وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المَاء قَلِيلا وَانْقطع بعد سقِِي الثَّانِي، وَقد صرح النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : بِأَن المُرَاد بِالْأولِ الَّذِي يَلِي المَاء إلاَّ لمحيي الأول، فَقَالَ عِنْد ذكر حَدِيث الزبير: فَلصَاحِب الأَرْض الأولى الَّتِي تلِي المَاء الْمُبَاح أَن يحبس المَاء ويسقي أرضه إِلَى هَذَا الْحَد، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى جَاره الَّذِي وَرَاءه. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بقوله: ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك؟ فَهَل هُوَ مَا فضل عَن المَاء الَّذِي حَبسه أَو إرْسَال جَمِيع المَاء الْمَحْبُوس أَو غَيره بعد أَن يصل فِي أرضه إِلَى الْكَعْبَيْنِ؟ قلت: قَالَ شَيخنَا: الصَّحِيح الَّذِي ذكره أَصْحَاب الشَّافِعِي الأول، وَهُوَ قَول مطرف وَابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة، وَاخْتَارَهُ ابْن وهب، وَقد كَانَ ابْن الْقَاسِم يَقُول: إِذا انْتهى المَاء فِي الْحَائِط إِلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ من الْقَائِم أرْسلهُ كُله إِلَى من تَحْتَهُ، وَلَا يحبس مِنْهُ شَيْئا فِي حَائِطه. قَالَ ابْن وهب: وَقَول مطرف وَابْن الْمَاجشون أحب إِلَيّ فِي ذَلِك، وهما أعلم بذلك، لِأَن الْمَدِينَة دارهما وَبهَا كَانَت الْقَضِيَّة وفيهَا جرى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ. وَفِيه: حجَّة على مَا حُكيَ عَن أبي حنيفَة من أَن الْأَعْلَى لَا يقدم على الْأَسْفَل، وَإِنَّمَا يسقون بِقدر حصصهم، قَالَه بعض الشَّافِعِيَّة. قلت: هَذَا وَجه حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن الداركي، وَلَيْسَ مُرَاد أبي حنيفَة من قَوْله: إِن الْأَعْلَى لَا يقدم على الْأَسْفَل، أَنه يخْتَص بِالْمَاءِ وَيحرم الْأَسْفَل، بل كلهم سَوَاء فِي الِاسْتِحْقَاق، غير أَن الأول يسْقِي ثمَّ الثَّانِي ثمَّ الثَّالِث وهلم جراً، وَالِانْتِفَاع فِي حق كل وَاحِد بِقدر أرضه، وَقدر حَاجته، فَيكون بِالْحِصَصِ. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَلَو كَانَ نهيراً صَغِيرا وسيل فتشاح أهل الْأَرْضين الشاربة عَنهُ، فَإِنَّهُ يبْدَأ بالأعلى ويسقي حَتَّى يبلغ الكعب، ثمَّ يُرْسل إِلَى الَّذِي يَلِيهِ كَذَلِك إِلَى انْتِهَاء الْأَرَاضِي، فَإِن لم يفضل عَن الأول شَيْء أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث لَا شَيْء للباقين، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم إلاَّ مَا فضل فهم كالعصبة فِي الْمِيرَاث، وَهَذَا قَول فُقَهَاء الْمَدِينَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَلَا نعلم فِيهِ مُخَالفا، وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي حَدِيث الْبَاب: إِن الأولى بِالْمَاءِ الْجَارِي الأول فَالْأول حَتَّى يَسْتَوْفِي حَاجته، وَهَذَا مَا لم يكن أَصله ملكا للأسفل مُخْتَصًّا بِهِ، فَإِن كَانَ ملكه فَلَيْسَ للأعلى أَن يشرب مِنْهُ شَيْئا وَإِن كَانَ يمر عَلَيْهِ. وَفِيه: الِاكْتِفَاء للخصوم بِمَا يفهم عَنْهُم مقصودهم أَن لَا يكلفوا النَّص على الدعاوي وَلَا تَحْرِير الْمُدعى فِيهِ وَلَا حصره بِجَمِيعِ صِفَاته. وَفِيه: إرشاد الْحَاكِم إِلَى الْإِصْلَاح، وَقَالَ ابْن التِّين: مَذْهَب الْجُمْهُور أَن القَاضِي يُشِير بِالصُّلْحِ إِذا رَآهُ مصلحَة، وَمنع ذَلِك مَالك، وَعَن الشَّافِعِي فِي ذَلِك خلاف، وَالصَّحِيح جَوَازه. وَفِيه: أَن للْحَاكِم أَن يستوعي لكل وَاحِد من المتخاصمين حَقه إِذا لم يَرَ قبولاً مِنْهُمَا للصلح وَلَا رضى بِمَا أَشَارَ بِهِ كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: توبيخ من جَفا على الإِمَام وَالْحَاكِم ومعاقبته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاقبه بِمَا قَالَ، بِأَن استوعى للزبير حَقه، ووبخه الله تَعَالَى فِي كِتَابه بِأَن نفى عَنْهُم الْإِيمَان حَتَّى يرْضوا بالحكم فَقَالَ: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة. وَقيل: وَقعت عُقُوبَته فِي مَاله وَقد كَانَت تقع الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال، كأمره بشق الزقاق وَكسر الجرار عِنْد تَحْرِيم الْخمر، تَغْلِيظًا للتَّحْرِيم. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم على الْأنْصَارِيّ فِي حَال غَضَبه مَعَ نَهْيه أَن يحكم الحكم وَهُوَ غَضْبَان، لِأَنَّهُ يُفَارق غَيره من الْبشر، إِذْ الْعِصْمَة قَائِمَة فِي حَقه فِي حَال الرِّضَا والسخط أَن لَا يَقُول إلاَّ حَقًا. وَفِيه: دَلِيل أَن للْإِمَام أَن يعْفُو عَن التَّعْزِير، كَمَا لَهُ أَن يقيمه.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ العَبَّاسِ قَالَ أبُو عَبْدِ الله: لَيْسَ أحَدٌ يَذْكرُ عُرْوَةَ عنْ عَبْدِ الله إلاَّ اللَّيْثُ فَقَطْ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده عَن الْفربرِي، وَلم يَقع هَذَا فِي رِوَايَة غَيره، وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس السّلمِيّ الْأَصْبَهَانِيّ، وَهُوَ من أَقْرَان البُخَارِيّ وَتَأَخر بعده، مَاتَ سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، يَعْنِي: هُوَ الَّذِي صرح بتفرد اللَّيْث بِذكر عبد الله بن الزبير فِي إِسْنَاده، وَفِيه نظر، لِأَن ابْن وهب روى عَن اللَّيْث وَيُونُس جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب: أَن عُرْوَة حَدثهُ عَن أَخِيه عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، أخرجه النَّسَائِيّ، وَذكر الْحميدِي فِي (جمعه) : أَن الشَّيْخَيْنِ أَخْرجَاهُ من طَرِيق عُرْوَة عَن أَخِيه عبد الله عَن أَبِيه، وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ بِهَذَا السِّيَاق فِي رِوَايَة يُونُس الْمَذْكُور، وَلم يُخرجهَا من أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة إِلَّا النَّسَائِيّ كَمَا ذكرنَا وَالله أعلم، وَمِنْه الْمَنّ علينا.
7 - (بابُ شُرْبِ الأعْلَى قَبْلَ الأسْفَلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شرب الْأَعْلَى قبل الْأَسْفَل، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني: قبل السفلي، قَالَ بَعضهم: وَالْأول(12/204)
أولى. قلت: لَا أَوْلَوِيَّة هُنَا، لِأَن معنى السفلي قبل صَاحب الأَرْض السُّفْلى، وَيجوز أَن يُقَال فِي مَوضِع الْأَعْلَى: الْعليا، على تَقْدِير شرب صَاحب الأَرْض الْعليا، فتذكير الْأَعْلَى والأسفل بِاعْتِبَار الصاحب، وتأنيثهما بِاعْتِبَار الأَرْض بالتقدير الْمَذْكُور.
1632 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ قَالَ خاصَمَ الزُّبَيْرُ رجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا زُبَيْرُ أسقِ ثُمَّ أرْسِلْ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ أنَّهُ ابنُ عَمَّتِكَ فَقَالَ علَيْهِ السَّلامُ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ يَبْلُغُ الماءُ الجَدْرَ ثُمَّ أمْسِكْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ فأحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وربُّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النِّسَاء: 56) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا زبير أسق ثمَّ أرسل) فَإِنَّهُ يعلم مِنْهُ أَن الزبير هُوَ الْأَعْلَى، لِأَن إرْسَال المَاء لَا يكون إلاَّ من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَمعمر، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
قَوْله: (ثمَّ أرسل) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِغَيْر ذكر مَفْعُوله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (ثمَّ أرسل المَاء) . قَوْله: (ثمَّ يبلغ المَاء الْجدر) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (أسق يَا زبير حَتَّى يبلغ المَاء الْجدر) وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر ذكر المَاء، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة من وَجه آخر عَن معمر: (ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك) ، ومعاني بَقِيَّة الْأَلْفَاظ وَالْحكم تقدّمت فِي الْبَاب السَّابِق.
8 - (بابُ شُرْبِ الأعْلى إِلَى الكَعْبَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى بَيَان مِقْدَار المَاء للأعلى.
10 - (حَدثنَا مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا مخلد قَالَ أَخْبرنِي ابْن جريج قَالَ حَدثنِي ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير أَنه حَدثهُ أَن رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير فِي شراج من الْحرَّة يسْقِي بهَا النّخل فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ يَا زبير فَأمره بِالْمَعْرُوفِ ثمَّ أرسل إِلَى جَارك فَقَالَ الْأنْصَارِيّ إِن كَانَ ابْن عَمَّتك فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ اسْقِ ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع المَاء إِلَى الْجدر واستوعي لَهُ حَقه فَقَالَ الزبير وَالله إِن هَذِه الْآيَة أنزلت فِي ذَلِك {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} قَالَ لي ابْن شهَاب فقدرت الْأَنْصَار وَالنَّاس قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر وَكَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وَكَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَعْنِي رُجُوع المَاء إِلَى الْجدر وُصُوله إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت صرح بِهِ ومخلد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وَفِي آخِره دَال مُهْملَة هُوَ ابْن يزِيد وَقد مر فِي الْجُمُعَة وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ قَوْله " فَأمره بِالْمَعْرُوفِ " قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ أمره بِالْعَادَةِ الْمَعْرُوفَة الَّتِي جرت بَينهم فِي مِقْدَار الشّرْب وَهِي جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله اسْقِ يَا زبير وَبَين قَوْله ثمَّ أرسل قَوْله " واستوعي لَهُ " أَي استوفي للزبير حَقه واستوعب وَهُوَ من الْوِعَاء كَأَنَّهُ جمعه لَهُ فِي وعائه وَأبْعد من قَالَ أمره ثَانِيًا أَن يَسْتَوْفِي أَكثر من حَقه عُقُوبَة للْأَنْصَارِيِّ حَكَاهُ ابْن الصّباغ وَالْأَشْبَه أَنه أمره أَن يَسْتَوْفِي حَقه ويستقصي فِيهِ تَغْلِيظًا على الْأنْصَارِيّ وَقَالَ الْخطابِيّ هَذِه الزِّيَادَة تشبه أَن تكون من كَلَام الزُّهْرِيّ وَكَانَت عَادَته أَن يصل بِالْحَدِيثِ من كَلَامه مَا يظْهر لَهُ من معنى الشَّرْح وَالْبَيَان قيل الأَصْل فِي الحَدِيث أَن يكون حكمه كُله وَاحِدًا حَتَّى يرد مَا يبين ذَلِك وَلَا يثبت الإدراج بِالِاحْتِمَالِ قَوْله قَالَ ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ الرَّاوِي عَن عُرْوَة وَهَذَا إِلَى آخِره من كَلَام ابْن شهَاب حكى عَنهُ ابْن جريج الرَّاوِي عَنهُ قَوْله وَالنَّاس من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص أَو مَعْهُود غير الْأَنْصَار قَوْله(12/205)
" وَكَانَ ذَلِك " أَي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر قَوْله " إِلَى الْكَعْبَيْنِ " أَي يقدر إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَعْنِي يكون مِقْدَار المَاء الَّذِي يرجع إِلَى الْجدر يبلغ الْكَعْبَيْنِ وَقد ذكرنَا أَحَادِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحكم وَقَالَ ابْن التِّين الْجُمْهُور على أَن الحكم أَن يمسك إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَخَصه ابْن كنَانَة بِالنَّخْلِ وَالشَّجر قَالَ وَأما الزَّرْع فَإلَى الشرَاك وَقَالَ الطَّبَرِيّ الْأَرَاضِي مُخْتَلفَة فَيمسك لكل أَرض مَا يكفيها لِأَن الَّذِي فِي قصَّة الزبير وَاقعَة عين وَقيل معنى قَوْله إِلَى الْجدر أَي إِلَى الْكَعْبَيْنِ قلت إِن كَانَ مُرَاده الْإِشَارَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير فَلهُ وَجه مَا وَإِلَّا فَلَا يَصح تَفْسِير الْجدر بالكعبين (الْجدر هُوَ الأَصْل) هَذَا تَفْسِير لفظ الْجدر الْمَذْكُور فِي الحَدِيث من عِنْد البُخَارِيّ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ وَهَذَا هُنَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده -
9 - (بَاب فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سقِِي المَاء لكل من لَهُ حَاجَة إِلَى ذَلِك.
3632 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ بَيْنَا رَجُلٍ يَمْشِي فاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ فنَزلَ بِئْرا فَشَرِبَ منْهَا ثُمَّ خَرَجَ فإذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ فقالَ لَقدْ بلغَ هَذَا مثلُ الَّذِي بلَغَ بِي فَمَلأَ خفَّهُ (ثمَّ أمْسكهُ بغيه) ثمَّ رَقِيَ فسَقَى الكَلْبَ فشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رسولَ الله وإنَّ لَنا فِي البَهَائِمِ أجْراً قالَ فِي كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُمَي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَظَالِم عَن القعْنبِي، وَفِي الْأَدَب عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي، أربعتهم عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَينا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أَصله: بَين، فأشبعت فَتْحة النُّون فَصَارَ: بَينا، ويضاف إِلَى جملَة، وَهِي هُنَا قَوْله: (رجل يمشي) . قَوْله: (فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ) ، الْفَاء فِيهِ وَقعت هُنَا موقع: إِذا، تَقْدِيره: بَينا رجل يمشي إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطش، وَهُوَ جَوَاب: بَينا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمَظَالِم: بَيْنَمَا، وَكِلَاهُمَا سَوَاء فِي الحكم، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي الموطآت. من طَرِيق روح عَن مَالك: يمشي بفلاة، وَله من طَرِيق ابْن وهب عَن مَالك: يمشي بطرِيق مَكَّة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة مُسلم هَذِه: الْفَاء، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن الْأَفْصَح أَن يَقع جَوَاب: بَينا وبينما بِلَا كلمة، إِذْ وَإِذا، وَلَكِن وُقُوعه بهما كثير. قَوْله: الْعَطش، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: العطاش، وَهُوَ دَاء يُصِيب الْإِنْسَان فيشرب فَلَا يرْوى، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالصَّوَاب الْعَطش، قَالَ: وَقيل: يَصح على تَقْدِير أَن الْعَطش يحدث مِنْهُ دَاء فَيكون العطاش إسماً للداء كالزكام. قَوْله: (فَإِذا هُوَ) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (يَأْكُل الثرى) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة مَقْصُور يكْتب بِالْيَاءِ، وَهُوَ التُّرَاب الندي. قَوْله: (يَلْهَث) ، جملَة وَقعت حَالا من الْكَلْب، قَالَ ابْن قرقول: لهث الْكَلْب بِفَتْح الْهَاء وَكسرهَا إِذا أخرج لِسَانه من الْعَطش أَو الْحر، واللهاث، بِضَم اللَّام: الْعَطش، وَكَذَلِكَ الطَّائِر. ولهث الرجل إِذا أعيى. وَيُقَال: مَعْنَاهُ يبْحَث بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ فِي الأَرْض، وَفِي (الْمُنْتَهى) : هُوَ ارْتِفَاع النَّفس يَلْهَث لهثاً ولهاثاً، ولهث بِالْكَسْرِ يَلْهَث لهثاً ولهاثاً مثل: سمع سَمَاعا إِذا عَطش. قَوْله: (بلغ هَذَا مثل الَّذِي بلغ بِي) ، أَي: بلغ هَذَا الْكَلْب مثل الَّذِي،(12/206)
بِنصب اللَّام على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: بلغ هَذَا مبلغا مثلَ الَّذِي بلغ بِي، وَضَبطه الْحَافِظ الدمياطي بِخَطِّهِ بِضَم: مثل، قَالَ بَعضهم: وَلَا يخفى تَوْجِيهه. قلت: كَأَنَّهُ لم يقف على تَوْجِيهه، وَهُوَ أَن يكون لفظ: هَذَا، مفعول بلغ، وَقَوله: مثل الَّذِي بلغ بِي، فَاعله فارتفاعه حِينَئِذٍ على الفاعلية. قَوْله: (فَمَلَأ خفه) فِيهِ مَحْذُوف قبله تَقْدِيره: (فَنزل فِي الْبِئْر فَمَلَأ خفه) ، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (فَنزع أحد خفيه) . قَوْله: (ثمَّ أمْسكهُ بِفِيهِ) ، أَي: بفمه. وَإِنَّمَا أمسك خفه بفمه لِأَنَّهُ كَانَ يعالج بيدَيْهِ ليصعد من الْبِئْر، فَدلَّ هَذَا أَن الصعُود مِنْهَا كَانَ عسراً. قَوْله: (ثمَّ رقي) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْقَاف على مِثَال: صعد وزنا وَمعنى، يُقَال: رقيت فِي السّلم بِالْكَسْرِ: إِذا صعدت، وَذكره ابْن التِّين بِفَتْح الْقَاف على مِثَال: مضى، وَأنْكرهُ. وَقَالَ عِيَاض فِي (الْمَشَارِق) : هِيَ لُغَة طيىء، يفتحون الْعين فِيمَا كَانَ من الْأَفْعَال معتل اللَّام، وَالْأول أفْصح وَأشهر. قَوْله: (فسقى الْكَلْب) ، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح: حَتَّى أرواه من الإرواء من الرّيّ، وَقد مَضَت هَذِه الرِّوَايَة فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَنهُ إِسْحَاق عَن عبد الصَّمد عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن رجلا رأى كَلْبا يَأْكُل الثرى من الْعَطش، فَأخذ الرجل خفه فَجعل يغْرف لَهُ بِهِ حَتَّى أرواه، فَشكر الله لَهُ حَتَّى أدخلهُ الْجنَّة. قَوْله: فَشكر الله لَهُ، أَي: أثنى عَلَيْهِ أَو قبل عمله، فغفر لَهُ، فالفاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة، أَي: بِسَبَب قبُول عمله غفر لَهُ، كَمَا فِي قَوْلك: إِن يسلم فَهُوَ فِي الْجنَّة، أَي: بِسَبَب إِسْلَامه هُوَ فِي الْجنَّة، وَيجوز أَن تكون الْفَاء تفسيرية، تَفْسِير قَوْله: فَشكر الله لَهُ لِأَن غفرانه لَهُ هُوَ نفس الشُّكْر، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 45) . على قَول من فسر التَّوْبَة بِالْقَتْلِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: معنى قَوْله: فَشكر الله لَهُ، أَي: أظهر مَا جازاه بِهِ عِنْد مَلَائكَته، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام. قلت: لَا يَصح هَذَا هُنَا، لِأَن شكر الله لهَذَا الرجل عبارَة عَن مغفرته إِيَّاه، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (قَالُوا) أَي: الصَّحَابَة، من جُمْلَتهمْ سراقَة بن مَالك ابْن جعْشم، روى حَدِيثه ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن مَالك بن جعْشم عَن أَبِيه عَن عَمه سراقَة بن مَالك بن جعْشم، قَالَ: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الضَّالة من الْإِبِل تغشى حياضي قد لطتها لإبلي، فَهَل لي من أجر إِن سقيتها؟ فَقَالَ: نعم، فِي كل ذَات كبد حرى أجر. قَوْله: (وَإِن لنا) ، هُوَ مَعْطُوف على شَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره: الْأَمر كَمَا ذكرت، وَإِن لنا فِي الْبَهَائِم أجرا، أَي: فِي سقيها أَو فِي الْإِحْسَان إِلَيْهَا. قَوْله: (فِي كل كبد) ، يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: فتح الْكَاف وَكسر الْبَاء وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْبَاء للتَّخْفِيف، كَمَا قَالُوا فِي الْفَخْذ فَخذ، وَكسر الْكَاف وَسُكُون الْبَاء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الكبد يذكر وَيُؤَنث، وَلِهَذَا قَالَ: رطبَة، وَالْجمع أكباد وأكبد وكبود. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي كبد كل حَيّ من ذَوَات الْأَنْفس، وَالْمرَاد بالرطبة رُطُوبَة الْحَيَاة أَو هُوَ كِنَايَة عَن الْحَيَاة. قَوْله: (أجر) ، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما قَوْله: (فِي كل كبد) ، تَقْدِيره: أجر حَاصِل أَو كَائِن فِي إرواء كل ذِي كبد حَيّ. وَأبْعد الْكرْمَانِي فِي سُؤَاله هُنَا حَيْثُ يَقُول: الكبد لَيست ظرفا لِلْأجرِ، فَمَا معنى كلمة الظَّرْفِيَّة؟ ثمَّ قَالَ: تَقْدِيره الْأجر ثَابت فِي إرواء أَو فِي رِعَايَة كل حَيّ وَجه الإبعاد: أَن كل من شم شَيْئا من علم الْعَرَبيَّة يعرف أَن الْجَار وَالْمَجْرُور لَا بُد أَن يتَعَلَّق بِشَيْء، إِمَّا ظَاهرا أَو مُقَدرا، فَإِذا لم يصلح الْمَذْكُور أَن يتَعَلَّق بِهِ يقدر لفظ: كَائِن أَو حَاصِل أَو نَحْوهمَا، فَلَا حَاجَة إِلَى السُّؤَال وَالْجَوَاب، ثمَّ قَالَ: أَو الْكَلِمَة للسَّبَبِيَّة، يَعْنِي: كلمة: فِي، للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَمَعَ هَذَا الْمُتَعَلّق مَحْذُوف، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة الْوَاجِب مائَة إبل، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير هُنَا: بِسَبَب إرواء كل كبد أجر حَاصِل. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا عَام فِي جَمِيع الْحَيَوَانَات. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: هَذَا الحَدِيث كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، وَأما الْإِسْلَام فقد أَمر بقتل الْكلاب فِيهِ. وَأما قَوْله: (فِي كل كبد) ، فمخصوص بِبَعْض الْبَهَائِم مِمَّا لَا ضَرَر فِيهِ لِأَن الْمَأْمُور بقتْله كالخنزير لَا يجوز أَن يقوى لِيَزْدَادَ ضَرَره، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: إِن عُمُومه مَخْصُوص بِالْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَم، وَهُوَ مَا لم يُؤمر بقتْله فَيحصل الثَّوَاب بسقيه، ويلتحق بِهِ إطعامه وَغير ذَلِك من وُجُوه الْإِحْسَان إِلَيْهِ. قلت: الْقلب الَّذِي فِيهِ الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة يجنح إِلَى قَول الدَّاودِيّ، وَفِي الْقلب من قَول أبي عبد الْملك حزازة، وَيتَوَجَّهُ الرَّد على كَلَامه من وُجُوه: الأول: قَوْله: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، لَا دَلِيل عَلَيْهِ، فَمَا الْمَانِع أَن أحدا من هَذِه الْأمة قد فعل هَذَا، وكوشف للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَأخْبرهُ بذلك حثاً لأمته على فعل ذَلِك، وصدور هَذَا الْفِعْل من أحد من أمته يجوز أَن يكون فِي زَمَنه، وَيجوز أَن يكون بعده، بِأَن يفعل أحد(12/207)
هَذَا. وَأعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَنه سَيكون كَذَا وَأخْبرهُ بذلك فِي صُورَة الْكَائِن، لِأَن الَّذِي يُخبرهُ عَن الْمُسْتَقْبل كالواقع لِأَنَّهُ مخبر صَادِق، وكل مَا يُخبرهُ من المغيبات الْآتِيَة كَائِن لَا محَالة. وَالثَّانِي: قَوْله: وَأما الْإِسْلَام، فقد أَمر بقتل الْكلاب لَا يقوم بِهِ دَلِيل على مدعاه، لِأَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الْكلاب فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ ذَلِك بِإِبَاحَة الِانْتِفَاع بهَا للصَّيْد وللماشية وَالزَّرْع، وَلَا شكّ أَن الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم نسخ لذَلِك التَّحْرِيم، وَرفع لحكمه. وَالثَّالِث: دَعْوَى الْخُصُوص تحكم وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، لِأَن تَخْصِيص الْعَام بِلَا دَلِيل إِلْغَاء لحكمه الَّذِي تنَاوله، فَلَا يجوز، وَالْعجب من النَّوَوِيّ أَيْضا أَنه ادّعى عُمُوم الحَدِيث الْمَذْكُور للحيوان الْمُحْتَرَم، وَهُوَ أَيْضا لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وأصل الحَدِيث مَبْنِيّ على إِظْهَار الشَّفَقَة لمخلوقات الله تَعَالَى من الْحَيَوَانَات، وَإِظْهَار الشَّفَقَة لَا يُنَافِي إِبَاحَة قتل المؤذي من الْحَيَوَانَات، وَيفْعل فِي هَذَا مَا قَالَه ابْن التَّيْمِيّ: لَا يمْتَنع إجراؤه على عُمُومه، يَعْنِي: فيسقي ثمَّ يقتل، لأَنا أمرنَا بِأَن نحسن القتلة ونهينا عَن الْمثلَة، فعلى قَول مدعي الْخُصُوص: الْكَافِر الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ الَّذِي اسْتمرّ على ارتداده إِذا قدما للْقَتْل، وَكَانَ الْعَطش قد غلب عَلَيْهِمَا، يَنْبَغِي أَن يَأْثَم من يسقيهما لِأَنَّهُمَا غير محترمين فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَا يمِيل قلب شفوق فِيهِ رَحْمَة إِلَى منع السَّقْي عَنْهُمَا، يسقيان ثمَّ يقتلان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ بَعضهم: فِيهِ: جَوَاز السّفر مُنْفَردا وَبِغير زَاد. قلت: قد ورد النَّهْي عَن سفر الرجل وَحده، والْحَدِيث لَا يدل على أَن رجلا كَانَ مُسَافِرًا، لِأَنَّهُ قَالَ: (بَينا رجل يمشي) ، فَيجوز أَن يكون مَاشِيا فِي أَطْرَاف مَدِينَة أَو عمَارَة، أَو كَانَ مَاشِيا فِي مَوضِع فِي مدينته. وَكَانَ خَالِيا من السكان. فَإِن قلت: قد مضى فِي أَوَائِل الْبَاب أَن فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: يمشي بفلاة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: يمشي بطرِيق مَكَّة؟ قلت: لَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الرجل الْمَذْكُور مُسَافِرًا، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ مُسَافِرًا لَكِن يحْتَمل أَنه كَانَ مَعَه قوم فَانْقَطع مِنْهُم فِي الفلاة لضَرُورَة عرضت لَهُ، فَجرى لَهُ مَا جرى فَلَا يفهم مِنْهُ جَوَاز السّفر وَحده فَافْهَم. وَأما السّفر بِغَيْر زَاد، فَإِن كَانَ فِي علمه أَنه يحصل لَهُ الزَّاد فِي طَرِيقه فَلَا بَأْس، وَإِن كَانَ يتَحَقَّق عَدمه فَلَا يجوز لَهُ بِغَيْر الزَّاد. وَفِيه: الْحَث على الْإِحْسَان إِلَى النَّاس، لِأَنَّهُ إِذا حصلت الْمَغْفِرَة بِسَبَب سقِِي الْكَلْب، فسقي بني آدم أعظم أجرا. وَفِيه: أَن سقِِي المَاء من أعظم القربات. قَالَ بعض التَّابِعين: من كثرت ذنُوبه فَعَلَيهِ بسقي المَاء، فَإِذا غفرت ذنُوب الَّذِي سقى كَلْبا فَمَا ظنكم بِمن سقى مُؤمنا موحداً وأحياه بذلك؟ وَقَالَ ابْن التِّين: وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا: أَنه دخل على رجل فِي السِّيَاق، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟ فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يتأخران وأسودين يدنوان، وأري الشَّرّ ينمى وَالْخَيْر يضمحل، فأعني مِنْك بدعوة يَا نَبِي الله، فَقَالَ: أللهم أشكر لَهُ الْيَسِير، واعف عَنهُ الْكثير، ثمَّ قَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟ فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يدنوان والأسودين يتأخران، وَأرى الْخَيْر ينمي وَالشَّر يضمحل. قَالَ: فَمَا وجدت أفضل عَمَلك؟ قَالَ: سقِِي المَاء. وَفِي حَدِيث سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء. وَفِيه: مَا احْتج بِهِ على جَوَاز الصَّدَقَة على الْمُشْركين لعُمُوم قَوْله: أجر. وَفِيه: أَن المجازاة على الْخَيْر وَالشَّر قد يكون يَوْم الْقِيَامَة من جنس الْأَعْمَال، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل نَفسه بحديدة عذب بهَا فِي نَار جَهَنَّم، وَقَالَ بَعضهم: يَنْبَغِي أَن يكون مَحَله، مَا إِذا لم يُوجد هُنَاكَ مُسلم، فالمسلم أَحَق. قلت: هَذَا قيد لَا يعْتَبر بِهِ، بل تجوز الصَّدَقَة على الْكَافِر، سَوَاء يُوجد هُنَاكَ مُسلم أَو لَا، وَقَالَ بَعضهم أَيْضا: وَكَذَا إِذا دَار الْأَمر بَين الْبَهِيمَة والآدمي الْمُحْتَرَم واستويا فِي الْحَاجة، فالآدمي أَحَق. قلت: إِنَّمَا يكون أَحَق فِيمَا إِذا قسم بَينهمَا، يخَاف على الْمُسلم من الْهَلَاك، إو إِذا أَخذ جُزْءا للبهيمة يخَاف على الْمُسلم، فَأَما إِذا لم يُوجد وَاحِد مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَن لَا تحرم الْبَهِيمَة أَيْضا، لِأَنَّهَا ذَات كبد رطبَة.
تابَعَهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ والرَّبِيعُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ
4632 - حدَّثنا ابنُ أبِي مرْيَمَ حدَّثَنَا نافِعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى صَلاةَ الكُسُوفِ فقالَ دَنَتْ مِنِّي النَّارُ حتَّى قُلْتُ أيْ رَبِّ وأنَا مَعَهُمْ فإذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ تخْدِشُها هِرَّةٌ قَالَ مَا شأْنُ هَذِهِ قَالُوا حبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جوعا. (انْظُر الحَدِيث 547) .(12/208)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الْمَرْأَة لما حبست هَذِه الْهِرَّة إِلَى أَن مَاتَت بِالْجُوعِ والعطش فاستحقت هَذَا الْعَذَاب، فَلَو كَانَت سقتها لم تعذب، وَمن هُنَا يعلم فضل سقِِي المَاء، وَهُوَ المطابق للتَّرْجَمَة.
وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب مَا يقْرَأ بعد التَّكْبِير، وَلَكِن بأطول مِنْهُ.
وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ، وَنَافِع بن عمر بن عبد الله الجُمَحِي من أهل مَكَّة، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: واسْمه زُهَيْر بن عبد الله الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن الزبير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (دنت) أَي: قربت. قَوْله: (أَي رَبِّي) يَعْنِي: يَا رَبِّي. قَوْله: (وَأَنا مَعَهم) ، فِيهِ تعجب وتعجيب واستبعاد من قربه من أهل جَهَنَّم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَيفَ قربوا مني وبيني وَبينهمْ غَايَة الْمُنَافَاة الْمُقْتَضِيَة لبعد المشرقين. قَوْله: (فَإِذا امْرَأَة) كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (حسبت) من كَلَام أَسمَاء. قَوْله: (أَنه قَالَ) ، أَي: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ. قَوْله: (تخدشها) أَي: تكدحها، وأصل الخدش قشر الْجلد بِعُود أَو نَحوه، من خدش يخدش خدشاً من بَاب ضرب يضْرب.
5632 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبد الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ حبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جُوعاً فدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ فَقَالَ وَالله أعْلَمُ لَا أنْتِ أطْعَمْتِيها ولاَ سَقَيْتِيها حِينَ حَبَسْتِيها ولاَ أنْتِ أرْسَلْتِيهَا فأكَلَتْ مِنْ خَشاشِ الأرْضِ. مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب وَفِي الْحَيَوَان عَن هَارُون بن عبد الله وَعبد الله ابْن جَعْفَر الْبَرْمَكِي.
قَوْله: (فِي هرة) أَي: فِي شَأْن هرة أَو بِسَبَب هرة. قَوْله: (فَدخلت فِيهَا) أَي: بِسَبَبِهَا. قَوْله: (قَالَ: فَقَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الله تَعَالَى أَو؟ مَالك خَازِن النَّار، قَوْله: (وَالله أعلم) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: فَقَالَ، وَبَين: لَا أَنْت ... إِلَى آخِره. قَوْله: (أطعمتها) يروي: (أطعميتها) مَعَ أخواتها آلَة بإشباع كسراتها يَاء، قَوْله: (فَأكلت) ويروى: فتأكل. قَوْله: (من خشَاش الأَرْض) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفة الشين الأولى: الحشرات، وَقد تفتح الْخَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ وَقد تضم أَيْضا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الخشاش، بِالْكَسْرِ إلاَّ الطير الصَّغِير فَإِنَّهُ بِالْفَتْح. وَفِي (الْغَرِيب) للْمُصَنف: الخشاش شرار الطير.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَظَاهر الحَدِيث يدل على تملك الْهِرَّة لِأَنَّهُ أضافها للْمَرْأَة بِاللَّامِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَة فِي الْملك. وَفِيه: أَن النَّار مخلوقة. وَفِيه: أَن بعض النَّاس معذب الْيَوْم فِي جَهَنَّم. وَفِيه: فِي تعذيبها بِسَبَب الْهِرَّة دلَالَة على أَن فعلهَا كَبِيرَة لِأَنَّهَا أصرت عَلَيْهِ.
01 - (بابُ مَنْ رَأى أنَّ صاحِبَ الحَوْضِ أوْ الْقَرْبَةِ أحَقُّ بِمائِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من رأى إِلَى آخِره، وَالْحكم فِيهِ أَن من كَانَ لَهُ حَوْض فِيهِ مَاؤُهُ أَو مَعَه قربَة فِيهَا مَاء فَهُوَ أَحَق بذلك المَاء من غَيره، لِأَنَّهُ ملكه وَتَحْت يَده وَله التَّصَرُّف فِيهِ بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَنَحْو ذَلِك، وَلَا يجوز لغيره أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إلاَّ بِإِذْنِهِ إلاَّ الْمُضْطَر فِي الشّرْب، كَمَا مر تَفْصِيله فِيمَا مضى.
6632 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا عبدُ العزِيزِ عنْ أبِي حازمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أتِيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فشَرِبَ وعنْ يَمِينِهِ غُلامٌ هُوَ أحْدَثُ القَوْمِ والأشْيَاخُ عنْ يَسَارِهِ قَالَ يَا غُلامُ أتأْذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَ الأشْيَاخَ فَقَالَ مَا كُنْتُ لاُِوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أحدَاً يَا رسولَ الله فأعْطَاهُ إيَّاهُ. .
قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ أَن الْأَيْمن أَحَق بالقدح من غير. وَأجِيب: بِأَن(12/209)
مُرَاد البُخَارِيّ أَن الْأَيْمن إِذا اسْتحق مَا فِي الْقدح بِمُجَرَّد جُلُوسه واختص بِهِ، فَكيف لَا يخْتَص صَاحب الْيَد والمتسبب فِي تَحْصِيله؟ قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْفرق ظَاهر بَين الاستحقاقين، فاستحقاق الْأَيْمن غير لَازم حَتَّى إِذا منع لَيْسَ لَهُ الطّلب الشَّرْعِيّ، بِخِلَاف اسْتِحْقَاق صَاحب الْيَد، وَهَذَا ظَاهر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه تعلقه أَي: تعلق الحَدِيث بالترجمة قِيَاس مَا فِي الْقرْبَة والحوض على مَا فِي الْقدح، وَتصرف بَعضهم فِيهِ بقوله: ومناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، إِلْحَاقًا للحوض والقربة بالقدح، فَكَأَن صَاحب الْقدح أَحَق بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ شرباً وسقياً. انْتهى. قلت: أما قِيَاس الْكرْمَانِي فَقِيَاس بالفارق، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَأما قَول بَعضهم: إِلْحَاقًا للحوض والقربة بالقدح، فَإِن كَانَ مُرَاده بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فَغير صَحِيح لما ذكرنَا، وَإِن كَانَ مُرَاده من الْإِلْحَاق أَن صَاحب الْقدح مثل صَاحب الْقرْبَة فِي الحكم فَلَيْسَ كَذَلِك على مَا لَا يخفى. وَقَوله: فَكَانَ صَاحب الْقدح أَحَق بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ شرباً وسقياً، لَا يَخْلُو أَن يقْرَأ قَوْله: فَكَانَ، بكاف التَّشْبِيه دخلت على: أَن، بِفَتْح الْهمزَة، أَو: كَانَ، بِلَفْظ الْمَاضِي من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وأيّاً مَا كَانَ ففساده ظَاهر يعرف بِالتَّأَمُّلِ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا مُطَابقَة هُنَا بَين الحَدِيث والترجمة إلاَّ بِالْجَرِّ الثقيل، بِأَن يُقَال: صَاحب الْحَوْض مثل صَاحب الْقدح فِي مُجَرّد الِاسْتِحْقَاق مَعَ قطع النّظر عَن اللُّزُوم وَعَدَمه، والْحَدِيث مضى قبل هَذِه بِثمَانِيَة أَبْوَاب فِي: بَاب فِي الشّرْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد، وَهنا أخرجه: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْعَزِيز عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن سهل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
15 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا غنْدر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأذودن رجَالًا عَن حَوْضِي كَمَا تذاد الغريبة من الْإِبِل عَن الْحَوْض) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله عَن حَوْضِي فَإِنَّهُ يدل على أَنه أَحَق بحوضه وَبِمَا فِيهِ والترجمة أَن صَاحب الْحَوْض أَحَق بِهِ وغندر بِضَم الْغَيْن وَسُكُون النُّون مر غير مرّة وَهُوَ لقبه واسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ ربيب شُعْبَة وَمُحَمّد بن زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف الْقرشِي الجُمَحِي أَبُو الْحَارِث الْمدنِي مر فِي بَاب غسل الأعقاب وَلَا يشْتَبه عَلَيْك بِمُحَمد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا تابعيا. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ وَفِي التَّلْوِيح لما أعَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْحَوْض ذكره مُعَلّقا من طَرِيق عبيد الله بن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا كَاد أَن يبلغ مبلغ الْقطع والتواتر على رَأْي جمَاعَة من الْعلمَاء يجب الْإِيمَان بِهِ فِيمَا حَكَاهُ غير وَاحِد وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة مِنْهُم فِي الصَّحِيح ابْن عمر وَابْن مَسْعُود وَجَابِر بن سَمُرَة وجندب بن عبد الله وَزيد بن أَرقم وَعبد الله بن عَمْرو وَأنس بن مَالك وَحُذَيْفَة وَعند أبي الْقَاسِم اللالكائي ثَوْبَان وَأَبُو بردة وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَبُرَيْدَة وَعَن القَاضِي أبي الْفضل وَعقبَة بن عَامر وحارثة بن وهب والمستورد وَأَبُو بَرزَة وَأَبُو أُمَامَة وَعبد الله بن زيد وَسَهل بن سعد وسُويد بن جبلة وَأَبُو بكر الصّديق والفاروق والبراء وَعَائِشَة وَأُخْتهَا أَسمَاء وَأَبُو بكرَة وَخَوْلَة بن قيس وَأَبُو ذَر والصنابحي فِي آخَرين (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لأذودن " أَي لأطردن من ذاد يذود ذيادا أَي دَفعه وطرده ويروى فليذادن رجال أَي يطردون وَفِي الْمطَالع كَذَا رَوَاهُ أَكثر الروَاة عَن مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَرَوَاهُ يحيى ومطرف وَابْن نَافِع فَلَا يذادن وَرَوَاهُ ابْن وضاح على الرِّوَايَة الأولى وَكِلَاهُمَا صَحِيح الْمَعْنى والنافية أفْصح وَأعرف وَمَعْنَاهُ فَلَا تَفعلُوا فعلا يُوجب ذَلِك كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أَلفَيْنِ أحدكُم على رقبته بعير أَي لَا تَفعلُوا مَا يُوجب ذَلِك قَوْله " كَمَا تذاد الغريبة من الْإِبِل " أَي كَمَا تطرد النَّاقة الغريبة من الْإِبِل عَن الْحَوْض إِذا أَرَادَت الشّرْب مَعَ إبِله وَعَادَة الرَّاعِي إِذا سَاق الْإِبِل إِلَى الْحَوْض لتشرب أَن يطرد النَّاقة الغريبة إِذا رَآهَا بَينهم وَاخْتلف فِي هَؤُلَاءِ الرِّجَال فَقيل هم المُنَافِقُونَ حَكَاهُ ابْن التِّين وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هم المبتدعون وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هم الَّذين لَا سِيمَا لَهُم من غير هَذِه الْأمة وَذكر قبيصَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنهم هم المرتدون الَّذين بدلُوا وَقَالَ ابْن(12/210)
بطال فَإِن قيل كَيفَ يأْتونَ غرا وَالْمُرْتَدّ لَا غرَّة لَهُ فَالْجَوَاب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ تَأتي كل أمة فِيهَا منافقوها وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا انظرونا نقتبس من نوركم} فصح أَن الْمُؤمنِينَ يحشرون وَفِيهِمْ المُنَافِقُونَ الَّذين كَانُوا مَعَهم فِي الدُّنْيَا حَتَّى يضْرب بَينهم بسور وَالْمُنَافِق لَا غرَّة لَهُ وَلَا تحجيل لَكِن الْمُؤْمِنُونَ سموا غرا بِالْجُمْلَةِ وَإِن كَانَ الْمُنَافِق فِي خلالهم وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فَإِن قيل كَيفَ خَفِي حَالهم على سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد قَالَ تعرض عَليّ أَعمال أمتِي فَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا تعرض أَعمال الْمُوَحِّدين لَا الْمُنَافِقين والكافرين
16 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا معمر عَن أَيُّوب وَكثير بن كثير يزِيد أَحدهمَا على الآخر عَن سعيد بن جُبَير قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم أَو قَالَ لَو لم تغرف من المَاء لكَانَتْ عينا معينا وَأَقْبل جرهم فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ أَن ننزل عنْدك قَالَت نعم وَلَا حق لكم فِي المَاء قَالُوا نعم) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْلهَا لجرهم وَلَا حق لكم فِي المَاء لِأَنَّهَا أَحَق من غَيرهَا وَقَالَ الْخطابِيّ فِيهِ أَن من أنبط مَاء فِي فلاة من الأَرْض ملكه وَلَا يُشَارِكهُ غَيره فِيهِ إِلَّا بِرِضَاهُ إِلَّا أَنه لَا يمْنَع فَضله إِذا اسْتغنى عَنهُ وَإِنَّمَا شرطت هَاجر عَلَيْهِم أَن لَا يتملكوه قَوْله وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ وَكثير بن كثير ضد الْقَلِيل فِي اللَّفْظَيْنِ ابْن الْمطلب السَّهْمِي وَهُوَ عطف على أَيُّوب قيل يلْزم أَن يكون كل مِنْهُمَا مزيدا أَو مزيدا عَلَيْهِ أُجِيب نعم باعتبارين. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مطولا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِيه أَيْضا عَن أبي عَامر وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَمُحَمّد بن عبد الله بن الْمُبَارك عَن أبي عَامر الْعَقدي وَعُثْمَان بن عمر كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع قَوْله " أم إِسْمَاعِيل " هِيَ هَاجر وَكَانَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَار إِلَى مصر لما وَقع الْقَحْط بِالشَّام لِلْمِيرَةِ وَمَعَهُ سارة وَلُوط عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ بهَا أول الفراعنة سِنَان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل غير ذَلِك وَكَانَت سارة من أجمل النِّسَاء وَجرى مَا جرى بَينه وَبَين إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبَب سارة على مَا ذكره أهل السّير فآخر الْأَمر نجى الله سارة من هَذَا الفرعون فَأَخْدَمَهَا هَاجر وَاخْتلف فِيهَا فَقَالَ مقَاتل كَانَت من ولد هود صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الضَّحَّاك كَانَت بنت ملك مصر وَكَانَ سَاكِنا بمنف فغلبه ملك آخر فَقتله وسبى ابْنَته فاسترقها ووهبها لسارة ثمَّ وهبتها سارة لإِبْرَاهِيم فواقعها فَولدت إِسْمَاعِيل ثمَّ حمل إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل وَأمه هَاجر إِلَى مَكَّة وَذَلِكَ لأمر يطول ذكره وَمَكَّة إِذْ ذَاك عضاه وَسلم وَسمر فأنزلهما فِي مَوضِع الْحجر وَكَانَ مَعَ هَاجر شنة مَاء وَقد نفد فعطشت وعطش الصَّبِي فَنزل جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَاء بهما إِلَى مَوضِع زَمْزَم فَضرب بعقبه ففارت عين فَلذَلِك يُقَال لزمزم ركضة جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا نبع المَاء أخذت هَاجر شنتها وَجعلت تستقي فِيهَا تدخره وَهِي تَفُور قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم لكَانَتْ عينا معينا فَشَرِبت وَقَالَ لَهَا جِبْرِيل لَا تخافي الظمأ على أهل هَذِه الْبَلدة فَإِنَّهَا عين ستشرب مِنْهَا ضيفان الله وَإِن هَهُنَا بَيت الله يَبْنِي هَذَا الْغُلَام وَأَبوهُ فَكَانَ كَذَلِك حَتَّى مرت رفْقَة من جرهم تُرِيدُ الشَّام مُقْبِلين من طَرِيق كَذَا فنزلوا فِي أَسْفَل مَكَّة فَرَأَوْا طائرا على الْجَبَل فَقَالُوا إِن هَذَا الطَّائِر ليدور على المَاء وعهدنا بِهَذَا الْوَادي وَمَا فِيهِ مَاء فأشرفوا فَإِذا هم بِالْمَاءِ فَقَالُوا لهاجر إِن شِئْت كُنَّا مَعَك وانسناك وَالْمَاء ماؤك فَأَذنت لَهُم فنزلوا هُنَاكَ فهم أول سكان مَكَّة فَكَانُوا هُنَاكَ حَتَّى شب إِسْمَاعِيل وَمَاتَتْ هَاجر فَتزَوج إِسْمَاعِيل امْرَأَة مِنْهُم يُقَال لَهَا الجداء ابْنة سعد العملاقي وَأخذ لسانهم فتعرب بهم وحكايته طَوِيلَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع بسطها ثمَّ اعْلَم أَن جرهم صنفان الأولى كَانُوا على عهد عَاد فبادوا ودرست أخبارهم وهم من الْعَرَب البائدة وجرهم الثَّانِيَة من ولد جرهم بن قطحان وَكَانَ جرهم أَخا يعرب بن قحطان فَملك يعرب الْيمن وَملك أَخُوهُ جرهم الْحجاز وَقَالَ الرشاطي(12/211)
جرهم وَابْن عَمه قطورا هما كَانَا أهل مَكَّة وَكَانَا قد ظعنا من الْيمن فَأَقْبَلَا سيارة وعَلى جرهم مضاض بن عمر وعَلى قطورا السميدع رجل مِنْهُم فَنزلَا مَكَّة وجرهم بن قحطان بن عَامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله " لَو تركت زَمْزَم " بِأَن لَا تغرف مِنْهَا إِلَى الْقرْبَة وَلَا تشح بهَا لكَانَتْ عينا معينا بِفَتْح الْمِيم أَي جَارِيا قَوْله " أَو قَالَ " شكّ من الرَّاوِي قَوْله أَتَأْذَنِينَ خطاب لهاجر بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار قَوْله " أَن ننزل " بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر ويروى أَن أنزل بِاعْتِبَار قَول كل وَاحِد مِنْهُم قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) نعم مقررة لما سبق وَهَهُنَا النَّفْي سَابق (قلت) يسْتَعْمل فِي الْعرف مقَام بلَى وَلِهَذَا يثبت بِهِ الْإِقْرَار حَيْثُ يُقَال أَلَيْسَ لي عَلَيْك ألف فَقَالَ نعم (قلت) التَّحْقِيق فِيهِ أَن بلَى لَا تَأتي إِلَّا بعد نفي وَأَن نعم تَأتي بعد نفي وَإِيجَاب فَلَا يحْتَاج أَن يُقَال يسْتَعْمل فِي الْعرف مقَام بلَى -
9632 - حدَّثنا عبد الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وعنْ أبي صالِحٍ السَّمَّانِ عنْ إبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَلاَثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ولاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ رجُلٌ حَلَفَ علَى سِلْعةٍ لقَدْ أعْطَى أكْثَرَ مِمَّا أعْطَى وهْوَ كاذِبٌ ورجُلٌ حلَفَ علَى يَمِينٍ كاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِها مالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ورَجُلٌ منَعَ فَضْلَ ماءٍ فيَقُولُ الله الْيَوْمَ أمْنَعُكَ فَضْلِي كَما منَعْتَ فَضْلَ مالَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَرجل منع فضل مَاء) ، لِأَنَّهُ اسْتحق الْعقَاب فِي الْفضل، فَدلَّ هَذَا أَنه أَحَق بِالْأَصْلِ الَّذِي فِي حَوْضه، أَو فِي قربته، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان السمان، والْحَدِيث مضى قبل هَذَا الْبَاب بأَرْبعَة أَبْوَاب فِي: بَاب إِثْم من منع ابْن السَّبِيل من المَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَكِن بَينهمَا بعض اخْتِلَاف فِي الْمَتْن بِزِيَادَة ونقصان يعلم بِالنّظرِ، فَإِن فِيهِ هُنَاكَ الرجل المبايع للْإِمَام هُوَ ثَالِث الثَّلَاثَة، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا إِذا لم يحصر على هَذِه الثَّلَاثَة وَلَا على تِلْكَ الثَّلَاثَة.
