل هَل نِسْبَة هَذَا الْقَائِل عدم الصِّحَّة إِلَى الْكرْمَانِي صَحِيحَة أم لَا؟ وَحل تركيب هَذَا الحَدِيث يحْتَاج إِلَى دقة نظر وَتَأمل كثير. قَوْله: (أَو ضيفك) ، شكّ من الرَّاوِي، وعَلى هَذَا فالضيف كَانُوا ثَلَاثَة فَكيف قَالَ بِالْإِفْرَادِ؟ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن الضَّيْف اسْم جنس يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو الضَّيْف، مصدر يتَنَاوَل الْمثنى وَالْجمع. قلت: لَا يَصح هَذَا الْفساد الْمَعْنى. قَوْله: (أوَعشيتهم؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أَو مَا عشيتهم؟ بِزِيَادَة: مَا النافية، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي، والهمزة للاستفهام، وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر بعد الْهمزَة، ويروى: أوعشيتهم، بِالْيَاءِ الساكنة بعد تَاء الْخطاب. قَوْله: (قَالَت: أَبَوا) ، أَي: امْتَنعُوا إِلَى أَن تَجِيء رفقا بِهِ لظنهم أَنه لَا يجد عشَاء فصبروا حَتَّى يَأْكُل مَعَهم. قَوْله: (قد عرضوا) ، بِفَتْح الْعين أَي: قد عرض الْأَهْل والخدم. قَوْله: (فغلبوهم) ، أَي: إِن آل بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عرضوا على الأضياف الْعشَاء فامتنعوا، فعالجوهم فامتنعوا حَتَّى غلبوهم، وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت فِي: بَاب السمر مَعَ الْأَهْل. قَوْله: (فَذَهَبت) ، أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن: فَذَهَبت، وَفِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ: فَذَهَبت أَنا. قَوْله: (فاختبأت) ، أَي: اختفيت خوفًا مِنْهُ. قَوْله: (فَقَالَ: يَا غنثر) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره رَاء: مَعْنَاهُ الْجَاهِل، وَقيل: غنثر الذُّبَاب، وَأَرَادَ بِهِ التَّغْلِيظ عَلَيْهِ حَيْثُ خاطبه بِشَيْء فِيهِ التحقير، وَقد مر فِي الصَّلَاة كَلَام كثير فِيهِ فَليرْجع إِلَيْهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فجدع) أَي: جدع أَبُو بكر، بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: أَي: دَعَا بالجدع، وَهُوَ قطع الْأنف وَالْأُذن وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَسَب) ، أَي: شتم ظنا مِنْهُ أَن عبد الرَّحْمَن فرط فِي حق الأضياف. قَوْله: (وَقَالَ: كلوا) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر: كلوا، وَفِي رِوَايَة الصَّلَاة: كلوا لَا هَنِيئًا، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، إِنَّمَا قَالَه لما حصل لَهُ من الْحَرج والغيظ بتركهم الْعشَاء بِسَبَبِهِ، وَقيل: إِنَّه لَيْسَ بِدُعَاء إِنَّمَا هُوَ خبر أَي: لم تهنوا بِهِ فِي وقته. قَوْله: (فَقَالَ: لَا أطْعمهُ أبدا) ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كل ذَلِك من أبي بكر على ابْنه ظنا مِنْهُ أَنه فرط فِي حق الأضياف، فَلَمَّا تبين لَهُ أَن ذَلِك كَانَ من الأضياف أدبهم. بقوله: كلوا لَا هَنِيئًا، وَحلف أَن لَا يطعمهُ، وَفِي رِوَايَة الْجريرِي، فَقَالَ: إِنَّمَا انتظرتموني؟ وَالله لَا أطْعمهُ أبدا، فَقَالَ الْآخرُونَ: وَالله لَا نطعمه أبدا حَتَّى تطعمه، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من هَذَا الْوَجْه: فَقَالَ أَبُو بكر: فَمَا منعكم؟ قَالُوا: مَكَانك. قَالَ: وَالله لَا أطْعمهُ أبدا، ثمَّ اتفقَا، فَقَالَ: لم أر من الشَّرّ كالليلة، وَيْلكُمْ؟ مَا أَنْتُم؟ لم لَا تقبلون عَنَّا قراكم؟ هَات طَعَامك. فَوضع فَقَالَ: بِسم الله الأولى من الشَّيْطَان فَأكل وأكلوا. قَوْله: الأولى من الشَّيْطَان، أَرَادَ بِهِ يَمِينه. قَالَ القَاضِي: وَقيل: مَعْنَاهُ اللُّقْمَة الأولى من أجل قمع الشَّيْطَان وإرغامه ومخالفته فِي مُرَاده بِالْيَمِينِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ أَن من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فعل ذَلِك وَكفر عَن يَمِينه، كَمَا جَاءَت بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قَوْله: (وأيم الله) أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن: وأيم الله، هَذَا من أَلْفَاظ الْيَمين وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: وأيم الله قسمي، وهمزته همزَة وصل لَا يجوز قطعه عِنْد الْأَكْثَرين، وَقد أطلنا الْكَلَام فِيهِ فِي التَّيَمُّم فِي: بَاب(16/125)
الصَّعِيد الطّيب. قَوْله: (إلاَّ رَبًّا من أَسْفَلهَا) ، أَي: زَاد من أَسْفَلهَا، أَي: من الْموضع الَّذِي أخذت مِنْهُ. قَوْله: (فَإِذا شَيْء) ، أَي: فَإِذا هُوَ شَيْء كَمَا كَانَ أَو أَكثر، ويروى لَهَا: فَإِذا هِيَ شَيْء، أَي الْبَقِيَّة أَو الْأَطْعِمَة. قَوْله: (قَالَ لامْرَأَته) أَي: قَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأمرأته: (يَا أُخْت بني فراس) قَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: يَا من هِيَ من بني فراس، بِكَسْر الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، قَالَ القَاضِي: فراس هُوَ ابْن غنم بن مَالك بن كنَانَة، وَقد تقدم أَن أم رُومَان من ذُرِّيَّة الْحَارِث بن غنم، وَهُوَ أَخُو فراس بن غنم، فَلَعَلَّ أَبَا بكر نَسَبهَا إِلَى بني فراس لكَوْنهم أشهر من بني الْحَارِث، وَقد يَقع مثل هَذَا كثيرا، وَقيل: الْمَعْنى: يَا أُخْت الْقَوْم المنتسبين إِلَى بني فراس. قَوْله: (قَالَت: لَا، وقرة عَيْني) ، كلمة: لَا، زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَيحْتَمل أَن تكون نَافِيَة، وثمة مَحْذُوف أَي: لَا شَيْء غير مَا أَقُول، وَهُوَ قَوْلهَا: وقرة عَيْني، وَالْوَاو فِيهِ للقسم، وقرة الْعين، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء: يعبر بهَا عَن المسرة ورؤية مَا يحب الْإِنْسَان، وَقد طولنا الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب السمر مَعَ الْأَهْل والضيف. قَوْله: (لهي الْآن أَكثر) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَقيل بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) وَقيل: ثَلَاث مرار. قَوْله: (فَأكل مِنْهَا) أَي: من الْأَطْعِمَة. قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَان) يَعْنِي: إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَان الْحَامِل على يَمِينه الَّتِي حَلفهَا، وَهِي قَوْله: (وَالله لَا أطْعمهُ) وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من الشَّيْطَان، يَعْنِي: يَمِينه، وَهَذَا أقرب. قَوْله: (فَأَصْبَحت عِنْده) أَي: أَصبَحت الْأَطْعِمَة الَّتِي فِي الْجَفْنَة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَالهَا، وَإِنَّمَا لم يَأْكُلُوا مِنْهَا فِي اللَّيْل لكَون ذَلِك وَقع بعد أَن مضى من اللَّيْل مُدَّة طَوِيلَة. قَوْله: (عهد) ، أَي: عهد مهادنة، ويروى: وَكَانَت بَيْننَا، والتأنيث بِاعْتِبَار المهادنة. قَوْله: (فَمضى الْعَهْد) أَي: مَضَت مُدَّة الْعَهْد. قَوْله: (ففرقنا) من التَّفْرِيق، فالراء فِيهِ مَفْتُوحَة وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكلمَة: نَا، مَفْعُوله، و: الْفَاء، فِيهِ فَاء الفصيحة أَي: فجاؤا إِلَى الْمَدِينَة، أَي: جعل كل رجل مَعَ اثْنَي عشرَة فرقة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَعرفنَا: بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالرَّاء الْمُشَدّدَة أَي: جعلنَا عرفاء نقباء على قَومهمْ. وَفِيه: دَلِيل لجَوَاز تَعْرِيف العرفاء على العساكر وَنَحْوهَا، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : العرافة حق، وَلما فِيهِ من مصلحَة النَّاس وليتيسر ضبط الجيوش على الإِمَام وَنَحْوهَا باتخاذ العرفاء. فَإِن قلت: جَاءَ فِي الحَدِيث: العرفاء فِي النَّار. قلت: هُوَ مَحْمُول على العرفاء الْمُقَصِّرِينَ فِي ولايتهم المرتكبين فِيهَا مَا لَا يجوز، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: فقرينا، بقاف وَرَاء وياء آخر الْحُرُوف، من الْقرى، وَهِي: الضِّيَافَة. وَقَالَ بَعضهم: وَلم أَقف على ذَلِك. قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوفه على ذَلِك الْإِنْكَار عَلَيْهِ، لِأَن من لم يقف على شَيْء أَكثر مِمَّن وقف عَلَيْهِ. قَوْله: (اثْنَا عشر رجلا) وَفِي رِوَايَة مُسلم: اثْنَي عشر، بِالنّصب وَهُوَ ظَاهر، وَأما رواي الرّفْع فعلى لُغَة من يَجْعَل الْمثنى بِالْألف فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَانِ لساحران} (طه: 36) . قَوْله: (غير أَنه بعث) أَي: غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث مَعَهم نصيب أَصْحَابهم إِلَيْهِم. قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ) ، شكّ من أبي عُثْمَان، وَالْمعْنَى: أَن جَمِيع الْجَيْش أكلُوا من تِلْكَ الْأَطْعِمَة الَّتِي أرسلها أَبُو بكر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَفْنَة، فَظهر بذلك أَن تَمام الْبركَة فِيهَا كَانَت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي وَقع فِي بَيت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ ظُهُور أَوَائِل الْبركَة فِيهَا، والفوائد الَّتِي استفيدت من الحَدِيث الْمَذْكُور ذَكرنَاهَا فِي: بَاب السمر مَعَ الْأَهْل والضيف.
2853 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ وعنْ يُونُسَ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أصابَ أهْلَ المَدِينَةِ قَحْطٌ علَى عَهْدِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ إذْ قامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رسُولَ الله هَلَكَتِ الكُرَاعُ هَلَكَتِ الشَّاءُ فادْعُ الله يَسْقِينَا فَمَدَّ يَدَيْهِ ودَعَا قَالَ أنَسٌ وإنَّ السَّمَاءَ كَمِثْلُ الزُّجَاجَةِ فَهَاجَتْ رِيح أنْشأتْ سَحابَاً ثُمَّ اجْتَمَعَ ثُمَّ أرْسَلَتِ السَّمَاءُ عَزَالِيَهَا فَخَرَجْنَا نَخُوضُ المَاءَ حَتَّى أتَيْنَا مَنَازِلَنَا فلَمْ تَزَلُ تُمْتِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الأخْرَى فقامَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ أوْ غَيْرُهُ فَقَالَ يَا رسُولَ الله تَهَدَّمَتِ البيُوتُ فادْعُ الله يَحْبِسْهُ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا فنَظَرْتُ إِلَى السَّحَابِ تَصَدَّعَ حَوْلَ المَدِينَةِ كأنَّهُ إكْلِيلٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرج هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الاسْتِسْقَاء مطولا ومختصراً من عشرَة وُجُوه. الأول: عَن(16/126)
مُحَمَّد عَن أبي ضَمرَة عَن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عَن أنس بن مَالك. وَالثَّانِي: عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن شريك عَن أنس. وَالثَّالِث: عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة عَن قَتَادَة عَن أنس. وَالرَّابِع: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن شريك عَن أنس. وَالْخَامِس: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن شريك عَن أنس. وَالسَّادِس: عَن الْحسن بن بشر عَن معافى بن عمرَان عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس. وَالسَّابِع: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن شريك عَن أنس. وَالثَّامِن: عَن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن مُعْتَمر عَن عبيد الله بن ثَابت عَن أنس. وَالتَّاسِع: عَن أَيُّوب بن سُلَيْمَان، مُعَلّقا عَن أبي بكر بن أبي أويس عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد عَن أنس. والعاشر: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس. وَالْوَجْه الْحَادِي عشر: أخرجه فِي كتاب الْجُمُعَة عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِسْحَاق بن عبد الله عَن أنس. وَالثَّانِي عشر: أخرجه فِي الْجُمُعَة أَيْضا من طَرِيقين، كَمَا أخرجه هَهُنَا نَحوه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن عبد الْعَزِيز ابْن صُهَيْب عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَالْآخر: عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن يُونُس بن عبيد الْبَصْرِيّ عَن ثَابت عَن أنس، وَالْحَاصِل أَن لحماد إسنادين: أَحدهمَا عَال، وَالْآخر نَازل، وَذكر الْبَزَّار أَن حماداً تفرد بطرِيق يُونُس بن عبيد، فَالطَّرِيقَانِ أخرجهُمَا أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد بِإِسْنَادِهِ نَحوه.
قَوْله: (قحط) ، أَي: جَدب، يُقَال: قحط الْمَطَر وقحط بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا: إِذا احْتبسَ وَانْقطع، وأقحط النَّاس إِذا لم يمطروا. قَوْله: (على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: على زَمَنه وأيامه. قَوْله: (إِذا قَامَ) ، جَوَاب بَينا. قَوْله: (رجل) ، قيل: هُوَ خَارِجَة بن حصن الْفَزارِيّ. قَوْله: (الكراع) ، بِضَم الْكَاف، وَحكى عَن رِوَايَة الْأصيلِيّ كسرهَا، وخطيء. وَالْمرَاد بِهِ: الْخَيل هُنَا لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ. (وَهَلَكت الشَّاء) وَقد يُطلق على غَيرهَا، وَالشَّاء جمع شَاة، وأصل الشَّاة، شاهة فحذفت لامها، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: جمع الشَّاة شَاءَ وشياه وشوًى. قَوْله: (كَمثل الزجاجة) ، أَي: فِي شدَّة الصفاء لَيْسَ فِيهِ شَيْء من السَّحَاب، وَمن الكدورات. قَوْله: (فهاجت) ، أَي: ثارت ريح أنشأت سحاباً. وَفِي (التَّوْضِيح) : فِيهِ نظر، إِنَّمَا يُقَال: نَشأ السَّحَاب إِذا ارْتَفع، وأنشأه الله، وَمِنْه ينشيء السَّحَاب الثقال أَي: يبديها. قَوْله: (عزاليها) ، جمع: عزلاء، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي، وَهُوَ فَم الراوية من أَسْفَلهَا، وَفِي الْجمع: يجوز كسر اللاَّم وَفتحهَا كَمَا فِي الصحارى، وَقد مر عَن قريب. قَوْله: (مَنَازلنَا) ، ويروى: منزلنا بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (فَلم تزل تمطر) ، بِضَم التَّاء أَي: لم تزل السَّمَاء تمطر، وَيجوز أَن يكون: لم نزل، بنُون الْمُتَكَلّم، وَكَذَلِكَ: نمطر، وَلَكِن على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو غَيره) ، أَي: أَو غير ذَلِك الرجل الَّذِي قَامَ فِي تِلْكَ الْجُمُعَة، شكّ فِيهِ أنس، وَتارَة يجْزم بذلك الرجل. وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت فِي كتاب الاسْتِسْقَاء. قَوْله: (تصدع) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: تتصدع وَهُوَ الأَصْل، وَلَكِن حذفت مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قَوْله: (إكليل) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ شبه عِصَابَة مزينة بالجواهر، وَهُوَ التَّاج، وَكَانَت مُلُوك الْفرس تستعملها.
3853 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيَى بنُ كَثِيرٍ أبُو غَسَّانَ حدَّثنا أبُو حَفْص واسْمُهُ عُمَرُ بنُ العَلاءِ أخُو أبِي عَمْرِو بنِ العَلاَءِ قَالَ سَمِعْتُ نافِعاً عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ إلَى جِذْعٍ فلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ فأتاهُ فمَسَحَ يَدَهُ علَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي حنين الْجذع. وَيحيى بن كثير ضد الْقَلِيل ابْن دِرْهَم أَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة: الْعَنْبَري، بِسُكُون النُّون: الْبَصْرِيّ، مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ، وَأَبُو حَفْص بالمهملتين عمر بن الْعَلَاء بن عمَارَة الْبَصْرِيّ الْمَازِني، وَقَالَ صَاحب (الكاشف) : الْأَصَح أَنه معَاذ بن الْعَلَاء لَا عمر، وَقيل: لم تقع تَسْمِيَة أبي حَفْص بعمر بن الْعَلَاء إلاَّ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَالظَّاهِر أَنه هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق بنْدَار عَن يحيى بن كثير، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو حَفْص بن الْعَلَاء فَذكر الحَدِيث وَلم يسمه، وَذكر الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي تَرْجَمَة أبي حَفْص فِي (الكنى) فساقه من طَرِيق عبد الله بن رَجَاء الفداني حَدثنَا أَبُو حَفْص بن الْعَلَاء، فَذكر حَدِيث الْبَاب وَلم يقل اسْمه عمر، ثمَّ سَاقه من طَرِيق عُثْمَان بن عمر عَن معَاذ بن الْعَلَاء بِهِ، ثمَّ(16/127)
أخرج من طَرِيق مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن معَاذ بن الْعَلَاء أبي غَسَّان، قَالَ: وَكَذَا ذكر البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ) : أَن معَاذ بن الْعَلَاء يكنى أَبَا غَسَّان، قَالَ الْحَاكِم: ألله أعلم أَهما أَخَوان أَحدهمَا يُسمى عَمْرو وَالْآخر يُسمى معَاذًا وحدثا مَعًا عَن نَافِع بِحَدِيث الْجذع، أَو إِحْدَى الطَّرِيقَيْنِ غير مَحْفُوظ لِأَن الْمَشْهُور أَن الْعَلَاء أَبُو عَمْرو، صَاحب القراآت وَأَبُو سُفْيَان ومعاذ، فَأَما أَبُو حَفْص عمر فَلَا أعرفهُ إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقيل: لَيْسَ لِمعَاذ وَلَا لعمر فِي البُخَارِيّ ذكر فِي هَذَا الْموضع، وَأما أَبُو عَمْرو ابْن الْعَلَاء فَهُوَ أشهر الْأُخوة وأجلهم، وَهُوَ إِمَام القراآت بِالْبَصْرَةِ وَشَيخ الْعَرَبيَّة بهَا وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ أَيْضا رِوَايَة وَلَا ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَاخْتلف فِي إسمه اخْتِلَافا كثيرا، وَالْأَظْهَر أَن إسمه كنيته، وَأما أَخُوهُ أَبُو سُفْيَان بن الْعَلَاء فَأخْرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ، وَحَدِيث الْبَاب أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس عَن عُثْمَان بن عمر وَيحيى بن كثير أبي غَسَّان الْعَنْبَري، كِلَاهُمَا عَن معَاذ بن الْعَلَاء بِهِ. وَقَالَ الْمزي: وَقيل: إِن قَوْله: عمر بن الْعَلَاء، وهمٌ وَالصَّوَاب: معَاذ بن الْعَلَاء، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ.
قَوْله: (إِلَى جذع) أَي: مُسْتَندا إِلَيْهِ. قَوْله: (فَأَتَاهُ) أَي: فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْجذع فَمسح يَده عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ فسكن، وَقَالَ: لَو لم أفعل لما سكن. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الدَّارمِيّ بِلَفْظ: (لَو لم أحتضنه لحنَّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) ، وَفِي حَدِيث أنس عِنْد أبي عوَانَة وَابْن خُزَيْمَة وَأبي نعيم: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لم ألتزمه لما زَالَ هَكَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة حزنا على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أَمر بِهِ فَدفن) . وَفِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد الدَّارمِيّ: (فَأمر بِهِ أَن يحْفر لَهُ ويدفن) . فَإِن قلت: وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب: (فَأخذ أبي بن كَعْب ذَلِك الْجذع لما هدم الْمَسْجِد، فَلم يزل عِنْده حَتَّى بلي وَعَاد رفاتاً) . قلت: هَذَا لَا يُنَافِي مَا تقدم من دَفنه، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه ظهر بعد الْهدم عِنْد التَّنْظِيف، فَأَخذه أبي بن كَعْب.
وَقَالَ عَبْدُ الحَمِيدِ أخْبَرَنا عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ أخْبَرَنَا مُعاذُ بنُ العَلاَءِ عنْ نافِعٍ بِهَذَا هَذَا التَّعْلِيق أخرجه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ فِي (مُسْنده) عَن عُثْمَان بن عمر بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَعبد الحميد مَا ترْجم لَهُ أحد من رجال البُخَارِيّ، وَلَكِن الْمزي وَمن تبعه جزموا بِأَنَّهُ: عبد بن حميد الْحَافِظ الْمَشْهُور، وَقَالُوا: كَانَ اسْمه عبد الحميد، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: عبد، بِغَيْر إِضَافَة لأجل التَّخْفِيف، وَعُثْمَان بن عمر بن فَارس الْبَصْرِيّ، ومعاذ، بِضَم الْمِيم: ابْن الْعَلَاء بِالْمدِّ الْمَازِني أَخُو أبي عَمْرو بن الْعَلَاء.
ورَواهُ أَبُو عاصِمٍ عنِ ابنِ رَوَّادٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ الْكِبَار عَن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْوَاو، واسْمه: مَيْمُون الْمروزِي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق سعيد بن عَمْرو عَن أبي عَاصِم مطولا، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن الْحسن بن عَليّ عَن أبي عَاصِم مُخْتَصرا.
4853 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا عبْدُ الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قالَ سَمِعْتُ أبِي عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلَى شَجَرَةٍ أوْ نَخْلَةٍ فقالَتِ امْرَأةٌ مِنَ الأنْصَارِ أوْ رَجُلٌ يَا رسُولَ الله أَلا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرَا قالَ إنْ شِئْتُمْ فجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرَاً فلَمَّا كانَ يَوْمُ الجُمْعَةِ دُفِعَ إلَى المِنْبَرِ فَصاحَتِ النَّخْلَةُ صِياحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضَمَّهُ إلَيْهِ تَئِنُّ أنِينَ الصَّبِيَّ الَّذِي يُسَكِّنُ قَالَ كانَتْ تَبْكِي علَى مَا كانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن وَعبد الْوَاحِد بن أَيمن ضد الْأَيْسَر المَخْزُومِي مولى أبي عَمْرو أَو مولى ابْن أبي عَمْرو الْمَكِّيّ، يروي عَن أَبِيه أَيمن الحبشي عِنْد البُخَارِيّ وَحده.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب التُّجَّار، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن خَلاد بن يحيى عَن عبد الْوَاحِد بن أَيمن إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِلَى شَجَرَة أَو نَخْلَة)(16/128)
شكّ من الرَّاوِي وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق وَكِيع عَن عبد الْوَاحِد، فَقَالَ: إِلَى نَخْلَة، وَلم يشك. قَوْله: (امْرَأَة من الْأَنْصَار أَو رجل) شكّ من الرَّاوِي، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي الْجُمُعَة. وَقَالَ مَالك: غُلَام لرجل من الْأَنْصَار، وَهُوَ غُلَام سعد بن عبَادَة، وَقَالَ غَيره: غُلَام لإمرأة من الْأَنْصَار، أَو للْعَبَّاس، وَكَانَ ذَلِك سنة سبع. وَقيل: ثَمَان. قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة) أَي: وَقت الْخطْبَة. قَوْله: (دفع) بِضَم الدَّال، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِضَم الرَّاء. قَوْله: (فضمه إِلَيْهِ) أَي: الْجذع، وَذكر الضَّمِير بِاعْتِبَار الْجذع، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَضمهَا، أَي: الشَّجَرَة أَو النَّخْلَة. قَوْله: (يسكن) على صِيغَة الْمَجْهُول من التسكين.
5853 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانُ بنِ بِلاَلٍ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ أخْبَرَنِي حَفْصُ بنُ عُبيْدِ الله بنِ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنهُ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقُولُ كانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفَاً علَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا فلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وكانَ عَلَيْهِ فسَمِعْنَا لِذالِكَ الجِذْعَ صَوْتَاً كَصَوْتِ العِشَارِ حَتَّى جاءَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَضَعَ يَدَهُ علَيْهَا فَسَكَنَتْ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه أبي بكر عبد الحميد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال الْقرشِي التَّيْمِيّ عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن حَفْص بن عبيد الله، وَرِوَايَته عَنهُ من رِوَايَة الأقران لِأَنَّهُ فِي طبقته.
وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه فِي الْجُمُعَة فِي: بَاب الْخطْبَة على الْمِنْبَر عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد ابْن جَعْفَر بن أبي كثير عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن أنس: أَنه سمع جَابر بن عبد الله وَلم يسمه، وَذكر أَبُو مَسْعُود أَن البُخَارِيّ إِنَّمَا قَالَ فِي حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن يحيى عَن ابْن أنس وَلم يسمه، لِأَن مُحَمَّد بن جَعْفَر يَقُول فِيهِ: عَن يحيى عَن عبيد الله بن حَفْص ابْن أنس، فَقَالَ البُخَارِيّ: عَن ابْن أنس ليَكُون أقرب إِلَى الصَّوَاب.
قَوْله: (كَانَ الْمَسْجِد مسقوفاً على جُذُوع من نخل) أَرَادَ: أَن الْجُذُوع كَانَت لَهُ كالأعمدة. قَوْله: (إِلَى جذع مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ الْجُذُوع، وَكَانَ إِذا خطب يسْتَند إِلَى جذع مِنْهَا. قَوْله: (كصوت العشار) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ جمع: عشراء، وَهِي النَّاقة الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا من يَوْم أرسل عَلَيْهَا الْفَحْل عشرَة أشهر، وَفِي حَدِيث جَابر عِنْد النَّسَائِيّ من (الْكُبْرَى: اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السارية كحنين النَّاقة الحلوج. انْتهى. والحلوج، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم اللَّام الْخَفِيفَة، وَآخره جِيم: النَّاقة الَّتِي انتزع مِنْهَا وَلَدهَا. وَفِي حَدِيث أنس عِنْد ابْن خُزَيْمَة فحنت الْخَشَبَة حنين الوالدة، وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى عِنْد الدَّارمِيّ: خار ذَلِك الْجذع كخوار الثور، وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب عِنْد أَحْمد والدارمي وَابْن مَاجَه: فَلَمَّا جاوزه خار الْجذع حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ، وروى الدَّارمِيّ من حَدِيث بُرَيْدَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: اختر أغرسك فِي الْمَكَان الَّذِي كنت فِيهِ كَمَا كنت؟ يَعْنِي: قبل أَن تصير جذعاً، وَإِن شِئْت أَن أغرسك فِي الْجنَّة فَتَشرب من أنهارها فَيحسن نبتك وتثمر، فتأكل مِنْك أَوْلِيَاء الله تَعَالَى، فَقَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْتَار أَن تغرسي فِي الْجنَّة.
6853 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا ابنُ أبِي عَدِيٍّ عنْ شُعْبَةَ وحدَّثني بِشْرُ بنُ خَالِد حدَّثنا مُحَمَّدٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أبَا وَائِلٍ يُحَدَّثُ عنْ حُذَيْفَةَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفِتْنَةِ فقالَ حُذَيْفَةُ أنَا أحْفَظُ كَما قالَ قَالَ هاتِ إنَّكَ لَجَرِيءٌ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ ومالِهِ وجارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ والصَّدَقَةُ والأمْرُ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عنِ المُنْكَرِ قَالَ لَيْسَتْ هَذِهِ ولَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ قَالَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا بَأسَ عَلَيْكَ مِنْهَا إنَّ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا بابَاً مُغْلَقَاً قَالَ يُفْتَحُ(16/129)
البَابُ أوْ يُكْسَرُ قالَ لَا بَلْ يُكْسَرُ قالَ ذَاكَ أحْرَى أنْ لاَ يُغْلَقَ قُلْنَا عَلِمَ الْبابَ قَالَ نَعَمْ كَما أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ إنِّي حدَّثْتُهُ حَدِيثَاً لَيْسَ بالأغَالِيط فَهَبْنَا أنْ نَسْأَلَهُ وأمَرْنا مَسْرُوقَاً فسَألَهُ فَقَالَ مَنِ البابُ قالَ عُمَرُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأُمُور الْآتِيَة بعده، وَهَذَا أَيْضا معْجزَة من معجزاته.
وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن مُحَمَّد بن بشار وَابْن أبي عدي وَهُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي عدي أَبُو عَمْرو الْبَصْرِيّ، وَاسم أبي عدي إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة. وَالثَّانِي: عَن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن خَالِد أَبُو مُحَمَّد العسكري الْفَرَائِضِي عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر الَّذِي يُقَال لَهُ غنْدر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان الْعَبْسِي. والْحَدِيث مر فِي أول كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة، عَن مُسَدّد عَن يحيى ابْن سعيد، وَفِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ فلنذكر بعض شَيْء.
قَوْله: (فِي الْفِتْنَة) ، المُرَاد بالفتنة مَا يعرض للْإنْسَان من الشَّرّ أَو أَن يَأْتِي لأجل النَّاس بِمَا لَا يحل لَهُ أَو يخل بِمَا يجب عَلَيْهِ. قَوْله: (هَات) ، تَقول: هَات يَا رجل بِكَسْر التَّاء، أَي: أَعْطِنِي، وللأثنين: هاتيا مثل: آتِيَا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هَاتِي، وللمرأتين: هاتيا، وللنساء: هَاتين، مثل: عاطين. قَالَ الْخَلِيل: أصل هَات من: آتِي يُؤْتِي، فقلبت الْألف: هَاء. قَوْله: (لجرىء) من الجراءة، وَهُوَ الْإِقْدَام على الشَّيْء من غير تخوف. قَوْله: (فتْنَة الرجل فِي أَهله) ، بالميل إلَيْهِنَّ أَو عَلَيْهِنَّ فِي الْقِسْمَة والإيثار. قَوْله: (وَمَاله) ، أَي: وَفِي مَاله بالاشتغال بِهِ عَن الْعِبَادَة وبحبسه عَن إِخْرَاج حق الله تَعَالَى. قَوْله: (وجاره) ، أَي: وَفِي جَاره بِالْحَسَدِ والمفاخرة والمزاحمة فِي الْحُقُوق، وَإِنَّمَا خص الرجل بِالذكر لِأَنَّهُ فِي الْغَالِب صَاحب الحكم فِي دَاره وَأَهله، وإلاَّ فالنساء شقائق الرِّجَال فِي الحكم، وَذكر هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء ثمَّ إِنَّه ذكر ثَلَاثَة أَشْيَاء تكفرها، فَذكر من عبَادَة الْأَفْعَال: الصَّلَاة وَالصِّيَام، وَمن عبَادَة المَال الصَّدَقَة، وَمن عبَادَة الْأَقْوَال الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. قَوْله: (لَيست هَذِه) ، أَي: لَيست الْفِتْنَة الَّتِي أريدها هَذِه وَلَكِن أُرِيد الْفِتْنَة الَّتِي تموج كموج الْبَحْر، وموج الْبَحْر يكون عِنْد اضطرابه وهيجانه، وكنى بذلك عَن شدَّة الْمُخَاصمَة وَكَثْرَة الْمُنَازعَة وَمَا ينشأ عَن ذَلِك من المشاتمة والمقاتلة. وَقَوله: (الْفِتْنَة) مَنْصُوب بِلَفْظ أُرِيد الْمُقدر. قَوْله: (يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ) أَي: قَالَ حُذَيْفَة لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: (لَا بَأْس عَلَيْك مِنْهَا) ، أَي: من هَذِه الْفِتْنَة الَّتِي تموج كموج الْبَحْر. قَوْله: (إِن بَيْنك وَبَينهَا) أَي: وَبَين هَذِه الْفِتْنَة بَابا مغلقاً، يَعْنِي: لَا يخرج مِنْهَا شَيْء فِي حياتك، وَفِيه تَمْثِيل الْفِتَن بِالدَّار، وحياة عمر بِالْبَابِ الَّذِي لَهَا مغلق، وَمَوته بِفَتْح ذَلِك الْبَاب، فَمَا دَامَت حَيَاة عمر مَوْجُودَة فالباب مغلق لَا يخرج مِنْهَا شَيْء، فَإِذا مَاتَ فقد انْفَتح الْبَاب فَخرج مَا فِي تِلْكَ الدَّار. قَوْله: (قَالَ: لَا بل يكسر) ، أَي: قَالَ حُذَيْفَة: لَا يفتح، بل: يكسر. قَوْله: (قَالَ ذَلِك) أَي: قَالَ عمر: ذَلِك أَحْرَى، أَي: أَجْدَر، قَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الْعَادة أَن الغلق إِنَّمَا يَقع فِي الصَّحِيح فَأَما مَا انْكَسَرَ فَلَا يتَصَوَّر غلقه حَتَّى يجْبر. انْتهى. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ عمر ذَلِك اعْتِمَادًا على مَا عِنْده من النُّصُوص الصَّرِيحَة فِي وُقُوع الْفِتَن فِي هَذِه الْأمة وَوُقُوع الْبَأْس بَينهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقد وَافق حُذَيْفَة على رِوَايَته هَذِه أَبُو ذَر، فروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات أَنه: لَقِي عمر فَأخذ بِيَدِهِ فغمزها، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَر: أرسل يَدي يَا قفل الْفِتْنَة، وَفِيه: أَن أَبَا ذَر. قَالَ: لَا تصيبكم فتْنَة مَا دَامَ فِيكُم، وَأَشَارَ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (إِنِّي حدثته) ، من بَقِيَّة كَلَام حُذَيْفَة. قَوْله: (بالأغاليط) ، جمع أغلوطة وَهُوَ مَا يغالط بِهِ، يَعْنِي: حدثته حَدِيثا صدقا محققاً من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا عَن اجْتِهَاد، وَلَا عَن رَأْي. قَوْله: (فهبنا أَن نَسْأَلهُ) ، من كَلَام أبي وَائِل، أَي: خفنا أَن نسْأَل حُذَيْفَة وأمرنا مَسْرُوق بن الأجدع فَسَأَلَهُ أَي: فَسَأَلَ مسروقٌ حُذَيْفَة، ومسروق من كبار التَّابِعين وَمن أخصاء أَصْحَاب حُذَيْفَة، وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهمَا من كبار الصَّحَابَة، وَفِي ذَلِك مَا يدل على حسن تأدبهم مَعَ كبارهم.(16/130)
7853 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرَنَا شُعَيْبٌ حدَّثنَا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْماً نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأعْيُنِ حُمُرَ الوُجُوهِ ذُلْفَ الأُنُوف كأنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ. وتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الأمْرِ حتَّى يَقَعَ فِيهِ والنَّاسُ مَعادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإسْلاَمُ. ولَيَأْتِيَنَّ عَلَيَّ أحَدِكُمْ زَمانٌ لأنْ يَرَانِي أحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يَكُونَ لَهُ مثْلُ أهْلِهِ ومالِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ إِخْبَارًا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْأُمُور الْآتِيَة بعده، فَوَقَعت من ذَلِك أَشْيَاء وستقع أُخْرَى.
وَأَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف: الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن.
وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن أَرْبَعَة أَحَادِيث أَولهَا: قتال التّرْك، أوردهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: قَوْله: (لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا قوما نعَالهمْ الشّعْر) . وَالْآخر: قَوْله: (وَحَتَّى تقاتلوا التّرْك صغَار الْأَعْين حمر الْوُجُوه) إِلَى قَوْله: (المطرقة) ! وَقد مر هَذَانِ فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب قتال التّرْك، و: بَاب الَّذين ينتعلون الشّعْر. الثَّانِي: هُوَ قَوْله: (وتجدون) إِلَى قَوْله: (فِيهِ) . قَوْله: (لهَذَا الْأَمر) أَي: الْإِمَارَة والحكومة. الثَّالِث: قَوْله: (وَالنَّاس معادن) إِلَى قَوْله: (فِي الْإِسْلَام) ، وَقد مر هَذَا فِي: بَاب المناقب عَن أبي هُرَيْرَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن عمَارَة عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة. الرَّابِع: هُوَ قَوْله: (وليأتين) إِلَخ. ولنتكلم فِي بعض أَلْفَاظه وَإِن كَانَ مكرراً لزِيَادَة الْفَائِدَة.
قَوْله: فِي الحَدِيث الأول: (تقاتلوا قوما نعَالهمْ الشّعْر) ، وَفِي الثَّانِي: (تقاتلوا التّرْك) ، وهما جِنْسَانِ من التّرْك كثيران، وَقيل: المُرَاد من الْقَوْم الأكراد، فوصف الأول بِأَن نعَالهمْ الشّعْر، وَقيل: المُرَاد تطول شُعُورهمْ حَتَّى تصير أطرافها فِي أَرجُلهم مَوضِع النِّعَال، وَقيل: المُرَاد أَن نعَالهمْ من شعر: بِأَن يجعلوها من شعر مضفور، وَفِي رِوَايَة لمُسلم (يلبسُونَ الشُّعُور) وَزعم ابْن دحْيَة: أَن المُرَاد القندس الَّذِي يلبسونه فِي الشرابيش، قَالَ: وَهُوَ جلد كلب المَاء، وَوصف الثَّانِي بصغر الْعُيُون كَأَنَّهَا مثل خرق المسلة، وبحمرة الْوَجْه كَأَن وُجُوههم مطلية بالصبغ الْأَحْمَر، وبذلافة الأنوف، فَقَالَ: (ذلف الأنوف) والذلف، بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة: جمع أذلف، وَرُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْضا وَهُوَ: صغر الْأنف مستوى الأرنبة، وَقيل: الذلافة تشمير الْأنف عَن الشّفة الْعليا، وَجَاء: فطس الأنوف، والفطاسة انفراش الْأنف. قَوْله: (كالمجان) ، وَهُوَ جمع: مجن، وَهُوَ الترس والمطرقة، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الطَّاء وَفتح الرَّاء، وَقَالَ عِيَاض: الصَّوَاب فِيهِ المطرقة، بتَشْديد الرَّاء، وَذكر ابْن دحْيَة عَن شَيْخه أبي إِسْحَاق: أَن الصَّوَاب سُكُون الطَّاء وَفتح الرَّاء، وَهِي الَّتِي أطرقت بالعقب أَي: ألبست حَتَّى غلظت فَكَأَنَّهَا ترس على ترس، وَمِنْه: طارقت النَّعْل إِذا ركبت جلدا على جلد وخرزته.
0953 - حدَّثني يَحْيَى حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقَاتِلُوا خُوزاً وكِرْمَانَ مِنَ الأعَاجِمُ حُمْر الوُجُوهِ فُطْسَ الأُنُوفِ صِغَارَ الأعْيُنِ كأنَّ وُجُوهَهُمْ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ. .