قَوْله: (أَكثر مِمَّا أعْطى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى على صِيغَة الْمَعْلُوم أَي: أَكثر مِمَّا أعْطى فلَان الَّذِي يستامه. قَوْله: (وَهُوَ كَاذِب) جملَة حَالية. قَوْله: (الْيَوْم أمنعك فضلي) أَي: إِنَّك إِذا كنت تمنع فضل المَاء الَّذِي لَيْسَ بعملك، وَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْك أمنعك الْيَوْم فضلي مجازاة لما فعلت. وَقيل: قَوْله: الْيَوْم أمنعك ... إِلَى آخِره، إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أأنتم أنزلتموه من المزن أم نَحن المنزلون} (الْوَاقِعَة: 96) . وَحكى ابْن التِّين عَن أبي عبد الْملك أَنه قَالَ: هَذَا يخفي مَعْنَاهُ، وَلَعَلَّه يُرِيد أَن الْبِئْر لَيست من حفره، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَنعه غَاصِب ظَالِم، وَهَذَا لَا يرد فِيمَا حازه وَعَمله، وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ حفرهَا ومنعها من صَاحب الشّفة، أَي: العطشان، وَيكون معنى: مَا لم تعْمل يداك، أَي: لم تنبع المَاء وَلَا أخرجته. قلت: تَقْيِيد هَذَا بالبئر لَا معنى لَهُ، لِأَن قَوْله: وَرجل منع فضل مَاء، أَعم من أَن يكون ذَلِك الْفضل فِي الْبِئْر أَو فِي الْحَوْض أَو فِي الْقرْبَة وَنَحْو ذَلِك.
وقالَ عَلِيٌّ حدَّثنا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سَمِعَ أبَا صالِحٍ يبْلُغُ بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار سمع أَبَا صَالح ذكْوَان يبلغ بِهِ، أَي يرفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سُفْيَان كَانَ يُرْسل هَذَا الحَدِيث كثيرا، وَلكنه صحّح الْمَوْصُول لِأَنَّهُ سَمعه من الْحفاظ مَوْصُولا وَوَصله أَيْضا عَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه مُسلم عَنهُ عَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أرَاهُ مَرْفُوعا، وَالله أعلم.
11 - (بابٌ لاَ حِمَى إلاَّ لله ولِرَسُولِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ، وَعقد هَذِه التَّرْجَمَة بِلَفْظ حَدِيث الْبَاب من غير زِيَادَة عَلَيْهِ، والحمى، بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْمِيم بِلَا تَنْوِين مَقْصُور، وَفِي (الْمغرب) : الْحمى: مَوضِع الْكلأ يحمى من النَّاس(12/212)
وَلَا يرْعَى وَلَا يقرب، وَفِي (الصِّحَاح) : حميته حماية أَي: دفعت عَنهُ، وَهَذَا شَيْء حمى على فعل أَي: مَحْظُور لَا يقرب. قلت: دلّ هَذَا أَن لفظ: حمى، اسْم غير مصدر، وَهُوَ على وزن فعل بِكَسْر الْفَاء بِمَعْنى مفعول، أَي: محمي مَحْظُور، هَذَا مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، وَمَعْنَاهُ الاصطلاحي: مَا يحمي الإِمَام من الْموَات لمواشٍ يعينها وَيمْنَع سَائِر النَّاس من الرَّعْي فِيهَا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قيل: كَانَ الشريف فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا نزل أَرضًا فِي حيه استعوى كَلْبا فحمى مدى عواء الْكَلْب لَا يُشْرك فِيهِ غَيره، وَهُوَ يُشَارك الْقَوْم فِي سَائِر مَا يرعون فِيهِ، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، وأضاف. الْحمى إِلَى الله وَرَسُوله إلاَّ مَا يحمى للخيل الَّتِي ترصد للْجِهَاد وَالْإِبِل الَّتِي يحمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، وإبل الزَّكَاة وَغَيرهَا، كَمَا حمى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، النقيع، بالنُّون: لنعم الصَّدَقَة وَالْخَيْل الْمعدة فِي سَبِيل الله. قيل: فِيهِ نظر من حَيْثُ إِن الْمُلُوك والأشراف كَانُوا يحْمُونَ بِمَا شاؤا، فَلم يحك أحد أَنهم كَانُوا يحْمُونَ بالكلب إلاَّ مَا نقل عَن وَائِل بن ربيعَة التغلبي، فَغلبَتْ عَلَيْهِ اسْم كُلَيْب، لِأَنَّهُ حمى الْحمى بعواء كلب كَانَ يقطع يَدَيْهِ ويدعه وسط مَكَان يُريدهُ، فَأَي مَوضِع بلغ عواؤه لَا يقربهُ أحد وبسببه، كَانَت حَرْب البسوس الْمَشْهُورَة. وَقَالَ ابْن بطال: أصل الْحمى الْمَنْع، يَعْنِي: لَا مَانع لما لَا مَالك لَهُ من النَّاس من أَرض أَو كلأ إلاَّ الله وَرَسُوله، قَالَ: وَذكر ابْن وهب أَن النقيع الَّذِي حماه سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدره ميل فِي ثَمَانِيَة أَمْيَال، والنقيع بالنُّون الْمَفْتُوحَة وَالْقَاف الْمَكْسُورَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: على عشْرين فرسخاً من الْمَدِينَة، وَقيل: على عشْرين ميلًا، ومساحته بريد فِي بريد، قَالَ ياقوت: وَهُوَ غير نَقِيع الْخضمات الَّذِي كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حماه، وَعكس ذَلِك أَبُو عبيد الْبكْرِيّ، وَزعم الْخطابِيّ أَن من النَّاس من يَقُوله بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ تَصْحِيف، وَالْأَصْل فِي النقيع أَنه: كل مَوضِع يستنقع فِيهِ المَاء، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن بَعضهم ذهب إِلَى أَنَّهُمَا وَاحِد، وَالْأول أصح.
0732 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَن يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله ابنِ عبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ الصَّعْبَ بنَ جَثَّامَةَ قَالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ حِمَى إلاَّ لله ولِرَسُولِهِ. (الحَدِيث 0732 طرفه فِي: 3103) .
الحَدِيث عين التَّرْجَمَة فَلَا مُطَابقَة أقوى من هَذَا، وَرِجَاله سَبْعَة كلهم قد ذكرُوا، وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، والصعب ضد السهل ابْن جثامة، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة: اللَّيْثِيّ، مر فِي جَزَاء الصَّيْد وَرِوَايَة اللَّيْث عَن يُونُس من الأقران، لِأَن اللَّيْث قد سمع من شَيْخه ابْن شهَاب أَيْضا. وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد تابعيان: ابْن شهَاب وَعبيد الله، وصحابيان: عبد الله بن عَبَّاس والصعب بن جثامة.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده، وَوَقع فِي (الْإِلْمَام) للشَّيْخ تَقِيّ الَّذين الْقشيرِي: أَنه من الْمُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ وهم، بل رُبمَا يكون من النَّاسِخ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن ابْن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحمى وَفِي السّير عَن أبي كريب عَن ابْن إِدْرِيس عَن مَالك عَن ابْن شهَاب.
قَوْله: (لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) ، أَي: لَا حمى لأحد يخص نَفسه يرْعَى فِيهِ مَاشِيَته دون سَائِر النَّاس، وَإِنَّمَا هُوَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلمن ورد ذَلِك عَنهُ من الْخُلَفَاء بعده إِذا احْتَاجَ إِلَى ذَلِك لمصْلحَة الْمُسلمين، كَمَا فعل الصّديق والفاروق وَعُثْمَان لما احتاجوا إِلَى ذَلِك، وَعَابَ رجل من الْعَرَب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: بِلَاد الله حميت لمَال الله، وَأنكر أَيْضا على عُثْمَان أَنه زَاد فِي الْحمى، وَلَيْسَ لأحد أَن يُنكر ذَلِك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تقدم إِلَيْهِ ولخلفائه الِاقْتِدَاء بِهِ والاهتداء، وَإِنَّمَا يحمى الإِمَام مَا لَيْسَ بِملك لأحد مثل بطُون الأودية وَالْجِبَال والموات، وَإِن كَانَ ينْتَفع الْمُسلمُونَ بِتِلْكَ الْمَوَاضِع فمنافعهم فِي حماية الإِمَام أَكثر. وَقَالَ ابْن التِّين: معنى الحَدِيث: لَا حمى إلاَّ على مَا أذن الله لرَسُوله أَن يحميه، لَا مَا كَانَ يحميه الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة. قيل: الْأَرْجَح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَن الْحمى مُخْتَصّ بالخليفة، وَمِنْهُم من ألحق بِهِ وُلَاة الأقاليم، وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ لمذهبه فِي اشْتِرَاط إِذن الإِمَام فِي إحْيَاء الْموَات، وَتعقب بِالْفرقِ بَينهمَا، فَإِن الْحمى أخص من الْإِحْيَاء. انْتهى. قلت: حصر الْحمى لله وَلِرَسُولِهِ يدل على أَن حكم الْأَرَاضِي إِلَى الإِمَام، والموات من الْأَرَاضِي، وَدَعوى أخصية الْحمى من الْإِحْيَاء(12/213)
مَمْنُوعَة لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يكون إلاَّ فِيمَا لَا مَالك لَهُ، فيستويان فِي هَذَا الْمَعْنى.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله بلَغَنَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَمَى النَّقِيعَ وأنَّ عُمَرَ حَمى السَّرَفَ والرَّبَذَةَ
وَقع للأكثرين من الروَاة هَكَذَا، وَقَالَ: بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدُونِ لفظ أَبُو عبد الله، وَلم يَقع: قَالَ أَبُو عبد الله، إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقع فِي بعض رِوَايَات البُخَارِيّ: وَقَالَ أَبُو عبد الله: وبلغنا، فَجعله من قَول البُخَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: فَظن بعض الشُّرَّاح أَنه من كَلَام البُخَارِيّ المُصَنّف وَلَيْسَ كَذَلِك. قلت: إِن كَانَ مُرَاده من بعض الشُّرَّاح ابْن التِّين فَلَيْسَ كَذَلِك، لَان ابْن التِّين لم يقل إِنَّه من كَلَام البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ ناقل وَلَيْسَ بقائل، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِي قَوْله: فَجعله، يرجع إِلَى ناقل هَذِه الرِّوَايَة من أبي ذَر وَلَيْسَ يرجع إِلَى ابْن التِّين، وَلم يدر نِسْبَة الظَّن إِلَى أَي شَارِح من شرَّاح البُخَارِيّ، وَالْحَاصِل أَن رِوَايَة الْأَكْثَرين هِيَ الصَّحِيحَة، وَأَن الضَّمِير فِي قَوْله: وَقَالَ: بلغنَا، يرجع إِلَى الزُّهْرِيّ، وَأَنه من الْبَلَاغ الْمَنْسُوب إِلَيْهِ. وَذكر أَبُو دَاوُد أَن الْقَائِل: وبلغنا ... إِلَى آخِره ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ، رَحمَه الله، وروى فِي (سنَنه) من طَرِيق ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، فَذكر الْمَوْصُول، والمرسل جَمِيعًا. أما الْمَوْصُول فَرَوَاهُ عَن سعيد بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن الصعب بن جثامة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمى النقيع، وَقَالَ: لَا حمى إلاَّ لله. وَأما الْمُرْسل فَهُوَ، قَالَ ابْن شهَاب: وَبَلغنِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمى النقيع. قَوْله: (النقيع) ، بالنُّون، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله: (وَأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حمى الشّرف والربذة) عطف على قَوْله: (بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهُوَ أَيْضا من بَلَاغ الزُّهْرِيّ، و: الشّرف، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَفِي آخِره فَاء، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَذكر عِيَاض أَنه عِنْد البُخَارِيّ بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء، وَالصَّوَاب الأول، لِأَن الشّرف بِالْمُعْجَمَةِ من عمل الْمَدِينَة، وبالمهملة وَكسر الرَّاء من عمل مَكَّة، وَلَا تدخله الْألف وَاللَّام، بَينهَا وَبَين مَكَّة سِتَّة أَمْيَال، وَقيل: سَبْعَة، وَقيل: تِسْعَة، وَقيل: اثْنَي عشر، والربذة، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة المفتوحات: قَرْيَة قريبَة من ذَات عرق، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ثَلَاث مراحل، وَقد مر تَفْسِيره فِيمَا مضى أَيْضا. وروى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حمى الربذَة لنعم الصَّدَقَة.
21 - (بابُ شُرْبِ النَّاسِ وسَقْيِ الدَّوَابِّ مِنَ الأنْهَارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال شرب النَّاس وَسقي الدَّوَابّ من الْأَنْهَار، مَقْصُوده الْإِشَارَة إِلَى أَن مَاء الْأَنْهَار الْجَارِيَة غير مُخْتَصّ لأحد. وَقَامَ الْإِجْمَاع على جَوَاز الشّرْب مِنْهَا دون اسْتِئْذَان أحد، لِأَن الله تَعَالَى خلقهَا للنَّاس وللبهائم وَلَا مَالك لَهَا غير الله، فَإِذا أَخذ أحد مِنْهَا شَيْئا فِي وعائه صَار ملكه فيتصرف فِيهِ بِالْبيعِ وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَنَحْوهَا، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا بَأْس بِبيع المَاء بِالْمَاءِ مُتَفَاضلا وَإِلَى أجل، وَقَالَ مُحَمَّد: هُوَ مِمَّا يُكَال أَو يُوزن، وَقد صَحَّ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع، فعلى هَذَا لَا يجوز عِنْده فِيهِ التَّفَاضُل وَلَا النَّسِيئَة لوُجُود عِلّة الرِّبَا، وَهِي الْكَيْل وَالْوَزْن، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، لِأَن الْعلَّة الطّعْم.
1732 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمَّانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْلُ لِرَجُلٍ أجْرٌ ولِرَجُلٍ سِتْرٌ وعلَى رجُلٍ وزْرٌ فأمَّا الَّذِي لَهُ أجْر فرَجُلٌ ربَطَها فِي سَبِيلِ الله فأطالَ بِها فِي مَرْجٍ أوْ رَوْضَةٍ فَما أصَابَتْ فِي طِيَلِها ذَلِكَ مِنَ المَرْجِ أوِ الرَّوْضَةِ كانَتْ لَهُ حَسَناتٍ ولوْ أنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُها فاستَنَّتْ شَرَفاً أوْ شَرَفَيْنِ كانَتْ آثارُها وأرْوَاثُها حَسناتٍ لَهُ ولَوْ أنَّها مَرَّت بِنَهْرٍ فشَرِبَتْ مِنْهُ ولَم يُرِدْ أنْ يَسْقِيَ(12/214)
كَانَ ذلِكَ حَسناتٍ لَهُ فَهْيَ لِذَلِكَ أجرٌ ورجلٌ ربَطهَا تغَنِّياً وتعَفُّفاً ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ الله فِي رِقابِهَا وَلَا ظُهُورِها فَهْيَ لِذَلِكَ سترٌ ورَجلٌ ربَطَهَا فَخْراً ورِياءً ونِوَاءً لأهْلِ الإسْلاَمِ فَهْيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ وسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الحُمُرِ فَقَالَ مَا أُنْزِلَ علَيَّ فِيها شَيءٌ إلاَّ هذهِ الآيَةُ الجامِعَةُ الْفَاذةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهْ ومَنْ يَعْملْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهْ} (الزلزلة: 7، 8) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَلَو أَنَّهَا مرت بنهر فَشَرِبت مِنْهُ) وتوضيحه أَن مَاء النَّهر لَو كَانَ مُخْتَصًّا لأحد لاحتيج إِلَى إِذْنه، وَحَيْثُ أطلقهُ الشَّارِع يدل على أَنه غير مُخْتَصّ بِأحد وَلَا فِي ملك أحد. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمَقْصُود مِنْهُ، أَي: من هَذَا الحَدِيث، قَوْله فِيهِ: (وَلَو أَنَّهَا مرت بنهر فَشَرِبت مِنْهُ) وَلم يرد أَن يسْقِي، فَإِنَّهُ يشْعر بِأَن من شَأْن الْبَهَائِم طلب المَاء وَلَو لم يرد ذَلِك صَاحبهَا، فَإِذا أجر على ذَلِك من غير قصد فيؤجر بِقَصْدِهِ من بَاب الأولى. انْتهى. قلت: غَرَض هَذَا الْقَائِل من هَذَا الْكَلَام بَيَان الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث الْمَذْكُور، وَلَكِن بمعزل من ذَلِك وَبعد عَظِيم، لِأَن عقد التَّرْجَمَة فِي بَيَان أَن مَاء الْأَنْهَار لَا يخْتَص بِأحد يشرب مِنْهَا النَّاس وَالدَّوَاب، وَلَيْسَت بمعقودة فِي حُصُول الْأجر بِقصد صَاحب الدَّابَّة وَبِغَيْرِهِ قصد إِذا شربت مِنْهُ.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو صَالح ذكْوَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد، وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن القعْنبِي وَفِي التَّفْسِير وَفِي الِاعْتِصَام عَن إِسْمَاعِيل، كِلَاهُمَا عَن مَالك عَنهُ بِهِ وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن يحيى بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن مَالك بِقصَّة الْحمر. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن سُوَيْد بن سعيد وَعَن يُونُس عَن ابْن وهب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْخَيل عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِقصَّة الْخَيل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أجر) : أَي: ثَوَاب. قَوْله: (ستر) أَي: سَاتِر لفقره ولحاله. قَوْله: (وزر) ، أَي: إِثْم وَثقل. قَوْله: (ربطها فِي سَبِيل الله) ، أَي: أعدهَا للْجِهَاد، وَأَصله من ربط الشَّيْء، وَمِنْه المرابط، وَهُوَ الرجل الَّذِي يحبس نَفسه فِي الثغور، والرباط هُوَ الْمَكَان الَّذِي يرابط فِيهِ الْمُجَاهِد ويعد الأهبة لذَلِك، وَقيل: من ربط صَاحبه عَن الْمعاصِي وعقله كمن ربط وعقل. قَوْله: (فَأطَال بهَا فِي مرج) ، أَي: شدها فِي طوله، الطول بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره لَام، وَكَذَلِكَ: الطيل، بِالْيَاءِ مَوضِع الْوَاو، وَهُوَ حَبل طَوِيل يشد أحد طَرفَيْهِ فِي وتد أَو غَيره والطرف الآخر فِي يَد الْفرس ليدور فِيهِ ويرعى، وَلَا يذهب لوجهه. وَقيل: هُوَ الْحَبل تشد بِهِ ويمسك صَاحبه بطرفه ويرسلها ترعى، وَقَالَ ابْن وهب: هُوَ الرسن، والمرج: الأَرْض الواسعة، قَالَ أَبُو الْمعَانِي: يجمع الْكلأ الْكثير وَالْمَاء تمرج فِيهَا الدَّوَابّ حَيْثُ شَاءَت، وَالْجمع: مروج. قَوْله: (طيلها) بِكَسْر الطَّاء، وَقد مر الْآن، وَأنكر يَعْقُوب الْيَاء، وَقَالَ: لَا يُقَال إلاَّ بِالْوَاو. وَعَن الْأَخْفَش: هما سَوَاء، وَزعم الخضراوي: أَن بَعضهم أجَاز فِيهِ: طوال، كَمَا تَقول الْعَامَّة، وَأنكر ذَلِك الزبيدِيّ، وَقَالَ: لَا أعرفهُ صَحِيحا. وَفِي (الْجَامِع) : وَمِنْهُم من يشدد فَيَقُول طول، وَمِنْه قَول الراجز:
(تعرضت لي فِي مَكَان حلي ... تعرض المهرة فِي الطِوَل)
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لم يسمع فِي الطول الَّذِي هُوَ الْحَبل إلاَّ بِكَسْر الأول وَفتح الثَّانِي وشدده الراجز ضَرُورَة، وَقد يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك للتكثير، وَيزِيدُونَ فِي الْحَرْف من بعض حُرُوفه. وَفِي (الْمطَالع) : وَعند الْجِرْجَانِيّ: فِي طولهَا، فِي مَوضِع من البُخَارِيّ، وَكَذَا فِي مُسلم. قَوْله: (فاستنت) ، أَي: أفلتت ومرحت، والاستنان: قَالَ فِي (التَّلْوِيح) : الاستنان تفعل من السّنَن وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) . قلت: هَذَا غلط، بل هُوَ افتعال، وَالسّنَن الْقَصْد، وَقيل: معنى استنت: لجت فِي عدوها إقبالاً وإدباراً، وَقيل: الاستنان يخْتَص بالجري إِلَى فَوق، وَقيل: هُوَ النشاط والمرح، وَفِي (البارع) : هُوَ كالرقص، وَقيل: استنت رعت، وَقيل: الجري بِغَيْر فَارس. قَوْله: (شرفا) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء: مَا أشرف من الأَرْض وارتفع، وَقيل: الشّرف والشرفان(12/215)
الشوط والشوطان، سمي بِهِ لِأَن العادي بِهِ يشرف على مَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ. قَوْله: (آثارها) الْآثَار جمع أثر، وَأثر كل شَيْء بَقِيَّته، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ أثر خطواتها فِي الأَرْض بحافرها. قَوْله: (بنهر) ، بِسُكُون الْهَاء وَفتحهَا لُغَتَانِ فصيحتان ذكرهمَا ثَعْلَب، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الْفَتْح أفْصح، وَقَالَ ابْن خالويه: الأَصْل فِيهِ التسكين، وَإِنَّمَا جَازَ فَتحه لِأَن فِيهِ حرفا من حُرُوف الْحلق. قَالَ: وحروف الْحلق إِذا وَقعت آخر الْكَلَام فتح وَسطهَا، وَإِذا وَقعت وسطا فتحت نَفسهَا، وَقيل: لِأَنَّهُ حرف استعلاء فَفتح لاستعلائه. وَفِي (الموعب) : نهر ونهور مثل جمع وجموع، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: نهر وأنهار مثل جبل وأجبال. قَوْله: (وَلم يرد أَن يسقيها) من بَاب التَّنْبِيه، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يحصل لَهُ هَذِه الْحَسَنَات من غير أَن يقْصد سقيها فَإِذا قَصدهَا فَأولى بأضعاف الْحَسَنَات. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يُرِيد أَن يسقيها أَي: يمْنَعهَا من شرب يَضرهَا إِذا احْتبست للشُّرْب لفوته مَا يأمله أَو إِدْرَاك مَا يخافه، أَو لِأَنَّهُ كره أَن يشرب من مَاء غَيره بِغَيْر إِذْنه. قَوْله: (تغَنِّيا) ، نصب على التَّعْلِيل أَي: اسْتغْنَاء عَن النَّاس بِطَلَب نتاجها الْغنى والعفة. قَوْله: (وَتَعَفُّفًا) ، عطف عَلَيْهِ أَي: لأجل ذَلِك تعففه عَن سُؤَالهمْ بِمَا يعمله عَلَيْهَا ويكتسبه على ظُهُورهَا ويتردد عَلَيْهَا إِلَى متاجره أَو مزارعه وَنَحْو ذَلِك فَتكون سترا لَهُ عَن الْفَاقَة. قَوْله: (ثمَّ لم ينس حق الله فِي رقابها) ، فَيُؤَدِّي زَكَاة تجارتها. قَوْله: (وَلَا ظُهُورهَا) ، أَي: لَا يحمل عَلَيْهَا مَا لَا تُطِيقهُ، وَقيل: أَن يغيث بهَا الملهوف وَمن تجب معونته، وَقيل: لَا ينسى حق الله فِي ظُهُورهَا فيركب عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، وَاسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة على وجوب الزَّكَاة فِي الْخَيل السَّائِمَة، وَقد مر فِي كتاب الزَّكَاة. قَوْله: (فخراً) نصب على التَّعْلِيل، أَي: لأجل التفاخر. قَوْله: (ورياء) عطف عَلَيْهِ، أَي: لأجل الرِّيَاء، ليقال: إِنَّه يُربي خيل كَذَا وَكَذَا. قَوْله: (ونواء) ، عطف على مَا قبله أَيْضا أَي: وَلأَجل النواء، بِكَسْر النُّون وبالمد وَهِي المعاداة وَهِي: أَن يَنْوِي إِلَيْك وتنوي إِلَيْهِ. أَي: ينْهض. وَقَالَ الدَّاودِيّ: بِفَتْح النُّون وَالْقصر، وَقَالَ: كَذَا رُوِيَ وَالْمَعْرُوف الأول. وَقَالَ ابْن قرقول: الْقصر وَفتح النُّون وهم، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: قَالَ ابْن أبي الْحجَّاج عَن أبي المصعب: بَوَاء، بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (عَن الْحمر) بِضَم الْحَاء وَالْمِيم: جمع حمَار. قَوْله: (الفاذة) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، أَي: المنفردة القليلة النظير فِي مَعْنَاهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: سُئِلَ عَن صَدَقَة الْحمر وَأَشَارَ إِلَى الْآيَة بِأَنَّهَا جَامِعَة لاشتمال اسْم الْخَيْر على أَنْوَاع الطَّاعَات، وَجعلهَا فاذة لخلوها عَن بَيَان مَا تحتهَا من تَفْصِيل أَنْوَاعهَا، وجمعت على انفرادها حكم الْحَسَنَات والسيئات المتناولة لكل خير ومعروف، وَمَعْنَاهُ: أَن من أحسن إِلَيْهَا أَو أَسَاءَ رَآهُ فِي الْآخِرَة. وَقيل: إِنَّمَا قيل: إِنَّهَا فاذة إِذْ لَيْسَ مثلهَا آيَة أُخْرَى فِي قلَّة الْأَلْفَاظ وَكَثْرَة الْمعَانِي لِأَنَّهَا جَامِعَة بَين أَحْكَام كل الْخيرَات والشرور، وَكَيْفِيَّة دلَالَة الْآيَة على الْجَواب هِيَ أَن سُؤَالهمْ أَن الْحمار لَهُ حكم الْفرس أم لَا؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ إِن كَانَ لخير فَلَا بُد أَن يجزى جزاءه، وَيحصل لَهُ الْأجر وإلاَّ فبالعكس، وَإِنَّمَا لم يسْأَل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن البغال لقلتهَا عِنْدهم، أَو لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْحمار.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: حجَّة من يحْتَج أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكن مُجْتَهدا، وَإِنَّمَا كَانَ يحكم بِالْوَحْي، ورد بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يظْهر لَهُ أَو لم يُفَسر الله تَعَالَى من أَحْكَامهَا وَأَحْوَالهَا مَا قَالَه فِي الْخَيل وَغَيرهَا. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ، وَهُوَ تَنْبِيه للْأمة على الاستنباط وَالْقِيَاس، وَكَيف يفهم معنى التَّنْزِيل لِأَنَّهُ نبه بِمَا لم يذكر الله فِي كِتَابه، وَهِي: الْحمر، لما ذكر من عمل مِثْقَال ذرة خيرا يره، إِذْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا، وَهَذَا نفس الْقيَاس الَّذِي يُنكره من لَا تَحْصِيل لَهُ. وَفِيه: الْحَث على اقتناء الْخَيل إِذا ربطها فِي سَبِيل الله، أَلا تَرى أَن أرواثها كَانَت حَسَنَات يَوْم الْقِيَامَة؟ وَفِيه: أَن الرِّيَاء مَذْمُوم، وَأَنه وزر، وَلَا يَنْفَعهُ الْعَمَل المشوب بِهِ يَوْم الْقِيَامَة.
2732 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ زِيدَ مولَى الْمُنْبَعِثِ عنْ يَزِيدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ رجُلٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُ عنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِف عِفَاصَها وَوِكاءَهَا ثُمَّ عرِّفْها سَنَةً فإنْ جَاءَ صاحِبُها وإلاَّ فشأْنَكَ بِها قَالَ فَضالَّةُ الغَنَمِ قَالَ هِيَ لَكَ أوْ لاَِخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضالَّةُ الإبِلِ قَالَ مالَكَ ولَها مَعَهَا سِقَاؤُها وحذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حتَّى يَلْقاها ربُّها. .(12/216)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ترد المَاء) بَيَان ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منع عَن الْتِقَاط الْإِبِل لِأَنَّهُ لَا يخَاف عَلَيْهَا من الْعَطش والجوع، فَترد مَاء من الْمِيَاه وتشرب لَا يمْنَعهَا أحد، لِأَن الله خلقه للنَّاس وللبهائم، وَلَيْسَ لَهُ مَالك غير الله تَعَالَى، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس عبد الله ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَرَبِيعَة، بِفَتْح الرَّاء: هُوَ الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، وَيزِيد من الزِّيَادَة.
وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما ربيعَة وَيزِيد.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن أبي عَامر عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة عَن يزِيد عَن زيد بن خَالِد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى، والعفاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالفاء: هُوَ الظّرْف الَّذِي فِيهِ النَّفَقَة، والوكاء: الْخَيط الَّذِي يرْبط بِهِ، والسقاء: الْقرْبَة، والحذاء، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة: مَا وطىء عَلَيْهِ الْبَعِير من خفه، وَأَصله من حذاء النِّعَال، فَقيل لخف الْجمل حذاء من ذَلِك، وَكَذَا يُقَال لحافر الْخَيل.
31 - (بَاب بَيْعِ الحَطَبِ والْكَلإ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْحَطب والكلإ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام وَفِي آخِره همزَة، وَهُوَ العشب سَوَاء كَانَ رطبا أَو يَابسا، وَقد مر تَفْسِيره غير مرّة، وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الشّرْب من حَيْثُ اشْتِرَاك المَاء والحطب والكلأ فِي جَوَاز الإنتفاع بهَا لِأَنَّهَا من الْمُبَاحَات، فَلَا يخْتَص بهَا أحد دون أحد، فَمن سبقت يَده إِلَى شَيْء من ذَلِك فقد ملكه. وَقَالَ ابْن بطال: إِبَاحَة الاحتطاب فِي الْمُبَاحَات والاختلاء من نَبَات الأَرْض مُتَّفق عَلَيْهِ، حَتَّى يَقع ذَلِك فِي أَرض مَمْلُوكَة فترتفع الْإِبَاحَة.
3732 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأنْ يَأخُذَ أحدُكُمْ أحْبُلاً فَياخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ فيَكُفَّ الله بِهِ وجْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَن يَسْألَ النَّاسَ أُعْطِيَ أمْ مُنِعَ. (انْظُر الحَدِيث 1741 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَيَأْخُذ حزمة من حطب فيبيع) ووهيب مصغر وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُوسَى عَن وهب عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن الزبير إِلَى آخِره. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (وَجهه) ، أَي: مَاء وَجهه، أَي: عرضه. قَوْله: (أعطي أم مُنع) ، كِلَاهُمَا على بِنَاء الْمَجْهُول.
4732 - حدَّثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْر قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ أبِي عُبَيدٍ مَوْلَى عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن يَحْتَطِبَ أحَدُكُمْ حُزْمَةً على ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسألَ أحدا فَيُعْطِيَهُ أوْ يَمْنَعَهُ. .
هَذَا الحَدِيث مضى أَيْضا فِي كتاب الزَّكَاة فِي الْبَاب الْمَذْكُور، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَأَبُو عبيد مصغر العَبْد، وَقد مر.
5732 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشامٌ أنَّ ابنَ جرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أخبرَنِي ابنُ شِهَابٍ عنْ عَلِيِّ بنُ حُسَيْنِ بنِ عَلِيٍ ّ عَن أبيهِ حُسَيْنِ بنِ عَلِيّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أنَّهُ قَالَ أصَبْتُ شارفاً مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ وأعْطَانِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شارِفاً أُخْرَى فأنَخْتُهُما يَوْماً عِنْدَ بابِ رجلٍ مِنَ الأنْصارِ وَأَنا أُرِيدُ أنْ أحْمِلَ عَلَيْهِمَا إذْخِراً لاَِبِيعَهُ ومَعِي صائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقاعَ فأسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فاطِمَةَ وحَمْزَةُ(12/217)
ابنُ عبدِ الْمُطَّلِبِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ومَعَهُ قَيْنَةٌ فقالَتْ: أَلا يَا حَمْزَ لِلْشُّرُفِ النِّوَاءِ. فَثارَ إلَيْهِمَا حَمْزَةُ بالسَّيْفِ فَجَب أسْنِمَتَهُمَا وبَقَرَ خَواصِرَهُما ثُمَّ أخَذَ مِنْ أكْبَادِهِما قُلْتِ لابنِ شِهَابٍ ومِنَ السَّنامِ قَالَ قَدْ جبَّ أسْنِمَتَهُمَا فَذَهَبَ بِها قَالَ ابنُ شِهَابٍ قَالَ عَلِيٌّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أفْظَعَنِي فأتَيْتُ نَبيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعِنْدَهُ زَيْدُ بنُ حارِثَةَ فأخْبَرْتُهُ الخَبرَ فخَرَجَ ومَعهُ زَيْدٌ فانْطَلَقْتُ مَعه فَدخلَ على حَمْزَةَ فتَغَيَّظَ علَيْهِ فرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ وَقَالَ هَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لآِبائِي فرَجَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَهْقِرُ حتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ وذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَأَنا أُرِيد أَن أحمل عَلَيْهِمَا إذخراً لأبيعه) ، فَإِنَّهُ يدل على مَا ترْجم بِهِ من جَوَاز الاحتطاب، وَقلع الْإِذْخر وَبيعه من نوع الاحتطاب وَبيع الْحَطب.
وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن صَالح وَفِيه وَفِي الْبيُوع وَفِي اللبَاس وَفِي الْخمس عَن عَبْدَانِ. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد، وَمضى بعض الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا قيل فِي الصواغ، وَمر تَفْسِير مَا ذكر هُنَاكَ. ولنذكر مَا بَقِي وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو عَن تكْرَار، لِأَن كل مَا تكَرر تقرر.
قَوْله: (شارفاً) ، بالشين الْمُعْجَمَة وبالفاء: وَهِي المسنة من النوق. قَوْله: (يَوْم بدر) كَانَت غَزْوَة بدر فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة. قَوْله: (وَمَعِي صائغ) ، ويروى: وَمَعِي رجل صائغ، كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول من الصوغ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعند أبي ذَر طالع، بِاللَّامِ، أَي: دَال على الطَّرِيق، وَفِي (الْمطَالع) : وَمَعِي طالع كَذَا لأكثرهم، فسروه بِالدَّلِيلِ، يَعْنِي: الطليعة، وَوَقع للمستملي وَابْن السكن: صايغ، وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي غير هَذَا الْموضع من هَذَا الْكتاب وَمُسلم وَغَيره، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وصائغ، بِالْمُهْمَلَةِ وبالهمزة بعد الْألف وبالمعجمة، و: طَابع، بِالْمُوَحَّدَةِ، و: طالع، بِاللَّامِ أَي: من يدله عَلَيْهِ ويساعده وَقد يُقَال أَيْضا: إِنَّه اسْم الرجل. قَوْله: (من بني قينقاع) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسر النُّون وَفتحهَا وَضمّهَا ذكر مَعْنَاهُ، قَوْله: (قينة) ، بِفَتْح الْقَاف: الْأمة، وَهَهُنَا المُرَاد بهَا المغينة. قَوْله: (أَلا يَا حمز للشرف النواء) ، وَهَذِه إِشَارَة إِلَى مَا فِي قصيدة مطْلعهَا:
(أَلا يَا حمز للشرف النواء ... وَهن معقَّلات بالفناء)
(ضع السكين فِي اللَّبَّات مِنْهَا ... وضرِّجهن، حَمْزَة، بالدماء)
(وعجِّل من أطايبها لشَرْبٍ ... قَدِيرًا من طبيخٍ أَو شواء)
قَوْله: (الا) ، كلمة تَنْبِيه قَوْله: (يَا حمز) ، مرخم. قَوْله: (للشرف) ، بِضَمَّتَيْنِ: جمع شَارف هِيَ المسنة من النوق، وَقد مر الْآن. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الشّرف الْقَوْم المجتمعون على الشَّرَاب. قَوْله: (النواء) ، بِكَسْر النُّون: صفة للشرف، وَهُوَ جمع: ناوية، وَهِي السمينة وَفِي (الْمطَالع) : النواء السمان و: النيّ، بِكَسْر النُّون وَفتحهَا وَتَشْديد الْيَاء: الشَّحْم، وَيُقَال بِالْفَتْح الْفِعْل وبالكسر الِاسْم، وَيُقَال: نَوَت النَّاقة إِذا سمنت فَهِيَ ناوية، وَالْجمع: نواء، وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ فِي مَوضِع وَعند الْقَابِسِيّ أَيْضا: النَّوَى، بِكَسْر النُّون وبالقصر، وَحكى الْخطابِيّ: أَن عوام الروَاة يَقُولُونَ: النَّوَى، بِفَتْح النُّون وَالْقصر، وَفَسرهُ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ، فَقَالَ: النَّوَى جمع نواة، يُرِيد الْحَاجة. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا وهم وتصحيف، ثمَّ فسر النَّوَى بِمَا تقدم، وَفَسرهُ الدَّاودِيّ بالحبا والكرامة، وَهَذَا أبعد. قَوْله: (وَهن) ، أَي: الشّرف الْمَذْكُورَة. معقلات أَي: مشدودات بالعقال، وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير أَي: يشد ويربط حَتَّى لَا يذهب، وَإِنَّمَا شدد معقلات للتكثير. قَوْله: (بالفناء،) ، بِكَسْر الْفَاء وَهُوَ الْمَكَان المتسع أَمَام الدَّار. قَوْله: فِي اللبات، جمع لبة وَهِي المنحر قَوْله: وضرجهن، أَمر من التضريج، بالضاد الْمُعْجَمَة وبالجيم: التدمية. قَوْله: حَمْزَة، أَي: يَا حَمْزَة، فَحذف مِنْهُ حرف النداء. قَوْله: من أطايبها، جمع أطيب، الْعَرَب تَقول: أطايب الْجَزُور السنام والكبد. قَوْله: لشرب، بِفَتْح الشين وَسُكُون(12/218)
الرَّاء: وَهُوَ الْجَمَاعَة يشربون الْخمر. قَوْله: قَدِيرًا، نصب على أَنه مفعول لقَوْله: وَعجل، والقدير الْمَطْبُوخ فِي الْقدر. قَوْله: (فثار إِلَيْهِمَا) ، أَي: إِلَى الشارفين، وثار من ثار يثور إِذا قَامَ بنهضة. قَوْله: (فجب) ، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة: أَي قطع. قَوْله: (أسنمتها) ، الأسنمة جمع سَنَام، وَلَكِن المُرَاد إثنان، وَهَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) . وَالْمرَاد: قلبا. كَمَا قَوْله: (وبقر) بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْقَاف، أَي: شقّ خواصراهما، وَالْمرَاد: خصراهما، والخاصرة الشاكلة. قَوْله: (ثمَّ أَخذ من أكبادهما) ، الأكباد جمع كبد، وَإِنَّمَا أَخذ من أكبادهما وَأخذ السنامين لأَنا قد ذكرنَا الْآن أَن الْعَرَب تَقول: أطايب الْجَزُور السنام والكبد. قَوْله: (قلت لإبن شهَاب) ، الْقَائِل هُوَ ابْن جريج الرَّاوِي، وَهُوَ من قَوْله هَذَا إِلَى قَوْله: قَالَ عَليّ، لَيْسَ من الحَدِيث، وَهُوَ مدرج وَقَوله: (قَالَ عَليّ) ، هُوَ ابْن أبي طَالب لَا عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَذْكُور فِيهِ، وَذكره ابْن شهَاب تَعْلِيقا. قَوْله: (أفظعني) أَي: خوفني. قَالَ ابْن فَارس: أفظع الْأَمر وفظع: اشْتَدَّ وَهُوَ مفظع وفظين ومادته: فَاء وظاء مُعْجمَة وَعين مُهْملَة. قَوْله: (وَعِنْده زيد بن حَارِثَة) ، أَي: عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل الْقُضَاعِي الْكَلْبِيّ، حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاه، أَصَابَهُ سباء فاشتري لِخَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَوَهَبته لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ صبي فَأعْتقهُ وتبناه. قَالَ ابْن عمر: مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إلاَّ زيد بن مُحَمَّد حَتَّى نزلت {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) . وآخى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينه وَبَين حَمْزَة، قتل بمؤتة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَدخُول عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَزيد بن حَارِثَة عِنْده فِيهِ خُصُوصِيَّة بِهِ، وَكَانُوا يلجأون إِلَيْهِم فِي نوائبهم. قَوْله: (فتغيظ عَلَيْهِ) ، أَي: أظهر الغيظ عَلَيْهِ. قَوْله: (إِلَّا عبيد لآبائي؟) أَرَادَ بِهِ التفاخر عَلَيْهِم بِأَنَّهُ أقرب إِلَى عبد الْمطلب وَمن فَوْقه. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي أَن عبد الله أَبَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا طَالب عَمه كَانَا كالعبدين لعبد الْمطلب فِي الخضوع لِحُرْمَتِهِ وَجَوَاز تصرفه فِي مَالهمَا، وَعبد الْمطلب جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْجد كالسيد. قَوْله: (يقهقر) ، فِي مَحل النصب على الْحَال، وَمَعْنَاهُ: رَجَعَ إِلَى وَرَائه. قَوْله: (وَذَلِكَ قبل تَحْرِيم الْخمر) ، أَي: الْمَذْكُور من هَذِه الْقَضِيَّة كَانَ قبل تَحْرِيم الْخمر، لِأَن حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اسْتشْهد يَوْم أحد وَكَانَ يَوْم أحد فِي السّنة الثَّالِثَة من الْهِجْرَة يَوْم السبت منتصف شَوَّال، وَتَحْرِيم الْخمر بعده، فَلذَلِك عذره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا قَالَ وَفعل وَلم يؤاخذه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن للغانم قد يعْطى من الْغَنِيمَة بِوَجْهَيْنِ: من الْخمس، وَمن الْأَرْبَعَة أَخْمَاس، قَالَه التَّيْمِيّ. وَفِيه: أَن مَالك النَّاقة لَهُ الِانْتِفَاع بهَا بِالْحملِ عَلَيْهَا. وَفِيه: جَوَاز الاحتشاش. وَفِيه: سنة الْوَلِيمَة. وَفِيه: إناخة النَّاقة على بَاب غَيره إِذا لم يتَضَرَّر بِهِ. وَفِيه: تبسط الْمَرْء فِي مَال قَرِيبه إِذا كَانَ يعلم أَنه يحلله مِنْهُ. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد، لِأَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عمل على قَول من أخبر بِفعل حَمْزَة حِين استعدى عَلَيْهِ. وَفِيه: جَوَاز الِاجْتِمَاع على شرب الشَّرَاب الْمُبَاح. وَفِيه: جَوَاز الْغناء بالْقَوْل والمباح من القَوْل وإنشاد الشّعْر. وَفِيه: إِبَاحَة السماع من الْأمة. وَفِيه: جَوَاز النَّحْر بِالسَّيْفِ. وَفِيه: جَوَاز التَّخْيِير فِيمَا يَأْكُلهُ، كاختيار الكبد، وَذَلِكَ لَيْسَ بإسراف. وَفِيه: أَن من دلّ إنْسَانا على مَال لقريبه لَيْسَ ظَالِما. وَفِيه: حل ذَبِيحَة من ذبح نَاقَة غَيره بِغَيْر إِذْنه. وَفِيه: جَوَاز تَسْمِيَة الْإِثْنَيْنِ باسم الْجَمَاعَة. وَفِيه: جَوَاز الاستعداء على الْخصم للسُّلْطَان. وَفِيه: أَن للْإنْسَان أَن يستخدم غَيره فِي أُمُوره، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا زيدا وَذهب بِهِ مَعَه. وَفِيه: سنة الاسْتِئْذَان فِي الدُّخُول واستئذان الْوَاحِد كَاف عَنهُ وَعَن الْجَمَاعَة. وَفِيه: أَن السَّكْرَان يلام إِذا كَانَ يعقل اللوم. وَفِيه: أَن الإِمَام يلقى الْخصم فِي كَمَال الْهَيْئَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ رِدَاءَهُ حِين ذهب إِلَى حَمْزَة. وَفِيه: جَوَاز إِطْلَاق الْكَلَام على التَّشْبِيه، كَمَا قَالَ حَمْزَة: هَل أَنْتُم إلاَّ عبيد آبَائِي؟ أَي: كعبيد آبَائِي؟ وَفِيه: إِشَارَة إِلَى شرف عبد الْمطلب. وَفِيه: عِلّة تَحْرِيم الْخمر من أجل مَا جنى حَمْزَة على الشَّارِع من هجر القَوْل. وَفِيه: أَن للْإِمَام أَن يمْضِي إِلَى أهل بَيت إِذا بلغه أَنهم على مُنكر فيغيره. وَفِيه: أَن تضمين الْجِنَايَات من ذَوي الْأَرْحَام العادم فِيهَا أَن يهدر من أجل الْقَرَابَة، كَمَا هدر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قيمَة الناقتين مَعَ تَأْكِيد الْحَاجة إِلَيْهِمَا، وَإِلَى مَا كَانَ يستقبله من الْإِنْفَاق فِي وَلِيمَة عرسه. وَفِيه: أَن السَّكْرَان إِذا طلق أَو افترى لَا شَيْء عَلَيْهِ، وعورض أَن الشَّارِع وعلياً تركا حقوقهما، وَأَيْضًا فالخمر كَانَت حَلَالا إِذْ ذَاك، بِخِلَاف الْآن، فَيلْزم بذلك(12/219)
لِأَنَّهُ أدخلهُ على نَفسه، هَكَذَا ذكرُوا هَذِه الْأَشْيَاء، وَفِي هَذَا الزَّمَان لَا يمشي بعض ذَلِك، بل يقف عَلَيْهِ من لَهُ اعتناء بالفقه، وَالله أعلم.
41 - (بابُ القطائع)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم القطائع، وَهُوَ جمع قطيعة من: أقطعه الإِمَام أَرضًا يَتَمَلَّكهُ ويستبد بِهِ وينفرد، والإقطاع يكون تَمْلِيكًا وَغير تمْلِيك، وإقطاع الإِمَام تسويفه من مَال الله تَعَالَى لمن يرَاهُ أَهلا لذَلِك، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي إقطاع الأَرْض، وَهُوَ أَن يخرج مِنْهَا شَيْئا يحوزه إِمَّا أَن يملكهُ إِيَّاه فيعمره، أَو يجل لَهُ غَلَّته مُدَّة. قلت: فِي صُورَة التَّمْلِيك يملك الَّذِي أقطع لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُسمى المقطع لَهُ رَقَبَة الأَرْض فَيصير ملكا لَهُ يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك فِي أملاكهم، وَفِي صُورَة جعل الْغلَّة لَهُ لَا يملك إلاَّ مَنْفَعَة الأَرْض دون رقبَتهَا، فعلى هَذَا يجوز للجندي الَّذِي يقطع لَهُ أَن يُؤجر مَا أقطع لَهُ لِأَنَّهُ يملك مَنَافِعهَا، وَأَن لم يملك رقبته، وَله نَظَائِر فِي الْفِقْه. مِنْهَا: أَنه إِذا وَقعت الْمُصَالحَة على خدمَة عبد سنة كَانَ للْمصَالح أَن يؤجره، وَمَعْلُوم أَنه لَا يملك رقبته، وَإِنَّمَا يملك منفعَته. وَمِنْهَا: أَن المستؤجر يملك إِجَارَة مَا اسْتَأْجرهُ، وَإِن كَانَ لَا يملك مِنْهُ إلاَّ الْمَنْفَعَة. وَمِنْهَا: أَن الْوَقْف بِأَن غَلَّته لفُلَان صَحِيح، وَله أَن يؤجره فِي الصَّحِيح ذكره فِي (الْمُحِيط) . وَمِنْهَا: أَن أم الْوَلِيد يجوز لسَيِّدهَا أَن يؤجرها، مَعَ أَنه لَا يملك مِنْهَا سوى مَنْفَعَتهَا، فَإِذا جَازَت لَهُ الْإِجَارَة تجوز لَهَا الْمُزَارعَة أَيْضا، لِأَن الْقرى والأراضي فِي الممالك الإسلامية لَا يُمكن أَن ينْتَفع بهَا إلاَّ بالكراء والزراعة ومباشرة أَعمال الفلاحة من السَّقْي والحصاد والدياس والتذرية وَغير ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الاستغلال، وَذَلِكَ لَا يحصل إلاَّ بالمزارعة عَلَيْهَا، أَو بإيجارها لمن يقوم بِهَذِهِ الْأَعْمَال، فَإِن الْجند لَا يقدرُونَ على الْقيام بذلك بِأَنْفسِهِم، إِذْ لَو أمروا بذلك لصاروا أكرة وتعطل الْمَعْنى الْمَطْلُوب مِنْهُم، وَهُوَ الْقيام بِمَا أعدُّوا لَهُ من مصَالح الْمُسلمين، وَهِي: قتال أَعدَاء الْإِسْلَام، وردع المفسدين، وقمع الخارجين، وصون الْأَمْوَال والأنفس من السراق واللصوص وقطاع الطَّرِيق، وَحفظ مراصد الطرقات ومواطن المرابطات، فَمَتَى اشْتغل الْجند بذلك تفوت تِلْكَ الْمصَالح، كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي رزق القَاضِي: إَنه إِذا كَانَ فَقِيرا فَالْأَفْضَل لَهُ، بل الْوَاجِب عَلَيْهِ، الْأَخْذ لِأَنَّهُ مَتى اشْتغل بِالْكَسْبِ أقعد عَن إِقَامَته فرض الْقَضَاء، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يجوز لَهُم الِانْتِفَاع بِالَّذِي يقطع لَهُم بِالْإِجَارَة أَو الْمُزَارعَة، فبأيهما تمكن الجندي فعل، أما الْمُزَارعَة فعلى قَول الصاحبين، فَإِنَّهَا فِي معنى الْإِجَارَة، فليزارع الْجند على قَوْلهمَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكرنَاهَا، كَمَا هِيَ محررة فِي كتب الْفِقْه، وَالله أعلم.
6732 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أرادَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقْطِعَ مِنَ البَحْرَيْنَ فقالَتْ الأنصَارُ حتَّى تُقْطِعَ لإخْوَانِنا مِن المهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا قَالَ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، يعلم ذَلِك من قَوْله: (أَن يقطع من الْبَحْرين) وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَفِي بعض النّسخ ذكر مَنْسُوبا، وَيحيى ابْن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي فضل الْأَنْصَار عَن عبد الله بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن يقطع من الْبَحْرين) يَعْنِي: أَرَادَ أَن يقطع من الْبَحْرين للْأَنْصَار، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: دَعَا الْأَنْصَار ليقطع لَهُم الْبَحْرين، وَفِي حَدِيث الْإِسْمَاعِيلِيّ: ليقطع لَهُم الْبَحْرين أَو طَائِفَة مِنْهَا، وَكَانَ الشَّك فِيهِ من حَمَّاد. قلت: الظَّاهِر أَنه أَرَادَ أَن يقطع لَهُم قِطْعَة مِنْهَا، لِأَن كلمة: من، فِي قَوْله: من الْبَحْرين، تَقْتَضِي التَّبْعِيض، وَلَا يُنَافِي أَن تكون للْبَيَان أَيْضا، وَلكُل من الصُّورَتَيْنِ وَجه، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا سَيَأْتِي فِي الْجِزْيَة من طَرِيق زُهَيْر عَن يحيى بِلَفْظ: دعى الْأَنْصَار ليكتب لَهُم بِالْبَحْرَيْنِ، لِأَن الظَّاهِر أَن مَعْنَاهُ ليكتب لَهُم طَائِفَة بِالْبَحْرَيْنِ، وَيحْتَمل أَن يكْتب لَهُم الْبَحْرين كلهَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ فِي مَنَاقِب الْأَنْصَار من رِوَايَة سُفْيَان عَن يحيى: إِلَى أَن يقطع لَهُم الْبَحْرين. وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ العامر من الْبَحْرين، لَكِن فِي حَقه من الْخمس، لِأَنَّهُ كَانَ ترك أرْضهَا فَلم يقسمها. وَقَالَ ابْن قرقول: وَالَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث لَيْسَ مِنْهَا، فَإِن الْبَحْرين كَانَت صلحا فَلم(12/220)
يكن لَهُم فِي أرْضهَا شَيْء، وَإِنَّمَا هم أهل جِزْيَة، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْد عُلَمَائِنَا: إقطاع مَال من جزيتهم يأخذونه، يُقَال مِنْهُ: أقطع، بِالْألف وَأَصله من الْقطع، كَأَنَّهُ قطعه لَهُ من جملَة المَال، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث بِلَال بن الْحَارِث، أخرجه أَحْمد من رِوَايَة كثير بن عبد الله عَن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده، وَمن حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أقطعه معادن الْقبلية، والقبلية: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى: قبل، بِفَتْح الْقَاف وَالْبَاء، وَهِي نَاحيَة من سواحل الْبَحْر بَينهمَا وَبَين الْمَدِينَة خَمْسَة أَيَّام، وَقيل: هِيَ من نَاحيَة الْفَرْع، وَهُوَ مَوضِع بَين نَخْلَة وَالْمَدينَة، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ. وَفِي كتاب (الْأَمْكِنَة) : معادن القلبية، بِكَسْر الْقَاف وَبعدهَا لَام مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء، و: الْبَحْرين، على صِيغَة التَّثْنِيَة للبحر، وَهِي من نَاحيَة نجد على شطر بَحر فَارس، وَهِي ديار القرامطة، وَلها قرى كَثِيرَة وَهِي كَثِيرَة التمور. قَوْله: (حَتَّى تقطع) ، غَايَة لفعل مُقَدّر أَي: لَا تقطع لنا حَتَّى تقطع لإِخْوَانِنَا الْمُهَاجِرين. قَوْله: (مثل الَّذِي تقطع لنا) ، وَزَاد فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: فَلم يكن ذَلِك عِنْده، يَعْنِي: بِسَبَب قلَّة الْفتُوح يَوْمئِذٍ، وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ أَنه لم يرد فعل ذَلِك، لِأَنَّهُ كَانَ أقطع الْمُهَاجِرين أَرض بني النَّضِير. قَوْله: (أَثَرَة) ، بِفَتْح الْهمزَة والثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى بِضَم الْهمزَة وَإِسْكَان الثَّاء، وَقَالَ ابْن قرقول: وبالوجهين قَيده الجياني، والوجهان صَحِيحَانِ، قَالَ: وَيُقَال أَيْضا: أَثَرَة، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَهُوَ الاستيثار أَي: يستأثر عَلَيْكُم بِأُمُور الدُّنْيَا ويفضل عَلَيْكُم غَيْركُمْ، وَعَن أبي عَليّ القالي: الأثرة: الشدَّة. وَفِي الْكتاب (الواعي) عَن ثَعْلَب: الأثرة، بِالضَّمِّ خَاصَّة: الحدب وَالْحَال غير المرضية، وَعَن غَيره: التَّفْضِيل فِي الْعَطاء، وَجمع الأثرة: أثر. وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ: سَتَلْقَوْنَ بعدِي أَثَرَة للْأَنْصَار، وَرَوَاهَا البُخَارِيّ عَن أسيد بن حضير فِي مَنَاقِب الْأَنْصَار، وَعَن عبد الله بن زيد بن عَاصِم فِي غَزْوَة الطَّائِف، وَعَن أنس بن مَالك بِزِيَادَة: أَثَرَة شَدِيدَة. فَاصْبِرُوا حَتَّى تلقوا الله وَرَسُوله فَإِنِّي على الْحَوْض. وَقَالُوا: هَذَا يدل على أَن الْخلَافَة لَا تكون فيهم، أَلا تَرى أَنه جعلهم تَحت الصَّبْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ وَالصَّبْر لَا يكون إلاَّ من مغلوب مَحْكُوم عَلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز إقطاع الإِمَام من الْأَرَاضِي الَّتِي تَحت يَده لمن شَاءَ من النَّاس مِمَّن يرَاهُ أَهلا لذَلِك، قَالَ الْخطابِيّ: وَذهب أهل الْعلم إِلَى أَن أهل العامر من الأَرْض للحاضر النَّفْع وَالْأُصُول من الشّجر كالنخل وَغَيرهَا، وَأما الْمِيَاه الَّتِي فِي الْعُيُون والمعادن الظَّاهِرَة: كالملح والقير والنفط وَنَحْوهَا، لَا يجوز إقطاعها، وَذَلِكَ أَن النَّاس كلهم شُرَكَاء فِي الْملح وَالْمَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يسْتَحقّهُ الْأَخْذ لَهُ بِالسَّبقِ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لأحد أَن يحتجرها لنَفسِهِ أَو يحتظر مَنَافِعهَا على أحذ من شركائه الْمُسلمين، وَأما الْمَعَادِن الَّتِي لَا يتَوَصَّل إِلَى نيلها ونفعها إلاَّ بكدوح واعتمال واستخراج لما فِي بطونها، فَإِن ذَلِك لَا يُوجب الْملك البات، وَمن اقتطع شَيْئا مِنْهَا كَانَ لَهُ مَا دَامَ يعْمل فِيهِ، فَإِذا قطع الْعَمَل عَاد إِلَى أَصله، فَكَانَ للْإِمَام إقطاعه غَيره. وَفِيه: من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ مَا أخبرهُ بقوله: (سَتَرَوْنَ بعدِي أَثَرَة) .
51 - (بابُ كِتَابَةِ الْقَطائِعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كِتَابَة القطائع لمن أقطع الإِمَام أَرضًا من الْأَرَاضِي ليَكُون وَثِيقَة بِيَدِهِ حَتَّى لَا ينازعه أحد.(12/221)
61 - (بابُ حَلَبِ الإبِلِ عَلَى الْمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حقية حلب الْإِبِل على المَاء، الْحَلب، بِفَتْح اللَّام، يُقَال: حلبت النَّاقة وَالشَّاة أَحْلَبَهَا حَلبًا، بِفَتْح اللَّام. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَلب بِالتَّحْرِيكِ اللَّبن المحلب، والحلب أَيْضا مصدر. قَوْله: (على المَاء) ، قَالَ بَعضهم: أَي: عِنْد المَاء. قلت: لم يذكر أحد من أهل اللُّغَة والعربية أَن: على، تجىء بِمَعْنى: عِنْد، بل: على، هَهُنَا بِمَعْنى الاستعلاء، بِمَعْنى على مَا يقرب مِنْهُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو أجد على النَّار هدى} (طه: 01) مَعْنَاهُ: على مَا يقرب من النَّار، وَهنا مَعْنَاهُ: حلب الْإِبِل على مَا يقرب من المَاء، يَعْنِي: على مَكَان قريب من المَاء الَّذِي تورد إِلَيْهِ للسقي.
8732 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ قَالَ حدَّثني أبِي عنْ هِلاَلِ بنِ عَلِيٍّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي عَمْرَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مِنْ حَقِّ الإبلِ أنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ. .
وَرِجَاله سِتَّة: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الله أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَمُحَمّد بن فليح، بِضَم الْفَاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: مر فِي أول الْعلم، وَأَبوهُ فليح بن سُلَيْمَان أَبُو يحيى الْخُزَاعِيّ، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك فغلب عَلَيْهِ لقبه: فليح، وهلال بن عَليّ هُوَ هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي هِلَال الفِهري الْمَدِينِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الْأنْصَارِيّ الثِّقَة الْمَشْهُور.
قَوْله: (من حق الْإِبِل) ، أَرَادَ بِهِ الْحق الْمَعْهُود الْمُتَعَارف بَين الْعَرَب من التَّصَدُّق بِاللَّبنِ على الْمِيَاه، إِذْ كَانَت طوائف الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين ترصد يَوْم وُرُود الْإِبِل على الْمِيَاه لتنال من رسلها وتشرب من لَبنهَا، وَهَذَا حق حلبها على المَاء، لَا أَنه فرض لَازم عَلَيْهِم، وَقد تَأَول بعض السّلف فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . هُوَ أَنه: يُعْطي الْمَسَاكِين عِنْد الْجذاذ والحصاد مَا تيَسّر من غير الزَّكَاة، وَهَذَا مهذب ابْن عمر وَبِه قَالَ عَطاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَهَذَا تَأْوِيل ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَهَذَا كَمَا نهى عَن جذاذ النّخل بِاللَّيْلِ لأجل حُضُور الْمَسَاكِين بِالنَّهَارِ، وَأَجَازَهُ مَالك لَيْلًا. قَوْله: (أَن تحلب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، و: تحلب، بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَعَن الدَّاودِيّ أَنه روى بِالْجِيم، وَقَالَ: أَرَادَ أَنَّهَا تجلب، أَي: تساق إِلَى مَوضِع سقيها، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ: أَن تجلب إِلَى المَاء، لَا: على المَاء، وَالْمَقْصُود من حلبها على المَاء حُصُول النَّفْع لمن يحضر من الْمَسَاكِين هُنَاكَ، وَلِأَن ذَلِك ينفع الْإِبِل أَيْضا. قَوْله: (على المَاء) ، قد ذكرنَا وَجهه، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق الْمعَافى بن سُلَيْمَان عَن فليح: يَوْم وردهَا وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
71 - (بابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أوْ شِرْبٌ فِي حائطٍ أوْ فِي نَخْلٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر الرجل الَّذِي يكون لَهُ ممر، أَي حق الْمُرُور، أَو يكون لَهُ حق شرب بِكَسْر الشين، وَهُوَ النَّصِيب من المَاء. قَوْله: (فِي حَائِط) ، يتَعَلَّق بقوله: ممر، والحائط هُوَ الْبُسْتَان. قَوْله: (أَو فِي نخل) ، يتَعَلَّق بقوله: شرب، وَذَلِكَ بطرِيق اللف والنشر، وَحكم هَذَا يعلم من أَحَادِيث الْبَاب، فَإِنَّهُ أورد فِيهِ خَمْسَة أَحَادِيث كلهَا قد مضى. قيل: وَجه دُخُول هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه التَّنْبِيه على إِمْكَان اجْتِمَاع الْحُقُوق فِي الْعين الْوَاحِدَة بِأَن يكون لشخص ملك وَللْآخر الِانْتِفَاع فِيهِ، مثلا لرجل ثَمَرَة فِي حَائِط رجل، فَلهُ حق الدُّخُول فِيهِ لأخذ ثَمَرَته، أَو لرجل أَرض وَلآخر فِيهَا حق الشّرْب، فَلهُ أَخذ الشّرْب مِنْهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَيَأْتِي بَيَان ذَلِك كُله فِي أَحَادِيث الْبَاب.
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ باعَ نَخْلاً بَعْدَ أنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ
هَذَا الحَدِيث مضى مَوْصُولا فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب من بَاعَ نخلا قد أبرت، من طَرِيق مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ومطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فثمرتها للْبَائِع) لِأَن الثَّمَرَة الَّتِي بِيعَتْ بعد التَّأْبِير لما كَانَت للْبَائِع لم يكن(12/222)
لَهُ وُصُول إِلَيْهَا إلاَّ بِالدُّخُولِ فِي الْحَائِط، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون لَهُ حق الْمَمَر، وَمعنى التَّأْبِير: الْإِصْلَاح والإلقاح، وَقد مضى هُنَاكَ مُسْتَوفى.
فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ والسَّقْيُ حتَّى يَرْفَعَ وكَذَلِكَ رَبُّ العَرِيَّةِ
قَوْله: (فَللْبَائِع) إِلَى آخِره من كَلَام البُخَارِيّ، استنبطه من أَحَادِيث الْبَاب، وَفِيه أَيْضا لما فِي التَّرْجَمَة من الْإِبْهَام، وَلَا يظنّ أحد أَن قَوْله: (فَللْبَائِع. .) إِلَى آخِره من الحَدِيث، وَمن ظن هَذَا فقد أَخطَأ، وَالْفَاء فِي قَوْله: (فَللْبَائِع) تفسيرية، ويروى: وللبايع، بِالْوَاو. قَوْله: (الْمَمَر) ، أَي: حق لأخذ الثَّمَرَة والسقي، أَي: وَسَقَى النخيل، لِأَنَّهُ ملكه. قَوْله: (حَتَّى ترفع) ، كلمة: حَتَّى، للغاية أَي: إِلَى أَن ترفع الثَّمَرَة، أَي: تقطع وَذَلِكَ لِأَن الشَّارِع لما جعل الثَّمَرَة بعد التَّأْبِير للْبَائِع كَانَ لَهُ أَن يدْخل فِي الْحَائِط لسقيها وتعهدها حَتَّى تقطع الثَّمَرَة، وَلَيْسَ لمشتري أصُول النخيل أَن يمنعهُ من الدُّخُول والتطرق إِلَيْهَا. قَوْله: (ترفع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على صِيغَة الْمَعْلُوم على معنى: حَتَّى يرفع البَائِع ثَمَرَته. قَوْله: (وَكَذَلِكَ رب الْعرية) ، أَي: كَالْحكمِ الْمَذْكُور حكم صَاحب الْعرية، وَهِي النَّخْلَة الَّتِي يعير صَاحبهَا ثَمَرَتهَا لرجل مُحْتَاج عامها ذَلِك، وَقد مر تَفْسِيرهَا مُسْتَوفى فِي كتاب الْبيُوع، وَصَاحب الْعرية لَا يمْنَع أَن يدْخل فِي حَائِط المعرى لتعهد عريته بالإصلاح والسقي، وَلَا خلاف فِي هَذَا بَين الْفُقَهَاء، وَأما من لَهُ طَرِيق مَمْلُوكَة فِي أَرض غَيره، فَقَالَ مَالك: لَيْسَ لَهُ أَن يدْخل فِي طَرِيقه بماشيته وغنمه، لِأَنَّهُ يفْسد زرع صَاحبه. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ: لَيْسَ لصَاحب الأَرْض أَن يزرع فِي مَوضِع الطَّرِيق. وَقَالَ الْكرْمَانِي: رب الْعرية صَاحب النَّخْلَة الَّذِي بَاعَ ثَمَرَتهَا لَهُ الْمَمَر والسقي، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ صَاحب ثَمَرَتهَا. قلت: إِذا بَاعَ لَا يُسمى عرية، وَإِنَّمَا الْعرية هِيَ الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن، وَعكس الْكرْمَانِي فِي هَذَا فَإِنَّهُ جعل الْمَعْنى الْمَقْصُود مُحْتملا، وَالَّذِي هُوَ مُحْتَمل جعله أصلا يفهم بِالتَّأَمُّلِ.
9732 - أخبرنَا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنِ ابْتاعَ نَخْلاً بعْدَ أنْ تُؤَبَّرَ فثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ومَنِ ابْتاعَ عَبْدا ولهُ مالٌ فمَالُهُ لِلَّذِي باعَهُ إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِيهَا، بَيَان ذَلِك أَن الَّذِي اشْترى نخلا بعد التَّأْبِير تكون ثَمَرَتهَا للْبَائِع، ثمَّ لَيْسَ للْمُشْتَرِي أَن يمْنَع البَائِع من الدُّخُول فِي النّخل، لِأَن لَهُ حَقًا لَا يصل إِلَيْهِ إلاَّ بِالدُّخُولِ، وَهُوَ: سقِِي النّخل وإصلاحها. قَوْله: (إلاَّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع) ، أَي: المُشْتَرِي بِأَن تكون الثَّمَرَة لَهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يبْقى للْبَائِع حق أصلا. وَالْكَلَام مَعَ الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْبيُوع مفصلا فِي: بَاب من بَاعَ نخلا قد أبرت.
وعنْ مالِكٍ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ عُمَرَ فِي العَبْدِ
قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ: عَن مَالك، إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِمَّا عطف على: حَدثنَا اللَّيْث، أَي: روى عمر الحَدِيث فِي شَأْن العَبْد، أَو قَالَ عمر فِي العَبْد إِن مَاله لبَائِعه، أَو أَرَادَ لفظ: فِي العَبْد بعد إلاَّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع، وَقَالَ بَعضهم: وَعَن مَالك، هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا اللَّيْث، فَهُوَ مَوْصُول، وَالتَّقْدِير: وَحدثنَا عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَزعم بعض الشُّرَّاح أَنه مُعَلّق، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد وَصله أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر فِي النّخل مَرْفُوعا، وَعَن نَافِع عَن ابْن عمر فِي العَبْد. قلت: إِن أَرَادَ هَذَا الْقَائِل بقوله: وَزعم بعض الشُّرَّاح أَنه مُعَلّق، أَنه الْكرْمَانِي، والكرماني لم يزْعم أَنه مُعَلّق بل تردد فِيهِ على مَا ذكرنَا؟ وَلَئِن سلمنَا أَنه زعم فزعمه بِحَسب الظَّاهِر صَحِيح، لِأَن التَّقْدِير الَّذِي قدره هَذَا الْقَائِل خلاف الظَّاهِر، ويؤكد زَعمه بعد التَّسْلِيم قَول هَذَا الْقَائِل: وَقد وَصله أَبُو دَاوُد ... إِلَى آخِره، والكرماني لم ينف أصل الْوَصْل فِي نفس الحَدِيث، بل زعم بِحَسب الظَّاهِر أَن البُخَارِيّ لم يوصله، وَوصل أبي دَاوُد هَذَا لَا يسْتَلْزم وصل البُخَارِيّ، وَلَئِن سلمنَا أَنه مَوْصُول من جِهَة البُخَارِيّ فَمَاذَا يدل عَلَيْهِ هَهُنَا؟ فَهَذَا الْمقَام مقَام نظر وَتَأمل، وَلَيْسَ مقَام المجازفة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَالَ الدَّاودِيّ فِي حَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر فِي الثَّمَرَة: إِن مَا رَوَاهُ عَن عَمْرو هُوَ وهم من نَافِع، وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه عَن(12/223)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي العَبْد وَالثَّمَرَة، وَاعْترض ابْن التِّين، فَقَالَ: لَا أَدْرِي من أَيْن أَدخل الدَّاودِيّ الْوَهم على نَافِع، وَمَا الْمَانِع مِنْهُ أَن يكون عمر قَالَ مَا تقدم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
0832 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ حدَّثنا سُفيانُ عنْ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ عَن زَيْدِ بنِ ثابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ رَخَّص النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تُباعَ العرَايا بِخَرْصِها تَمْراً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن المعرى لَيْسَ لَهُ أَن يمْنَع المعري من دُخُوله فِي الْحَائِط لتعهد الْعرية. والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب تَفْسِير الْعَرَايَا، فِي كتاب الْبيُوع، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت، وَأخرجه هُنَا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف أبي أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ ... إِلَى آخِره.
1832 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ عَطَاءٍ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَهاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الْمُخَابَرَةِ والْمُحَاقَلَةِ وعنِ الْمُزَابَنَةِ وعنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحُهَا وأنْ لَا تُبَاعَ إلأ بالدِّينَارِ والدِّرْهَمِ إلاَّ العَرَايَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (إلاَّ الْعَرَايَا) ، وَقد ذكرنَا الْآن أَن المعرى لَيْسَ لَهُ أَن يمْنَع المعري عَن الدُّخُول فِي الْحَائِط لتعهد الْعرية، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب بيع الثَّمر على رُؤُوس النّخل بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ ذكر المخابرة والمحاقلة والمزابنة، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن يحيى بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن ابْن جريج عَن عَطاء وَأبي الزبير عَن جَابر، وَهنا أخرجه: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج الْمَكِّيّ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ، وَتَفْسِير المخابرة قد مضى فِي كتاب الْمُزَارعَة، وَتَفْسِير المحاقلة فِي حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَتَفْسِير الْمُزَابَنَة فِي حَدِيث ابْن عمر وَابْن عَبَّاس فِي: بَاب بيع الْمُزَابَنَة، وَتَفْسِير بَقِيَّة الحَدِيث فِي: بَاب بيع التَّمْر على رُؤُوس النّخل.
2832 - حدَّثنا يحيَى بنُ قَزَعَةَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ دَاوُد بنِ حُصيْنٍ عَن أبِي سِفْيانَ مَوْلاى أبِي أحْمَد عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وسلمُ فِي بَيْعِ العَرَايا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ أوْ فِي خَمْسَةِ أوْسُقٍ شَكَّ داوُدُ فِي ذالِكَ. (انْظُر الحَدِيث 0912) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي بيع الْعَرَايَا) وَقد ذكرنَا وَجه ذَلِك فِي الحَدِيث السَّابِق، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب بيع التَّمْر على رُؤُوس النّخل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب عَن مَالك ... إِلَى آخِره، وَدَاوُد بن حُصَيْن، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، وَهنا أخرجه: عَن يحيى بن قزعة، بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي، وَقد مر الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
4832 - حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى اأخبرنا أبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبرنِي الوَلِيدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أَخْبرنِي بُشَيْرُ بنُ يَسارٍ مَوْلَى بَنِي حارِثَةَ أنَّ رافِعَ بنَ خَدِيجٍ وسَهْلَ بنَ أبِي حَثْمَةَ حدَّثَاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهاى عنِ الْمُزَابَنَةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بالتَّمْرِ إلاَّ أصْحَابَ العَرَايَا فإنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ. (انْظُر الحَدِيث 1912) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ أَصْحَاب الْعَرَايَا) وَقد ذكرنَا وَجهه فِيمَا سبق. والْحَدِيث سبق أَيْضا فِي: بَاب بيع الثَّمر على رُؤُوس النّخل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان، قَالَ: قَالَ يحيى بن سعيد: سَمِعت بشيراً، قَالَ: سَمِعت سهل ابْن أبي حثْمَة إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن زَكَرِيَّاء بن يحيى الطَّائِي الْكُوفِي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن الْوَلِيد بن كثير(12/224)
ضد الْقَلِيل عَن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وبالسين الْمُهْملَة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَالَ أبُو عبدِ الله وَقَالَ ابنُ إسْحااق حدَّثني بُشَيْرٌ مِثْلَهُ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت: قَالَ: وَقَالَ ابْن إِسْحَاق، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَابْن إِسْحَاق هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار صَاحب (الْمَغَازِي) ، وَبشير هُوَ الْمَذْكُور آنِفا، وعَلى رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَهُوَ مُعَلّق.
34 - (كتَابٌ فِي الاسْتِقْرَاضِ وأدَاءِ الدُّيُونِ وَالْحَجْرِ والتَّفْلِيسِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان حكم الاستقراض، وَهُوَ طلب الْقَرْض. قَوْله: (وَالْحجر) ، وَهُوَ لُغَة: الْمَنْع، وَشرعا: منع عَن التَّصَرُّف، وأسبابه كَثِيرَة محلهَا الْفُرُوع. قَوْله: (والتفليس) ، من: فلسه الْحَاكِم تفليساً يَعْنِي: يحكم بِأَنَّهُ يصير إِلَى أَن يُقَال: لَيْسَ مَعَه فلس، وَيُقَال: الْمُفلس من تزيد دُيُونه على موجوده، سمي مُفلسًا لِأَنَّهُ صَار ذَا فلوس بعد أَن كَانَ ذَا دَرَاهِم ودنانير، وَقيل: سمي بذلك لِأَنَّهُ يمْنَع التَّصَرُّف إلاَّ فِي الشَّيْء التافه، لأَنهم لَا يتعاملون بِهِ فِي الْأَشْيَاء الخطيرة، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَكِن بِلَا بَسْمَلَة فِي أَولهَا، وَعند غَيره الْبَسْمَلَة فِي أَولهَا، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب، بدل: كتاب، وَلَكِن عطف التَّرْجَمَة الَّتِي تليه عَلَيْهِ بِغَيْر بَاب.
1 - (بابُ مَنِ اشْتَراي بِالدَّيْنِ ولَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من اشْترى بِالدّينِ، وَالْحَال أَنه لَيْسَ عِنْده ثمن الَّذِي اشْتَرَاهُ. قَوْله: (أَو لَيْسَ) أَي: الثّمن بِحَضْرَتِهِ وَقت الشِّرَاء، وَهَذَا أخص من الأول لِأَن الأول: يحْتَمل أَن لَا يكون الثّمن عِنْده أصلا، لَا بِحَضْرَتِهِ وَلَا فِي منزله. وَالثَّانِي: لَا يسْتَلْزم نفي الثّمن إلاَّ بِحَضْرَتِهِ، فَقَط وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز، وَقد أَجمعُوا على أَن الشِّرَاء بِالدّينِ جَائِز لقَوْله تَعَالَى: {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} (الْبَقَرَة: 282) . فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم من طَرِيق سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (لَا أَشْتَرِي مَا لَيْسَ عِنْدِي ثمنه) . فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث ضَعَّفُوهُ، وَاخْتلف فِي وَصله وإرساله، وَيحْتَمل أَن البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى ضعف هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور.
5832 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرنَا جَرِيرٌ عنِ المغيرَةِ عنِ الشِّعْبِيِّ عَن جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَيْفَ تَراى بَعيرَك أتَبِيعُنِيهِ قُلْتُ نَعَمْ فَبِعْتُهُ إيَّاهُ فلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إلَيْهِ بِالْبَعِيرِ فأعْطَاني ثَمَنَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اشْترى جمل جَابر وَلم يكن الثّمن حَاضرا، وَلم يُعْطه إلاَّ بِالْمَدِينَةِ. وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام، وَقَالَ الغساني: وَمَا وَقع فِي بعض النّسخ: مُحَمَّد بن يُوسُف، فَلَيْسَ بِشَيْء. قلت: قد وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، والمغيرة هُوَ ابْن مقسم، بِكَسْر الْمِيم، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة، وَهَذَا الحَدِيث أخرجه هُنَا مُخْتَصرا، وَقد أخرجه فِي الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الدَّوَابّ، مطولا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (أتبيعنيه؟) بنُون الْوِقَايَة، ويروى: (أتبيعه؟) .
6832 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حدَّثنا عبْدُ الوَاحِد حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ تَذَاكَرْنا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ حدَّثني الأسْوَدُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرَى(12/225)
طَعَاماً مِنْ يَهُودِيٍّ إلاى أجَلٍ ورَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَدِيدٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ الشِّرَاء بِالدّينِ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الطَّعَام إِلَى أجل، واليهودي اسْمه: أَبُو الشَّحْم، وَالْمرَاد من السّلم: السّلف، لَا السّلم المصطلح، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
2 - (بابُ مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أوْ إتْلافَهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من أَخذ شَيْئا من أَمْوَال النَّاس بطرِيق الْقَرْض، أَو بِوَجْه من وُجُوه الْمُعَامَلَات، حَال كَونه يُرِيد أَدَاء هَذِه الْأَمْوَال، أَو حَال كَونه يُرِيد إتلافها، يَعْنِي: قَصده مُجَرّد الْأَخْذ، وَلَا ينظر إِلَى الْأَدَاء وَجَوَاب: من، مَحْذُوف حذفه اكْتِفَاء بِمَا فِي نفس الحَدِيث، لَكِن تَقْدِيره: من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أداءها أدّى الله عَنهُ، يَعْنِي: يسر لَهُ مَا يُؤَدِّيه من فَضله لحسن نِيَّته، وَمن أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد إتلافها على صَاحبهَا أتْلفه الله، يَعْنِي: يذهبه من يَده فَلَا ينْتَفع بِهِ لسوء نِيَّته، وَيبقى عَلَيْهِ الدّين، ويعاقب بِهِ يَوْم الْقِيَامَة. وروى الْحَاكِم مصححاً من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت تدان، فَقيل لَهَا: مَا لَك وَالدّين وَلَيْسَ عنْدك قَضَاء؟ قَالَت: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (مَا من عبد كَانَت لَهُ نِيَّة فِي أَدَاء دينه إلاَّ كَانَ لَهُ من الله عز وَجل عون، فَأَنا ألتمس ذَلِك العون) . وَعَن أبي أُمَامَة يرفعهُ: (من تداين وَفِي نَفسه وفاؤه، ثمَّ مَاتَ، تجَاوز الله عَنهُ وأرضى غَرِيمه بِمَا شَاءَ، وَمن تداين بدين وَلَيْسَ فِي نَفسه وفاؤه، ثمَّ مَاتَ، اقْتصّ الله لغريمه مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة) . وَعَن مُحَمَّد بن جحش: صَحِيح الْإِسْنَاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (سُبْحَانَ الله! مَا أنزل الله من التَّشْدِيد، فَسئلَ عَن ذَلِك التَّشْدِيد، قَالَ: الدّين، وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو قتل رجل فِي سَبِيل الله ثمَّ عَاشَ، وَعَلِيهِ دين مَا دخل الْجنَّة) ، وَعَن ثَوْبَان على شَرطهمَا مَرْفُوعا (من مَاتَ وَهُوَ بَرِيء من ثَلَاث: الْكبر والغلول وَالدّين، دخل الْجنَّة) .
7832 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله الأُوَيْسِيُّ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ عنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدَ عنْ أبِي الْغَيْثِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى الله عنهُ ومَنْ أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا سبكت مِنْهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عَمْرو بن أويس، بِضَم الْهمزَة: ونسبته إِلَيْهِ. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب الْقرشِي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: ثَوْر، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن زيد أخي عَمْرو الديلِي، بِكَسْر الدَّال، وَهُوَ غير ثَوْر بن يزِيد، بِلَفْظ الْفِعْل، فَإِنَّهُ شَامي كلاعي. الرَّابِع: أَبُو الْغَيْث، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة: مولى أبي عبد الله بن الْمُطِيع. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَرُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن يَعْقُوب بن حميد عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن ثَوْر بِبَعْضِه: (من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد إتلافها أتْلفه الله) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أداءها) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: ردهَا إِلَى الْمقْرض. قلت: تَخْصِيص الْمقْرض لَيْسَ بِشَيْء، بل مَعْنَاهُ: أدّى أَمْوَال النَّاس الَّتِي أَخذهَا، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الْأَمْوَال من جِهَة الْقَرْض أَو من جِهَة مُعَاملَة من وُجُوه الْمُعَامَلَات. قَوْله: (أدّى الله عَنهُ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَدَّاهَا الله عَنهُ) ، وروى ابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث مَيْمُونَة: (مَا من مُسلم يدان دينا يعلم الله أَنه يُرِيد أداءه إلاَّ أَدَّاهُ الله عَنهُ فِي الدُّنْيَا) . قَوْله: (أتْلفه الله) أَي: فِي معاشه أَو فِي نَفسه، وَقيل: المُرَاد بِالْإِتْلَافِ: عَذَاب الْآخِرَة، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ آنِفا بِغَيْر هَذَا الْوَجْه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الثَّوَاب قد يكون من جنس الْحَسَنَة، وَأَن الْعقُوبَة قد تكون من جنس الذَّنب، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(12/226)
قد جعل مَكَان أَدَاء الْإِنْسَان أَدَاء الله عَنهُ، وَمَكَان إِتْلَافه إِتْلَاف الله لَهُ. وَفِيه: الحض على ترك إستئكال أَمْوَال النَّاس، وَالتَّرْغِيب فِي حسن التأدية إِلَيْهِم عِنْد المداينة، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي تَحْسِين النِّيَّة، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ. وَفِيه: أَن من اشْترى شَيْئا بدين وَتصرف فِيهِ وَأظْهر أَنه قَادر على الْوَفَاء، ثمَّ تبين الْأَمر بِخِلَافِهِ، أَن البيع لَا يرد بل ينْتَظر بِهِ حُلُول الْأَجَل لاقتصاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الدُّعَاء، وَلم يلْزمه برد البيع. قيل: وَفِيه التَّرْغِيب فِي الدّين لمن يَنْوِي الْوَفَاء، وروى ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَليّ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه كَانَ يستدين، فَسئلَ، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الله مَعَ الدَّائِن حَتَّى يقْضِي دينه، وَإِسْنَاده حسن. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَفِيه: أَن من عَلَيْهِ دين لَا يعْتق وَلَا يتَصَدَّق، وَإِن فعل رد. قلت: الحَدِيث لَا يدل عَلَيْهِ بِوَجْه من وُجُوه الدلالات.
3 - (بابُ أدَاءِ الدُّيُونِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب أَدَاء الدُّيُون. قَوْله: (الدُّيُون) ، بِلَفْظ الْجمع هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب أَدَاء الدّين، بِالْإِفْرَادِ.
وَقَالَ الله تعَالى: {إنَّ الله يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلاى أهْلِها وإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْلِ إنَّ الله نَعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ الله كانَ سَمِيعَاً بَصِيراً} (النِّسَاء: 85) .
سَاق الْأصيلِيّ وَغَيره الْآيَة كلهَا، وَأَبُو ذَر اقْتصر على قَوْله: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأَكْثَرهم على أَنَّهَا نزلت فِي شَأْن عُثْمَان بن طَلْحَة الحَجبي الْعَبدَرِي، سَادِن الْكَعْبَة حِين أَخذ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِفْتَاح الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح، ذكره إِبْنِ سعد وَغَيره، وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب وَزيد ابْن أسلم وَشهر بن حَوْشَب: إِنَّهَا نزلت فِي الإمراء، يَعْنِي الْحُكَّام بَين النَّاس. وَفِي الحَدِيث: إِن الله تَعَالَى مَعَ الْحَاكِم مَا لم يَجُرْ، فَإِذا جَاءَ وَكله الله إِلَى نَفسه. وَقيل: نزلت فِي السُّلْطَان يعظ النِّسَاء. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء 85) . قَالَ: يدْخل فِيهِ وعظ السُّلْطَان النِّسَاء يَوْم الْعِيد، وَقَالَ شُرَيْح، رَحمَه الله لأحد الْخَصْمَيْنِ: أعْط حَقه، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . قَالَ شُرَيْح: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} (الْبَقَرَة: 082) . إِنَّمَا هَذَا فِي الرِّبَا خَاصَّة، وربط الْمديَان إِلَى سَارِيَة. وَمذهب الْفُقَهَاء: إِن الْآيَة عَامَّة فِي الرِّبَا وَغَيره، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة عَامَّة، قَالُوا هَذَا يعم جَمِيع الْأَمَانَات الْوَاجِبَة على الْإِنْسَان من حُقُوق الله، عز وَجل، على عباده من الصَّلَوَات والزكوات وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور وَالصِّيَام وَغير ذَلِك، فَهُوَ مؤتمن عَلَيْهِ، وَلَا يطلع عَلَيْهِ الْعباد، وَمن حُقُوق الْعباد بَعضهم على بعض: كالودائع وَغَيرهَا، مِمَّا يأتمنون فِيهِ بَعضهم على بعض، فَأمر الله تَعَالَى بأدائها، فَمن لم يفعل ذَلِك فِي الدُّنْيَا أَخذ مِنْهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة، كَمَا ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لتؤدن الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا حَتَّى يقتض للشاة الْجَمَّاء من القرناء، ثمَّ إِن البُخَارِيّ أَدخل الدّين فِي الْأَمَانَة لثُبُوت الْأَمر بِأَدَائِهِ، لِأَن الْأَمَانَة فسرت فِي الْآيَة بالأوامر والنواهي، فَيدْخل فِيهَا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالذِّمةِ وَمَا لَا يتَعَلَّق. قَوْله: {أَن تحكموا بِالْعَدْلِ} (النِّسَاء: 85) . أَي: بِأَن تحكموا بِالْعَدْلِ. قَوْله: {إِن الله نعمَّا يعظكم بِهِ} (النِّسَاء: 85) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: نعما يعظكم بِهِ، إِمَّا أَن تكون مَنْصُوبَة مَوْصُوفَة: بيعظكم بِهِ، وَإِمَّا أَن تكون مَرْفُوعَة مَوْصُولَة، كَأَنَّهُ قيل: نعم شَيْئا يعظكم بِهِ، أَو: نعم الشَّيْء الَّذِي يعظكم بِهِ، والمخصوص بالمدح مَحْذُوف أَي: نعم مَا يعظكم بِهِ ذَاك، وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ من أَدَاء الْأَمَانَات وَالْعدْل فِي الحكم، وقرىء: نعما، بِفَتْح النُّون. قَوْله: {إِن الله كَانَ سميعاً بَصيرًا} (النِّسَاء: 85) . هما من أَوْصَاف الذَّات، والسمع إِدْرَاك المسموعات حَال وحدوثها، وَقيل: إنَّهُمَا فِي حَقه تَعَالَى صفتان تكشف بهما المسموعات والمبصرات انكشافاً تَاما، وَلَا يحْتَاج فيهمَا إِلَى آلَة لِأَن صِفَاته مُخَالفَة لصفات المخلوقين بِالذَّاتِ. فَافْهَم.(12/227)
8832 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدَّثنا أبُو شِهَابٍ عنِ الأعْمَشِ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمَّا أبْصَرَ يَعْنِي أُحُداً قَالَ مَا أُحِبُ أنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَباً يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينارٌ فَوقَ ثَلاثً إلاَّ دِيناراً أرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ثُمَّ قل إنَّ الأكْثَرِينَ هُمُ الأقَلُّونَ إلاَّ مَنْ قالَ بالْمَالِ هاكذَا وهاكَذَا وأشارَ أبُو شِهَابً بيْنَ يَدَيْهِ وعنْ يَمِينِهِ وعنْ شِمَالِهِ وقَلِيلٌ مَّا هُمْ وقالَ مَكَانَكَ وتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَسَمِعْتُ صَوْتاً فأرَدْتُ أنْ آتِيَهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ مَكانَكَ حَتَّى آتِيكَ فَلَمَّا جاءَ قُلْتُ يَا رسولَ الله الذِي سَمِعْتُ أَو قالَ الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ قَالَ وهَلْ سَمِعْتَ قلْتُ نَعَمْ قَالَ أتَانِي جبريلُ عليهِ السَّلامُ فَقَالَ مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّه شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وإنْ فَعَلَ كَذا وكَذا قَالَ نَعَمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَا يدل على الاهتمام بأَدَاء الدّين، وَهُوَ قَوْله: إلاَّ دِينَارا أرصده لدين، وَفِيه مَا يدل على شدَّة أَمر الدّين، والمديون إِذا نوى أداءه يرزقه الله تَعَالَى مَا يُؤَدِّيه مِنْهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يوسن، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: أَبُو شهَاب، واسْمه: عبد ربه الحناط، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون الْمَشْهُور: بِالْأَصْغَرِ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ. الْخَامِس: أَبُو ذَر، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة فِي الْأَشْهر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسم جده، وَأَنه وَالْأَعْمَش وَزيد بن وهب كوفيون، وَأَن أَبَا شهَاب مدائني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: راو مَذْكُور بكنيته وَآخر بلقبه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن عمر بن حَفْص، وَفِي الرفاق عَن حسن بن الرّبيع، وَفِيه عَن قُتَيْبَة، وَفِي بَدْء الْخلق عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَمُحَمّد بن عبد الله وَأبي بكر وَأبي كريب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَبدة بن عبد الرَّحِيم، وَعَن بشر بن خَالِد وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وَعَن عمرَان بن بطال، وَعَن أبي قدامَة عَن معَاذ بن هِشَام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّه) أَي: أَن أُحُداً. قَوْله: (تحوَّل) بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق على وزن: تفعل، فِي رِوَايَة أبي ذَر، هَكَذَا وَفِي رِوَايَة غَيره، بِضَم التَّاء آخر الْحُرُوف على صِيغَة الْمَجْهُول، من بَاب التفعيل. وَمعنى تحول: صَار، فيستدعي إسماً مَرْفُوعا وخبراً مَنْصُوبًا، فالإسم هُوَ الضَّمِير فِي تحول الَّذِي يرجع إِلَى أحدا. وَالْخَبَر هُوَ قَوْله: (ذَهَبا) . قَوْله: (يمْكث) ، فعل وفاعله هُوَ قَوْله: (دِينَار) أَي: دِينَار وَاحِد، وَهُوَ جملَة فِي مَحل النصب، لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (ذَهَبا) . قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الذَّهَب. قَوْله: (فَوق ثَلَاث) ، أَي: فَوق ثَلَاث لَيَال، وَهِي ظرف، وَالْعَامِل فِيهِ يمْكث. قَوْله: (إلاَّ دِينَارا) ، مُسْتَثْنى مِمَّا قبله. قَوْله: (أرصده) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله دِينَارا، وأرصده، بِضَم الْهمزَة، من الإرصاد يُقَال: أرصدته أَي: هيأته وأعددته، وَحكى ابْن التِّين أَنه روى أرصده، بِفَتْح الْهمزَة من قَوْلك: رصدته، أَي: رقبته. وَقَالَ ابْن قرقول: قَوْله: (إلاَّ دِينَارا أرصده) أَي: أعده، بِضَم الْهمزَة وَفتحهَا ثلاثي ورباعي، يُقَال: أرصدته ورصدته أرصده بِالْخَيرِ وَالشَّر: أعددته لَهُ. وَقيل: رصدته ترقبته، وأرصدته أعددته. قَالَ الله تَعَالَى: {وأرصاداً لمن حَارب الله} (التَّوْبَة: 701) . وَقَالَ تَعَالَى: {شهاباً رصداً} (الْجِنّ: 9) . وَمِنْه: من يرصد لي عير قُرَيْش، والرصد الطّلب. قَوْله: (إِن الْأَكْثَرين هم الأقلون) أَي: أَن الْأَكْثَرين مَالا هُوَ الأقلون ثَوابًا. قَوْله: (إِلَّا من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا) ، مَعْنَاهُ: إلاَّ من صرف المَال على النَّاس يَمِينا وَشمَالًا، وأماماً. وَقَالَ هُنَا: لَيْسَ من القَوْل، بِمَعْنى الْكَلَام، بل مَعْنَاهُ: صرف أَو فرق أَو أعْطى، وَنَحْو(12/228)
ذَلِك، لِأَن الْعَرَب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال وتطلقه على غير الْكَلَام، وَاللِّسَان، فَتَقول: قَالَ بِيَدِهِ، أَي: أَخذه، وَقَالَ بِرجلِهِ أَي: مَشى، وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة)
أَي: أَوْمَأت. وَقَالَ بِالْمَاءِ على يَده، أَي: قلب، وَقَالَ بِثَوْبِهِ أَي: رَفعه، وكل ذَلِك على الْمجَاز والاتساع، كَمَا روى فِي حَدِيث السَّهْو قَالَ: مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: صدق. رُوِيَ أَنهم أومأوا برؤوسهم. أَي: نعم، وَلم يتكلموا. وَيُقَال: قَالَ، بِمَعْنى: أقبل، وَبِمَعْنى: مَال واستراح وَضرب وَغلب، وَغير ذَلِك. قَوْله: (وَأَشَارَ أَبُو شهَاب) ، هُوَ عبد ربه الرَّاوِي الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث. قَوْله: (وَقَلِيل ماهم) ، جملَة إسمية لِأَن قَوْله: هم، مُبْتَدأ وَقَوله: قَلِيل، مقدما خَبره، وَكلمَة: مَا، زَائِدَة أَو صفة. قَوْله: (مَكَانك) ، بِالنّصب أَي: إلزم مَكَانك. قَوْله: (الَّذِي سَمِعت) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره مَا هُوَ الَّذِي سَمِعت؟ قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي أَي: مَا هُوَ الصَّوْت الَّذِي سَمِعت؟ قَوْله: (هَل سَمِعت) ، اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (وَإِن فعل كَذَا وَكَذَا) ، أَي: وَإِن زنى وسرق وَنَحْوهمَا، وَالرِّوَايَة الَّتِي فِي الرقَاق تفسر هَذَا، وَهِي قَوْله: وَإِن زنى وسرق، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وَمن فعل كَذَا وَكَذَا، عوض؛ وَإِن، الشّرطِيَّة.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: الاهتمام بِأَمْر الدّين وتهيئته لأدائه، وَصرف المَال إِلَى وُجُوه القربان عِنْد الْقُدْرَة عَلَيْهِ، وَالْخَوْف من استغراق الدّين لِأَن الْمَدْيُون إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف، والاحتراز من المطل عِنْد الْقُدْرَة لِأَنَّهُ فِي معنى الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَة، وَقد جَاءَ فِي: خِيَانَة الْأَمَانَة من الْوَعيد، مَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق من حَدِيث ذاذان عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: إِن الْقَتْل فِي سَبِيل الله يكفر كل ذَنْب إلاَّ الدّين وَالْأَمَانَة. قَالَ: وَأعظم ذَلِك الْأَمَانَة تكون عِنْد الرجل فيخونها، فَيُقَال لَهُ يَوْم الْقِيَامَة: أدِّ أمانتك، فَيَقُول: من أَيْن وَقد ذهبت الدُّنْيَا؟ فَيُقَال: نَحن نريكها، فيمثل لَهُ فِي قَعْر جَهَنَّم، فَيُقَال لَهُ: إنزل فأخرجها، فَينزل فيحملها على عُنُقه حَتَّى إِذا كَاد، زلت فهوت وَهوى فِي إثْرهَا أبدا. وَفِيه: مَا يدل على فضل أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9832 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ شَبِيبِ بنِ سَعِيدٍ حدَّثنا أبي عنْ يُونُسَ قَالَ ابنُ شِهابٍ حدَّثني عُبَيدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ قَالَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ كانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا يَسُرُّنِي أنْ لاَ يَمُرَّ عَليَّ ثَلاَثٌ وعِنْدِي منْهُ شَيْءٌ إلاَّ شيْءٌ أرْصِدُهُ لِدَيْنٍ.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق. وَأحمد بن شبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الحبطي الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبوهُ سعيد بن الحبطي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى الحبطات، من بني تَمِيم، وَهُوَ الْحَارِث بن عَمْرو، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق. قَوْله: (ذَهَبا) ، نصب على التَّمْيِيز، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا} (الْكَهْف: 901) . وَقَالَ ابْن مَالك: وُقُوع التَّمْيِيز بعد: مثل، قَلِيل. قَوْله: (مَا يسرني) ، جَوَاب: لَو، وَقَالَ ابْن مَالك: الأَصْل فِي وُقُوع جَوَاب: لَو، أَن يكون مَاضِيا مثبتاً، وَهنا وَقع مضارعاً منفياً، بِمَا، فَكَأَنَّهُ أوقع الْمُضَارع مَوضِع الْمَاشِي، أَو كَأَن الأَصْل: مَا كَانَ يسرني، فَحذف: كَانَ، وَهُوَ جَوَاب: لَو، وَفِيه ضمير، وَهُوَ اسْمه. وَقَوله: ويسرني خَبره. قَوْله: (أَن لَا يمر) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: مَا يسرني. قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء. لِأَن كلمة: عَليّ، دخلت على يَاء الْمُتَكَلّم. قَوْله: (ثَلَاث) أَي: ثَلَاث لَيَال، وارتفاعه على أَنه فَاعل: يمر. قَوْله: (وَعِنْدِي) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الذَّهَب. قَوْله: (شَيْء) ، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ مقدما خَبره، هُوَ قَوْله: مِنْهُ. قَوْله: (إلاَّ شَيْء) ، ارْتِفَاع: شَيْء، على أَنه بدل من: شَيْء، الأول. قَوْله: (أرصده) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لشَيْء، وَوَقع للأصيلي وكريمة: مَا يسرني أَن لَا يمْكث وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْء، وَكلمَة: لَا، زَائِدَة، قَالَه بَعضهم. قلت: إِذا كَانَت كلمة: مَا، فِي: مَا يسرني، نَافِيَة فَنعم، وَأما إِذا كَانَت مَوْصُولَة فَلَا.