هَذَا طَرِيق آخر من وَجه آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، أخرجه عَن يحيى بن مُوسَى الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، أَو هُوَ يحيى بن جَعْفَر البيكندي عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر بن رَاشد عَن همام بتَشْديد الْمِيم: ابْن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (خوز) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالزاي، قَالَ الْكرْمَانِي: خوز بِلَاد الأهواز، وتستر، (وكرمان) بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا، وَهُوَ الْمُسْتَعْمل عِنْد أَهلهَا: هُوَ بَين خُرَاسَان وبحر الْهِنْد وَبَين عراق الْعَجم وسجستان، وَالْمعْنَى: لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا أهل خوز وَأهل كرمان. قَوْله: (من الْأَعَاجِم) يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الصِّنْفَيْنِ من الْأَعَاجِم، قيل: فِيهِ إِشْكَال لِأَن هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من التّرْك، ورد بِأَنَّهُ: لَا إِشْكَال(16/131)
فِيهِ، لِأَن هَذَا الحَدِيث غير حَدِيث قتال التّرْك، وَلَا مَانع من اشْتِرَاك الصِّنْفَيْنِ فِي الصِّفَات الْمَذْكُورَة مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَانِ الإقليمان لَيْسُوا على هَذِه الصِّفَات، ثمَّ قَالَ: أما أَن بَعضهم كَانُوا بِهَذِهِ الْأَوْصَاف فِي ذَلِك الْوَقْت أَو سيصيرون كَذَلِك فِيمَا بعد، وَإِمَّا أَنهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَب كالتوابع للترك، وَقيل: إِن بِلَادهمْ فِيهَا مَوضِع، يُقَال لَهُ: كرمان، وَقيل ذَلِك لأَنهم يتوجهون من هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لَعَلَّ المُرَاد بهما صنفان من التّرْك فَإِن أحد أصُول أَحدهمَا من خوز، وَأحد أصُول الآخر من كرمان. وَقَالَ ابْن دحْيَة: خوز، قيدناه فِي البُخَارِيّ بالزاي، وَقَيده الْجِرْجَانِيّ: خور كرمان بالراء الْمُهْملَة مُضَاف إِلَى كرمان، وَصَوَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيّ بالراء مَعَ الْإِضَافَة، وَحَكَاهُ عَن الإِمَام أَحْمد، وَقَالَ غَيره: تَصْحِيف، وَقيل: إِذا أضيف خور، فبالمهملة لَا غير، وَإِذا عطفت كرمان عَلَيْهِ فبالزاي لَا غير. وَفِي (التَّلْوِيح) : هما جِنْسَانِ من التّرْك، وَكَانَ أول خُرُوج هَذَا الْجِنْس متغلباً فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة فعاثوا فِي الْبِلَاد وأظهروا فِي الأَرْض الْفساد، وخربوا جَمِيع الْمَدَائِن حَتَّى بَغْدَاد، وربطوا خيولهم إِلَى سواري الْجَوَامِع، كَمَا فِي الحَدِيث، وعبروا الْفُرَات وملكوا أَرض الشَّام فِي مُدَّة يسيرَة، وعزموا على دُخُولهمْ إِلَى مصر، فَخرج إِلَيْهِم ملكهَا قطز المظفر، فَالْتَقوا بِعَين جالوت فَكَانَ لَهُ عَلَيْهِم من النَّصْر وَالظفر كَمَا كَانَ لطالوت، فانجلوا عَن الشَّام منهزمين، وَرَأَوا مَا لم يشاهدوه مُنْذُ زمَان وَلَا حِين، وراحوا خاسرين أذلاء صاغرين، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. ثمَّ إِنَّهُم فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين ملك عَلَيْهِم رجل يُسمى غازان، زعم أَنه من أهل الْإِيمَان، ملك جملَة من بِلَاد الشَّام وعاث جَيْشه فِيهَا عيث عباد الْأَصْنَام، فَخرج إِلَيْهِم الْملك النَّاصِر مُحَمَّد فكسرهم كسراً لَيْسَ مَعَه انجبار، وتفلل جَيش التتار، وَذهب معظمهم إِلَى النَّار وَبئسَ الْقَرار. انْتهى كَلَام صَاحب (التَّلْوِيح) : قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ على الأَصْل وَالْوَجْه، لِأَن هَؤُلَاءِ الَّذين ذكرهم لَيْسُوا من خوز وَلَا من كرمان، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ من أَوْلَاد جنكز خَان، وَكَانَ ابْتِدَاء ملكه فِي سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَلم يزل فِي الترقي إِلَى أَن صَار يركب فِي نَحْو ثَمَان مائَة مقَاتل، وأفسد فِي الْبِلَاد وَكَانَ قد استولى على سَمَرْقَنْد وبخارى وخوارزم الَّذِي كرسيها تبريز، والري وهمدان، وَلم يكن هُوَ دخل بَغْدَاد، وَإِنَّمَا خرب بَغْدَاد وَقتل الْخَلِيفَة هلاون بن طلوخان بن خرخان الْمَذْكُور، وَقتل الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه، وَقتل من أَهله وقرابته خلق كثير، وَشعر بِنصب الْخلَافَة بعده، وَكَانَ قَتله فِي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة، ثمَّ بعد ذَلِك توجه هلاون إِلَى حلب فِي سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة ودخلها فِي أَوَائِل سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة، وَبَقِي السَّيْف مبذولاً وَدم الْإِسْلَام ممطولاً سَبْعَة أَيَّام ولياليها، وَقتلُوا من أَهلهَا خلقا لَا يُحصونَ، وَسبوا من النِّسَاء والذراري زهاء مائَة ألف، ثمَّ رَحل هلاون من حلب وَنزل على حمص وَأرْسل أكبر نوابه كتيعانو مَعَ إثني عشر طومان، كل طومان عشرَة آلَاف إِلَى مصر ليأخذها، وَكَانَ صَاحب مصر حِينَئِذٍ الْملك المظفر، فتجهز وَخرج وَمَعَهُ مِقْدَار اثْنَي عشر ألف نفس مقاتلين فِي سَبِيل الله، فتلاقوا على عين جالوت، فنصره الله تَعَالَى على التتار وَهَزَمَهُمْ بعون الله ونصرته يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان من سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة، وَقتل كتيعانو فِي المعركة، وَقتل غَالب من مَعَه، وَالَّذين هربوا قَتلهمْ الْعَرَب فِي البراري والمفاوز. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) تَابعا لصَاحب (التَّلْوِيح) : إِنَّه فِي سنة ثَمَانمِائَة وَتِسْعين، وَيُسمى غازان إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قلت: هَذَا أَيْضا كَلَام فِيهِ خباط، وَهَذَا غازان، بالغين وَالزَّاي المعجمتين: يُسمى أَيْضا قازان، بِالْقَافِ مَوضِع الْغَيْن، واسْمه مَحْمُود، تولى مملكة جنكزخان فِي العراقين وَمَا والاهما بعد بيدوش طرغاي بن هلاون، وَكَانَ قتل لسوء سيرته، وقازان بن أرغون بن أبغا بن هلاون مَاتَ فِي سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة، وَالْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاو لم يجْتَمع بقازان وَلَا حصلت بَينهمَا الملاقاة وَلَا وَقع بَينهمَا حَرْب، نعم خرج الْملك النَّاصِر لأجل حَرَكَة قازان فِي سنة سَبْعمِائة، ثمَّ عَاد لأجل الغلاء والشتاء المفرط وَالْبرد الشَّديد الَّذِي قتل غَالب الغلمان والأتباع، ثمَّ خرج فِي سنة ثِنْتَيْنِ وَسَبْعمائة لأجل حَرَكَة التتار، وَحصل الْقِتَال بَينه وَبَين قطلوشاه من أكبر أُمَرَاء قازان، فنصر الله تَعَالَى النَّاصِر، وَانْهَزَمَ التتار وَعَاد عَسْكَر الْمُسلمين منصوراً، قَوْله: (فطس الأنوف) بِضَم الْفَاء، جمع: أفطس، وَقد فسرناه عَن قريب.(16/132)
تابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ عنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
أَي: تَابع غير يحيى شيخ البُخَارِيّ فِي رِوَايَته عَنهُ عَن عبد الرَّزَّاق بن همام وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه.
2953 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا جَرِير بنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ الحَسَنَ يَقُولُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْمَاً يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ وتُقَاتِلُونَ قَوْمَاً كانَّ وُجُوهَهُمُ المَجانُّ المُطْرَقَةُ. (انْظُر الحَدِيث 7292) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقِتَال مَعَ قومين قبل أَن يَقع، وَشَيْء من ذَلِك وَقع، وَشَيْء سيقع.
وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب قتال التّرْك، عَن أبي النُّعْمَان عَن جرير بن حَازِم ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.(16/133)
3953 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نَافِعٍ أخبرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قالَ أخْبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ تُقاتِلُكُمُ اليَهُودُ فتُسَلَّطُونَ علَيْهِم ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ ورَائِي فاقْتُلْهُ. (انْظُر الحَدِيث 5292) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَار من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَمر سيقع، وَهُوَ أَيْضا من عَلَامَات نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد مضى نَحوه فِي الْجِهَاد فِي: بَاب قتال الْيَهُود من حَيْثُ مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، وَالْحكم، بِفَتْح الْكَاف: هُوَ أَبُو الْيَمَان. قَوْله: (ثمَّ يَقُول الْحجر) ، وروى: حَتَّى يَقُول الْحجر. قَوْله: (ورائي) ، أَي: أختفى خَلْفي.
4953 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرو عنْ جَابِرٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يأتِي علَى النَّاسِ زَمانٌ يَغْزُونَ فيُقَالُ فِيكُمْ مَنْ صَحبَ الرَّسُولَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَقُولُونَ نَعَمْ فيُفْتَحُ علَيْهِمْ ثُمَّ يَغْزُونَ فيُقالَ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مِنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ. (انْظُر الحَدِيث 7982 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَجَابِر هُوَ ابْن عبد الله الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ، يروي عَن أبي سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ. والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب من اسْتَعَانَ بالضعفاء وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
5953 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ الحَكَمِ أخبرَنا النَّضْرُ أخْبرَنَا إسْرَائِيلُ أخبرنَا سَعْدٌ الطَّائِيُّ أخْبرَنا محِلُّ بنُ خَلِيفَةَ عنْ عَدِيِّ بنِ حاتِم قَالَ بَيْنَا أَنا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ أتَاهُ رَجلٌ فَشكا إلَيْهِ الفَاقَةَ ثُمَّ أتَاهُ آخَرُ فَشَكا إلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلَ فَقَالَ يَا عَدِيُّ هَلْ رَأيْتَ الحِيرَةَ قُلْتُ لَمْ أرَهَا وَقد أنبِئْتُ عَنْهَا قَالَ فإنْ طالَتْ بِكَ حَياةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوفَ بالْكَعْبَةِ لاَ تخَافُ أحَدَاً إلاَّ الله قُلْتُ فِيما بَيْنِي وبَيْنَ نَفْسِي فأيْنَ دُعَّارُ طَيِّىءٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا البِلادَ ولَئِنْ طالَتْ بِكَ حيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى قُلْتُ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ قَالَ كِسْرَى بنُ هُرْمُزَ ولَئِنْ طالَتْ بِكَ حَياةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أحَدَاً يَقْبَلُهُ مِنْهُ ولَيَلْقَيَنَّ الله أحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاه ولَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تُرْجُمانٌ يُتَرْجَمُ لَهُ فَيَقُولَنَّ ألَمْ أبْعَثْ إلَيْكَ رَسُولاً فَيُبَلِّغَكَ فيَقُولُ بَلَى فيَقُولُ ألَمْ أعْطِكَ مَالا وأُفْضِلَ عَلَيْكَ فيَقُولُ بَلاى فيَنْظُرُ عنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَراى إلاَّ جَهَنَّمَ وَينظر عَن يسَاره فَلَا يرى إِلَّا جَهَنَّم قَالَ عَدِيٌّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّةِ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ قَالَ عَدِيٌّ فرَأيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بالْكعْبَةِ لاَ تَخَافُ إلاَّ الله وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْراى بنِ هُرْمُزَ ولَئِنْ طالَتْ بِكُمْ حَياةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أبُو القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وَمُحَمّد بن الحكم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف المفتوحتين أَبُو عبد الله الْمروزِي الْأَحول، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَالنضْر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل بن حراشة أَبُو الْحسن الْمَازِني(16/134)
مَاتَ أول سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَسعد أَبُو مُجَاهِد الطَّائِي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَمحل، بِضَم الْمِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام: ابْن خَليفَة الطَّائِي.
وَفِي هَذَا السَّنَد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والعنعنة فِي مَوضِع. وَالْبَاقِي كُله: أخبرنَا، وَإِلَى الْآن لم يَقع مثل هَذَا.
والْحَدِيث مضى فِي الزَّكَاة فِي: بَاب الصَّدَقَة قبل الرَّد.
قَوْله: (الْفَاقَة) أَي: الْفقر. قَوْله: (الْحيرَة) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء: بلد مَعْرُوف قَدِيما مجاور الْكُوفَة. قَوْله: (أنبئت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أخْبرت. قَوْله: (الظعينة) بالظاء الْمُعْجَمَة: الْمَرْأَة فِي الهودج، وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم الهودج. قَوْله: (حَتَّى تَطوف بِالْكَعْبَةِ) وَفِي رِوَايَة أَحْمد: من غير جوَار أحد. قَوْله: (فَأَيْنَ دعَّار طي) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الْعين الْمُهْملَة: جمع داعر، وَهُوَ الشاطر الْخَبيث الْمُفْسد الْفَاسِق، وَالْمرَاد: قطاع الطَّرِيق. وَقَالَ الجواليقي: والعامة يَقُولُونَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَالْمَعْرُوف بِالْمُهْمَلَةِ، وطيء: قَبيلَة مَشْهُورَة، واسْمه: جلهمة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ. قَوْله: (قد سعروا الْبِلَاد) أَي: أوقدوا نَار الْفِتْنَة فِي الْبِلَاد، وَهُوَ مستعار من: سعرت النَّار: إِذا أوقدتها. قَوْله: (لتفتحن) على صِيغَة الْمَجْهُول وبفتح اللَّام وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (كسْرَى) بِكَسْر الْكَاف وَفتحهَا: علم من ملك الْفرس. قَوْله: (قَالَ كسْرَى بن هُرْمُز) أَي: قَالَ عدي مستفهماً عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِعَظَمَة كسْرَى فِي نَفسه فِي ذَلِك الْوَقْت. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك كَانَ فِي زَمَنه. قَوْله: (لترين) على صِيغَة الْمَعْلُوم بِاللَّامِ الْمَفْتُوحَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة، وَهُوَ خطاب لعدي: (وَالرجل) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (يخرج) بِضَم الْيَاء من الْإِخْرَاج. قَوْله: (فَلَا يجد أحدا يقبله) لعدم الْفُقَرَاء فِي ذَلِك الزَّمَان، قيل: يكون ذَلِك فِي زمن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا وَقع فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من طَرِيق يَعْقُوب بن سُفْيَان بِسَنَدِهِ إِلَى عمر بن أسيد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب، قَالَ: إِنَّمَا ولي عمر بن عبد الْعَزِيز ثَلَاثِينَ شهرا، لَا وَالله مَا مَاتَ حَتَّى جعل الرجل يأتينا بِالْمَالِ الْعَظِيم، فَيَقُول: إجعلوا هَذَا حَيْثُ ترَوْنَ فِي الْفُقَرَاء، فَمَا نَبْرَح حَتَّى يرجع بِمَالِه يتَذَكَّر من يَضَعهُ فِيهِ فَلَا يجده، قد أغْنى عمر النَّاس. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِيهِ تَصْدِيق مَا روينَا فِي حَدِيث عدي بن حَاتِم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. انْتهى. قيل: هَذَا أرجح من الأول لقَوْله فِي الحَدِيث: وَلَئِن طَالَتْ بك حَيَاة. قَوْله: (وليلقين) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللام الْمَفْتُوحَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة وَلَفْظَة: الله، مَنْصُوبَة بِهِ و: أحدكُم، بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (وَأفضل عَلَيْك) من الإفضال أَي: وَلم أفضل عَلَيْك مِنْهُ. قَوْله: (وَلَو بشقة تَمْرَة) بِكَسْر الشين هَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بشقة، بِالتَّاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَة غَيره، بشق تَمْرَة، بِدُونِ التَّاء فِي: شقّ، وَهُوَ النّصْف. قَوْله: (وَلَئِن طَالَتْ بكم) إِلَى آخِره، من كَلَام عدي بن حَاتِم.
حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا أبُو عاصِمٍ أخْبَرَنَا سَعْدَانُ بنُ بِشْرٍ حدَّثنا أبُو مُجَاهِدٍ حدَّثنا مُحِلُّ بنُ خَلِيفَةَ سَمِعْتُ عَدِيَّاً كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عبد الله هُوَ ابْن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، روى عَنهُ هُنَا بالواسطة، وسعدان بن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: يُقَال اسْمه سعيد وسعدان لقبه، وَهُوَ الْجُهَنِيّ الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ وَلَا لشيخه وَلَا لشيخ شَيْخه غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَهَذَا السَّنَد بهؤلاء الرِّجَال وتحديثه قد مر فِي الزَّكَاة فِي: بَاب الصَّدَقَة قبل الرَّد.
6953 - حدَّثني سَعِيدُ بنُ شُرْحَبِيلٍ حدَّثنَا لَ يْثٌ عنْ يَزِيدَ عنْ أبِي الخَيْر عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْماً فصَلَّى علَى أهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ على المَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ فَقَالَ إنِّي فَرَطكُمْ وأنَا شَهِيدٌ علَيْكُمْ إنِّي وَالله لأنْظُرُ إلَى حَوْضِي الآنَ وإنِّي قدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنَ الأرْضُ وإنِّي وَالله مَا أخافُ بَعْدِي أنْ تُشْرِكُوا ولَكِنْ أخافُ أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من ثَلَاثَة مَوَاضِع: من قَوْله: (إِنِّي وَالله لأنظر إِلَى حَوْضِي) إِلَى آخِره، وَلَا يخفى على الفطن ذَلِك،(16/135)
وَسَعِيد بن شُرَحْبِيل، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللام: الْكِنْدِيّ مَاتَ سنة ثِنْتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَيزِيد هُوَ من الزِّيَادَة وَهُوَ ابْن أبي حبيب، وَأَبُو الْخَيْر وَهُوَ مرْثَد بن عبد الله وَرِجَال هَذَا الحَدِيث كلهم مصريون.
وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الصَّلَاة على الشُّهَدَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث ... إِلَى آخِره نَحوه.
قَوْله: (إِن النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا) ، وَفِي بعض النّسخ: عَن عقبَة بن عَامر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا، قيل: حذف فِيهِ لفظ: إِنَّه. قلت: يكون تَقْدِيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه خرج، وَقيل: هَذِه اللَّفْظَة تحذف كثيرا من الْخط، وَلَا بُد من التَّلَفُّظ بهَا، قَوْله: (فَرَطكُمْ) ، بِفَتْح الرَّاء: وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم الْوَارِدَة فيهيء لَهُم الْإِرْشَاد والدلاء وَنَحْوهَا. قَوْله: (أَعْطَيْت مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: خَزَائِن مَفَاتِيح الأَرْض، وَالْأول أظهر. قَوْله: (أَن تنافسوا) أَصله: أَن تتنافسوا، فحذفت إِحْدَى التائين من التنافس، وَهُوَ الرَّغْبَة فِي الشَّيْء والانفراد بِهِ، وَكَذَلِكَ المنافسة.
7953 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ أُسَامَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أطُمٍ مِنَ الآطَامِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أرَى إنِّي أرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ مَوَاقِعَ القَطْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن أَمر مغيب على النَّاس، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة.
والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَاخِر الْحَج فِي: بَاب آطام الْمَدِينَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ عَن سُفْيَان إِلَى آخِره.
قَوْله: (على أَطَم) ، الأطم، يُخَفف ويثقل، وَالْجمع: آطام، وَهُوَ: حصون لأهل الْمَدِينَة، والتشبيه بمواقع الْقطر فِي الْكَثْرَة والعموم أَي: أَنَّهَا لكثيرة وتعم النَّاس لَا تخْتَص بهَا طَائِفَة. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا إِشَارَة إِلَى الحروب الْحَادِثَة فِيهَا كوقعة الْحرَّة وَغَيرهَا.
8953 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أبي سلَمَةَ حدَّثَتْهُ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أبِي سُفْيَانَ حدَّثَتْهَا عنْ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ علَيْهَا فَزِعَاً يَقُولُ لَا إلاه إلاَّ الله ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رِدْمِ يَأجُوجَ ومَأجُوجَ مِثْلُ هَذَا وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ وبالَّتِي تَلِيهَا فقالَتْ زَيْنَبُ فَقُلْتُ يَا رسُولَ الله أنَهْلِكُ وفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن أَمر مغيب عَن النَّاس، وَقد شَاهده هُوَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
وَفِيه: ثَلَاث صحابيات، وَهِي: زَيْنَب بنت أبي سَلمَة ربيبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسم أبي سَلمَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الْأسد، وَأم حَبِيبَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان، وَزَيْنَب بنت جحش زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي مُسلم: روى الحَدِيث: زَيْنَب عَن حَبِيبَة عَن أمهَا عَن زَيْنَب، فاجتمعت فِيهِ أَربع صحابيات، وَقد مضى الحَدِيث فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قصَّة يَأجُوجَ ومَأجُوجَ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فَزعًا) أَي: خَائفًا مِمَّا أخبر بِهِ أَنه يُصِيب أمته. قَوْله: (ويل) ، كلمة تقال لمن وَقع فِي هلكة وَلَا يترحم عَلَيْهِ، و: وَيْح، كلمة تقال لمن وَقع فِي هلكة يترحم عَلَيْهِ. قَوْله: (للْعَرَب) ، يَعْنِي: للْمُسلمين، لِأَن أَكثر الْمُسلمين الْعَرَب ومواليهم. قَوْله: (من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج) ، أَي: من سدهم. قَوْله: (بإصبعه) أَي: الْإِبْهَام، وَقد صرح بِهِ فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب {ويسألونك عَن ذِي القرنين} (الْكَهْف: 38) . قَوْله: {أنهلك وَفينَا الصالحون؟} أَرَادَت: أيقع الْهَلَاك بِقوم وَفِيهِمْ من لَا يسْتَحق ذَلِك؟ (قَالَ: نعم إِذا كثر الْخبث) أَي: الزِّنَا، وَقيل: إِذا عز الأشرار وذل الصالحون.(16/136)
9953 - وعَنِ الزُّهْرِيِّ حدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الحَارِثِ أنَّ أُمَّ سلَمَةَ قالَتِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سُبْحَانَ الله ماذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ وماذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ.
هُوَ عطف على الزُّهْرِيّ فِي الحَدِيث السَّابِق مُتَّصِل بِهِ فِي الْإِسْنَاد، وَأوردهُ مُخْتَصرا، وَتَمَامه يَأْتِي فِي الْفِتَن عَن أبي الْيَمَان الْمَذْكُور آنِفا. قَوْله: (مَاذَا أنزل من الخزائن؟) قَالَ الدَّاودِيّ: الخزائن الْكُنُوز، والفتن هَهُنَا: الْقِتَال الَّذِي يكون بَين الْمُسلمين، وَقيل: خَزَائِن الله: علم غيوبه الَّتِي لَا يعلمهَا إلاَّ هُوَ.
0063 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي سلَمَةَ بن الماجِشُونِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابنِ أبِي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ لِي إنِّي أرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وتَتَّخِذُهَا فأصْلِحْهَا وأصْلِحْ رُعَامَها فَإنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ يأتِي على النَّاسِ زَمانٌ تَكُونُ الغَنَمُ فيهِ خَيْر مالِ الْمُسْلِمِ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ أوْ سَعَفَ الجِبَالِ. فِي مَوَاقِعِ القَطْرِ يَفرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَأْتِي على النَّاس زمَان) إِلَى آخِره، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَعبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة هُوَ عبد الْعَزِيز ابْن عبد الله بن أبي سَلمَة، وَاسم أبي سَلمَة دِينَار، والماجشون، بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا وَضمّهَا، قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة بن الْمَاجشون، بِزِيَادَة لَفْظَة: ابْن، بعد: أبي سَلمَة، وَالصَّوَاب عَدمه، وَجَاز فِيهِ ضم النُّون لِأَنَّهُ صفة لعبد الْعَزِيز، وَيجوز كسرهَا لِأَنَّهُ صفة لأبي سَلمَة. قلت: وَقَالَ ابْن سعد: يَعْقُوب بن أبي سَلمَة هُوَ الْمَاجشون، فَسُمي بذلك هُوَ وَولده، فيعرفون جَمِيعًا بالماجشون، وَسمي بذلك لِأَن وجنتيه كَانَتَا حمراوان، فَسُمي بِالْفَارِسِيَّةِ: الماً يكون فِيهِ خمر، شبه وجنتاه بِالْخمرِ، فعربه أهل الْمَدِينَة، فَقَالُوا: الْمَاجشون، وَيَعْقُوب بن أبي سَلمَة: هُوَ عَم عبد الْعَزِيز الْمَذْكُور، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي صعصعة، ينْسب إِلَى جده، وَرِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه لَا عَن أبي صعصعة. فَافْهَم.
وَأول الحَدِيث مضى فِي: بَاب ذكر الْجِنّ وثوابهم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي صعصعة ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَقَوله: (يَأْتِي على النَّاس زمَان) إِلَى آخِره، فِي: بَاب خير مَال الْمُسلم غنم، وَلَكِن فِيهَا بعض زِيَادَة وَنقص فِي الْمَتْن يعرف عِنْد النّظر. وَقَوله: (رعامها) بِضَم الرَّاء وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة، وَهُوَ: المخاط، يُقَال: شَاة رعوم، بهَا مَاء: يسيل من أنفها، الرعام، أَي: نح الرعام مِنْهَا، ويروى: رعاتها، جمع الرَّاعِي، نَحْو: الْقُضَاة وَالْقَاضِي. قَوْله: (شعف الْجبَال) بالشين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (أَو سعف الْجبَال) بِالسِّين الْمُهْملَة، شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ جمع سعفة فِي رَأس الْجَبَل، وَالشَّكّ إِمَّا فِي حَرَكَة الْعين وسكونها، وَإِمَّا فِي السِّين الْمُهْملَة أَو الْمُعْجَمَة، وَهِي غُصْن النّخل، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: غُصْن النّخل إِذا يبس يُسمى سعفة، بِالسِّين الْمُهْملَة، وَإِذا كَانَ رطبا فَهِيَ: شطبة، والشعف بالشين الْمُعْجَمَة رَأس جبل من الْجبَال، وَمِنْه قيل لأعلى شعر الرَّأْس: شعفة.
1063 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ الأوَيْسِيُّ حدَّثَنا إبْرَاهِيمُ عنْ صالِحِ بنِ كَيْسَانَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ وأبِي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ والْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي والمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِيَ ومَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ ومنْ وَجَدَ مَلْجَأ أوْ مَعاذَاً فلْيَعُذْ بِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن فتن ستقع، وَهَذَا من عَلَامَات النُّبُوَّة، وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن عبد الله ابْن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي الأويسي، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره سين مُهْملَة، نِسْبَة(16/137)
إِلَى أويس أحد أجداده، وَهُوَ من أَفْرَاده. وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين إثنان مِنْهُم مذكوران بالابن، وَالثَّالِث بالكنية. والْحَدِيث أخرجه مُسلم.
قَوْله: (فتن) ، بِكَسْر الْفَاء: جمع فتْنَة. قَوْله: (وَمن يشرف) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف، من: الإشراف، وَهُوَ الانتصاب للشَّيْء والتطلع إِلَيْهِ والتعرض لَهُ، ويروى: من تشرف على وزن تفعل من الْمَاضِي، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (تستشرفه) ، أَي: تغلبه وتصرعه، وَقيل: هُوَ من الإشراف على الْهَلَاك، أَي: تستهلكه، وَقيل: من طلع لَهَا بشخصه طالعته بِشَرَفِهَا. قَوْله: (ملْجأ) أَي: موضعا يلتجىء إِلَيْهِ فليعذ بِهِ، وَهُوَ أَمر للْغَائِب من عاذ بِهِ. قَوْله: (أَو معَاذًا) ، شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ بِمَعْنى ملْجأ أَيْضا.
وَفِيه: الْحَث على تجنب الْفِتَن والهرب مِنْهَا، وَأَن شَرها يكون بِحَسب التَّعَلُّق بهَا.
2063 - وَعَنْ ابنِ شِهَابٍ حدَّثنِي أبُو بَكْرِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ مُطَيعِ ابنِ الأسْوَدِ عنْ نَوْفَلِ بنِ مُعَاوِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ هَذَا إلاَّ أنَّ أبَا بَكْرٍ يَزِيدُ مِنَ الصَّلاةِ صَلاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ فكَأنَّمَا وُتِرَ أهْلَهُ ومَالَهُ.
هُوَ بِإِسْنَاد حَدِيث أبي هُرَيْرَة إِلَى الزُّهْرِيّ، وَشَيخ الزُّهْرِيّ هُوَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم المَخْزُومِي الْمدنِي الضَّرِير، وَيُقَال لَهُ: رَاهِب قُرَيْش لِكَثْرَة صلَاته، وَيُقَال: اسْمه أَبُو بكر وكنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَعبد الرَّحْمَن بن مُطِيع بن الْأسود بن حَارِثَة يكنى أَبَا عبد الله، وَعبد الرَّحْمَن هَذَا تَابِعِيّ على الصَّحِيح وَذكره ابْن حبَان وَابْن مَنْدَه فِي الصَّحَابَة، وَأَخُوهُ عبد الله بن مُطِيع الَّذِي ولي الْكُوفَة مَذْكُور فِي الصَّحَابَة، وَعبد الرَّحْمَن هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَنَوْفَل بن مُعَاوِيَة بن عُرْوَة الْكِنَانِي الديلِي وَهُوَ من مسلمة الْفَتْح، عَاشَ إِلَى خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَيُقَال: إِنَّه جَاوز الْمِائَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ خَال عبد الرَّحْمَن بن مُطِيع الرَّاوِي عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن عَمْرو النَّاقِد وَالْحسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد.
قَوْله: (مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى الحَدِيث السَّابِق الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة. قَوْله: (إلاَّ أَن أَبَا بكر) ، أَي: شيخ الزُّهْرِيّ. قَوْله: (يزِيد من الصَّلَاة) إِلَى آخِره، قيل: يحْتَمل أَن يكون زَاده مُرْسلا، وَيحْتَمل أَن يكون بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور عَن عبد الرَّحْمَن بن مُطِيع. قَوْله: (من الصَّلَاة) ، المُرَاد بهَا صَلَاة الْعَصْر، وَقد صرح بذلك النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته. قَوْله: (أَهله وَمَاله) ، بِالنّصب فيهمَا وَهُوَ من وَتَرَهُ حَقه أَي: نَقصه.
3063 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنَا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَتَكُونُ أُثْرَةٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ الله فَما تَأمُرُنَا قَالَ تُؤدُّونَ الحَقَّ الَّذِي علَيْكُمْ وَتَسْألُونَ الله الَّذِي لَكُمْ. (الحَدِيث 3063 طرفه فِي: 2507) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن الْأُمُور الَّتِي ستقع، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن مُسَدّد، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي سعيد الْأَشَج وَعَن أبي كريب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، الْكل عَن الْأَعْمَش. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى بن سعيد بِهِ.
قَوْله: (أَثَرَة) ، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وبضم الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء أَي: استبداد واختصاص بالأموال فِيمَا حَقه الِاشْتِرَاك. قَوْله: (تؤدون الْحق الَّذِي عَلَيْكُم) ، قيل: المُرَاد بِالْحَقِّ السّمع وَالطَّاعَة للأئمة وَلَا يخرج عَلَيْهِم. قَوْله: (وتسألون الله الَّذِي لكم) .(16/138)
4063 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنَا أبُو أُسَامَةَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي التَّيَّاحِ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ قالُوا فَمَا تأمُرُنَا قَالَ لَوْ أنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن المغيبات، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم الملقب بصاعقة مر فِي الْوضُوء، وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين اسْمه إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْهُذلِيّ الْهَرَوِيّ الْبَغْدَادِيّ مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم، وروى البُخَارِيّ عَنهُ هَهُنَا بِوَاسِطَة، وَهُوَ صَاعِقَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أُسَامَة، وَأَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه يزِيد بن حميد الضبعِي مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، وَأَبُو التياح لقبه وكنيته أَبُو حَمَّاد، وَأَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء: اسْمه هرم بن عَمْرو بن حريز بن عبد الله البَجلِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي.
قَوْله: (يهْلك) ، بِضَم الْيَاء من الإهلاك، (وَالنَّاس) بِالنّصب مَفْعُوله. وَقَوله: (هَذَا الْحَيّ) بِالرَّفْع فَاعله، يَعْنِي: بِسَبَب وُقُوع الْفِتَن والحروب بَينهم يتخبط أَحْوَال النَّاس. قَوْله: (لَو أَن النَّاس) ، جَزَاؤُهُ مَحْذُوف تَقْدِيره: لَكَانَ خيرا، وَنَحْو ذَلِك، وَيجوز أَن تكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب.
قَالَ مَحْمُودٌ حدَّثنا أبُو دَاوُدَ أخْبَرَنَا شُعْبَةُ عنْ أبِي التَّياحِ سَمِعْتُ أبَا زُرْعَةَ
مَحْمُود بن غيلَان هُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ الْمَشْهُورين، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان الطَّيَالِسِيّ، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ إلاَّ اسْتِشْهَادًا وَأَرَادَ بذلك تَصْرِيح أبي التياح بِسَمَاعِهِ من أبي زرْعَة.
5063 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ حدَّثَنَا عَمْرُو بنُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عنْ جَدِّهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ مَرْوَانَ وأبِي هُرَيْرَةَ فسَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ الصَّادِقَ المَصْدُوقَ يَقُولُ هَلاكُ أُمَّتِي علَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ مَرْوَانُ غِلْمَةً قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ إنْ شِئْتَ أنْ أُسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلاَن وبَنِي فُلاَنٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد أَبُو مُحَمَّد الْأَزْرَقِيّ الْمَكِّيّ، وَيُقَال: الزرقي الْمَكِّيّ، وَعَمْرو بن يحيى ابْن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ أَبُو أُميَّة الْقرشِي، سمع جده سعيد بن عَمْرو أَبَا عُثْمَان الْقرشِي الْكُوفِي، وروى لَهُ مُسلم أَيْضا إلاَّ أَن ابْن ابْنه عَمْرو من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَكَذَلِكَ أَحْمد بن مُحَمَّد من أَفْرَاده.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (الصَّادِق فِي نَفسه) ، والمصدوق من عِنْد الله والمصدق من عِنْد النَّاس. قَوْله: (غلمة) ، بِكَسْر الْغَيْن: جمع غُلَام جمع قلَّة، والغلام الطارَّ الشَّارِب، وَقَالَ بَعضهم: قَالَ الْكرْمَانِي: تعجب مَرْوَان من وُقُوع ذَلِك من غلمة، فَأَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَة: إِن شِئْت صرحت بِأَسْمَائِهِمْ. انْتهى. وَكَأَنَّهُ غفل عَن الطَّرِيق الْمَذْكُورَة فِي الْفِتَن فَإِنَّهَا ظَاهِرَة فِي أَن مَرْوَان لم يوردها مورد التَّعَجُّب، فَإِن لَفظه هُنَاكَ، فَقَالَ مَرْوَان: لعنة الله عَلَيْهِم غلمة، فَظهر أَن فِي هَذِه الطَّرِيق اختصاراً. انْتهى. قلت: لَا مَانع من تعجبه من ذَلِك مَعَ لَعنه عَلَيْهِم، فَلَا وَجه لنسبته إِلَى التغفل. قَوْله: (إِن شِئْت) ، خطاب لمروان، ويروى: إِن شِئْتُم، خطاب لَهُ وَلمن كَانَ مَعَه، أَو يكون لَهُ للتعظيم.
6063 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوساى حدَّثني الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنِي الوَلِيدُ قَالَ حدَّثني ابنُ جَابِرٍ قَالَ حدَّثني بُسْرُ بنُ عُبَيْدِ الله الحَضْرَمِيُّ قَالَ حدَّثني أبُو إدْرِيسَ الخَوْلاَنِيُّ أنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمَانِ يَقُولُ كانَ النَّاسُ يَسْألُونَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الخَيْرِ وكُنْتُ أسْألُهُ عنِ الشَّرِّ(16/139)
مَخَافَةَ أنْ يُدْرِكَنِي فقُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنَّا كُنَّا فِي جاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ فجَاءَنَا الله بِهَذَا الخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعاةٌ إِلَى أبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رسُولَ الله صِفْهُمْ لَنا فقالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ويَتَكَلَّمُونَ بألْسِنَتِنَا قُلْتُ فَما تأمُرُنِي إنْ أدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ قُلْتُ فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ قَالَ فاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ولَوْ أنْ تَعَضَّ بأصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأنْتَ علَى ذَلِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل. وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، والوليد هُوَ ابْن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي أَبُو الْعَبَّاس الدِّمَشْقِي، وَابْن جَابر هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر مر فِي الصَّلَاة، وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن عبيد الله، بِضَم الْعين مصغر الْحَضْرَمِيّ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَأَبُو إِدْرِيس إسمه عَائِذ الله، بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة: من العوذ ابْن عبد الله الْخَولَانِيّ، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة شَامِيُّونَ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ. وَأخرجه مُسلم، قَالَ الْمزي فِي الْفِتَن: وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أخرجه فِي كتاب الْإِمَارَة وَالْجَمَاعَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عَليّ بن مُحَمَّد بِبَعْضِه.
قَوْله: (مَخَافَة) ، نصب على التَّعْلِيل وَكلمَة: أَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (دخن) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة: وَهُوَ الدُّخان، وَالْمعْنَى: لَيْسَ خيرا خَالِصا، وَلَكِن يكون مَعَه شوب وكدورة بِمَنْزِلَة الدُّخان فِي النَّار، وَقيل: الدخن الْأُمُور الْمَكْرُوهَة، قَالَه ابْن فَارس، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : الدخن الحقد، وَقَالَ أَبُو عبيد: تَفْسِيره فِي الحَدِيث الآخر، وَهُوَ قَوْله: لَا ترجع قُلُوب قوم على مَا كَانَت عَلَيْهِ، وَفِي (الْجَامِع) : هُوَ فَسَاد فِي الْقلب وَهُوَ مثل الدغل، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد من الدخن أَن لَا تصفو الْقُلُوب بَعْضهَا لبَعض وَلَا ترجع إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من الصفاء. قَوْله: (بِغَيْر هدي) ، بِالتَّنْوِينِ، ويروى بِغَيْر هدى، بِضَم الْهَاء وتنوين الدَّال، ويروى: بِغَيْر هَدْيِي، بِإِضَافَة الْهَدْي إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم. قَوْله: (تعرف مِنْهُم وتنكر) ، قَالَ القَاضِي عِيَاض: الْخَيْر بعد الشَّرّ أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، وَالَّذِي يعرف مِنْهُم وينكر الْأُمَرَاء بعده، وَمِنْهُم من يَدْعُو إِلَى بِدعَة أَو ضَلَالَة كالخوارج وَنَحْوهم. قَوْله: (دعاة) ، بِضَم الدَّال: جمع دَاع. قَوْله: (من جلدتنا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي من الْعَرَب، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي من أَنْفُسنَا وقومنا، وَالْجَلد غشاء الْبدن واللون إِنَّمَا يظْهر فِيهِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: من بني آدم، وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن: أَرَادَ أَنهم فِي الظَّاهِر مثلنَا مَعنا، وَفِي الْبَاطِن مخالفون لنا فِي أُمُورهم، وجلدة الشَّيْء ظَاهره. قَوْله: (وَلَو أَن تعض) أَي: وَلَو كَانَ الاعتزال بِأَن تعض بِأَصْل شَجَرَة حَتَّى يدركك الْمَوْت وَأَنت على ذَلِك العض بالأسنان، وَهُوَ من بَاب عضض يعضض مثل: مس يمس، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} (الْفرْقَان: 72) . فأدغمت الضَّاد فِي الضَّاد، فَصَارَ: عض يعَض، وَحكى الْقَزاز ضم الْعين فِي الْمُضَارع مثل: شدّ يشد. قَوْله: (وَأَنت على ذَلِك) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال.
7063 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ إسْمَاعِيلَ حدَّثنِي قَيْسٌ عنْ حُذَيْفَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ تَعَلَّمَ أصْحَابِي الخَيْرَ وتَعَلَّمْتُ الشَّرَّ. (انْظُر الحَدِيث 6063 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث حُذَيْفَة أخرجه مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي عَن قيس بن أبي حَازِم عَنهُ.
قَوْله: (تعلَّم) ، على وزن تفعَّل، مَاض من التَّعَلُّم. (وأصحابي) فَاعله (وَالْخَيْر) بِالنّصب مَفْعُوله، (وتعلمت) من بَاب التفعل أَيْضا أَي: وتعلمت أَنا الشَّرّ، وَالْمعْنَى: أَصْحَابِي كَانُوا يسْأَلُون عَن أَبْوَاب الْخَيْر ويتعلمون الْخَيْر، وَإِنَّا كنت(16/140)
أَخَاف على نَفسِي من إِدْرَاك الشَّرّ، وتعلمت من ذَلِك مَا يجلب الْخَيْر وَيدْفَع الشَّرّ.
8063 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نافِع حدَّثنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَقْتَتِلَ فِئتانٌ دَعْوَاهُمَا واحِدَةٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ إِخْبَارًا عَن الْغَيْب.
قَوْله: (فئتان) ، بِكَسْر الْفَاء بعْدهَا همزَة مَفْتُوحَة تَثْنِيَة: فِئَة، وَهِي الْجَمَاعَة. قَالَ بَعضهم: المُرَاد بهما من كَانَ مَعَ عَليّ وَمُعَاوِيَة لما تحاربا بصفين. قَوْله: (دعواهما) أَي: دينهما وَاحِد، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا كَانَ يتسمى بِالْإِسْلَامِ أَو المُرَاد: أَن كلاًّ مِنْهُمَا كَانَ يَدعِي أَنه المحق، وَذَلِكَ أَن عليّاً، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ إِذْ ذَاك إِمَام الْمُسلمين وأفضلهم يَوْمئِذٍ بِاتِّفَاق أهل السّنة، وَلِأَن أهل الْحل وَالْعقد بَايعُوهُ بعد قتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وتخلف عَن بيعَته أهل الشَّام، وَقَالَ الْكرْمَانِي: دعواهما وَاحِدَة، أَي: يَدعِي كل مِنْهُمَا أَنه على الْحق وخصمه مُبْطل، وَلَا بُد أَن يكون أَحدهمَا مصيباً وَالْآخر مخطئاً، كَمَا كَانَ بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ الْمُصِيب ومخالفه مخطىء مَعْذُور فِي الْخَطَأ، لِأَنَّهُ بالإجتهاد، والمجتهد إِذا أَخطَأ لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا أَخطَأ فَلهُ أجر) . انْتهى. وَفِيه نظر، وَهُوَ مَوضِع التَّأَمُّل، بل الْأَحْسَن السُّكُوت عَن ذَلِك.