رَوَاهُ صالِحٌ وعُقَيلٌ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: روى صَالح بن كيسَان وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن أبي هُرَيْرَة فِي معنى حَدِيث أبي ذَر.(12/229)
4 - (بابُ اسْتِقْرَاضِ الإبِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز استقراض الْإِبِل، وَهَذِه التَّرْجَمَة على مَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز استقراض الْحَيَوَان، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد أَيْضا. وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْحسن ابْن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز استقراض الْحَيَوَان، وَاحْتج المجوزون بِحَدِيث الْبَاب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْوكَالَة.
0932 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ أخبرنَا سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا سلَمَةَ بِبَيْتِنَا يُحَدِّثُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رجُلاً تَقَاضَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ أصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الْحَقِّ مقَالاً واشْتَرُوا لَهُ بَعِيراً فأعْطُوهُ إيَّاهُ وَقَالُوا لاَ نَجِدُ إلاَّ أفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ قَالَ اشْتَرُوهُ فأعْطُوهُ إيَّاهُ فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ دفع الْحَيَوَان عوض الْحَيَوَان. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث لَا يدل على أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، افْترض من الرجل سنا، وَلم يبين فِي هَذَا بِصُورَة الْقَرْض صَرِيحًا حَتَّى يُقَال: إِنَّه يدل على جَوَاز استقراض الْحَيَوَان، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: كَانَ لرجل على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حق فَأَغْلَظ لَهُ الحَدِيث، وَالْحق أَعم من الْقَرْض؛ وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: كَانَ لرجل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دين فتقاضاه ... الحَدِيث، وَالدّين يَشْمَل الْقَرْض وَغَيره. قلت: صرح فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اسْتقْرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنا فَأعْطَاهُ سنا خيرا من سنه، وَجَاء فِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث أبي رَافع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسلف من رجل بكرا ... الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ لرجل على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سنّ من الْإِبِل ... الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَدلَّ أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اقْترض بَعِيرًا ثمَّ أعْطى عوضه بَعِيرًا أحسن مِنْهُ، فَدلَّ على جَوَاز الاستقراض فِي الْحَيَوَان، وَقد أجَاب المانعون من استقراض الْحَيَوَان بِمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى فِي: وكَالَة الشَّاهِد وَالْغَائِب جَائِزَة، ذكره فِي الْوكَالَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن سَلمَة عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ رجل ... الحَدِيث، وَهنا أخرجه: عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (بَينا يحدث) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن: بَينا، وبينما، ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة يضافان إِلَى جملَة، وَرَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة مقروءة: سَمِعت أَبَا سَلمَة بمنى يحدث، وعَلى هامشها: سَمِعت أَبَا سَلمَة ببيتنا يحدث، وَلم ألتزم صِحَة هذَيْن، وَالله أعلم. قَوْله: (تقاضى) ، أَي: طلب قَضَاء الدّين من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأَغْلَظ لَهُ) ، يحْتَمل إغلاظه فِي طلب حَقه وتشدده فِيهِ، لَا فِي كَلَام مؤذ يسمعهُ إِيَّاه، فَإِن ذَلِك كفر مِمَّن فعله مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد يكون الْقَائِل بِهَذَا غير مُسلم من الْيَهُود، كَمَا جَاءَ مُفَسرًا مِنْهُم فِي غير هَذَا الحَدِيث، لَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: أَنه كَانَ أَعْرَابِيًا فَكَأَنَّهُ جرى على عَادَته من جفائه وغلظه فِي الطّلب. قَوْله: (فهم بِهِ أَصْحَابه) ، أَي: عزموا أَن يوقعوا بِهِ فعلا. قَوْله: (دَعوه) أَي: اتركوه، وَهُوَ أَمر من: يدع. قَوْله: (اشْتَروا لَهُ بَعِيرًا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: التمسوا لَهُ مثل سنّ بعيره. قَوْله: (من سنه) ، السن هِيَ الْمَعْرُوفَة، ثمَّ سمى بهَا صَاحبهَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث مُسلم عَن أبي رَافع أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استسلف من رجل بكرا فَقدمت عَلَيْهِ إبل من إبل الصَّدَقَة، فَأمر أَبَا رَافع أَن يقْضِي الرجل بكره، فَرجع إِلَيْهِ أَبُو رَافع فَقَالَ: لم أجد فِيهَا إلاَّ جملا خيارا رباعياً. فَقَالَ: أعْطه إِيَّاه، إِن خِيَار النَّاس أحْسنهم قَضَاء. انْتهى. فَكيف الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: أَمر بِالشِّرَاءِ أَولا، ثمَّ قدمت إبل الصَّدَقَة فَأعْطَاهُ مِنْهَا، أَو أمره بِالشِّرَاءِ من إبل الصَّدَقَة مِمَّن اسْتحق مِنْهَا شَيْئا، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: استسلف من رجل بكرا، فَقَالَ: إِذا جَاءَت إبل الصَّدَقَة قضيناك. قَوْله: (فَإِن خَيركُمْ) أَي: أخيركم، فالخير وَالشَّر يستعملان للتفضيل على لَفْظهمَا، بِمَعْنى الأخْيَر والأشرّ، وَالله أعلم.(12/230)
5 - (بابُ حُسْنِ التَّقَاضِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب حسن التقاضي، أَي: حسن الْمُطَالبَة.
1932 - حدَّثنا مُسْلِمٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ ماتَ رَجُلٌ فَقيلَ لَهُ قَالَ كُنْتُ أبايِعُ النَّاسَ فأتَجَوَّزُ عَنِ الْمُوسِرِ وأُخَفِّفُ عنِ الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ لَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كنت أبايع النَّاس) إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن حسن التقاضي، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ القصاب، وَعبد الْملك هُوَ ابْن عُمَيْر الْقرشِي الْكُوفِي، ورِبْعِي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن جراش، مر فِي: بَاب إِثْم من كذب على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب من أنظر مُعسرا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن مَنْصُور أَن ربعي بن حِرَاش حَدثهُ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (فَقيل لَهُ) : قَالَ: فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَقيل لَهُ مَا كنت تصنع؟ قَالَ: كنت ... وَوَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فَقيل لَهُ: مَا كنت تَقول؟
قَالَ أبُو مَسْعُودٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو مَسْعُود البدري اسْمه عقبَة بن عَمْرو. قَوْله: (سمعته) ، أَي: سَمِعت هَذَا الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قيل: هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَكِن صورته صُورَة التَّعْلِيق. وَأخرجه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن حجر وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَاللَّفْظ لِابْنِ حجر، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن الْمُغيرَة عَن نعيم بن أبي هِنْد عَن ربعي بن حِرَاش، قَالَ: اجْتمع حُذَيْفَة وَأَبُو مَسْعُود، قَالَ حُذَيْفَة: لَقِي رجل ربه، فَقَالَ: مَا عملت؟ قَالَ: مَا عملت من الْخَيْر إلاَّ أَنِّي كنت رجلا ذَا مَال، قَالَ: فَكنت أطالب بِهِ النَّاس، فَكنت أقبل الميسور وأتجاوز عَن المعسور، قَالَ: تجاوزوا عَن عَبدِي. قَالَ أَبُو مَسْعُود: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول.
6 - (بابٌ هَلْ يُعْطى أكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُعْطي الْمُسْتَقْرض للمقرض أكبر من السن الَّذِي اقترضه؟ وَجَوَاب هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: نعم يُعْطي.
2932 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى اعنْ سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني سلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَقَاضَاهُ بَعيراً فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطُوهُ فَقَالُوا مَا نَجِدُ إلاَّ سِنَّاً مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أوْفَيْتَنِي أوْفَاكَ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطُوهُ فإنَّ مِنْ خِيارِ النَّاسِ أحْسَنُهُمْ قَضَاءً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقد مضى الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا بِبَاب. قَوْله: (أوفيتني) ، أَي: أَعْطَيْت حَقي وافياً كَامِلا، وَالْفرق بَين أوفاك الله، وأوفى بك الله، أَن الأول: الْإِكْمَال، وَالثَّانِي: بِمَعْنى: ضد الْغدر، يُقَال: وفى بعهده وأوفى.
7 - (بابُ حُسْنِ الْقَضَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب حسن الْقَضَاء، أَي: قَضَاء الدّين، أَي: أَدَائِهِ.(12/231)
3932 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفيانُ عنْ سَلَمَة عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانِ لِرَجُلٍ علَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِنٌّ مِنَ الإبِلِ فَجاءَهُ يَتَقاضاهُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطُوهُ فَطَلبوا سِنَّهُ فلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلاَّ سِنّاً فوْقَهَا فَقَالَ أعْطُوهُ فَقَالَ أوْفَيْتَنِي وفَى الله بِكَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خِيَارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (فَوْقهَا) أَي: أغْلى مِنْهَا ثمنا من حَيْثُ الْحسن وَالسّن. قَوْله: (إِن خياركم) وَفِي رِوَايَة أبي الْوَلِيد الَّتِي مَضَت: فَإِن خَيركُمْ أحسنكم قَضَاء، وَفِي رِوَايَة تَأتي فِي الْهِبَة: فَإِن من خَيركُمْ وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك: أفضلكم أحسنكم قَضَاء.
4932 - حدَّثنا خَلاَّدٌ قَالَ حدَّثنا مِسْعَرٌ قَالَ حدَّثنا مُحارِبُ بنُ دِثار عنْ جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ قَالَ ضُحىً فَقَالَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وكانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وزَادني. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فقضاني وَزَادَنِي) لِأَن الْقَضَاء مَعَ زِيَادَة هُوَ حسن الْقَضَاء، وخلاد، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: ابْن يحيى بن صَفْوَان أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَفِي بعض النّسخ مَذْكُور بِأَبِيهِ، ومسعر، بِكَسْر الْمِيم: ابْن كدام، ومحارب، بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء: ابْن دثار، بِكَسْر الدَّال وبالثاء الْمُثَلَّثَة، مر فِي: الصَّلَاة إِذا قدم من سفر، والْحَدِيث بِعَيْنِه وبعين الْإِسْنَاد الْمَذْكُور قد مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة إِذا قدم من سفر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
8 - (بابٌ إذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أوْ حَلَّلَهُ فَهْوَ جائِزٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قضى الْمَدْيُون دون حق صَاحب الدّين أَو حلله فَهُوَ جَائِز، وَقَالَ ابْن بطال: وَقع فِي التَّرْجَمَة فِي النّسخ كلهَا بِكَلِمَة: أَو، وَالصَّوَاب الْوَاو، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقْضِي دون حَقه، وَتسقط مُطَالبَته بِالْبَاقِي إلاَّ أَن يحلل مِنْهُ، وَلَا خلاف فِيهِ أَنه لَو حلله من جَمِيع الدّين وأبرأه مِنْهُ جَازَ ذَلِك، فَكَذَلِك إِذا حلله من بعضه.
5932 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يونسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني ابنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ جابِرَ بنَ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبَرَهُ أنَّ أباهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهيداً وعلَيْهِ دَيْنٌ فاشْتَدَّ الغُرَماءُ فِي حُقُوقِهِمْ فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُمْ أنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حائِطِي ويُحَلِّلُوا أبي فأبَوْا فلَمْ يُعْطِهِم النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حائِطي وَقَالَ سَنَغْدُو علَيْكَ فَغدَا عَلَيْنا حينَ أصْبَحَ فَطافَ فِي النَّخْلِ ودعا فِي ثَمَرِها بالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُها فَقَضَيْتُهُمْ وبَقِيَ لَنا مِنْ ثَمَرِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَسَأَلَهُمْ أَن يقبلُوا تمر حائطي ويحللوا أبي) بَيَان ذَلِك أَن تمر حَائِط جَابر كَانَ أقل من دين أَبِيه، فَسَأَلَهُمْ أَن يقْضِي دون حَقهم ويحللوا أَبَاهُ، فَلَمَّا أَبَوا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَبِيحَة غَد ذَلِك الْيَوْم، وَشَاهد النّخل ودعا فِي ثَمَرهَا بِالْبركَةِ، فجده جَابر وَقضى دينهم، وَبَقِي من ذَلِك الثَّمر شَيْء ببركة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ، وَهُوَ عبد الله بن عُثْمَان، وعبدان لقبه. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: ابْن كَعْب بن مَالك، وَاخْتلف فِيهِ. فَذكر أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَخلف الوَاسِطِيّ فِي (الْأَطْرَاف) ، والطرقي: أَنه عبد الرَّحْمَن، وتبعهم(12/232)
الْحميدِي فِي ذَلِك، وَذكر الْحَافِظ الْمزي: أَنه عبد الله، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَلم يسْتَدلّ على ذَلِك، وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) فِي ذَلِك. قلت: بل اسْتدلَّ بِأَن وهباً روى الحَدِيث عَن يُونُس بِسَنَد الْبَاب، فَسَماهُ عبد الله، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ. السَّادِس: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِي مَوضِع بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان وَأَن يُونُس أيلي وَابْن كَعْب مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
قَوْله: (فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاء) ، يَعْنِي: فِي الطّلب. قَوْله: (ويحللوا أبي) ، يَعْنِي: يجعلونه فِي حل ويبرؤنه عَن الدّين. قَوْله: (فَأَبَوا) ، أَي: امْتَنعُوا عَن أَخذ ثَمَر الْحَائِط، لِأَنَّهُ كَانَ أقل من الدّين. قَوْله: (فجددتها) ، من الجداد، بالمهملتين، وَهُوَ صرام النّخل، وَهُوَ قطع تمرتها، يُقَال: جد التمرة يجدهَا جدا. قَوْله: (من ثَمَرهَا) أَي: من ثَمَر النّخل.
وَفِيه من الْفَوَائِد: تَأْخِير الْغَرِيم إِلَى الْغَد وَنَحْوه بالعذر، كَمَا أخر جَابر غرماءه رَجَاء بركَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ وعده أَن يمشي مَعَه، فحقق الله رَجَاءَهُ وَظَهَرت بركته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَثَبت مَا هُوَ من أَعْلَام نبوته. وَفِيه: مشي الإِمَام فِي حوائج النَّاس لأجل استشفاعه فِي الدُّيُون.
9 - (بابٌ إِذا قاصَّ أوْ جازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْراً بِتَمْرٍ أوْ غَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا قاصَّ، بتَشْديد الصَّاد، من: المقاصصة. وَهِي أَن يقاص كل وَاحِد من الْإِثْنَيْنِ أَو أَكثر صَاحبه فِيمَا هم فِيهِ من الْأَمر الَّذِي بَينهم، وَهَهُنَا المقاصصة فِي الدّين. قَوْله: (أَو جازفه) من المجازفة، وَهِي الحدس بِلَا كيل وَلَا وزن. قَوْله: (فِي الدّين) ، يرجع إِلَى كل وَاحِد من قَوْله: قاص، وَقَوله: أَو جازفه، وَالضَّمِير فِي: قاص، يرجع إِلَى الْمَدْيُون بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: جازفه، يرجع إِلَيْهِ. وَأما الضَّمِير الْمَنْصُوب فَيرجع إِلَى صَاحب الدّين. قَوْله: (تَمرا بِتَمْر أَو غَيره) ، أَي: سَوَاء كَانَت المقاصصة أَو المجازفة تَمرا بِتَمْر أَو غير التَّمْر، نَحْو: قَمح بقمح أَو شعير بشعير، وَنَحْو ذَلِك، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز. .
6932 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنْ هِشَامٍ عنْ وَهْبِ بنِ كَيْسانَ عنْ جابِر بنِ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ أخبرهُ أنَّ أبَاهُ تُوُفِّيَ وتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاثِينَ وسْقاً لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ فاستْتَنْظَرَهُ جابرٌ فَأبى أَن يُنْظِرَهُ فَكَلَّمَ جابِرٌ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَشْفَعَ لَهُ إلَيْهِ فَجاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِياخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِي لَهُ فَأبى فدَخلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّخْلَ فَمَشَى فِيها ثُمَّ قَالَ لِجابِرٍ جُدَّ لَهُ فأوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ فَجَدَّهُ بَعْدَما رَجعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأوفاهُ ثَلاثِينَ وسْقاً وفَضَلتْ لَهُ سَبْعةَ عَشرَ وسْقاً فجاءَ جابِرٌ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُخْبِرَهُ بالَّذِي كانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي العَصْرَ فلَمَّا انْصَرَفَ أخْبَرَهُ بالْفَضْلِ فَقَالَ أخْبِرْ ذلِكَ ابنَ الخَطَّابِ فذَهَبَ جابِرٌ إِلَى عُمَرَ فأخبرَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقدْ عَلِمْتُ حينَ مَشَى فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. .
قَالَ الْمُهلب: لَا يجوز عِنْد أحد من الْعلمَاء أَن يَأْخُذ من لَهُ دين تمر من غَرِيمه تَمرا مجازفة بدين، لما فِيهِ من الْجَهْل وَالْغرر، وَإِنَّمَا يجوز أَن يَأْخُذ مجازف فِي حَقه أقل من دينه إِذا علم الْآخِذ ذَلِك وَرَضي. انْتهى. قلت: غَرَضه من ذَلِك إِظْهَار عدم صِحَة هَذِه التَّرْجَمَة. وَأجِيب: عَن هَذَا بِأَن مَقْصُود البُخَارِيّ أَن الْوَفَاء يجوز فِيهِ مَا لَا يجوز فِي الْمُعَاوَضَات، فَإِن: مُعَاوضَة الرطب بِالتَّمْرِ لَا يجوز إلاَّ فِي الْعَرَايَا، وَقد جوزه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوَفَاء الْمَحْض.
وَأنس هُوَ ابْن عِيَاض، يكنى أَبَا ضَمرَة من أهل الْمَدِينَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، ووهب بن كيسَان أَبُو نعيم مولى عبد الله بن الزبير بن الْعَوام الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصُّلْح عَن بنْدَار،(12/233)
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْوَصَايَا عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي (الْأَحْكَام) عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وسْقا) ، الوسق، بِفَتْح الْوَاو: سِتُّونَ صَاعا. قَوْله: (فَأبى أَن ينظره) ، أَي: امْتنع عَن إنظاهر، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (ثَمَر نخله) ، يرْوى بالمثلثثة وبالمثناة، قَالَه الْكرْمَانِي. قَوْله: (جد لَهُ) ، بِضَم الْجِيم أَمر من: جد يجد، وَقد مر عَن قريب. قَوْله: (سَبْعَة عشر) ويروى: تِسْعَة عشر. قَوْله: (بِالَّذِي كَانَ) أَي: من الْبركَة وَالْفضل على الدّين. قَوْله: (ابْن الْخطاب) أَي: عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفَائِدَة الْإِخْبَار لَهُ زِيَادَة الْإِيمَان، لِأَنَّهُ كَانَ معْجزَة، إِذْ لم يكن يَفِي أَولا، وَزَاد آخرا، وتخصيصه عمر بذلك لِأَنَّهُ كَانَ معتنياً بقضية جَابر مهتماً بهَا، أَو كَانَ حَاضرا فِي أول الْقَضِيَّة دَاخِلا فِيهَا. قَوْله: (ليباركن) بِصِيغَة الْمَجْهُول مؤكداً بالنُّون الثَّقِيلَة. قَوْله: (فِيهَا) أَي: فِي الثَّمر، وَهُوَ جمع: ثَمَرَة.
01 - (بابُ منِ اسْتَعاذَ مِنَ الدَّيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من استعاذ بِاللَّه من ارْتِكَاب الدَّين، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الِاسْتِعَاذَة من الدّين. .
7932 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبُ عنِ الزُّهْرِيِّ ح وحدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخي عنْ سُلَيْمانَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي عَتيقٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخْبَرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ ويقولُ اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الْمَاثَمُ والْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قائلٌ مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رسولَ الله مِنَ الْمَغْرَمِ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا غرِمَ حدَّثَ فَكَذَبَ ووَعَدَ فأخْلَفَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن المغرم هُوَ الدّين. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ عبد الحميد أَبُو بكر وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ. وَالرِّجَال كلهم مدنيون. والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الدُّعَاء قبل السَّلَام. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. . إِلَى آخِره. قَوْله: (من المأثم) ، مصدر ميمي بِمَعْنى: الْإِثْم، وَكَذَلِكَ (المغرم) بِمَعْنى الغرامة، وَهِي: لُزُوم الْأَدَاء. وَأما الْغَرِيم فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الدّين. قَوْله: (ووعد) يَعْنِي بالوافاء غَدا أَو بعد غَد، مثلا والوعد، وَإِن كَانَ نوعا من التحديث، وَلَكِن التحديث يخْتَص بالماضي، والوعد بالمستقبل.
قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: وجوب قطع الذرائع، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا استعاذ من الدّين لِأَن ذَرِيعَة إِلَى الْكَذِب وَالْخلف فِي الْوَعْد مَعَ مَا فِيهِ من الذلة، وَمَا لصَاحب الدّين عَلَيْهِ من الْمقَال.
11 - (بابُ الصَّلاةِ عَلى منْ ترَكَ دَيْناً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة على الْمَيِّت الَّذِي ترك دينا، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة: إِلَى أَن الدّين لَا يخل بِالدّينِ، وَأَن الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ لَيست لذاته، بل لما أرتب عَلَيْهِ من غوائله، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَار يُصَلِّي على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين، بعد أَن كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وعقدة هَذِه التَّرْجَمَة لبَيَان ذَلِك، على مَا نبينه الْآن.
8932 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَدِيِّ بنِ ثابِتٍ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من ترَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ ومَنْ ترَكَ كَلاًّ فإلَيْنا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة من وُجُوه فِي آخر كتاب الْوكَالَة فِي: بَاب الدّين، رَوَاهُ أَبُو سَلمَة عَنهُ، وَفِي الْفَرَائِض رَوَاهُ أَبُو سَلمَة أَيْضا عَنهُ، وَفِي سُورَة الْأَحْزَاب رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة عَنهُ، وَفِي هَذَا الْبَاب، رَوَاهُ أَيْضا عبد الرَّحْمَن عَنهُ على مَا يَجِيء عَن قريب، وَهنا أَيْضا رَوَاهُ أَبُو حَازِم عَنهُ، وَهنا أخرجه عَن أبي الْوَلِيد هِشَام(12/234)
ابْن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن عدي عَن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن أبي بكر بن نَافِع وَعَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن حَفْص بن عمر، كلهم عَن شُعْبَة، وَفِيه من جملَة الْأَلْفَاظ: من ترك دينَاً فعلي، قَالَ ابْن بطال: هَذَا نَاسخ لتَركه الصَّلَاة على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين. قلت: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ قبل فتح الفتوحات، فَلَمَّا فتح الله مِنْهَا مَا فتح صَار صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَصَارَ فعله هَذَا نَاسِخا لفعله الأول، كَمَا قَالَه ابْن بطال. وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى ذَلِك، فحصلت الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
قَوْله: (كَلاًّ) بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام، قَالَ ابْن الْأَثِير: الْكل الثّقل من كل مَا يتَكَلَّف. وَالْكل الْعِيَال. قلت: الَّذين من كل مَا يتَكَلَّف. قَوْله: (إِلَيْنَا) ، مَعْنَاهُ يرجع أَمر الْكل إِلَيْنَا، فَإِن كَانَ على الْمَيِّت دين فَعَلَيهِ وفاؤه كَمَا نَص عَلَيْهِ. بقوله: (من ترك دينا فعلي) وَإِن لم يكن عَلَيْهِ دين وَترك شَيْئا فلورثته، إِن كَانُوا، وإلاَّ فَالْأَمْر إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ إِذا ترك عيالاً وَلم يتْرك شَيْئا، لِأَن أُمُور الْمُسلمين كلهَا يرجع إِلَيْهِ فِي كل حَال.
9932 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو عامِرٍ قَالَ حَدثنَا فُلَيْحٌ عَن هِلاَلِ بنِ عَلِيٍّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي عَمْرَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وأنَا أوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ اقْرَؤوا إنْ شِئْتُمْ {النَّبِيّ أوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ} (لأحزاب: 6) فأيُّما مُؤْمِنٍ ماتَ وتَرَكَ مَالا فلْيَرِثُهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كانُوا ومنْ تَرَكَ دَيْناً أوْ ضَياعاً فلْيَأْتِني فأنَا مَوْلاَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث السَّابِق، وَرِجَاله ق ذكرُوا على نسق وَاحِد فِي: بَاب كِرَاء الأَرْض بِالذَّهَب وَالْفِضَّة: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو عَامر حَدثنَا فليح عَن هِلَال بن عَليّ، لَكِن فِيهِ عَن هِلَال بن عَطاء بن يسَار، وَهنا عَن هِلَال عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي وَأَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو، وفليح ابْن سُلَيْمَان، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر ... إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا من مُؤمن إِلَّا وَأَنا أولى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) يَعْنِي: أَحَق وَأولى بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كل شَيْء من أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة من أنفسهم، وَلِهَذَا أطلق وَلم يعين، فَيجب عَلَيْهِم امْتِثَال أوامره والاجتناب عَن نواهيه. قَوْله: (اقرؤوا إِن شِئْتُم: {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم} (الْأَحْزَاب: 6)) فِي معرض الِاحْتِجَاج لما قَالَه تَنْبِيها لَهُم على أَن هَذَا الَّذِي قَالَه وَحي غير متلو، طابقة وَحي متلو، وَتكلم الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم} (الْأَحْزَاب: 6) . وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَعَطَاء يَعْنِي: إِذا دعاهم النَّبِي إِلَى شَيْء ودعتهم أنفسهم إِلَى شَيْء كَانَت طَاعَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أولى بهم من طَاعَة أنفسهم، وَعَن مقَاتل: يَعْنِي طَاعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى من طَاعَة بَعْضكُم لبَعض، وَقيل: إِنَّه أولى بهم فِي إِمْضَاء الْأَحْكَام وَإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم لما فِيهِ من مصلحَة الْخلق والبعد عَن الْفساد، وَقيل: لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدعُوهُم إِلَى مَا فِيهِ نجاتهم، وأنفسهم تدعوهم إِلَى مَا فِيهِ هلاكهم. وَقيل: لِأَن أنفسهم تحرسهم من نَار الدُّنْيَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرسهم من نَار العقبى. وَقَالَ ابْن التِّين: عَن الدَّاودِيّ قَوْله: (اقرؤا إِن شِئْتُم) : أَحْسبهُ من كَلَام إبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ كَمَا ظن، فقد روى جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَنا أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم. قَوْله: (فليرثه عصبته) ، الْعصبَة عِنْد أهل الْفَرَائِض اسْم لمن يَرث جَمِيع المَال إِذا انْفَرد، والفاضل بعد فرض ذَوي السِّهَام. وَقيل: الْعصبَة قرَابَة الرجل لِأَبِيهِ، سموا بذلك من قَوْلهم: عصب الْقَوْم بفلان أَي: أحاطوا بِهِ، وهم كل من يلتقي مَعَ الْمَيِّت فِي أَب أَو جد، وَيَكُونُونَ معلومين. وَأما الْمَرْأَة فَلَا تسمى عصبَة على الْإِطْلَاق، قَالَ أَبُو الْمعَانِي: الْوَاحِد عاصب، قِيَاس غير مسموع، وَكَذَا قَالَه الْأَزْهَرِي. قَوْله: (من كَانُوا) كلمة: من، مَوْصُولَة، وَإِنَّمَا ذكرهَا ليتناول أَنْوَاع الْعصبَة، فَإِن الْعصبَة لَهُ أَنْوَاع ثَلَاثَة، لِأَنَّهُ: إِن لم يتَوَقَّف على وجود غَيره فَهُوَ عصبَة بِنَفسِهِ، وَإِن توقف فَإِن كَانَ توقفه على وجود ذكر أَو أُنْثَى، فَالْأول عصبَة بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: عصبَة مَعَ غَيره، على مَا عرف فِي مَوْضِعه. فَإِن قلت: من أَيْن الْعُمُوم؟ قلت: الْعُمُوم من كلمة: من، لِأَن أَلْفَاظ الموصولات عامات. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن تكون: من، شَرْطِيَّة، وَلم يبين وَجه ذَلِك. قَوْله: (أَو ضيَاعًا) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة(12/235)
مصدر ضَاعَ يضيع، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَعْنَاهُ من ترك شَيْئا ضائعاً كالأطفال وَنَحْوهم فَليَأْتِنِي ذَلِك الضائع فَأَنا مَوْلَاهُ، أَي وليه، وَرَوَاهُ بَعضهم: ضيَاعًا، بِكَسْر الضَّاد، وَهُوَ جمع ضائع، كَمَا يُقَال: جَائِع وجياع، قَالَ: وَالْأول أصح. وَقَالَ الْخطابِيّ: الضّيَاع فِي الأَصْل مصدر ثمَّ جعل إسماً لكل مَا هُوَ بصدد أَن يضيع من ولد أَو عِيَال.
21 - (بابٌ مَطْلُ الغَنِيِّ ظلْمٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مطل الْغَنِيّ ظلم، فَلفظ: بَاب، منوه غير مُضَاف، ومطل الْغَنِيّ كَلَام إضافي، وظلم خَبره، وأصل المطل من مطلت الحديدة أمطلها مطلاً إِذا ضربتها ومددتها لتطول، وكل مَمْدُود ممطول، وَمِنْه اشتقاق المطل بِالدّينِ وَهُوَ الليان بِهِ، يُقَال: مطله وماطله بِحقِّهِ.
0042 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عبدُ الأعْلَى عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ أخِي وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَطْلُ الغنيِّ ظُلْمٌ. .
نفس التَّرْجَمَة هُوَ لفظ الحَدِيث بِعَيْنِه، وَهُوَ جُزْء من حَدِيث أخرجه فِي الْحِوَالَة فِي: بَاب إِذا حَال على مَلِيء حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف حَدثنَا سُفْيَان عَن ابْن ذكْوَان عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مطل الْغَنِيّ ظلم وَمن اتبع على مَلِيء فَليتبعْ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَعبد الْأَعْلَى هُوَ ابْن عبد الْأَعْلَى الْبَصْرِيّ، وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد.
31 - (بابٌ لِصاحِبِ الْحَقِّ مَقالٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لصَاحب الْحق مقَال، يَعْنِي إِذا طلب وَكرر قَوْله فِيهِ لَا يلام.
ويُذْكَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وعِرْضُهُ قَالَ سُفْيَانُ عِرْضُهُ يَقُولُ مَطَلْتَنِي وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ
ذكر الحَدِيث الْمُعَلق، ثمَّ ذكر عَن سُفْيَان تَفْسِيره، ومطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: عرضه، لِأَن سُفْيَان فسر الْعرض بقوله: مطلني حَقي، وَهُوَ مقَال على مَا لَا يخفى. أما الْمُعَلق فوصله أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مُحَمَّد بن مَيْمُون بن مُسَيْكَة عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لي الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته. والشريد، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة: هُوَ ابْن سُوَيْد الثَّقَفِيّ، قيل: إِنَّه من حَضرمَوْت فحالف ثقيفاً، شهد الْحُدَيْبِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (لي الْوَاجِد) ، اللي، بِفَتْح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء: المطل، يُقَال: لواه غَرِيمه بِدِينِهِ يلويه لياً، وَأَصله لوياً أدغمت الْوَاو فِي الْيَاء. والواجد: هُوَ الْقَادِر على قَضَاء دينه. قَوْله: (يحل) ، بِضَم الْيَاء من الْإِحْلَال، وَأما تَفْسِير سُفْيَان فوصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الْفرْيَابِيّ، وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ، عَن سُفْيَان بِلَفْظ؛ عرضه أَن يَقُول مطلني حَقي، وعقوبته أَن يسجن. وَقَالَ إِسْحَاق: فسر سُفْيَان عرضه: أَذَاهُ بِلِسَانِهِ، وَعَن وَكِيع: عرضه شكايته، وَاسْتدلَّ بِهِ على مَشْرُوعِيَّة حبس الْمَدْيُون، إِذا كَانَ قَادِرًا على الْوَفَاء تأديباً لَهُ، لِأَنَّهُ ظَالِم حِينَئِذٍ، وَالظُّلم محرم وَإِن قل، وَإِن ثَبت إِعْسَاره وَجب إنظاره وَحرم حَبسه، وَاخْتلف فِي ثَابت الْعسرَة، وَأطلق من السجْن، هَل يلازمه غَرِيمه؟ فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا، حَتَّى يثبت لَهُ مَال آخر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا يمْنَع الْحَاكِم الْغُرَمَاء من لُزُومه.
1042 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ فأغْلَظُ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الْحَقِّ مقَالاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا) وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان: والْحَدِيث مر فِي: بَاب استقراض الْإِبِل بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، وَعَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن سَلمَة. . إِلَى آخِره، فِي: بَاب حسن(12/236)
التقاضي، وَعَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن سَلمَة ... إِلَى آخِره فِي: بَاب حسن الْقَضَاء.
41 - (بابٌ إذَا وجَدَ مالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي البَيْعِ والقَرْضِ والوَدِيعَةِ فَهْوَ أحَقُّ بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا وجد شخص مَالا عِنْد مُفلس، وَهُوَ الَّذِي حكم الْحَاكِم بإفلاسه. قَوْله: (فِي البيع) ، يتَعَلَّق بقوله: وجد صورته: أَن يَبِيع رجل مَتَاعا لرجل ثمَّ أفلس الرجل الَّذِي اشْتَرَاهُ، وَوجد البَائِع مَتَاعه الَّذِي بَاعه عِنْده، فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره من الْغُرَمَاء، وَفِيه خلاف نذكرهُ عَن قريب. قَوْله: (وَالْقَرْض) ، صورته أَن يقْرض لرجل مِمَّا يَصح فِيهِ الْقَرْض، ثمَّ أفلس الْمُسْتَقْرض، فَوجدَ الْمقْرض مَا أقْرضهُ عِنْده فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره، وَفِيه الْخلاف أَيْضا. قَوْله: (والوديعة) ، صورته أَن يودع رجل عِنْد رجل وَدِيعَة ثمَّ أفلس المودَع فالمودِع بِكَسْر الدَّال أَحَق بِهِ من غَيره بِلَا خلاف. وَقيل: إِدْخَال البُخَارِيّ الْقَرْض والوديعة مَعَ الدّين إِمَّا لِأَن الحَدِيث مُطلق، وَإِمَّا أَنه وَارِد فِي البيع، وَالْحكم فِي الْقَرْض والوديعة أولى. أما الْوَدِيعَة فَملك رَبهَا لم ينْتَقل، وَأما الْقَرْض فانتقال ملكه عَنهُ مَعْرُوف، وَهُوَ أَضْعَف من تمْلِيك الْمُعَاوضَة، فَإِذا أبطل التَّفْلِيس ملك الْمُعَاوضَة الْقوي بِشَرْطِهِ فالضعيف أولى. قلت: قَوْله: وَالْحكم فِي الْقَرْض والوديعة أولى، غير مسلَّم فِي الْقَرْض، لِأَنَّهُ انْتقل من ملك المقرِض وَدخل فِي ملك الْمُسْتَقْرض، فَكيف يكون الْمقْرض أولى من غَيره، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ ملك؟ واعترف هَذَا الْقَائِل أَيْضا أَن الْقَرْض انْتقل من ملك الْمقْرض. قَوْله: (فَهُوَ أَحَق بِهِ) ، جَوَاب: إِذا، الَّتِي تَضَمَّنت معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي جوابها، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، يرجع إِلَى قَوْله: مَاله، يَعْنِي: أَحَق بِهِ من غَيره، من غُرَمَاء الْمُفلس.
وَقَالَ الحسَنُ إذَا أفْلعسَ وتبَيَّنَ لَمْ يَجُزّ عِتْقُهُ ولاَ بَيْعُهُ ولاَ شِرَاؤهُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ. قَوْله: (إِذا أفلس) ، أَي: رجل أَو شخص، فالقرينة تدل عَلَيْهِ. قَوْله: (وَتبين) ، أَي: ظهر إفلاسه عِنْد الْحَاكِم، فَلَا يجوز عتقه إِلَى آخِره، وَقيد بِهِ لِأَنَّهُ مَا لم يتَبَيَّن إفلاسه عِنْد الْحَاكِم يجوز تصرفه فِي الْأَشْيَاء كلهَا، وَأما عِنْد التبين فَفِيهِ خلاف، فَعِنْدَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بيع الْمَحْجُور وابتياعه جَائِز، وَعند أَكثر الْعلمَاء: لَا يجوز إلاَّ إِذا وَقع مِنْهُ البيع لوفاء الدّين، وَعند الْبَعْض يُوقف، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول: وَاخْتلفُوا فِي إِقْرَاره، فالجمهور على قبُوله.
وَقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ قَضاى عُثْمَانُ مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أنْ يُفْلِسَ فَهْوَ لَهُ ومَنْ عَرَفَ مَتاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهْوَ أحَقُّ بِهِ
عُثْمَان هُوَ ابْن عَفَّان. قَوْله: (من اقْتضى من حَقه) ، مَعْنَاهُ: أَن من كَانَ لَهُ حق عِنْد أحد فَأَخذه قبل أَن يفلسه الْحَاكِم فَهُوَ لَهُ لَا يتَعَرَّض إِلَيْهِ أحد من غُرَمَائه خَاصَّة، بل كل من أثبت عَلَيْهِ حَقًا يُطَالِبهُ بِخِلَاف مَا إِذا عرف أحد مَتَاعه بِعَيْنِه أَنه عِنْده فَإِنَّهُ أَحَق بِهِ من غَيره من سَائِر الْغُرَمَاء، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد على مَا يَجِيء بَيَانه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عبيد فِي كتاب الْأَمْوَال عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: أفلس مولى لأم حَبِيبَة فاختصم فِيهِ إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقضى أَن من كَانَ اقْتضى من حَقه شَيْئا قبل أَن يتَبَيَّن إفلاسه فَهُوَ لَهُ، وَمن عرف مَتَاعه بِعَيْنِه فَهُوَ لَهُ.
2042 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى ابنُ سَعِيدٍ قَالَ أخبرَني أَبُو بَكْرِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حزْمٍ أنَّ عُمر بنَ عَبْدِ العَزِيزِ أخْبَرَهُ أنَّ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ الحَرث بنِ هِشامٍ قَالَ أخبرهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ مَنْ أدْرَكَ مالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أوْ إنْسَانٍ قَدْ أفْلَسَ فَهْوَ أحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تطابق إلاَّ بقوله فِي البيع، لِأَن أَحَادِيث هَذَا الْبَاب تدل على أَن حَدِيث الْبَاب وَارِد فِي البيع. مِنْهُم:(12/237)
مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الرجل الَّذِي يعْدم إِذا وجد عِنْده الْمَتَاع لم يعرفهُ أَنه لصَاحبه الَّذِي بَاعه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من رِوَايَة يحيى بن سعيد بِإِسْنَاد حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ: (إِذا ابْتَاعَ الرجل سلْعَة ثمَّ أفلس وَهِي عِنْده بِعَينهَا فَهُوَ أَحَق بهَا من الْغُرَمَاء) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق هِشَام بن يحيى المَخْزُومِي عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا أفلس الرجل فَوجدَ البَائِع سلْعَته) وَالْبَاقِي مثله. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث مُرْسلا: (أَيّمَا رجل بَاعَ سلْعَة فأفلس الَّذِي ابتاعه وَلم يقبض البَائِع من ثمنه شَيْئا، فَوَجَدَهُ بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ) . قيل: يلْتَحق بِهِ الْقَرْض والوديعة. قلت: قد ردينا هَذَا عَن قريب بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: زُهَيْر مصغر الزهر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، مر فِي الْوضُوء. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي، مر فِي الْوَحْي. الْخَامِس: عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان الْخَلِيفَة الْعَادِل الْقرشِي الْأمَوِي. السَّادِس: أَبُو بكر ابْن عبد الرَّحْمَن الَّذِي يُقَال لَهُ: رَاهِب قُرَيْش لِكَثْرَة صلَاته. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى جده وَأَنه وزهيراً كوفيان والبقية مدنيون. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين يحيى وَثَلَاثَة بعده. وَفِيه: أَن يحيى وَمن بعده كلهم ولوا الْقَضَاء على الْمَدِينَة. وَفِيه: أَن يحيى وَأَبا بكر بن مُحَمَّد وَعمر بن عبد الْعَزِيز من طبقَة وَاحِدَة. وَفِيه: شكّ أحد الروَاة بَين قَوْله: قَالَ رَسُول الله، وَقَوله: سَمِعت رَسُول الله، قَالَ بَعضهم: أَظُنهُ من زُهَيْر. قلت: الظَّن لَا يجدي شَيْئا، لِأَن الِاحْتِمَال فِي غَيره قَائِم.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَيحيى بن حبيب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن ابْن أبي حُسَيْن. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النُّفَيْلِي وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف وَعَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن سُلَيْمَان بن دَاوُد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد وَإِبْرَاهِيم بن الْحسن، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار.
ذكر حكم هَذَا الحَدِيث فِي الِاحْتِجَاج بِهِ: احْتج بِهِ عَطاء بن أبي رَبَاح وَعُرْوَة بن الزبير وطاووس وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبيد الله بن الْحسن وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، فَإِنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى ظَاهر هَذَا الحَدِيث وَقَالُوا: إِذا أفلس الرجل وَعِنْده مَتَاع قد اشْتَرَاهُ وَهُوَ قَائِم بِعَيْنِه فَإِن صَاحبه أَحَق بِهِ من غَيره من الْغُرَمَاء. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع فُقَهَاء الْحجاز وَأهل الْأَثر على القَوْل بجملته، أَي بجملة الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِن اخْتلفُوا فِي أَشْيَاء من فروعه. ثمَّ قَالَ: وَاخْتلف مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْمُفلس يَأْبَى غرماؤه دفع السّلْعَة إِلَى صَاحبهَا، وَقد وجدهَا بِعَينهَا، ويريدون دفع الثّمن إِلَيْهِ من قبل أنفسهم كَمَا لَهُم فِي قبض السّلْعَة من الْفضل، فَقَالَ مَالك: لَهُم ذَلِك وَلَيْسَ لصَاحِبهَا أَخذهَا إِذا دفع إِلَيْهِ الْغُرَمَاء الثّمن. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ للْغُرَمَاء فِي هَذَا مقَال. قَالَ: وَإِذا لم يكن للْمُفلس وَلَا لوَرثَته أَخذ السّلْعَة فالغرماء أبعد من ذَلِك، وَإِنَّمَا الْخِيَار لصَاحب السّلْعَة إِن شَاءَ أَخذهَا وَإِن شَاءَ تَركهَا، وَضرب مَعَ الْغُرَمَاء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل صَاحبهَا أَحَق بهَا مِنْهَا، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَأحمد وَجَمَاعَة، وَاخْتلف مَالك وَالشَّافِعِيّ أَيْضا إِذا اقْتضى صَاحب السّلْعَة من ثمنهَا شَيْئا. فَقَالَ ابْن وهب وَغَيره عَن مَالك: إِن أحب صَاحب السّلْعَة أَن يرد مَا قبض من لثمن وَيقبض سلْعَته كَانَ ذَلِك لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَو كَانَت السّلْعَة عبدا فَأخذ نصف ثمنه ثمَّ أفلس الْغَرِيم كَانَ لَهُ نصف العَبْد لِأَنَّهُ بِعَيْنِه، وَيبِيع النّصْف الثَّانِي الَّذِي بَقِي للْغُرَمَاء وَلَا يرد شَيْئا مِمَّا أَخذ، لِأَنَّهُ مستوفٍ لما أَخذ، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَاخْتلف مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْمُفلس يَمُوت قبل الحكم عَلَيْهِ وَقبل توقيفه، فَقَالَ مَالك: لَيْسَ حكم الْمُفلس كَحكم الْمَيِّت، وبائع السّلْعَة إِذا وجدهَا(12/238)
بِعَينهَا أُسْوَة للْغُرَمَاء فِي الْمَوْت بِخِلَاف التَّفْلِيس، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَفِي (التَّوْضِيح) مُقْتَضى الحَدِيث رُجُوعه أَي: رُجُوع صَاحب السّلْعَة وَلَو قبض بعض الثّمن لإِطْلَاق الحَدِيث، وَهُوَ الْجَدِيد من قَول الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَخَالف فِي الْقَدِيم، فَقَالَ: يضارب بباقي الثّمن فَقَط، واستدلت الشَّافِعِيَّة بقوله: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه على أَن شَرط اسْتِحْقَاق صَاحب المَال دون غَيره أَن يجد مَاله بِعَيْنِه لم يتَغَيَّر وَلم يتبدل، وإلاَّ فَإِن تَغَيَّرت الْعين فِي ذَاتهَا بِالنَّقْصِ مثلا أَو فِي صفة من صفاتها فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء.
وَبسط بعض الشَّافِعِيَّة الْكَلَام هُنَا، وَجعله على وُجُوه: الأول: لَا بُد فِي الحَدِيث من اضمار وَلم يكن البَائِع قبض ثمنهَا لِأَنَّهُ إِذا قَبضه فَلَا رُجُوع لَهُ فِيهِ إِجْمَاعًا. الثَّانِي: خصص مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم لَهُ رُجُوعه فِي الْعين بِمَا إِذا لم يكن قبض من ثمنهَا شَيْئا، فَإِن قبض بعضه صَار فِي بَقِيَّته أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَقد قُلْنَا آنِفا: إِن الشَّافِعِي لم يفرق فِي الْجَدِيد بَين قبض بعض الثّمن وَبَين عدم قَبضه لعُمُوم الحَدِيث. الثَّالِث: اسْتدلَّ الشَّافِعِي وَأحمد بِرِوَايَة عمر بن خلدَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أفلس أَو مكات فَوجدَ رجل مَتَاعه ... . الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره على التَّسْوِيَة بَين حالتي الإفلاس حَيا وَمَيتًا أَن لصَاحب السّلْعَة الرُّجُوع، وَفرق مَالك بَينهمَا، وَقَالَ: هُوَ فِي حَالَة الْمَوْت أُسْوَة الْغُرَمَاء. الرَّابِع: اسْتدلَّ بقوله: أدْرك مَاله بِعَيْنِه، على أَنَّهَا إِذا هَلَكت أَو أخرجهَا عَن ملكه بِبيع أَو هبة أَو عتق أَو نَحوه أَنه لَا يرجع فِيهَا، لِأَنَّهَا لَيست على يَد المُشْتَرِي. الْخَامِس: اسْتدلَّ بِهِ على أَن التَّصَرُّف الَّذِي لَا يزِيل الْملك لَا يبطل حق الرُّجُوع للْبَائِع كالتدبير، واستيلاد أم الْوَلَد، وَهُوَ كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدبر عِنْد من يجوز بَيْعه، وَهُوَ الصَّحِيح، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أم الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع فِيهَا على الصَّوَاب. قَالَ شَيخنَا: وَأما مَا وَقع فِي فَتَاوَى النَّوَوِيّ من أَنه يرجع فَهُوَ غلط، وَقد عبَّر هُوَ فِي (تَصْحِيح التَّنْبِيه) بِأَن الصَّوَاب أَنه لَا يرجع. السَّادِس: مَا المُرَاد بالمفلس الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَفِي قَول الْفُقَهَاء؟ قَالَ الرَّافِعِيّ نقلا عَن الْأَئِمَّة: إِن الْمُفلس من عَلَيْهِ دُيُون لَا تفي بِمَالِه، وَاعْترض عَلَيْهِ بأمرين: أَحدهمَا: أَنه لَا بُد من تَقْيِيد ذَلِك بِضَرْب الْحَاكِم الْحجر عَلَيْهِ، فَإِن من هَذِه حَاله وَلم يضْرب عَلَيْهِ الْحجر يَصح بَيْعه وشراؤه بِلَا خلاف. وَالثَّانِي: أَنه تتقيد الدُّيُون بديون الْعباد، أما دُيُون الله تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ لَا يضْرب عَلَيْهِ الْحجر بعجز مَاله عَنْهَا إِذا كَانَ مَاله يَفِي بديون الْعباد، كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب (الْإِيمَان) . السَّابِع: قَوْله: مَاله بِعَيْنِه، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَغَيره: فَوجدَ الرجل سلْعَته عِنْده بِعَينهَا، دَلِيل على أَنه لَا يخْتَص ذَلِك بِالْبيعِ، بل لَو أقْرضهُ دَرَاهِم ثمَّ أفلس فَوجدَ الرجل الدَّرَاهِم بِعَينهَا فَهُوَ أَحَق بهَا من بَقِيَّة الْغُرَمَاء، لِأَن السّلْعَة لُغَة الْمَتَاع. قَالَه الْجَوْهَرِي، وَفِي بعض طرقه فِي (الصَّحِيح) أَيْضا: فَوجدَ الرجل مَتَاعه أَو مَاله. الثَّامِن: لَو أجره شَيْئا بمنجل وتفلس الْمُسْتَأْجر قبل فيض الْأُجْرَة أَنه يفْسخ الْإِجَارَة وَيرجع بِالْعينِ الْمُسْتَأْجرَة، وَقد صرح بِهِ الرَّافِعِيّ، قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وإدراجه تَحت لفظ الحَدِيث مُتَوَقف على الْمَنَافِع، هَل يُطلق عَلَيْهَا إسم الْمَتَاع وَالْمَال؟ قَالَ: وَإِطْلَاق المَال عَلَيْهَا أقوى. قلت: يُطلق عَلَيْهَا اسْم الْمَتَاع لُغَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْمَتَاع السّلْعَة، وَالْمَتَاع الْمَنْفَعَة. التَّاسِع: يدْخل تَحت ظَاهر الحَدِيث مَا الْتزم فِي ذمَّته نقل مَتَاع من مَكَان إِلَى مَكَان، ثمَّ أفلس، وَالْأُجْرَة بِيَدِهِ قَائِمَة، فَإِنَّهُ يثبت حق الْفَسْخ وَالرُّجُوع إِلَى الْأُجْرَة، قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد. الْعَاشِر: فِيهِ حجَّة لأحد الْوَجْهَيْنِ أَن الْمُفلس الْمَضْرُوب عَلَيْهِ الْحجر يحل الدُّيُون المؤجلة عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح أَنه لَا يحل. الْحَادِي عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ: أَن الْغُرَمَاء إِذا قدمُوا صَاحب الْعين الْقَائِمَة بِثمنِهَا لم يسْقط حَقه من الرُّجُوع فِي الْعين. الثَّانِي عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ على أَن لصَاحب الْعين الاستبداد فِي الرُّجُوع فِي عينه، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك إلاَّ بالحاكم. الثَّالِث عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه: لَو امْتنع المُشْتَرِي من تَسْلِيم الثّمن أَو هرب، أَو امْتنع الْوَارِث من تَسْلِيم الثّمن وَحجر الْحَاكِم عَلَيْهِ أَنه لصَاحب الْعين الرُّجُوع إِلَى حَقه لقَوْله: أَيّمَا امرىء أفلس، فَهَذَا مَفْهُوم شَرط وَصفَة، فَيَقْتَضِي أَنه لَا رُجُوع فِي حق غير الْمُفلس. الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه إِذا بَاعه عَبْدَيْنِ فَتلف أَحدهمَا رَجَعَ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ، وَقيل: يرجع فِيهِ بِكُل الثّمن. الْخَامِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ لأحد الْوَجْهَيْنِ أَنه إِذا وجد رب السّلْعَة سلْعَته عِنْد الْمُفلس بعد أَن خرجت: ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِغَيْر عوض أَنه يرجع كالميراث وَالْهِبَة، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ فِي (الشَّرْح الصَّغِير) ، وَصحح النَّوَوِيّ من زياداته فِي (الرَّوْضَة) عدم الرُّجُوع لِأَنَّهُ تَلقاهُ من مَالك آخر غير(12/239)
صَاحب الْعين. السَّادِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ على رُجُوع البَائِع، وَإِن كَانَ للْمُفلس ضَامِن بِالثّمن، وَقد فرق صَاحب (التَّتِمَّة) بَين أَن يضمن بِإِذن المُشْتَرِي أَو لَا، فَإِن ضمن بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخ، وَإِن ضمن بِغَيْر إِذْنه فَوَجْهَانِ. السَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ من ذهب إِلَى أَن البَائِع يرجع فِيهِ، وَإِن كَانَ الْمَبِيع شخصا مشفوعاً وَلم يعلم الشَّفِيع حَتَّى حجر على المُشْتَرِي، وَهُوَ وَجه، وَالصَّحِيح أَنه يَأْخُذهُ الشَّفِيع وَيكون الثّمن بَين الْغُرَمَاء، وَقيل: يَأْخُذهُ الشَّفِيع ويخص البَائِع بِالثّمن جمعا بَين الْحَقَّيْنِ. الثَّامِن عشر: فِيهِ أَنه يرجع، وَإِن وجده معيبا. التَّاسِع عشر: فِيهِ أَنه لَا يرجع بالزوائد الْمُنْفَصِلَة لِأَنَّهَا لَيست مَتَاعه. الْعشْرُونَ: اسْتدلَّ بِهِ على أَن البَائِع لَهُ الرُّجُوع، وَإِن كَانَ المُشْتَرِي قد بنى وغرس فِيهَا، وَفِيه خلاف وتفصيل مَعْرُوف فِي كتب الْفِقْه. انْتهى.
قلت: ذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ فِي رِوَايَة، ووكيع بن الْجراح وَعبد الله بن شبْرمَة قَاضِي الْكُوفَة. وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر: إِلَى أَن بَائِع السّلْعَة أُسْوَة للْغُرَمَاء، وَصَحَّ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَن من اقْتضى من ثمن سلْعَته شَيْئا ثمَّ أفلس فَهُوَ والغرماء فِيهِ سَوَاء، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحْو مَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وروى قَتَادَة عَن خلاس بن عَمْرو عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: هُوَ فِيهَا أُسْوَة الْغُرَمَاء إِذا وجدهَا بِعَيْنِه، وَبِهَذَا يرد على ابْن الْمُنْذر فِي قَوْله: وَلَا نعلم لعُثْمَان فِي هَذَا مُخَالفا من الصَّحَابَة. وَقَول عُثْمَان مر عَن قريب فِي أَوَائِل الْبَاب. وروى الثَّوْريّ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: هُوَ والغرماء فِيهِ شرعا سَوَاء، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن الشّعبِيّ، وَسَأَلَهُ رجل أَنه وجد مَاله بِعَيْنِه، فَقَالَ: لَيست لَك دون الْغُرَمَاء.
وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن حَدِيث الْبَاب أَن الْمَذْكُور فِيهِ: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه، وَالْمَبِيع لَيْسَ هُوَ عين مَاله، وَإِنَّمَا هُوَ عين مَال قد كَانَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَاله بِعَيْنِه يَقع على الْمَغْصُوب والعواري والودائع وَمَا أشبه ذَلِك، فَذَلِك مَاله بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء، وَفِي ذَلِك جَاءَ هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث سَمُرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن حجاج عَن سعيد بن زيد بن عقبَة عَن أَبِيه عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من سرق لَهُ مَتَاع، أَو ضَاعَ لَهُ مَتَاع فَوَجَدَهُ عِنْد رجل بِعَيْنِه فَهُوَ أَحَق بِعَيْنِه، وَيرجع المُشْتَرِي على البَائِع بِالثّمن. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، فَهَذَا يبين أَن المُرَاد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه على الودائع والعواري وَالْمَغْصُوب وَنَحْوهَا، وَأَن صَاحب الْمَتَاع أَحَق بِهِ إِذا وجده فِي يَد رجل بِعَيْنِه، وَلَيْسَ للْغُرَمَاء فِيهِ نصيب لِأَنَّهُ بَاقٍ على ملكه، لِأَن يَد الْغَاصِب يَد التَّعَدِّي وَالظُّلم، وَكَذَلِكَ السَّارِق، فخلاف مَا إِذا بَاعه وَسلمهُ إِلَى المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يخرج عَن ملكه وَإِن لم يقبض الثّمن.
قلت: حَدِيث سَمُرَة هَذَا فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَأَة وَالنَّخَعِيّ فِيهِ مقَال. قلت: مَا للحجاج وَقد روى عَنهُ مثل الإِمَام أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَشعْبَة وَابْن الْمُبَارك؟ وَقَالَ الْعجلِيّ: كَانَ فَقِيها. وَقَالَ أحد مفتي الْكُوفَة: وَكَانَ جَائِز الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق مُدَلّس، وَقَالَ ابْن حبَان: صَدُوق يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ الْخَطِيب: أحد الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ والحفاظ ل. وَفِي (الْمِيزَان) : أحد الْأَعْلَام. وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير، وَسَعِيد بن زيد وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَأَبوهُ زيد بن عقبَة وَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَالنَّسَائِيّ.
فَإِن وَقد تكلم جمَاعَة مِمَّن يلوح مِنْهُم لوائح التعصب بِمَا فِيهِ ترك مُرَاعَاة حسن الْأَدَب، فَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي (الْمُفْهم) ؛ تعسف بعض الْحَنَفِيَّة فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث بتأويلات لَا تقوم على أساس، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وتأولوه بتأويلات ضَعِيفَة مَرْدُودَة وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الْحَنَفِيَّة: البَائِع أُسْوَة للْغُرَمَاء، ودفعوا حَدِيث التَّفْلِيس بِالْقِيَاسِ، وَقَالُوا: السّلْعَة مَال المُشْتَرِي وَثمنهَا فِي ذمَّته، وَالْجَوَاب: أَنه لَا مدْخل للْقِيَاس إلاَّ إِذا عدمت السّنة، أما مَعَ وجودهَا فَهِيَ حجَّة على من خالفها، فَإِن قَالَ الْكُوفِيُّونَ: نؤوله بِأَنَّهُ مَحْمُول على الْمُودع والمقرض دون البَائِع. قُلْنَا: هَذَا فَاسد، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل لصَاحب الْمَتَاع الرُّجُوع إِذا وجده بِعَيْنِه، وَالْمُودع أَحَق بِعَيْنِه سَوَاء كَانَ على صفته أَو قد تغير عَنْهَا، فَلم يجز حمل الْخَبَر عَلَيْهِ، وَوَجَب حمله على البَائِع لِأَنَّهُ إِنَّمَا يرجع بِعَيْنِه إِذا وجده بِصفتِهِ لم يتَغَيَّر، فَإِذا تغير فَإِنَّهُ لَا يرجع.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: هَذَا التَّأْوِيل غير صَحِيح إِذْ لَا خلاف أَن صَاحب الْوَدِيعَة أَحَق بهَا، سَوَاء وجدهَا عِنْد مُفلس أَو غَيره، وَقد شَرط الإفلاس فِي الحَدِيث، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) ؛ وَحمل أَبُو حنيفَة الحَدِيث على الْغَصْب والوديعة لِأَنَّهُ لم يذكر البيع فِيهِ، وأوَّلَ الحَدِيث بتأويلات ضَعِيفَة مَرْدُودَة، وَتعلق بِشَيْء يرْوى عَن عَليّ وَابْن(12/240)
مَسْعُود، وَلَيْسَ بِثَابِت عَنْهُمَا، وَتركُوا الحَدِيث بِالْقِيَاسِ بِأَن يَده قد زَالَت كيد الرَّاهِن.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: فِي الحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ قَالَ: هُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بأجوبة.
أَحدهَا: أَنهم قَالُوا: هَذَا الحَدِيث مُخَالف لِلْأُصُولِ الثَّابِتَة، فَإِن الْمُبْتَاع قد ملك السّلْعَة وَصَارَت فِي ضمانة فَلَا يجوز أَن ينْقض عَلَيْهِ ملكه، قَالُوا: والْحَدِيث إِذا خَالف الْقيَاس يشْتَرط فِيهِ فقه الرَّاوِي، وَأَبُو هُرَيْرَة لَيْسَ كَذَلِك. وَالثَّانِي: أَن المُرَاد الغصوب والعواري والودائع والبيوع الْفَاسِدَة وَنَحْوهَا. وَالثَّالِث: أَنه مَحْمُول على البيع قبل الْقَبْض.
وَهَذِه الْأَجْوِبَة فَاسِدَة. أما الأول: فَإِن كل حَدِيث أصل بِرَأْسِهِ، فَلَا يجوز أَن يعْتَرض عَلَيْهِ بِسَائِر الْأُصُول الْمُخَالفَة لَهُ، وَقد ينْقض ملك الْمَالِك فِي غير مَوضِع: كالشفعة وَالطَّلَاق قبل الدُّخُول بعد أَن ملكت الصَدَاق، وَتَقْدِيم صَاحب الرَّهْن على الْغُرَمَاء، وَاخْتِلَاف المتبايعني وتعجيز الْمكَاتب وَغير ذَلِك، وَقد أخذت الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث القهقهة فِي الصَّلَاة مَعَ كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ وَضَعفه أَيْضا. وَأما الثَّانِي: فيبطله قَوْله: أَيّمَا امرىء أفلس فَإِن الْمَغْصُوب مِنْهُ وَمن ذكر مَعَه أَحَق بمتاعه من الْمُفلس وَغَيره. وَأما الثَّالِث: فيبطله، وَوجد الرجل سلْعَته عِنْده وَهِي قبل الْقَبْض لَيست عِنْد الْمُفلس، وَلَا يُقَال: وجدهَا صَاحبهَا وأدركها، وَهِي عِنْده.
قلت: هَؤُلَاءِ كلهم صدرُوا عَن مكرع وَاحِد، أما الْقُرْطُبِيّ وَالنَّوَوِيّ فَإِنَّهُمَا ادّعَيَا: بِأَن تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة ضَعِيف مَرْدُود، وَلم يبينا وَجه ذَلِك، وَأما ابْن بطال فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَنَفِيَّة دفغوا حَدِيث الْمُفلس بِالْقِيَاسِ، وَلَا مدْخل للْقِيَاس إِلَّا إِذا عدمت السّنة، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لأَنهم مَا دفعُوا الحَدِيث بِالْقِيَاسِ، بل عمِلُوا بهما. أما عَمَلهم بِالْحَدِيثِ فَظَاهر قطعا، لِأَنَّهُ قَالَ: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه، وَإِدْرَاك المَال بِعَيْنِه لَا يتَصَوَّر إلاَّ فِيمَا قَالُوا نَحْو الغصوب والعواري والودائع، وَنَحْو ذَلِك، لِأَن مَاله فِي هَذِه الْأَشْيَاء مُحَقّق وَلم يخرج عَن ملكه بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد. وَأما عَمَلهم بِالْقِيَاسِ فَظَاهر قطعا أَيْضا، لِأَن الْمَبِيع خرج عَن ملك البَائِع وَدخل فِي ملك المُشْتَرِي، فَإِن لم يكن الثّمن مَقْبُوضا فَكيف يجوز تَخْصِيص البَائِع بِهِ وَمنع تشريك غَيره من أَصْحَاب الْحُقُوق الَّتِي هِيَ مُتَعَلقَة بِذِمَّة المُشْتَرِي؟ فَهَذَا لَا يقبله النَّقْل والقاس، على أَنه نقل عَن إِمَامه مَالك بن أنس: أَن الْقيَاس مقدم على خبر الْوَاحِد. حَيْثُ يَقُول: إِن الْقيَاس حجَّة بِإِجْمَاع الصَّحَابَة. وَفِي اتِّصَال خبر الْوَاحِد بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِمَال وَكَانَ الْقيَاس الثَّابِت بِالْإِجْمَاع اقوى وَنحن نقُول اجماع الصَّحَابَة على التَّقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس، وَخبر الْوَاحِد حجَّة بِالْإِجْمَاع، والشبهة بِالْقِيَاسِ فِي الأَصْل وَفِي الْخَبَر، فِي الِاتِّصَال، فَيرجع الْخَبَر عَلَيْهِ، ودعواه بِأَن تَأْوِيل الْكُوفِيّين فَاسد لِأَنَّهُ جعل لصَاحب الْمَتَاع إِذا وجده بِعَيْنِه فَاسِدَة لأَنا لَا نكرر جعله لصَاحب الْمَتَاع إِذا وجده بِعَيْنِه، فَكل من كَانَ صَاحب الْمَتَاع فَلهُ الرُّجُوع، وَالْبَائِع هُنَا خرج عَن كَونه صَاحب الْمَتَاع، لِأَن الْمَتَاع خرج من ملكه، وتبدل الصّفة هُنَا كتبدل الذَّات، فَصَارَ الْمَبِيع غير مَاله، وَقد كَانَ عين مَاله أَولا.
فَإِن قلت: أَنْت ذكرت عقيب ذكر الحَدِيث: أَن أَحَادِيث الْبَاب تدل على أَن حَدِيث الْبَاب وَارِد فِي البيع، ثمَّ ذكرت عَن مُسلم وَغَيره مَا يدل على ذَلِك؟ قلت: إِنَّمَا ذكرت ذَلِك لأجل بَيَان تَرْجَمَة البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ: بَاب إِذا وجد مَاله عِنْد مُفلس فِي البيع ... إِلَى آخِره، وَذَلِكَ أَن مذْهبه مثل مَذْهَب من يَجْعَل البَائِع أُسْوَة الْغُرَمَاء، فَذكرت مَا ذكرت لأجل بَيَان ذَلِك، وَلأَجل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث.
وَأما حَدِيث أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث فَإِنَّهُ مُضْطَرب، لِأَن مَالِكًا رَوَاهُ فِي (موطئِهِ) عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ أصح مِمَّن رَوَاهُ عَن مَالك مُسْندًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلَا يثبت هَذَا عَن الزُّهْرِيّ مُسْندًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرْسل. وَقَالَ أَبُو عمر: كَذَا هُوَ مُرْسل فِي جَمِيع (الموطآت) الَّتِي رَأينَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جمَاعَة الروَاة عَن مَالك فِيمَا علمنَا مُرْسلا إلاَّ عبد الرَّزَّاق، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن مَالك: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر عَن أبي هُرَيْرَة فأسنده، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك عَن عبد الرَّزَّاق. قلت: الْمُرْسل حجَّة عنْدكُمْ؟ قلت: نعم، وَلَكِن الْمسند أقوى لِأَن عَدَالَة الرَّاوِي شَرط قبُول الحَدِيث، وَهِي مَعْلُومَة فِي الْمسند بالتصريح، وَفِي الْمُرْسل مشكوكة أَو مَعْلُومَة بِالدّلَالَةِ، والصريح أقوى من الدّلَالَة، وَالْعجب من هَؤُلَاءِ أَنهم لَا يرَوْنَ الْمُرْسل حجَّة ثمَّ يعْملُونَ بِهِ فِي مَوَاضِع. وَأما قَول صَاحب (التَّوْضِيح) ؛ تعلق أَبُو حنيفَة بِشَيْء يرْوى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَلَيْسَ بِثَابِت عَنْهُمَا، لَيْسَ كَذَلِك، لأَنا قد ذكرنَا فِيمَا مضى: أَن قَتَادَة روى عَن خلاس بن عَمْرو عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أُسْوَة الْغُرَمَاء إِذا وجدهَا بِعَيْنِه، وَصَححهُ ابْن حزم، وَأما نقلهم عَن الْحَنَفِيَّة بِأَنَّهُم قَالُوا:(12/241)
والْحَدِيث إِذا خَالف الْقيَاس يشْتَرط فقه الرَّاوِي، وَأَبُو هُرَيْرَة لَيْسَ كَذَلِك، فَهَذَا تشنيع مِنْهُم عَلَيْهِم، لِأَن الشَّيْخ أَبَا الْحسن الْكَرْخِي قَالَ: لَيْسَ فقه الرَّاوِي شرطا لتقديم خَبره على الْقيَاس، بل يقبل خبر كل عدل فَقِيها كَانَ أَو غَيره، إِذا لم يكن مُعَارضا بِدَلِيل أقوى مِنْهُ، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة من الْمَشَايِخ، وَقَالَ صدر الْإِسْلَام: وَإِلَيْهِ مَال أَكثر الْعلمَاء، وَالَّذِي ذَكرُوهُ هُوَ مَذْهَب عِيسَى بن أبان وَبَعض الْمُتَأَخِّرين، مَعَ أَن أحدا مِنْهُم لم يذكر أَبَا هُرَيْرَة بِمَا نسبه إِلَيْهِ من قلَّة الْفِقْه، وَكَيف لم يكن فَقِيها وَكَانَ يُفْتِي فِي زمن الصَّحَابَة وَلم تكن الْفَتْوَى فِي زمانهم إلاَّ للفقهاء؟ وَقد دَعَا لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحِفْظِ فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِيهِ، حَتَّى انْتَشَر فِي الْعَالم ذكره.
وَأما قَوْلهم: كل حَدِيث أصل بِرَأْسِهِ، فسلمنا ذَلِك إِذا كَانَ كل وَاحِد مُتَعَلقا بِأَصْل غير الأَصْل الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الآخر، وَأما إِذا كَانَ حديثان أَو أَكثر ومخرجهما وَاحِد فَلَا يفرق حِينَئِذٍ بَينهمَا. وَأما قَوْلهم: وَقد ينْقض ملك الْمَالِك كالشفعة. . إِلَى آخِره، غير صَحِيح، لِأَن مُشْتَرِي الدَّار لَا يثبت لَهُ الْملك مَعَ وجود الشَّفِيع، وَلَو قبضهَا فملكه على شرف السُّقُوط، وَلَا يتم لَهُ الْملك إلاَّ بترك الشَّفِيع شفعته، وَالْمَرْأَة لَا تملك الصَدَاق قبل الدُّخُول ملكا تَاما، وَهُوَ أَيْضا على شرف السُّقُوط، وَلِهَذَا لَو قبضت صَدَاقهَا وَطَلقهَا زَوجهَا يرجع عَلَيْهَا بِنصْف الصدْق، وَالْملك فِي الصُّورَتَيْنِ غير تَامّ، فَكيف يُقَال: وَقد ينْقض ملك الْمَالِك. وَأما الرَّهْن فَإِن يَد الْمُرْتَهن يَد اسْتِيفَاء لَا يَد ملك، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك. وَأما عِنْد اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين فَلَا يثبت الْملك لأَحَدهمَا إلاَّ بعد الِاتِّفَاق على الْإِتْمَام أَو على الْفَسْخ، وَأما الْمكَاتب فَإِنَّهُ عبد وَلَو بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم، فَمَتَى يملك نَفسه حَتَّى يُقَال ينْقض ملكه عِنْد الْعَجز؟ وَأما قَوْلهم: وَقد أخذت الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث القهقهة فِي الصَّلَاة مَعَ كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ، وَضَعفه أَيْضا، فَإِنَّمَا أخذُوا بِهِ لكَون رَاوِيه مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ، وَالْمَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ يقبل قَوْله، وَإِن لم يكن مَعْرُوفا بالفقه، سَوَاء وَافق خَبره الْقيَاس أَو خَالفه. وَأما تضعيفهم خبر القهقهة فَغير صَحِيح، لِأَنَّهُ رَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة الْفُقَهَاء كَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَجَابِر وَعمْرَان وَسَلَمَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد اتقنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا للهداية) .
51 - (بابُ مَنْ أخَّرَ الْغَرِيَ إلاى الغَدِ أوْ نَحْوِهِ ولَمْ يَرَ ذالِكَ مَطْلاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أخر من الْحُكَّام غَرِيم شخص أَي: أخر طلب حَقه من غَرِيمه إِلَى الْغَد. قَوْله: (أَو نَحوه) مثلا إِلَى يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَلم ير ذَلِك) أَي: تَأْخِيره إِلَى الْغَد وَنَحْوه (مطلاً) أَي: تسويفاً بِالْحَقِّ، وَهَذِه التَّرْجَمَة سَاقِطَة فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وحديثها كَذَلِك وَلذَلِك لم يشرحها أَكثر الشُّرَّاح.
وقالَ جابِرٌ اشْتَدَّ الغُرَمَاءُ فِي حُقوقِهِمْ فِي دَيْنِ أبي فسَأَلَهُمْ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حائِطِي فأبَوْا فَلَمْ يُعْطِهِمْ الحَائِطَ ولَمْ يكْسرْهُ لَهُمْ وَقَالَ سأغْدُو عَلَيْكَ غدَاً فغَدَا علَيْنَا حِينَ أصْبَحَ فدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ فَقَضَيْتُهُمْ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سأغدو عَلَيْك غَدا) وَهَذَا التَّعْلِيق قد أخرجه مَوْصُولا فِيمَا مضى عَن قريب فِي: بَاب إِذا قضى دون حَقه أَو حلله، وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ أَيْضا. وَفِيه زِيَادَة، وَهِي قَوْله: وَلم يكسرهُ لَهُم، وَذكرهَا فِي كتاب الْهِبَة وَمَعْنَاهُ....
61 - (بابُ مَنْ باعَ مالَ الْمُفْلِسِ أوْ الْمُعْدِمِ فقَسَمَهُ بيْنَ الغُرَماءِ أوْ أعْطَاهُ حتَّى يُنْفِقَ عَلى نفْسِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من بَاعَ من الْحُكَّام مَال الْمُفلس أَو المعدم، بِكَسْر الدَّال، وَهُوَ الْفَقِير قَوْله (فَقَسمهُ) أَي قسم مَال الْمُفلس بَين غُرَمَائه. قَوْله: (أَو أعطَاهُ) أَي: أَو أعْطى مَال المعدم لَهُ بعد أَن بَاعه لينفق على نَفسه، وَفِيه اللف والنشر، قَالَه الْكرْمَانِي: وَوَجهه مَا ذكرته.
3042 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدَّثنا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حدَّثنا عَطَاءُ بنُ أبي رَبَاح(12/242)
ٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أعْتَقَ رَجُلٌ غُلاماً لَهُ عنْ دُبُرٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بنُ عَبْدِ الله فأخَذَ ثَمَنَهُ فدَفَعَهُ إلَيْهِ. .
التَّرْجَمَة جزآن: أَحدهمَا: بيع مَال الْمُفلس وقسمته بَين الْغُرَمَاء. وَالثَّانِي: بيع مَال المعدم وَدفعه إِلَيْهِ لينفقه على نَفسه، فَلَا مُطَابقَة بَينهمَا وَبَين حَدِيث الْبَاب بِحَسب الظَّاهِر، كَمَا قَالَه ابْن بطال بِكَلَام حَاصله نفي الْمُطَابقَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون بَاعه عَلَيْهِ لكَونه مدياناً، وَمَال الْمديَان إِمَّا أَن يقسمهُ الإِمَام بِنَفسِهِ أَو يُسلمهُ إِلَى الْمديَان ليقسمه، فَلهَذَا ترْجم على التَّقْدِيرَيْنِ، مَعَ أَن أحد الْأَمريْنِ يخرج من الآخر، لِأَنَّهُ إِذا بَاعه عَلَيْهِ لحق نَفسه، فَلِأَن يَبِيعهُ عَلَيْهِ لحق الْغُرَمَاء أولى، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَن فِي التَّرْجَمَة لفاً ونشراً، و: أَو، فِي الْمَوْضِعَيْنِ للتنويع، وَيخرج أَحدهمَا من الآخر، قلت: أما قَول الْمُجيب الأول بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون بَاعه عَلَيْهِ، لكَونه مدياناً، فَلَيْسَ بطائل أَن يُقَال بِالِاحْتِمَالِ، بل هُوَ فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا بَاعه لكَونه مدياناً، كَمَا ثَبت ذَلِك فِي بعض طرق حَدِيث جَابر أَنه كَانَ عَلَيْهِ دين، أخرجه النَّسَائِيّ، وَقَالَ: أخبرنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا محَاضِر، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن سَلمَة بن كهيل عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: أعتق رجل من الْأَنْصَار غُلَاما لَهُ عَن دبر، وَكَانَ مُحْتَاجا وَكَانَ عَلَيْهِ دين، فَبَاعَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بثمانمائة دِرْهَم، فَأعْطَاهُ فَقَالَ: (إقض دينك) . وَأما قَول بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَن فِي التَّرْجَمَة لفاً ونشراً، فَلَيْسَ لَهُ وَجه أَن ينْسب ذَلِك إِلَى نَفسه، لِأَنَّهُ مَسْبُوق بِهِ، فَإِن الْكرْمَانِي قَالَ: وَالْكَلَام يحْتَمل اللف والنشر، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقَوله أَيْضا: وَيخرج أَحدهمَا من الآخر مَسْبُوق بِهِ أَيْضا، وَمَعَ هَذَا فِيهِ نظر.
والتوجيه الْحسن فِي ذكر الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث أَن يُقَال: إِن حَدِيث جَابر الْمَذْكُور لَهُ طرق: مِنْهَا: هَذَا الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ، (فَفِيهِ: أَن الرجل كَانَ مديوناً وَبَاعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغُلَام الَّذِي دبره، فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إقض دينك) كَمَا فِي حَدِيثه، وَهَذَا يُطَابق الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة، غَايَة مَا فِي الْبَاب اقْتصر فِي حَدِيث الْبَاب على قَوْله: (فَدفعهُ إِلَيْهِ) ، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ: (فَأعْطَاهُ، فَقَالَ: إقض دينك) . فَإِن قلت: لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة أَن الْمَدْيُون هُوَ الَّذِي قسمه، فَلَا مُطَابقَة. قلت: لما أمره بِقَضَاء دينه من ثمن العَبْد فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تولى قسمته بَين غُرَمَائه، لِأَن التَّدْبِير حق من الْحُقُوق، فَلَمَّا أبْطلهُ الشَّارِع هُنَا احْتَاجَ إِلَى الحكم بِهِ، وَكَانَ من ضَرُورَة الحكم بِهِ أمره بقسمته بَين الْغُرَمَاء، لِأَن البيع لم يكن إلاَّ لأجلهم، وَمن طرق حَدِيث جَابر مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَقَالَ: حَدثنَا هِلَال بن الْعَلَاء، قَالَ: حَدثنَا أبي، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن عبد الْكَرِيم عَن عَطاء عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رجلا أعتق غُلَاما لَهُ من دبر، فَاحْتَاجَ مَوْلَاهُ فَأمره بِبيعِهِ فَبَاعَهُ بثمانمائة دِرْهَم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أنفقهُ على عِيَالك فَإِنَّمَا الصَّدَقَة عَن ظهر غنى، وابدأ بِمن تعول) . وَفِي رِوَايَة للنسائي: (ابدأ بِنَفْسِك فَتصدق عَلَيْهَا فَإِن فضل شَيْء فلأهلك) ، الحَدِيث، وَهَذَا يُطَابق الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ. وَحَدِيث الْبَاب مضى مُخْتَصرا فِي الْبيُوع فِي: بَاب بيع الْمُدبر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن ابْن نمير عَن وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل عَن سَلمَة بن كهيل عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: (بَاعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمُدبر) .
قَوْله: (عَن دبر) ، مَعْنَاهُ قَالَ لعَبْدِهِ: أَنْت حر بعد موتى، أَو: دبرتك، وَاسم الْمُدبر، بِفَتْح الْبَاء: يَعْقُوب، وَاسم مَوْلَاهُ: أَبُو مَذْكُور، وَالثمن ثَمَانمِائَة دِرْهَم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونعيم، بِضَم النُّون وَفتح الْعين الْمُهْملَة: ابْن عبد الله النحام، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة: الْقرشِي الْعَدوي، سمي النحام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: دخلت الْجنَّة فَسمِعت نحمة من نعيم، والنحمة السعلة، أسلم قَدِيما بِمَكَّة، ثمَّ هَاجر عَام الْحُدَيْبِيَة وَشهد مَا بعْدهَا من الْمشَاهد، قتل يَوْم اليرموك سنة خمس عشرَة من الْهِجْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
71 - (بابٌ إذَا أقْرَضَهُ إِلَى أجَلٍ مُسَمَّى أوْ أجَّلَهُ فِي البَيْعِ)
أَي: هَذَا بَاب ذكر فِيهِ إِذا أقْرض الرجل رجلا دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو شَيْئا مِمَّا يَصح فِيهِ الْقَرْض إِلَى أجل مُسَمّى، أَي: إِلَى مُدَّة مُعينَة. قَوْله: (أَو أَجله) ، أَي: أَو أجل الثّمن فِي عقد البيع، أَو أجل العقد فِيهِ، يَعْنِي: بَاعه إِلَى أجل مُسَمّى، وَلَا يُقَال: فِيهِ إِضْمَار قبل الذّكر لِأَن الْقَرِينَة تدل عَلَيْهِ، وَهِي قَوْله: فِي البيع، وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ، وجوابهما مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز أَو يجوز أَو نَحْو ذَلِك. أما الْمَسْأَلَة(12/243)
الأولى: فَفِيهَا خلاف، فَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْخِير الدّين فِي الْقَرْض إِلَى أجل، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: سَوَاء كَانَ الْقَرْض إِلَى أجل أَو غير أجل، لَهُ أَن يَأْخُذهُ مَتى أحب، وَكَذَلِكَ الْعَارِية وَغَيرهَا، لِأَنَّهُ عِنْدهم من بَاب الْعدة وَالْهِبَة غير مَقْبُوضَة، وَهُوَ قَول الْحَارِث العكلي وَأَصْحَابه وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: وَبِه نَأْخُذ، وَقَالَ مَالك وَأَصْحَابه: إِذا أقْرضهُ إِلَى أجل ثمَّ أَرَادَ أَخذه قبل الْأَجَل لم يكن لَهُ ذَلِك. أما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: فَلَيْسَ فِيهَا خلاف بَين الْعلمَاء لجَوَاز الْآجَال فِي البيع، لِأَنَّهُ من بَاب الْمُعَاوَضَات، فَلَا يَأْخُذهُ قبل مَحَله، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا أخر الدّين الْحَال فَلهُ أَن يرجع فِيهِ مَتى شَاءَ، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك من قرض أَو غَيره.
قَالَ ابنُ عُمَرَ فِي القَرْضِ إِلَى أجلٍ لاَ بأسَ بِه وإنْ أُعْطِيَ أفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: سَمِعت شَيخا يُقَال لَهُ الْمُغيرَة: قلت لِابْنِ عمر: إِنِّي أسلف جيراني إِلَى الْعَطاء، فيقضوني أَجود من دراهمي، قَالَ: لَا بَأْس مَا لم تشْتَرط، قَالَ وَكِيع: وَحدثنَا هِشَام الدستوَائي عَن الْقَاسِم ابْن أبي بزْرَة عَن عَطاء بن يَعْقُوب، قَالَ: استسلف مني ابْن عمر ألف دِرْهَم فقضاني دَرَاهِم أَجود من دراهمي، وَقَالَ: مَا كَانَ فِيهَا من فضل فَهُوَ نائل مني إِلَيْك أتقبله؟ قلت: نعم.
وَقَالَ عطاءٌ وعَمْرُو بنُ دِينار هُوَ إلاى أجَلِهِ فِي القَرْضِ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنْهُمَا، وَقَالَ ابْن التِّين: قَول عَطاء وَعمر، وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وَمَالك. قلت: لَيْسَ هَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة، ومذهبه: كل دين يَصح تَأْجِيله إلاَّ الْقَرْض فَإِن تَأْجِيله لَا يَصح.
4042 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سألَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أنْ يُسْلِفَهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلاى أجَلٍ مُسَمَّى الْحَدِيثَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث مطول الَّذِي يذكر فِيهِ قَضِيَّة الرجل الَّذِي أسلف ألف دِينَار فِي أَيَّام بني إِسْرَائِيل، وَقد مر فِي الْكفَالَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَذكره فِي هَذَا الْبَاب فِي معرض الِاحْتِجَاج على جَوَاز التَّأْجِيل فِي الْقَرْض، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا أم لَا؟
81 - (بابُ الشَّفاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشَّفَاعَة فِي وضع الدّين، أَي: حط شَيْء من أصل الدّين، وَكَذَا فسره ابْن الْأَثِير فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أنظر مُعسرا أَو وضع لَهُ، وَلَيْسَ المُرَاد من الْوَضع إِسْقَاطه بِالْكُلِّيَّةِ.
5042 - حدَّثنا مُوساى حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ مُغِيرَةَ عنْ عامِرٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أُصِيبَ عبْدُ الله وتَرَكَ عِيالاً ودَيْناً فَطَلَبْتُ إلاى أصْحابِ الدَّيْنِ أنْ يَضَعُوا بَعْضاً مِنْ دَيْنِهِ فأبَوْا فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فأبَوْا فَقَالَ صَنِّفْ تَمْرَكَ كلَّ شَيْءٍ مِنْهُ علَى حِدَتِهِ عِذْقَ ابنِ زَيْدٍ عَلَى حدَةٍ واللِّينَ عَلَى حِدَةً والعَجْوَةَ علَى حِدَةٍ ثُمَّ أحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيكَ فَفَعَلْتُ ثُمَّ جاءَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَعَدَ علَيْهِ وقالَ لِكُلِّ رَجلٍ حتَّى اسْتَوْفاى وبَقِيَ التَّمْرُ كَما هُوَ كأنَّهُ لَمْ يُمَسَّ. وغَزَوْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى ناضِحٍ لَنا فأزْحَفَ الْجَمَلُ فتَخَلَّفَ علَيَّ فَوَكَزَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ خَلْفِهِ قَالَ بِعْنِيهِ ولكَ ظَهْرُهُ إلاى الْمَدِينَةِ فلَمَّا دَنَوْنا اسْتأذَنْتُ فقُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بعُرْسٍ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَما(12/244)
تَزَوَّجْتَ بِكْراً أمْ ثَيِّباً أُصِيبَ عَبْدُ الله وتَرَكَ جَوَارِيَ صِغَاراً فتَزَوَّجْتُ ثَيِّباً تُعَلِّمُهُنَّ وتُؤَدِّبُهُنَّ ثُمَّ قالَ ائْتِ أهْلَكَ فَقَدِمْتُ فأخْبَرْتُ خالِي بِبَيْعِ الْجَمَلِ فَلاَمَنِي فأخْبَرْتهُ بإعْيَاءِ الْجَمَلِ وبِالَّذِي كانَ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوَكْزِهِ إيَّاهُ فلَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَوْتُ إلَيْهِ بِالْجَمَلِ فأعْطَانِي ثَمَنَ الجمَلِ والْجَمَلَ وسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاستشفعت بِهِ عَلَيْهِم) والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب الْكَيْل على البَائِع والمعطي، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَبْدَانِ عَن جرير عَن مُغيرَة عَن الشّعبِيّ عَن جَابر، وَهنا أخرجه عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن مُغيرَة بن مقسم عَن عَامر الشّعبِيّ عَن جَابر بن عبد الله، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. ولنتكلم فِيمَا لم يذكر هُنَاكَ.
قَوْله: (عبد الله) ، هُوَ أَبُو جَابر، اسْتشْهد يَوْم أحد، وَهُوَ معنى قَوْله: أُصِيب. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عبد الله بن عَمْرو بن حرَام بن ثَعْلَبَة الخزرجي السّلمِيّ أَبُو جَابر، نقيب بَدْرِي قتل فِي أحد. قَوْله: (وَترك عيالاً) ، بِكَسْر الْعين: جمع عيل، بتَشْديد الْيَاء كجياد جمع جيد، من عَال عِيَاله: مانهم وَأنْفق عَلَيْهِم، وَقد مضى أَنه ترك سبع بَنَات أَو تسعا. قَوْله: (فطلبت إِلَى أَصْحَاب الدّين) ، أَي: أنهيت طلبي إِلَيْهِم، وَفِي الأَصْل: الطّلب يسْتَعْمل بِدُونِ صلَة، فَمَا قصد الْمُبَالغَة اسْتَعْملهُ بِحرف الْغَايَة. قَوْله: (صنِّف) ، أَمر: من التصنيف، وَهُوَ أَن يَجْعَل الشَّيْء أصنافاً ويميز بَعْضهَا عَن بعض. قَوْله: (على حِدة) أَي: كل وَاحِد على حياله، وَالْهَاء عوض من الْوَاو. قَوْله: (عذق ابْن زيد) ، هُوَ نوع من التَّمْر جيد، و: العذق، بِفَتْح الْعين وَكسرهَا وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقيل: بِالْفَتْح، النَّخْلَة. قلت: وَفِي (التَّوْضِيح) بِخَط الدمياطي: عذق زيد، قَوْله: (واللين) ، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: نوع من التَّمْر، وَقيل: التَّمْر الرَّدِيء، وَهُوَ جمع لينَة، وَهِي النَّخْلَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، أَو النّخل كُله مَا خلا البرني، وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللين اللوان التَّمْر مَا خلا الْعَجْوَة، وَأما الْعَجْوَة فَهِيَ من أَجود تمور الْمَدِينَة، وَيُقَال: أهل الْمَدِينَة يسمون الْعَجْوَة ألواناً، وَقيل: اللين الدقل، وَأَصله: لون، قلبت الواء يَاء لانكسار مَا قبلهَا. قَوْله: (وَقَالَ لكل رجل) أَي: أعْطى لكل رجل من أَصْحَاب الدُّيُون حَتَّى استوفى حَقه، وَقد مر أَن: قَالَ، يسْتَعْمل لمعان كَثِيرَة، فَكل معنى بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ. قَوْله: (كَمَا هُوَ) ، كلمة: مَا، مَوْصُولَة مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَو زَائِدَة، أَي: كمثله، وَفِي رِوَايَة: بَقِي مِنْهُ بَقِيَّة، وَفِي أُخْرَى: بَقِي مِنْهُ أوسق، وَفِي رِوَايَة: بَقِي مِنْهُ سَبْعَة عشر وسْقا. قَوْله: (لم يمس) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (على نَاضِح) ، بالضاد الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة: وَهُوَ الْجمل الَّذِي يسقى عَلَيْهِ النّخل. قَوْله: (فأزحف الْجمل) ، أَي: كل وأعيى، ومادته: زَاي وحاء مُهْملَة وَفَاء، يُقَال: أزحفه الْمسير إِذا أعياه، وَأَصله أَن الْبَعِير إِذا تَعب يجر رسنه، وَكَأَنَّهُ كنى بقوله: أزحف، على بِنَاء الْفَاعِل عَن جَرّه الرسن عَن الإعياء. وَقَالَ ابْن التِّين: صَوَابه: فزحف، ثلاثي إلاَّ أَنه ضبط بِضَم الْهمزَة وَكسر الْحَاء فِي أَكثر النّسخ، وَفِي بَعْضهَا بِفَتْحِهَا، وَالْأول أبين. قَوْله: (فوكزه) بالزاي، أَي: ضربه بالعصا، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والحموي: وركزه، بالراء مَوضِع الْوَاو، أَي: ركز فِيهِ العصي، وَالْمرَاد بِهِ الْمُبَالغَة فِي ضربه بهَا. قَوْله: (وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة) ، أَرَادَ بِهِ ركُوبه عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَة، قَوْله: فلامني، من اللوم، وَكَانَ لومه إِمَّا لكَونه مُحْتَاجا إِلَيْهِ، وَإِمَّا لكَونه بَاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَهبهُ مِنْهُ. قَوْله: (وسهمي) ، بِالنّصب أَي: وَأَعْطَانِي أَيْضا سهمي من الْغَنِيمَة، ويروى: فسهمني، بِلَفْظ فعل الْمَاضِي، وَفِيه فَوَائِد كَثِيرَة ذَكرنَاهَا هُنَاكَ.