113 - (حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يقتتل فتيَان فَيكون بَينهمَا مقتلة عَظِيمَة دَعْوَاهَا وَاحِدَة وَلَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يبْعَث دجالون كذابون قَرِيبا من ثَلَاثِينَ كلهم يزْعم أَنه رَسُول الله) هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور وَفِيه زِيَادَة وَهِي قَوْله تكون بَينهمَا مقتلة عَظِيمَة وَقَوله وَلَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يبْعَث إِلَى آخِره قَوْله مقتلة عَظِيمَة المقتلة بِفَتْح الْمِيم مصدر ميمي أَي قتل عَظِيم فَإِن كَانَ المُرَاد من الفئتين فِئَة عَليّ وَفِئَة مُعَاوِيَة كَمَا زَعَمُوا فقد قتل بَينهمَا وَحكى ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم عَن أبي الْحسن الْبَراء قَالَ قتل بصفين سَبْعُونَ ألفا خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا من أهل الْعرَاق وَخَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ألفا من أهل الشَّام فَمن أَصْحَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ خَمْسَة وَعِشْرُونَ بَدْرِيًّا وَكَانَ الْمقَام بصفين مائَة يَوْم وَعشرَة أَيَّام وَكَانَت فِيهِ تسعون وقْعَة وَحكى عَن ابْن سيف أَنه قَالَ أَقَامُوا بصفين تِسْعَة أَو سَبْعَة أشهر وَكَانَ الْقِتَال بَينهم سبعين زحفا قَالَ وَقَالَ الزُّهْرِيّ بَلغنِي أَنه كَانَ يدْفن فِي الْقَبْر الْوَاحِد خَمْسُونَ رجلا قَوْله حَتَّى يبْعَث على صِيغَة الْمَجْهُول أَي حَتَّى يخرج وَيظْهر وَلَيْسَ المُرَاد بِالْبَعْثِ الْإِرْسَال الْمُقَارن للنبوة بل هُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى إِنَّا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين قَوْله دجالون جمع دجال واشتقاقه من الدجل وَهُوَ التَّخْلِيط والتمويه وَيُطلق على الْكَذِب فعلى هَذَا قَوْله كذابون تَأْكِيد قَوْله " قَرِيبا " نصب على الْحَال من النكرَة الموصوفة وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد قريب بِالرَّفْع على أَنه صفة بعد صفة قَوْله من ثَلَاثِينَ أَي ثَلَاثِينَ نفسا كل وَاحِد مِنْهُم يزْعم أَنه رَسُول الله وعد مِنْهُم عبد الله بن الزبير ثَلَاثَة وهم مُسَيْلمَة وَالْأسود الْعَنسِي وَالْمُخْتَار رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده بِإِسْنَاد حسن عَن عبد الله بن الزبير بِلَفْظ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يخرج ثَلَاثُونَ كذابا مِنْهُم مُسَيْلمَة والعنسي وَالْمُخْتَار (قلت) وَمِنْهُم طليحة بن خويلد وسجاح التميمية والْحَارث الْكذَّاب وَجَمَاعَة فِي خلَافَة بني الْعَبَّاس وَلَيْسَ المُرَاد بِالْحَدِيثِ من ادّعى النُّبُوَّة مُطلقًا فَإِنَّهُم لَا يُحصونَ كَثْرَة لكَون غالبهم من نشأة جُنُون أَو سَوْدَاء غالبة وَإِنَّمَا المُرَاد من كَانَت لَهُ شَوْكَة وسول لَهُم الشَّيْطَان بِشُبْهَة قلت خرج مُسَيْلمَة بِالْيَمَامَةِ وَالْأسود بِالْيمن فِي آخر زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقتل الْأسود قبل أَن يَمُوت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقتل مُسَيْلمَة فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَخرج طليحة فِي خلَافَة أبي بكر ثمَّ تَابَ وَمَات على الْإِسْلَام على الصَّحِيح فِي خلَافَة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقيل أَن سجَاح تابت وَالْمُخْتَار بن عبيد الله الثَّقَفِيّ غلب على الْكُوفَة فِي أول خلَافَة ابْن الزبير(16/141)
ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَزعم أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَأْتِيهِ وَقتل فِي سنة بضع وَسِتِّينَ والْحَارث خرج فِي خلَافَة عبد الْملك بن مَرْوَان فَقتل
114 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحن عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يقسم قسما إِذْ أَتَاهُ ذُو الْخوَيْصِرَة وَهُوَ رجل من بني تَمِيم فَقَالَ يَا رَسُول الله اعْدِلْ فَقَالَ وَيلك وَمن يعدل إِذا لم أعدل قد خبت وخسرت إِن لم أكن أعدل فَقَالَ عمر يَا رَسُول الله ائْذَنْ لي فِيهِ فَأَضْرب عُنُقه فَقَالَ دَعه فَإِن لَهُ أصحابا يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ يقرؤن الْقُرْآن لَا يُجَاوز تراقيهم يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية ينظر إِلَى نصله فَلَا يُوجد فِيهِ شَيْء ثمَّ ينظر إِلَى رصافه فَمَا يُوجد فِيهِ شَيْء ثمَّ ينظر إِلَى نضيه وَهُوَ قدحه فَلَا يُوجد فِيهِ شَيْء ثمَّ ينظر إِلَى قذذه فَلَا يُوجد فِيهِ شَيْء قد سبق الفرث وَالدَّم آيَتهم رجل أسود إِحْدَى عضديه مثل ثدي الْمَرْأَة أَو مثل الْبضْعَة تدَرْدر وَيخرجُونَ على حِين فرقة من النَّاس قَالَ أَبُو سعيد فَأشْهد أَنِّي سَمِعت هَذَا الحَدِيث من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأشْهد أَن عَليّ بن أبي طَالب قَاتلهم وَأَنا مَعَه فَأمر بذلك الرجل فالتمس فَأتي بِهِ حَتَّى نظرت إِلَيْهِ على نعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي نَعته) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم دُحَيْم وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن عبد الله بن يُوسُف وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَأحمد بن عبد الرَّحْمَن وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة (ذكر مَعْنَاهُ) الْكَلَام فِي بَيْنَمَا قد مر غير مرّة قَوْله وَهُوَ يقسم الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله أَتَاهُ ذُو الْخوَيْصِرَة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وبالراء وَفِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ بَينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقسم غَنَائِم هوَازن جَاءَهُ ذُو الْخوَيْصِرَة التَّمِيمِي أصل الْخَوَارِج فَقَالَ اعْدِلْ قَالَ هَذَا غير ذِي الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِد وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي كتاب الأذواء ذُو الْخوَيْصِرَة رجل صَحَابِيّ من بني تَمِيم وَهُوَ الَّذِي قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قسم قسمه اعْدِلْ انْتهى وَلما ذكره السُّهيْلي عقبه بقوله وَيذكر عَن الْوَاقِدِيّ أَنه حرقوص بن زُهَيْر الكعبي من سعد تَمِيم وَكَانَ لحرقوص هَذَا مشَاهد كَثِيرَة مَشْهُورَة محمودة فِي حَرْب الْعرَاق مَعَ الْفرس أَيَّام عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ثمَّ صَار خارجيا قَالَ وَلَيْسَ ذُو الْخوَيْصِرَة هَذَا هُوَ ذُو الثدية الَّذِي قَتله عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بالنهروان ذَاك اسْمه نَافِع ذكره أَبُو دَاوُد وَقيل الْمَعْرُوف أَن ذَا الثدية اسْمه حرقوص وَهُوَ الَّذِي حمل على عَليّ رَضِي الله تَعَالَى ليَقْتُلهُ فَقتله عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " قد خبت " بِلَفْظ الْمُتَكَلّم وبالخطاب أَي خبت أَنْت لكونك تَابعا ومقتديا لمن لَا يعدل وَالْفَتْح أشهر وأوجه قَوْله " فَقَالَ عمر " أَي ابْن الْخطاب وَقَالَ فِي مَوضِع آخر فَقَالَ خَالِد بن الْوَلِيد ائْذَنْ لي فِي قَتله وَلَا مَانع أَن يكون كل مِنْهُمَا اسْتَأْذن فِي ذَلِك قَوْله " فَإِن لَهُ أصحابا " الْفَاء فِيهِ لَيْسَ للتَّعْلِيل فِي ترك الْقَتْل فِي كَون الْأَصْحَاب لَهُ وَإِن اسْتحق(16/142)
الْقَتْل بل لتعقيب الْأَخْبَار أَي قَالَ دَعه ثمَّ عقب مقَالَته بقصتهم وَغَايَة مَا فِي الْبَاب أَن حكمه حكم الْمُنَافِق وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يقتلهُمْ لِئَلَّا يُقَال أَن مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقتل أَصْحَابه قَوْله " لَا يُجَاوز تراقيهم " التراقي جمع ترقوة وَهُوَ عظم وَاصل مَا بَين ثغرة النَّحْر والعاتق وَفِي رِوَايَة " لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ " قَوْله " يَمْرُقُونَ " من المروق وَهُوَ الْخُرُوج وَإِن كَانَ المُرَاد بِالدّينِ الْإِسْلَام فَهُوَ حجَّة لمن يكفر الْخَوَارِج وَإِن كَانَ المُرَاد الطَّاعَة لَا يكون فِيهِ حجَّة وَإِلَى هَذَا مَال الْخطابِيّ قَوْله " من الرَّمية " على وزن فعيلة بِمَعْنى مفعولة وَهُوَ الصَّيْد المرمي شبه مروقهم من الدّين بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيب الصَّيْد فَيدْخل فِيهِ وَيخرج مِنْهُ من شدَّة سرعَة خُرُوجه لقُوَّة الرَّامِي لَا يعلق من جَسَد الصَّيْد بِشَيْء قَوْله " إِلَى نصله " وَهُوَ حَدِيدَة السهْم قَوْله " إِلَى رصافه " بِكَسْر الرَّاء وبالصاد الْمُهْملَة ثمَّ بِالْفَاءِ وَهُوَ العصب الَّذِي يلوى فَوق مدْخل النصل والرصاف جمع رصفة بالحركات الثَّلَاث قَوْله " إِلَى نضيه " بِفَتْح النُّون وَحكى ضمهَا وبكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفد فسره فِي الحَدِيث بالقدح بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَهُوَ عود السهْم قبل أَن يراش وينصل وَقيل هُوَ مَا بَين الريش والنصل قَالَه الْخطابِيّ وَقَالَ ابْن فَارس سمي بذلك لِأَنَّهُ يرى حَتَّى عَاد نضوا أَي هزيلا وَحكى الْجَوْهَرِي عَن بعض أهل اللُّغَة أَن النضي النصل وَالْأول أولى قَوْله " إِلَى قذذه " بِضَم الْقَاف وبذالين معجمتين الأولى مَفْتُوحَة وَهُوَ جمع قُذَّة وَهِي وَاحِدَة الريش الَّذِي على السهْم يُقَال أشبه بِهِ من القذة بالقذة لِأَنَّهَا تحذى على مِثَال وَاحِد قَوْله " قد سبق الفرث " أَي قد سبق السهْم بِحَيْثُ لم يتَعَلَّق بِهِ شَيْء من الفرث وَالدَّم وَلم يظْهر أثرهما فِيهِ والفرث السرجين مادام فِي الكرش وَيُقَال الفرث مَا يجْتَمع فِي الكروش مِمَّا تَأْكُله ذَوَات الكروش وَقَالَ القَاضِي يَعْنِي نفذ السهْم فِي الصَّيْد من جِهَة أُخْرَى وَلم يتَعَلَّق شَيْء مِنْهُ بِهِ قَوْله " آيَتهم " أَي علامتهم قَوْله " أَو مثل الْبضْعَة " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي مثل قِطْعَة اللَّحْم قَوْله " تدَرْدر " بدالين وراءين مهملات أَي تضطرب وَهُوَ فعل مضارع من الدردرة وَهُوَ صَوت إِذا انْدفع سمع لَهُ اخْتِلَاط وَقيل تدَرْدر تَجِيء وَتذهب وَمِنْه دردر المَاء قَوْله " على خير فرقة " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء أَي على أفضل فرقة أَي طَائِفَة وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره على حِين فرقة بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ نون وَفرْقَة بِضَم الْفَاء على هَذِه الرِّوَايَة أَي على زمَان فرقة أَي افْتِرَاق وَقَالَ القَاضِي خير فرقة أَي أفضل طَائِفَة هم عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأَصْحَابه وَخير الْقُرُون وَهُوَ الصَّدْر الأول قَوْله " فالتمس " على صِيغَة الْمَجْهُول أَي فَطلب قَوْله " على نعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي على وَصفه الَّذِي وَصفه وَالْفرق بَين الصّفة والنعت هُوَ أَن النَّعْت يكون بالحلية نَحْو الطَّوِيل والقصير وَالصّفة بالأفعال نَحْو خَارج وضارب فعلى هَذَا لَا يُقَال الله منعوت بل يُقَال مَوْصُوف وَقيل النَّعْت مَا كَانَ لشَيْء خَاص كالعرج والعمى والعور لِأَن ذَلِك يخص موضعا من الْجَسَد وَالصّفة مَا لم تكن لشَيْء مَخْصُوص كالعظيم والكريم (قلت) فَلذَلِك قَالَ أَبُو سعيد رَحمَه الله تَعَالَى هُنَا على نعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَافْهَم فَإِن فِيهِ دقة -
0163 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ يَقْسِمُ قَسَمَاً إِذْ أتاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ وهْوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فقالَ يَا رَسُولَ الله اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ ومَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أعْدِلْ قَدْ خبْتَ وخَسِرْتَ إنْ لَمْ أكُنْ أعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ الله إئْذِنْ لِي فِيهِ فأضْرِبَ عُنُقَهُ فقَالَ دَعْهُ فإنَّ لَهُ أصْحَابَاً يَحْقِرُ أحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَؤُنَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ يُنْظَرُ إلَى نِصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٍ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى نِضِّيهِ وهْوَ قِدْحُهُ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ إحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْي المَرْأةِ أوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ ويَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ. قَالَ أبُو سَعِيدٍ فأشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ هَذَا الحَديثَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأشْهَدُ أنَّ عَلِيَّ بنَ أبِي طَالِبٍ قاتَلَهُمْ وأنَا مَعَهُ فأمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إلَيْهِ علَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نَعَتَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم دُحَيْم وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَأحمد بن عبد الرَّحْمَن، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: الْكَلَام فِي: بَيْنَمَا، قد مر غير مرّة. قَوْله: (وَهُوَ يقسم) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (أَتَاهُ ذُو الْخوَيْصِرَة) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وبالراء، وَفِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) : بَينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقسم غَنَائِم هوَازن، جَاءَهُ ذُو الْخوَيْصِرَة التَّمِيمِي أصل الْخَوَارِج، فَقَالَ: إعدل. قَالَ: هَذَا غير ذِي الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِد، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (كتاب الأدواء) : ذُو الْخوَيْصِرَة رجل صَحَابِيّ من بني تَمِيم، وَهُوَ الَّذِي قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي قسم قسمه: إعدل. انْتهى. وَلما ذكره السُّهيْلي عقبه بقوله: وَيذكر عَن الْوَاقِدِيّ: أَنه حرقوص بن زُهَيْر الكعبي من سعد تَمِيم، وَكَانَ لحرقوص هَذَا مشَاهد كَثِيرَة مَشْهُورَة محمودة فِي حَرْب الْعرَاق مَعَ الْفرس أَيَّام عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ صَار خارجياً. قَالَ: وَلَيْسَ ذُو الْخوَيْصِرَة هَذَا هُوَ ذُو الثدية الَّذِي قَتله عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بالنهروان، ذَاك اسْمه نَافِع، ذكره أَبُو دَاوُد، وَقيل: الْمَعْرُوف أَن ذَا الثدية اسْمه حرقوص، وَهُوَ الَّذِي حمل على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليَقْتُلهُ فقلته عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قد خبت) ، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم وبالخطاب أَي: خبت أَنْت لكونك تَابعا ومقتدياً لمن لَا يعدل، وَالْفَتْح أشهر وأوجه. قَوْله: (فَقَالَ عمر) ، أَي: ابْن الْخطاب، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر، فَقَالَ خَالِد بن الْوَلِيد: إئذن لي فِي قَتله، وَلَا مَانع أَن يكون كل مِنْهُمَا اسْتَأْذن فِي ذَلِك. قَوْله: (فَإِن لَهُ أصحاباً) الْفَاء فِيهِ لَيْسَ للتَّعْلِيل فِي ترك الْقَتْل فِي كَون الْأَصْحَاب لَهُ، وَإِن اسْتحق الْقَتْل، لتعقيب الْأَخْبَار أَي: قَالَ دَعه ثمَّ عقب مقَالَته بقصتهم وَغَايَة مَا فِي الْبَاب أَن حكمه حكم الْمُنَافِق، وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتلهُمْ لِئَلَّا يُقَال: إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقتل أَصْحَابه. قَوْله: (لَا يُجَاوز تراقيهم) ، التراقي جمع ترقوة، وَهُوَ عظم وَاصل مَا بَين ثغرة النَّحْر والعاتق، وَفِي رِوَايَة: (لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ) . قَوْله: (يَمْرُقُونَ) ، من المروق وَهُوَ الْخُرُوج، وَإِن كَانَ المُرَاد بِالدّينِ الْإِسْلَام فَهُوَ حجَّة لمن يكفر الْخَوَارِج، وَإِن كَانَ المُرَاد الطَّاعَة لَا يكون فِيهِ حجَّة، وَإِلَى هَذَا مَال الْخطابِيّ. قَوْله: (من الرَّمية) ، على وزن فعيلة بِمَعْنى مفعولة وَهُوَ الصَّيْد المرمي، شبه مروقهم من الدّين بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيب الصَّيْد فَيدْخل فِيهِ وَيخرج مِنْهُ من شدَّة سرعَة خُرُوجه لقُوَّة الرَّامِي، لَا يعلق من جَسَد الصَّيْد بِشَيْء. قَوْله: (إِلَى نصله) ، وَهُوَ حَدِيدَة السهْم. قَوْله: (إِلَى رصافه) ، بِكَسْر الرَّاء وبالصاد الْمُهْملَة ثمَّ بِالْفَاءِ: وَهُوَ العصب الَّذِي يلوى فَوق مدْخل النصل، والرصاف جمع رصفة بالحركات الثَّلَاث. قَوْله: (إِلَى نضيه) ، بِفَتْح النُّون وَحكي ضمهَا وبكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد فسره فِي الحَدِيث: بالقدح، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: وَهُوَ عود السهْم قبل أَن يراش وينصل، وَقيل: هُوَ مَا بَين الريش والنصل، قَالَه الْخطابِيّ، وَقَالَ ابْن فَارس: سمي بذلك لِأَنَّهُ يرى حَتَّى عَاد نضواً أَي: هزيلاً، وَحكى الْجَوْهَرِي عَن بعض أهل اللُّغَة: أَن النضي النصل، وَالْأول أولى. قَوْله: (إِلَى قذذه) ، بِضَم الْقَاف وبذالين معجمتين الأولى مَفْتُوحَة، وَهُوَ جمع قُذَّة وَهِي وَاحِدَة الريش الَّذِي على السهْم، يُقَال: أشبه بِهِ من القذة بالقذة، لِأَنَّهَا تحذى على مِثَال وَاحِد. قَوْله: (قد سبق الفرث) ، أَي: قد سبق السهْم بِحَيْثُ لم يتَعَلَّق بِهِ شَيْء من الفرث وَالدَّم وَلم يظْهر أثرهما فِيهِ، والفرث السرجين مَا دَامَ فِي الكرش، وَيُقَال: الفرث مَا يجْتَمع فِي الكروش مِمَّا تَأْكُله ذَوَات الكروش، وَقَالَ القَاضِي: يَعْنِي نفذ السهْم فِي الصَّيْد من جِهَة أُخْرَى وَلم يتَعَلَّق شَيْء مِنْهُ بِهِ. قَوْله: (آيَتهم) ، أَي: علامتهم. قَوْله: (أَو مثل الْبضْعَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مثل قِطْعَة اللَّحْم. قَوْله: (تدَرْدر) بدالين وراءين مهملات، أَي: تضطرب، وَهُوَ فعل مضارع من الدردرة، وَهُوَ صَوت إِذا انْدفع سمع لَهُ اخْتِلَاط. وَقيل: تدَرْدر تَجِيء وَتذهب، وَمِنْه دردر المَاء. قَوْله: (على خير فرقة) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: أَي: على أفضل فرقة، أَي: طَائِفَة، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: على حِين فرقة، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ نون، وَفرْقَة، بِضَم الْفَاء على هَذِه الرِّوَايَة أَي: على زمَان فرقة أَي: افْتِرَاق، وَقَالَ القَاضِي: خير فرقة، أَي: أفضل طَائِفَة هم عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه، وَخير الْقُرُون وَهُوَ الصَّدْر الأول. قَوْله: (فالتمس) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: فَطلب قَوْله: (على نعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: وَصفه الَّذِي وَصفه، وَالْفرق بَين الصّفة والنعت هُوَ أَن النَّعْت يكون بالحلية، نَحْو: الطَّوِيل والقصير، وَالصّفة بالأفعال نَحْو: خَارج وضارب، فعلى هَذَا لَا يُقَال: الله منعوت، بل يُقَال: مَوْصُوف، وَقيل: النَّعْت مَا كَانَ لشَيْء خَاص: كالعرج والعمى والعور، لِأَن ذَلِك يخص موضعا من الْجَسَد، وَالصّفة مَا لم تكن لشَيْء مَخْصُوص: كالعظيم والكريم. قلت: فَلذَلِك قَالَ أَبُو سعيد، رَحمَه الله تَعَالَى، هُنَا: على نعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَافْهَم، فَإِن فِيهِ دقة.
1163 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرَنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ خيْثَمَة عنْ سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلأنْ أخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أحَبُّ إلَىَّ مِنْ أنْ أكْذِبَ عَلَيْهِ وإذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ فإنَّ الحَرْبَ خَدْعَةٌ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ يأتِي فِي آخِرِ االزَّمَانِ قَوْمٌ حدَثاءُ الأسْنَانِ سُفَهَاءُ الأحْلاَم يَقُولُونَ منْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ يَمُرُقُونَ منَ الإسْلاَمِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لاَ يُجَاوِزُ إيْمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فأيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ فَإنَّ قَتْلَهُمْ أجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وخيثمة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف(16/143)
وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عبد الرَّحْمَن الْجعْفِيّ الْكُوفِي، ورث مِائَتي ألف وأنفقها على أهل الْعلم، وسُويد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن غَفلَة، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالْفَاء، وَقد مر فِي أول كتاب اللّقطَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان أَيْضا وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن عمر بن حَفْص، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَأبي سعيد الْأَشَج وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأبي بكر بن أبي كريب وَزُهَيْر وَعَن أبي بكر بن نَافِع وَمُحَمّد بن أبي بكر، الْكل عَن الْأَعْمَش عَن خَيْثَمَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن مُحَمَّد بن بشار، وَلم يذكر صدر الحَدِيث.
قَوْله: (فَلإِن أخرّ) من الخرور وَهُوَ الْوُقُوع والسقوط، قَوْله: (خدعة) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَضمّهَا وَكسرهَا، وَالظَّاهِر إِبَاحَة الْكَذِب فِي الْحَرْب، لَكِن الِاقْتِصَار على التَّعْرِيض أفضل. قَوْله: (حدثاء الْأَسْنَان) أَي: الصغار، وَقد يعبر عَن السن بالعمر، والحدثاء جمع: حَدِيث السن، وَكَذَا يُقَال: غلْمَان حدثان بِالضَّمِّ، قَوْله: (سُفَهَاء الأحلام) أَي: ضعفاء الْعُقُول، والسفهاء جمع سَفِيه وَهُوَ خَفِيف الْعقل. قَوْله: (يَقُولُونَ من قَول خير الْبَريَّة) أَي: من السّنة، وَهُوَ قَول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير الخليقة، قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: من خير قَول الْبَريَّة، أَي: من الْقُرْآن، وَيحْتَمل أَن تكون الْإِضَافَة من بَاب مَا يكون الْمُضَاف دَاخِلا فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يُرَاد بِهِ السّنة لَا الْقُرْآن، هُوَ كَمَا قَالَ الْخَوَارِج: لَا حكم إلاَّ لله، فِي قَضِيَّة التَّحْكِيم، وَكَانَت كلمة حق وَلَكِن أَرَادوا بهَا بَاطِلا. قَوْله: (يَمْرُقُونَ) أَي: يخرجُون وَقد مر عَن قريب. قَوْله: (حَنَاجِرهمْ) جمع حنجرة وَهِي رَأس الغلصمة حَيْثُ ترَاهُ ناتئاً من خَارج الْحلق. قَوْله: (فَإِن قَتلهمْ أجر لمن قَتلهمْ) هَذَا هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا لمن قَتلهمْ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأجر فِي قَتلهمْ لأَنهم يشغلون عَن الْجِهَاد ويسعون بِالْفَسَادِ لافتراق كلمة الْمُسلمين.
2163 - حدَّثني محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيَى عنْ إسْماعِيلَ حدَّثَنا قَيْسٌ عنْ خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ قُلْنَا لهُ ألاَ تَسْتَنْصِرُ لَنا ألاَ تَدْعُو الله لَنا قَالَ كانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عنْ دِينِهِ ويُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عنْ دِينِهِ وَالله لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأمْرَ حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إلاَّ الله أوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَقيس بن أبي حَازِم البَجلِيّ، وخباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: ابْن الْأَرَت، بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، كَانَ سادس سِتَّة فِي الْإِسْلَام مَاتَ بِالْكُوفَةِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِكْرَاه عَن مُسَدّد وَفِي مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْحميدِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن عَمْرو بن عون وَعَن خَالِد بن عبد الله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَبدة ابْن عبد الرَّحْمَن وَفِي الزِّينَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَابْن الْمثنى بِبَعْضِه.
قَوْله: (وَهُوَ مُتَوَسِّد) وَالْوَاو فِيهِ للْحَال (وبردة) مَنْصُوبَة بِهِ وَهِي نوع من الثِّيَاب مَعْرُوف، وَكَذَلِكَ الْبرد. قَوْله: (أَلا تَسْتَنْصِر) أَي: أَلا تطلب النُّصْرَة من الله لنا على الْكفَّار، وَهَذَا بَيَان لقَوْله: شَكَوْنَا، وَكلمَة: ألاَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ للحث والتحريض. قَوْله: (بِالْمِنْشَارِ) بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: وَهُوَ آلَة نشر الْخشب، وَيُقَال أَيْضا: الميشار، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الساكنة مَوضِع النُّون، من نشرت الْخَشَبَة إِذا قطعتها. قَوْله: (مَا دون لَحْمه) ، أَي: تَحت لَحْمه أَو عِنْد لَحْمه. قَوْله: (لَيتِمَّن) ، بِفَتْح اللَّام وبالنون الثَّقِيلَة. قَوْله: (من صنعاء إِلَى حَضرمَوْت) ، قَالَ الْكرْمَانِي: وَصَنْعَاء بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة، وَسُكُون النُّون وبالمد: قَاعِدَة الْيمن ومدينته الْعُظْمَى، و: حَضرمَوْت، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَالْمِيم: بَلْدَة أَيْضا بِالْيمن، وَجَاز فِي مثله بِنَاء الإسمين وَبِنَاء الأول وإعراب الثَّانِي. فَإِن قلت: لَا مُبَالغَة فِيهِ لِأَنَّهُمَا بلدان متقاربان.(16/144)
قلت: الْغَرَض بَيَان انْتِفَاء الْخَوْف من الْكفَّار على الْمُسلمين، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا صنعاء الرّوم أَو صنعاء دمشق: قَرْيَة فِي جَانبهَا الغربي فِي نَاحيَة الربوة. قَالَ الْجَوْهَرِي: حَضرمَوْت اسْم قَبيلَة أَيْضا. انْتهى كَلَامه. قلت: قَالَ ياقوت فِي (الْمُشْتَرك) : صنعاء الْيمن أعظم مدنها وأجلها تشبه دمشق فِي كَثْرَة الْبَسَاتِين والمياه، وَصَنْعَاء قَرْيَة على بَاب دمشق من نَاحيَة بَاب الفراديس واتصلت حيطانها بالعقبية وَهِي محلّة فِي ظَاهر دمشق. قلت: قَوْله لِأَنَّهُمَا بلدان متقاربان، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن بَين عدن وَصَنْعَاء ثَلَاث مراحل، وَبَين حَضرمَوْت والشحر أَرْبَعَة أَيَّام، وَبَينه وَبَين عدن مَسَافَة بعيدَة، فعلى هَذَا يكون بَين صنعاء وحضرموت أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام. قَوْله: (أَو الذِّئْب) عطف على الِاسْم الْأَعْظَم، وَإِن أحتمل أَن يعْطف على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ الْمُقدر. قَوْله: (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون) وَحَاصِل الْمَعْنى: لَا تستعجلوا فَإِن من كَانَ قبلكُمْ قاسوا مَا ذكرنَا فصبروا، وَأخْبرهمْ الشَّارِع بذلك ليقوى صبرهم على الْأَذَى.
3163 - حَدثنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا أزْهَرُ بنُ سعْدٍ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ قَالَ أنْبَأنا مُوسَى ابنُ أنَسٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتَقَدَ ثابِتَ بنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رسُولَ الله أَنا أعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فأتَاهُ فوَجَدَهُ جالِسَاً فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسَاً رأسَهُ فَقَالَ مَا شَأنُكَ فَقَالَ شَرٌّ كانَ يَرْفِعُ صَوْتُهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهْوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فأتَى الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ أنَّهُ قَالَ كذَا وَكَذَا فقالَ مُوسَى بنُ أنَسٍ فرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إلَيْهُ فقُلْ لَهُ إنَّكَ لَسْتَ مِنْ أهْلِ النَّارِ ولَكِنْ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ. (الحَدِيث 3163 طرفه فِي: 6484) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لست من أهل النَّار وَلَكِن من أهل الْجنَّة) ، لِأَن هَذَا أَمر لَا يطلع عَلَيْهِ إلاَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يعِيش حميدا وَيَمُوت شَهِيدا، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْيَمَامَة ثَبت حَتَّى قتل، وروى ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) : من طَرِيق سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس، وَفِي قصَّة ثَابت بن قيس، فَقَالَ فِي آخرهَا: قَالَ أنس: قُلْنَا: نرَاهُ يمشي بَين أظهرنَا وَنحن نعلم أَنه من أهل الْجنَّة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْيَمَامَة كَانَ فِي بَعْضنَا بعض الانكشاف، فَأقبل وَقد تكفن وتحنط فقاتل حَتَّى قتل.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. وأزهر، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الزَّاي: ابْن سعد الْبَاهِلِيّ السمان الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ. وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون بن أرطبان أَبُو عون الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ. ومُوسَى بن أنس بن مَالك قَاضِي الْبَصْرَة، وَأنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنبأَنَا مُوسَى بن أنس) ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة وَرِوَايَة عبد الله بن أَحْمد عَن ابْن عون عَن ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس بدل مُوسَى بن أنس، وَأخرجه أَبُو نعيم عَن الطَّبَرَانِيّ عَنهُ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مِمَّن الْوَهم. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَن ابْن عون عَن مُوسَى بن أنس قَالَ: لما نزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: 2) . قعد ثَابت بن قيس فِي بَيته ... الحَدِيث، وَهَذَا صورته مُرْسل إلاَّ أَنه يُقَوي أَن الحَدِيث لِابْنِ عون عَن مُوسَى لَا عَن ثُمَامَة. قَوْله: (افْتقدَ ثَابت بن قيس) ، وَقيس بن شماس بن زُهَيْر بن مَالك بن امرىء الْقَيْس بن مَالك، وَهُوَ الْأَغَر بن ثَعْلَبَة بن كَعْب ابْن الْخَزْرَج، وَكَانَ خطيب الْأَنْصَار وخطيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا أَنه قتل بِالْيَمَامَةِ شَهِيدا. قَوْله: (فَقَالَ رجل) ، قيل: هُوَ سعد بن معَاذ، لما روى مُسلم من وَجه آخر من طَرِيق حَمَّاد عَن ثَابت عَن أنس، فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن معَاذ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرو مَا شَأْن ثَابت؟ اشْتَكَى؟ فَقَالَ سعد: إِنَّه لجاري وَمَا علمت لَهُ شكوى، فَإِن قلت: الْآيَة الْمَذْكُورَة نزلت فِي سنة الْوُفُود بِسَبَب الْأَقْرَع بن حَابِس وَغَيره، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة تسع، وَسعد بن معَاذ مَاتَ قبل ذَلِك فِي بني قُرَيْظَة، وَذَلِكَ فِي سنة خمس؟ قلت: أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الَّذِي نزل فِي قصَّة ثَابت مُجَرّد رفع الصَّوْت، وَالَّذِي نزل فِي قصَّة الْأَقْرَع أول السُّورَة، وَهُوَ قَوْله: {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} (الحجرات: 1) . وَقيل: الرجل الْمَذْكُور هُوَ سعد بن عبَادَة لما روى ابْن الْمُنْذر فِي (تَفْسِيره) من طَرِيق سعيد بن بشر عَن قَتَادَة عَن أنس فِي هَذِه الْقِصَّة، فَقَالَ سعد بن عبَادَة: يَا رَسُول الله هُوَ جاري. . الحَدِيث،(16/145)
قيل: هُوَ أشبه بِالصَّوَابِ، لِأَن سعد بن عبَادَة من قَبيلَة ثَابت بن قيس، فَهُوَ أشبه أَن يكون جَاره من سعد بن معَاذ لِأَنَّهُ من قَبيلَة أُخْرَى. قَوْله: (أَنا أعلم لَك) ، هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كلمة أَلاَ، للتّنْبِيه أَو تكون الْهمزَة فِي: أَلاَ للاستفهام وَفِي بَعْضهَا: أَنا أعلم. قلت: كَأَن النّسخ الَّتِي وَقعت عِنْدهم أَلا أعلم، مَوضِع: أَنا أعلم، فَلذَلِك قَالَ كلمة: أَلا، للتّنْبِيه، أَو تكون الْهمزَة فِي ألاَ للاستفهام، ثمَّ أَشَارَ إِلَى رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَهِي: أَنا أعلم، بقولهْ: وَفِي بَعْضهَا أَنا أعلم قَوْله: (لَك) أَي: لِأَجلِك. قَوْله: (علمه) أَي: خَبره. قَوْله: (فَأَتَاهُ) أَي: فَأتى الرجل الْمَذْكُور ثَابت بن قيس فَوَجَدَهُ جَالِسا فِي بَيته. وَقَوله: (جَالِسا ومنكساً) حالان مُتَرَادِفَانِ أَو متداخلان، (وَرَأسه) مَنْصُوب بقوله: مُنَكسًا. قَوْله: (مَا شَأْنك) أَي: مَا حالك؟ قَوْله: (فَقَالَ: شَرّ) أَي: فَقَالَ ثَابت حَالي شَرّ. قَوْله: (كَانَ يرفع صَوته) هَذَا الْتِفَات وَمُقْتَضى الْحَال إِن يَقُول: كنت أرفع صوتي، وَلكنه الْتفت من الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، قَوْله: (فقد حَبط عمله) أَي: بَطل، وَكَانَ الْقيَاس فِيهِ أَيْضا أَن يَقُول؛ فقد حَبط عَمَلي، وَكَذَا قَوْله: (وَهُوَ من أهل النَّار) وَالْقِيَاس فِيهِ: وَأَنا من أهل النَّار. قَوْله: (فَأتى الرجل فَأخْبرهُ) أَي: فَأتى الرجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ أَنه قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ ثَابت لما نزلت {لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: 2) . جلس فِي بَيته وَقَالَ: أَنا من أهل النَّار، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَقَالَ ثَابت: أنزلت هَذِه الْآيَة، وَلَقَد علمْتُم أَنِّي من أرفعكم صَوتا. قَوْله: (فَقَالَ مُوسَى بن أنس) ، وَهُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُور عَن أَبِيه أنس. قَوْله: (فَرجع الْمرة الْآخِرَة) أَي: فَرجع الرجل الْمَذْكُور، ويروى: الْمرة الْأُخْرَى، قَوْله: (بِبِشَارَة) بِضَم الْبَاء وَكسرهَا وَالْكَسْر أشهر، وَهِي: الْخَبَر السار سميت بذلك لِأَنَّهَا تظهر طلاقة الْإِنْسَان وفرحه. قَوْله: (فَقَالَ: إذهب إِلَيْهِ) بَيَان الْبشَارَة أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرجل الْمَذْكُور، إذهب إِلَى ثَابت بن قيس فَقل لَهُ ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: فِيهِ زِيَادَة الْعدَد على المبشرين بِالْجنَّةِ. قلت: التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يُنَافِي الزَّائِد، أَو المُرَاد بِالْعشرَةِ الَّذين بشروا بهَا دفْعَة وَاحِدَة، أَو بِلَفْظ الْبشَارَة، وَكَيف لَا وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أهل الْجنَّة قطعا؟ وَنَحْوهم.
2163 - حدَّثني محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيَى عنْ إسْماعِيلَ حدَّثَنا قَيْسٌ عنْ خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ قُلْنَا لهُ ألاَ تَسْتَنْصِرُ لَنا ألاَ تَدْعُو الله لَنا قَالَ كانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عنْ دِينِهِ ويُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عنْ دِينِهِ وَالله لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأمْرَ حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إلاَّ الله أوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَقيس بن أبي حَازِم البَجلِيّ، وخباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: ابْن الْأَرَت، بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، كَانَ سادس سِتَّة فِي الْإِسْلَام مَاتَ بِالْكُوفَةِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِكْرَاه عَن مُسَدّد وَفِي مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْحميدِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن عَمْرو بن عون وَعَن خَالِد بن عبد الله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَبدة ابْن عبد الرَّحْمَن وَفِي الزِّينَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَابْن الْمثنى بِبَعْضِه.
قَوْله: (وَهُوَ مُتَوَسِّد) وَالْوَاو فِيهِ للْحَال (وبردة) مَنْصُوبَة بِهِ وَهِي نوع من الثِّيَاب مَعْرُوف، وَكَذَلِكَ الْبرد. قَوْله: (أَلا تَسْتَنْصِر) أَي: أَلا تطلب النُّصْرَة من الله لنا على الْكفَّار، وَهَذَا بَيَان لقَوْله: شَكَوْنَا، وَكلمَة: ألاَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ للحث والتحريض. قَوْله: (بِالْمِنْشَارِ) بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: وَهُوَ آلَة نشر الْخشب، وَيُقَال أَيْضا: الميشار، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الساكنة مَوضِع النُّون، من نشرت الْخَشَبَة إِذا قطعتها. قَوْله: (مَا دون لَحْمه) ، أَي: تَحت لَحْمه أَو عِنْد لَحْمه. قَوْله: (لَيتِمَّن) ، بِفَتْح اللَّام وبالنون الثَّقِيلَة. قَوْله: (من صنعاء إِلَى حَضرمَوْت) ، قَالَ الْكرْمَانِي: وَصَنْعَاء بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة، وَسُكُون النُّون وبالمد: قَاعِدَة الْيمن ومدينته الْعُظْمَى، و: حَضرمَوْت، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَالْمِيم: بَلْدَة أَيْضا بِالْيمن، وَجَاز فِي مثله بِنَاء الإسمين وَبِنَاء الأول وإعراب الثَّانِي. فَإِن قلت: لَا مُبَالغَة فِيهِ لِأَنَّهُمَا بلدان متقاربان. قلت: الْغَرَض بَيَان انْتِفَاء الْخَوْف من الْكفَّار على الْمُسلمين، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا صنعاء الرّوم أَو صنعاء دمشق: قَرْيَة فِي جَانبهَا الغربي فِي نَاحيَة الربوة. قَالَ الْجَوْهَرِي: حَضرمَوْت اسْم قَبيلَة أَيْضا. انْتهى كَلَامه. قلت: قَالَ ياقوت فِي (الْمُشْتَرك) : صنعاء الْيمن أعظم مدنها وأجلها تشبه دمشق فِي كَثْرَة الْبَسَاتِين والمياه، وَصَنْعَاء قَرْيَة على بَاب دمشق من نَاحيَة بَاب الفراديس واتصلت حيطانها بالعقبية وَهِي محلّة فِي ظَاهر دمشق. قلت: قَوْله لِأَنَّهُمَا بلدان متقاربان، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن بَين عدن وَصَنْعَاء ثَلَاث مراحل، وَبَين حَضرمَوْت والشحر أَرْبَعَة أَيَّام، وَبَينه وَبَين عدن مَسَافَة بعيدَة، فعلى هَذَا يكون بَين صنعاء وحضرموت أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام. قَوْله: (أَو الذِّئْب) عطف على الِاسْم الْأَعْظَم، وَإِن أحتمل أَن يعْطف على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ الْمُقدر. قَوْله: (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون) وَحَاصِل الْمَعْنى: لَا تستعجلوا فَإِن من كَانَ قبلكُمْ قاسوا مَا ذكرنَا فصبروا، وَأخْبرهمْ الشَّارِع بذلك ليقوى صبرهم على الْأَذَى.