91 - (بابُ مَا يُنْهَى عنْ إضاعَةِ الْمَالِ وقَوْلِ الله تَعَالَى وَالله لاَ يُحِبُّ الْفسَادَ وإنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعالى {أصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ مَا يَعبُد آبَاؤُنَا أوْ أنْ نَفْعَلَ فِي أمْوَالِنا مَا نَشاءُ} (هود: 78) . وَقَالَ تَعَالَى: {ولاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَكُمْ} (النِّسَاء: 5) . والحَجْرِ فِي ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عنِ الخِدَاعِ)(12/245)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن إِضَاعَة المَال. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وإضاعة المَال صرفه فِي غير وَجهه، وَقيل: إِنْفَاقه فِي غير طَاعَة الله تَعَالَى، والإسراف والتبذير.
قَوْله: (وَقَول الله) بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله. قَوْله: (وَالله لَا يحب الْفساد) ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: إِن الله لَا يحب الْفساد، وَالْأول هُوَ الَّذِي وَقع فِي التِّلَاوَة، وَالثَّانِي سَهْو من النَّاسِخ، وَالْفساد خلاف الصّلاح. قَوْله: (وَلَا يصلح عمل المفسدين) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن شبويه والنسفي: لَا يحب، بدل: لَا يصلح، وأصل التِّلَاوَة أَن الله لَا يصلح عمل المفسدين، وَغير هَذَا سَهْو من الْكَاتِب، وَقيل: يحْتَمل أَنه لم يقْصد التِّلَاوَة. قلت: فِيهِ بعد لَا يخفى. قَوْله: {أصلواتك} (هود: 78) . فِي سُورَة هود وأولها: {قَالُوا يَا شُعَيْب أصلواتك تأمرك. .} (هود: 78) . إِلَى قَوْله: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} (هود: 78) . كَانَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كثير الصَّلَوَات، وَكَانَ قومه إِذا رَأَوْهُ يُصَلِّي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقَوْلهمْ: أصلواتك تأمرك؟ السخرية والهزء، وَإسْنَاد الْأَمر إِلَى الصَّلَاة على طَرِيق الْمجَاز. قَوْله: {أَن نَتْرُك} (هود: 78) . أَي: بِأَن نَتْرُك، أَي: بترك مَا يعبد آبَاؤُنَا. قَوْله: {أَو أَن نَفْعل} (هود: 78) . أَي: أَتَأْمُرُنَا صلواتك بِأَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا تشَاء أَنْت، وَهُوَ مَا كَانَ يَأْمُرهُم من ترك التطفيف والبخس. وَقَالَ زيد بن أسلم: كَانَ مِمَّا ينهاهم شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَنهُ وعذبوا لأَجله، قطع الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم، وَكَانُوا يقرضون من أَطْرَاف الصِّحَاح لتفضل لَهُم القراضة، وَكَانُوا يتعاملون بالصحاح عددا وبالمكسور وزنا ويبخسون. قَوْله: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} (هود: 78) . قَول: مِنْهُم، على سَبِيل الِاسْتِهْزَاء، ونسبتهم إِيَّاه إِلَى غَايَة السَّفه، وَوجه ذكر هَذِه الْآيَة فِي هَذِه التَّرْجَمَة فِي قَوْله: أَو أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء، لِأَن تصرفهم فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ إِضَاعَة لِلْمَالِ، وَكَانَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ينهاهم عَن ذَلِك، فَلَمَّا لم يتْركُوا هَذِه الفعلة عذبهم الله تَعَالَى. قَوْله: (وَقَالَ) أَي: وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} (النِّسَاء: 5) . هَذِه الْآيَة فِي النِّسَاء، وتمامها: {الَّتِي جعل الله لكم قيَاما وارزقوهم فِيهَا وَاكْسُوهُمْ، وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} (النِّسَاء: 5) . وَوجه ذكر هَذِه الْآيَة هُنَا أَيْضا هُوَ أَن إيتَاء الْأَمْوَال للسفهاء إضاعتها. وَقَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: المُرَاد بالسفهاء: النِّسَاء وَالصبيان، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هم الْيَتَامَى، وَقَالَ قَتَادَة وَعِكْرِمَة وَمُجاهد: هم النِّسَاء، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا صَدَقَة بن خَالِد حَدثنَا عُثْمَان بن أبي العاتكة عَن عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن النِّسَاء السُّفَهَاء إلاَّ الَّتِي أطاعت قيمها) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: ذكر عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم: حَدثنَا حَرْب بن شُرَيْح عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أبي هُرَيْرَة: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} (النِّسَاء: 5) . قَالَ: الخدم وهم شياطين الْأنس. قَوْله: (قيَاما) ، أَي: تقوم بهَا معايشكم من التِّجَارَات وَغَيرهَا. قَوْله: {وارزقوهم فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (النِّسَاء: 5) . وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تعمد إِلَى مَالك وَمَا خولك الله وَجعله لَك معيشة فتعطيه امْرَأَتك أَو بنيك، ثمَّ تنظر إِلَى مَا فِي أَيْديهم، وَلَكِن أمسك مَالك وَأَصْلحهُ وَأَنت الَّذِي تنْفق عَلَيْهِم من كسوتهم ومؤونتهم ورزقهم. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا ابْن الْمثنى حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن فراس عَن الشّعبِيّ عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى، قَالَ: ثَلَاثَة يدعونَ الله فَلَا يستجيب لَهُم: رجل كَانَت لَهُ امْرَأَة سَيِّئَة الْخلق فَلم يطلقهَا، وَرجل أعْطى مَاله سَفِيها، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} (النِّسَاء: 5) . وَرجل كَانَ لَهُ دين على رجل فَلم يشْهد عَلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: {وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} (النِّسَاء: 5) . يَعْنِي: فِي الْبر والصلة. قَوْله: (وَالْحجر فِي ذَلِك) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (إِضَاعَة المَال) ، أَي: الْحجر فِي ذَلِك أَي: فِي السَّفه، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَيُؤْخَذ الْحجر على السُّفَهَاء من هَذِه الْآيَة أَعنِي، قَوْله: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء} (النِّسَاء: 5) . وهم أَقسَام، فَتَارَة يكون الْحجر على الصَّغِير، فَإِنَّهُ مسلوب الْعبارَة، وَتارَة يكون الْحجر للجنون، وَتارَة يكون لسوء التَّصَرُّف لنَقص الْعقل أَو الدّين، وَتارَة يكون الْحجر للفلس، وَهُوَ مَا إِذا أحاطت الدُّيُون بِرَجُل وضاق مَاله عَن وفائها، فَإِذا سَأَلَ الْغُرَمَاء الْحَاكِم الْحجر عَلَيْهِ حجر عَلَيْهِ. انْتهى. وَالسَّفِيه: هُوَ الَّذِي يضيع مَاله ويفسده بِسوء تَدْبيره، وَالْحجر فِي اللُّغَة: الْمَنْع، وَفِي الشَّرْع: الْمَنْع من التَّصَرُّف فِي المَال، وَقَالَ أَصْحَابنَا: السَّفه هُوَ الْعَمَل بِخِلَاف مُوجب الشَّرْع وَاتِّبَاع الْهوى، وَمن عَادَة السَّفِيه التبذير والإسراف فِي النَّفَقَة وَالتَّصَرُّف لَا لغَرَض أَو لغَرَض لَا يعده الْعُقَلَاء من أهل الدّيانَة غَرضا، مثل دفع المَال إِلَى الْمُغنِي واللعاب وَشِرَاء الْحمام الطيارة بِثمن غال والغبن فِي التِّجَارَات من غير محمدة، وَأَبُو حنيفَة لَا يرى الْحجر بِسَبَب السَّفه، وَبِه قَالَ زفر، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك(12/246)
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر: يحْجر على السَّفِيه، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَاحْتج أَبُو حنيفَة بِحَدِيث ابْن عمر الَّذِي يَأْتِي الْآن: إِذا بَايَعت فَقل: لَا خلابة، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف على أَنه كَانَ يغبن فِي الْبيُوع فَلم يمنعهُ من التَّصَرُّف وَلَا حجر عَلَيْهِ، وَحجَّة الآخرين الْآيَة الْمَذْكُورَة. وَهِي قَوْله: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم. .} (النِّسَاء: 5) . الْآيَة. قَوْله: (وَمَا ينْهَى عَن الخداع) ، عطف على مَا قبله، وَتَقْدِيره أَي: بَاب فِي بَيَان كَذَا وَكَذَا، وَفِي بَيَان مَا ينْهَى عَن الخداع، أَي: فِي الْبيُوع.
7042 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عبْدِ الله بنِ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ إذَا بايَعْتَ فقُلْ لاَ خِلاَبَةَ فكانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل كَانَ يغبن فِي الْبيُوع، وَهُوَ من إِضَاعَة المَال والْحَدِيث قد مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب مَا يكره من الخداع فِي البيع، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبيد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن عبد الله بن دِينَار إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن دِينَار ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، والخلابة، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة: الخداع.
8042 - حدَّثنا عُثْمانُ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنِ الشَّعْبِيِّ عنْ ورَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ عنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله حَرَّمَ عليْكُمْ عُقوقَ الأمَّهَاتِ ووَأْدِ الْبَنَاتِ ومَنْعَ وهاتِ وكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وقالَ وكثْرَةَ السُّؤالِ وإضَاعَةَ الْمَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وإضاعة المَال. وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة، وَعُثْمَان هُوَ ابْن أبي شيبَة، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.
وَهَؤُلَاء كلهم كوفيون، لَكِن سكن جرير الرّيّ. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد، وهم: مَنْصُور وَالشعْبِيّ ووراد.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافاً} (الْبَقَرَة: 372) . بأخصر مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن خَالِد الْحذاء عَن الشّعبِيّ. . إِلَى آخِره. قَوْله: (عقوق الْأُمَّهَات) أصل العقوق الْقطع كَأَن الْعَاق لأمه يقطع مَا بَينهمَا من الْحُقُوق، وَإِنَّمَا خص الْأُمَّهَات بِالذكر، وَإِن كَانَ عقوق الْآبَاء أَيْضا حَرَامًا، لِأَن العقوق إلَيْهِنَّ أسْرع من الْآبَاء لضعف النِّسَاء، وللتنبيه على أَن بر الْأُم مقدم على بر الْأَب فِي التلطف والحنو وَنَحْو ذَلِك، وَلِأَن ذكر أَحدهمَا يدل على أَن الآخر مثله بِالضَّرُورَةِ، وَلَكِن تعْيين الْأُم لما ذكرنَا. قَوْله: (ووأد الْبَنَات) ، الوأد مصدر وَأَدت الوائدة ابْنَتهَا تئدها: إِذا دفنتها حَيَّة، وَقَالَ ابْن التِّين بِإِسْكَان الْهمزَة، وَضبط ابْن فَارس بِفَتْحِهَا، وَقَالَ أَبُو عبيد: كَانَ أحدهم فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا جَاءَتْهُ الْبِنْت يدفنها حَيَّة حِين تولد، وَيَقُولُونَ: الْقَبْر صهر، وَنعم الصهر. وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ غيرَة وأنفة، وَبَعْضهمْ يَفْعَله تَخْفِيفًا للمؤونة. قَوْله: (وَمنع) ، أَي: وَحرم عَلَيْكُم منع مَا عَلَيْكُم إِعْطَاؤُهُ. قَوْله: (وهات) أَي: وَحرم عَلَيْكُم طلب مَا لَيْسَ لكم أَخذه، وَقيل: نهى عَن منع الْوَاجِب من مَاله وأقواله وأفعاله وأخلاقه من الْحُقُوق اللَّازِمَة فِيهَا، وَنهى عَن استدعاء مَا لَا يجب عَلَيْهِم من الْحُقُوق، وتكليفه إيَّاهُم بِالْقيامِ بِمَا لَا يجب عَلَيْهِم، فَكَأَنَّهُ ينتصف وَلَا ينصف، وَهَذَا من أسمج الْخلال، وَقَالَ إِسْحَاق بن مَنْصُور: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: مَا معنى منع وهات؟ قَالَ: أَن تمنع مَا عنْدك فَلَا تَتَصَدَّق وَلَا تُعْطِي فتمد يدك فتأخذ من النَّاس. وَقَالَ ابْن التِّين: وَضبط منع، بِغَيْر ألف، وَصَوَابه: منعا، بِالْألف لِأَنَّهُ مفعول حرم. قلت: صرح الْكرْمَانِي بقوله: منعا بِالْألف حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: كَيفَ صَحَّ عطفه أَي: عطف هَات على منعا ثمَّ أجَاب بقوله: تَقْدِيره هَات وهات، إِذْ هُوَ بِاعْتِبَار لَازم مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْأَخْذ. انْتهى. قلت: لِأَن معنى هَات أَعْطِنِي، وَمن لَازم الْعَطاء الْأَخْذ، تَقول: هَات يَا رجل، بِكَسْر التَّاء، وللإثنين: هاتيا، مثل إيتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هَاتِي، بِالْيَاءِ، وللمرأتين: هاتيا(12/247)
وللنساء: هَاتين، مثل: عاطين. قَوْله: قيل: وَقَالَ: إِمَّا فعلان، وَإِمَّا مصدران، فَإِذا كَانَا فعلين يكون: قيل، مَجْهُول. قَالَ الَّذِي هُوَ ماضٍ، وَالْمعْنَى على هَذَا نهي عَن فضول مَا يتحدث بِهِ المجالسون من قَوْلهم، قيل: كَذَا وَقَالَ: كَذَا، وبناؤهما على كَونهمَا فعلين محكيين متضمنين للضمير، وَالْإِعْرَاب على إجرائهما مجْرى الْأَسْمَاء خلوين من الضَّمِير. وَمِنْه قَوْلهم: الدُّنْيَا قَالَ وَقيل، وَإِدْخَال حرف التَّعْرِيف عَلَيْهِمَا لذَلِك فِي قَوْلهم: لَا تعرف القال من القيل، وَإِذا كَانَا مصدرين يكون مَعْنَاهُ: نهى عَن قيل وَقَول، يُقَال: قلت قولا وَقَالا وقيلاً. وأصل: قَالَا: قولا قلبت الْوَاو ألفا لتحركها، وانفتاح مَا قبلهَا وأصل: قيلاً قولا قلبت الْوَاو يَاء لكسرة مَا قبلهَا، وَقيل: هَذَا النَّهْي إِنَّمَا يَصح فِي قَول لَا يَصح وَلَا يعلم حَقِيقَته، فَأَما من حكى مَا صَحَّ وَيعرف حَقِيقَته وأسنده إِلَى ثِقَة صَادِق فَلَا وَجه للنَّهْي عَنهُ، وَلَا ذمّ، وَقيل: هَذَا الْكَلَام يتَضَمَّن بِعُمُومِهِ النميمة والغيبة فَإِن تَبْلِيغ الْكَلَام من أقبح الْخِصَال والإصغاء إِلَيْهِ أقبح وأفحش. قَوْله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: السُّؤَال عَن أُمُور النَّاس وَكَثْرَة الْبَحْث عَنْهَا. وَالثَّانِي: مَسْأَلَة النَّاس من أَمْوَالهم. وَقَالَ التوربشتي: وَلَا أَدْرِي حمله على هَذَا، فَإِن ذَلِك مَكْرُوه وَإِن لم يبلغ حد الْكَثْرَة. وَالثَّالِث: كَثْرَة السُّؤَال فِي الْعلم للإمتحان وَإِظْهَار المراء. وَالرَّابِع: كَثْرَة سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} (الْمَائِدَة: 101) . وَقَالَ ابْن بطال: (وَكَثْرَة السُّؤَال) إِمَّا فِي العلميات وَإِمَّا فِي الْأَمْوَال. قَوْله: (وإضاعة المَال) ، قد مر تَفْسِيره فِي أول الْبَاب، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: التَّقْسِيم الحاصر فِيهِ الْحَاوِي لجَمِيع الْأَقْسَام أَن تَقول: إِن الَّذِي يصرف إِلَيْهِ المَال إِمَّا أَن يكون وَاجِبا كَالنَّفَقَةِ وَالزَّكَاة وَنَحْوهَا، وَهَذَا لَا ضيَاع فِيهِ، وَهَكَذَا إِن كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَن يكون حَرَامًا أَو مَكْرُوها، وَهَذَا قَلِيله وَكَثِيره إِضَاعَة وسرف، وَإِمَّا أَن يكون مُبَاحا، وَلَا إِشْكَال إلاَّ فِي هَذَا الْقسم، إِذْ كثير من الْأَمْوَال يعده بعض النَّاس من الْمُبَاحَات، وَعند التَّحْقِيق لَيْسَ كَذَلِك، كتشييد الْأَبْنِيَة وتزيينها والإسراف فِي النَّفَقَة والتوسع فِي لبس الثِّيَاب والأطعمة الشهية اللذيذة، وَأَنت تعلم أَن الْقَسْوَة وغلظة الطَّبْع تتولد من لبس الرقَاق وَأكل الشهيات، وَيدخل فِيهِ تمويه الْأَوَانِي والسقوف بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَسُوء الْقيام على مَا يملكهُ من الرَّقِيق وَالدَّوَاب حَتَّى يضيع فَيهْلك، وَقِسْمَة مَا لَا ينْتَفع الشَّرِيك بِهِ: كَاللُّؤْلُؤِ وَالسيف يكسران، وَكَذَا احْتِمَال الْغبن الْفَاحِش فِي الْبياعَات، وإيتاء المَال صَاحبه وَهُوَ سَفِيه حقيق بِالْحجرِ.
02 - (بابٌ العَبْدُ راعٍ فِي مَال سَيِّده ولاَ يَعْمَلُ إلاَّ بإذْنِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ العَبْد ... إِلَى آخِره، وأصل: راعٍ: راعي، فَاعل إعلال قاضٍ، قَوْله: وَلَا يعْمل، أَي: العَبْد فِي مَال سَيّده إلاَّ بِإِذْنِهِ، إلاَّ فِيمَا كَانَ من الْمَعْرُوف الْمُعْتَاد أَن يُعْفَى عَنهُ، مثل: الصَّدَقَة بالكسرة فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَيّ إِذْنه.
9042 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عبدِ الله عنْ عبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ كُلُّكُمْ راعٍ ومَسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ فالإمَامُ راعٍ وهْوَ مَسْئُولٌ عنْ رعِيَّتِهِ والرَّجُلُ فِي أهْلِهِ راعٍ وهْوَ مسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتهِ والْمَرْأةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا راعِيَةٌ وهْيَ مَسْئُولَةٌ عنْ رَعِيَّتِها والخادِمُ فِي مالِ سَيِّدِهِ راعٍ وهْوَ مَسْئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ قَالَ فَسَمِعْتُ هاؤُلاءِ مِنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحْسِبُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ والرَّجُلُ فِي مالِ أبِيهِ راعٍ وهْوَ مَسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ فكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عنْ رعِيَّتِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالْخَادِم فِي مَال سَيّده رَاع) ، لِأَن المُرَاد من الْخَادِم هُنَا هُوَ العَبْد، وَإِن كَانَ أَعم مِنْهُ، وَجَاء فِي النِّكَاح: وَالْعَبْد رَاع على مَال سَيّده، وَرِجَاله بِهَذَا النسق مرت مرَارًا، وَأَبُو الْيَمَان هُوَ الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عمر ... إِلَى آخِره، قَوْله: (وَالْخَادِم فِي مَال سَيّده رَاع) كَذَا هُوَ للأكثرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَالْخَادِم فِي مَال سَيّده، وَهُوَ مسؤول عَن رَعيته.
بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(12/248)
44 - (كِتابُ الْخُصوماتِ)
1 - (بَاب مَا يذكر فِي الْأَشْخَاص، وَالْخُصُومَة بَين الْمُسلم واليهودي)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان الْخُصُومَات، وَهُوَ جمع خُصُومَة، وَهِي إسم، قَالَ الْجَوْهَرِي: خاصمه مخاصمة وخصاماً، والإسم الْخُصُومَة، والخصم مَعْرُوف يَسْتَوِي فِيهِ الْجمع والمؤنث لِأَنَّهُ فِي الأَصْل مصدر، وَمن الْعَرَب من يثنيه ويجمعه، فَيَقُول: خصمان وخصوم، والخصيم أَيْضا الْخصم، وَالْجمع: خصما والخصم، بِكَسْر الصَّاد: شَدِيد الْخُصُومَة، وَوَقع للأكثرين مَا يذكر فِي الْأَشْخَاص وَالْخُصُومَة بَين الْمُسلم وَالْيَهُود، وَوَقع لبَعْضهِم: واليهودي بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مَا يذكر فِي الْخُصُومَات والملازمة والأشخاص، وَفِي بعض النّسخ، بَاب مَا يذكر فِي الْأَشْخَاص وَالْخُصُومَة بَين الْمُسلم واليهودي، قَالَ ابْن التِّين: يُقَال: شخص، بِفَتْح الْخَاء من بلد إِلَى بلد، أَي: ذهب، والمصدر شخوصاً، وأشخصه غَيره، وشخص التَّاجِر خرج من منزله، وشخص بِكَسْر الْخَاء رَجَعَ ذكره ابْن سَيّده.
0142 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ عبدُ المَلِكِ بنُ مَيْسَرَةَ أَخْبرنِي قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ قَالَ سَمِعْتُ عبدَ الله يقولُ سَمِعتُ رَجُلاً قرَأَ آيَةً قَالَ سَمِعْتُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِلافَها فأخذْتُ بِيَدِهِ فأتَيْتُ بِهِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ كِلاَكُما مُحْسِنٌ قَالَ شُعْبَةُ أظُنُّهُ قَالَ لاَ تَخْتَلِفُوا فإنَّ منْ كانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا تختلفوا) إِلَى آخِره، لِأَن الِاخْتِلَاف الَّذِي يُورث الْهَلَاك هُوَ أَشد الْخُصُومَة، وَأَشَارَ بَعضهم إِلَى أَن التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأخذت بِيَدِهِ فَأتيت بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ) ، إِنَّه الْمُنَاسب للتَّرْجَمَة. قلت: الَّذِي قلته هُوَ الْأَنْسَب، لِأَن فِيمَا ذكره احْتِمَال الْخُصُومَة، وَالَّذِي ذكرته فِيهِ الْخُصُومَة المحققة على مَا لَا يخفى.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عبد الْملك بن ميسرَة الْهِلَالِي، يُقَال لَهُ: الزراد، بالزاي وَتَشْديد الرَّاء. الرَّابِع: النزال، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الزَّاي: ابْن سُبْرَة، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: الْهِلَالِي. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: تَقْدِيم الرَّاوِي على الصِّيغَة وَهُوَ جَائِز عِنْد الْمُحدثين. وَفِيه: السماع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَعبد الْملك كُوفِي، والنزال صَحَابِيّ، فِيمَا ذكره أَبُو عمر، فَإِنَّهُ ذكره فِي جملَة الصَّحَابَة، وَغَيره ذكره فِي التَّابِعين الْكِبَار، فعلى قَول أبي عمر: فِيهِ: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وعَلى قَول غَيره: فِيهِ: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، لِأَن عبد الْملك من التَّابِعين. وَفِيه: أَن النزال لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن مَسْعُود وَآخر فِي الْأَشْرِبَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل، وَفِي فضال الْقُرْآن عَن سُفْيَان بن حَرْب، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَرَأَ آيَة) وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : عَن عبد الله: أَقْرَأَنِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سُورَة الرَّحْمَن، فَخرجت إِلَى الْمَسْجِد عَشِيَّة فَجَلَست إِلَى رَهْط، فَقلت لرجل: اقْرَأ عَليّ فَإِذا هُوَ يقْرَأ أحرفاً لَا أقرؤها فَقلت: من أَقْرَأَك؟ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى وقفنا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: اخْتَلَفْنَا فِي قراءتنا فَإِذا وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ تَغْيِير، وَوجد فِي نَفسه حِين ذكرت الِاخْتِلَاف، وَقَالَ: إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بالاختلاف، فَأمر عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُركُمْ أَن يقْرَأ كل رجل مِنْكُم كَمَا علم، فَإِنَّمَا أهلك من كَانَ قبلكُمْ الِاخْتِلَاف، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا وكل رجل منا يقْرَأ حرفا لَا يقْرَأ صَاحبه. انْتهى. فَهَذَا يدل على أَن كلاًّ مِنْهُمَا مَا خرج عَن قِرَاءَة السَّبْعَة، فَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كلاكما محسن) أَي: فِي الْقِرَاءَة، وإفراد الْخَبَر بِاعْتِبَار لفظ كلا، وَأما أصل السَّبْعَة فَمَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من(12/249)
حَدِيث أبي بن كَعْب، قَالَ: قَرَأَ رجل آيَة، وقرأتها على غير قِرَاءَته، فَقلت: من أَقْرَأَك هَذِه؟ قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَانْطَلَقت، فَقلت: يَا رَسُول الله أقرأتني آيَة كَذَا وَكَذَا، قَالَ: نعم، فَقَالَ الرجل لَهُ: أقرأتني آيَة كَذَا وَكَذَا، قَالَ: نعم، إِن جِبْرِيل وَمِيكَائِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، أتياني فَجَلَسَ جِبْرِيل عَن يَمِيني وَمِيكَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن يساري فَقَالَ جِبْرِيل: يَا مُحَمَّد إقرأ الْقُرْآن على حرف، فَقَالَ مِيكَائِيل: استزده، فَقلت: زِدْنِي. فَقَالَ: إقرأ على حرفين، فَقَالَ مِيكَائِيل: استزده، حَتَّى بلغ سَبْعَة أحرف، وَقَالَ: كل كافٍ شافٍ، وَفِي لفظ: أنزل عَليّ الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف، وَعند التِّرْمِذِيّ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا جِبْرِيل {إِنِّي بعثت إِلَى أمة أُميَّة مِنْهُم الْعَجُوز وَالشَّيْخ الْكَبِير والغلام وَالْجَارِيَة وَالرجل الَّذِي لم يقْرَأ كتابا قطّ، قَالَ: يَا مُحَمَّد} إِن الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف. قَوْله: (قَالَ شُعْبَة) هُوَ بالأسناد الْمَذْكُور. قَوْله: (أَظُنهُ قَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تختلفوا أَي: لَا تختلفوا فِي الْقُرْآن، وَالِاخْتِلَاف فِيهِ كفر إِذا نفى إنزاله إِذا كَانَ يقْرَأ خلاف ذَلِك، وَلَا يُخَيّر بَين الْقِرَاءَتَيْن، لِأَنَّهُمَا كِلَاهُمَا كَلَامه قديم غير مَخْلُوق، وَإِنَّمَا التَّفْضِيل فِي الثَّوَاب. وَفِي (مُعْجم) أبي الْقَاسِم الْبَغَوِيّ: حَدثنَا عبد الله بن مُطِيع حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن يزِيد بن خصيفَة عَن مُسلم بن معبد عَن أبي جهيم بن الْحَارِث بن الصمَّة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن هَذَا الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف، فَلَا تماروا فِي الْقُرْآن فَإِن المراء فِيهِ كفر، وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو عبيد بن سَلام فِي كتاب (القراآت) تأليفه عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر. 2 - (حَدثنَا يحيى بن قزعة قَالَ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة وَعبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ استب رجلَانِ رجل من الْمُسلمين وَرجل من الْيَهُود قَالَ الْمُسلم وَالَّذِي اصْطفى مُحَمَّدًا على الْعَالمين فَقَالَ الْيَهُودِيّ وَالَّذِي اصْطفى مُوسَى على الْعَالمين فَرفع الْمُسلم يَده عِنْد ذَلِك فلطم وَجه الْيَهُودِيّ فَذهب الْيَهُودِيّ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ من أمره وَأمر الْمُسلم فَدَعَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُسلم فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَأخْبرهُ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تخيروني على مُوسَى فَإِن النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فأصعق مَعَهم فَأَكُون أول من يفِيق فَإِذا مُوسَى باطش جَانب الْعَرْش فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَن صعق فأفاق قبلي أَو كَانَ مِمَّن اسْتثْنى الله) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله استب رجلَانِ فَإِن الاستباب عَن اثْنَيْنِ لَا يكون إِلَّا بِالْخُصُومَةِ وَرِجَاله قد ذكرُوا غيرَة مرّة والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد وَفِي الرقَاق عَن يحيى بن قزعة وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بن حَرْب وَأبي بكر بن أبي النَّضر وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن حجاج بن أبي يَعْقُوب وَمُحَمّد بن يحيى بن فَارس وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " عَن أبي سَلمَة وَعَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج " يَعْنِي الزُّهْرِيّ يروي عَنْهُمَا جَمِيعًا وهما يرويان جَمِيعًا عَن أبي هُرَيْرَة ويروي عَن ابْن شهَاب والأعرج قَوْله " استب رجلَانِ " من السب وَهُوَ الشتم من سبه يسبه سبا وسبابا قَوْله " رجل " أَي أَحدهمَا رجل من الْمُسلمين قيل هُوَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَوَقع فِي جَامع سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار أَن الرجل الَّذِي لطم الْيَهُودِيّ هُوَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " وَرجل من الْيَهُود " أَي وَالْآخر رجل من الْيَهُود ذكر فِي تَفْسِير ابْن إِسْحَاق أَن الْيَهُودِيّ اسْمه فنحَاص وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} قَوْله " وَالَّذِي اصْطفى مُحَمَّدًا " أَي وَالله الَّذِي اخْتَار مُحَمَّدًا على الْعَالمين وأصل اصْطفى اصتفى لِأَنَّهُ من الصفوة فَلَمَّا نقل صفا إِلَى بَاب الافتعال فَقيل اصتفى قلبت تاؤه طاء لِأَن الصَّاد من المجهورة وَالتَّاء من المهموسة فَلَا يعتدلان قَوْله " لَا تخيروني " أَي لَا تفضلُونِي على مُوسَى. (فَإِن قلت) نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَقَالَ " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر " فَمَا وَجه قَوْله " لَا تخيروني " أَي تفضلُونِي قلت الْجَواب عَنهُ من أوجه. الأول أَنه قبل أَن يعلم أَنه أفضلهم فَلَمَّا علم قَالَ " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر ". الثَّانِي أَنه نهى عَن تَفْضِيل يُؤَدِّي إِلَى تنقيص بَعضهم فَإِنَّهُ كفر. الثَّالِث أَنه نهى عَن تَفْضِيل يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة كَمَا فِي الحَدِيث من لطم الْمُسلم الْيَهُودِيّ(12/250)
الرَّابِع أَنه قَالَ تواضعا ونفيا للكبر وَالْعجب. الْخَامِس أَنه نهى عَن التَّفْضِيل فِي نفس النُّبُوَّة لَا فِي ذَوَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَعُمُوم رسالتهم وَزِيَادَة خصائصهم وَقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} وَقَالَ ابْن التِّين معنى لَا تخَيرُوا بَين الْأَنْبِيَاء يَعْنِي من غير علم وَإِلَّا فقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} وَأغْرب ابْن قُتَيْبَة فَأجَاب بِأَنَّهُ سيد ولد آدم يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهُ الشافع يَوْمئِذٍ وَله لِوَاء الْحَمد والحوض قَوْله " يصعقون " يَعْنِي يخرون صراعا بِصَوْت يسمعونه يُوجب فيهم ذَلِك من صعق يصعق من بَاب علم يعلم وَقَالَ ابْن الْأَثِير الصَّعق أَن يغشى على الْإِنْسَان من صَوت شَدِيد يسمعهُ وَرُبمَا مَاتَ مِنْهُ ثمَّ اسْتعْمل فِي الْمَوْت كثيرا والصعقة الْمرة الْوَاحِدَة مِنْهُ وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّعق والصعقة الْهَلَاك وَالْمَوْت يُقَال مِنْهُ صعق الْإِنْسَان بِفَتْح الصَّاد وَضمّهَا وَأنكر بَعضهم الضَّم مِنْهُم الْقَزاز فَإِنَّهُ قَالَ لَا يُقَال صعق وَلَا هُوَ مصعوق وَقَالَ الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا} تُرَابا {وخر مُوسَى صعقا} قَالَ مغشيا عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة " فَلم يزل صعقا مَا شَاءَ الله " وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَهُوَ بِالْمَوْتِ أشبه وَفِي تَفْسِير الطَّبَرِيّ عَن قَتَادَة وَابْن جريج {وخر مُوسَى صعقا} قَالَا مَيتا وَفِي التَّهْذِيب للأزهري قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا أَفَاق} دَلِيل الغشي لِأَنَّهُ يُقَال للمغشي عَلَيْهِ وللذي ذهب عقله قد أَفَاق وَفِي الْمَيِّت بعث وَنشر قَوْله " فَأَكُون أول من يفِيق " وَفِي لفظ " أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض " قيل هُوَ مُشكل لِأَن الْأَحَادِيث دَالَّة على أَن مُوسَى قد توفّي وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَارَهُ فِي قَبره وَجه الْإِشْكَال أَن نفخة الصَّعق إِنَّمَا يَمُوت بهَا من كَانَ حَيا فِي هَذِه الدَّار فَأَما من مَاتَ فيستحيل أَن يَمُوت ثَانِيًا وَإِنَّمَا ينْفخ فِي الْمَوْتَى نفخة الْبَعْث ومُوسَى قد مَاتَ فَلَا يَصح أَن يَمُوت مرّة أُخْرَى وَلَا يَصح أَن يكون مُسْتَثْنى من نفخة الصَّعق لِأَن المستثنين أَحيَاء لم يموتوا وَلَا يموتون وَلَا يَصح استثناؤهم من الْمَوْتَى وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهَذِهِ الصعقة صعقة فزع بعد الْمَوْت حِين تَنْشَق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَقَالَ النَّوَوِيّ يحْتَمل أَن يكون مُوسَى مِمَّن لم يمت من الْأَنْبِيَاء وَهُوَ بَاطِل وَقَالَ القَاضِي يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهَذِهِ الصعقة صعقة فزع بعد الْمَوْت حِين تَنْشَق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَقَالَ النَّوَوِيّ يحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ هَذَا قبل أَن يعلم أَنه أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض إِن كَانَ هَذَا اللَّفْظ على ظَاهره وَأَن نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض فَيكون مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من تِلْكَ الزمرة وَهِي وَالله أعلم زمرة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام (فَإِن قلت) إِذا جعلت لَهُ تِلْكَ عوضا من الصعقة فَيكون حَيا حَالَة الصَّعق وَحِينَئِذٍ لم يصعق (قلت) الْمَوْت لَيْسَ بِعَدَمِ إِنَّمَا هُوَ انْتِقَال من دَار إِلَى دَار فَإِذا كَانَ هَذَا للشهداء كَانَ الْأَنْبِيَاء بذلك أَحَق وَأولى مَعَ أَنه صَحَّ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الأَرْض لَا تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد اجْتمع بهم لَيْلَة الْإِسْرَاء بِبَيْت الْمُقَدّس وَالسَّمَاء خُصُوصا بمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَتحصل من جملَة هَذَا الْقطع بِأَنَّهُم غَيَّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَا ندركهم وَإِن كَانُوا موجودين أَحيَاء وَذَلِكَ كالحال فِي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهُم موجودون أَحيَاء لَا يراهم أحد من نوعنا إِلَّا من خصّه الله تَعَالَى بكرامته وَإِذا تقرر أَنهم أَحيَاء فهم فِيمَا بَين السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الصَّعق صعق كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله فَأَما صعق غير الْأَنْبِيَاء فموت وَأما صعق الْأَنْبِيَاء فَالْأَظْهر أَنه غشي فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة الْبَعْث فَمن مَاتَ حَيّ وَمن غشي عَلَيْهِ أَفَاق فَإِذا تحقق هَذَا علم أَن نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أول من يفِيق وَأول من يخرج من قَبره قبل النَّاس كلهم الْأَنْبِيَاء وَغَيرهم إِلَّا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهُ حصل لَهُ فِيهِ تردد هَل بعث قبله أَو بَقِي على الْحَالة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وعَلى أَي الْحَالَتَيْنِ كَانَ فَهِيَ فَضِيلَة عَظِيمَة لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَيست لغيره (قلت) لقَائِل أَن يَقُول أَن سيدنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما يرفع بَصَره حِين الْإِفَاقَة يكون إِلَى جِهَة من جِهَات الْعَرْش ثمَّ ينظر ثَانِيًا إِلَى جِهَة أُخْرَى مِنْهُ فيجد مُوسَى وَبِه يلتئم قَوْله " أَنا أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض " قَوْله " فَإِذا مُوسَى باطش " كلمة إِذا للمفاجأة وَمعنى باطش مُتَعَلق بِهِ بِقُوَّة والبطش الْأَخْذ الْقوي الشَّديد قَوْله " فَلَا أَدْرِي " إِلَى آخِره (فَإِن قلت) يَأْتِي فِي حَدِيث أبي سعيد عقيب هَذَا " فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَن صعق أم حُوسِبَ بصعقته الأولى " فَمَا الْجمع بَين هَذِه الثَّلَاثَة (قلت) الْمَعْنى لَا أَدْرِي أَي هَذِه الثَّلَاثَة كَانَت من الْإِفَاقَة أَو الِاسْتِثْنَاء أَو المحاسبة والمستثنى قد يكون نفس من لَهُ الصعقة فِي الدُّنْيَا قَوْله " مِمَّن اسْتثْنى الله " يَعْنِي فِي قَوْله تَعَالَى {فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله} أَن لَا يصعق وهم جِبْرِيل وإسرافيل وَمِيكَائِيل وعزرائيل وَزَاد كَعْب حَملَة الْعَرْش وروى(12/251)
أنس مَرْفُوعا " ثمَّ تَمُوت الثَّلَاثَة الأول ثمَّ ملك الْمَوْت بعدهمْ وَملك الْمَوْت يقبضهم ثمَّ يميته الله " وروى أنس مَرْفُوعا " آخِرهم موتا جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ سعيد بن الْمسيب (إِلَّا من شَاءَ الله) الشُّهَدَاء متقلدون بِالسُّيُوفِ حول الْعَرْش -
2142 - حدَّثنا موسَى بنُ إسْمَاعيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ أبِيهِ عنْ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَيْنَما رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسٌ جاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ يَا أبَا القَاسِمِ ضَرَبَ وجْهِي رجُلٌ مِنْ أصْحَابِكَ فقالَ مَنْ قَالَ رجلٌ مِنَ الأنْصَارِ قَالَ ادْعوهُ فَقَالَ أضرَبْتَهُ قَالَ سَمِعْتُهُ بالسُّوقِ يَحْلِفُ والَّذِي اصْطَفى موسَى علَى البَشَرِ قُلْتُ أيْ خَبِيثُ علَى مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضرَبْتُ وجْهَهُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تُخَيِّرُوا بَينَ الأنبِياءِ فإنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ فأكونُ أوَّلَ منْ تَنشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ فإذَا أنَا بِمُوساى آخِذٌ بِقائِمَةٍ مِنْ قَوائِمِ الْعَرْشِ فَلاَ أدْرِي أكانَ فِيمَنْ صَعِقَ أمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الْأُولى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَدْعُوهُ) ، فَإِن المُرَاد بِهِ إشخاصه بَين يَدي النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: وهيب مصغر وهب بن خَالِد أَبُو بكر. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة بن أبي حسن. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، اسْمه سعد بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان، وعمراً وأباه مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير وَفِي الدِّيات، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي الدِّيات عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن عَمْرو النَّاقِد: وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُوسَى بِهِ مُخْتَصرا: لَا تخَيرُوا بَين الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) مر الْكَلَام فِيهِ غير مرّة. قَوْله: (رَسُول الله) مُبْتَدأ وَخَبره. قَوْله: (جَالس) . وَقَوله: (جَاءَ يَهُودِيّ) جَوَاب: بَيْنَمَا. قَوْله: (فَقَالَ من؟) يَعْنِي: من ضربك. قَوْله: (قَالَ: رجل) أَي: قَالَ الْيَهُودِيّ: ضَرَبَنِي رجل من الْأَنْصَار. قَوْله: (قَالَ: ادعوهُ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أدعوا أَي: اطْلُبُوا هَذَا الرجل. قَوْله: (فَقَالَ: أضربته؟) فِيهِ حذف تَقْدِيره، أَي: فَحَضَرَ الرجل فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل ضربت الرجل؟ قَوْله: (على الْبشر) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على النَّبِيين. قَوْله: (أَي خَبِيث) ، أَي: قلت: يَا خَبِيث! على مُحَمَّد؟ أَي: اصْطفى مُوسَى على مُحَمَّد؟ والاستفهام فِيهِ على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (فَإِذا أَنا بمُوسَى) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَالْبَاء، فِي: بمُوسَى، للإلصاق الْمجَازِي، مَعْنَاهُ: فَإِذا أَنا بمَكَان يقرب من مُوسَى، أَي: من رُؤْيَته. قَوْله: (آخذ) ، على وزن فَاعل مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ آخذ، وَمن جِهَة الْعَرَبيَّة يجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على الْحَال. قَوْله: (بقائمه) ، الْقَائِمَة فِي اللُّغَة وَاحِدَة قَوَائِم الدَّابَّة، وَالْمرَاد هَهُنَا مَا هُوَ كالعمود للعرش.
وَقَالَ ابْن بطال فِيهِ: أَن لَا قصاص بَين الْمُسلم وَالذِّمِّيّ، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يَأْمر بقصاص اللَّطْمَة.
3142 - حدَّثنا مُوسَى قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عَن قَتَادةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ يَهُودياً رضَّ رأسَ جارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ من فَعَلَ هذَا بِكِ أفُلانٌ أفُلانٌ حتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فأوْمَتْ بِرَأسِها فأُخِذَ الْيَهُوديُّ فاعْتَرَفَ فأمَرَ بِهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرُضَّ رَأسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يشْتَمل على خُصُومَة بَين يَهُودِيّ وَجَارِيَة من الْأَنْصَار، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور(12/252)
وَهَمَّام على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن يحيى بن دِينَار الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن حسان بن أبي عباد وَفِي الدِّيات عَن حجاج بن منهال وَعَن إِسْحَاق عَن ابْن حبَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن هدبة بن خَالِد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الدِّيات عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ وَالنَّسَائِيّ فِي الْقود جَمِيعًا عَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رض) ، بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة أَي: دق يُقَال: رضضت الشَّيْء رضَا فَهُوَ رضيض ومرضوض، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرض الدق الجريش. قَوْله: (رَأس جَارِيَة) ، كَانَت هَذِه الْجَارِيَة من الْأَنْصَار كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَاخْتلفت أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث فههنا رض رَأس جَارِيَة بَين حجرين، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، على مَا سَيَأْتِي: أَن يَهُودِيّا قتل جَارِيَة على أوضاح لَهَا، فَقَتلهَا بَين حجرين، وَفِي رِوَايَة للطحاوي: (عدا يَهُودِيّ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَارِيَة، فَأخذ أَوْضَاحًا كَانَت عَلَيْهَا ورضخ رَأسهَا) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فرضخ رَأسهَا بَين حجرين، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: أَن يَهُودِيّا قتل جَارِيَة من الْأَنْصَار على حلى لَهَا، ثمَّ أَلْقَاهَا فِي قليب رضخ رَأسهَا بِالْحِجَارَةِ، فأُخِذَ فأُتي بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمر بِهِ أَن يُرجم حَتَّى يَمُوت، فرجم حَتَّى مَاتَ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: خرجت جَارِيَة عَلَيْهَا أوضاح، فَأَخذهَا يَهُودِيّ فرضخ رَأسهَا وَأخذ مَا عَلَيْهَا من حلي، قَالَ: فأدركت وَبهَا رَمق، فَأتي بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: من قَتلك؟ الحَدِيث. قلت: الِاخْتِلَاف فِي الْأَلْفَاظ لَا فِي الْمعَانِي، فَإِن الرضخ والرض وَالرَّجم كُله عبارَة هَهُنَا عَن الضَّرْب بِالْحِجَارَةِ، والأوضاح جمع وضح، بالضاد الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة، وَهُوَ نوع من الْحلِيّ يعْمل من الْفضة، سميت بهَا لبياضها، والرضخ، بالضاد وَالْخَاء المعجمتين: وَهُوَ الدق وَالْكَسْر هُنَا، وَيَجِيء بِمَعْنى الشدخ أَيْضا وَبِمَعْنى الْعَطِيَّة. قَوْله: (أفلان؟ أفلان؟) الْهمزَة فيهمَا للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فأومت) ، كَذَا ذكره ابْن التِّين، ثمَّ قَالَ: صَوَابه فأومأت، وثلاثيه: ومأ، وَفِي (الْمطَالع) : يُقَال مِنْهُ: ومأ وَأَوْمَأَ، وَفِي (الصِّحَاح) : أَوْمَأت إِلَيْهِ: أَشرت، وَلَا تقل أوميت وومأت إِلَيْهِ إِمَاء ووماء، لُغَة وَهَذَا معتل الْفَاء مَهْمُوز اللَّام.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز وَقَتَادَة وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر وَجَمَاعَة من الظَّاهِرِيَّة: على أَن الْقَاتِل يقتل بِمَا قتل بِهِ، وَقَالَ ابْن حزم: قَالَ مَالك: إِن قتلَه بِحجر أَو بعصا أَو بالنَّار أَو بِالتَّفْرِيقِ قتل بِمثل ذَلِك، يُكَرر عَلَيْهِ أبدا حَتَّى يَمُوت. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن ضربه بِحجر أَو بعصا حَتَّى مَاتَ ضرب بِحجر أَو بعصا أبدا حَتَّى يَمُوت، فَإِن حَبسه بِلَا طَعَام وَلَا شراب حَتَّى مَاتَ حبس مثل الْمدَّة حَتَّى يَمُوت، فَإِن لم يمت قتل بِالسَّيْفِ، وَهَكَذَا إِن غرقه، وَهَكَذَا إِن أَلْقَاهُ من مهواة عالية، فَإِن قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فَمَاتَ قطعت يدا الْقَاتِل وَرجلَاهُ، فَإِن مَاتَ وإلاَّ قتل بِالسَّيْفِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: إِن لم يمت ترك كَمَا هُوَ حَتَّى يَمُوت لَا يطعم وَلَا يسقى، وَكَذَلِكَ إِن قَتله جوعا أَو عطشاً عطّش أَو جوّع حَتَّى يَمُوت، وَلَا تراعى الْمدَّة أصلا. وَقَالَ ابْن شبْرمَة: إِن غمسه فِي المَاء حَتَّى مَاتَ غمس حَتَّى يَمُوت، وَقَالَ عَامر الشّعبِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله: لَا يقتل الْقَاتِل فِي جَمِيع الصُّور إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن قيس عَن جَابر الْجعْفِيّ عَن أبي عَازِب عَن النُّعْمَان ابْن بشير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا قَود إلاَّ بحديدة. وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن جَابر عَن أبي عَازِب عَن النُّعْمَان. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان النعماني حَدثنَا الْحسن بن عبد الرَّحْمَن الجرجرائي. حَدثنَا مُوسَى بن دَاوُد عَن مبارك عَن الْحسن، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ. قيل لِلْحسنِ: عَمَّن؟ قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان بن بشير يذكر ذَلِك. وَقيل: عَن مبارك بن فضَالة عَن الْحسن عَن أبي بكرَة مَرْفُوعا، رَوَاهُ الْوَلِيد بن صَالح عَنهُ. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة مُرْسلا: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن أَشْعَث وَعَمْرو بن عبيد عَن الْحسن، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن مَعْنَاهُ: لَا قصاص حَاصِل إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَقد علم أَن النكرَة فِي مَوضِع النَّفْي تعم، وَيكون الْمَعْنى: لَا فَرد من أَفْرَاد الْقود إلاَّ وَهُوَ مُسْتَوفى بِالسَّيْفِ. وَقيل: النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ طَرِيق من طرق الْقصر، وَتَحْقِيق الْقصر فِيهِ أَنه لما قيل: لَا قَود توجه النَّفْي إِلَى ذَات الْقود، فَانْتفى الْقود الْمُنكر الشَّامِل لكل وَاحِد من أَفْرَاد الْقود، وَلما قيل: إلاَّ بِالسَّيْفِ، جَاءَ الْقصر، وَفِيه(12/253)
إِثْبَات ذَلِك الْقود الْمَنْفِيّ بِالسَّيْفِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: توجه النَّفْي إِلَى ذَات الْقود، لِأَن الْقود معنى من الْمعَانِي وَلَيْسَ لَهُ قيام إلاَّ بِالذَّاتِ، والذات لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ النَّفْي، وَلِهَذَا نقُول: الْمَنْفِيّ فِي قَوْلنَا إِنَّمَا زيد قَائِم، هُوَ اتصاف زيد بِالْقيامِ لَا ذَات زيد، لِأَن أنفس الذوات أَي: الْأَجْسَام، يمْتَنع نَفيهَا، كَا بَين ذَلِك فِي الطبيعيات.
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث لم يثبت لَهُ إِسْنَاد، وَجَابِر الْجعْفِيّ مطعون فِيهِ. قلت: الْجعْفِيّ، وَإِن طعن فِيهِ، فقد قَالَ وَكِيع: مهما تشككتم فِيهِ فَلَا تَشكوا فِي أَن جَابِرا ثِقَة، وَقَالَ شُعْبَة: صَدُوق فِي الحَدِيث، وَقَالَ الثَّوْريّ لشعبة: لَئِن تَكَلَّمت فِي جَابر لتكلمت فِيك، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (الكاشف) : إِن ابْن حبَان أخرج لَهُ فِي (صَحِيحه) وَقد تَابع الثَّوْريّ أَيْضا قيس بن الرّبيع، كَمَا ذكرنَا فِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ، وَقَالَ عَفَّان: كَانَ قيس ثِقَة وَثَّقَهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: هُوَ ثِقَة حسن الحَدِيث، ثمَّ إِنَّا، وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ، فقد وجدنَا شَاهدا لحَدِيث النُّعْمَان الْمَذْكُور، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن المستمر حَدثنَا الْحر بن مَالك الْعَنْبَري حَدثنَا مبارك بن فضَالة عَن الْحسن عَن أبي بكرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَسَنَده جيد، وَابْن المستمر صَدُوق، كَذَا قَالَ النَّسَائِيّ، وَالْحر، قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: صَدُوق، وَالْمبَارك، وَإِن تكلم فِيهِ، فقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي المبايعات فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخوف الله عباده بالكسوف، وَأخرج لَهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَوَثَّقَهُ، وَقَالَ عَفَّان: كَانَ ثِقَة، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين مرّة وَضَعفه أُخْرَى، وَكَانَ يحيى الْقطَّان يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَرُوِيَ أَيْضا نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه الْبَيْهَقِيّ من (سنَنه) من حَدِيث ابْن مصفى: حَدثنَا بَقِيَّة حَدثنَا سُلَيْمَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ) ، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن أبي معَاذ هُوَ سُلَيْمَان بن أَرقم عَن الزُّهْرِيّ هَكَذَا، وَعَن أبي معَاذ عَن عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا فود إلاَّ بسلاح) . وَرَوَاهُ مُعلى بن هِلَال عَن أبي أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا قَود إلاَّ بحديدة) . وروى أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عبد الصَّمد بن عَليّ عَن الْفضل بن عَبَّاس عَن يحيى بن غيلَان عَن عبد الله بن بزيع عَن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان عَن جَابر عَن أبي عَازِب عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْقود بِالسَّيْفِ وَالْخَطَأ على الْعَاقِلَة) ، وَهَذَا الحَدِيث كَمَا رَأَيْت قد رُوِيَ عَن النُّعْمَان بن بشير وَأبي بكرَة وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعلي بن أبي طَالب وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلَا شكّ أَن بَعْضهَا يشْهد لبَعض، وَأَقل أَحْوَاله أَن يكون حسنا، فَإِذا كَانَ حسن صَحَّ الِاحْتِجَاج بِهِ. .
وَأَجَابُوا عَن حَدِيث الْبَاب بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى أَن ذَلِك الْقَاتِل يجب قَتله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله تَعَالَى إِذا كَانَ إِنَّمَا قتل على مَال، قد بَين ذَلِك فِي الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الأوضاح، كَمَا يجب دم قَاطع الطَّرِيق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لله تَعَالَى، فَكَأَن لَهُ أَن يقْتله كَيفَ شَاءَ، بِسيف أَو بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث، فِيمَا رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِهِ أَن يرْجم حَتَّى يَمُوت، فرجم حَتَّى مَاتَ، وَقد مر عَن قريب، فَدلَّ ذَلِك أَن قتل الْقَاتِل لَا يتَعَيَّن أَن يكون بِمَا قتل بِهِ. وَجَوَاب آخر: أَن ذَلِك كَانَ حِين كَانَت الْمثلَة مُبَاحَة، كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعرنيين، ثمَّ نسخت بعد ذَلِك، وَنهى عَنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: إِيمَاء تِلْكَ الْجَارِيَة، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي إِشَارَة الْمَرِيض، فَذهب اللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه إِذا ثبتَتْ إِشَارَته على مَا يعرف من حَضَره جَازَت وَصيته، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري: إِذا سُئِلَ الْمَرِيض عَن الشَّيْء فَأَوْمأ بِرَأْسِهِ أَو بِيَدِهِ فَلَيْسَ بِشَيْء حَتَّى يتَكَلَّم. قَالَ أَبُو حنيفَة: وَإِنَّمَا تجوز إِشَارَة الْأَخْرَس أَو من لحقته سكتة لَا يتَكَلَّم، وَأما من اعتقل لِسَانه وَلم يَوْم بِهِ ذَلِك فَلَا تجوز إِشَارَته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قلت: الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: لَو أدْرك مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا لما اجترأ بإبراز هَذَا الْكَلَام، فَلَا يكثر مثل هَذَا على قَاصِر الْفَهم وفائت الْإِدْرَاك، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكتف بِإِشَارَة الْجَارِيَة فِي قتل الْيَهُودِيّ، وَإِنَّمَا قَتله باعترافه. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: من أطَاق الْإِبَانَة عَن نَفسه لم تكن إِشَارَته فِيمَا لَهُ أَو عَلَيْهِ وَاقعَة موقع الْكَلَام، لَكِن تقع موقع الدّلَالَة على مَا يُرَاد، لَا فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى الحكم على إِنْسَان بِإِشَارَة غَيره، وَلَو كَانَ كَذَلِك لقبلت شَهَادَة الشَّاهِدين بِالْإِشَارَةِ والإيماء. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: فِي هَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ لم يُوجب الْقصاص فِيمَن قتل بمثقل عمدا، وَإِنَّمَا يجب عِنْده دِيَة مُغَلّظَة، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَخَالفهُ غَيره من الْأَئِمَّة: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وجماهير الْعلمَاء، وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن عَادَة ذَلِك الْيَهُودِيّ كَانَت قتل الصغار بذلك الطَّرِيق، فَكَانَ ساعياً فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، فَقتل سياسة. واعترضوا بِأَنَّهُ لَو قتل(12/254)
لسعيه فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ لما قتل مماثله برض رَأسه بَين الحجرين، ورد بِأَن قَتله مماثلة كَانَ قبل تَحْرِيم الْمثلَة، فَلَمَّا حرمت نسخت، فَكَانَ الْقَتْل بعد ذَلِك بِالسَّيْفِ. وَفِيه: بَيَان أَن الرجل يقتل بِالْمَرْأَةِ، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ عِنْد من يعْتد بإجماعه. وَفِيه: خلاف شَاذ. وَفِيه: قتل الْكَافِر بِالْمُسلمِ، وَالله أعلم.
2 - (بابُ منْ رَدَّ أمْرَ السَّفِيهِ والضَّعِيفِ العَقْلِ وإنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإمَامُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من رد أَمر السَّفِيه، وَهُوَ ضد: الرشيد وَهُوَ الَّذِي يصلح دينه ودنياه، وَالسَّفِيه هُوَ الَّذِي يعْمل بِخِلَاف مُوجب الشَّرْع، وَيتبع هَوَاهُ ويتصرف لَا لغَرَض، أَو لغَرَض لَا يعده الْعُقَلَاء من أهل الدّيانَة غَرضا، مثل دفع المَال إِلَى الْمُغنِي واللعاب وَشِرَاء الْحمام الطيارة بِثمن غال وَغير ذَلِك. قَوْله: (والضعيف الْعقل) أَعم من السَّفِيه. قَوْله: (وَإِن لم يكن) وأصل بِمَا قبله: يَعْنِي: حجر الإِمَام عَلَيْهِ أَو لم يحْجر، فَإِن بَعضهم يرد تصرف السَّفِيه مُطلقًا، وَهُوَ قَول ابْن الْقَاسِم أَيْضا، وَعند أصبغ: لَا يرد عَلَيْهِ إلاَّ إِذا ظهر سفهه، وَقَالَ غَيرهمَا من الْمَالِكِيَّة: لَا يرد مُطلقًا إلاَّ مَا تصرف فِيهِ بعد الْحجر، وَبِه قَالَت الشَّافِعِيَّة، وَعند أبي حنيفَة: لَا يحْجر بِسَبَب سفه وَلَا يرد تصرفه مُطلقًا، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يحْجر عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَات لَا تصح مَعَ الْهزْل: كَالْبيع وَالْهِبَة وَالْإِجَارَة وَالصَّدَََقَة، وَلَا يحْجر عَلَيْهِ فِي غَيرهَا، كَالطَّلَاقِ وَنَحْوه، وَقَالَ الشَّافِعِي: يحْجر عَلَيْهِ فِي الْكل وَلَا يحْجر عَلَيْهِ أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة بِسَبَب غَفلَة وَهُوَ عَاقل غير مُفسد، وَلَا يَقْصِدهُ وَلكنه لَا يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَات الرابحة، وَعِنْدَهُمَا يحْجر عَلَيْهِ كالسفيه.
ويُذْكَرُ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ردَّ علَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ ثُمَّ نَهَاهُ
هَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع المزايدة مَوْصُولا عَن جاب بن عبد الله: أَن رجلا أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر فَاحْتَاجَ الحَدِيث، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْصُولا، أَيْضا، وَلَفظه: أعتق رجل من بني عذرة عبدا لَهُ عَن دبر، فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: أَلَك مَال غَيره؟ قَالَ: لَا. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله الْعَدوي بثمانمائة دِرْهَم، فجَاء بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَفعهَا إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إبدأ بِنَفْسِك فَتصدق عَلَيْهَا، فَإِن فضل شَيْء فلأهلك، فَإِن فضل عَن أهلك شَيْء فلذي قرابتك فَإِن فضل عَن ذِي قرابتك شَيْء، فَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَقُول: بَين يَديك وَعَن يَمِينك وشمالك. فَإِن قلت: الَّذِي ذكره البُخَارِيّ فِي الْبَاب الْمَذْكُور صَحِيح، فَكيف ذكر هُنَا بِصِيغَة التمريض؟ قلت: هَذَا الْمِقْدَار الَّذِي ذكره هُنَا لَيْسَ على شَرطه، فَلذَلِك ذكره بِصِيغَة التمريض، وَمن عَادَته غَالِبا أَنه لَا يجْزم إلاَّ مَا كَانَ على شَرطه، فَإِن قلت: مَا الْمُطَابقَة بَين هَذَا الْمُعَلق والترجمة؟ قلت: هِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا رد على الْمُتَصَدّق الْمَذْكُور صدقته مَعَ احْتِيَاجه إِلَيْهَا لأجل ضعف عقله، لِأَنَّهُ لَيْسَ من مُقْتَضى الْعقل أَن يكون الشَّخْص مُحْتَاجا فَيتَصَدَّق على غَيره، فَلذَلِك أَمر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أَن يتَصَدَّق على نَفسه أَولا، ثمَّ: إِن فضل من ذَلِك شَيْء فَيتَصَدَّق بِهِ على أَهله، فَإِن فضل شَيْء فَيتَصَدَّق بِهِ على قرَابَته، فَإِن فضل شَيْء يتَصَدَّق بِهِ على من شَاءَ من غير هَؤُلَاءِ. قَوْله: (رد على الْمُتَصَدّق) أَي: رد على الْمُتَصَدّق الْمَذْكُور فِي حَدِيث جَابر: صدقته مَعَ احْتِيَاجه إِلَيْهَا. قَوْله: (ثمَّ نَهَاهُ) أَي: عَن مثل هَذِه الصَّدَقَة بعد ذَلِك.
وَقَالَ مالِكٌ إذَا كانَ لِرَجُلٍ علَى رجُلٍ مالٌ ولَهُ عَبْدٌ لَا شيْءَ لَهُ غَيْرُهُ فأعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ
هَكَذَا ذكره مَالك فِي (موطئِهِ) أخرجه عَنهُ عبد الله بن وهب، واستنبط مَالك ذَلِك عَن قَضِيَّة الْمُدبر الَّذِي بَاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صَاحبه، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي السَّفِيه قبل الحكم: هَل ترد عقوده؟ فَاخْتَارَ البُخَارِيّ ردهَا، واستدلَّ بِحَدِيث الْمُدبر، وَذكر قَول مَالك فِي رد عتق الْمديَان قبل الْحجر إِذا أحَاط الدّين بِمَالِه، وَيلْزم مَالِكًا رد أَفعَال سَفِيه الْحَال لِأَن الْحجر فِي السَّفِيه والمديان مطرد.
ومنْ باعَ عَلى الضَّعِيفِ ونَحْوِهِ فَدَفَعَ ثَمنَهُ إلَيْهِ وأمَرَهُ بالإصْلاحِ والقِيامِ بِشَأنِهِ فإنْ أفْسَدَ(12/255)
بَعْدُ مَنَعَهُ لأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ إضَاعَةِ المالِ وَقَالَ لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلابَةَ ولَمْ يَأْخُذِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مالَهُ
هَكَذَا وَقع قَوْله: (وَمن بَاعَ) إِلَى آخِره بالْعَطْف على مَا قبله فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب من بَاعَ على الضَّعِيف ... إِلَى آخِره، وَذكر لفظ: بَاب، لَيْسَ لَهُ فَائِدَة أصلا قَوْله: (على الضَّعِيف) أَي: ضَعِيف الْعقل، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة. قَوْله: (وَنَحْوه) هُوَ السَّفِيه. قَوْله: (فَدفع) ، ويروى: وَدفع، بِالْوَاو، وَهَذَا حَاصِل مَا فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بيع الْمُدبر الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لما بَاعه دفع ثمنه إِلَيْهِ ونبهه على طَرِيق الرشد، وَأمره بالإصلاح وَالْقِيَام بِشَأْنِهِ، وَمَا كَانَ سفهه حِينَئِذٍ فِي ذَلِك إلاَّ ناشئاً عَن الْغَفْلَة وَعدم البصيرة بمواقع الْمصَالح، وَلِهَذَا سلم إِلَيْهِ الثّمن، وَلَو كَانَ مَنعه لأجل سفهه حَقِيقَة لم يكن يسلم إِلَيْهِ الثّمن. قَوْله: (فَإِن أفسد بعد) ، بِضَم الدَّال لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على الضَّم وإضافته منوية أَي: وَإِن أفسد هَذَا الضَّعِيف الْحَال بعد ذَلِك مَنعه، أَي: حجر عَلَيْهِ من التَّصَرُّف. قَوْله: (لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، تَعْلِيل لما ذكره من مَنعه بعد ذَلِك، وَالنَّهْي عَن إِضَاعَة المَال قد مر عَن قريب فِي: بَاب إِضَاعَة المَال. قَوْله: (وَقَالَ للَّذي) أَي: وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للرجل الَّذِي كَانَ يخدع فِي البيع ... إِلَى آخِره، قد مر فِي: بَاب مَا يكره من الخداع فِي البيع. قَوْله: (وَلم يَأْخُذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله) ، أَي: مَال الرجل الَّذِي بَاعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَامه، إِنَّمَا لم يَأْخُذ لِأَنَّهُ لم يظْهر عِنْده سفهه حَقِيقَة، إِذْ لَو ظهر لمَنعه من أَخذ الثّمن، وَقد مر.
5142 - حدَّثنا عاصِمُ بنُ علِيٍّ قَالَ حَدثنَا ابنُ أبي ذِئْبٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ عنْ جابِر رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رجُلاً أعْتَقَ عَبْداً لَهُ لَيْسَ لَهُ مالٌ غَيْرُهُ فرَدَّهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بنُ النَّحَّامِ. .
قد مر هَذَا فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع المزايدة، أخرجه هُنَاكَ: عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله عَن حُسَيْن الْمكتب عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن جَابر ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن عَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب الوَاسِطِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَقد مر غير مرّة.
4 - (بابُ كَلاَمِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَلَام الْخُصُوم بَعضهم مَعَ بعض فِيمَا لَا يُوجب شَيْئا من الْحَد وَالتَّعْزِير، وَأَرَادَ بِهَذَا أَن كَلَام بعض الْخُصُوم مَعَ بعض من غير إفحاش لَا يُوجب شَيْئا، لِأَن الْكَلَام لَا بُد مِنْهُ، وَلَكِن لَا يتَكَلَّم بَعضهم لبَعض بِكَلَام يجب فِيهِ الْحَد أَو التَّعْزِير.(12/256)
7142 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرَنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ شَقِيقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ حَلَفَ علَى يَمِينٍ وهْوَ فِيها فاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ مالَ امْرِىءٍ مُسلم لَقِيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ فَقَالَ الأشْعَثُ فِيَّ وَالله كانَ ذالِكَ كانَ بَيْنِي وبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أرْضٌ فجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إلاى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَكَ بَيِّنَةٌ قلْتُ لاَ قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُوديِّ احْلِفْ قَالَ قلْتُ يَا رسولَ الله إِذا يحْلِفَ ويَذْهَبَ بِمَالِي فأنْزَلَ الله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمَانِهِمْ ثَمناً قلِيلاً إلاى آخر الْآيَة. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (إِذا يحلف وَيذْهب بِمَالي) ، فَإِنَّهُ نسب الْيَهُودِيّ إِلَى الْحلف الْكَاذِب، وَلم يجب عَلَيْهِ شَيْء لِأَنَّهُ أخبر بِمَا كَانَ يُعلمهُ مِنْهُ، وَمثل هَذَا الْكَلَام مُبَاح فِيمَن عرف فسقه، كَمَا عرف فسق الْيَهُودِيّ الَّذِي خَاصم الْأَشْعَث وَقلة مراقبته لله تَعَالَى. وأماالقول بذلك فِي رجل صَالح، أَو من لَا يعرف لَهُ فسق، فَيجب أَن يُنكر عَلَيْهِ وَيُؤْخَذ لَهُ بِالْحَقِّ، وَلَا يُبِيح لَهُ النّيل من عرضه، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْمُسَاقَاة فِي: بَاب الْخُصُومَة فِي الْبِئْر وَالْقَضَاء فِيهَا، فِيهَا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن عبد الله ... إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام كَذَا ذكره أَبُو نعيم وَخلف عَن أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بالمعجمتين: الضريرعن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي الْكُوفِي عَن عبد الله ابْن مَسْعُود، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَهُوَ فِيهَا فَاجر) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَفَاجِر أَي: كَاذِب، وَإِطْلَاق الْغَضَب على الله تَعَالَى على الْمَعْنى الغائي مِنْهُ، وَهِي إِرَادَة إِيصَال الشَّرّ، لِأَن مَعْنَاهُ: غليان دم الْقلب لإِرَادَة الانتقام، وَهُوَ على الله تَعَالَى محَال.
8142 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عبْدِ الله بنِ كعبِ بنِ مالكٍ عنْ كعْبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ تقَاضاى ابنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْناً كانَ لَهُ علَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا حتَّى سَمِعَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي بَيْتِهِ فخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنادَى يَا كَعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسولَ الله قَالَ ضَعْ عنْ دَيْنِكَ هاذَا فأومَأ إلَيْهِ أَي الشِّطْرَ قَالَ لَقَدْ فعَلْتُ يَا رسولَ الله قَالَ قُم فاقْضِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فارتفعت أصواتهما) لِأَن رفع الْأَصْوَات يدل على كَلَام كثير وَقع بَينهمَا، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مُحَمَّد ... إِلَى آخِره، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد وَعين هَذَا الْمَتْن، وَفَائِدَة التّكْرَار على هَذَا الْوَجْه لأجل هَذِه التَّرْجَمَة.
9 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي أَنه قَالَ سَمِعت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول سَمِعت هِشَام بن حَكِيم بن حزَام يقْرَأ سُورَة الْفرْقَان على غير مَا أقرؤها وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْرَأَنيهَا وكدت أَن أعجل عَلَيْهِ ثمَّ أمهلته حَتَّى انْصَرف ثمَّ لببته بردائه فَجئْت بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت أَنِّي سَمِعت هَذَا يقْرَأ على غير مَا أقرأتنيها فَقَالَ لي أرْسلهُ ثمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأ فَقَرَأَ قَالَ هَكَذَا نزلت(12/257)
ثمَّ قَالَ لي اقْرَأ فَقَرَأت فَقَالَ هَكَذَا نزلت إِن الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف فاقرؤا مِنْهُ مَا تيَسّر) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله ثمَّ لببته بردائه فَإِن تلبيبه يدل على كَلَام كثير وَقع بَينهمَا يُقَال لببت الرجل بِالتَّشْدِيدِ تلبيبا إِذا جمعت ثِيَابه عِنْد صَدره فِي الْخُصُومَة ثمَّ جررته وَهَذَا أقوى من مُجَرّد القَوْل لِأَن فِيهِ امتدادا بِالْيَدِ زِيَادَة على القَوْل وَكَانَ جَوَاز هَذَا الْفِعْل بِحَسب مَا أدّى عَلَيْهِ اجْتِهَاده. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة عبد الله بن يُوسُف التنيسِي وَهُوَ من أَفْرَاده وَمَالك بن أنس وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي بِالْقَافِ وَالرَّاء الْخَفِيفَة وَتَشْديد الْيَاء نِسْبَة إِلَى بني قارة بن الديش بن محلم بن غَالب بن ربيع بن الْهون بن خُزَيْمَة بن مدركة وَالْمَشْهُور أَنه تَابِعِيّ وَقد يُقَال أَنه صَحَابِيّ توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة ثَمَانِينَ وَله ثَمَان وَسَبْعُونَ سنة وَهِشَام بن حَكِيم بِفَتْح الْحَاء ابْن حزَام بِكَسْر الْحَاء وَتَخْفِيف الزَّاي الْقرشِي الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ أسلم يَوْم الْفَتْح وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر وروى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي فَضَائِل الْقُرْآن من حَدِيث عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن الْمسور وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي عَن عمر بِهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى عَن معمر عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الْمسور عَن عمر وَرَوَاهُ مَالك بِإِسْقَاط الْمسور وَكلهَا صِحَاح عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ يحيى بن بكير عَن مَالك فَقَالَ عَن هِشَام وَوهم وَالصَّحِيح ابْن شهَاب (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن سعيد بن عفير وَفِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن عقيل وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين وَقَالَ اللَّيْث حَدثنِي يُونُس وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن أَيْضا عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ وَعَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقِرَاءَة عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن أَيْضا عَنْهُمَا (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وكدت أَن أعجل عَلَيْهِ " يَعْنِي فِي الْإِنْكَار عَلَيْهِ والتعرض لَهُ قَوْله " حَتَّى انْصَرف " أَي من الْقِرَاءَة قَوْله " ثمَّ لبيته " بِالتَّشْدِيدِ من التلبيب وَقد مر تَفْسِيره الْآن قَوْله " فَقَالَ لي أرْسلهُ " أَي فَقَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرْسلهُ أَي هِشَام بن حَكِيم وَكَانَ ممسوكا مَعَه قَوْله " هَكَذَا أنزلت " قَالَ ذَلِك عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي قِرَاءَة الِاثْنَيْنِ كليهمَا وَلم يبين أحد كَيْفيَّة الْخلاف الَّذِي وَقع بَينهمَا قَوْله " على سَبْعَة أحرف " اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا على عشرَة أَقْوَال الأول قَالَ الْخَلِيل هِيَ القراآت السَّبْعَة وَهِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال الْمُؤَلّفَة من الْحُرُوف الَّتِي تنتظم مِنْهَا الْكَلِمَة فَيقْرَأ على سَبْعَة أوجه كَقَوْلِه نرتع وَنَلْعَب قرىء على سَبْعَة أوجه (فَإِن قلت) كَيفَ يجوز إِطْلَاق الْعدَد على نزُول الْآيَة وَهِي إِذا نزلت مرّة حصلت كَمَا هِيَ إِلَّا أَن ترفع ثمَّ تنزل بِحرف آخر (قلت) أجابوا عَنهُ بِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يدارس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقُرْآن فِي كل رَمَضَان ويعارضه إِيَّاه فَنزل فِي كل عرض بِحرف وَلِهَذَا قَالَ أَقْرَأَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على حرف فراجعته فَلم أزل أستزيده حَتَّى انْتهى إِلَى سَبْعَة أحرف وَاخْتلف الأصوليون هَل يقْرَأ الْيَوْم على سَبْعَة أحرف فَمَنعه الطَّبَرِيّ وَغَيره وَقَالَ إِنَّمَا يجوز بِحرف وَاحِد الْيَوْم وَهُوَ حرف زيذ ونحى إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ أجمع الْمُسلمُونَ على أَنه لَا يجوز حظر مَا وَسعه الله تَعَالَى من القراآت بالأحرف الَّتِي أنزلهَا الله تَعَالَى وَلَا يسوغ للْأمة أَن تمنع مَا يُطلقهُ الله تَعَالَى بل هِيَ مَوْجُودَة فِي قراءتنا وَهِي مفرقة فِي الْقُرْآن غير مَعْلُومَة بِأَعْيَانِهَا فَيجوز على هَذَا وَبِه قَالَ القَاضِي أَن يقْرَأ بِكُل مَا نَقله أهل التَّوَاتُر من غير تَمْيِيز حرف من حرف فيحفظ حرف ناقع بِحرف الْكسَائي وَحَمْزَة وَلَا حرج فِي ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى أنزلهَا تيسيرا على عَبده ورفقا وَقَالَ الْخطابِيّ الْأَشْبَه فِيهِ مَا قيل أَن الْقُرْآن أنزل مرخصا للقارىء بِأَن يقْرَأ(12/258)
بسبعة أحرف على مَا تيَسّر وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا اتّفق فِيهِ الْمَعْنى أَو تقَارب وَهَذَا قبل إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَأَما الْآن فَلَا يسعهم أَن يقرأه على خلاف أَجمعُوا عَلَيْهِ القَوْل الثَّانِي قَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى سَبْعَة أحرف هِيَ سبع لُغَات فصيحة من لُغَات الْعَرَب قُرَيْش ونزار وَغير ذَلِك الثَّالِث السَّبْعَة كلهَا لمضر لَا لغَيْرهَا وَهِي مفرقة فِي الْقُرْآن غير مجتمعة فِي الْكَلِمَة الْوَاحِدَة الرَّابِع أَنه يَصح فِي الْكَلِمَة الْوَاحِدَة الْخَامِس السَّبْعَة فِي صُورَة التِّلَاوَة كالإدغام وَغَيره السَّادِس السَّبْعَة هِيَ سَبْعَة أنحاء زجر وَأمر وحلال وَحرَام ومحكم ومتشابه وأمثال السَّابِع سَبْعَة أحرف هِيَ الْإِعْرَاب لِأَنَّهُ يَقع فِي آخر الْكَلِمَة وَذكر عَن مَالك أَن المُرَاد بِهِ إِبْدَال خَوَاتِيم الْآي فَيجْعَل مَكَان غَفُور رَحِيم سميع بَصِير مَا لم يُبدل آيَة رَحْمَة بِعَذَاب أَو عَكسه الثَّامِن المُرَاد من سَبْعَة أحرف الْحُرُوف والأسماء وَالْأَفْعَال الْمُؤَلّفَة من الْحُرُوف الَّتِي يَنْتَظِم مِنْهَا كلمة فَيقْرَأ على سَبْعَة أحرف نَحْو عبد الطاغوت ونرتع وَنَلْعَب قرىء على سَبْعَة أوجه التَّاسِع هِيَ سَبْعَة أوجه من الْمعَانِي المتفقة المتقاربة نَحْو أقبل وتعال وهلم وَعَن مَالك إجَازَة الْقُرْآن بِمَا ذكر عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فامضوا إِلَى ذكر الله قيل أَرَادَ بِهِ أَنه لَا بَأْس بقرَاءَته على الْمِنْبَر كَمَا فعل عمر ليبين أَن المُرَاد بِهِ الجري الْعَاشِر أَن المُرَاد بالسبعة الإمالة وَالْفَتْح والترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإدغام والإظهار وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين تدبرت وُجُوه الِاخْتِلَاف فِي القراآت فَوَجَدتهَا سَبْعَة مِنْهَا مَا تَتَغَيَّر حركته وَيبقى مَعْنَاهُ وَصورته مثل هن أطهر لكم وَأظْهر وَمِنْهَا مَا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ وَيَزُول بالإعراب وَلَا تَتَغَيَّر صورته مثل رَبنَا باعد وَبعد وَمِنْهَا مَا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ بالحروف وَلَا يخْتَلف بالإعراب وَلَا تَتَغَيَّر صورته نَحْو ننشرها وننشزها وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّر صورته دون مَعْنَاهُ كالعهن المنفوش قَرَأَ سعيد بن جُبَير كالصوف وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّر صورته وَمَعْنَاهُ مثل طلح منضود قَرَأَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وطلع وَمِنْهَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير مثل وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ قَرَأَ أَبُو بكر وَطَلْحَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَجَاءَت سكرة الْحق بِالْمَوْتِ وَمِنْهَا الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان مثل تسع وَتسْعُونَ نعجة أُنْثَى فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قيل السَّبْعَة توسعة وتسهيل لم يقْصد بِهِ الْحصْر وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ هُوَ حصر الْعدَد فِي السَّبْعَة قيل هِيَ فِي صُورَة التِّلَاوَة وَكَيْفِيَّة النُّطْق من إدغام وَإِظْهَار وتفخيم وترقيق وَمد وإمالة ليقْرَأ كل بِمَا يُوَافق لغته ويسهل على لِسَانه أَي كَمَا لَا يُكَلف الْقرشِي الْهَمْز واليمني تَركه والأسدي فتح حرف المضارعة وَقَالَ ابْن أبي صفرَة هَذِه السَّبع إِنَّمَا شرعت من حرف وَاحِد من السَّبْعَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث وَهُوَ الَّذِي جمع عَلَيْهِ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ انقياد هِشَام لعلمه أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يرد إِلَّا خيرا وَفِيه مَا كَانَ عَلَيْهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من الصلابة وَكَانَ هِشَام من أَصْلَب النَّاس بعده وَكَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا كره شَيْئا يَقُول لَا يكون هَذَا مَا بقيت أَنا وَهِشَام بن حَكِيم وَفِيه مَشْرُوعِيَّة الْقِرَاءَة بِمَا تيَسّر عَلَيْهِ دون أَن يتَكَلَّف وَهُوَ معنى قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي آخر الحَدِيث " فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ " أَي مَا تيَسّر لكم من الْقُرْآن وَحفظه -
5 - (بابُ إخْرَاجِ أهْلِ الْمَعَاصِي والخُصُومِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز إِخْرَاج أهل الْمعاصِي ... إِلَى آخِره. قَوْله: (بعد الْمعرفَة) ، أَي: بعد الْعرْفَان بأحوالهم، وَهَذَا على سَبِيل التَّأْدِيب لَهُم والزجر عَن ارْتِكَاب مَا لم يجزه الشَّرْع.
وقدْ أخْرَجَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أُخْتَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حِينَ ناحَتْ
أَي: أخرج عمر بن الْخطاب أُخْت أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِي: أم فَرْوَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات الْكَبِير) : أَنبأَنَا عُثْمَان بن عمر أَنبأَنَا يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: لما توفّي أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَقَامَت عَائِشَة عَلَيْهِ النوح، فَبلغ عمر فنهاهن فأبين أَن ينتهين، فَقَالَ لهشام بن الْوَلِيد: أخرج إِلَى ابْنة أبي قُحَافَة، يَعْنِي: أم فَرْوَة، فعلاها بِالدرةِ ضربات، فَتفرق النوائح حِين سمعن ذَلِك. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا(12/259)
مُنْقَطع فِيمَا بَين سعيد وَعمر فَينْظر فِي جزم البُخَارِيّ، وَوَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ، وَفِيه: فَجعل يخرجهن امْرَأَة امْرَأَة وَهُوَ يضربهن بِالدرةِ.
6 - (بابُ دَعْوَى الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم دَعْوَى الوضي للْمَيت أَي: لأَجله فِي الْحُقُوق مِنْهَا الِاسْتِلْحَاق فِي النّسَب وَحَدِيث الْبَاب فِيهِ.
1242 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنْ عَبْدَ بنَ زَمْعَةَ وسَعْدَ بنَ أبِي وقَّاصٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ اخْتَصَما إلاى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ابنِ أمَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدً يَا رسولَ الله أوْصَانِي أخِي إذَا قَدِمْتُ أَن أنْظُرَ ابنَ أمَةِ زَمْعَةَ فأقْبِضَهُ فإنَّهُ ابْني وَقَالَ عبْدُ بنُ زَمْعَةَ أخِي وابنُ أمَةِ أبِي وُلِدَ على فِرَاش أبِي فرَأى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبَهَاً بَيِّناً بِعُتْبَةَ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا عبْدُ بنَ زَمْعَةَ الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ واحْتَجِبِي منْهُ يَا سَوْدَةُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَوْصَانِي أخي فَلْينْظر فِيهِ) والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل كتاب الْبيُوع فِي: بَاب تَفْسِير المشبهات، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يحيى بن قزعة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن عبد الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (ان عبد بن زَمعَة) ، لفظ عبد خلاف الْحر هُوَ ابْن لزمعة، بِفَتْح الزَّاي وَالْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة: ابْن قيس العامري الصَّحَابِيّ. قَوْله: (اخْتَصمَا) ، كَانَت خصومتهما عَام الْفَتْح. قَوْله: (أَوْصَانِي أخي) أَخُوهُ هُوَ عتبَة بن أبي وَقاص، اخْتلفُوا فِي إِسْلَامه، وَهُوَ الَّذِي شج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكسر رباعيته يَوْم أحد. قَوْله: (إِذا قدمت) ، أَي: مَكَّة. قَوْله: (أَن أنظر ابْن أمة زَمعَة) ، هَذَا الابْن المختصم فِيهِ اسْمه: عبد الرَّحْمَن، صَحَابِيّ. قَوْله: (شبها بَينا بِعتبَة) ، هُوَ عتبَة بن أبي وَقاص، وَقد حكم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُنَا بِأَن الْوَلَد للْفراش، وَلم يحكم فِيهِ بالشبه وَهُوَ حجَّة قَوِيَّة للحنفية فِي منع الحكم بالقائف، وَإِنَّمَا قَالَ لسودة بنت زَمعَة، وَهِي زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: احتجبي مِنْهُ، أَي من ابْن أمة زَمعَة، تورعاً للمشابهة الظَّاهِرَة بَين ابْن أمة زَمعَة، وَعتبَة، وَالله أعلم.
7 - (بابُ التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة التَّوَثُّق مِمَّن يخْشَى معرته، بِفَتْح الْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: وَهِي الْفساد والعبث، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المعرة: الْأَمر الْقَبِيح الْمَكْرُوه والأذى، وَهِي مفعلة من(12/260)
العر. وَفِي (الْمغرب) المعرة المساءة والأذى، مفعلة من العر وَهُوَ الْحَرْب أَو من عره إِذا لطخه بالعرة وَهِي السرقين، والتوثق الإحكام، يُقَال: عقد وثيق أَي: مُحكم، ووثق بِهِ وثاقة أَي: ايتمنه وأوثقه وَوَثَّقَهُ بِالتَّشْدِيدِ أَي: أحكمه، وشده بِالْوَثَاقِ، أَي: بالقيد، وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَالْكَسْر فِيهِ لُغَة، ثمَّ التَّوَثُّق تَارَة يكون بالقيد وَتارَة يكون بِالْحَبْسِ، على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وقَيَّدَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ والسُّنُنِ والفَرَائِضِ
عِكْرِمَة هُوَ مولى عبد الله بن عَبَّاس، أَصله من البربر من أهل الغرب كَانَ لحصين بن أبي الْحر الْعَنْبَري، فوهبه لعبد الله ابْن عَبَّاس حِين جَاءَ والياً على الْبَصْرَة لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَأكْثر عَن مَوْلَاهُ، وروى عَنهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَمَات قبله، وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة وَالْإِمَام أَبُو حنيفَة وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن حسان: سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول: طلبت الْعلم أَرْبَعِينَ سنة وَكنت أُفْتِي بِالْبَابِ وَابْن عَبَّاس فِي الدَّار، وَعَن الشّعبِيّ: مَا بَقِي أحد أعلم بِكِتَاب الله من عِكْرِمَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة خمس وَمِائَة، وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة. وَالتَّعْلِيق الْمَذْكُور وَصله ابْن سعد عَن أَحْمد ابْن عبد الله بن يُونُس وعارم بن الْفضل، قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن الزبير بن الخريت، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء، عَن عِكْرِمَة، قَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس يَجْعَل فِي رجْلي الكبل يعلمني الْقُرْآن ويعلمني السّنة، والكبل: بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره لَام: وَهُوَ الْقَيْد.
2242 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ سَعِيدِ بنِ أبِي سعِيدٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقولُ بعَثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنيفَةَ يُقالُ لَهُ ثُمامَةُ بنُ أُثالٍ سَيِّدُ أهْلِ الْيَمامَةِ فرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثمامَةُ قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ فذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ أطْلقوا ثَمامَةَ. .
أَي: مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فربطوه فِي سَارِيَة) ، وَذَلِكَ كَانَ للتوثق خوفًا من معرته، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الِاغْتِسَال إِذا أسلم، وربط الْأَسير أَيْضا فِي الْمَسْجِد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد بن أبي سعيد أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره. وَأخرجه أَيْضا هُنَاكَ فِي: بَاب دُخُول الْمُشرك الْمَسْجِد، بِهَذَا الْإِسْنَاد عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن سعيد بن أبي سعيد هُوَ المَقْبُري.
قَوْله: (خيلاً) ، أَي: ركبانا. قَوْله: (قبل نجد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: جِهَة نجد، ومقابلها. قَوْله: (ثُمَامَة) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الميمين. و: (أَثَال) بِضَم الْهمزَة وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبلام مصروفاً. قَوْله: (الْيَمَامَة) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الميمين: مَدِينَة من الْيمن على مرحلَتَيْنِ من الطَّائِف. قَوْله: (فَذكر الحَدِيث) أَي: بِتَمَامِهِ وَطوله، وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْمَغَازِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (أطْلقُوا) أَمر من الْإِطْلَاق.
وَفِيه: الْأَمر بالتوثق بالقيدو بِالْحَبْسِ أَيْضا، وَقد رُوِيَ أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يحبس فِي الدّين، وروى معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين، قَالَ: كَانَ شُرَيْح إِذا قضى على رجل أَمر بحبسه فِي الْمَسْجِد إِلَى أَن يقوم، فَإِن أعطي حَقه، وَإِلَّا أَمر بِهِ إِلَى السجْن، وَقَالَ طَاوُوس: إِذا لم يقر الرجل بالحكم حبس، وروى معمر عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبس رجلا فِي تُهْمَة، وَحَدِيث ثُمَامَة أصل فِي هَذَا الْبَاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
8 - (بابُ الرَّبْطِ والْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة ربط الْغَرِيم وحبسه فِي الْحرم، وَفِيه رد على طَاوُوس حَيْثُ كره السجْن بِمَكَّة، فروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق قيس بن سعد عَن طَاوُوس: أَنه كَانَ يكره السجْن بِمَكَّة وَيَقُول: لَا يَنْبَغِي لبيت عَذَاب أَن يكون فِي بَيت رَحْمَة. قلت: هَذَا نظر مليح، وَلَكِن الْعَمَل على خِلَافه.(12/261)
واشْتَراى نافِعُ بنُ عَبْدِ الْحَرِثِ دَارا لِلْسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ علَى أنَّ عُمَرَ إنْ رَضِيَ فالْبَيْعُ بَيْعُهُ وإنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرَ فلِصَفْوانَ أرْبَعُمَائَةٍ
نَافِع بن عبد الْحَارِث الْخُزَاعِيّ من فضلاء الصَّحَابَة، اسْتَعْملهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَكَّة، وَكَانَ من جملَة عُمَّال عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصَفوَان بن أُميَّة الجُمَحِي الْمَكِّيّ الصَّحَابِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ من طرق: عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبد الرَّحْمَن بن فروخ بِهِ، وَلَيْسَ لنافع بن عبد الْحَارِث وَلَا لِصَفْوَان فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (للسجن) بِفَتْح السِّين: مصدر من: سجن يسجن، من: بَاب نصر ينصر، سجناً بِالْفَتْح، والسجن بِالْكَسْرِ وَاحِد السجون. قَوْله: (على أَن عمر) كلمة: على، دخلت على: أَن، الشّرطِيَّة نظرا إِلَى الْمَعْنى، كَأَنَّهُ قَالَ: على هَذَا الشَّرْط، فَاعْترضَ بِأَن البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يكن دَاخِلا فِي نفس العقد، بل هُوَ وعد، أَو هُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ العقد، أَو كَانَ بيعا بِشَرْط الْخِيَار لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَو إِنَّه كَانَ وَكيلا لعمر، وللوكيل أَن يَأْخُذ لنَفسِهِ إِذا رده الْمُوكل بِالْعَيْبِ وَنَحْوه. وَقَالَ الْمُهلب: اشْتَرَاهَا نَافِع من صَفْوَان للسجن، وَشرط عَلَيْهِ: إِن رَضِي عمر بالابتياع فَهِيَ لعمر، وَإِن لم يرض فلك بِالثّمن الْمَذْكُور لنافع، بِأَرْبَع مائَة وَهَذَا بيع جَائِز. قَوْله: وَإِن لم يرض عمر فلصفوان أَرْبَعمِائَة أَي وَإِن لم يرض عمر بالابتياع الْمَذْكُور يكون لِصَفْوَان أَرْبَعمِائَة فِي مُقَابلَة الِانْتِفَاع بِتِلْكَ الدَّار إِلَى أَن يعود الْجَواب من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا يظنّ أَن هَذِه الأربعمائة هِيَ الثّمن، لِأَن الثّمن كَانَ أَرْبَعَة آلَاف. فَإِن قلت: هَذِه الْأَرْبَعَة آلَاف دَرَاهِم أَو دَنَانِير؟ قلت: يحْتَمل كلاًّ مِنْهُمَا، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه دَرَاهِم، وَكَانَت من بَيت مَال الْمُسلمين وبعيد أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَشْتَرِي دَارا للسجن بأَرْبعَة آلَاف دِينَار؟ لشدَّة احترازه على بَيت المَال.
وسَجَنَ ابنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ
أَي: سجن عبد الله بن الزبير بِمَكَّة أَيَّام ولَايَته عَلَيْهَا، ومفعول: سجن، مَحْذُوف تَقْدِيره: سجن الْمَدْيُون وَنَحْوه، وَحذف للْعلم بِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره ابْن سعد من طَرِيق ضَعِيف عَن مُحَمَّد بن عمر: حَدثنَا ربيعَة بن عُثْمَان وَغَيره عَن سعد بن مُحَمَّد بن جُبَير وَالْحُسَيْن ابْن الْحسن بن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن أَبِيه عَن جده ... فَذكره.
3242 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني سَعِيدُ بنُ أبِي سَعيد قَالَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَعَثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجاءَتْ بِرَجُلٍ منْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقالُ لَهُ ثُمامَةُ بنُ أُثَالٍ فرَبَطُوهُ بِسارِيَةٍ مِنْ سَوارِيَ الْمَسْجِدِ. .
مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب السَّابِق بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَهَهُنَا: (عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث، ومطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فربطوه بِسَارِيَة من سواري الْمَسْجِد) أَي: مَسْجِد الْمَدِينَة، قَالَ الْمُهلب: السّنة فِي مثل قَضِيَّة ثُمَامَة أَن يقتل أَو يستعبد أَو يفادى بِهِ، أَو يمنَّ عَلَيْهِ، فحبسه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى يرى الْوُجُوه أصلح للْمُسلمين فِي أمره.
بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ
9 - (بابُ الْمُلاَزَمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة مُلَازمَة الدَّائِن مديونه، وَفِي بعض النّسخ: بَاب فِي الْمُلَازمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة قبل قَوْله: بَاب الْمُلَازمَة: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: بَاب الْمُلَازمَة، وَسَقَطت فِي رِوَايَة البَاقِينَ.(12/262)
4242 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني جَعْفَر بنُ رَبِيعَةَ وَقَالَ غَيْرُهُ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبيعَةَ عنْ عبدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ عنْ عَبْدِ الله بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ الأنْصَارِيِّ عنْ كَعْبِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهْ أنَّهُ كانَ لَهُ علَى عَبْدِ الله بنِ أبِي حَدْرَدٍ الأسْلَمِيِّ ديْنٌ فلَقِيَهُ فلَزِمَهُ فتَكَلَّمَا حتَّى ارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا فمَرَّ بِهِما النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا كَعْبُ وأشَارَ بِيَدِهِ كأنَّهُ يَقولُ النِّصْفُ فأخذَ نِصْفَ مَا علَيْهِ وتَرَكَ نِصْفاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَزِمَهُ) أَي: فَلَزِمَ كَعْب بن مَالك عبد الله بن أبي حَدْرَد، وَلم يُنكر عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين وقف عَلَيْهِمَا وَأمر كَعْبًا يحط النّصْف، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد.
قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير يحيى قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة. وَالْفرق بَين الطَّرِيقَيْنِ: أَن الأول: روى بعن. وَالثَّانِي بِلَفْظ: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة.