3163 - حَدثنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا أزْهَرُ بنُ سعْدٍ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ قَالَ أنْبَأنا مُوسَى ابنُ أنَسٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتَقَدَ ثابِتَ بنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رسُولَ الله أَنا أعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فأتَاهُ فوَجَدَهُ جالِسَاً فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسَاً رأسَهُ فَقَالَ مَا شَأنُكَ فَقَالَ شَرٌّ كانَ يَرْفِعُ صَوْتُهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهْوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فأتَى الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ أنَّهُ قَالَ كذَا وَكَذَا فقالَ مُوسَى بنُ أنَسٍ فرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إلَيْهُ فقُلْ لَهُ إنَّكَ لَسْتَ مِنْ أهْلِ النَّارِ ولَكِنْ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ. (الحَدِيث 3163 طرفه فِي: 6484) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لست من أهل النَّار وَلَكِن من أهل الْجنَّة) ، لِأَن هَذَا أَمر لَا يطلع عَلَيْهِ إلاَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يعِيش حميدا وَيَمُوت شَهِيدا، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْيَمَامَة ثَبت حَتَّى قتل، وروى ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) : من طَرِيق سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس، وَفِي قصَّة ثَابت بن قيس، فَقَالَ فِي آخرهَا: قَالَ أنس: قُلْنَا: نرَاهُ يمشي بَين أظهرنَا وَنحن نعلم أَنه من أهل الْجنَّة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْيَمَامَة كَانَ فِي بَعْضنَا بعض الانكشاف، فَأقبل وَقد تكفن وتحنط فقاتل حَتَّى قتل.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. وأزهر، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الزَّاي: ابْن سعد الْبَاهِلِيّ السمان الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ. وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون بن أرطبان أَبُو عون الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ. ومُوسَى بن أنس بن مَالك قَاضِي الْبَصْرَة، وَأنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنبأَنَا مُوسَى بن أنس) ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة وَرِوَايَة عبد الله بن أَحْمد عَن ابْن عون عَن ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس بدل مُوسَى بن أنس، وَأخرجه أَبُو نعيم عَن الطَّبَرَانِيّ عَنهُ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مِمَّن الْوَهم. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَن ابْن عون عَن مُوسَى بن أنس قَالَ: لما نزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: 2) . قعد ثَابت بن قيس فِي بَيته ... الحَدِيث، وَهَذَا صورته مُرْسل إلاَّ أَنه يُقَوي أَن الحَدِيث لِابْنِ عون عَن مُوسَى لَا عَن ثُمَامَة. قَوْله: (افْتقدَ ثَابت بن قيس) ، وَقيس بن شماس بن زُهَيْر بن مَالك بن امرىء الْقَيْس بن مَالك، وَهُوَ الْأَغَر بن ثَعْلَبَة بن كَعْب ابْن الْخَزْرَج، وَكَانَ خطيب الْأَنْصَار وخطيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا أَنه قتل بِالْيَمَامَةِ شَهِيدا. قَوْله: (فَقَالَ رجل) ، قيل: هُوَ سعد بن معَاذ، لما روى مُسلم من وَجه آخر من طَرِيق حَمَّاد عَن ثَابت عَن أنس، فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن معَاذ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرو مَا شَأْن ثَابت؟ اشْتَكَى؟ فَقَالَ سعد: إِنَّه لجاري وَمَا علمت لَهُ شكوى، فَإِن قلت: الْآيَة الْمَذْكُورَة نزلت فِي سنة الْوُفُود بِسَبَب الْأَقْرَع بن حَابِس وَغَيره، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة تسع، وَسعد بن معَاذ مَاتَ قبل ذَلِك فِي بني قُرَيْظَة، وَذَلِكَ فِي سنة خمس؟ قلت: أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الَّذِي نزل فِي قصَّة ثَابت مُجَرّد رفع الصَّوْت، وَالَّذِي نزل فِي قصَّة الْأَقْرَع أول السُّورَة، وَهُوَ قَوْله: {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} (الحجرات: 1) . وَقيل: الرجل الْمَذْكُور هُوَ سعد بن عبَادَة لما روى ابْن الْمُنْذر فِي (تَفْسِيره) من طَرِيق سعيد بن بشر عَن قَتَادَة عَن أنس فِي هَذِه الْقِصَّة، فَقَالَ سعد بن عبَادَة: يَا رَسُول الله هُوَ جاري. . الحَدِيث، قيل: هُوَ أشبه بِالصَّوَابِ، لِأَن سعد بن عبَادَة من قَبيلَة ثَابت بن قيس، فَهُوَ أشبه أَن يكون جَاره من سعد بن معَاذ لِأَنَّهُ من قَبيلَة أُخْرَى. قَوْله: (أَنا أعلم لَك) ، هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كلمة أَلاَ، للتّنْبِيه أَو تكون الْهمزَة فِي: أَلاَ للاستفهام وَفِي بَعْضهَا: أَنا أعلم. قلت: كَأَن النّسخ الَّتِي وَقعت عِنْدهم أَلا أعلم، مَوضِع: أَنا أعلم، فَلذَلِك قَالَ كلمة: أَلا، للتّنْبِيه، أَو تكون الْهمزَة فِي ألاَ للاستفهام، ثمَّ أَشَارَ إِلَى رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَهِي: أَنا أعلم، بقولهْ: وَفِي بَعْضهَا أَنا أعلم قَوْله: (لَك) أَي: لِأَجلِك. قَوْله: (علمه) أَي: خَبره. قَوْله: (فَأَتَاهُ) أَي: فَأتى الرجل الْمَذْكُور ثَابت بن قيس فَوَجَدَهُ جَالِسا فِي بَيته. وَقَوله: (جَالِسا ومنكساً) حالان مُتَرَادِفَانِ أَو متداخلان، (وَرَأسه) مَنْصُوب بقوله: مُنَكسًا. قَوْله: (مَا شَأْنك) أَي: مَا حالك؟ قَوْله: (فَقَالَ: شَرّ) أَي: فَقَالَ ثَابت حَالي شَرّ. قَوْله: (كَانَ يرفع صَوته) هَذَا الْتِفَات وَمُقْتَضى الْحَال إِن يَقُول: كنت أرفع صوتي، وَلكنه الْتفت من الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، قَوْله: (فقد حَبط عمله) أَي: بَطل، وَكَانَ الْقيَاس فِيهِ أَيْضا أَن يَقُول؛ فقد حَبط عَمَلي، وَكَذَا قَوْله: (وَهُوَ من أهل النَّار) وَالْقِيَاس فِيهِ: وَأَنا من أهل النَّار. قَوْله: (فَأتى الرجل فَأخْبرهُ) أَي: فَأتى الرجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ أَنه قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ ثَابت لما نزلت {لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: 2) . جلس فِي بَيته وَقَالَ: أَنا من أهل النَّار، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَقَالَ ثَابت: أنزلت هَذِه الْآيَة، وَلَقَد علمْتُم أَنِّي من أرفعكم صَوتا. قَوْله: (فَقَالَ مُوسَى بن أنس) ، وَهُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُور عَن أَبِيه أنس. قَوْله: (فَرجع الْمرة الْآخِرَة) أَي: فَرجع الرجل الْمَذْكُور، ويروى: الْمرة الْأُخْرَى، قَوْله: (بِبِشَارَة) بِضَم الْبَاء وَكسرهَا وَالْكَسْر أشهر، وَهِي: الْخَبَر السار سميت بذلك لِأَنَّهَا تظهر طلاقة الْإِنْسَان وفرحه. قَوْله: (فَقَالَ: إذهب إِلَيْهِ) بَيَان الْبشَارَة أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرجل الْمَذْكُور، إذهب إِلَى ثَابت بن قيس فَقل لَهُ ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: فِيهِ زِيَادَة الْعدَد على المبشرين بِالْجنَّةِ. قلت: التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يُنَافِي الزَّائِد، أَو المُرَاد بِالْعشرَةِ الَّذين بشروا بهَا دفْعَة وَاحِدَة، أَو بِلَفْظ الْبشَارَة، وَكَيف لَا وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أهل الْجنَّة قطعا؟ وَنَحْوهم.
4163 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنَا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ سَمِعْتُ البَرَاءَ ابنَ عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قرَأ رَجُلٌ الكَهْفَ وَفِي الدَّارِ الدَّابَّة فجَعَلَتْ تَنْفِرُ فسَلَّمَ فَإذَا ضَبابَةٌ أوْ سَحابَةٌ غَشِيَتْهُ فذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اقْرَأ فُلانُ فإنَّها السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ أوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إخْبَاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نزُول السكينَة عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن. وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَعَن أبي مُوسَى عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو دَاوُد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن غيلَان.
قَوْله: (قَرَأَ رجل) هُوَ أسيد بن حضير. قَوْله: (الْكَهْف) ، أَي: سُورَة الْكَهْف. قَوْله: (تنفر) ، بِكَسْر الْفَاء: من النفرة. قَوْله: (فَسلم) ، أَي: دَعَا بالسلامة، كَمَا يُقَال: أللهم سلم، أَو فوض الْأَمر إِلَى الله وَرَضي بِحكمِهِ، أَو قَالَ: سَلام عَلَيْك. قَوْله: (ضَبَابَة) هِيَ سَحَابَة تغشى الأَرْض كالدخان، وَقَالَ ابْن فَارس الضبابة: كل شَيْء كالغبار، وَقَالَ الدَّاودِيّ: قريب من السَّحَاب وَهُوَ الْغَمَام الَّذِي لَا يكون فِيهِ مطر. قَوْله: (أَو سَحَابَة) ، شكّ من الرَّاوِي قَوْله: (غَشيته) أَي: أحاطت بِهِ. قَوْله: (فلَان) أَي: يَا فلَان، مَعْنَاهُ: كَانَ يَنْبَغِي أَن تستمر على الْقرَان وتغتنم مَا حصل لَك من نزُول الرَّحْمَة وتستكثر من الْقِرَاءَة. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن الضبابة الْمَذْكُورَة هِيَ السكينَة. وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَقيل: هِيَ ريح هفافة وَلها وَجه كوجه الْإِنْسَان، وَقيل: هِيَ الْمَلَائِكَة وَعَلَيْهِم السكينَة، وَالْمُخْتَار: أَنَّهَا شَيْء من مخلوقات الله تَعَالَى فِيهِ طمأنينة وَرَحْمَة وَمَعَهُ مَلَائِكَة يَسْتَمِعُون الْقُرْآن.
5163 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُف حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يَزِيدَ بنِ إبْرَاهِيمَ أبُو الحَسَنِ الحَرَّانِيُّ حَدثنَا زُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ حدَّثنا أَبُو إسحاقَ سَمِعْتُ البرَاءَ بنَ عازِبٍ يَقُولُ جاءَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إِلَى أبي فِي مَنْزِلِهِ فاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلاً فَقَالَ لِ عازِبٍ ابْعَثِ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي قَالَ فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ وخَرَجَ أبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ فَقَالَ لَهُ أبِي يَا أبَا بَكْر حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حينَ سرَيْتَ معَ رَسُولِ الله(16/146)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَعَمْ أسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا ومِنَ الغَدِ حتَّى قامَ قائِمُ الظَّهِيرَةِ وخلاَ الطَّريقُ لَا يَمُرُّ فيهِ أحَدٌ فَرُفِعَتْ لَنا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَها ظِلٌّ لَمْ تأتِ علَيْهِ الشَّمْسُ فنَزَلْنَا عِنْدَهُ وسَوَّيْتُ للنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكَاناً بِيَدِي يَنامُ علَيْهِ وبَسَطْتُ فيهِ فَرْوَةً وقُلْتُ نمْ يَا رسُولَ الله وأنَا أنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنامَ وخَرَجْتُ أنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فإذَا أَنا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أرَدْنَا فقُلْتُ لِمَنْ أنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ لرَجُلٍ مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ أوْ مَكَّةَ قُلْتُ أفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ أفَتَحْلُبُ قَالَ نَعَمْ فأخَذَ شَاة فقُلْتُ انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ والشَّعَرِ والقَذَى قَالَ فرأيْتُ البَرَاءَ يَضْرِبُ إحْدَى يَدَيْهِ علَى الأخْرَى يَنْفُضُ فحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ ومَعِي إدَاوَةٌ حَمَلْتُها لِلْنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْتَوِي مِنْهَا يَشْرَبُ ويتَوَضَّأ فأتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكَرِهْتُ أنْ أوقِظَهُ فوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ على اللَّبَنِ حتَّى برَدَ أسْفَلُهُ فقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ الله قَالَ فَشَرِبَ حتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قالَ ألَمْ يأنِ للْرَّحِيلِ قلْتُ بَلَى قَالَ فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مالَتِ الشَّمْسُ واتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بنُ مَالِكٍ فقُلْتُ أُتِينَا يَا رسُولَ الله فَقَالَ لَا تَحْزَنْ إنَّ الله معَنا فدَعَا علَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فارْتَطَمَتْ بِهِ فرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَي فِي جَلَدٍ مِنَ الأرْضِ شَكَّ زُهَيْرٌ فَقَالَ إنِّي أُرَاكما قَدْ دَعَوْتُما عَلَيَّ فادْعوَا لِي فَالله لَكُما أنْ أرُدَّ عَنْكُما الطَّلَبَ فدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنَجَا فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أحَدَاً إلاَّ قَالَ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا فلاَ يَلْقَى أحَداً إلاَّ رَدَّهُ قَالَ ووفَى لَنَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ معْجزَة ظَاهِرَة لَا تخفى على متأمل.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، سكن بَغْدَاد وَهُوَ من أَفْرَاده وصغار شُيُوخه، وَشَيْخه الآخر مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ أكبر من هَذَا وأقدم سَمَاعا، وَقد أَكثر البُخَارِيّ عَنهُ. الثَّانِي: أَحْمد بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي، يعرف بالورتنيسي، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون الْمَكْسُورَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ سين مُهْملَة. قلت: الورتنيس أحد أجداده وَهُوَ إِبْرَاهِيم أَبُو أَحْمد الْحَاكِم اسْم الورتنيس إِبْرَاهِيم. الثَّالِث: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة أَبُو خَيْثَمَة الْجعْفِيّ. الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. الْخَامِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِي رِوَايَة: أخبرنَا أَحْمد بن يزِيد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن أَحْمد بن يزِيد انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ دون الْخَمْسَة. وَفِيه: أَن زُهَيْر بن حَرْب هُوَ الَّذِي روى هَذَا الحَدِيث تَاما عَن أبي إِسْحَاق وَأَبوهُ خديج وَإِسْرَائِيل وروى شُعْبَة مِنْهُ قصَّة اللَّبن خَاصَّة، وَقد رَوَاهُ عَن أبي إِسْحَاق مطولا أَيْضا حفيدة يُوسُف بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق وَهُوَ فِي: بَاب الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة، لكنه لم يذكر مِنْهُ قصَّة سراقَة، وَزَاد فِيهِ قصَّة غَيرهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ أَبُو بكر) أَي: الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (إِلَى أبي) هُوَ عَازِب بن الْحَارِث بن عدي الأوسي من قدماء الْأَنْصَار. قَوْله: (فَاشْترى مِنْهُ رحلاً) بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ للناقة كالسرج للْفرس، وَقيل: الرحل أَصْغَر من القتب، وَاشْتَرَاهُ بِثَلَاثَة عشر درهما. قَوْله: (فَقَالَ لعازب إبعث ابْنك يحملهُ) أَي: يحمل الرحل معي. قَوْله: (قَالَ: فَحملت مَعَه) أَي: قَالَ الْبَراء: فَحملت الرحل مَعَه، وَفِي رِوَايَة إِسْرَائِيل الَّتِي تَأتي فِي فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن عازباً امْتنع من(16/147)
إرْسَال ابْنه مَعَ أبي بكر حَتَّى يحدثه أَبُو بكر بِالْحَدِيثِ، وَهِي زِيَادَة ثِقَة مَقْبُولَة. قَوْله: (وَخرج أبي ينْتَقد ثمنه) أَي: يَسْتَوْفِيه. قَوْله: (حِين سريت) سرى وَأسرى لُغَتَانِ بِمَعْنى: السّير فِي اللَّيْل، قَالَ الله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (الْإِسْرَاء: 1) . وَقَالَ: {وَاللَّيْل إِذا يسر} (الْفجْر: 4) . قَوْله: (أسرينا ليلتنا) يَعْنِي: سرينا لَيْلًا، وَذَلِكَ حِين خرجا من الْغَار وَكَانَا لبثا فِي الْغَار ثَلَاث لَيَال ثمَّ خرجا. قَوْله: (وَمن الْغَد) أَي: بعض الْغَد، والعطف فِيهِ كَمَا فِي قَوْله:
(علفتها تبناً وَمَاء بَارِدًا)
إِذْ الْإِسْرَاء إِنَّمَا يكون بِاللَّيْلِ. قَوْله: (حَتَّى قَامَ قَائِم الظهيرة) أَي: نصف النَّهَار، وَهُوَ اسْتِوَاء حَالَة الشَّمْس، وَسمي: قَائِما، لِأَن الظل لَا يظْهر حِينَئِذٍ فَكَأَنَّهُ قَائِم وَاقِف، وَفِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: أسرينا ليلتنا ويومنا حَتَّى أظهرنَا، أَي: دَخَلنَا فِي وَقت الظهيرة. قَوْله: (وخلا الطَّرِيق) هَذَا يدل على أَنه كَانَ فِي زمن الْحر، وَقيل فِي قَوْله: على حِين غَفلَة من أَهلهَا، أَي: نصف من النَّهَار. قَوْله: (فَرفعت لنا صَخْرَة) أَي: ظَهرت لأبصارنا، وَرفعت على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَبسطت فِيهِ فَرْوَة) وَهُوَ الْجلد الَّذِي يلبس، وَقيل: المُرَاد بهَا قِطْعَة حشيش مجتمعة، وَيُقَوِّي الْمَعْنى الأول مَا فِي رِوَايَة أبي يُوسُف بن أبي إِسْحَاق: ففرشت لَهُ فَرْوَة معي. قَوْله: (وَأَنا أنفض لَك مَا حولك) يَعْنِي: من الْغُبَار وَنَحْو ذَلِك حَتَّى لَا يثيره عَلَيْهِ الرّيح، وَقيل: معنى النفض هُنَا الحراسة، يُقَال: نفضت الْمَكَان إِذا نظرت جَمِيع مَا فِيهِ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: فِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: ثمَّ انْطَلَقت أنظر مَا حولى هَل أرى من الطّلب أحدا، والنفضة: قوم يبعثون فِي الأَرْض ينظرُونَ هَل بهَا عَدو أَو خوف. قَوْله: (لرجل من أهل الْمَدِينَة أَو مَكَّة) هَذَا شكّ من الرَّاوِي وَهُوَ أَحْمد بن يزِيد، فَإِن مُسلما أخرجه من طَرِيق الْحسن بن مُحَمَّد بن أعين عَن زُهَيْر فَقَالَ فِيهِ لرجل من أهل الْمَدِينَة، وَلم يشك، وَوَقع فِي رِوَايَة خديج: فَسمى رجلا من أهل مَكَّة وَلم يشك، فَإِن قلت: كَيفَ وَجه هَذَا؟ قلت: المُرَاد من الْمَدِينَة فِي رِوَايَة مُسلم: هِيَ مَكَّة، وَلم يرد بِهِ الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لم تكن تسمى الْمَدِينَة، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَال لَهَا: يثرب، وَأَيْضًا فَلم تجرِ الْعَادة للرعاء أَن يبعدوا فِي المراعي هَذِه الْمسَافَة الْبَعِيدَة، وَوَقع فِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: فَقَالَ لرجل من قُرَيْش، سَمَّاهُ فعرفته، وَهَذَا يُؤَيّد هَذَا الْوَجْه لِأَن قُريْشًا لم يَكُونُوا يسكنون الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة إِذْ ذَاك. قَوْله: (أَفِي غنمك لبن؟) بِفَتْح اللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَحكى عِيَاض أَن فِي رِوَايَة: لبن، بِضَم اللَّام وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: لِابْنِ، أَي: هَل فِي غنمك ذَوَات لبن. قَوْله: (أفتحلب؟ قَالَ: نعم) أَي: أحلب، وَأَرَادَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَام: أَمَعَك إِذن من صَاحب الْغنم فِي الْحَلب لمن يمر بهَا على سَبِيل الضِّيَافَة؟ فَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من يَقُول: كَيفَ استجاز أَبُو بكر أَخذ اللَّبن من الرَّاعِي بِغَيْر إِذن مَالك الْغنم؟ وَأجِيب: هُنَا بِجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَن أَبَا بكر عرف مَالك الْغنم وَعرف رِضَاهُ بذلك لصداقته لَهُ أَو لإذنه الْعَام بذلك. وَقيل: كَانَ الْغنم لحربي لَا أَمَان لَهُ، وَقيل: كَانُوا مضطرين. قَوْله: (إنفض الضَّرع) أَي: ثدي الشَّاة. قَوْله: (والقذى) ، بِفَتْح الْقَاف وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة مَقْصُورا، وَهُوَ الَّذِي يَقع فِي الْعين، يُقَال: قذت عينه إِذا وَقع فِيهَا القذى، كَأَنَّهُ شبه مَا يصير فِي الضَّرع من الأوساخ بالقذى فِي الْعين. قَوْله: (فِي قَعْب) ، هُوَ الْقدح من الْخشب. قَوْله: (كثبة) ، بِضَم الْكَاف وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: أَي: قِطْعَة من لبن قدر ملْء الْقدح، وَقيل: قدر حلبة خَفِيفَة، وَقَالَ الْهَرَوِيّ والقزاز: كل مَا جمعته من طَعَام أَو لبن أَو غَيرهمَا فَهِيَ كثبة. قَالَ الْهَرَوِيّ: بعد أَن يكون قَلِيلا. قَوْله: (إداوة) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَهِي تعْمل من جلد يستصحبه الْمُسَافِر. قَوْله: (يرتوي مِنْهَا) أَي: يَسْتَقِي. قَوْله: (يشرب) ، حَال قَوْله: (فوافقته حَتَّى اسْتَيْقَظَ) ، أَي: وَافق إتياني وَقت استيقاظه، ويروى: حَتَّى تأنيت بِهِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ. قَوْله: (حَتَّى برد) ، بِفَتْح الرَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي بضَمهَا. قَوْله: (حَتَّى رضيت) أَي: طابت نَفسِي لِكَثْرَة مَا شرب. قَوْله: (ألم يأنِ للرحيل؟) ، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ألم يأنِ وَقت الارتحال؟ قَوْله: (وَاتَّبَعنَا سراقَة ابْن مَالك بن جعْشم) ، وَاتَّبَعنَا، بِفَتْح الْعين فَاعل ومفعول، و: سراقَة، بِالرَّفْع فَاعله، وَفِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: فارتحلنا وَالْقَوْم يطلبوننا فَلم يدركنا غير سراقَة. قَوْله: (أَتَيْنَا) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله: (فارتطمت بِهِ) أَي: بسراقة فرسه، وَمعنى: ارتطمت: غاصت قَوَائِمهَا فِي تِلْكَ الأَرْض الصلبة، وارتطم فِي الوحل أَي: دخل فِيهِ وَاحْتبسَ، ورطمت الشَّيْء إِذا أدخلته فارتطم. قَوْله: (أرى) بِضَم الْهمزَة أَي: أَظن، وَهُوَ لفظ زُهَيْر الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَة مُسلم الشَّك من زُهَيْر يَعْنِي: هَل قَالَ هَذِه اللَّفْظَة أم لَا؟ قَوْله: (فِي جلد) بِفَتْح الْجِيم وَاللَّام، وَهُوَ الصلب من الأَرْض المستوي. قَوْله: (فَقَالَ: إِنِّي أراكما) ، أَي: قَالَ سراقَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلأبي بكر: إِنِّي أراكما (قد دعوتما عَليّ، فَادعوا لي فَالله لَكمَا) . قَوْله: (فَالله) بِالرَّفْع مُبْتَدأ وَقَوله: (لَكمَا) خَبره أَي: نَاصِر لَكمَا. قَوْله: (أَن أرد عنكما) أَي: أَدْعُو لِأَن أرد فَهُوَ عِلّة للدُّعَاء، ويروى بِنصب لَفظه: الله، أَي:(16/148)
فَأشْهد الله لأجلكما أَن أرد عنكما الطّلب، وَقيل: بِالْجَرِّ أَيْضا بِنَزْع الْخَافِض، وَالتَّقْدِير: إقسم بِاللَّه لَكمَا بِأَن أرد الطّلب، وَهُوَ جمع طَالب، وَفِي (شرح السّنة) : أقسم بِاللَّه لَكمَا على الرَّد. قَوْله: (فنجا) ، أَي: من الارتطام. قَوْله: (أَلا قَالَ: كفيتكم) ، ويروى: كفيتم. قَوْله: (مَا هُنَا) ، يَعْنِي: مَا هُنَا الَّذِي تطلبونه. قَوْله: (فَلَا يلقى أحدا إِلَّا رده) ، بَيَان قَوْله: مَا هُنَا. قَوْله: (ووفى لنا) ، أَي: وَفِي سراقَة بِمَا وعده من رد الطّلب.
وَفِي هَذَا الحَدِيث معْجزَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وفضيلة لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: خدمَة التَّابِع للمتبوع واستصحاب الركوة فِي السّفر، وَفضل التَّوَكُّل على الله تَعَالَى، وَأَن الرجل الْجَلِيل إِذا نَام يدافع عَنهُ. وَقَالَ الْخطابِيّ: اسْتدلَّ بِهِ بعض شُيُوخ السوء من الْمُحدثين على الْأَخْذ فِي الحَدِيث، لِأَن عازباً لم يحمل الرحل حَتَّى يحدثه أَبُو بكر بالقصة، وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال صَحِيحا، لِأَن هَؤُلَاءِ اتَّخذُوا الحَدِيث بضَاعَة يبيعونها وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهَا أجرا وَأما مَا التمسه أَبُو بكر من تحميل الرحل فَهُوَ من بَاب الْمَعْرُوف وَالْعَادَة المقررة أَن تلامذة التُّجَّار يحملون الأثقال إِلَى بَيت المُشْتَرِي، وَلَو لم يكن ذَلِك لَكَانَ لَا يمنعهُ إِفَادَة الْقِصَّة، قَالَ تَعَالَى: {اتبعُوا من لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون} (ي س: 12) .
6163 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ مُخْتَارٍ حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ علَى أعْرَابِيٍّ يعُودُهُ قَالَ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا دَخَلَ علَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ لَا بَأسَ طَهُورٌ إنْ شاءَ الله فَقَالَ لَهُ لَا بَأسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله قَالَ قُلْتَ طَهُورٌ كَلاَّ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أوْ تَثُورُ علَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ القُبُور فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنعَمْ إذَاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَنعم إِذا) من حَيْثُ إِن الْأَعرَابِي لما رد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (لَا بَأْس طهُور، إِن شَاءَ الله) مَاتَ على وفْق مَا قَالَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا من معجزاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: وَوجه دُخُوله فِي هَذَا الْبَاب أَن فِي بعض طرقه زِيَادَة تَقْتَضِي إِيرَاده فِي عَلَامَات النُّبُوَّة أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَغَيره من رِوَايَة شُرَحْبِيل، وَالِد عبد الرَّحْمَن، فَذكر نَحْو حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي آخر: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما إِذا أَبيت فَهِيَ كَمَا تَقول، وَقَضَاء الله كَائِن، فَمَا أَمْسَى من الْغَد إلاَّ مَيتا. انْتهى. قلت: الَّذِي ذكرنَا أوجه لِأَن الَّذِي ذكره هُوَ حَاصِل قَوْله: (فَنعم إِذا) وتوجيه الْمُطَابقَة من نفس الحَدِيث أوجه من توجيهها من حَدِيث آخر، هَل البُخَارِيّ وقف عَلَيْهِ أم لَا؟ وَهل هُوَ على شَرطه أم لَا؟ وَعبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة: الْأنْصَارِيّ الدّباغ، مر فِي الصَّلَاة، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن إِسْحَاق عَن خَالِد، وَفِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن عبد الله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن سوار بن عبد الله.
قَوْله: (على أَعْرَابِي) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) : اسْم هَذَا الْأَعرَابِي، قيس، فَقَالَ فِي: بَاب الْأَمْرَاض والعلل: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قيس بن أبي حَازِم يعودهُ، فَذكر الْقِصَّة، وَقَالَ بَعضهم: لم أر تَسْمِيَته لغيره فَهَذَا إِن كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ غير قيس بن أبي حَازِم أحد المخضرمين، لِأَن صَاحب الْقِصَّة مَاتَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيس لم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته قلت عدم رُؤْيَته ذَلِك لَا يُنَافِي رُؤْيَة غَيره مَعَ أَن بَعضهم رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب. قَوْله: (يعودهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ) جملَة حَالية. قَوْله: (إِن شَاءَ الله) بِمَعْنى الدُّعَاء. قَوْله: (قَالَ: قلت) أَي: قَالَ الْأَعرَابِي مُخَاطبا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: طهُور. قَوْله: (كلا) أَي: لَيْسَ بِطهُور. فَأبى وَسخط فَلَا جرم، أَمَاتَهُ الله. قَوْله: (أَو تثور) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة شكّ من الرَّاوِي قَوْله: (تزيره) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من أزاره إِذا حمله على الزِّيَارَة. قَوْله: (فَنعم إِذا) أَي: نعم بإزارة الْقُبُور حِينَئِذٍ، وَيجوز أَن يكون الشَّارِع قد علم أَنه سيموت من مَرضه. فَقَوله: (طهُور إِن شَاءَ الله) دُعَاء لَهُ بتكفير ذنُوبه، وَيجوز أَن يكون أخبر بذلك قبل مَوته بعد قَوْله.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : فِي قَوْله: (لَا بَأْس طهُور) فِيهِ دلَالَة على أَن الطّهُور هُوَ المطهر خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله: الطّهُور هُوَ الطَّاهِر. قلت: لَيْت شعري من نقل هَذَا عَن أبي حنيفَة، وَكَيف يَقُول ذَلِك وَالطهُور صِيغَة مُبَالغَة فَإِذا كَانَ بِمَعْنى طَاهِر يفوت الْمَقْصُود.(16/149)
121 - (حَدثنَا أَبُو معمر حَدثنَا عبد الْوَارِث حَدثنَا عبد الْعَزِيز عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رجل نَصْرَانِيّا فَأسلم وَقَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان فَكَانَ يكْتب للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَاد نَصْرَانِيّا فَكَانَ يَقُول مَا يدْرِي مُحَمَّد إِلَّا مَا كتبت لَهُ فأماته الله فدفنوه فَأصْبح وَقد لفظته الأَرْض فَقَالُوا هَذَا فعل مُحَمَّد وَأَصْحَابه لما هرب مِنْهُم نبشوا عَن صاحبنا فألقوه فَحَفَرُوا لَهُ فأعمقوا فَأصْبح وَقد لفظته الأَرْض فَقَالُوا هَذَا فعل مُحَمَّد وَأَصْحَابه نبشوا عَن صاحبنا لما هرب مِنْهُم فألقوه خَارج الْقَبْر فَحَفَرُوا لَهُ وأعمقوا لَهُ فِي الأَرْض مَا اسْتَطَاعُوا فَأصْبح قد لفظته الأَرْض فَعَلمُوا أَنه لَيْسَ من النَّاس فألقوه) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ظَهرت معْجزَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لفظ الأَرْض إِيَّاه مَرَّات لِأَنَّهُ لما ارْتَدَّ عاقبه الله تَعَالَى بذلك لتقوم الْحجَّة على من يرَاهُ وَيدل على صدق الشَّارِع وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين اسْمه عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ وَعبد الْوَارِث بن سعيد الْبَصْرِيّ وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب أَبُو حَمْزَة الْبَصْرِيّ وَهَؤُلَاء كلهم بصريون والْحَدِيث من إِفْرَاده قَوْله " نَصْرَانِيّا " مَنْصُوب على أَنه خبر كَانَ ويروى نَصْرَانِيّ بالرافع على أَن كَانَ تَامَّة وَلم يدر اسْمه لَكِن فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ثَابت عَن أنس كَانَ منا رجل من بني النجار قَوْله " فَعَاد نَصْرَانِيّا " فِي رِوَايَة ثَابت فَانْطَلق هَارِبا حَتَّى لحق بِأَهْل الْكتاب فَرَفَعُوهُ قَوْله " فَكَانَ يَقُول " أَي فَكَانَ هَذَا النَّصْرَانِي يَقُول مَا يدْرِي مُحَمَّد إِلَّا مَا كتبت لَهُ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ كَانَ يَقُول مَا أرى يحسن مُحَمَّد إِلَّا مَا كنت أكتب لَهُ وروى ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه قَوْله " فأماته الله " وَفِي رِوَايَة ثَابت " فَمَا لبث أَن قَصم الله عُنُقه فيهم " قَوْله " وَقد لفظته الأَرْض " أَي رمته من الْقَبْر إِلَى الْخَارِج ولفظته بِكَسْر الْفَاء وَبِفَتْحِهَا وَقَالَ الْقَزاز فِي جَامعه كل مَا طرحته من يدك فقد لفظته وَلَا يُقَال بِكَسْر الْفَاء وَإِنَّمَا يُقَال بِالْفَتْح -
8163 - حدَّثني يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبرنِي ابنُ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذا هلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ والَّذِي نفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن حَرْمَلَة بن يحيى، والْحَدِيث قد مر فِي الْخمس من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أحلّت لكم الْغَنَائِم) ، وَقد مر فِي أَوَائِل الْكتاب الْكَلَام فِي كسْرَى وَقَيْصَر، وَالْمعْنَى: لَا يبْقى كسْرَى بالعراق وَقَيْصَر بِالشَّام، وَلما فتحت عراق وَالشَّام فِي أَيَّام عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، انفقت كنوزهما فِي سَبِيل الله مثل مَا أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9163 - حدَّثنا قَبيصَةُ حدَّثنا سُفيانُ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عنْ جابِرِ بنِ سَمُرَةَ رفَعَهُ قَالَ إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ وإذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وذَكَرَ وَقَالَ لَتُنْفِقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ الله. (انْظُر الحَدِيث 1213 وطرفه) .
قبيصَة هُوَ ابْن عقبَة، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. والْحَدِيث قد مضى فِي الْخمس عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن عبد الْملك عَن جَابر بن سَمُرَة.
قَوْله: (رَفعه) ، ويروي: (يرفعهُ) ، أَي: يرفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (إِذا هلك كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده) هَذَا الْمِقْدَار هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بعده: (وَإِذا هلك(16/150)
قَيْصر فَلَا قَيْصر بعده) قَوْله: (وَذكر) أَي: وَذكر بعد قَوْله: (إِذا هلك كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده) ، وَقَالَ: (لتنفقن كنوزهما فِي سَبِيل الله) 7 أَي: فِي أَبْوَاب الْبر والطاعات.
0263 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي حُسَيْنٍ حدَّثنا نَافعُ بنُ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ علَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَعَلَ يَقُولُ إنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ فأقْبَلَ إلَيْهِ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعَهُ ثَابِتُ بنُ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ حتَّى وقَفَ علَى مُسَيْلَمَةَ فِي أصْحَابِهِ فَقَالَ لَوْ سألْتَنِي هَذِهِ القِطْعَةَ مَا أعْطَيْتُكَها ولَنْ تَعْدُو أمْرَ الله فِيكَ ولَئِنْ أدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ الله وإنِّي لأرَاكَ الَّذي أُرِيتُ فيكَ مَا رَأيْتُ. فأخْبَرَنِي أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا أنَا نائِمٌ رأيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فأهَمَّنِي شأنُهُمَا فأُوحِيَ إلَيَّ فِي المَنَامِ أنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فأوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يخْرُجَانِ بَعْدِي فَكانَ أحَدُهُمَا العنْسِيَّ والآخَرُ مُسَيْلَمَةَ الكَذَّابَ صاحِبَ اليَمَامَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَأَوَّلْتهمَا كَذَّابين) إِلَى آخِره، لِأَن فِيهِ إِخْبَارًا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَمْر قد وَقع بعضه فِي أَيَّامه وَبَعضه بعده، فَإِن الْعَنسِي قتل فِي أَيَّامه ومسيلمة قتل بعده فِي وقْعَة الْيَمَامَة، قَتله وَحشِي قَاتل حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَإِن قلت: قَالَ: يخرجَانِ بعدِي، ومسيلمة خرج بعده، وَأما الْعَنسِي فَإِنَّهُ خرج فِي أَيَّامه؟ قلت: معنى قَوْله بعدِي: يَعْنِي بعد ثُبُوت نبوتي، أَو بعد دعواي النُّبُوَّة.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَعبد الله بن أبي حُسَيْن هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي حُسَيْن النَّوْفَلِي، مر فِي البيع، وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم مر فِي الْوضُوء.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد بن سهل عَن أبي الْيَمَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي عَن أبي الْيَمَان بِقصَّة الرُّؤْيَا دون قصَّة مُسَيْلمَة، وَقَالَ: غَرِيب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن أبي الْيَمَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدم مُسَيْلمَة الْكذَّاب على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: على زَمَنه، وَكَانَ قدومه فِي سنة تسع من الْهِجْرَة، وَهِي سنة الوفودات، قَالَ ابْن اسحاق: قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفد بني حنيفَة فيهم مُسَيْلمَة بن حبيب، وَقَالَ ابْن هِشَام: هُوَ مُسَيْلمَة بن ثُمَامَة ويكنى أَبَا ثُمَامَة، وَقَالَ السُّهيْلي: هُوَ مُسَيْلمَة بن ثُمَامَة بن كَبِير ابْن حبيب بن الْحَارِث بن عبد الْحَارِث بن همان بن ذهل بن الدول بن حنيفَة، ويكنى: أَبَا ثُمَامَة، وَقيل: أَبَا هَارُون، وَكَانَ قد تسمى بالرحمان، وَكَانَ يُقَال لَهُ: رحمان الْيَمَامَة، وَكَانَ يعرف أبواباً من النيرنجات فَكَانَ يدْخل الْبَيْضَة فِي القارورة، وَهُوَ أول من فعل ذَلِك، وَكَانَ يقص جنَاح الطير ثمَّ يصله وَيَدعِي أَن ظَبْيَة تَأتيه من الْجَبَل فيحلب لَبنهَا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَكَانَ وَفد بني حنيفَة بضعَة عشر رجلا عَلَيْهِم سلمى بن حَنْظَلَة وَفِيهِمْ طلق بن عَليّ وَعلي بن سِنَان ومسيلمة بن حبيب الْكذَّاب، فأنزلوا فِي دَار رَملَة بنت الْحَارِث وأجريت عَلَيْهِم الضِّيَافَة، فَكَانُوا يُؤْتونَ بغداء وعشاء مرّة خبْزًا وَلَحْمًا وَمرَّة خبْزًا ولبناً وَمرَّة خبْزًا وَسمنًا وَمرَّة تَمرا ينثر لَهُم، فَلَمَّا قدمُوا الْمَسْجِد وَأَسْلمُوا وَقد خلفوا مُسَيْلمَة فِي رحالهم، وَلما أردوا الِانْصِرَاف أَعْطَاهُم جوائزهم خمس أَوَاقٍ من فضَّة، وَأمر لمُسَيْلمَة بِمثل مَا أَعْطَاهُم لما ذكرُوا أَنه فِي رحالهم، فَقَالَ: إِمَّا أَنه لَيْسَ بشركم مَكَانا، فَلَمَّا رجعُوا إِلَيْهِ أَخْبرُوهُ بِمَا قَالَ عَنهُ، قَالَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ عرف أَن الْأَمر لي من بعده، وبهذه الْكَلِمَة تشبث قبحه الله حَتَّى ادّعى النُّبُوَّة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: ثمَّ انصرفوا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما انْتَهوا إِلَى الْيَمَامَة ارْتَدَّ عَدو الله، وتنبأ وَتكذب لَهُم، وَقَالَ: إِنِّي اشتركت مَعَه(16/151)
فِي الْأَمر، ثمَّ جعل يسجع لَهُم السجعات مضاهياً لِلْقُرْآنِ، فأصعقت على ذَلِك بَنو حنيفَة، وَقتل فِي أَيَّام أبي بكر الصّديق فِي وقْعَة الْيَمَامَة، قَتله وَحشِي، قَاتل حَمْزَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَكَانَ عمره حِين قتل مائَة وَخمسين سنة. قَوْله: (فَأقبل إِلَيْهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) تَالِفا لَهُ ولقومه رَجَاء إسْلَامهمْ وليبلغ مَا أنزل إِلَيْهِ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل أَن سَبَب مَجِيئه أَن مُسَيْلمَة قَصده من بَلَده للقائه فَجَاءَهُ مُكَافَأَة، قَالَ: وَكَانَ مُسَيْلمَة حِينَئِذٍ يظْهر الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا ظهر كفره بعد ذَلِك قَوْله: (وَمَعَهُ ثَابت بن قيس بن شماس) خطيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُجَاوب الْوُفُود عَن خطبهم. قَوْله: (وَفِي يَد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (لن تعدوَ أَمر الله فِيك) أَي: خيبتك فِيمَا أملته من النُّبُوَّة وهلاكك دون ملكك، أَو فِيمَا سبق من قَضَاء الله تَعَالَى وَقدره فِي شقاوتك، ويروى: لن تعد، بِحَذْف الْوَاو للجزم، والجزم: بلن، لُغَة حَكَاهَا الْكسَائي. قَوْله: (وَلَئِن أَدْبَرت) أَي: عَن طَاعَتي (ليَعْقِرنك الله) أَي: ليقتلنك ويهلكك، وَأَصله من عقر الْإِبِل ضرب قَوَائِمهَا بِالسَّيْفِ وجرحها، وَكَانَ كَذَلِك قَتله الله عز وَجل يَوْم الْيَمَامَة. قَوْله: (وَإِنِّي لأرَاك) بِضَم الْهمزَة أَي: لأظنك الشَّخْص الَّذِي رَأَيْت فِي الْمَنَام فِي حَقك مَا رَأَيْته.
قَوْله: (فَأَخْبرنِي أَبُو هُرَيْرَة) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: أَخْبرنِي أَبُو هُرَيْرَة، أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، وَفِي مُسلم: وَإِنِّي لأرَاك الَّذِي أريت قبل مَا أريت، وَهَذَا ثَابت يجيبك عني ثمَّ انْصَرف عَنهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَسَأَلت عَن قَول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنِّي لأرَاك الَّذِي أريت، فَأَخْبرنِي أَبُو هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: بَيْنَمَا أَنا نَائِم رَأَيْت فِي يَدي سِوَارَيْنِ ... الحَدِيث، وَهَذَا يعد من مُسْند أبي هُرَيْرَة دون ابْن عَبَّاس، فَلذَلِك ذكره الْحَافِظ الْمزي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (سِوَارَيْنِ من ذهب) بِضَم السِّين وَكسرهَا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أهل اللُّغَة: أسوار أَيْضا بِضَم الْهمزَة وَفِيه ثَلَاث لُغَات. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَوْله: من ذهب للتَّأْكِيد، لِأَن السوار لَا يكون إلاَّ من ذهب، فَإِن كَانَ من فضَّة فَهُوَ: قلب، قَوْله: (فَأَهَمَّنِي شَأْنهمَا) أَي: أحزنني أَمرهمَا. قَوْله: (أَن أَنْفُخَهُمَا) أَي: أنفخ السوارين، وَهُوَ أَمر من النفخ، فَلَمَّا أَمر بالنفخ نفخهما، وَتَأْويل نفخهما أَنَّهُمَا قتلا بريحه، أَي: أَن الْأسود ومسيلمة قتلا بريحه، وَالذَّهَب زخرف يدل على زخرفهما، ودلا بلفظهما على ملكَيْنِ لِأَن الأساورة هم الْمُلُوك، وَفِي النفخ دَلِيل على اضمحلال أَمرهمَا، وَكَانَ كَذَلِك. قَوْله: (فَأَوَّلْتهمَا) أَي: السوارين. قَوْله: (يخرجَانِ بعدِي) قَالَ النَّوَوِيّ: أَي: يظهران شوكتهما ومحاربتهما ودعواهما النُّبُوَّة، وإلاَّ فقد كَانَا فِي زَمَنه. انْتهى. وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد بعد دعواي النُّبُوَّة، أَو بعد ثُبُوت نبوتي. قَوْله: (فَكَانَ أَحدهمَا) أَي: أحد السوارين فِي التَّأْوِيل: الْعَنسِي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وبالسين الْمُهْملَة، وَهُوَ نِسْبَة الْأسود الصَّنْعَانِيّ الَّذِي ادّعى النُّبُوَّة، وَقيل: اسْمه عبلة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن كَعْب، وَكَانَ يُقَال لَهُ: ذُو الْخمار، لِأَنَّهُ زعم أَن الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو الْخمار، قَتله فَيْرُوز الصَّحَابِيّ الديلِي بِصَنْعَاء، دخل عَلَيْهِ فحطم عُنُقه، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ على الْأَصَح وَالْمَشْهُور، وَبشر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة بذلك، ثمَّ بعده حمل رَأسه إِلَيْهِ، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي زمن الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والعنسي نِسْبَة إِلَى عنس، قَالَ الرشاطي: اسْمه زيد بن مَالك بن أدد، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج، قَالَ ابْن دُرَيْد: العنس النَّاقة الصلبة. قَوْله: (وَالْآخر) أَي: السوار الْأُخَر فِي التَّأْوِيل مُسَيْلمَة الْكذَّاب. قَوْله: (الْيَمَامَة) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الميمين: وَهِي مَدِينَة بِالْيمن على أَربع مراحل من مَكَّة، شرفها الله، ومرحلتين من الطَّائِف، قيل: سميت بذلك باسم جَارِيَة زرقاء كَانَت تبصر الرَّاكِب من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، يُقَال: هُوَ أبْصر من زرقاء الْيَمَامَة، فسميت الْيَمَامَة لِكَثْرَة مَا أضيف إِلَيْهَا، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: يمامي.
2263 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ العَلاءِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ أُسَامَةَ عنْ بُرَيْدِ بنِ عبْدِ الله بنِ أبِي بُرْدَةَ عنْ جَدِّهِ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى أُرَاهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رأيْتُ فِي المَنامِ أنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أنَّهَا اليَمَامَةُ أوْ هَجَرُ فإذَا هَيَ المَدِينَةُ يَثرِبُ ورَأيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أنِّي هَزَزْتُ سَيْفاً فانْقَطَعَ صَدْرُهُ فإذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ هَزَزْتُهُ بأُخْرَى فَعادَ أحْسَنَ مَا كانَ فإذَا هُوَ مَا جاءَ الله بِهِ مِنَ الفَتْحِ واجْتِمَاعِ(16/152)
الْمُؤْمِنينَ ورَأيْتُ فِيها بَقَرا وَالله خَيْرٌ فإذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وإذَا الخَيْرُ مَا جاءَ الله بِهِ مِنَ الخَيْرِ وثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا الله بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِخْبَارًا عَن رُؤْيَاهُ الصدْق ووقوعها مثل مَا عبرها بِهِ، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ دَال مُهْملَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، يروي عَن جده أبي بردة واسْمه الْحَارِث، وَقيل: عَامر، وَقيل: اسْمه كنيته ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مقطعاً فِي غير مَوضِع من الْمَغَازِي وعلامات النُّبُوَّة وَالتَّعْبِير عَن أبي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء. وَأخرجه مُسلم فِي الرُّؤْيَا عَن أبي كريب وَعبد الله بن براد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان، أربعتهم عَن أبي أُسَامَة عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (أرَاهُ) بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ. قَوْله: (وهلي) بِفَتْح الْهَاء يَعْنِي: وهمي واعتقادي، وَيجوز فِيهِ إسكان الْهَاء مثل نهر ونهر، يُقَال: وهلت إِلَى الشَّيْء إِذا ذهب وهمك إِلَيْهِ، يُقَال: وَهل يهل وهلاً. وَعَن أبي زيد: وهلت فِي الشَّيْء. وَعنهُ أهل وهلاً: إِذا نسيت وغلطت فِيهِ، وَضَبطه بِكَسْر الْهَاء. قَوْله: (أَو الهجر) ، بِفَتْح الْجِيم، وَهِي مَدِينَة بِالْيمن وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين، وَيُقَال بِدُونِ الْألف وَاللَّام، بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل. قَوْله: (فَإِذا هِيَ الْمَدِينَة) كلمة: إِذا، للمفاجأة وَهِي ترجع إِلَى أَرض بهَا نخل، و: هُوَ، مُبْتَدأ، و: الْمَدِينَة، بِالرَّفْع خَبره، قَوْله: (يثرب) بِالرَّفْع أَيْضا عطف بَيَان بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء ثمَّ بَاء مُوَحدَة، وَالنَّهْي الَّذِي ورد عَن تَسْمِيَة الْمَدِينَة بِيَثْرِب إِنَّمَا كَانَ للتنزيه، وَإِنَّمَا جمع بَين الإسمين هُنَا لأجل خطاب من لَا يعرفهَا، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقد نهى عَن التَّسْمِيَة بِيَثْرِب حَتَّى قيل: من قَالَهَا وَهُوَ عَالم كتبت عَلَيْهِ خَطِيئَة، وَسَببه مَا فِيهِ من معنى التثريب، والشارع من شَأْنه تَغْيِير الْأَسْمَاء القبيحة إِلَى الْحَسَنَة، وَيجوز أَن يكون هَذَا قبل النَّهْي، كَمَا أَنه سَمَّاهَا فِي الْقُرْآن إِخْبَارًا بِهِ عَن تَسْمِيَة الْكفَّار لَهَا قبل أَن ينزل تَسْمِيَتهَا. قَوْله: (وثواب الْفَتْح) ، أَرَادَ بِالْفَتْح فتح مَكَّة، أَو هُوَ مجَاز عَن اجْتِمَاع الْمُؤمنِينَ وَإِصْلَاح حَالهم. قَوْله: (بقرًا) قَالَ النَّوَوِيّ: قد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات هَكَذَا: رَأَيْت بقرًا تنحر، وبهذه الزِّيَادَة يتم تَأْوِيل الرُّؤْيَا إِذا نحر الْبَقر هُوَ قتل الصَّحَابَة بِأحد. قَوْله: (وَالله خير) قَالَ القَاضِي: ضبطناه، وَالله خير، بِرَفْع الْهَاء وَالرَّاء على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، قيل مَعْنَاهُ ثَوَاب الله خير أَي: صنع الله بالمقتولين خير لَهُم من مقامهم فِي الدُّنْيَا، وَالْأولَى قَول من قَالَ: إِنَّه من جملَة الرُّؤْيَا، فَإِنَّهَا كلمة سَمعهَا فِي الرُّؤْيَا عِنْد رُؤْيَاهُ الْبَقر بِدَلِيل تَأْوِيله لَهَا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا الْخَيْر مَا جَاءَ الله بِهِ) قَوْله: (وثواب الصدْق) إِلَى آخِره، يُرِيد بِهِ بعد أحد وَلَا يريدها كَانَ قبل أحد. قَوْله: (بعد يَوْم بدر) قَالَ القَاضِي، بِضَم دَال، بعد، وبنصب: يَوْم، قَالَ: وَرُوِيَ بِنصب الدَّال وَمَعْنَاهُ: مَا جَاءَ الله بِهِ بعد بدر الثَّانِيَة من تثبيت قُلُوب الْمُؤمنِينَ لِأَن النَّاس جمعُوا لَهُم وخوفوهم فَزَادَهُم ذَلِك إِيمَانًا: {قَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل} (آا عمرَان: 371) . وتفرق البدو عَنْهُم هَيْبَة لَهُم.
3263 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا زَكرِيَّاءُ عنْ فِرَاسٍ عنْ عامِرٍ عنْ مسْرُوق عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ أقْبَلَتْ فاطِمَةُ تَمْشِي كأنَّ مَشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرْحَباً بابْنَتِي ثُمَّ أجْلَسَهَا عنْ يَمِينِهِ أوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أسَرَّ إلَيْهَا حَدِيثاً فبَكَتْ فقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أسَرَّ إلَيْهَا حَدِيثاً فَضَحكت فقُلْتُ مَا رأيْتُ كالْيَوْمِ فرَحَاً أقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسألْتُهَا عَمَّا قَالَ فقالَتْ مَا كُنْتُ لأِفْشِي سِرَّ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألْتُهَا فقَالَتْ أسَرَّ إلَيَّ أنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ فِي كلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وإنَّهُ عارَضَنِي العامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إلاَّ حَضَرَ أجَلِي وإنَّكَ أوَّلُ أهْلِ بَيْتِي لَحاقَاً بِي فَبَكَيْتُ فَقَالَ أمَا تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِساءِ أهْلِ الجَنِّةِ أوْ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ فضَحِكْتُ لِذَلِكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه أخبر عَن حُضُور أَجله، وَمن حَيْثُ إِنَّه أخبر أَن فَاطِمَة سيدة نسَاء أهل الْجنَّة. وَأَبُو نعيم(16/153)
الْفضل بن دُكَيْن، وزكرياء هُوَ ابْن أبي زَائِدَة، وفراس، بِكَسْر الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَبعد الْألف سين مُهْملَة: ابْن يحيى الْمكتب، مر فِي الزَّكَاة، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، وَفِي بعض النّسخ لفظ الشّعبِيّ مَذْكُور، ومسروق بن الأجدع.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي كَامِل الجحدري وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَفَاة عَن مُحَمَّد بن معمر وَفِي المناقب عَن عَليّ بن حجر وَفِي أَوله زِيَادَة.
قَوْله: (كَأَن مشيتهَا) بِكَسْر الْمِيم، لِأَن الفعلة بِالْكَسْرِ للحالة وبالفتح للمرة. قَوْله: (مشي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر: كَأَن، بِالتَّشْدِيدِ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَشى كَأَنَّهُ ينحدر من صبب أَي: من مَوضِع منحدر. قَوْله: (أَو شِمَاله) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (يعارضني الْقُرْآن) من الْمُعَارضَة: وَهِي الْمُقَابلَة، وَمِنْه: عارضت الْكتاب بِالْكتاب أَي: قابلت بِهِ. قَوْله: (مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ فَرحا أقرب من حزن) أَي: كَانَ الْفَرح قريب الْحزن. قَوْله: (لأفشي) من الإفشاء وَهُوَ الْإِظْهَار. قَوْله: (حَتَّى قبض) مُتَعَلق بِمَحْذُوف أَي: لم يقل حَتَّى قبض. قَوْله: (وَلَا أرَاهُ إِلَّا حضر أَجلي) بِضَم الْهمزَة أَي: وَلَا أَظُنهُ إلاَّ أَن موتِي قرب، وبكاؤها فِي هَذِه الرِّوَايَة كَانَ من أجل قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أرَاهُ إلاَّ حضر أَجلي، وضحكها كَانَ لأجل إخْبَاره لَهَا أَنَّهَا سيدة نسَاء أهل الْجنَّة، أَو سيدة نسَاء الْمُسلمين، وَأما بكاؤها فِي الرِّوَايَة الَّتِي تَأتي الْآن كَانَ لأجل قَوْله: إِنَّه يقبض فِي وَجَعه الَّذِي توفّي فِيهِ، وضحكها كَانَ لأجل أَنه قَالَ: فَأَخْبرنِي أَنِّي أول أهل بَيته أتبعه، وَمَاتَتْ فَاطِمَة بعد أَبِيهَا بِسِتَّة أشهر، قَالَت عَائِشَة: وَذَلِكَ فِي رَمَضَان عَن خمس وَعشْرين سنة، وَقيل: مَاتَت بعده بِثَلَاثَة أشهر.
وَفِيه: أَن الْمَرْء لَا يحب الْبَقَاء بعد محبوبه، قَالَ ابْن عمر فِي عَاصِم:
(فلَيت المنايا كن خلفن عَاصِمًا فعشن جَمِيعًا أَو ذهبن بِنَا مَعًا)
وَفِيه: أَن فَاطِمَة سيدة نسَاء أهل الْجنَّة، قَالَ الْكرْمَانِي: فَهِيَ أفضل من خَدِيجَة وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قلت: الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا، وَلَكِن اللَّازِم من الحَدِيث ذَلِك إلاَّ أَن يُقَال: إِن الرِّوَايَة بِالشَّكِّ، والمتبادر إِلَى الذِّهْن من لفظ الْمُؤمنِينَ غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرفا، وَدخُول الْمُتَكَلّم فِي عُمُوم كَلَامه مُخْتَلف فِيهِ عِنْد الْأُصُولِيِّينَ.
5263 - حدَّثني يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّها قالَتْ دَعا النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاطِمَةَ ابْنَتَهُ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فيهِ فَسارَّهَا بِشَيْءٍ فبَكَتْ ثُمَّ دَعاهَا فسارَّهَا فضَحِكَتْ قالَتْ فسَألْتُهَا عنْ ذَلِكَ. .
7263 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ كانَ عُمْرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يُدْنِي ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ إنَّ لَنا أبْناً مِثْلَهُ فَقَالَ إنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فسألَ عُمَرُ ابنَ عبَّاسٍ عنْ هاذِهِ الآيَةِ {إذَا جاءَ(16/154)
نَصْرُ الله والفَتْحُ} (الْفَتْح: 1) . فَقَالَ أجَلُ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْلَمَهُ إيَّاهُ قَالَ مَا أعْلَمُ مِنْهَا إلاَّ مَا تَعْلَمُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أعلمهُ إِيَّاه) أَي: أعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عَبَّاس أَن هَذِه السُّورَة فِي أجَل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِخْبَار قبل وُقُوعه، وَوَقع الْأَمر كَذَلِك، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي النُّعْمَان وَفِي التَّفْسِير عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عرْعرة أَيْضا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر وَعَن عبد بن حميد، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (يدني) أَي: يقرب وَفِيه الْتِفَات. قَوْله: (إِن لنا إبناً مثله) أَي: مثل ابْن عَبَّاس فِي الْعُمر، وغرضه: أننا شُيُوخ وَهُوَ شَاب فَلم تقدمه علينا وتقربه من نَفسك؟ قَالَ: أقربه وأقدمه من جِهَة علمه.
(وَالْعلم يرفع كل من لم يرفع)
قَوْله: (من حَيْثُ تعلم) أَي: من أجل أَنَّك تعلم أَنه عَالم، وَكَانَ ذَلِك ببركة دُعَائِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أللهم فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل. قَوْله: (أجَلُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَجِيء النَّصْر وَالْفَتْح وَدخُول النَّاس فِي الدّين عَلامَة وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر الله رَسُوله بذلك.
8263 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ سُلَيْمانَ بنِ حَنْظَلَةَ بنُ الغَسِيلِ حدَّثنا عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ خَرَجَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ قَدْ عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسماءَ حَتَّى جَلَسَ علَى المِنْبَرِ فَحَمِدَ الله وأثْنَى علَيْهِ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ ويَقِلُّ الأنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ المِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئاً يَضُرُّ فِيهِ قَوْمَاً ويَنْفَعُ فيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ ويَتَجَاوَزْ عنْ مُسِيئِهِمْ فَكانَ ذَلِك آخِرَ مَجْلِس جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (انْظُر الحَدِيث 729 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه أخبر بِكَثْرَة النَّاس وَقلة الْأَنْصَار بعده، وَأَن مِنْهُم من يتَوَلَّى أُمُور النَّاس وَأَنه وصّى إِلَيْهِم بِمَا ذكر فِيهِ. وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَعبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن حَنْظَلَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الظَّاء الْمُعْجَمَة وباللام: ابْن أبي عَامر الراهب، قد مر فِي الْجُمُعَة قَوْله: (ابْن الغسيل) ويروى: حَنْظَلَة الغسيل بِدُونِ لفظ: الابْن، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَلَكِن بِشَرْط أَن يرفع الإبن على أَنه صفة لعبد الرَّحْمَن، فَافْهَم، وحَنْظَلَة من سَادَات الصَّحَابَة وَهُوَ مَعْرُوف بغسيل الْمَلَائِكَة، فسألوا امْرَأَته فَقَالَت: سمع الهيعة وَهُوَ جنب فَلم يتَأَخَّر للاغتسال، وَكَانَ يَوْم أحد فَقَالَت حَتَّى قتل، قَتله أَبُو سُفْيَان بن حَرْب، وَقَالَ: حَنْظَلَة بحنظلة يَعْنِي بِابْنِهِ حَنْظَلَة الْمَقْتُول ببدر، فَلَمَّا قتل شَهِيدا أخبر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الْمَلَائِكَة غسلته، فَسُمي حَنْظَلَة الغسيل.
والْحَدِيث أخرجه فِي الْجُمُعَة عَن إِسْمَاعِيل بن أبان عَن ابْن الغسيل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بعصابة دسماء) قَالَ الْخطابِيّ: أَي بعصابة سَوْدَاء. قَوْله: (بِمَنْزِلَة الْملح) ، وَجه التَّشْبِيه الْإِصْلَاح بِالْقَلِيلِ دون الْإِفْسَاد بالكثير، كَمَا فِي قَوْلهم: النَّحْو فِي الْكَلَام كالملح فِي الطَّعَام، أَو كَونه قَلِيلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر أَجزَاء الطَّعَام. قَوْله: (فَكَانَ ذَلِك آخر مجْلِس) إِلَى آخِره، من كَلَام ابْن عَبَّاس، قَوْله: (جلس بِهِ) ويروى: جلس فِيهِ.
9263 - حدَّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ حدَّثنا حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ عنْ أبي مُوسَى عنِ الحَسَنِ عنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاتَ يَوْمٍ الحَسَنَ فصَعِدَ بِهِ علَى المِنْبَرِ فَقَالَ ابْني هَذَا سَيِّدٌ ولَعَلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَن الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يصلح بِهِ بَين الفئتين من الْمُسلمين، وَقد وَقع مثل مَا أخبر فَإِنَّهُ ترك الْخلَافَة لمعاوية وارتفع النزاع بَين الطَّائِفَتَيْنِ.
وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بالمسندي، وَيحيى بن آدم بن سُلَيْمَان(16/155)
الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ، وحسين بن عَليّ بن الْوَلِيد الْجعْفِيّ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالفاء: نِسْبَة إِلَى جعفى ابْن سعد الْعَشِيرَة من مذْحج، قَالَ الْجَوْهَرِي: أَبُو قَبيلَة من الْيمن وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ كَذَلِك، وَأَبُو مُوسَى إِسْرَائِيل بن مُوسَى الْبَصْرِيّ نزل الْهِنْد، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَأَبُو بكرَة نفيع بن الْحَارِث الثَّقَفِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصُّلْح، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (ذَات يَوْم) مَعْنَاهُ: قِطْعَة من الزَّمَان ذَات يَوْم. قَوْله: (ابْني) دَلِيل على أَن ابْن الْبِنْت يُطلق عَلَيْهِ الإبن، وَلَا اعْتِبَار بقول الشَّاعِر:
(بنونا بَنو أَبْنَائِنَا، وبناتنا ... بنوهن أَبنَاء الرِّجَال الأباعد)
قَوْله: (فئتين) أَي: طائفتين.
0363 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ حُمَيْدِ بنِ هِلالٍ عنُ أنَسِ بنِ مالِك رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعَى جَعْفَراً وزَيْدَاً قَبْلَ أنْ يَجِيءَ خبَرُهُمْ وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بقتل جَعْفَر بن أبي طَالب وَزيد بن حَارِثَة، بمؤته قبل أَن يَجِيء خبرهما، وَهَذَا من عَلَامَات النُّبُوَّة، وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي غَزْوَة مُؤْتَة مفصلا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَحميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن هِلَال بن هُبَيْرَة أَبُو نصر الْبَصْرِيّ.
وَمضى الحَدِيث فِي الْجَنَائِز عَن أبي معمر عبد الله بن عَمْرو، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (خبرهم) ، ويروى: خبرهما، أَي: خبر جَعْفَر وَزيد، وَالضَّمِير فِي الرِّوَايَة الأولى يرجع إِلَيْهِمَا وَإِلَى من قتل مَعَهُمَا، أَو المُرَاد أهل مُؤْتَة وَمَا جرى بَينهم. قَوْله: (وَعَيناهُ) الْوَاو فِيهِ للْحَال، أَي: وعينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَذْرِفَانِ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، يَعْنِي تسيلان دمعاً.
1363 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ حدَّثنا ابنُ مَهْدِيُ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلْ لَكُمْ مِنْ أنْمَاطٍ قُلْتُ وأنَّى يَكُونُ لَنَا الأنْمَاطُ قَالَ أمَا إنَّهُ سَيَكُونُ لَكُمُ الأنْمَاطُ فَأَنا أقُولُ لَهَا يَعْنِي امْرَأتَهُ أخِّرِي عَنِّي أنْمَاطَك فتَقُولُ ألَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهَا ستَكُونُ لَكُمُ الأنْمَاطُ فأدَعُهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَنَّهُ سَيكون لَهُم الأنماط، وَقد كَانَ ذَلِك، وَهِي جمع: نمط، بِفَتَحَات وَهُوَ: بِسَاط لَهُ خمل رَقِيق.
وَعَمْرو بن عَبَّاس، بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة: أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ من أَفْرَاده، يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، يروي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (هَل لكم من أنماط؟) إِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك لجَابِر لما تزوج. قَوْله: (وأنَّى يكون؟) أَي: وَمن أَيْن يكون لنا الأنماط؟ قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم، وَهِي: من مُقَدمَات الْيَمين وطلائعه كَقَوْل الشَّاعِر:
(أما وَالَّذِي لَا يعلم الْغَيْب غَيره)
وَلما ذكر ابْن هِشَام: أَلا، بِفَتْح الْهمزَة وَالتَّخْفِيف، وَذكر أَنْوَاعهَا قَالَ: واختها: أما من مُقَدمَات الْيَمين وطلائعه. قَوْله: (فَأَنا أَقُول لَهَا) ، أَي: قَالَ جَابر: أَنا أَقُول لَهَا يَعْنِي لامْرَأَته، قَوْله: (فَتَقول) أَي: امْرَأَته. قَوْله: (فأدعها) أَي: اتركها بِحَالِهَا مفروشة.
2363 - حدَّثني أحْمَدُ بنُ إسْحَاقَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى حدَّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنْ عَمْرٍ وبنِ مَيْمُونٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ انْطَلَقَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرَاً قَالَ فنَزَلَ عَلى أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ أبِي صَفْوَانَ وكانَ أُمَيَّةُ إذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأمِ فَمَرَّ بالمَدِينَةِ نَزَلَ عَلى سَعْدٍ فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ انْتَظِرْ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتَ(16/156)
فَطُفْتَ فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إذَا أبُو جَهْلٍ فقالَ مَنْ هذَا الَّذِي يَطُوفُ بالكَعْبَةِ فَقَالَ سعْدٌ أنَا سَعْدٌ فقالَ أبُو جَهْلٍ تَطُوفُ بالْكَعْبَةِ آمِنَاً وقَدْ أوَيْتُمْ مُحَمَّداً وأصْحَابَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَتَلاحَيَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أبِي الحَكَمُ فإنَّهُ سَيِّدُ أهْلِ الوَادِي ثُمَّ قالَ سَعْدً وَالله لَئِنْ مَنَعْتَني أنْ أطُوفَ بالبَيْتِ لأقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بالشَّأمِ قَالَ فجَعَلَ أُمَيَّةُ يقُولُ لِسَعْدَ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ وجَعَلَ يُمْسِكُهُ فغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ دَعْنَا عَنْكَ فإنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَزْعُمُ أنَّهُ قاتِلكَ قَالَ إيَّايَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَالله مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إذَا حَدَّثَ فرَجَعَ إِلَى امْرَأتِهِ فَقَالَ أمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أخِي اليَثْرِبِيُّ قالَتْ وَمَا قالَ قَالَ زَعَمَ أنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَاً يَزْعُمُ أنَّهُ قَاتِلِي قالتْ فَوَالله مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ قَالَ فلَمَّا خَرَجُوا إلَى بَدْرٍ وجاءَ الصَّرِيخُ قالَتْ لَهُ امْرَأتُهُ أمَا ذَكَرْتَ مَا قالَ لَكَ أخُوكَ اليَثْرِبِيُّ قَالَ فأرَادَ أنْ لَا يَخْرُجْ فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ إنَّكَ مِنْ أشْرَافِ الوَادِي فَسِرْ يَوْمَاً أوْ يَوْمَيْنِ فَسَارَ يَوْمَيْنِ مَعَهُمْ فقَتَلَهُ الله. (الحَدِيث 2363 طرفه فِي: 0593) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بقتل أُميَّة بن خلف فَقتل فِي وقْعَة بدر، قَتله رجل من الْأَنْصَار من بني مَازِن، وَقَالَ ابْن هِشَام: قَتله معَاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف اشْتَركُوا فِيهِ، وَهُوَ أُميَّة بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: أَحْمد بن إِسْحَاق بن الْحصين بن جَابر أَبُو إِسْحَاق السّلمِيّ السرماري، وسرمار قَرْيَة من قرى بُخَارى. الثَّانِي: عبيد الله بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَهُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ. الثَّالِث: إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي. الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. الْخَامِس: عَمْرو بن مَيْمُون الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، أدْرك الْجَاهِلِيَّة. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي أول الْمَغَازِي فِي: بَاب ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يقتل ببدر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سعد بن معَاذ) بن النُّعْمَان بن امرىء الْقَيْس بن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن النبيت، وَهُوَ عَمْرو بن مَالك الْأَوْس الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي، يكنى أَبَا عَمْرو، وَأسلم بِالْمَدِينَةِ بَين الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة على يَدي مُصعب بن عُمَيْر، وَشهد بَدْرًا وأحداً وَالْخَنْدَق، فَرمي يَوْم الخَنْدَق بِسَهْم فَعَاشَ شهرا ثمَّ انتفض جرحه فَمَاتَ مِنْهُ. قَوْله: (مُعْتَمِرًا) نصب على الْحَال وَكَانُوا يعتمرون من الْمَدِينَة قبل أَن يعْتَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَنزل) أَي: سعد بن معَاذ حِين دخل مَكَّة لأجل الْعمرَة (على أُميَّة ابْن خلف) بن وهب يكنى بِأبي صَفْوَان من كبار الْمُشْركين. قَوْله: (وَكَانَ أُميَّة إِذا انْطلق إِلَى الشَّام) ، يَعْنِي: لأجل التِّجَارَة. (فَمر بِالْمَدِينَةِ) لِأَنَّهَا على طَرِيقه، فَنزل على سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ مؤاخياً مَعَه قَوْله: (وَقَالَ أُميَّة لسعد: إنتظر حَتَّى إِذا انتصف النَّهَار وغفل النَّاس) لِأَنَّهُ وَقت غَفلَة وقائله (انْطَلَقت فطفت) بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَة فيهمَا لِأَنَّهُ خطاب أُميَّة لسعد، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي: أول الْمَغَازِي: فَلَمَّا قدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة انْطلق سعد مُعْتَمِرًا فَنزل على أُميَّة بِمَكَّة، فَقَالَ لأمية: أنظر لي سَاعَة خلْوَة لعَلي أَن أَطُوف بِالْبَيْتِ، فَخرج بِهِ قَرِيبا من نصف النَّهَار. قَوْله: (فَبَيْنَمَا سعد يطوف إِذا أَبُو جهل) يَعْنِي: قد حضر، وَفِي رِوَايَة الْمَغَازِي: فَإِذا بِهِ، أَي: فَخرج أَبُو أُميَّة بِسَعْد قَرِيبا من نصف النَّهَار فلقيهما أَبُو جهل، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَان، يَعْنِي: يَقُول لأمية، من هَذَا مَعَك؟ قَالَ: فَقَالَ: هَذَا سعد، فَقَالَ أَبُو جهل، يَعْنِي لسعد: ألاَ أَرَاك تَطوف بِمَكَّة آمنا؟ يَعْنِي: حَال كونك آمنا؟ وَقد أويتم الصباة، وزعمتم أَنكُمْ تنصرونهم وتغيثونهم، أما وَالله لَو أَنَّك مَعَ أبي صَفْوَان مَا رجعت إِلَى أهلك سالما، قَوْله (الصباة) بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: صابيء، مثل قَضَاهُ جمع قاضٍ، وَكَانُوا يسمون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه الَّذين هَاجرُوا(16/157)
إِلَى الْمَدِينَة: صباة من صَبأ إِذا مَال عَن دينه. قَوْله: (فتلاحيا) أَي: تخاصما وتنازعا، وَقيل: تسابا يَعْنِي: سعد بن معَاذ وَأَبُو جهل. قَوْله: (على أبي الحكم) ، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ عَدو الله أَبُو جهل، واسْمه: عَمْرو بن هِشَام المَخْزُومِي وكناه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بِأبي جهل. قَوْله: (فَإِنَّهُ سيد أهل الْوَادي) أَي: فَإِن أَبَا جهل سيد أهل الْوَادي، أَرَادَ بِهِ: أهل مَكَّة. قَوْله: (ثمَّ قَالَ سعد) أَي: لأبي جهل: (وَالله لَئِن منعتني من أَن أَطُوف) أَي: من طواف الْبَيْت. (لأقطعن متجرك بِالشَّام) أَي: تجارتك، وَفِي رِوَايَة الْمَغَازِي: أما وَالله لَئِن منعتني هَذَا لأمنعنك مَا هُوَ أَشد عَلَيْك مِنْهُ، طريقك على الْمَدِينَة. قَوْله: (قَالَ: دَعْنَا عَنْك) أَي: فَقَالَ سعد لأمية بن خلف، دَعْنَا عَنْك، أَي: أترك محاماتك لأبي جهل، فَإِنِّي سَمِعت مُحَمَّدًا يزْعم أَنه قَاتلك، وَالْخطاب لأمية، وَفِي الْمَغَازِي: دَعْنَا عَنْك يَا أُميَّة، فوَاللَّه لقد سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (أَنه قَاتلك) ، وَفِي رِوَايَة: (إِنَّهُم قاتلوك) . قَالَ: بِمَكَّة؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَوْله: (قَالَ: إيَّايَ؟) أَي: قَالَ أُميَّة: إيَّايَ؟ قَالَ سعد: نعم إياك. قَوْله: (فَرجع إِلَى امْرَأَته) ، أَي: فَرجع أُميَّة إِلَى امْرَأَته، وَفِي رِوَايَة الْمَغَازِي، فَفَزعَ لذَلِك أُميَّة فَزعًا شَدِيدا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَهله قَالَ: يَا أم صَفْوَان: ألم تري مَا قَالَ لي سعد؟ وَهنا قَالَ لَهَا: أتعلمين مَا قَالَ لي أخي اليثربي؟ أَرَادَ بِهِ سَعْدا، فنسبه إِلَى يثرب مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: أخي، يَعْنِي: فِي المصاحبة دون النّسَب وَلَا الدّين. قَوْله: (قَالَ: فوَاللَّه مَا يكذب مُحَمَّد) ، أَي: قَالَ أُميَّة: مَا يكذب مُحَمَّد، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْصُوفا عِنْدهم بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة وَإِن كَانُوا لَا يصدقونه. قَوْله: (فَلَمَّا خَرجُوا) ، أَي: أهل مَكَّة إِلَى بدر، وَجَاء الصَّرِيخ. قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَهُوَ أَن الصَّرِيخ جَاءَهُم فَخَرجُوا إِلَى بدر، أخْبرهُم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه خَرجُوا إِلَى عير أبي سُفْيَان، فَخرجت قُرَيْش أشرين بطرين موقنين عِنْد أنفسهم أَنهم غالبون، فَكَانُوا ينحرون يَوْمًا عشرَة من الأبل، وَيَوْما تِسْعَة، والصريخ: فعيل من الصُّرَاخ، وَهُوَ صَوت المستصرخ أَي: المستغيث. قَوْله: (فَأَرَادَ أَن لَا يخرج) ، أَي: أَرَادَ أُميَّة أَن لَا يخرج من مَكَّة مَعَ قُرَيْش إِلَى بدر، وَفِي الْمَغَازِي: فَقَالَ أُميَّة: وَالله لَا أخرج من مَكَّة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر اسْتنْفرَ أَبُو جهل النَّاس فَقَالَ: أدركوا عِيركُمْ، فكره أُميَّة أَن يخرج، فَأَتَاهُ أَبُو جهل فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَان {إِنَّك مَتى يراك النَّاس قد تخلفت وَأَنت سيد أهل الْوَادي تخلفوا مَعَك فَلم يزل بِهِ أَبُو جهل حَتَّى قَالَ: أما إِذا غلبتني فوَاللَّه لأشترين أَجود بعير بِمَكَّة، ثمَّ قَالَ أُميَّة: يَا أم صَفْوَان} جهزيني. فَقَالَت لَهُ: يَا أَبَا صَفْوَان! أونسيت مَا قَالَ لَك أَخُوك اليثربي؟ قَالَ: لَا، مَا أُرِيد أَن أجوز مَعَهم إلاَّ قَرِيبا، فَلَمَّا خرج أُميَّة جعل لَا ينزل منزلا إِلَّا عقل بعيره، فَلم يزل بذلك حَتَّى قَتله الله، عز وَجل، ببدر، وَإِنَّمَا سقت مَا فِي الْمَغَازِي لِأَنَّهُ كالشرح لما هُنَا، وَقد ذكر الْكرْمَانِي هُنَا شَيْئا بِغَيْر نظر وَلَا تَأمل، حَتَّى نسب بذلك إِلَى التغفل عِنْد بعض الشُّرَّاح، وَهُوَ أَنه قَالَ: فَإِن قلت: أَيْن مَا أخبر بِهِ سعد من كَون أبي جهل قَاتله أَي قَاتل أُميَّة؟ قلت: أَبُو جهل كَانَ السَّبَب فِي خُرُوجه، فَكَأَنَّهُ قَتله، إِذْ الْقَتْل كَمَا يكون مُبَاشرَة قد يكون تسبباً. انْتهى. وَإِنَّمَا حمله على هَذَا الْأَمر العجيب لِأَنَّهُ فهم أَن قَول سعد لأمية: إِنَّه قَاتلك، أَي: إِن أَبَا جهل قَاتلك، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أَرَادَ سعد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي يقتل أُميَّة، فَلَمَّا فهم هَذَا الْفَهم اسْتشْكل ذَلِك بِكَوْن أبي جهل على دين أُميَّة، ثمَّ تعسف بِالْجَوَابِ كَذَلِك.
3363 - حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ شَيْبَةَ حدَّثنا عبْدُ الرحْمانِ بنُ الْمُغِيرَةِ عنْ أبِيهِ عنْ مُوساى بنِ عُقْبَةَ عنْ سَالِمِ بنِ عبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَأيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعينَ فِي صَعيدٍ فقامَ أبُو بَكْرٍ فنَزَعَ ذَنُوباً أوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي بَعْضِ نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَالله يَغفِرُ لَهُ ثُمَّ أخَذَهَا عُمَرُ فاسْتَحَالَتْ بِيَدِهِ غَرْباً فلَمْ أرَ عَبْقَرِياً فِي النَّاسِ يَفْري فَرْيَهُ حتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ وَقَالَ هَمَّامٌ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنَزَعَ أبُو بَكْرٍ ذَنُوبَيْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر عَمَّا رَآهُ فِي الْمَنَام فِي أَمر خلَافَة الشَّيْخَيْنِ، وَقد وَقع مثل مَا قَالَ على مَا نذكرهُ، ورؤيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، حق بِلَا خلاف.
وَعبد الرحمان بن شيبَة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن شيبَة أَبُو بكر الْخَوَارِزْمِيّ الْقرشِي مَوْلَاهُم الْمدنِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة: ابْن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن خَالِد بن حزَام بن خويلد أَبُو الْقَاسِم الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، يروي عَن أَبِيه(16/158)
الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ يروي عَن مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ الإِمَام، وَهُوَ يروي عَن سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُوسُف ابْن سعيد.
قَوْله: (فِي صَعِيد) ، هُوَ فِي اللُّغَة وَجه الأَرْض. قَوْله: (ذنوباً) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ الدَّلْو الممتليء مَاء، وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ الدَّلْو الْعَظِيم. قَوْله: (أَو ذنوبين) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (وَفِي بعض نَزعه) ، أَي: فِي استقائه. قَوْله: (ضعف) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَضمّهَا لُغَتَانِ، وَلَيْسَ فِيهِ حط من فَضِيلَة أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن حَال ولَايَته، فَإِنَّهُ اشْتغل بِقِتَال أهل الرِّدَّة فَلم يتفرغ لفتح الْأَمْصَار وجباية الْأَمْوَال، ولقصر مدَّته فَإِنَّهَا سنتَانِ وَثَلَاثَة أشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَالله يغْفر لَهُ) لَيْسَ فِيهِ تنقيص لَهُ وَلَا إِشَارَة إِلَى ذَنْب، وَإِنَّمَا هِيَ كلمة يدعمون بهَا كَلَامهم، ونعمت الدعامة. قَوْله: (ثمَّ أخدها) أَي: الذُّنُوب، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي فَأخذ الْخلَافَة. قلت: لفظ الْخلَافَة غير مَذْكُور، وَإِنَّمَا الذُّنُوب الَّتِي استحالت غرباً كِنَايَة عَن خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فاستحالت بِيَدِهِ غرباً) ، أَي: تحولت من الصغر إِلَى الْكبر، والغرب بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء: الدَّلْو الْعَظِيم يسقى بِهِ الْبَعِير، فَهِيَ أكبر من الذُّنُوب، وهيه الْحَال إِنَّمَا حصله لَهُ لطول أَيَّامه وَمَا فتح الله لَهُ من الْبِلَاد وَالْأَمْوَال والغنائم فِي عَهده، وَأَنه مصَّر الْأَمْصَار، ودوَّن الدَّوَاوِين، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الْمَنَام مِثَال لما جرى للخليفتين من ظُهُور آثارهما وانتفاع النَّاس بهما، وكل ذَلِك مَأْخُوذ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ هُوَ صَاحب الْأَمر، فَقَامَ بِهِ أكمل قيام وَقرر الْقَوَاعِد، ثمَّ خَلفه أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنتَيْن فقاتل أهل الرِّدَّة وَقطع دابرهم، ثمَّ خَلفه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فاتسع الْإِسْلَام فِي زَمَنه، فقد شبه أَمر الْمُسلمين بقليب فِيهِ المَاء الَّذِي بِهِ حياتهم وصلاحهم، وسقيهما قيامهما بمصالحهم، وسقيه هُوَ قِيَامه بمصالحهم، قَوْله: (عبقرياً) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، والعبقري: هُوَ الحاذق فِي عمله، وَهَذَا عبقري قومه أَي سيدهم، وَقيل: أصل هَذَا من عبقر وَهِي أَرض يسكنهَا الْجِنّ، فَصَارَ مثلا لكل مَنْسُوب إِلَى شَيْء غَرِيب فِي جودة صَنعته وَكَمَال رفعته، وَقيل: عبقر قَرْيَة يعْمل فِيهَا الثِّيَاب الْحَسَنَة فينسب إِلَيْهَا كل شَيْء جيد. وَقَالَ الْخطابِيّ: العبقري كل شَيْء يبلغ النِّهَايَة فِي الْخَيْر وَالشَّر. قَوْله: (يفري فريه) ، يفري: بِكَسْر الرَّاء، و: فريه، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، ويروى: فريه، بِفَتْح الْفَاء وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: يعْمل عملا مصلحاً وَيقطع قِطْعَة مجيداً، يُقَال: فلَان، يفري فريه، إِذا كَانَ يَأْتِي بالعجب فِي عمله، وَقَالَ الْخَلِيل: يُقَال فِي الشجاع: مَا يفري أحد فريه، مُخَفّفَة الْيَاء وَمن شدد أَخطَأ، يُقَال: مَعْنَاهُ مَا كل أحد يفري على عمله. قَوْله: (حَتَّى ضرب النَّاس بِعَطَن) ، والعطن مبرك الْإِبِل حول موردها لتشرب عللاً بعد نهل، وتستريح مِنْهُ. وَقَالَ القَاضِي: ظَاهر لفظ: (حَتَّى ضرب النَّاس) أَنه عَائِد إِلَى خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: يعود إِلَى خِلَافَتهمَا، لِأَن بتدبيرهما وقيامهما بمصالح الْمُسلمين تمّ هَذَا الْأَمر، لِأَن أَبَا بكر جمع شملهم وابتدأ الْفتُوح وتكامل فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (وَقَالَ همام) أَي: همام بن مُنَبّه (عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذنوبين) يَعْنِي: من غير شكّ، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير من هَذَا الْوَجْه من غَيره.
4363 - حدَّثني عَبَّاسُ بنُ الوَلِيدَ النَّرْسِيُّ حدَّثنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبِي حدَّثنا أبُو عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أنْ جِبْرِيلَ علَيْهِ السَّلامُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعِنْدَهُ أُمّ سَلَمَةَ فجَعلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاُِمِّ سلَمَةَ مَنْ هاذا أوْ كَما قَالَ قَالَ قَالَتْ هَذا دِحْيَةُ قالَتْ أُمُّ سلَمَةَ أيْمُ الله مَا حَسِبْتُهُ إلاَّ إيَّاهُ حتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخَبَرِ جِبْرِيلَ أوْ كَما قَالَ قَالَ فقُلْتُ لأبِي عُثمانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ ذكر جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمغيبات، فَكَانَ علما من أَعْلَام نبوته، وعباس، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْوَلِيد أَبُو الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ(16/159)
وَمِائَتَيْنِ، والنرسي، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة، قَالَ الكلاباذي: نرس لقد أحد أجداد عَبَّاس الْمَذْكُور، وَكَانَ اسْمه: نصر، فَقَالَ لَهُ بعض النبط: نرس، بدل نصر فَبَقيَ لقباً عَلَيْهِ، ومعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَكَانَ رَأْسا فِي الْعلم وَالْعِبَادَة كأبيه، مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَأَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ من السَّادة تَابِعِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَأَبُو عُثْمَان اسْمه عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون، ولد فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَهَذَا الحَدِيث يَأْتِي فِي فَضَائِل الْقُرْآن. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (أنبئت) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أخْبرت، وَهَذَا مُرْسل لكنه صَار مُسْندًا مُتَّصِلا حَيْثُ قَالَ فِي آخر الحَدِيث: سمعته من أُسَامَة بن زيد. قَوْله: (وَعِنْده أم سَلمَة) جملَة حَالية، وَاسْمهَا: هِنْد بنت أبي أُميَّة إِحْدَى زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (فَجعل) أَي: جِبْرِيل يحدث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَامَ. قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ: قَالَت) أَي: قَالَ أَبُو عُثْمَان: قَالَت أم سَلمَة: هَذَا دحْيَة، بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَفتحهَا: ابْن خَليفَة الْكَلْبِيّ الصَّحَابِيّ، وَكَانَ من أجمل النَّاس وَكَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَأْتِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صورته وَيظْهر لغيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صورته، وَرُبمَا لَا يرَاهُ إلاَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِخَبَر جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، ويروي: يخبر جِبْرِيل، على لفظ الْمُضَارع من أخبر، ويروي أَيْضا: خبر جِبْرِيل، بِدُونِ يَاء الْجَرّ. قَوْله: (قَالَ: فَقلت لأبي عُثْمَان) أَي: قَالَ سُلَيْمَان بن طرخان وَالِد مُعْتَمر الْمَذْكُور لأبي عُثْمَان عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور (وَمِمَّنْ سَمِعت هَذَا) أَي: هَذَا الحَدِيث، قَالَ: سمعته (من أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة) وَأمه أم أَيمن حاضنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُسمى: حب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْتَعْملهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة، وَتُوفِّي فِي آخر أَيَّام مُعَاوِيَة سنة ثَمَان أَو تسع وَخمسين بِالْمَدِينَةِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بِسم الله الرحْمان الرَّحيم
62 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ وإنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَة: 641) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من ذكر قَول الله تعال: {يعرفونه} (الْبَقَرَة: 641) . الْآيَة وَأول الْآيَة {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه} (الْبَقَرَة: 641) . الْآيَة، أخبر الله تَعَالَى أَن عُلَمَاء أهل الْكتاب يعْرفُونَ صِحَة مَا جَاءَهُم بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعرف أحدهم وَلَده، وَالْعرب كَانَت تضرب الْمثل فِي صِحَة الشَّيْء بِهَذَا، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: ويروى أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لعبد الله بن سَلام: أتعرف مُحَمَّدًا كَمَا تعرف ابْنك؟ قَالَ: نعم وَأكْثر، نزل الْأمين من السَّمَاء بنعته فعرفته، وإنني لَا أَدْرِي مَا كَانَ من أمه، وَقيل: يعْرفُونَ مُحَمَّدًا كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم من بَين أَبنَاء النَّاس، لَا يشك أحد وَلَا يتمارى فِي معرفَة ابْنه إِذا رَآهُ من بَين أَبنَاء النَّاس كلهم، ثمَّ أخبر الله تَعَالَى أَنهم مَعَ هَذَا التحقق والإيقان العلمي {ليكتمون الْحق} أَي: ليكتمون النَّاس مَا فِي كتبهمْ من صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. {وهم يعلمُونَ} أَي: وَالْحَال أَنهم يعلمُونَ الْحق. فَإِن قلت: مَا وَجه دُخُول هَذَا الْبَاب المترجم فِي أَبْوَاب عَلَامَات النُّبُوَّة الْمَذْكُورَة؟ قلت: من جِهَة أَنه أَشَارَ فِي الحَدِيث إِلَى حكم التَّوْرَاة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَهُمْ عَمَّا فِي التَّوْرَاة فِي حكم من زنى، وَالْحَال أَنه لم يقْرَأ التَّوْرَاة وَلَا وقف عَلَيْهَا قبل ذَلِك، فَظهر الْأَمر كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا من أعظم عَلَامَات النُّبُوَّة.
5363 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ اليَهُودَ جاؤُا إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَكَرُوا لَهُ أنَّ رجُلاً مِنْهُم وامْرَأةً زَنَيا فَقَالَ لَهُم رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شأنِ الرَّجْمِ فَقَالَ نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدُونَ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ سَلاَمٍ كذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فأتَوْا بالتَّوْرَاةِ فنَشَرُوهَا فوَضَعَ أحَدُهُمْ يَدَهُ علَى آيَةِ الرَّجْمِ فقَرَأ مَا قَبْلَها وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الله بنُ سَلامٍ ارْفَعْ يَدَكَ فرَفَعَ يَدَهُ فإذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فقالُوا صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فيهَا آيةُ الرَّجْمِ فأمَرَ بِهِمَا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرُجِمَا. قَالَ عَبْدُ الله فرَأيْتُ الرَّجُلَ يَحْنَأُ عَلَى المَرْأةِ يَقِيهَا الحِجَارَةَ. .(16/160)
وَجه الْمُطَابقَة قد ذَكرْنَاهُ الْآن. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أبي الطَّاهِر، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معمر عَنهُ بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن قُتَيْبَة عَنهُ بِتَمَامِهِ.
قَوْله: (فَذكرُوا لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَن رجلا مِنْهُم) أَي: من الْيَهُود (وَامْرَأَة زَنَيَا) وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم فِي الزِّنَا يهوديين: رجل وَامْرَأَة زَنَيَا، فَأَتَت الْيَهُود إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهما ... الحَدِيث. قَوْله: (مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة؟) هَذَا السُّؤَال لَيْسَ لتقليدهم، وَلَا لمعْرِفَة الحكم مِنْهُم، وَإِنَّمَا هُوَ لإلزامهم بِمَا يعتقدونه فِي كِتَابهمْ، وَلَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أُوحِي إِلَيْهِ أَن الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْديهم لم يغيروه كَمَا غيروا أَشْيَاء، أَو أَنه أخبرهُ بذلك من أسلم مِنْهُم، وَلذَلِك لم يخف عَلَيْهِ حِين كتموه. قَوْله: (فِي شَأْن الرَّجْم) أَي: فِي أمره وَحكمه. قَوْله: (فَقَالُوا: نفضحهم) أَي: نكشف مساويهم، وَالِاسْم الفضيحة من: فَضَح فلَان فلَانا إِذا كشف مساويه، وَبَينهمَا للنَّاس، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (نسوّد وُجُوههمَا ونحملهما وَنُخَالِف بَين وُجُوههمَا وَيُطَاف بهما) . قَوْله: (ونحملهما) ، بِالْحَاء واللاّم فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي بَعْضهَا: (نجملهما) بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة، وَفِي بَعْضهَا: (نحممهما) ، بميمين وَكله مُتَقَارب، فَمَعْنَى: نحملهما يَعْنِي على الْجمل، وَمعنى الثَّانِي: نجعلهما جَمِيعًا على الْجمل، وَمعنى الثَّالِث: نسود وُجُوههمَا بالحمم، بِضَم الْحَاء وَفتح الْمِيم وَهُوَ: الفحم. قَوْله: (فَقَالَ عبد الله بن سَلام) ، بتَخْفِيف اللاّم: ابْن الْحَارِث وَهُوَ إسرائيلي من بني قينقاع وَهُوَ من ولد يُوسُف الصّديق وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة الْحصين فغيروه، وَكَانَ حَلِيف الْأَنْصَار، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين فِي ولَايَة مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ، شهد لَهُ الشَّارِع بِالْجنَّةِ. قَوْله: (أَن فِيهَا) أَي: أَن فِي التَّوْرَاة (الرَّجْم على الزَّانِي) قَوْله: (فَوضع أحدهم) أَي أحد الْيَهُود، هُوَ عبد الله بن صوريا الْأَعْوَر، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِنَّه ابْن صوري، وَقَيده بَعضهم بِكَسْر الصَّاد. قَوْله: (يحنأ) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وبالهمزة فِي آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: من حنيت الشَّيْء أحنيه إِذا غطيته، وَالْمَحْفُوظ بِالْجِيم والهمزة من: جنأ الرجل على الشَّيْء يجنأ إِذا أكب عَلَيْهِ، قيل: فِيهِ سبع رِوَايَات كلهَا رَاجِعَة إِلَى الْوِقَايَة. قَوْله: (يَقِيهَا) ، من وقى يقي وقاية، وَهُوَ الْحِفْظ من وُصُول الْحِجَارَة إِلَيْهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فَمِنْهُ: أَن الشَّافِعِي وَأحمد احتجا بِهِ أَن الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط فِي الْإِحْصَان، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: من شُرُوط الْإِحْصَان الْإِسْلَام، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن) ، وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث أَن ذَلِك كَانَ يحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، فَصَارَ مَنْسُوخا بهَا. وَمِنْه: وجوب حد الزِّنَا على الْكَافِر وَمِنْه أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرْع وَفِيه خلاف فَقيل لَا يخاطبون بهَا وَقيل هم مخاطبون بِالنَّهْي دون الْأَمر وَمِنْه: أَن الْكفَّار إِذا تحاكموا إِلَيْنَا حكم القَاضِي بَينهم بِحكم شرعنا، قَالَه النَّوَوِيّ. قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي الحكم بَينهم إِذا ارتفعوا إِلَيْنَا أواجب علينا أم نَحن فِيهِ مخيرون؟ فَقَالَت جمَاعَة من فُقَهَاء الْحجاز وَالْعراق: إِن الإِمَام أَو الْحَاكِم مُخَيّر، إِن شَاءَ حكم بَينهم إِذا تحاكموا إِلَيْهِ بِحكم الْإِسْلَام، وَإِن شَاءَ أعرض عَنْهُم، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه، وَهُوَ قَول عَطاء وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {فَإِن جاؤك} (الْمَائِدَة: 24) . قَالَ: نزلت فِي بني قُرَيْظَة، وَهِي محكمَة: قَالَ عَامر وَالنَّخَعِيّ: إِن شَاءَ حكم وَإِن شَاءَ لم يحكم، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن تحاكم أهل الذِّمَّة إِلَى حَاكم الْمُسلمين وَرَضي الخصمان بِهِ جَمِيعًا فَلَا يحكم بَينهمَا إلاَّ بِرِضا من أساقفهما، فَإِن كره ذَلِك أساقفهم، فَلَا يحكم بَينهم، وَكَذَلِكَ إِن رَضِي الأساقفة وَلم يرض الخصمان أَو أَحدهمَا لم يحكم بَينهمَا، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: مَضَت النسة أَن يرد أهل الذِّمَّة فِي حُقُوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إِلَى أهل دينهم إلاَّ أَن يَأْتُوا راغبين فِي حكمنَا فنحكم بَينهم بِكِتَاب الله تَعَالَى. وَقَالَ آخَرُونَ: وَاجِب على الْحَاكِم أَن يحكم بَينهم إِذا تحاكموا إِلَيْهِ بِحكم الله تَعَالَى، وَزَعَمُوا أَن قَوْله تَعَالَى: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} (الْمَائِدَة: 94) . نَاسخ للتَّخْيِير فِي الحكم بَينهم فِي الْآيَة الَّتِي قبل هَذِه، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس من حَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن، وَالْحكم عَن مُجَاهِد عَنهُ، وَمِنْهُم من يرويهِ عَن سُفْيَان وَالْحكم عَن مُجَاهِد، قَوْله: وَهُوَ صَحِيح عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَبِه قَالَ الزُّهْرِيّ وَعمر ابْن عبد الْعَزِيز وَالسُّديّ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة، قَالَ إِذا جَاءَت الْمَرْأَة وَالزَّوْج فَعَلَيهِ أَن يحكم بَينهمَا بِالْعَدْلِ، وَإِن جَاءَت الْمَرْأَة وَحدهَا وَلم يرض الزَّوْج لم يحكم، وَقَالَ صَاحِبَاه: يحكم، وَكَذَا أختلف أَصْحَاب مَالك.(16/161)
72 - (بابُ سُؤال المُشْرِكِينَ أنْ يُرِيَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُؤال الْمُشْركين من أهل مَكَّة أَن يُرِيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة، أَي: معْجزَة خارقة للْعَادَة، فَأَرَاهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْشِقَاق الْقَمَر، وَهِي معْجزَة عَظِيمَة محسوسة خَارِجَة عَن عَادَة المعجزات، وَقَالَ الْخطابِيّ: انْشِقَاق الْقَمَر آيَة عَظِيمَة لَا يعادلها شَيْء من آيَات الْأَنْبِيَاء، لِأَنَّهُ ظهر فِي ملكوت السَّمَاء، والخطب فِيهِ أعظم والبرهان بِهِ أظهر لِأَنَّهُ خَارج عَن جملَة طباع مَا فِي هَذَا الْعَالم من العناصر.
7363 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يُونُسُ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ. وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدَّثنا سَعيدٌ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ حَدَّثَهُمْ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ سألُوا رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فأرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ. .(16/162)
أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن يُونُس هُوَ ابْن مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ عَن شَيبَان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ عَن قَتَادَة عَن أنس. وَالثَّانِي: عَن خَليفَة بن خياط عَن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء: العيشي الْبَصْرِيّ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حميد. قَوْله: (إِن أهل مَكَّة) أَرَادَ بِهِ: الْكفَّار من قُرَيْش.
8363 - حدَّثني خلَفُ بنُ خَالِدٍ القُرَشِيُّ حدَّثنا بَكْرُ بنُ مُضَرَ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةَ عنْ عِرَاكِ بنِ مَالِكٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ القَمَرَ انْشَقَّ فِي زَمانِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. خلف بن خَالِد الْقرشِي الْمصْرِيّ يروي عَن بكر بن مُضر بن مُحَمَّد الْقرشِي الْمصْرِيّ ثمَّ الْكِنَانِي الْمدنِي، ويروي عَن جَعْفَر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي الْمصْرِيّ يروي عَن عرَاك بن مَالك الْغِفَارِيّ ثمَّ الْكِنَانِي الْمدنِي يروي عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة، يروي عَن عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن يحيى بن بكير وَفِي انْشِقَاق الْقَمَر عَن عُثْمَان بن صَالح. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن مُوسَى بن قُرَيْش، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت أخرج البُخَارِيّ فِي انْشِقَاق الْقَمَر هُنَا عَن ثَلَاثَة من الصَّحَابَة: أحدهم: عبد الله بن مَسْعُود وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيثه مُخْتَصرا وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِحُضُور ذَلِك، وَأوردهُ فِي التَّفْسِير من طَرِيق إِبْرَاهِيم عَن أبي معمر بِتَمَامِهِ، وَفِيه: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْهَدُوا، وروى أَبُو نعيم فِي (الدَّلَائِل) من طَرِيق عتبَة بن عبد الله ابْن عتبَة عَن عبيد الله بن عبد الله بن مَسْعُود: فَلَقَد رَأَيْت أحد شقيه على الْجَبَل الَّذِي بمنى وَنحن بِمَكَّة. وَالثَّانِي: أنس بن مَالك فَإِنَّهُ لم يحضر ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة بِنَحْوِ خمس سِنِين، وَكَانَ أنس إِذْ ذَاك ابْن أَربع أَو خمس سِنِين بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّالِث: ابْن عَبَّاس، وَهُوَ أَيْضا لم يحضر ذَلِك، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاك لم يكن ولد.
وَفِي الْبَاب عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة: مِنْهُم: عبد الله بن عمر، أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُجَاهِد عَنهُ، قَالَ: (انْفَلق الْقَمَر على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشْهَدُوا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَمِنْهُم: جُبَير بن مطعم، أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى صَار فرْقَتَيْن على هَذَا الْجَبَل وعَلى هَذَا الْجَبَل، فَقَالُوا: سحرنَا مُحَمَّد، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: لَئِن كَانَ سحرنَا مَا يَسْتَطِيع أَن يسحر النَّاس كلهم، وَعند عِيَاض: وَذَلِكَ بمنى، فَرَأَيْت الْجَبَل بَين فرجتي الْقَمَر، وَمِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر وَنحن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهُم: حُذَيْفَة بن الْيَمَان، روى عَنهُ أَيْضا كَذَلِك.
82 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب كَذَا وَقع فِي الْأُصُول: بَاب، بِغَيْر تَرْجَمَة وَهُوَ كالفصل لما قبله، وَقَالَ بَعضهم: كَانَ حق هَذَا الْبَاب أَن يكون قبل كل من الْبَابَيْنِ اللَّذين قبله. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الْكَلَام وَلَا الِاعْتِذَار عَنهُ، لِأَن الْبَابَيْنِ اللَّذين قبله من عَلَامَات النُّبُوَّة أَيْضا، وَهَذَا الْبَاب الْمُجَرّد فِي نفس الْأَمر مُلْحق بِمَا ألحق بِهِ البابان اللَّذَان قبله.
9363 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا مُعاذٌ قَالَ حدَّثني أبِي عنْ قَتَادَةَ حدَّثنا أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ومَعَهُمَا مِثلُ المِصْبَاحَيْنِ يُضِيآنِ بَيْنَ أيْدِيهِمَا فَلَمَّا افْتَرَقَا صارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا واحِدٌ حتَّى أتَى أهْلَهُ. (انْظُر الحَدِيث 564 وطرفه) .
كَرَامَة أحد من الصَّحَابَة وَمِمَّنْ كَانَ بعدهمْ من معجزات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيلْحق بهَا. وَمُحَمّد بن الْمثنى يروي عَن معَاذ بن هِشَام(16/163)
وَهُوَ يروي عَن أَبِيه هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي، وَاسم أبي عبد الله سنبر، وَهُوَ يروي عَن قَتَادَة. والْحَدِيث بِعَيْنِه سنداً ومتناً مر فِي بَاب مُجَرّد بَين أَبْوَاب الْمَسَاجِد، وَمثل هَذَا هُوَ المكرر حَقِيقَة، وَهُوَ قَلِيل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، وَالرجلَانِ فِي الحَدِيث: أسيد بن حضير، وَعباد بن بشر.
0463 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ أبِي الأسْودِ حدَّثنا يَحْيَى عنْ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا قَيْسٌ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَزَالُ ناسٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهِرِينَ حتَّى يأتِيَهُمْ أمُرُ الله وهُمْ ظاهِرُونَ.
هَذَا مُلْحق بِأَبْوَاب عَلَامَات النُّبُوَّة، وَفِيه معْجزَة ظَاهِرَة، فَإِن هَذَا الْوَصْف مَا زَالَ يحمد الله تَعَالَى فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْآن، وَلَا يَزُول حَتَّى يَأْتِي أَمر الله الْمَذْكُور فِي الحَدِيث.
وَعبد الله بن أبي الْأسود، وَاسم أبي الْأسود، حميد بن الْأسود الْبَصْرِيّ، وَيحيى الْقطَّان، وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي، وَقيس بن أبي حَازِم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عبيد الله بن مُوسَى، وَفِي التَّوْحِيد عَن شهَاب بن عباد، وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن ابْن أبي عمر.
قَوْله: (ظَاهِرين) من ظَهرت أَي: عَلَوْت، وَالْوَاو فِي قَوْله: (وهم ظاهرون) للْحَال، واحتجت بِهِ الْحَنَابِلَة على أَنه لَا يجوز خلو الزَّمَان عَن الْمُجْتَهد. قَوْله: (حَتَّى يَأْتِيهم أَمر الله) قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الرّيح الَّذِي يَأْتِي فَيَأْخُذ روح كل مُؤمن ومؤمنة، ويروى: حَتَّى تقوم السَّاعَة أَي: تقرب السَّاعَة، وَهُوَ خُرُوج الرّيح، ويروى: لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي، وَهُوَ فِي مُسلم كَذَلِك، قَالَ البُخَارِيّ: وَأما هَذِه الطَّائِفَة فهم أهل الْعلم، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِن لم يَكُونُوا أهل الحَدِيث فَلَا أَدْرِي من هم قَالَ القَاضِي: إِنَّمَا أَرَادَ أَحْمد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَمن يعْتَقد مَذْهَب أهل الْحق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن هَذِه الطَّائِفَة مفرقة من أَنْوَاع الْمُؤمنِينَ، فَمنهمْ شجعان مُقَاتِلُونَ، وَمِنْهُم فُقَهَاء، وَمِنْهُم محدثون، وَمِنْهُم زهاد، وَمِنْهُم آمرون بِالْمَعْرُوفِ وناهون عَن الْمُنكر، وَمِنْهُم أَنْوَاع إخرى من أهل الْخَيْر، وَلَا يلْزم أَن يَكُونُوا مُجْتَمعين بل قد يَكُونُوا مُتَفَرّقين فِي أقطار الأَرْض. قَالَ: وَفِيه دَلِيل لكَون الْإِجْمَاع حجَّة، وَهُوَ أصح مَا يسْتَدلّ بِهِ من الحَدِيث. وَأما حَدِيث: (لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة) فضعيف.
1463 - حدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ حدَّثَنا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثني ابنُ جابِرٍ قَالَ حدَّثنِي عُمَيْرُ بنُ هانىءٍ أنَّهُ سَمِعَ مُعاوِيَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بِأمْرِ الله لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خذَلَهُمْ ولاَ مَنْ خالَفَهُمْ حتَّى يَأتِيَهُمْ أمْرُ الله وهُمْ علَى ذَلِكَ. قالَ عُمَيْرٌ فَقَالَ مالِكُ بنُ يُخَامِرَ قَالَ مُعاذٌ وهُمْ بالشَّأمِ فَقَالَ مُعاوِيَةُ هَذَا مالكٌ يَزْعُمُ أنَّهُ سَمِعَ مُعاذَاً يَقُولُ وهُمْ بالشَّأمِ. .
الْكَلَام فِي مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الْكَلَام فِي الحَدِيث الْمَاضِي، والْحميدِي، بِضَم الْحَاء: عبيد الله بن الزبير بن عِيسَى نِسْبَة إِلَى حميد أحد أجداده، والوليد هُوَ ابْن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي الدِّمَشْقِي، وَابْن جَابر هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن جَابر الْأَزْدِيّ الشَّامي، وَعُمَيْر مصغر عَمْرو بن هانىء، بالنُّون بعد الْألف: الشَّامي، مر فِي التَّهَجُّد، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان الْأمَوِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن الْحميدِي عَن الْوَلِيد، وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم.
قَوْله: (عُمَيْر) هُوَ ابْن هانىء الرَّاوِي. قَوْله: (فَقَالَ مَالك بن يخَامر) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالخاء الْمُعْجَمَة الْخَفِيفَة وَبعد الْألف مِيم مَكْسُورَة: الشَّامي من كبار التَّابِعين، وَقيل: إِن لَهُ صُحْبَة وَلَيْسَ بِصَحِيح، وَمَاله فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث. قَوْله: (قَالَ معَاذ) هُوَ معَاذ بن جبل. قَوْله: (وهم بِالشَّام) هَذَا مقول معَاذ، أَي: الْأمة الْقَائِمَة بِأَمْر الله مستقرون بِالشَّام. قَوْله: (فَقَالَ مُعَاوِيَة) هُوَ ابْن أبي سُفْيَان. قَوْله: (هَذَا مَالك) هُوَ مَالك بن يخَامر الْمَذْكُور. قَوْله: (سمع معَاذًا) يَعْنِي ابْن جبل، وَحَدِيث مَالك هَذَا غير مَرْفُوع.(16/164)
2463 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله أخْبَرَنَا سُفْيَانُ حدَّثنا شَبِيبُ بنُ غَرْقَدَة قَالَ سَمِعْتُ الحَيَّ يُحَدِّثُونَ عنْ عُرْوَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَاهُ دِينارَاً يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاة فاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَباعَ إحْدَاهُمَا بدِينَار وجاءَهُ بِدِينارٍ وشاةٍ فدَعَا لَهُ بالبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ وكانَ لوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ قَالَ سُفْيَانُ كانَ الحَسَنُ بنُ عُمَارَةَ جاءَنَا بِهَذَا الحَدِيثِ عَنْهُ قَالَ سَمِعَهُ شَبِيبٌ مِنْ عُرْوَةَ فأتَيْتُهُ فقالَ شَبِيبٌ إنِّي لَمْ أسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ قَالَ سَمِعْتُ الحَيَّ يُخْبِرُونَهُ عَنْهُ ولَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ الخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيَ الخَيْلِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ قَالَ وقَدْ رأيْتُ فِي دارِهِ سَبْعِينَ فرَسَاً: قَالَ سُفْيَانُ يَشْتَرِي لَهُ شَاة كأنَّهَا أضْحِيَةٌ.
فِيهِ من عَلَامَات النُّبُوَّة مَا فِي قَوْله: (فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعه وَكَانَ لَو اشْترى التُّرَاب لربح فِيهِ) يظْهر ذَلِك عِنْد التَّأَمُّل.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: شبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة أُخْرَى: ابْن غرقدة، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف: السّلمِيّ الْكُوفِي من صغَار التَّابِعين الثِّقَات وَمَاله فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث. الرَّابِع: عُرْوَة بن الْجَعْد أَو ابْن أبي الْجَعْد الْبَارِقي، بِالْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى بارق جبل بِالْيمن، الصَّحَابِيّ، قَالَ الشّعبِيّ: أول من قضى على الْكُوفَة عُرْوَة بن الْجَعْد الْبَارِقي، وَيُقَال: إِن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اسْتَعْملهُ على الْكُوفَة قبل أَن يستقضي شريحاً، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: الْحسن بن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن المضرب البَجلِيّ الْكُوفِي الْفَقِيه، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد فِي خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَقَالَ بَعضهم: الْحسن بن عمَارَة أحد الْفُقَهَاء الْمُتَّفق على ضعف حَدِيثهمْ. قلت: سُفْيَان الثَّوْريّ من أقرانه، وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعبد الرَّزَّاق بن همام وَأَبُو يُوسُف القَاضِي وَمُحَمّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَآخَرُونَ من أكَابِر الْمُحدثين، وَفِي (التَّهْذِيب) : قَالَ عِيسَى بن يُونُس الرَّمْلِيّ الفاخوري: سَمِعت أَيُّوب بن سُوَيْد يَقُول: كنت عِنْد سُفْيَان الثَّوْريّ فَذكر الْحسن بن عمَارَة فغمزه، فَقلت لَهُ: يَا أَبَا عبد الله! هُوَ عِنْدِي خير مِنْك. وَقَالَ: وَكَيف ذَاك؟ قلت: جَلَست مِنْهُ غير مرّة فَيجْرِي ذكرك فَمَا يذكرك إلاَّ بِخَير. قَالَ أَيُّوب: مَا ذكر سُفْيَان الْحسن بن عمَارَة بعد ذَلِك إلاَّ بِخَير حَتَّى فارقته، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْمُؤمن الْمروزِي، قَالَ: سَمِعت عَليّ ابْن يُونُس الْمروزِي يَقُول: سَمِعت جرير بن عبد الحميد، يَقُول: مَا ظَنَنْت أَنِّي أعيش إِلَى دهر يحدث فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، ويسكت فِيهِ عَن الْحسن بن عمَارَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن مُسَدّد وَعَن الْحسن بن الصَّباح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد ابْن سعيد الدَّارمِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أَحْمد بن سعيد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأما حَدِيث الْخَيل فقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد وَفِي الْخمس وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَمِعت الْحَيّ) ، أَي: قبيلته المنسوبين إِلَى بارق، نزله بَنو سعد بن عدي بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر مزيقاء، وَهَذِه الْعبارَة تَقْتَضِي أَن يكون سَمعه من جمَاعَة وَأَقلهمْ ثَلَاثَة. وَقَالَ الْخطابِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَآخَرُونَ: هَذَا الحَدِيث غير مُتَّصِل لِأَن أحدا من الْحَيّ لم يسم. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِيه جَهَالَة الْحَيّ كَمَا ترى، فَهُوَ غير مُتَّصِل، وَالشَّافِعِيّ توقف فِيهِ فِي: بيع الْفُضُولِيّ، وَقَالَ: إِن صَحَّ قلت بِهِ، كَذَا فِي الْبُوَيْطِيّ، وَحكى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت عِنْده، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا ضعفه الشَّافِعِي لِأَن شبيب بن غرقدة رَوَاهُ عَن الْحَيّ وهم غير معروفين، وَفِي مَوضِع آخر: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِي لما فِي إِسْنَاده من الْإِرْسَال، وَهُوَ أَن شبيب بن غرقدة لم يسمعهُ من عُرْوَة الْبَارِقي، إِنَّمَا سَمعه من الْحَيّ يخبرونه عَنهُ، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الْحَيّ الَّذِي أخبر شبيب ابْن غرقدة عَن عُرْوَة لَا نعرفهم، وَلَيْسَ هَذَا من شَرط أَصْحَاب الحَدِيث فِي قبُول الْأَخْبَار، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي (اختصاره للسنن) :(16/165)
تَخْرِيج البُخَارِيّ لهَذَا الحَدِيث فِي صدر حَدِيث: الْخَيْر مَعْقُود فِي نواصي الْخَيل، يحْتَمل أَن يكون سَمعه من عَليّ بن الْمَدِينِيّ على التَّمام فَحدث بِهِ كَمَا سَمعه، وَذكر فِيهِ إِنْكَار شبيب سَمَاعه من عُرْوَة حَدِيث الشَّاة، وَإِنَّمَا سَمعه من الْحَيّ عَن عُرْوَة. وَإِنَّمَا سمع من عُرْوَة. قولهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْخَيْر مَعْقُود بنواصي الْخَيل) ، وَيُشبه أَن الحَدِيث لَو كَانَ على شَرطه لأخرجه فِي الْبيُوع وَالْوكَالَة كَمَا جرت عَادَته فِي الحَدِيث الَّذِي يشْتَمل على أَحْكَام أَن يذكرهُ فِي الْأَبْوَاب الَّتِي تصلح لَهُ، وَلم يُخرجهُ إلاَّ هُنَا، وَذكر بعده حَدِيث الْخَيل من رِوَايَة ابْن عمر وَأنس وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَدلَّ ذَلِك على أَن مُرَاده حَدِيث الْخَيل فَقَط، إِذْ هُوَ على شَرطه، وَقد أخرج مُسلم حَدِيث شبيب بن غرقدة عَن عُرْوَة مُقْتَصرا على ذكر الْخَيل، وَلم يذكر حَدِيث الشَّاة. انْتهى. قلت: قَوْله: فَدلَّ ذَلِك أَن مُرَاده حَدِيث الْخَيل فَقَط، إِذْ هُوَ على شَرطه، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر كَمَا ذكره يُعَكر عَلَيْهِ ذكره بَين أَبْوَاب عَلَامَات النُّبُوَّة لعدم الْمُنَاسبَة من كل وَجه، وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: فَالْحَدِيث من رِوَايَة المجاهيل إِذا لحي مَجْهُول. قلت: إِذا علم أَن شبيباً لَا يروي إلاَّ عَن عدل فَلَا بَأْس بِهِ، أَو لما كَانَ ذَلِك ثَابتا بِالطَّرِيقِ الْمعِين الْمَعْلُوم اعْتمد على ذَلِك فَلم يبال بِهَذَا الْإِبْهَام، أَو أَرَادَ نَقله بِوَجْه آكِد، إِذْ فِيهِ إِشْعَار بِأَنَّهُ لم يسمع من رجل وَاحِد فَقَط، بل من جمَاعَة مُتعَدِّدَة رُبمَا يُفِيد خبرهم الْقطع بِهِ. انْتهى. قلت: كَلَامه يدل على أَن الحَدِيث الْمَذْكُور مُتَّصِل عِنْده، وَأَن الْجَهَالَة بِهَذَا الْوَجْه غير مَانِعَة من القَوْل بالاتصال، وَأَن الرَّاوِي إِذا كَانَ مَعْرُوفا عِنْدهم بِأَنَّهُ لَا يروي إلاَّ عَن عدل فَإِذا روى عَن مَجْهُول لَا يضرّهُ ذَلِك، وَأَن الرِّوَايَة عَن جمَاعَة مجهولين لست كالرواية عَن مَجْهُول وَاحِد. قَوْله: (أعطَاهُ دِينَارا) أَي: أعْطى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعروة دِينَارا ليَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَغَيره عَن عُرْوَة بن الْجَعْد، قَالَ: عرض للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلبٌ فَأَعْطَانِي دِينَارا، فَقَالَ: أَي عُرْوَة أئت الجلب فاشتر لنا شَاة، قَالَ: فَأتيت الجلب فساومت صَاحبه فاشتريت مِنْهُ شَاتين بِدِينَار. قَوْله: (فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعه) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد، فَقَالَ: (أللهم بَارك لَهُ فِي صفقته) . قَوْله: (وَكَانَ لَو اشْترى التُّرَاب لربح فِيهِ) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد، قَالَ: (لقد رَأَيْتنِي أَقف بكناسة الْكُوفَة فأربح أَرْبَعِينَ ألفا قبل أَن أصل إِلَى أَهلِي) قَالَ: وَكَانَ يَشْتَرِي الْجَوَارِي وَيبِيع.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، يَعْنِي: ابْن عُيَيْنَة، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (كَانَ الْحسن بن عمَارَة جَاءَنَا بِهَذَا الحَدِيث) ، أَي: الحَدِيث الْمَذْكُور عَنهُ، أَي: عَن شبيب بن غرقدة، وَقد ذكرنَا عَن قريب تَرْجَمَة الْحسن وَمَا لِلْحسنِ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: الْحسن بن عمَارَة سَمعه شبيب عَن عُرْوَة. قَوْله: (فَأَتَيْته) ، أَي: قَالَ سُفْيَان: أتيت شبيباً، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلَهُ قَالَ شبيب: إِنِّي لم أسمعهُ أَي: الحَدِيث من عُرْوَة، قَالَ: أَي عُرْوَة، سَمِعت الْحَيّ يخبرونه عَنهُ أَي: يخبرون الحَدِيث عَن عُرْوَة، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ بذلك بَيَان ضعف رِوَايَة الْحسن بن عمَارَة، وَأَن شبيباً لم يسمع الْخَبَر من عُرْوَة، وَإِنَّمَا سَمعه من الْحَيّ وَلم يسمع عَن عُرْوَة، فَالْحَدِيث بِهَذَا ضَعِيف للْجَهْل بحالهم. انْتهى. قلت: لم تجر عَادَة البُخَارِيّ أَن يذكر فِي (صَحِيحه) حَدِيثا ضَعِيفا ثمَّ يُشِير إِلَيْهِ بالضعف، وَلَو ثَبت عِنْده ضعفه لاكتفى بِحَدِيث الْخَيل كَمَا اكْتفى بِهِ مُسلم فِي (صَحِيحه) وَالْكَلَام فِي سَمَاعه من الْحَيّ قد مر عَن قريب، على أَنه قد وجد لَهُ متابع من رِوَايَة أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيق سعيد بن زيد عَن الزبير ابْن الخريت عَن أبي لبيد، قَالَ: حَدثنِي عُرْوَة الْبَارِقي، قَالَ: (دفع إِلَيّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دِينَارا لأشتري لَهُ شَاة، فاشتريت لَهُ شَاتين، فَبِعْت إِحْدَاهمَا بِدِينَار وَجئْت بِالشَّاة وَالدِّينَار إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَذكر لَهُ مَا كَانَ من أمره فَقَالَ لَهُ: (بَارك الله لَك فِي صَفْقَة يَمِينك) الحَدِيث. فَإِن قلت: سعيد بن زيد ضَعِيف ضعفه يحيى الْقطَّان، وَأَبُو الْوَلِيد لَيْسَ بِمَعْرُوف الْعَدَالَة. قلت: سعيد بن زيد من رجال مُسلم، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، وَوَثَّقَهُ حماعة، وَأَبُو لبيد اسْمه لمازة، بِضَم اللَّام: ابْن زبار، بِفَتْح الزاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد ذكره ابْن سعد فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة. وَقَالَ: سمع من عَليّ وَكَانَ ثِقَة، وَقَالَ أَحْمد: صَالح الحَدِيث وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء حسنا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْحسن بن عمَارَة كَاذِب يكذب، فَكيف جَازَ النَّقْل عَنهُ؟ قلت مَا أثبت شَيْء بقوله من هَذَا الحَدِيث مَعَ احْتِمَال أَنه قَالَ ذَلِك بِنَاء على ظَنّه! انْتهى. قلت: قد أبشع فِي الْعبارَة فَلم يكن من دأب الْعلم أَن يذكر شخصا عَالما باتفاقهم فَقِيها مُتَقَدما فِي زَمَانه علماأ ورئاسة بهذ الْعبارَة الْفَاحِشَة، وَلَكِن الدَّاعِي فِي ذَلِك لَهُ ولأمثاله أريحية التعصب بِالْبَاطِلِ، وَقد ذكرنَا عَن قريب مَا قَالَه جرير بن عبد الحميد من الثَّنَاء عَلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان: يَشْتَرِي لَهُ شَاة) أَي: قَالَ(16/166)
سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَيْضا، وَهُوَ أَيْضا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (فِي دَاره) أَي: فِي دَار عُرْوَة، وَالْقَائِل بِالرُّؤْيَةِ هُوَ شبيب. قَوْله: (لَهُ) ، أَي: لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كَأَنَّهَا أضْحِية) ، الظَّاهِر أَن هَذِه اللَّفْظَة مدرجة من سُفْيَان، وَقد احْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَأَبُو حنيفَة وَإِسْحَاق وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ على جَوَاز بيع الْفُضُولِيّ، لِأَن عُرْوَة لم يكن وَكيلا إلاَّ فِي الشِّرَاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْجَوَاب عَنهُ احْتِمَال أَن يكون وَكيلا مُطلقًا فِي البيع وَالشِّرَاء. انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب يتْرك الظَّاهِر حَقِيقَة وَيعْمل بِالِاحْتِمَالِ، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِي بيع الْفُضُولِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف قَول الْمَالِكِيَّة فِيمَا إِذا أَمر بشرَاء سلْعَة بِكَذَا فَوجدَ سلعتين فِي صفة مَا أَمر بِهِ، وثمنهما مَا أَمر أَن يَشْتَرِي بِهِ وَاحِدَة، وَقد رَضِي بشرَاء وَاحِدَة بِهِ، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: الْآمِر مُخَيّر إِن شَاءَ أَخذ وَاحِدَة بحصتها من الثّمن وَيرجع بِبَقِيَّة الثّمن على الْمَأْمُور، وَإِن شَاءَ أخذهما جَمِيعًا، وَقَالَ إصبغ: عِنْد ابْن حبيب تلزمان الْآمِر جَمِيعًا، وَقَالَ عبد الْملك فِي (مبسوطه) إِن شَاءَ الْآمِر أخذهُما جَمِيعًا أَو تَركهمَا جَمِيعًا.
4463 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أخبَرَنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَواصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. (انْظُر الحَدِيث 9482) .
مطابقته للتَّرْجَمَة كَمَا قبله من أَن فِيهِ عَلامَة من عَلَامَات النُّبُوَّة، وَهُوَ إخْبَاره عَن أَمر مُسْتَمر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب. والْحَدِيث مر فِي الْجِهَاد فِي: بَاب الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن نَافِع ... إِلَى آخِره نَحوه، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
5463 - حدَّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي التَّيَّاحِ قالَ سَمِعْتُ أنَسَاً عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَواصِيَهَا الخَيْرُ. (انْظُر الحَدِيث 1582) .
مطابقته لما قبله ظَاهِرَة، وَقيس بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده. وخَالِد بن الْحَارِث أَبُو عُثْمَان الهُجَيْمِي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد بن حميد، وَقد مر الحَدِيث فِي الْجِهَاد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن شُعْبَة عَن أبي التياح عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْبركَة فِي نواصي الْخَيل) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
6463 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمَّانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْلُ لِثَلاثَةٍ لِرَجُلٍ أجْرٌ ولِرَجُلٍ سِتْرٌ وعلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فأمَّا الَّذِي لَهُ أجْرٌ فرَجُلٌ رَبَطَها فِي سَبيلِ الله فأطالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أوْ رَوْضَةٍ وَمَا أصابَتْ فِي طِيَلِها مِنَ المَرْجِ أوِ الرَّوْضَةِ كانَتْ لَهُ حسَنَاتِ ولَوْ أنَّهَا قطَعَتْ طِيَلَهَا فاسْتَنَّتْ شَرَفَاً أوْ شَرَفَيْنِ كانَتْ أرْوَاثُهَا حَسَناتٍ ولَوْ أنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فشَرِبَتْ ولَمْ يُرِدْ أنْ يَسْقِيَهَا كانَ ذَلِكَ حَسَناتٍ لَهُ ورَجُلٌ رَبَطَهَا تغَنِّيَاً وسِتْرَاً وتَعَفُّفَاً ولَمْ يَنْسَ حَقَّ الله فِي رِقَابِهَا وظُهُورِهَا فَهْيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ ورَجل رَبَطَهَا فَخْرَاً ورِياءً ونِوَاءً لأِهْلِ الإسْلاَمِ فَهْيَ وِزْرٌ وسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الحُمْرِ فَقَالَ مَا أُنْزِلَ علَيَّ فِيهَا إلاَّ هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الفاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7 8) . .
وَجه الْمُطَابقَة فِي ذكره عقيب أَبْوَاب عَلَامَات النُّبُوَّة يُمكن أَن يُقَال فِيهِ: إِن فِيهِ من جملَة مَا أخبر بِهِ مَا وَقع كَمَا أخبر، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وبعين هَذَا الْمَتْن فِي الْجِهَاد فِي: بَاب الْخَيل لثَلَاثَة، وَهَذَا هُوَ المكرر الْحَقِيقِيّ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، والمرج، بِالْجِيم الْموضع الَّذِي يرْعَى فِيهَا الدَّوَابّ، والطيل بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْحَبل الَّذِي يطول للدابة ترعى فِيهِ، والاستنان الْعَدو والشرف الشوط، وَأَصله الْمَكَان العالي. قَوْله: (أرواثها) .(16/167)
وَفِي كتاب الشّرْب آثارها، وَفِي الْجِهَاد جمع بَينهمَا، والنواء، بِكَسْر النُّون وبالمد: المناوأة وَهِي الْعَدَاوَة، والحمر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة جمع الْحمار، قَالَ الْكرْمَانِي: وَكَثِيرًا يصحفون بِالْخمرِ بِالْمُعْجَمَةِ أَي: فِي صَدَقَة الْخمر.
7463 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ صَبَّحَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ بُكْرَةً وقَدْ خَرَجُوا بالمَساحِي فلَمَّا رَأوْهُ قالُوا مُحَمَّدٌ والخَمِيسُ وأحَالُوا إِلَى الحِصْنِ يَسْعَوْنَ فرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ وَقَالَ الله أكْبرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ. .
وَجه الْمُطَابقَة فِيهِ مثل مَا ذكرنَا أَنه أخبر عَن خراب خَيْبَر فَوَقع كَمَا أخبر، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب التَّكْبِير عِنْد الْحَرْب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَالْخَمِيس) ، أَي: الْجَيْش وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقسَام: الميمنة والميسرة والمقدمة والساقة وَالْقلب. قَوْله: (وأحالوا) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: أَقبلُوا، وَقيل: تحولوا، قَالَ أَبُو عبد الله: يُقَال: أحَال الرجل إِلَى مَكَان كَذَا تحول إِلَيْهِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: حلت عَن الْمَكَان تحولت عَنهُ، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن أبي ذَر بِالْجِيم، قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : وَلَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وأحالوا، بِالْحَاء الْمُهْملَة: أَقبلُوا، وبالجيم من الجولان. قَوْله: (يسعون) ، حَال. قَوْله: (فَرفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ) ، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ البُخَارِيّ: لفظ (فَرفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ) غَرِيب أخْشَى أَن يكون مَحْفُوظًا. قَوْله: (خربَتْ خَيْبَر) أَي: ستخرب فِي توجهنا إِلَيْهَا.
8463 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ حدَّثنا ابنُ أبِي الفُدَيْكِ عنِ ابنِ أبي ذِئْبٍ عنِ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسُولَ الله إنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ حدِيثاً كَثِيراً فأنْساهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابسُطْ رِدَاءَكَ فبَسَطْتُهُ فغَرَفَ بِيَدِهِ فيهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَ فضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ حَدِيثاً بَعْدُ. .
وَجه الْمُطَابقَة فِيهِ أَن فِيهِ عَلامَة من عَلَامَات النُّبُوَّة على مَا لَا يخفى. وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، وَابْن أبي فديك هُوَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، وَاسم أبي فديك، بِضَم الْفَاء: دِينَار الديلمي الْمَدِينِيّ، وَابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه هِشَام الْمدنِي، والمقبري، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ سعيد بن أبي سعيد، وَاسم أَبِيه كيسَان الْمَدِينِيّ، وَهَؤُلَاء كلهم مدنيون، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب من حفظ الْعلم عَن أبي مُصعب عَن أَحْمد بن أبي بكر عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (فَمَا نسيت حَدِيثا بعد) ، وَهُنَاكَ: (فَمَا نسيت شَيْئا بعده) .
1 - (بابٌ فِي فَضائِلِ أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فَضَائِل أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والفضائل جمع الْفَضِيلَة وَهِي خلاف النقيصة، كَمَا أَن الْفضل خلاف النَّقْص، وَالْفضل فِي اللُّغَة الزِّيَادَة من: فضل يفضل من بَاب نصر ينصر، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: فضل يفضل، من بَاب علم يعلم، حَكَاهَا ابْن السّكيت، وَفِيه لُغَة مركبة مِنْهُمَا: فضِل بِالْكَسْرِ يفضُل بِالضَّمِّ، وَهُوَ شاذٌ لَا نَظِير لَهُ، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا إِنَّمَا يَجِيء على لغتين، وَفِي بعض النّسخ: بَاب فضل أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده: فَضَائِل أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا بِدُونِ لَفْظَة: بَاب، وَالْمرَاد بالفضائل: الْخِصَال الحميدة والخلال المرضية المشكورة، وَالْأَصْحَاب جمع صحب مثل فرخ وأفراخ، قَالَه الْجَوْهَرِي: وَالصَّحَابَة، بِالْفَتْح: الْأَصْحَاب وَهِي فِي الأَصْل مصدر وَجمع الْأَصْحَاب أصاحيب من صَحبه يَصْحَبهُ صُحْبَة، بِالضَّمِّ وصحابة بِالْفَتْح، وَجمع الصاحب صحب، مثل: رَاكب وَركب، وصحبة بِالضَّمِّ مثل: فاره وفرهة، وصحاب مثل: جَائِع وجياع، وصحبان مثل: شَاب وشبان.(16/168)
وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ رَآهُ مِنَ المُسْلِمِينَ فَهْوَ مِنْ أصْحَابِهِ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَعْرِيف الصاحب، وَفِيه أَقْوَال:
الأول: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ بقوله: من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو رَآهُ من الْمُسلمين فَهُوَ من أَصْحَابه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي الصَّحَابِيّ مُسلم صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو رَآهُ، وَضمير الْمَفْعُول للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْفَاعِل للْمُسلمِ على الْمَشْهُور الصَّحِيح، وَيحْتَمل الْعَكْس لِأَنَّهُمَا متلازمان عرفا. فَإِن قلت: الترديد يُنَافِي التَّعْرِيف. قلت: الترديد فِي أَقسَام الْمَحْدُود يَعْنِي الصَّحَابِيّ: قِسْمَانِ لكل مِنْهُمَا تَعْرِيف. فَإِن قلت: إِذا صَحبه فقد رَآهُ. قلت: لَا يلْزم، إِذْ عبد الله بن أم مَكْتُوم صَحَابِيّ اتِّفَاقًا مَعَ أَنه لم يره. انْتهى. قلت: من، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَهِي مَوْصُولَة، و: صحب، صلتها، وَقَوله: أوراه، عطف عَلَيْهِ أَو رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصاحب وَيحْتَمل الْعَكْس، كَمَا قَالَه الْكرْمَانِي، لَكِن الأول أولى ليدْخل فِيهِ مثل ابْن أم مَكْتُوم. وَقَوله: (فَهُوَ من أَصْحَابه) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر الْمُبْتَدَأ، وَدخُول الْفَاء لتضمن الْمُبْتَدَأ الشَّرْط. وَقَوله: (من الْمُسلمين) قيد ليخرج بِهِ من صَحبه أَو رَآهُ من الْكفَّار، فَإِنَّهُ لَا يُسمى صحابياً، قيل: فِي كَلَام البُخَارِيّ نقص مَا يحْتَاج إِلَى ذكره، وَهُوَ: ثمَّ مَاتَ على الْإِسْلَام، والعبارة السالمة من الِاعْتِرَاض أَن يُقَال: الصَّحَابِيّ من لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ مَاتَ على الْإِسْلَام، ليخرج من ارْتَدَّ وَمَات كَافِرًا: كَابْن خطل وَرَبِيعَة بن أُميَّة وَمقيس بن صبَابَة وَنَحْوهم، وَمِنْهُم من اشْترط فِي ذَلِك أَن يكون حِين اجتماعه بِهِ بَالغا، وَهُوَ مَرْدُود لِأَنَّهُ يخرج مثل الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُما، وَنَحْوه من أَحْدَاث الصَّحَابَة.
القَوْل الثَّانِي: إِنَّه من طَالَتْ صحبته لَهُ وَكَثُرت مُجَالَسَته مَعَ طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ، هَكَذَا حَكَاهُ أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ عَن الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ: إِن اسْم الصَّحَابِيّ يَقع على ذَلِك من حَيْثُ اللُّغَة، وَالظَّاهِر قَالَ: وَأَصْحَاب الحَدِيث يطلقون إسم الصَّحَابَة على كل من روى عَنهُ حَدِيثا أَو كلمة يتوسعون حَتَّى يعدون من رَآهُ رُؤْيَة من الصَّحَابَة وَمن ارْتَدَّ ثمَّ عَاد إِلَى الْإِسْلَام لَكِن لم يره ثَانِيًا بعد عوده، فَالصَّحِيح أَنه مَعْدُود فِي الصَّحَابَة لإطباق الْمُحدثين على عد الْأَشْعَث بن قيس وَنَحْوه مِمَّن وَقع لَهُ ذَلِك، وإخراجهم أَحَادِيثهم فِي المسانيد، وَقَالَ الْآمِدِيّ: الْأَشْبَه أَن الصَّحَابِيّ من رَآهُ وَحَكَاهُ عَن أَحْمد وَأكْثر أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب أَيْضا، لِأَن الصُّحْبَة تعم الْقَلِيل وَالْكثير، وَفِي كَلَام أبي زرْعَة الرَّازِيّ وَأبي دَاوُد مَا يَقْتَضِي أَن الصُّحْبَة أخص من الرُّؤْيَة، فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي طَارق بن شهَاب: لَهُ رُؤْيَة وَلَيْسَت لَهُ صُحْبَة، قَالَ شَيخنَا: وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات) : عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن شُعْبَة عَن مُوسَى السينَانِي قَالَ: أتيت أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقلت: أَنْت آخر من بَقِي من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: قد بَقِي قوم من الْأَعْرَاب، فَأَما من أَصْحَابه فَأَنا آخر من بَقِي، قَالَ ابْن الصّلاح: إِسْنَاده جيد.
القَوْل الثَّالِث: مَا روى عَن سعيد بن الْمسيب أَنه لَا يعد الصَّحَابِيّ إلاَّ من أَقَامَ مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سنة أَو سنتَيْن، وغزا مَعَه غَزْوَة أَو غزوتين، وَهَذَا فِيهِ ضيق يُوجب أَن لَا يعد من الصَّحَابَة جرير بن عبد الله البَجلِيّ وَمن شَاركهُ فِي فقد ظَاهر مَا اشْتَرَطَهُ فيهم مِمَّن لَا نعلم خلافًا فِي عده من الصَّحَابَة، قَالَ شَيخنَا: هَذَا عَن ابْن الْمسيب لَا يَصح، لِأَن فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَهُوَ ضَعِيف فِي الحَدِيث.
القَوْل الرَّابِع: إِنَّه يشْتَرط مَعَ طول الصُّحْبَة الْأَخْذ عَنهُ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن عَمْرو بن بَحر أبي عُثْمَان الجاحظ من أَئِمَّة الْمُعْتَزلَة، قَالَ فِيهِ ثَعْلَب: إِنَّه غير ثِقَة وَلَا مَأْمُون، وَلَا يُوجد هَذَا القَوْل لغيره.
القَوْل الْخَامِس: أَنه من رَآهُ مُسلما بَالغا عَاقِلا حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن أهل الْعلم وَالتَّقْيِيد بِالْبُلُوغِ شَاذ وَقد مر عَن قريب.
القَوْل السَّادِس: إِنَّه من أدْرك زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مُسلم، وَإِن لم يره، وَهُوَ قَول يحيى بن عُثْمَان الْمصْرِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَن دفن أَي بِمصْر من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن أدْركهُ وَلم يسمع مِنْهُ أَبُو تَمِيم الجيشاني، واسْمه عبد الله بن مَالك. انْتهى. وَإِنَّمَا هَاجر أَبُو تَمِيم إِلَى الْمَدِينَة فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِاتِّفَاق أهل السّير، وَمِمَّنْ حكى هَذَا القَوْل من الْأُصُولِيِّينَ: القرافى فِي (شرح التَّنْقِيح) وَكَذَلِكَ، إِن كَانَ صَغِيرا مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تبعا لأحد أَبَوَيْهِ.
فَائِدَة: وتعرف الصُّحْبَة إِمَّا بالتواتر: كَأبي بكر وَعمر وَبَقِيَّة الْعشْرَة وَخلق مِنْهُم، وَإِمَّا بالإستفاضة والشهرة القاصرة عَن التَّوَاتُر: كعكاشة بن مُحصن وضمام بن ثَعْلَبَة وَغَيرهمَا، وَإِمَّا بِإِخْبَار بعض الصَّحَابَة عَنهُ أَنه صَحَابِيّ: كحميمة بن أبي حميمة(16/169)
الدوسي الَّذِي مَاتَ بأصبهان مبطوناً، فَشهد لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحكم لَهُ بِالشَّهَادَةِ، ذكر ذَلِك أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) وَإِمَّا بإخباره عَن نَفسه أَنه صَحَابِيّ بعد ثُبُوت عَدَالَته قبل إخْبَاره بذلك، هَكَذَا أطلق ابْن الصّلاح تبعا للخطيب، وَقَالَ شَيخنَا: لَا بُد من تَقْيِيد مَا أطلق من ذَلِك بِأَن يكون ادعاؤه لذَلِك يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر، أما لَو ادَّعَاهُ بعد مُضِيّ مائَة سنة من حِين وَفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ لَا يقبل، وَإِن كَانَ قد ثبتَتْ عَدَالَته قبل ذَلِك لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح: أَرَأَيْتُم ليلتكم هَذِه، فَإِنَّهُ على رَأس مائَة سنة لَا يبْقى أحد مِمَّن على وَجه الأَرْض، يُرِيد انخرام ذَلِك الْقرن، فَإِن ذَلِك فِي سنة وَفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد اشْترط الأصوليون فِي قبُول ذَلِك مِنْهُ أَن يكون عرفت معاصرته للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْآمِدِيّ: فَلَو قَالَ من عاصره: أَنا صَحَابِيّ مَعَ إِسْلَامه وعدالته، فَالظَّاهِر صدقه.
9463 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقُولُ حدَّثنا أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأتِي على النَّاسِ زَمانٌ فيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النًّاسِ فيَقُولُونَ أفِيكُمْ مَنْ صاحَبَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَقُولُونَ لَهُمْ نعَمْ فيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يأتِي علَى النَّاسِ زَمانٌ فيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسَ فيُقالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صاحَبَ أصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَقُولُونَ نَعَمْ فيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأتِي على النَّاسِ زَمانٌ فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ فيُقال هَلْ فِيكُمْ مَنْ صاحبَ مَنْ صاحَبَ أصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَقُولُونَ نَعَمْ فيُفْتَحُ لَهُمْ. (انْظُر الحَدِيث 7982 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب من اسْتَعَانَ بالضعفاء وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِئَام) ، بِكَسْر الْفَاء: الْجَمَاعَة من النَّاس لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، والعامة تَقول: فيام، بِلَا همزَة.
0563 - حدَّثني إسْحَاقُ حدَّثنَا النَّضْرُ أخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أبِي جَمْرَةَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بنَ مُضَرِّبٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقولُ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ: قالَ عِمْرَانُ فَلاَ أدْرِي أذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ قَرْنَيْنِ أوْ ثَلاثَاً ثُمَّ إنَّ بَعْدَكُمْ قَوْماً يَشْهَدُونَ ولاَ يُسْتَشْهَدُونَ ويَخُونُونَ ولاَ يُؤْتَمَنُونَ ويَنْذِرُونَ ولاَ يَفُونَ ويَظْهَرُ فِيهُمُ السِّمَنُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَبِذَلِك جزم ابْن السكن وَأَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِسْحَاق إِمَّا ابْن إِبْرَاهِيم وَإِمَّا ابْن مَنْصُور، وَالنضْر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل مصغر الشمل بِالْمُعْجَمَةِ، مر فِي الْوضُوء، وَأَبُو جَمْرَة، بِفَتْح الْجِيم وبالراء: نضر بن عمرَان صَاحب ابْن عَبَّاس، وزهدم، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْهَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره مِيم: ابْن مضرب بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التضريب بالضاد الْمُعْجَمَة: الْجرْمِي، بِفَتْح الْجِيم.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب لَا يشْهد على جور، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (خير أمتِي قَرْني) أَي: أهل قَرْني، وهم الصَّحَابِيّ، والقرن أهل زمَان وَاحِد مُتَقَارب اشْتَركُوا فِي أَمر من الْأُمُور الْمَقْصُودَة وَاخْتلف فِي الْقرن من عشرَة إِلَى مائَة وَعشْرين، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه ثَلَاثُونَ سنة. قَوْله: (ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ) أَي: الْقرن الَّذِي بعدهمْ، وهم التابعون. قَوْله: (فَلَا أَدْرِي) شكّ عمرَان بعد قرنه: هَل ذكر قرنين أَو ذكر ثَلَاثَة؟ وَجَاء أَكثر طرق هَذَا الحَدِيث بِغَيْر شكّ، وروى مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، قَالَ رجل: يَا رَسُول الله! أَي النَّاس خير؟ قَالَ: الْقرن الَّذِي أَنا فِيهِ، ثمَّ الثَّانِي ثمَّ الثَّالِث، وروى الطَّيَالِسِيّ من حَدِيث عمر يرفعهُ: خير أمتِي الْقرن الَّذِي أَنا فِيهِ وَالثَّانِي ثمَّ(16/170)
الثَّالِث. وَوَقع فِي حَدِيث جعدة بن هُبَيْرَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَالطَّبَرَانِيّ إِثْبَات الْقرن الرَّابِع، وَلَفظه: خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الْآخرُونَ أردى، وَرِجَاله ثِقَات إلاَّ أَن جعدة بن هُبَيْرَة مُخْتَلف فِي صحبته. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير أحد التَّابِعين بِإِسْنَاد حسن، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ليدركن الْمَسِيح أَقْوَامًا إِنَّهُم لمثلكم أَو خير ثَلَاثًا، وَلنْ يخزى الله أمة أَنا أَولهَا والمسيح آخرهَا، وروى ابْن عبد الْبر من حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَفعه: أفضل الْخلق إِيمَانًا قوم فِي أصلاب الرِّجَال يُؤمنُونَ بِي وَلم يروني. قلت: لَا يُقَاوم الْمسند الصَّحِيح وَالثَّانِي ضَعِيف. قَوْله: (ثمَّ إِن من بعدكم قوما) بنضب قوما عِنْد الْأَكْثَرين، ويروى: قوم، بِالرَّفْع قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون من النَّاسِخ على طَريقَة من لَا يكْتب الْألف فِي الْمَنْصُوب، وَيحْتَمل أَن يكون: إِن، تقريرية بِمَعْنى: نعم، وَفِيه بعد وتكلف. انْتهى. قلت: الِاحْتِمَال الأول أبعد من الثَّانِي، وَالْوَجْه فِيهِ أَن يكون ارْتِفَاع قوم على تَقْدِير صِحَة الرِّوَايَة بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره: أَن بعدكم يَجِيء قوم، قَوْله: (يشْهدُونَ وَلَا يستشهدون) مَعْنَاهُ: يظْهر فيهم شَهَادَة الزُّور. قَوْله: (ويخونون وَلَا يؤتمنون) قيل: يطْلبُونَ الْأَمَانَة، ثمَّ يخونون فِيهَا، وَقيل: لَيْسُوا مِمَّن يوثق بهم. قَوْله: (وينذرون) بِضَم الذَّال وَكسرهَا. قَوْله: (وَيظْهر فيهم السّمن) بِكَسْر السِّين وَفتح الْمِيم، قيل: مَعْنَاهُ يكثرون بِمَا لَيْسَ فيهم من الشّرف، وَقيل: يجمعُونَ الْأَمْوَال من أَي وَجه كَانَ، وَقيل: يغفلون عَن أَمر الدّين ويقللون الاهتمام بِهِ، لِأَن الْغَالِب على السمين أَن لَا يهتم بالرياضة، وَالظَّاهِر أَنه حَقِيقَة فِي مَعْنَاهُ وَقَالُوا: المذموم مِنْهُ مَا يتكسبه، وَأما الخلقي فَلَا.
1563 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنَا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبِيدَةَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهِمْ يَمِينَهُ ويَمِينُهُ شَهَادَتَهُ. قَالَ إبرَاهِيمُ وكانُوا يَضْرِبُونَا علَى الشَّهَادَةِ والعَهْدِ ونَحْنُ صِغَارٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبيدَة، بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن قيس بن عَمْرو السَّلمَانِي، بِفَتْح السِّين وَسُكُون اللَّام: الْمرَادِي، قَالَ الْعجلِيّ: هُوَ جاهلي أسلم قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِسنتَيْنِ وَكَانَ أَعور.
والْحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن مضى فِي الشَّهَادَات فِي: بَاب لَا يشْهد على شَهَادَة جور، وَهَذَا مُكَرر حَقِيقَة، غير أَن هُنَا لفظ: وَنحن صغَار، لَيْسَ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَيَمِينه شَهَادَته) أَي: ويسبق يَمِينه شَهَادَته، قيل: هَذَا دور، وَأجِيب بِأَن المُرَاد بَيَان حرصهم على الشَّهَادَة وترويجها يحلفُونَ على مَا يشْهدُونَ بِهِ، فَتَارَة يحلفُونَ قبل أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ وَتارَة يعكسون، أَو هُوَ مثل فِي سرعَة الشَّهَادَة وَالْيَمِين وحرص الرجل عَلَيْهِمَا حَتَّى لَا يدْرِي بِأَيِّهِمَا يبتديء، فكأنهما يتسابقان لقلَّة مبالاته فِي الدّين. قَوْله: (يضربونا) وروى يضربوننا، أَي: على الْجمع بَين الْيَمين وَالشَّهَادَة، وَالْمرَاد من الْعَهْد هُنَا الْيَمين.
2 - (بابُ مَناقِبِ الْمُهَاجِرِينَ وفَضْلِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَنَاقِب الْمُهَاجِرين، والمناقب جمع منقبة، وَهُوَ ضد المثلبة والمهاجرون هم الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة إِلَى الله تَعَالَى، وَقيل: المُرَاد بالمهاجرين من عدا الْأَنْصَار، وَمن أسلم يَوْم الْفَتْح وهلم جراً، فالصحابة من هَذِه الْحَيْثِيَّة ثَلَاثَة أَصْنَاف وَالْأَنْصَار هم الْأَوْس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم، وَسقط لفظ: بَاب فِي رِوَايَة أبي ذَر.
مِنْهُمْ أبُو بَكْرٍ عَبْدُ الله بنُ أبِي قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: من الْمُهَاجِرين وَمن سادتهم أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَجزم البُخَارِيّ بِأَن اسْمه: عبد الله، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَفِي (التَّلْوِيح) : كَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: عبد الْكَعْبَة، وَسمي فِي الْإِسْلَام: عبد الله، وَكَانَت أمه تَقول:
(يَا رب عبد الْكَعْبَة ... اسْتمع بِهِ يَا ربه)
(فَهُوَ بصخر أشبه)
وصخر اسْم أبي أمه، وَاسْمهَا: سلمى بنت صَخْر بن مَالك بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن(16/171)
لؤَي بن غَالب وَكَانَت تكنى أم الْخَيْر. قَوْله: (ابْن أبي قُحَافَة) ، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وَبعد الْألف فَاء، واسْمه عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب، وَالْبَاقِي ذَكرْنَاهُ الْآن يلتقي مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مرّة ابْن كَعْب، أسلم أَبَوَاهُ وَأمه أَيْضا هَاجَرت، وَذَلِكَ مَعْدُود من مناقبه لِأَنَّهُ انتظم إِسْلَام أَبَوَيْهِ وَجَمِيع أَوْلَاده، وَسمي أَيْضا الصّديق فِي الْإِسْلَام لتصديقه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر ابْن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لما أسرِي بِهِ قَالَ لجبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن قومِي لَا يصدقوني، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: يصدقك أَبُو بكر، وَهُوَ الصّديق) ، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ كَانَ يُسمى الأوَّاه، وَكَانَ يُسمى أَيْضا عتيقاً لقدمه فِي الْإِسْلَام. وَفِي الْخَيْر، وَقيل لحسنه وجماله، وَسُئِلَ أَبُو طَلْحَة لِمَ سُمي أَبُو بكر عتيقاً، فَقَالَ: كَانَت أمه لَا يعِيش لَهَا ولد، فَلَمَّا وَلدته اسْتقْبلت بِهِ الْبَيْت، ثمَّ قَالَت: اللَّهُمَّ إِن هَذَا عتيقك من الْمَوْت فهبه لي، وَقَالَ ابْن الْمُعَلَّى، فَكَانَت أمه إِذا نقزته، قَالَت:
(عَتيق مَا عَتيق ... ذُو المنظر الأنيق)
(رشفت مِنْهُ ريق ... كالزرنب الْعَتِيق)
وَقيل: سمي بالعتيق لِأَنَّهُ عَتيق من النَّار، وَفِي (ربيع الْأَبْرَار) للزمخشري: قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ لأبي قُحَافَة ثَلَاثَة من الْوَلَد أَسمَاؤُهُم عَتيق ومعتق ومعيتق، وَفِي (الوشاح) لِابْنِ دُرَيْد: كَانَ يلقب ذُو الْخلال لعباءة كَانَ يخلها على صَدره، وَقَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ يلقب أَمِير الشَّاكِرِينَ، وَأجْمع المؤرخون وَغَيرهم على أَنه يلقب خَليفَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حاشى ابْن خالويه فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب (لَيْسَ) : الْفرق بَين الْخَلِيفَة والخالفة أَن الخالفة الَّذِي يكون بعد الرئيس الأول، قَالُوا لأبي بكر: أَنْت خَليفَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِنِّي لست خَليفَة، وَلَكِنِّي خَلِيفَته، كنت بعده، أَي بقيت بعده واستخلفت فلَانا جعلته خليفتي، وَقد ردوا عَلَيْهِ ذَلِك، وَولي أَبُو بكر الْخلَافَة بعد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سنتَيْن وَنصفا، وَقيل: سنتَيْن وَأَرْبَعَة أشهر إلاَّ عشر لَيَال، وَقيل: ثَلَاثَة أشهر إلاَّ خمس لَيَال، وَقيل: ثَلَاثَة أشهر وَسبع لَيَال، وَقيل: ثَلَاثَة أشهر واثني عشر يَوْمًا، وَقيل: عشْرين شهرا، واستكمل بخلافته سنّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَاتَ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَصلى عَلَيْهِ عمر بن الْخطاب فِي الْمَسْجِد وَدفن لَيْلًا فِي بَيت عَائِشَة مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنزل فِي قَبره عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان وَطَلْحَة بن عبيد الله وَابْنه عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، وَتُوفِّي يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وَقيل: لَيْلَة الثُّلَاثَاء الثمان، وَقيل: لثلاث بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ المهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله ورِضْوَانَاً ويَنْصُرُونَ الله ورَسُولَهُ أولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الْحَشْر: 8) . وَقَالَ الله تَعَالَى: {إلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} إِلَى قَوْلِهِ {إنَّ الله معَنَا} (التَّوْبَة: 04) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: مَنَاقِب الْمُهَاجِرين، الْمَجْرُور بِإِضَافَة الْبَاب إِلَيْهِ، وعَلى قَول أبي ذَر وَقَول الله، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ عطف على لفظ: مَنَاقِب الْمَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذِه مَنَاقِب الْمُهَاجِرين، قَوْله تَعَالَى: للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: للْفُقَرَاء، بدل من قَوْله: لذِي الْقُرْبَى، والمعطوف وَهُوَ قَوْله: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (الْحَشْر: 7) . قَوْله: (الَّذين أخرجُوا) أَي: أخرجهم كفار مَكَّة من دِيَارهمْ. قَوْله: (يَبْتَغُونَ فضلا) أَي: يطْلبُونَ بهجرتهم فضل الله وغفرانه. قَوْله: (وينصرون الله) ، أَي: دين الله وَشرع نبيه. قَوْله: (أُولَئِكَ هم الصادقون) أَي: حققوا أَقْوَالهم بأفعالهم إِذْ هجروا دِيَارهمْ لجهاد أَعدَاء الله تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ تنصروه} يَعْنِي: إلاَّ تنصرُوا رَسُوله فَإِن الله ناصره ومؤيده وحافظه وكافيه، كَمَا تولى نَصره إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا. قَوْله: (إِلَى قَوْله: إِن الله مَعنا) ، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، هَكَذَا: إِلَى قَوْله: إِن الله مَعنا، ويروي الْآيَة، وتمامها: {إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى وَكلمَة الله هِيَ الْعليا وَالله عَزِيز حَكِيم} (التَّوْبَة: 04) . قَوْله: (إِذا أخرجه) ، أَي:(16/172)
حِين أخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَوْم الَّذين كفرُوا، وهم أهل مَكَّة من كفار قُرَيْش. قَوْله: (ثَانِي اثْنَيْنِ) حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا، يُقَال: ثَانِي اثْنَيْنِ، يَعْنِي أحد الْإِثْنَيْنِ، وهما: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر الصّديق، ويروى أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أمره بِالْخرُوجِ قَالَ: من يخرج معي؟ قَالَ: أَبُو بكر، وقرىء: ثَانِي اثنني، بِالسُّكُونِ قَوْله: (إِذْ هما) بدل من قَوْله (إِذْ أخرجه) والغار ثقب فِي أَعلَى ثَوْر جبل من جبال مَكَّة على مسيرَة سَاعَة قَوْله (إِذْ يَقُول) ، بدل ثَان، وَصَاحبه: هُوَ أَبُو بكر، وَقَالُوا: من أنكر صُحْبَة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كَلَام الله، وَلَيْسَ ذَلِك لسَائِر الصَّحَابَة. قَوْله: (فَأنْزل الله سكينته) أَي: تأييده وَنَصره عَلَيْهِ، أَي: على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أشهر الْقَوْلَيْنِ، وَقيل: على أبي بكر، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، قَالُوا: لِأَن الرَّسُول لم تزل مَعَه سكينَة، وَهَذَا لَا يُنَافِي تجدّد سكينَة خَاصَّة بِتِلْكَ الْحَال. قَوْله: (وأيده بِجُنُود) أَي: الْمَلَائِكَة. قَوْله: (وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى) قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِكَلِمَة الَّذين كفرُوا: الشّرك، وَأَرَادَ بِكَلِمَة الله: لَا إلاه إلاَّ الله. {وَالله عَزِيز} فِي انتقامه من الْكَافرين: {حَكِيم} فِي تَدْبيره.
قالَتْ عَائِشَةُ وأبُو سَعِيدٍ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم وكانَ أبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الغَارِ
أما قَول عَائِشَة فَسَيَأْتِي مطولا فِي: بَاب الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة، وَفِيه: ثمَّ لحق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَار فِي جبل ثَوْر، وَأما قَول أبي سعيد فقد أخرجه ابْن حبَان من طَرِيق أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَنهُ فِي قصَّة بعث أبي بكر إِلَى الْحَج، وَفِيه: فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت أخي وصاحبي فِي الْغَار، وَأما قَول ابْن عَبَّاس، فقد أخرجه أَحْمد وَالْحَاكِم من طَرِيق عَمْرو بن مَيْمُون عَنهُ، قَالَ: كَانَ الْمُشْركُونَ يرْمونَ عليا وهم يظنون أَنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث، وَفِيه: فَانْطَلق أَبُو بكر فَدخل مَعَه الْغَار.
2563 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ رجَاء حدَّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ قَالَ اشْتَرَي أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِنْ عازِبٍ رَحْلاً بِثَلاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمَاً فَقَالَ أبُو بَكْرٍ لِعازِبٍ مُرِ البَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إلَيَّ رَحْلِي فَقَالَ عازِبٌ لاَ حَتَّى تُحَدِّثَنا كَيْفَ صَنَعْتَ أنْتَ وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ والمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ قَالَ ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فأحْيَيْنَا أوْ سَرَيْنا لَيْلَتَنَا ويَوْمَنَا حتَّى أظْهَرْنا وَقَامَ قائِمُ الظَّهِيرَةِ فرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أرَى مِنْ ظِلٍّ فآوَى إلَيْهِ فإذَا صَخْرَة أتَيْتُهَا فنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ الله فاضْطَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ انْطَلَقْتُ أنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أرَي مِنَ الطَّلَبِ أحَدَاً فإذَا أَنا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أرَدْنَا فسألْتُهُ فقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أنْتَ يَا غُلاَمُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فعَرَفْتُهُ فقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أنْتَ حالِبٌ لَبَناً قَالَ نعَمْ فأمَرْتُهُ فاعْتَقَلَ شَاة مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أمَرْتُهُ أنْ يَنْفُضَ ضَرْعَها مِنَ الغُبارِ ثُمَّ أمَرْتُهُ أنْ ينفضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضرَبَ إحْدَى كَفَّيْهِ بالأخْرَى فحَلَبَ لِي كُثبَة مِنْ لَبَنٍ وقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إدَاوَةً علَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فصَبَبْتُ علَى اللَّبَنِ حتَّى بَرَدَ أسْفَلهُ فانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ فقُلْتُ لَهُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ الله فَشَربَ حَتَّى رَضيتُ ثُمَّ قُلْتُ قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رسُولَ الله قَالَ بَلَى فارْتَحَلْنَا والقَوْمُ يَطْلُبُونا فلَمْ يُدْرِكْنا أحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بنِ مالِكِ بنِ جُعْشَمٍ على فرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنا يَا رَسُولَ الله فَقالَ لاَ تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من حَيْثُ إِن فِيهِ فَضِيلَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. وَعبد الله بن رَجَاء، بِالْجِيم وَالْمدّ: ابْن الْمثنى(16/173)
الفداني أَبُو عَمْرو الْبَصْرِيّ، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، يروي عَن جده أبي إِسْحَاق، واسْمه عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي، والبراء بن عَازِب بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الخزرجي الأوسي.
والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب عَلَامَات النُّبُوَّة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنذكر هُنَا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
قَوْله: (أَو سرينا) شكّ من الرَّاوِي، من: السرى، وَهُوَ الْمَشْي فِي اللَّيْل قَوْله: (حَتَّى أظهرنَا) كَذَا عِنْد أبي ذَر بِالْألف، وأسقطها غَيره وَالصَّوَاب الأول، أَي: صرنا فِي وَقت الظّهْر. قَوْله: (قلت: قد آن الرحيل) أَي: دخل وقته، وَقد تقدم فِي عَلَامَات النُّبُوَّة أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ألم يأنِ الرَّحيل؟ وَلَا مُنَافَاة لجَوَاز اجْتِمَاعهمَا. قَوْله: (هَذَا الطّلب) جمع الطَّالِب. قَوْله: (إِن الله مَعنا) اقْتصر فِيهِ على هَذَا الْمِقْدَار، وَقد روى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث عَن أبي خَليفَة عَن عبد الله بن رَجَاء شيخ البُخَارِيّ فَزَاد فِيهِ فِي آخِره: وَمضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مَعَه حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَة لَيْلًا، فَتَنَازَعَ الْقَوْم أَيهمْ ينزل عَلَيْهِ. فَذكر الْقِصَّة مُطَوَّلَة.
تُرِيحُونَ بالْعَشِيِّ وتَسْرَحُونَ بالغَدَاةِ
هَذَا إِشَارَة إِلَى تَفْسِير قَوْله: {وَلكم فِيهَا جمال حِين تريحون وَحين تسرحون} (النَّحْل: 6) . وَلَا مُنَاسبَة لذكره هُنَا أصلا إلاَّ أَنه ذكر فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده، وَالصَّوَاب أَن يذكر هَذَا عِنْد حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة الْهِجْرَة، فَإِن فِيهِ: ويرعى عَلَيْهَا عَامر بن فهَيْرَة ويريحها عَلَيْهَا، وَلَا مُنَاسبَة لَهُ فِي حَدِيث الْبَراء، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ هَذِه اللَّفْظَة.
3563 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سنانٍ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ ثابِتٍ البُنَانِيِّ عنْ أنَسٍ عنْ أبي بَكْر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قُلْتُ لِ لنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا ي الغارِ لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ نظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنا فَقَالَ مَا ظَنُّكَ يَا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ الله ثالِثُهُمَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ منقبة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمُحَمّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالنونين بَينهمَا ألف: أَبُو بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وَهُوَ من أَفْرَاده، وهما بِالتَّشْدِيدِ هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ، وثابت هُوَ ابْن أسلم الْبَصْرِيّ أَبُو مُحَمَّد الْبنانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّفْسِير عَن عبد الله بهَا مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حميد وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
قَوْله: (عَن ثَابت) ، فِي رِوَايَة خبان بن هِلَال فِي التَّفْسِير عَن همام: حَدثنَا ثَابت. قَوْله: (عَن أنس عَن أبي بكر) فِي رِوَايَة حبَان بن هِلَال: حَدثنَا أنس حَدثنِي أَبُو بكر. قَوْله: (قلت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا فِي الْغَار) ، وَفِي رِوَايَة حبَان الْمَذْكُورَة، فَرَأَيْت آثَار الْمُشْركين، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن همام، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا أَنا بأقدام الْقَوْم. قَوْله: (مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما؟) أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بالاثنين نَفسه وَأَبا بكر، وَمعنى ثالثهما: بِالْقُدْرَةِ والنصرة والإعانة، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أَسمَاء، فَقَالَ: أسكت يَا أَبَا بكر: إثنان الله ثالثهما، فَقَوله: إثنان، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: نَحن اثْنَان، الله ناصرهما ومعينهما، وَالله تَعَالَى أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُدّوا الأبْوَابَ إلاَّ بابَ أبِي بَكْر قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، هَذَا وَصله البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة بِلَفْظ: سدوا عني كل خوخة فِي الْمَسْجِد، وَهَذَا هُنَا نقل بِالْمَعْنَى، وَلَفظه: فِي الصَّلَاة فِي: بَاب الخوخة والممر فِي الْمَسْجِد. وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن سِنَان، وَلَفظه: لَا يبْقين فِي الْمَسْجِد بَاب إلاَّ سُدَّ إلاَّ بَاب أبي بكر. وَالثَّانِي: عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ وَلَفظه: سدوا عني كل خوخة فِي هَذَا الْمَسْجِد غير خوخة أبي بكر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.(16/174)
4563 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا أبُو عامِرٍ حدَّثنَا فُلَيْحٌ قَالَ حدَّثني سالِمٌ أبُو النَّضْرِ عنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خطَبَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاسَ وَقَالَ إنَّ الله خَيَّرَ عَبْدَاً بيْنَ الدُّنْيَا وبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ ذَلِكَ العَبْدُ مَا عِنْدَ الله قَالَ فبَكَى أبُو بَكْرٍ فعَجِبْنَا لِبُكائِهِ أنْ يُخْبِرَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ المُخَيَّرَ وكانَ أبُو بَكْرٍ أعْلَمَنَا بِهِ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مِنْ أمَنِّ النَّاسِ علَيَّ فِي صُحْبَتِهِ ومالِهِ أبَا بَكْرٍ ولَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ خَلِيلاً ولَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلامِ ومَوَدَّتُهُ لاَ يَبْقَيَن فِي المَسْجِدِ بابٌ إلاَّ سُدَّ إلاَّ بابَ أبِي بَكْرٍ. (انْظُر الحَدِيث 664 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الخوخة والممر فِي الْمَسْجِد، وَقد أخرجه عَن مُحَمَّد بن سِنَان كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَهُوَ يرْوى عَن فليح، وَهنا أخرجه: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن أبي عَامر الْعَقدي، واسْمه عبد الْملك بن عَمْرو الْبَصْرِيّ عَن فليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان الْخُزَاعِيّ وَكَانَ اسْمه عبد الله، وفليح لقبه، وَهُوَ يروي عَن سَالم أبي النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمدنِي عَن بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد مولى الْحَضْرَمِيّ من أهل الْمَدِينَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده) ، وَفِي لفظ: (بَين أَن يؤتيه من زهرَة الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَين مَا عِنْده) . قَوْله: (وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا بِهِ) أَي: بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن من أمنِّ النَّاس) ، ويروي: (إِن أَمن النَّاس) . قَوْله: (أَبَا بكر) ، بِالنّصب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَرُوِيَ: أَبُو بكر، بِالرَّفْع وَتكلم الشُّرَّاح فِي وَجه الرّفْع بالتعسفات فَلَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك، بل وَجه الرّفْع إِن صَحَّ على رِوَايَة: (إِن أَمن النَّاس) ، بِدُونِ لَفْظَة: من، وَلَفظ: أَمن، أفعل تَفْضِيل من الْمَنّ وَهُوَ الْعَطاء والبذل، والمعني: إِن أبذل النَّاس لنَفسِهِ وَمَاله، لَا من الْمِنَّة. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (مَا لأحد عندنَا يَد إلاَّ كافأناه عَلَيْهَا مَا خلا أَبَا بكر، فَإِن لَهُ عندنَا يدا يُكَافِئهُ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة) . وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (مَا أحد أعظم مني يدا من أبي بكر، واساني بِنَفسِهِ وَمَاله، وأنكحني ابْنَته) . وَفِي حَدِيث مَالك بن دِينَار عَن أنس رَفعه: إِن أعظم النَّاس علينا منا أَبُو بكر، زَوجنِي ابْنَته وواساني بِنَفسِهِ، وَإِن خير الْمُسلمين مَالا أَبُو بكر أعتق بِلَالًا وحملني إِلَى دَار الْهِجْرَة، أخرجه ابْن عَسَاكِر، وَجَاء عَن عَائِشَة مِقْدَار المَال الَّذِي أنفقهُ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فروى ابْن حبَان من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: أنْفق أَبُو بكر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم، وَرُوِيَ عَن الزبير بن بكار عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، أَنه: لما مَاتَ أَبُو بكر مَا ترك دِينَارا وَلَا درهما. قَوْله: (وَلَو كنت متخذاً خَلِيلًا) قَالَ الدَّاودِيّ: لَا يُنَافِي هَذَا قَول أبي هُرَيْرَة وَأبي ذَر وَغَيرهمَا: أَخْبرنِي خليلي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن ذَلِك جَائِز لَهُم، وَلَا يجوز لأحد مِنْهُم أَن يَقُول: أَنا خَلِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلِهَذَا يَقُول: إِبْرَاهِيم خَلِيل الله، وَلَا يُقَال: الله خَلِيل إِبْرَاهِيم. وَاخْتلف فِي معنى الْخلَّة واشتقاقها، فَقيل: الْخَلِيل الْمُنْقَطع إِلَى الله تَعَالَى الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعه إِلَيْهِ ومحبته لَهُ اختلال، وَقيل: الْخَلِيل الْمُخْتَص، وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل غير وَاحِد، وَقيل: أصل الْخلَّة الاستصفاء، وَسمي إِبْرَاهِيم خَلِيل الله لِأَنَّهُ يوالي فِيهِ ويعادي فِيهِ، وخلة الله لَهُ نَصره، وَجعله إِمَامًا لمن بعده، وَقيل: الْخَلِيل أَصله الْفَقِير الْمُحْتَاج الْمُنْقَطع، مَأْخُوذ من الْخلَّة وَهِي الْحَاجة، فَسُمي إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَلِيلًا لِأَنَّهُ قصر حَاجته على ربه وَانْقطع إِلَيْهِ بهمه، وَلم يَجعله قبل غَيره. وَقَالَ أَبُو بكر بن فورك: الْخلَّة صفاء الْمَوَدَّة الَّتِي توجب الِاخْتِصَاص بتخلل الْأَسْرَار، وَقيل: أصل الْخلَّة الْمحبَّة، وَمَعْنَاهَا: الْإِسْعَاف والإلطاف، وَقيل: الْخَلِيل من لَا يَتَّسِع قلبه لسواه.
وَاخْتلف الْعلمَاء أَرْبَاب الْقُلُوب أَيهمَا أرفع دَرَجَة: دَرَجَة الْخلَّة أَو دَرَجَة الْمحبَّة؟ فجعلهما بَعضهم سَوَاء، فَلَا يكون الحبيب إلاَّ خَلِيلًا، وَلَا يكون الْخَلِيل إلاَّ حبيباً، لكنه خص إِبْرَاهِيم بالخلة وَمُحَمّد، عَلَيْهِمَا السَّلَام، بالمحبة، وَبَعْضهمْ قَالَ: دَرَجَة الْخلَّة أرفع، وَاحْتج بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو كنت متخذاً خَلِيلًا غير رَبِّي، فَلم يَتَّخِذهُ وَقد أطلق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،(16/175)
الْمحبَّة لفاطمة وابنيها وَأُسَامَة وَغَيرهم. وَأَكْثَرهم جعل الْمحبَّة أرفع من الْخلَّة لِأَن دَرَجَة الحبيب نَبينَا أرفع من دَرَجَة الْخَلِيل، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وأصل الْمحبَّة الْميل إِلَى مَا يُوَافق الْمُحب، وَلَكِن هَذَا فِي حق من يَصح الْميل مِنْهُ وَالِانْتِفَاع بالوفق وَهِي دَرَجَة الْمَخْلُوق، وَأما الْخَالِق عز وَجل فمنزه عَن الْأَعْرَاض فمحبته لعَبْدِهِ تَمْكِينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أَسبَاب الْقرب وإفاضة رَحمته عَلَيْهِ، وقصواها كشف الْحجاب عَن قلبه حَتَّى يرَاهُ بِقَلْبِه وَينظر إِلَيْهِ ببصيرته، فَيكون كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث: (فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ، وبصره الَّذِي يبصر بِهِ، وَلسَانه الَّذِي ينْطق بِهِ) ، وَلَا يَنْبَغِي أَن يفهم من هَذَا سوى التجرد لله تَعَالَى والانقطاع إِلَيْهِ والإعراض عَن غَيره، وصفاء الْقلب وإخلاص الحركات لَهُ. وَنقل ابْن فورك عَن بعض الْمُتَكَلِّمين كلَاما فِي الْفرق بَين الْمحبَّة والخلة بِكَلَام طَوِيل ملخصه: الْخَلِيل يصل بالواسطة من قَوْله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض} (الْأَنْعَام: 57) . والحبيب يصل لحبيبه بِهِ من قَوْله: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} (النَّجْم: 9) . والخليل الَّذِي تكون مغفرته فِي حد الطمع من قَوْله: {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} (الشُّعَرَاء: 28) . والحبيب الَّذِي مغفرته فِي حد الْيَقِين من قَوْله عز وَجل: {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} (الْفَتْح: 2) . والخليل، قَالَ: {وَلَا تخزني يَوْم يبعثون} (الشُّعَرَاء: 78) . والحبيب قيل لَهُ: يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي، فابتدأ بالبشارة قبل السُّؤَال، والخليل قَالَ فِي الْمحبَّة: حسبي الله، والحبيب قيل لَهُ: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله} (الْأَنْفَال: 46) . والخليل قَالَ: {وَاجعَل لي لِسَان صدق} (الشُّعَرَاء: 78) . والحبيب قيل لَهُ: {ورفعنا لَك ذكرك} (الشَّرْح: 4) . أعطي بِلَا سُؤال. والخليل قَالَ: {واجنبني وبنيَّ أَن نعْبد الْأَصْنَام} (إِبْرَاهِيم: 53) . والحبيب قيل لَهُ: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} (الْأَحْزَاب: 33)
قَوْله: (وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام) أخوة الْإِسْلَام مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، نَحْو: أفضل من كل أخوة، ومودة لغير الْإِسْلَام. وَقيل: وَقع فِي بعض الرِّوَايَات: وَلَكِن خوة الْإِسْلَام، بِغَيْر الْألف، فَقَالَ ابْن بطال: لَا أعرف معنى هَذِه الْكَلِمَة وَلم أجد خوة بِمَعْنى خلة فِي كَلَام الْعَرَب، وَلَكِن وجدت فِي بعض الرِّوَايَات: وَلَكِن خلة الْإِسْلَام، وَهُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّ الْألف سَقَطت من الْكَاتِب فَإِن الْألف ثَابِتَة فِي سَائِر الرِّوَايَات، وَقَالَ ابْن مَالك فِي تَوْجِيهه: نقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى النُّون فحذفت الْألف، وَجوز مَعَ حذفهَا ضم نون: لَكِن، وسكونها، وَلَا يجوز مَعَ إِثْبَات الْهمزَة إلاَّ سُكُون النُّون فَقَط. انْتهى. قلت: هَذَا تَوْجِيه بعيد لَا يُوَافق الْأُصُول. قَوْله: (لَا يبْقين) ، بِفَتْح أَوله وبنون التَّأْكِيد، وَرُوِيَ بِالضَّمِّ وَإِضَافَة النَّهْي إِلَى الْبَاب: تجوز لِأَن عدم بَقَائِهِ لَازم للنَّهْي عَن إبقائه، فَكَانَ الْمَعْنى: لَا تبقوه حَتَّى لَا تبقى. قَوْله: (إلاَّ سُدَّ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (إلاَّ بَاب أبي بكر) ، اسْتثِْنَاء مفرغ، وَمَعْنَاهُ: لَا تبقوا بَابا غير مسدود إلاَّ بَاب أبي بكر فاتركوه بِغَيْر سد. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُعَاوِيَة فِي آخر هَذَا الحَدِيث: فَإِنِّي رَأَيْت عَلَيْهِ نورا. فَإِن قلت: روى النَّسَائِيّ من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص قَالَ: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسد الْأَبْوَاب الشارعة فِي الْمَسْجِد وَترك بَاب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَإِسْنَاده قوي، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) زِيَادَة وَهِي: فَقَالُوا يَا رَسُول الله {. سدت أبوابنا؟ فَقَالَ: مَا أَنا سددتها وَلَكِن الله سدها. وَنَحْوه عَن زيد بن أَرقم أخرجه أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس، فَهَذَا يُخَالف حَدِيث الْبَاب. قلت: جمع بَينهمَا بِأَن المُرَاد بِالْبَابِ فِي حَدِيث عَليّ الْبَاب الْحَقِيقِيّ. وَالَّذِي فِي حَدِيث أبي بكر يُرَاد بِهِ الخوخة، كَمَا صرح بِهِ فِي بعض طرقه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي (مُشكل الْآثَار) : بَيت أبي بكر كَانَ لَهُ بَاب من خَارج الْمَسْجِد وخوخة إِلَى دَاخله، وَبَيت عَليّ لم يكن لَهُ بَاب إلاَّ من دَاخل الْمَسْجِد. قلت: فَلذَلِك لم يَأْذَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأحد أَن يمر من الْمَسْجِد، وَهُوَ جنب إلاَّ لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَن بَيته كَانَ فِي الْمَسْجِد، رَوَاهُ إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) وَقَالَ الْخطابِيّ وَابْن بطال وَغَيرهمَا: فِي هَذَا الحَدِيث اخْتِصَاص ظَاهر لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَفِيه: إِشَارَة قَوِيَّة إِلَى اسْتِحْقَاقه للخلافة وَلَا سِيمَا وَقد ثَبت أَن ذَلِك كَانَ فِي آخر حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْوَقْت الَّذِي أَمرهم فِيهِ أَن لَا يؤمهم إلاَّ أَبُو بكر، وَقد ادّعى بَعضهم أَن الْبَاب كِنَايَة عَن الْخلَافَة، وَالْأَمر بالسد كِنَايَة عَن طلبَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يطلبن أحد الْخلَافَة إلاَّ أَبَا بكر، فَإِنَّهُ لَا حرج عَلَيْهِ فِي طلبَهَا، وَإِلَى هَذَا مَال ابْن حبَان، فَقَالَ بعد أَن أخرج هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: دَلِيل على أَن الْخلَافَة لَهُ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ حسم بقوله: سدوا عني كل خوخة فِي الْمَسْجِد أطماع النَّاس كلهم عَن أَن يَكُونُوا خلفاء بعده، وَعَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل بستاناً وَجَاء آتٍ فدق الْبَاب، فَقَالَ: يَا أنس} إفتح لَهُ وبشره بِالْجنَّةِ وبشره بالخلافة بعدِي، قَالَ(16/176)
فَقلت: يَا رَسُول الله {أعلمهُ؟ قَالَ: أعلمهُ، فَإِذا أَبُو بكر. فَقلت: أبشر بِالْجنَّةِ وبالخلافة من بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثمَّ جَاءَ آتٍ فَقَالَ: يَا أنس إفتح لَهُ وبشره بِالْجنَّةِ وبالخلافة من بعد أبي بكر. قلت: أعلمهُ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَخرجت فَإِذا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فبشرته. ثمَّ جَاءَ آتٍ فَقَالَ: يَا أنس} إفتح لَهُ وبشره بِالْجنَّةِ وبشره بالخلافة من بعد عمر، وَإنَّهُ مقتول، قَالَ: فَخرجت فَإِذا عُثْمَان، قَالَ: فَدخل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا إِنِّي وَالله مَا نسيت وَلَا تمنيت وَلَا مسست ذكري بيد بَايَعْتُك، قَالَ: هُوَ ذَاك، رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي من حَدِيث الْمُخْتَار بن فلفل عَن أنس، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن.
4 - (بابُ فَضْلِ أبِي بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد فضل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَيْسَ المُرَاد البعدية الزمانية، لِأَن فضل أبي بكر كَانَ ثَابتا فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
5563 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُلَيْمَانُ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثمَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهمْ. (الحَدِيث 5563 طرفه فِي: 7963) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فضل أبي بكر ثَبت فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد فضل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب الْقرشِي التَّمِيمِي، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَرِجَال إِسْنَاده كلهم مدنيون.
قَوْله: (نخير) أَي: كُنَّا نقُول: فلَان خير من فلَان، وَفُلَان خير من فلَان، فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبعده. كُنَّا نقُول: أَبُو بكر خير النَّاس، ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان، وَفِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع الْآتِيَة فِي مَنَاقِب عُثْمَان: كُنَّا لَا نعدل بِأبي بكر أَي: لَا نجْعَل لَهُ مثلا. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (كُنَّا نقُول وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان) ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح غَرِيب، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (كُنَّا نقُول، وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ أفضل هَذِه الْأمة أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، يسمع ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يُنكره) ، وعَلى هَذَا أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.
5 - (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً خَلِيلاً قالَهُ أبُو سَعِيدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي سبق قبل بَاب، فراجع إِلَيْهِ.
6563 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ ولَكِنْ أخِي وصاحِبِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ، ووهيب تَصْغِير وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
قَوْله: (لاتخذت أَبَا بكر) ، عدم اتِّخَاذه أَبَا بكر خَلِيلًا لعدم اتِّخَاذه خَلِيلًا من النَّاس، فَهَذَا الحَدِيث وَغَيره دلّ على نفي الْخلَّة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأحد من النَّاس. فَإِن قلت: أخرج أَبُو الْحسن الْحَرْبِيّ فِي (فَوَائده) : عَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: إِن أحدث عهدي بنبيكم قبل مَوته بِخمْس، دخلت عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُول: (إِنَّه لم يكن نَبِي إلاَّ وَقد اتخذ من أمته خَلِيلًا، وَإِن خليلي أَبُو بكر ألاَ وَإِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا. فَإِن قلت: هَذَا لَا يُقَاوم الَّذِي فِي (الصَّحِيح) وَلَا يُعَارضهُ، على أَنه يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جُنْدُب: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول قبل أَن يَمُوت بِخمْس: (إِنِّي أَبْرَأ إِلَى الله تَعَالَى أَن يكون لي مِنْكُم خَلِيل) . فَإِن قلت: إِن ثَبت حَدِيث أبي بن كَعْب، فَمَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين حَدِيث جُنْدُب؟ قلت: يحمل على أَنه بَرِيء من ذَلِك تواضعاً(16/177)
لرَبه وإعظاماً لَهُ، ثمَّ أذن الله لَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم لما رَآهُ من تشوفه إِلَيْهِ وإكراماً لأبي بكر بذلك فَلَا يتنافى الخبران. قَوْله: (وَلَكِن أخي وصاحبي) ، أَي: وَلَكِن هُوَ أخي فِي الدّين وصاحبي فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء والحضر وَالسّفر، وَفِي رِوَايَة خَيْثَمَة فِي فَضَائِل الصَّحَابَة عَن أَحْمد بن أبي الْأسود عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: وَلَكِن أخي وصاحبي فِي الله تَعَالَى.
7563 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ ومُوسَى قالاَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ أيُّوبَ وَقَالَ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً خَلِيلاً لاتَّخَذْتُهُ خَلِيلاً ولَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلاَمِ أفْضَلُ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه عَن مُعلى بن أَسد ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي ... إِلَى آخِره، وَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات التَّبُوذَكِي، وَهُوَ الصَّوَاب، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده: التنوخي، وَهُوَ تَصْحِيف.
قَوْله: (وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل) ، قَالَ الدَّاودِيّ: لَا أرَاهُ مَحْفُوظًا، وَإِن كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاه: إِن أخوة الْإِسْلَام دون المخاللة أفضل من المخاللة دون أخوة الْإِسْلَام، وَإِن لم يكن قَوْله: لَو كنت متخذاً خَلِيلًا غير رَبِّي صَحِيحا لم يجز أَن يُقَال: أخوة الْإِسْلَام أفضل، وَلَيْسَ يقْضِي فِي هَذَا بأخبار الْآحَاد.
حدَّثَنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ عنْ أيُّوبَ مِثْلَهُ
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مثل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهَذِه الطّرق الثَّلَاثَة من أَفْرَاده.
8563 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ أخبرنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ عبْدِ الله بنِ أبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَتَبَ أهْلُ الكُوفَةِ إِلَى ابنِ الزُّبَيْرِ فِي الجَدِّ فَقَالَ أمَّا الَّذِي قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُهُ أنْزَلَهُ أبَا يَعْنِي أبَا بَكْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ: فضل أبي بكر حَيْثُ أجَاب بِأَن الْجد كَالْأَبِ فِي اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث. وَابْن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، وَقد مر عَن قريب. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (كتب أهل الْكُوفَة) أَي: بعض أَهلهَا، وَهُوَ عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، وَكَانَ ابْن الزبير جعله على قَضَاء الْكُوفَة. قَوْله: (فِي الْجد) أَي: فِي مَسْأَلَة الْجد وميراثه. قَوْله: (أما الَّذِي) ، جَوَاب، أما، هُوَ قَوْله: أنزلهُ، وَالْفَاء فِيهِ محذوفة، أَي: أنزل أَبُو بكر الْجد منزلَة الْأَب فِي الْإِرْث، وَحَاصِله أَنه قَالَ فِي جوابهم: أما الَّذِي قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَقه: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا لاتخذته) ، جعل الْجد كَالْأَبِ وأنزله مَنْزِلَته فِي اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث، يُرِيد أَنه يَرث وَحده دون الْأُخوة كَالْأَبِ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، وَعند الشَّافِعِي وَمَالك، أَنه يقاسم الْإِخْوَة مَا لم ينقصهُ ذَلِك عَن الثُّلُث، وَهُوَ قَول زيد.
(بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب وَهَذَا كالفصل لما قبله.
9563 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ ومُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قالاَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ عنْ مُحَمَّدِ ابنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عنْ أبِيهِ قَالَ أتَتِ امْرَأةٌ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَهَا أنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ قالَتْ أرَأيْتَ إنْ جِئْتُ ولَمْ أجِدْكَ كأنَّهَا تَقُولُ المَوْتُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنْ لَمْ تَجِدِينِي فأتِي أبَا بَكْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ إِشَارَة إِلَى فَضله. وَفِيه: إِشَارَة أَيْضا إِلَى أَنه هُوَ الْخَلِيفَة من بعده، وأصرح من هَذَا دلَالَة على أَنه هُوَ الْخَلِيفَة من بعده، مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عصمَة بن مَالك، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُول الله إِلَى من ندفع صدقَات أَمْوَالنَا بعْدك؟ قَالَ: إِلَى أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه ضعف، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي (مُعْجَمه) من حَدِيث سهل(16/178)
بن أبي حثْمَة، قَالَ: بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْرَابِيًا، فَسَأَلَهُ إِن أَتَى عَلَيْهِ أَجله من يَقْضِيه؟ فَقَالَ: أَبُو بكر، ثمَّ سَأَلَهُ من يَقْضِيه بعده؟ قَالَ: عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... الحَدِيث.
والْحميدِي هُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى، وَمُحَمّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن زيد الْقرشِي الْأمَوِي، وَكِلَاهُمَا من أَفْرَاده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد يروي عَن أَبِيه سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله وَفِي الِاعْتِصَام عَن عبيد الله بن سعد، وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عباد بن مُوسَى وَعَن حجاج بن الشَّاعِر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (إِن جِئْت وَلم أجدك) كَأَنَّهَا كنت عَن موت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومرادها: إِن جِئْت فوجدتك قد مت، مَاذَا أعمل؟ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَإِن رجعت فَلم أجدك؟ تعررض بِالْمَوْتِ. وَفِي رِوَايَة الْحميدِي فِي (الْأَحْكَام) كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْت. .
0663 - حدَّثني أحمدُ بنُ أبِي الطَّيِّبِ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ مُجَالِدٍ حدَّثنا بَيانُ بنُ بِشْرٍ عنْ وَبَرَةَ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمَّارَاً يقُولُ رأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا مَعَهُ إلاَّ خَمْسَةُ أعْبُدٍ وامْرَأتَانِ وأبُو بَكْرٍ. (الحَدِيث 0663 طرفه فِي: 7583) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي أبي بكر فَضِيلَة خَاصَّة لسبقه فِي الْإِسْلَام حَيْثُ لم يسلم أحد قبله من الرِّجَال الْأَحْرَار، وَأحمد بن أبي الطّيب، اسْمه سُلَيْمَان الْمروزِي الْبَغْدَادِيّ روى عَنهُ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث، وَإِسْمَاعِيل بن مجَالد بِالْجِيم ابْن عُمَيْر الْهَمدَانِي الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ عِنْد البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَبَيَان، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف نون: ابْن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: الْمعلم الأحمسي بالمهملتين التَّابِعِيّ، ووبرة، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتحهَا ابْن عبد الرَّحْمَن الْحَارِثِيّ، وَهَمَّام بن الْحَارِث النَّخعِيّ الْكُوفِي مر فِي الصَّلَاة. وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد، وعمار هُوَ ابْن يَاسر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي إِسْلَام أبي بكر عَن عبد الله عَن يحيى بن معِين.
قَوْله: (وَمَا مَعَه) أَي: مِمَّن أسلم. قَوْله: (إلاَّ خَمْسَة أعبد) ، وهم: بِلَال، وَزيد بن حَارِثَة، وعامر بن فهَيْرَة مولى أبي بكر فَإِنَّهُ أسلم قَدِيما مَعَ أبي بكر، وَأَبُو فكيهة مولى صَفْوَان بن أُميَّة بن خلف، ذكر ابْن إِسْحَاق أَنه أسلم حِين أسلم بِلَال فَعَذَّبَهُ أُميَّة فَاشْتَرَاهُ أَبُو بكر فَأعْتقهُ، وَعبيد بن زيد الحبشي. وَذكر ابْن السكن فِي (كتاب الصَّحَابَة) : عَن عبد الله بن دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَرثهُ من أَبِيه هُوَ وَأم أَيمن) . وَفِي (التَّلْوِيح) : هم: عمار، وَزيد بن حَارِثَة، وبلال، وعامر بن فهَيْرَة، وشقران والمرأتان خَدِيجَة وَأم الْفضل زوج الْعَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقيل: الْمَرْأَتَانِ خَدِيجَة وَأم أَيمن أَو سميَّة. قلت: عمار بن يَاسر مولى بن مَخْزُوم وَأمه سميَّة بنت خياط، وَكَانَ هُوَ وَأَبوهُ يُعَذبُونَ فِي الله (فَمر بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم يُعَذبُونَ، وَقَالَ صبرا آل يَاسر، فَإِن مَوْعدكُمْ الْجنَّة) ، وشقران، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْقَاف: لقب واسْمه صَالح بن عدي الحبشي، وَقيل: أَوْس، وَقيل: هُرْمُز، وَرثهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أمه، وَقيل: عَن أَبِيه، وَقيل: كَانَ لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فوهبه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
1663 - حدَّثني هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ حدَّثنا صدَقَةُ بنُ خالِدٍ حدَّثنا زَيْدُ بنُ واقِدٍ عنْ بُسْرِ بنِ عُبَيْدِ الله عنْ عائِذِ الله أبِي إدْرِيسَ عنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنْتُ جالِسَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ أقْبَلَ أبُو بَكْر آخِذاً بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أبْدَى عنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَّا صاحِبُكُمْ فَقَدْ غامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ يَا رسُولَ الله إنَّهُ كانَ بَيْنِي وبَيْنَ ابنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ فأسْرَعْتُ إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فسألْتُهُ أنْ يَغْفِرَ لِي فأبَى علَيَّ فأقْبَلْتُ إلَيْكَ فقالَ يَغْفِرُ الله لَكَ يَا أبَا بَكْر ثلاثَاً ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ فأتَى مَنْزِلَ أبِي بَكْرٍ فسَألَ أثَمَّ أبُو بَكْرٍ فقالُوا لَا فأتَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسلَمَ عَلَيْهِ فجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيُّ صلى الله(16/179)
عَلَيْهِ وَسلم يتَمَعَّرُ حتَّى أشْفَقَ أبُو بَكْرٍ فَجَثَا علَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله وَالله أنَا كُنْتُ أظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله بعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وقالَ أبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسانِي بنَفْسِهِ ومالِهِ فَهَلْ أنْتُمْ تَارِكُو لِي صاحِبي مرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. (الحَدِيث 1663 طرفه فِي: 0464) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِشَام بن عمار بن نصير أَبُو الْوَلِيد السّلمِيّ الدِّمَشْقِي، وَصدقَة بن خَالِد أَبُو الْعَبَّاس مولى أم الْبَنِينَ بنت أبي سُفْيَان بن حَرْب أُخْت مُعَاوِيَة، وَزيد بن وَاقد، بِكَسْر الْقَاف الدِّمَشْقِي: ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة الْحَضْرَمِيّ الشَّامي، وعائذ الله، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة من العوذ: ابْن عبد الله الْخَولَانِيّ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالنون، وكنيته أَبُو إِدْرِيس وَهَؤُلَاء كلهم شَامِيُّونَ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عبد الله، قيل: إِنَّه حَمَّاد الْأَيْلِي وَهُوَ من أَفْرَاده.
قَوْله: (عَن بسر بن عبيد الله) ، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن الْعَلَاء عِنْد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير: حَدثنِي بسر بن عبيد الله حَدثنِي أَبُو إِدْرِيس سَأَلت أَبَا الدَّرْدَاء. قَوْله: (أما صَاحبكُم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أما صَاحبك، بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (فقد غامر) ، بالغين الْمُعْجَمَة أَي: خَاصم ولابس الْخُصُومَة وَنَحْوهَا من الْأُمُور، يُقَال: دخل فِي غمرة الْخُصُومَة وَهِي معظمها، وغمر الْحَرْب وَنَحْوهَا، والمغامر الَّذِي يَرْمِي بِنَفسِهِ فِي الْأُمُور والحروب، وَقيل: من المعاجلة أَي: سارع. قَوْله: (فَسلم) ، بتَشْديد اللَّام من السَّلَام، وَوَقع عِنْد أبي نعيم فِي (الْحِلْية) : حَتَّى سلم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر الرَّد، وَهُوَ مِمَّا يحذف للْعلم بِهِ، وقسيم: إِمَّا مَحْذُوف نَحوه، وَأما غَيره فَلَا أعلمهُ. قَوْله: (أثَمَّ؟) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم والهمزة للاستفهام أَي: أهنا أَبُو بكر؟ قَوْله: (شَيْء) ، وَفِي رِوَايَة التَّفْسِير: بيني وَبَينه محاورة، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: مُرَاجعَة. قَوْله: (نَدِمت) ، زَاد مُحَمَّد بن الْمُبَارك: على مَا كَانَ. قَوْله: (فَسَأَلته أَن يغْفر لي) وَفِي رِوَايَة التَّفْسِير: أَن يسْتَغْفر لَهُ فَلم يفعل حَتَّى أغلق بَابه فِي وَجهه. قَوْله: (فَأبى عَليّ) ، زَاد مُحَمَّد بن الْمُبَارك: فتبعته إِلَى البقيع حَتَّى خرج من دَاره. قَوْله: (ثَلَاثًا) ، أَي: أعَاد هَذِه الْكَلِمَة ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (يتمعر) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة أَي: تذْهب نضارته من الْغَضَب، وَأَصله من المعر، وَهُوَ: الجدب، يُقَال: أمعر الْمَكَان إِذا أجدب، وَيُقَال: مَعْنَاهُ يتَغَيَّر لَونه من الضجر، وَيُقَال: ذهب رونقه حَتَّى صَار كالمكان الأمعر. قَوْله: (حَتَّى أشْفق أَبُو بكر) أَي: حَتَّى خَافَ أَبُو بكر أَن يكون من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عمر مَا يكره. قَوْله: (فَجَثَا) ، بِالْجِيم والثاء الْمُثَلَّثَة أَي: برك على رُكْبَتَيْهِ. قَوْله: (أَنا كنت أظلم) أَي: من عمر فِي الْقِصَّة الْمَذْكُورَة، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ البادي. قَوْله: (مرَّتَيْنِ) أَي: قَالَ ذَلِك القَوْل مرَّتَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مرَّتَيْنِ، ظرف لقَالَ. أَو لقَوْله: كنت. قَوْله: (وواساني) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده: وأوساني، وَالْأول أوجه لِأَنَّهُ من الْمُوَاسَاة. قَوْله: (تاركو لي صَاحِبي) ، وَفِي رِوَايَة التَّفْسِير (تاركون لي) ، على الأَصْل. قَوْله: (لي) فصل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بالجار وَالْمَجْرُور عناية بِتَقْدِيم لفظ الِاخْتِصَاص، وَذَلِكَ جَائِز كَقَوْل الشَّاعِر:
(فَرَشُني بِخَير لَا أكونن ومدحتي ... كناحت يَوْمًا صَخْرَة بعسيل)
قلت: رشني: أَمر من راش يريش، يُقَال: رَشَّتْ فلَانا: أصلحت حَاله، وَالْوَاو فِي: ومدحتي للمصاحبة، أَي: مَعَ مدحتي والاستشهاد فِيهِ فِي قَوْله: يَوْمًا، فَإِنَّهُ ظرف فصل بِهِ بَين الْمُضَاف وَهُوَ قَوْله: كناحت، وَبَين الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ: صَخْرَة، وَالتَّقْدِير: كناحت صَخْرَة يَوْمًا بعسيلٍ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة: وَهُوَ قضيب الْفِيل، قَالَه الْجَوْهَرِي، وَبِهَذَا يرد على أبي الْبَقَاء حَيْثُ يَقُول إِن حذف النُّون من خطأ الروَاة، لِأَن الْكَلِمَة: لَيست مُضَافَة وَلَا فِيهَا ألف وَلَام، وَإِنَّمَا يجوز فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَا وَجه لإنكاره لوُقُوع مثل هَذِه كثيرا فِي الْأَشْعَار وَفِي الْقُرْآن أَيْضا فِي قِرَاءَة ابْن عَامر، {وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركائهم} ، بِنصب أَوْلَادهم، وجر شركائهم. قَوْله: (فَمَا أوذي بعْدهَا) أَي: فَمَا أوذي أَبُو بكر بعد هَذِه الْقَضِيَّة لأجل مَا أظهره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم من تَعْظِيمه أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد: الدّلَالَة على فضل أبي بكر على جَمِيع الصَّحَابَة، وَلَيْسَ يَنْبَغِي للفاضل أَن يغاضب من هُوَ أفضل مِنْهُ، وَجَوَاز مدح الرجل فِي وَجهه، وَمحله: إِذا أَمن عَلَيْهِ الافتتان(16/180)
والاغترار. وَفِيه: مَا طبع عَلَيْهِ الْإِنْسَان من البشرية حَتَّى يحملهُ الْغَضَب على ارْتِكَاب خلاف الأولى. لَكِن الْفَاضِل فِي الدّين يسْرع الرُّجُوع إِلَى الأول لقَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا} (الْأَعْرَاف: 201) . وَفِيه: أَن غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو بلغ فِي الْفضل الْغَايَة، فَلَيْسَ بمعصوم. وَفِيه: اسْتِحْبَاب سُؤال الاسْتِغْفَار والتحلل من الْمَظْلُوم. وَفِيه: أَن من غضب على صَاحبه نسبه إِلَى أَبِيه أوجده وَلم يسمه باسمه، وَذَلِكَ من قَول أبي بكر لما جَاءَ وَهُوَ غَضْبَان من عمر: كَانَ بيني وَبَين ابْن الْخطاب، فَلم يذكرهُ باسمه، وَنَظِيره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا إِن كَانَ ابْن أبي طَالب يُرِيد أَن ينْكح ابنتهم. وَفِيه: أَن الرّكْبَة لَيست بِعَوْرَة.
2663 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ المُخْتَارِ قَالَ خالِدٌ الحَذَّاءُ حدَّثنا عنْ أبِي عُثْمَانَ قَالَ حدَّثني عَمْرُو بنُ العَاصِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاسِلِ فأتَيْتُهُ فَقُلْتُ أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ قَالَ عائِشَةُ فقُلْتُ مِنَ الرّجَالِ فَقَالَ أبُوهَا قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قالَ ثُمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَعَدَّ رِجالاً. (الحَدِيث 2663 طرفه فِي: 8534) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَذَلِكَ لِأَن كَون أحب النَّاس إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر، يدل على أَن لَهُ فضلا كثيرا وَأَنه أفضل النَّاس بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَعبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار أَبُو إِسْمَاعِيل الْأنْصَارِيّ الدّباغ، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بالنُّون، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم بصريون إلاَّ الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق بن شاهين وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِبْرَاهِيم ابْن يَعْقُوب وَبُنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي قدامَة عبيد الله بن سعيد.
قَوْله: (خَالِد الْحذاء حَدثنَا) هُوَ من تَقْدِيم الِاسْم على الصّفة، وَقد استعملوه كثيرا، تَقْدِير الْكَلَام: حَدثنَا عبد الْعَزِيز، قَالَ: حَدثنَا خَالِد الْحذاء عَن أبي عُثْمَان. قَوْله: (ذَات السلَاسِل) بسينين مهملتين وَالْمَشْهُور فتح الأولى على لفظ جمع السلسلة، وَضَبطه كَذَلِك أَبُو عبيد الْبكْرِيّ، وضبطها ابْن الْأَثِير بِالضَّمِّ ثمَّ فسره بِمَعْنى: السلسال، أَي: السهل، وَفَسرهُ أَبُو عبيد: بِأَنَّهُ اسْم مَكَان سمي بذلك لأَنهم كَانُوا مبعوثين إِلَى أَرض بهَا رمل ينْعَقد بعضه على بعض كالسلسلة، وَكَانَت غَزْوَة ذَات السلَاسِل سنة سبع، كَذَا صَححهُ ابْن أبي خَالِد فِي (تَارِيخه) . وَقَالَ ابْن سعد وَالْحَاكِم: فِي سنة ثَمَان فِي جمادي الْآخِرَة، وَذكر ابْن إِسْحَاق: أَن أم الْعَاصِ بن وَائِل كَانَت من بلي، فَبَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْعَرَب يستنفر إِلَى الْإِسْلَام يستألفهم بذلك حَتَّى إِذا كَانَ على مَاء بِأَرْض حذام يُقَال لَهُ: السلَاسِل، وَبِه سميت تِلْكَ الْغَزْوَة، ذَات السلَاسِل، على مَا يَأْتِي الْبَاقِي فِي الْمَغَازِي. وَقَالَ ابْن التِّين: سميت ذَات السلَاسِل لِأَن الْمُشْركين ارْتبط بَعضهم إِلَى بعض مَخَافَة أَن يَفروا، وَعَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: هِيَ مَشَارِق الشَّام إِلَى بلي وَسعد الله وَمن يليهم من قضاعة وَكِنْدَة وبلقين وصحنان وكفار الْعَرَب، وَيُقَال لَهَا: بدر الْآخِرَة، وَقَالَ ابْن سعد: وَهِي وَادي الْقرى بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة عشرَة أَيَّام. قَوْله: (فَقلت: أَي النَّاس أحب إِلَيْك؟) هَذَا السُّؤَال من عمر، وَإِنَّمَا كَانَ لما وَقع فِي نَفسه حِين أمره على الْجَيْش وَفِيهِمْ أَبُو بكر وَعمر أَنه مقدم عِنْده فِي الْمنزلَة عَلَيْهِم، فَسَأَلَهُ لذَلِك. قَوْله: (فعد رجَالًا) ، ويروى: فعدد رجَالًا يحْتَمل أَن يكون مِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة ابْن الْجراح، على مَا أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبيد الله بن شَقِيق. قَالَ: قلت لعَائِشَة: أَي أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أحب إِلَيْهِ؟ قَالَت: أَبُو بكر، قلت: ثمَّ من؟ قَالَت: عمر، قلت: ثمَّ من؟ قَالَت: أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح. قلت: ثمَّ من؟ فَسَكَتَتْ) قيل: يحْتَمل أَن يُفَسر بعض الرِّجَال الَّذين أبهموا فِي حَدِيث الْبَاب بِأبي عُبَيْدَة.
3663 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ عَوْفٍ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فأخَذَ مِنْهَا شَاة فطَلَبَهُ الرَّاعِي فالْتَفَتَ إلَيْهِ الذئْبُ فقالَ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَيْسَ(16/181)
لَهَا رَاعٍ غَيْرِي وبَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قدْ حَمَلَ عَلَيْهَا فالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فكَلَّمَتْهُ فقالَتْ إنِّي لَمْ أخْلقْ لهَذَا ولَكِنِّي خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ قَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ الله فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَال إِسْنَاده على هَذَا النسق قد تكَرر ذكرهم جدا. والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل فِي، بَاب مُجَرّد بعد حَدِيث الْغَار، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة بِغَيْر هَذَا الطَّرِيق، وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَقد مر الْكَلَام فِي: بَيْنَمَا وَبينا، غير مرّة. قَوْله: (رَاع) ، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ متصف. بقوله: (فِي غنمه) وَخَبره هُوَ قَوْله: (عدا عَلَيْهِ الذِّئْب) . قَوْله: (يَوْم السَّبع) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، ويروى بِالسُّكُونِ، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت هُنَاكَ.
4663 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخبَرنا عَبْدُ الله عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرَني ابنُ المُسَيِّبِ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ بَيْنَا أنَا نائمٌ رأيْتُنِي على قلِيبٍ علَيْهَا دَلْوٌ فنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شاءَ الله ثُمَّ أخذَهَا ابنُ أبِي قُحافَةَ فنَزَعَ بِهَا ذُنوباً أَو ذَنُوبَينِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَالله يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبَاً فأخَذَهَا ابنُ الخَطَّابِ فلَمْ أرَ عَبْقَرِيَّاً مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ فِي الْمَنَام وَهُوَ ينْزع من القليب، وَذكره قبل عمر وَهُوَ يدل على سبق أبي بكر على عمر، وَأَن عمر من بعده، وَأما ضعفه فِي النزع فَلَا يدل على النَّقْص لِأَن أَيَّامه كَانَت قَصِيرَة على مَا ذكرنَا. وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان وَشَيْخه عبد الله بن الْمُبَارك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن حَرْمَلَة بن يحيى، وَقد مر نَظِيره فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن عبد الله بن عمر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. والقليب: بِئْر يحْفر فيقلب ترابها قبل أَن تطوى، والغرب: الدَّلْو أكبر من الذَّنوب، والعبقري: كل شَيْء يبلغ النِّهَايَة بِهِ، والعطن: مناخ الْإِبِل.
5663 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أخبرنَا عبْدُ الله أخبرَنا مُوساى بنُ عُقْبَةَ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ الله إليْهِ يَومَ القِيَامَةِ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ إنَّ أحَدَ شِقَّيْ ثَوْبِي يَسْتَرْخِي إلاَّ أنْ أتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّكَ لَسْتَ تَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلاءَ قَالَ مُوساى فقُلْتُ لِسالِمٍ أذَكَرَ عَبْدُ الله مَنْ جَرَّ إزَارَهُ فَقال لَمْ أسْمَعْهُ ذَكَرَ إلاَّ ثَوْبَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّك لست تصنع ذَلِك خُيَلَاء) وَفِيه: فَضِيلَة لأي بكر حَيْثُ شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ بِمَا يُنَافِي مَا يكره، وَعبد الله شيخ شيخ البُخَارِيّ هُوَ ابْن الْمُبَارك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن أَحْمد بن يُونُس وَفِي الْأَدَب عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس عَن النُّفَيْلِي عَن زُهَيْر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن عَليّ بن حجر.
قَوْله: (خُيَلَاء) ، أَي: كبرا وتبختراً، وانتصابه على أَنه مفعول لَهُ أَي: لأجل الْخُيَلَاء. قَوْله: (لم ينظر الله إِلَيْهِ) أَي: لَا يرحمه، فالنظر هُنَا مجَاز عَن الرَّحْمَة، وَأما إِذا اسْتعْمل فِي الْمَخْلُوق يُقَال: لَا ينظر إِلَيْهِ زيد، فَهُوَ كِنَايَة. قَوْله: (يسترخي) لَعَلَّ عَادَته أَنه عِنْد الْمَشْي يمِيل إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ إلاَّ أَن يحفظ نَفسه عَن ذَلِك. قَوْله: (فَقلت لسالم) الْقَائِل هُوَ مُوسَى بن عقبَة. قَوْله: (أذكر؟) فعل مَاض دخلت عَلَيْهِ همزَة الِاسْتِفْهَام. (وَعبد الله) فَاعله. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: فَقَالَ سَالم: لم أسمع عبد الله ذكر فِي حَدِيثه إلاَّ ثَوْبه.(16/182)