وَفِيه: جَوَاز مُلَازمَة الْغَرِيم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر على كَعْب ملازمته لغريمه كَمَا ذكرنَا، وَاخْتلفُوا فِي ملازمته المعدم: هَل يلازمه بعد ثُبُوت الإعدام وانطلاقه من الْحَبْس، فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَهُ أَن يلازمه وَيَأْخُذ فضل كَسبه ويقاسمه أَصْحَاب الدُّيُون إِن كَانَ عَلَيْهِ لجَماعَة، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يُحَال بَينه وَبَين غُرَمَائه إلاَّ أَن يقيموا الْبَيِّنَة أَن لَهُ مَالا.
01 - (بابُ التَّقَاضِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تقاضي الدّين، أَي: مُطَالبَته.
54 - (كتابٌ فِي اللُّقْطَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام اللّقطَة، هَكَذَا وَقع للمستملي والنسفي: كتاب فِي اللّقطَة، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن التِّين وَابْن بطال. وتبعهما على ذَلِك صَاحب (التَّلْوِيح) ، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: بَاب إِذا أخبر رب اللّقطَة بالعلامة دفع إِلَيْهِ، على مَا يَجِيء. واللقطة، بِضَم اللَّام وَفتح الْقَاف: اسْم لِلْمَالِ الْمُلْتَقط. قَالَ بعض شرَّاح كتب الْحَنَفِيَّة: إِن هَذَا اسْم الْفَاعِل للْمُبَالَغَة، وبسكون الْقَاف اسْم مفعول، كالضحكة، وَمعنى الْمُبَالغَة فِيهِ لزِيَادَة معنى اخْتصَّ بِهِ، وَهُوَ أَن كل من رَآهَا يمِيل إِلَى رَفعهَا، فَكَأَنَّهَا تَأمره بِالرَّفْع لِأَنَّهَا حاملة إِلَيْهِ، فأسند إِلَيْهَا مجَازًا، فَجعلت كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رفعت نَفسهَا، وَنَظِيره قَوْلهم: نَاقَة حَلُوب،(12/263)
ودابة ركُوب وَهُوَ اسْم فَاعل سميت بذلك لِأَن من رَآهَا يرغب فِي الْحَلب وَالرُّكُوب، فَنزلت كَأَنَّهَا أحلبت نَفسهَا وأركبت نَفسهَا. قلت: فِيهِ تعسف وَلَيْسَ كَذَلِك، بل اللّقطَة سَوَاء كَانَ بِفَتْح الْقَاف أَو سكونها اسْم مَوْضُوع على هَذِه الصِّيغَة لِلْمَالِ الْمُلْتَقط، وَلَيْسَ هَذَا مثل الضحكة، وَلَا مثل نَاقَة حلوف ودابة ركُوب، لِأَن هَذِه صِفَات تدل على الْحُدُوث والتجدد، غير أَن الأول للْمُبَالَغَة فِي وصف الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول، وَالثَّانِي وَالثَّالِث بِمَعْنى الْمَفْعُول للْمُبَالَغَة. وَقَالَ ابْن سَيّده: اللَقطة واللُقطة واللِقاطة: مَا الْتقط وَفِي (الْجَامِع) : اللّقطَة مَا التقطه الْإِنْسَان فَاحْتَاجَ إِلَى تَعْرِيفه. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَقيل: اللّقطَة هُوَ الرجل الَّذِي يلتقط، وَاسم الْمَوْجُود: لقطَة، وَعَن الْأَصْمَعِي وَابْن الْأَعرَابِي وَالْفراء، بِفَتْح الْقَاف: اسْم المَال. وَعَن الْخَلِيل هِيَ بِالْفَتْح اسْم الْمُلْتَقط كَسَائِر مَا جَاءَ على هَذَا الْوَزْن يكون اسْم الْفَاعِل كهمزة ولمزة، وبسكون الْقَاف اسْم المَال الملقوط. قَالَ الْأَزْهَرِي: هَذَا قِيَاس اللُّغَة وَلَكِن كَلَام الْعَرَب فِي اللُّغَة على غير الْقيَاس، فَإِن الروَاة أَجمعُوا على أَن اللّقطَة يَعْنِي، بِالْفَتْح: اسْم للشَّيْء الْمُلْتَقط، والالتقاط العثور على الشَّيْء من غير قصد وَطلب، وَفِي (أدب الْكتاب) تسكين الْقَاف من لحن الْعَامَّة، ورد عَلَيْهِ بِمَا ذكرنَا عَن الْخَلِيل، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيُقَال لَهَا أَيْضا لقاطة، بِالضَّمِّ ولقط بِفَتْح الْقَاف وَاللَّام بِلَا هَاء.
1 - (بابٌ إذَا أخبرهُ رَبُّ اللُّقْطَةِ بِالعَلامَةِ دَفَعَ إلَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أخبر إِلَى آخِره، وَأخْبر على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (رب اللّقطَة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: أخبر، قَوْله: دفع، على صِيغَة الْمَعْلُوم أَيْضا أَي: دفع الْمُلْتَقط اللّقطَة إِلَى رَبهَا، وَفِي بعض النّسخ إِذا أخبرهُ، بالضمير الْمَنْصُوب، أَي: إِذا أخبر الْمُلْتَقط رب اللّقطَة بالعلامة دفع إِلَيْهِ.
6242 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ وحدَّثني مُحمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُويْدَ بنَ غَفَلَةَ قَالَ لَ قِيتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ أخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينارٍ فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً فعرَّفْتُهَا حَوْلَها فلَمْ أجِدْ مَنْ يَعْرِفُها ثُمَّ أتَيْتُهُ فَقَالَ عرِّفْهَا حَوْلاً فعَرَّفْتُها فلَمْ أجِدْ ثُمَّ أتَيْتُهُ ثَلاثاً فَقَالَ احْفَظْ وِعاءَهَا وعدَدَها وَوِكَاءَها فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلاَّ فاسْتَمْتِعْ بِهَا فاسْتَمْتَعْتُ فلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ لَا أدْرِي ثَلاثَةَ أحْوَالٍ أوْ حَوْلاً واحِداً. (الحَدِيث 6242 طرفه فِي: 7342) .
لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث مَا يشْعر صَرِيحًا على التَّرْجَمَة، أللهم إِلَّا إِذا قيل: وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مَا يشْعر على التَّرْجَمَة، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِك وَهُوَ فِي رِوَايَة مُسلم، فَإِنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث مطولا بطرق مُتعَدِّدَة، وَفِي بَعْضهَا، قَالَ: فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إِيَّاه. فَإِن قلت: قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذِه زِيَادَة زَادهَا حَمَّاد بن سَلمَة، وَهِي غير مَحْفُوظَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هِيَ مَحْفُوظَة صَحِيحَة، فَإِن سُفْيَان وَزيد بن أبي أنيسَة وافقا حَمَّاد بن سَلمَة فِي هَذِه الزِّيَادَة فِي رِوَايَة مُسلم، وَكَذَلِكَ سُفْيَان فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عَليّ الْخلال حَدثنَا يزِيد بن هَارُون وَعبد الله بن نمير عَن سُفْيَان عَن سَلمَة بن كهيل عَن سُوَيْد بن غَفلَة ... الحَدِيث، وَفِيه: وَقَالَ إحصِ عدتهَا ووعاءها ووكاءها، فَإِن جَاءَ طالبها فأخبرك بعدتها ووعائها ووكائها فادفعها إِلَيْهِ، وإلاَّ فاستمتع بهَا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة، لِأَنَّهُ أخرجه من طَرِيقين الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن سَلمَة بن كهيل بِضَم الْكَاف عَن سُوَيْد بِضَم السِّين الْمُهْملَة ابْن غَفلَة، بالغين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء وَاللَّام مفتوحات: الْجعْفِيّ الْكُوفِي أدْرك الْجَاهِلِيَّة ثمَّ أسلم وَلم يُهَاجر. مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَله مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل: إِنَّه صَحَابِيّ، وَالْأول أصح، وروى عَنهُ أَنه قَالَ: أَنا لِدَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولدت عَام الْفِيل، قدم الْمَدِينَة حِين نفضت الْأَيْدِي من دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه صلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأول أثبت. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر،(12/264)
وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، وَهَذَا أنزل، وَلم يسق الْمَتْن إلاَّ على النَّازِل، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَبْدَانِ، واسْمه عبد الله بن عُثْمَان وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي اللّقطَة أَيْضا عَن أبي بكر بن نَافِع وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي عَن مُحَمَّد بن كثير عَن شُعْبَة بِهِ وَعَن مُسَدّد بن مسرهد وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي اللّقطَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس وَعَن عَمْرو بن يزِيد وَعَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي عَن وَكِيع.
ذكر من أخرجه، وَغَيره من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب: وَلما روى التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عبد الله بن عَمْرو، والجارود بن الْمُعَلَّى، وعياض بن حَمَّاد، وَجَرِير بن عبد الله. قلت: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَسَهل بن سعد، وَأبي هُرَيْرَة، وَجَابِر، وَعبد الله بن الشخير، ويعلى بن مرّة، وسُويد بن أبي عقبَة، وَزيد بن خَالِد، وَعَائِشَة، وَرجل من الصَّحَابَة، والمقداد.
أما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ابْن عجلَان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه سُئِلَ عَن التَّمْر الْمُعَلق ... الحَدِيث، وَفِيه: سُئِلَ عَن اللّقطَة، فَقَالَ: مَا كَانَ فِيهَا فِي طَرِيق الميتاء والقرية الجامعة فعرفها سنة، فَإِن جَاءَ طالبها فادفعها إِلَيْهِ، فَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك، وَمَا كَانَ فِي الخراب فَفِيهَا وَفِي الرِّكَاز الْخمس، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا. قَوْله: (الميتاء) ، بِكَسْر الْمِيم: الطَّرِيق المسلوك على وزن: مفعال، من الْإِتْيَان، وَالْمِيم زَائِدَة وبابه الْهمزَة. وَأما حَدِيث الْجَارُود بن مُعلى فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، (قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنحن على إبل عجاف، فَقُلْنَا إِنَّا نمر بموض قد سَمَّاهُ، فنجد إبِلا فنركبها. قَالَ: ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار) . وَله حَدِيث آخر رَوَاهُ أَحْمد، وَفِيه: (فَإِن وجدت رَبهَا فادفعها إِلَيْهِ وإلاَّ فَمَال الله يؤتيه من يَشَاء) . وَأما حَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من وجد لقطَة فليشهد ذَوا عدل وَلَا يكتم وَلَا يغب، فَإِن وجد صَاحبهَا فليردها عَلَيْهِ وإلاَّ فَهُوَ مَال الله) . وَأما حَدِيث جرير بن عبد الله فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، وَلَفظه: (لَا يؤوي الضَّالة إلاَّ ضال) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
وَأما حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، وَلَفظه: (عرفهَا سنة) . وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا مطولا فَينْظر فِي مَوْضِعه. وَأما حَدِيث سهل بن سعد فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا مطولا ينظر فِي مَوْضِعه. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تحل اللّقطَة من الْتقط شَيْئا فليعرفه، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فليردها إِلَيْهِ، فَإِن لم يَأْتِ فليتصدق بهَا فَإِن جَاءَ فليخيره بَين الْأجر وَبَين الَّذِي لَهُ) ، وَلأبي هُرَيْرَة حَدِيث آخر رَوَاهُ الْبَزَّار. وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: رخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينْتَفع بِهِ. وَأما حَدِيث عبد الله بن الشخير فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار) . وَأما حَدِيث يعلى بن مرّة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من الْتقط لقطَة يسيرَة، درهما أَو حبلاً أَو شبه ذَلِك، فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام، وَإِن كَانَ فَوق ذَلِك فليعرفه سِتَّة أَيَّام. وَأما حَدِيث سُوَيْد فَرَوَاهُ ابْن قَانِع فِي مُعْجمَة عَنهُ، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة، فَقَالَ: عرفا سنة فَإِن جَاءَ صاجبها فأدها إِلَيْهِ وَإِلَّا فأوثق صرارها ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها إِلَيْهِ، وإلاَّ فشأنك بهَا، وَسَماهُ ابْن قَانِع: سُوَيْد بن عقبَة الْجُهَنِيّ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (الِاسْتِيعَاب) : سُوَيْد أَبُو عقبَة الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ: حَدِيثه فِي اللّقطَة صَحِيح. وَأما حَدِيث زيد بن خَالِد فَرَوَاهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة على مَا يَجِيء بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت ترخص للْمُسَافِر أَن يلتقط السَّوْط والعصا والإداوة والنعلين والمزود، وَالظَّاهِر أَنه مَحْمُول على السماع، وَعَن أم سَلمَة مثله. وَأما الحَدِيث عَن رجل من الصَّحَابَة فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه سُئِلَ عَن الضَّالة؟ فَقَالَ: أعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا ثَلَاثَة أَيَّام على بَاب الْمَسْجِد، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا) . وَأما حَدِيث الْمِقْدَاد فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَنهُ أَنه دخل خربة(12/265)
فَخرج جرذ وَمَعَهُ دِينَار، ثمَّ آخر حَتَّى أخرج سَبْعَة عشر دِينَارا فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبَرهَا، فَقَالَ: لَا صَدَقَة فِيهَا، بَارك الله لَك فِيهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أخذت) ، هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: أصبت، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وجدت. قَوْله: (مائَة دِينَار) نصب على أَنه بدل من: صرة، وَيجوز الرّفْع على تَقْدِير: فِيهَا مائَة دِينَار. قَوْله: (فعرفها) بِالتَّشْدِيدِ أَمر من التَّعْرِيف، وَهُوَ أَن يُنَادي فِي الْموضع الَّذِي لقاها فِيهِ وَفِي الْأَسْوَاق والشوارع والمساجد، وَيَقُول: من ضَاعَ لَهُ شَيْء فليطلبه عِنْدِي. قَوْله: (فعرفتها أَيْضا) ، بِالتَّشْدِيدِ من التَّعْرِيف، و: (حولا) نصب على الظّرْف. قَوْله: (من يعرفهَا) بِالتَّخْفِيفِ من عرف يعرف معرفَة وعرفاناً. قَوْله: (ثمَّ أَتَيْته ثَلَاثًا) ، أَي: ثَلَاث مَرَّات، الْمَعْنى: أَنه أَتَى ثَلَاث مَرَّات، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه أَتَى بعد الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين ثَلَاث مَرَّات، وَإِن كَانَ ظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِي ذَلِك لِأَن: ثمَّ إِذا تخلفت عَن معنى التَّشْرِيك فِي الحكم وَالتَّرْتِيب والمهلة تكون زَائِدَة فَلَا تكون عاطفة أَلْبَتَّة قَالَه الْأَخْفَش والكوفيون وحملوا على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إلاَّ إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 811) . ويوضح مَا ذكرنَا رِوَايَة مُسلم، فَقَالَ: أَي: أبي بن كَعْب: (إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: عرفهَا حولا. قَالَ: فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته، فَقَالَ: عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ: عرفهَا حولا، فَلم أجد من يعرفهَا، فَقَالَ: احفظ عَددهَا. .) الحَدِيث. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا، فَفِي رِوَايَة: عرفهَا ثَلَاثًا، وَفِي أُخْرَى: أَو حولا وَاحِدًا، وَفِي أُخْرَى: فِي سنة أَو فِي ثَلَاث سِنِين، وَفِي أُخْرَى: عَاميْنِ أَو ثَلَاثَة. وروى مُسلم عَن جمَاعَة هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَفِي حَدِيثهمْ جَمِيعًا ثَلَاثَة أَحْوَال إلاَّ حَمَّاد بن سَلمَة، فَإِن فِي حَدِيثه: عَاميْنِ أَو ثَلَاثَة. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لم يقل أحد من أَئِمَّة الْفَتْوَى بِظَاهِرِهِ من أَن اللّقطَة تعرف ثَلَاثَة أَعْوَام إلاَّ رِوَايَة جَاءَت عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد روى عَن عمر أَنَّهَا تعرف سنة مثل قَول الْجَمَاعَة، وَفِي الْحَاوِي عَن شواذ من الْفُقَهَاء أَنَّهَا تعرف ثَلَاثَة أَحْوَال. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يعرفهَا ثَلَاثَة أشهر. قَالَ: وروينا عَنهُ: ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ يعرفهَا سنة، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن رِوَايَة الثَّلَاثَة أَحْوَال: إِمَّا أَن يكون غَلطا من بعض الروَاة، وَإِمَّا أَن يكون الْمُعَرّف عرفهَا تعريفاً غير جيد كَمَا قَالَ للمسيء صلَاته: إرجع فصل فَإنَّك لم تصل، وَذكر ابْن حزم عَن عمر بن الْخطاب: يعرف اللّقطَة ثَلَاثَة أشهر، وَفِي رِوَايَة: أَرْبَعَة أشهر، وَعَن الثَّوْريّ: الدِّرْهَم يعرف أَرْبَعَة أَيَّام. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : إِن كَانَت أقل من عشرَة دَرَاهِم يعرفهَا أَرْبَعَة، وَإِن كَانَت عشرَة فَصَاعِدا عرفهَا حولا، وَهَذِه رِوَايَة عَن أبي حنيفَة، وَقدر مُحَمَّد الْحول من غير تَفْصِيل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب، وَفِي (التَّوْضِيح) : كَذَا قَالَه أَبُو إِسْحَاق فِي تنبيهه، وَالْمذهب الْفرق، فالكثير يعرف سنة، والقليل يعرف مُدَّة يغلب على الظَّن قلَّة أَسف صَاحبه عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ روى عَنهُ تَعْرِيف سنة: عَليّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَنقل الْخطابِيّ إِجْمَاع الْعلمَاء فِيهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ابْتِدَاء الْحول من يَوْم التَّعْرِيف، لَا من الْأَخْذ. قَوْله: (إحفظ وعاءها) ، بِكَسْر الْوَاو وَقد يضم وبالمد، وَقَرَأَ الْحسن بِالضَّمِّ فِي قَوْله: وعَاء أَخِيه، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير إعاء أَخِيه، بقلب الْوَاو همزَة مَكْسُورَة، والوعاء مَا يَجْعَل فِيهِ الشَّيْء سَوَاء كَانَ من جلدٍ أَو خرق أَو خشب أَو غير ذَلِك، وَيُقَال: الْوِعَاء هُوَ الَّذِي يكون فِيهِ النَّفَقَة، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: هُوَ الْخِرْقَة. قَوْله: (ووكاءها) ، بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْكيس، أَو الصرة أَو غَيرهَا، وَيُقَال: أوكيته إيكاءً، فَهُوَ موك، بِلَا همز. وَزَاد فِي حَدِيث زيد بن خَالِد العفاص، كَمَا يَجِيء عَن قريب. قَوْله: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا) ، شَرط جَزَاؤُهُ مَحْذُوف، نَحْو: فارددها إِلَيْهِ. قَوْله: (وإلاَّ) ، أَي: وَإِن لم يَجِيء صَاحبهَا فاستمتع بهَا، اسْتدلَّ بِهِ قوم. وَبِقَوْلِهِ: (فشأنك بهَا) ، فِي حَدِيث سُوَيْد الَّذِي مضى: على أَن بعد السّنة يملك الْمُلْتَقط اللّقطَة، وَهَذَا خرق لإِجْمَاع أَئِمَّة الْفَتْوَى فِي أَنه يردهَا بعد الْحول أَيْضا إِذا جَاءَ صَاحبهَا، لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده، وَلقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فأدها إِلَيْهِ. قَوْله: (فَلَقِيته بعد بِمَكَّة) ، الْقَائِل بقوله: لَقيته، شُعْبَة، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى سَلمَة بن كهيل. قَوْله: (بعد) ، بِضَم الدَّال، أَي: بعد ذَلِك. قَوْله: (بِمَكَّة) ، حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب أَي: حَال كَون سَلمَة بِمَكَّة، يَعْنِي: كَانَ ملاقاة شُعْبَة بسلمة(12/266)
فِي مَكَّة، وَقد أوضح ذَلِك مُسلم فِي رِوَايَته حَيْثُ قَالَ: قَالَ شُعْبَة: فَسَمعته بعد عشر سِنِين يَقُول: عرفهَا عَاما وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ صرح بذلك أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) : يُقَال فِي آخر الحَدِيث: قَالَ شُعْبَة: فَلَقِيت سَلمَة بعد ذَلِك، فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَة أَحْوَال أَو حولا وَاحِدًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (فَلَقِيته) ، أَي: قَالَ سُوَيْد: لقِيت أبي بن كَعْب بعد ذَلِك بِمَكَّة، قلت: تبع فِي ذَلِك ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: الَّذِي شكّ فِيهِ هُوَ أبي بن كَعْب، وَالْقَائِل هُوَ سُوَيْد بن غَفلَة، وَلَكِن يرد هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ عَن مُسلم وَالطَّيَالِسِي. قَوْله: (فَقَالَ: لَا أَدْرِي) أَي: قَالَ سَلمَة بن كهيل، وَهُوَ الشاك فِيهِ، وعَلى قَول ابْن بطال: الشاك هُوَ أبي بن كَعْب، والسائل مِنْهُ هُوَ سُوَيْد بن غَفلَة، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: التَّعْرِيف بِثَلَاثَة أَحْوَال، وَلَكِن الشَّك فِيهِ يُوجب سُقُوط الْمَشْكُوك، وَهُوَ الثَّلَاثَة. وَقَالَ ابْن بطال: لم يقل أحد من أَئِمَّة الْفَتْوَى بِظَاهِرِهِ بِأَن اللّقطَة تعرف ثَلَاثَة أَحْوَال، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. وَفِيه: الْأَمر بِحِفْظ ثَلَاثَة أَشْيَاء: وَهِي الْوِعَاء وَالْعدَد والوكاء، وَإِنَّمَا أَمر بِحِفْظ هَذِه الْأَشْيَاء لوجوه من الْمصَالح: مِنْهَا: أَن الْعَادة جَارِيَة بإلقاء الْوِعَاء والوكاء إِذا فرغ من النَّفَقَة، وَأمره بمعرفته وَحفظه لذَلِك، وَمِنْهَا: أَنه إِذا أمره بِحِفْظ هذَيْن فحفظ مَا فيهمَا أولى. وَمِنْهَا: أَن يتَمَيَّز عَن مَاله فَلَا يخْتَلط بِهِ. وَمِنْهَا: أَن صَاحبهَا إِذا جَاءَ بَغْتَة فَرُبمَا غلب على ظَنّه صدقه، فَيجوز لَهُ الدّفع إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنه إِذا حفظ ذَلِك وعرفه أمكه التَّعْرِيف لَهَا وَالْإِشْهَاد عَلَيْهِ، وَأمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحِفْظ هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة، هُوَ على قَول من يَقُول بِمَعْرِِفَة الْأَوْصَاف: يدْفع إِلَيْهِ بِغَيْر بَيِّنَة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا بُد من ذكر جَمِيعهَا، وَلم يعْتَبر أصبغ الْعدَد، وَقَول ابْن الْقَاسِم أوضح، فَإِذا أَتَى بِجَمِيعِ الْأَوْصَاف، هَل يحلف مَعَ ذَلِك أَو لَا؟ قَولَانِ: النَّفْي لِابْنِ الْقَاسِم وتحليفه لأَشْهَب، وَلَا تلْزمهُ بَيِّنَة عِنْد مَالك، وَأَصْحَابه، وَأحمد وَدَاوُد، وَهُوَ قَول البُخَارِيّ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بِالْبَابِ الْمَذْكُور، وَبِه قَالَ اللَّيْث بن سعد أَيْضا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما: لَا يجب الدّفع إلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، وتأولوا الحَدِيث على جَوَاز الدّفع بِالْوَصْفِ إِذا صدقه على ذَلِك وَلم يقم الْبَيِّنَة، وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي على ذَلِك بقوله فِي الحَدِيث الآخر: الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَهَذَا مدعٍ، وَقَالَ الشَّافِعِي: وَلَو وصفهَا عشرَة أنفس لَا يجوز أَن يقسم بَينهم، وَنحن نعلم أَن كلهم كاذبون إلاَّ وَاحِدًا مِنْهُم غير معِين، فَيجوز أَن يكون صَادِقا، وَيجوز أَن يكون كَاذِبًا، وَأَنَّهُمْ عرفُوا الْوَصْف من الْمُلْتَقط، وَمن الَّذِي ضَاعَت مِنْهُ، وَقَالَ شَيخنَا زين: هَذَا معنى كَلَامه، وَظَاهر الحَدِيث يدل لما قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَأحمد، وَالله أعلم. وَلَو أخبر طَالب اللّقطَة بصفاتها الْمَذْكُورَة فَصدقهُ الْمُلْتَقط وَدفعهَا إِلَيْهِ ثمَّ جَاءَ طَالب آخر لَهَا وَأقَام الْبَيِّنَة على أَنَّهَا ملكه، فقد اتَّفقُوا على أَنَّهَا تنتزع مِمَّن أَخذهَا أَولا بِالْوَصْفِ وتدفع للثَّانِي لِأَن الْبَيِّنَة أقوى من الْوَصْف، فَإِن كَانَ قد أتلفهَا ضمنهَا.
وَاخْتلفُوا: هَل لمقيم الْبَيِّنَة أَن يضمن الْمُلْتَقط؟ فَقَالَ الشَّافِعِي: لَهُ تَضْمِينه لِأَنَّهُ دَفعه لغير مَالِكه. وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: لَا يضمن لِأَنَّهُ فعل مَا أمره بِهِ الشَّارِع. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يقسم بَينهمَا كَمَا يحكم فِي نفسين ادعا شَيْئا وَأَقَامَا بَيِّنَة. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: وَإِن دَفعهَا بِذكر الْعَلامَة ثمَّ جَاءَ آخر وَأقَام الْبَيِّنَة بِأَنَّهُ لَهُ فَإِن كَانَت قَائِمَة أَخذهَا مِنْهُ، وَإِن كَانَت هالكة يضمن أَيهمَا شَاءَ، وَيرجع الْمُلْتَقط على الْآخِذ إِن ضمن، وَلَا يرجع الْأَخْذ على أحد، وللملتقط أَن يَأْخُذ مِنْهُ كَفِيلا عِنْد الدّفع. وَقيل: يخيَّر، وَإِن دَفعهَا إِلَيْهِ بتصديقه ثمَّ أَقَامَ آخر بَيِّنَة أَنَّهَا لَهُ، فَإِن كَانَت قَائِمَة أَخذهَا مِنْهُ، وَإِن كَانَت هالكه فَإِن كَانَ دفع إِلَيْهِ بِغَيْر قَضَاء، فَلهُ أَن يضمن إيهما شَاءَ، فَإِن ضمن الْقَابِض فَلَا يرجع بِهِ على أحد، وَإِن ضمن الْمُلْتَقط فَلهُ أَن يرجع بِهِ على الْقَابِض، وللملتقظ أَن يَأْخُذ بِهِ كَفِيلا، وَإِن كَانَ دَفعهَا إِلَيْهِ بِقَضَاء ضمن الْقَابِض، وَلَا يضمن الْمُلْتَقط لِأَنَّهُ مقهور، وَإِن أَقَامَ الْحَاضِر بَيِّنَة أَنَّهَا لَهُ فَقضى بِالدفع إِلَيْهِ، ثمَّ حضر آخر وَأقَام بَيِّنَة أَنَّهَا لَهُ لم يضمن.
وَفِيه: الِاسْتِمْتَاع باللقطة إِذا لم يَجِيء صَاحبهَا وَاحْتج بِظَاهِرِهِ جمَاعَة، وَقَالُوا: يجوز للغني وَالْفَقِير إِذا عرفهَا حولا أَن يسْتَمْتع بهَا، وَقد أَخذهَا عَليّ بن أبي طَالب، وَهُوَ: يجوز لَهُ أَخذ النَّفْل دون الْفَرْض، وَأبي بن كَعْب وَهُوَ من مياسير الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ غَنِيا لم يجز لَهُ الِانْتِفَاع بهَا، وَيجوز إِن كَانَ فَقِيرا، وَلَا يتَصَدَّق بهَا على غَنِي، وَيتَصَدَّق بهَا على فَقير أَجْنَبِيّا كَانَ أَو قَرِيبا مِنْهُ، وَكَذَا لَهُ أَن يتَصَدَّق بهَا على أَبَوَيْهِ وَزَوجته وَولده إِذا كَانُوا فُقَرَاء. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث حجَّة عَلَيْكُم، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأبي: فاستمتع بهَا. قَالَ: فاستمتعت! قلت: هَذَا حِكَايَة حَال فَلَا تعم، وَيجوز أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف فقره أَو كَانَت عَلَيْهِ دُيُون، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ غَنِيا، فَقَالَ لَهُ: استمتع بهَا، وَذَلِكَ جَائِز عندنَا من الإِمَام على سَبِيل الْعرض، وَيحْتَمل(12/267)
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف أَنه فِي مَال حَرْبِيّ كَافِر. ثمَّ لَو ضَاعَت اللّقطَة قبل الْحول فَهَل يضمن أَو لَا؟ فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن: إِن كَانَ حِين أَخذهَا أشهد عَلَيْهِ ليردها لم يضمن، وإلاَّ ضمن، لحَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد وَقد ذَكرْنَاهُ وَعَن أبي يُوسُف: لَا يشْتَرط الْإِشْهَاد كَمَا لَو أَخذهَا بِإِذن الْمَالِك، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَإِن لم يشْهد عَلَيْهِ عِنْد الإلتقاط وَادّعى أَنه أَخذهَا ليردها. وَادّعى صَاحبهَا أَنه أَخذهَا لنَفسِهِ، فَالْقَوْل لصَاحِبهَا، وَيضمن الْمُلْتَقط قيمتهَا عِنْدهمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: القَوْل قَول الْمُلْتَقط، فَلَا يضمن، وَإِذا لم يُمكنهُ الْإِشْهَاد بِأَن لم يجد أحدا وَقت الِالْتِقَاط، أَو خَافَ من الظلمَة عَلَيْهَا، فَلَا يضمن بالِاتِّفَاقِ.
وَاخْتلف فِي ضياعها بعد الْحول من غير تَفْرِيط، فالجمهور على عدم الضَّمَان، وَنقل ابْن التِّين عَن الشَّافِعِيَّة: أَنه إِذا نوى تَملكهَا ثمَّ ضَاعَت ضمنهَا، وَعند الْبَعْض: لَا ضَمَان، ثمَّ عِنْد الشَّافِعِيَّة: لَا يحْتَاج فِي إنفاقها على نَفسه إِلَى اخْتِيَار التَّمْلِيك، بل إِذا انْقَضتْ السّنة دخلت فِي ملكه، يدل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك. قَالَ شَيخنَا: هَذَا وَجه لأَصْحَاب الشَّافِعِي، وَالصَّحِيح عِنْدهم: أَنه لَا بُد من اخْتِيَار التَّمَلُّك قبل الْإِنْفَاق، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ النَّوَوِيّ، فَقَالَ: لَا بُد من اخْتِيَار التَّمْلِيك لفظا.
وَفِيه: وَجه آخر: أَنه لَا يملكهَا إلاَّ بِالتَّصَرُّفِ بِالْبيعِ وَنَحْوه، وَنقل ابْن التِّين عَن جَمِيع فُقَهَاء الْأَمْصَار أَنه: لَيْسَ لَهُ أَن يتملكها قبل السّنة، وَنقل عَن دَاوُد أَنه يأكلها ثمَّ يضمنهَا. وَفِيه: دلَالَة على إبِْطَال قَول من يَدعِي علم الْغَيْب بكهانة أَو سحر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يُعلم شَيْء من الْغَيْب بذلك لما ذكر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لصَاحب اللّقطَة معرفَة الْأَوْصَاف الَّتِي ذكرهَا فِيهِ.
2 - (بابُ ضالَّةِ الإبِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْتِقَاط ضَالَّة الْإِبِل، هَل يجوز التقاطها أم لَا؟ وَاكْتفى بِمَا فِي الحَدِيث عَن الْجَزْم بِالْجَوَابِ، وَالْمرَاد بالضالة هُنَا: الْإِبِل وَالْبَقر مِمَّا يحمي نَفسه وَيقدر على الإبعاد فِي طلب المرعى وَالْمَاء، وَقيل: هِيَ الضائعة فِي كل مَا يقتنى من الْحَيَوَان وَغَيره، يُقَال: ضل الشَّيْء إِذا ضَاعَ وضل عَن الطَّرِيق إِذا حَار، والضالة فِي الأَصْل فاعلة، ثمَّ اتَّسع فِيهَا فَصَارَت من الصِّفَات الْغَالِبَة، وَيَقَع على الذّكر وَالْأُنْثَى والاثنين وَالْجمع، وَيجمع على: ضوال.
7242 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عبدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ رَبِيعَةَ قَالَ حدَّثني يَزِيدُ مَوْلاى الْمُنْبَعِث عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جَاءَ أعْرَابي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فإنْ جاءَ أحدٌ يُخْبِرُكَ بِها وإلاَّ فاسْتَنْفِقْها قَالَ يَا رسولَ الله فَضالَّةُ الغَنَم قالَ لَكَ أوْ لِأَخيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضالَّةُ الْإبِلِ فَتَمَعَّرَ وجْهُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مالَكَ ولَهَا معَها حِذَاؤُها وسِقَاؤُهَا تَرِدُ الماءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ضَالَّة الْإِبِل) وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن أبي عَامر عَن سُلَيْمَان بن بِلَال الْمَدِينِيّ عَن ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن عَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِالرَّأْيِ بِسُكُون الْهمزَة عَن يزِيد من الزِّيَادَة مولى المنبعث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) وَفِي رِوَايَة مَالك عَن ربيعَة: جَاءَ رجل، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال الْمَدِينِيّ عَن ربيعَة: سَأَلَهُ رجل عَن اللّقطَة، وَقد مضى هَذَا فِي كتاب الْعلم، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: سُئِلَ عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: جَاءَ رجل يسْأَله عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة لَهُ: أَتَى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا مَعَه، فَسَأَلَهُ عَن اللّقطَة. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى مثل رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة حَدِيث هَذَا الْبَاب جَاءَ أَعْرَابِي، وَزعم ابْن بشكوال: أَن هَذَا(12/268)
السَّائِل عَن اللّقطَة هُوَ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَزاهُ لأبي دَاوُد، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نسخ أبي دَاوُد شَيْء من ذَلِك، وَفِيه بُعدٌ أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يُوصف بِأَنَّهُ أَعْرَابِي. قلت: ابْن بشكوال لم يُصَرح بِأَن الْأَعرَابِي الَّذِي سَأَلَ هُوَ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: السَّائِل الْمَذْكُور فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال، وَهُوَ قَوْله: سَأَلَهُ رجل، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ بِلَال وَلَفظ السَّائِل أَعم من الْأَعرَابِي وَغَيره، وبلال وَغَيره، وَابْن بشكوال أوضح السَّائِل بِأَنَّهُ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ كَلَام لَيْسَ فِيهِ غُبَار، وَلَيْسَ فِيهِ بعد، وَلَو صرح بقوله: الْأَعرَابِي هُوَ بِلَال، لَكَانَ ورد عَلَيْهِ مَا قَالَه، وَأما عزو ابْن بشكوال ذَلِك إِلَى أبي دَاوُد فَلَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن أَبَا دَاوُد روى هَذَا الحَدِيث بطرق كَثِيرَة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا عزاهُ ابْن بشكوال إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَفظه: أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن اللّقطَة، وَلَيْسَ لِبلَال ذكر أصلا، فَافْهَم. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: ثمَّ ظَفرت بِتَسْمِيَة السَّائِل وَذَلِكَ فِيمَا أخرجه الْحميدِي وَالْبَغوِيّ وَابْن السكن وَالْمَاوَرْدِيّ وَالطَّبَرَانِيّ، كلهم من طَرِيق مُحَمَّد بن معن الْغِفَارِيّ عَن ربيعَة عَن عقبَة بن سُوَيْد الْجُهَنِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة، فَقَالَ: عرفهَا سنة ثمَّ أوثق وعاءها ... الحَدِيث، قَالَ: وَهُوَ أولى مَا فسر بِهِ هَذَا الْمُبْهم لكَونه من رَهْط زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ. انْتهى. قلت: حَدِيث سُوَيْد بن عقبَة الَّذِي يرويهِ عَنهُ ابْنه عقبَة غير حَدِيث زيد بن خَالِد، فَكيف يُفَسر الْمُبْهم الَّذِي فِي حَدِيث زيد بن خَالِد بِحَدِيث سُوَيْد؟ وَلَا يلْزم من كَون سُوَيْد من رَهْط زيد أَن يكون حَدِيثهمَا وَاحِدًا بِحَسب الصُّورَة، وَإِن كَانَا فِي الْمَعْنى من بَاب وَاحِد، وَأَيْضًا هُوَ استبعد كَلَام ابْن بشكوال فِي إِطْلَاق الْأَعرَابِي على بِلَال، وَكَيف لَا يستبعد هُنَا إِطْلَاق الْأَعرَابِي على سُوَيْد بن عقبَة؟ وَلَا يلْزم من سُؤال سُوَيْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة أَن يكون هُوَ الْأَعرَابِي الَّذِي فِي حَدِيث زيد بن خَالِد. قَوْله: (فَسَأَلَهُ عَمَّا يلتقطه) أَي: عَن الشَّيْء الَّذِي يلتقطه، وَوَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات أَنه سَأَلَ عَن اللّقطَة، وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة الذَّهَب أَو الْوَرق، وَهَذَا لَيْسَ بِقَيْد، وَإِنَّمَا هُوَ كالمثال، وَحكم غير الذَّهَب وَالْفِضَّة كحكمهما، وَوَقع فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: وَسُئِلَ عَن النَّفَقَة. قَوْله: (عرفهَا) ، بِالتَّشْدِيدِ أَمر من التَّعْرِيف. قَوْله: (ثمَّ احفظ عفاصها) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْفَاء وبالصاد هُوَ: الْوِعَاء الَّذِي يكون فِيهِ النَّفَقَة، سَوَاء كَانَ من جلد أَو خرقَة أَو حَرِير أَو غَيرهَا، واشتقاقه من: العفص، وَهُوَ الثني والعطف لِأَن الْوِعَاء يثنى عَليّ مَا فِيهِ، وَوَقع فِي (زَوَائِد الْمسند) لعبد الله بن أَحْمد من طَرِيق الْأَعْمَش عَن سَلمَة فِي حَدِيث أبي أَو خرقتها، بدل عفاصها، وَوَقع فِي حَدِيث أبي أَيْضا: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، وَفِي حَدِيث زيد بن خَالِد: إحفظ عفاصها ووكاءها، فأسقط ذكر الْعدَد وَزَاد ذكر العفاص، وَقد اخْتلف فِي العفاص، فَذهب أَبُو عبيد إِلَى أَنه مَا يرْبط فِيهِ النَّفَقَة، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَصله: الْجلد الَّذِي يلبس رَأس القارورة. وَقَالَ الْجُمْهُور: وَهُوَ الْوِعَاء: قَالَ شَيخنَا: قَول الْخطابِيّ هُوَ الأولى، فَإِنَّهُ جمع فِي حَدِيث زيد بَين الْوِعَاء والعفاص، فَدلَّ على أَنه غَيره. قلت: الَّذِي ذكره شَيخنَا هُوَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ ذكر العفاص والوكاء، وَالَّذِي يَقُول: العفاص هُوَ الْوِعَاء، هُوَ الأولى، وَلم يجمع فِي حَدِيث زيد إلاَّ العفاص والوكاء، لِأَن الأَصْل حفظ العفاص الَّذِي هُوَ الْوِعَاء. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ثمَّ إعرف وعاءها ووكاءها وعفاصها، فعلى مَا ذكرت يكون ذكر الْوِعَاء أَو ذكر العفاص تَكْرَارا؟ قلت: قد ذكرت أَن العفاص فِيهِ اخْتِلَاف، فعلى قَول من فسر العفاص بِالْجلدِ الَّذِي يلبس رَأس القارورة لَا يكون تَكْرَارا. فَإِن قلت: ذكر الْعدَد فِي حَدِيث أبي، وَلم يذكرهُ فِي حَدِيث زيد؟ قلت: قد جَاءَ ذكر الْعدَد فِي حَدِيث زيد أَيْضا فِي رِوَايَة لمُسلم، أَو الظَّاهِر أَن تَركه هُنَا بسهو من الرَّاوِي، وَالله أعلم. قَوْله: (فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بهَا) ، جَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف، تَقْدِيره: فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك باللقطة وأوصافها فأدها إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بعفاصها ووكائها. قَوْله: (وإلاَّ فاستنفقها) ، أَي: وَإِن لم يَأْتِ أحد بعد التَّعْرِيف حولا فاستنفقها من الاستنفاق، وَهُوَ استفعال، وَبَاب الاستفعال للطلب، لَكِن الطّلب على قسمَيْنِ: صَرِيح وتقديري، وَهَهُنَا لَا يَتَأَتَّى الصَّرِيح فَيكون للطلب التقديري، كَمَا فِي قَوْلك: استخرجت الوتد من الْحَائِط: فَإِن قلت: فِي رِوَايَة مَالك كَمَا يَجِيء بعد بَاب: (اعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، من طَرِيق عبد الله بن يزِيد مولى المنبعث بِلَفْظ: (عرفهَا حولا فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فادفعها إِلَيْهِ، وإلاَّ أعرف وكاءها وعفاصها ثمَّ اقبضها فِي مَالك) . فرواية مَالك تَقْتَضِي سبق الْمعرفَة على التَّعْرِيف، وَرِوَايَة(12/269)
أبي دَاوُد بِالْعَكْسِ. قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: الْجمع بَينهمَا بِأَن يكون مَأْمُورا بالمعرفة فِي حالتين، فَيعرف العلامات أول مَا يلتقط حَتَّى يعلم صدق واصفها إِذا وصفهَا، ثمَّ بعد تَعْرِيفهَا سنة إِذا أَرَادَ أَن يتملكها فيعرفها مرّة أُخْرَى معرفَة وافية مُحَققَة ليعلم قدرهَا وصفتها لاحْتِمَال أَن يَجِيء صَاحبهَا فَيَقَع الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك، فَإِذا عرفهَا الْمُلْتَقط وَقت التَّمَلُّك يكون القَوْل قَوْله، لِأَنَّهُ أَمِين. واللقطة وَدِيعَة عِنْده، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون: ثمَّ، فِي الرِّوَايَتَيْنِ بِمَعْنى: الْوَاو، فَلَا يَقْتَضِي ترتيباً، فَلَا يَقْتَضِي تخالفاً يحْتَاج الى الْجمع. قلت: خُرُوج: ثمَّ، عَن معنى التَّشْرِيك فِي الحكم والمهلة وَالتَّرْتِيب إِنَّمَا يمشي على قَول الْكُوفِيّين، فَتكون حِينَئِذٍ زَائِدَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي مَوضِع لَا يخل بِالْمَعْنَى، وَهَهُنَا لَا وَجه لما قَالَه، وَلَئِن سلمنَا أَنه يكون بِمَعْنى: الْوَاو، و: الْوَاو، أَيْضا تَقْتَضِي التَّرْتِيب على قَول الْبَعْض، فَلَا يتم الْجَواب بِمَا قَالَه. فَإِن قلت: هَذَا الْعرْفَان وَاجِب أم سنة؟ قلت: قيل: وَاجِب لظَاهِر الْأَمر، وَقيل: مُسْتَحبّ، وَقيل: يجب عِنْد الِالْتِقَاط، وَيسْتَحب بعده، قَوْله: (فضالَّة الْغنم؟) أَي: مَا حكم ضَالَّة الْغنم؟ قَوْله: (قَالَ: لَك، أَو لأخيك أَو الذِّئْب) ، كلمة: أَو، فِيهِ للتقسيم والتنويع، وَالْمعْنَى: إِن ضَالَّة الْغنم لَك إِن أَخَذتهَا وعرفتها، وَلم تَجِد صَاحبهَا. قَوْله: (أَو لأخيك) يَعْنِي: إِن أَخَذتهَا وعرفتها وَجَاء صَاحبهَا فَهِيَ لَهُ، وَأَرَادَ بِهِ الْأَخ فِي الدّين، وَهُوَ صَاحب الْغنم. قَوْله: (أَو للذئب) يَعْنِي: إِن تركتهَا وَلم يتَّفق آخذ غَيْرك فَهِيَ طعمة للذئب غَالِبا، لِأَنَّهَا لَا تَحْمِي نَفسهَا، وَذكر الذِّئْب مِثَال، وَلَيْسَ بِقَيْد، وَالْمرَاد جنس مَا يَأْكُل الشَّاة ويفترسها من السبَاع، وَوَقع فِي رِوَايَة اسماعيل بن جَعْفَر عَن ربيعَة، كَمَا سَيَأْتِي بعد أَبْوَاب، فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك ... إِلَى آخِره، وَهُوَ صَرِيح بِالْأَمر بِالْأَخْذِ، وَفِيه رد على أَحْمد فِي إِحْدَى روايتيه أَنه يتْرك الْتِقَاط الشَّاة، وَبِه تمسك مَالك فِي أَنه يَأْخُذهَا ويملكها بِالْأَخْذِ، وَلَو جَاءَ صَاحبهَا لِأَنَّهُ صَار حكمه حكم الذِّئْب فَلَا غَرَامَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن اللاَّم لَيست للتَّمْلِيك لِأَن الذِّئْب لَا يملك وَإِنَّمَا يأكلها الْمُلْتَقط بِالضَّمَانِ، وَقد أَجمعُوا على أَنه لَو جَاءَ صَاحبهَا قبل أَن يأكلها الْمُلْتَقط فَإِنَّهُ يَأْخُذهَا لِأَنَّهَا بَاقِيَة على ملكه. قَوْله: (قَالَ: ضَالَّة الْإِبِل؟) أَي: مَا حكم ضَالَّة الْإِبِل؟ قَوْله: (فتمعر وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: تغير وَجهه من الْغَضَب ومادة تمعر: مِيم وَعين مُهْملَة وَرَاء، وَأَصله فِي الشّجر إِذا قل مَاؤُهُ فصَال قَلِيل النضرة عديم الْإِشْرَاق وَيُقَال للوادي المجدب: أمعر، وَقَالَ بَعضهم: وَلَو روى بالغين الْمُعْجَمَة لَكَانَ لَهُ وَجه، أَي: صَار بلون الْمغرَة، وَهِي حمرَة شَدِيدَة إِلَى كمودة، ويقويه قَوْله فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: فَغَضب حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه، أَو وَجهه. قلت: إِذا لم تثبت فِيهِ الرِّوَايَة فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التعسف. قَوْله: (مَا لَك) ، يَعْنِي: لَيْسَ لَك هَذَا، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة الَّتِي سبقت فِي كتاب الْعلم، فذرها حَتَّى يلقاها رَبهَا. قَوْله: (مَعهَا حذاؤها) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة ممدوداً، أَي: خفها. قَوْله: (وسقاؤها) ، السقاء بِالْكَسْرِ فِي الأَصْل ظرف المَاء من الْجلد، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: جوفها، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِذا شربت يَوْمًا تصبر أَيَّامًا على الْعَطش، وَقيل: المُرَاد بِهِ عُنُقهَا لِأَنَّهَا تتَنَاوَل الْمَأْكُول بِغَيْر تَعب لطول عُنُقهَا، فَلَا تحْتَاج إِلَى ملتقط. وَمَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم قد مضى فِي كتاب الْعلم، ولنذكر شَيْئا نزراً.
اخْتلف الْعلمَاء فِي ضَالَّة الْإِبِل: هَل تُؤْخَذ؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: لَا يَأْخُذهَا وَلَا يعرفهَا، قَالَه مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ضَالَّة الْإِبِل. الثَّانِي: أَخذهَا وتعريفها أفضل، قَالَه الْكُوفِيُّونَ: لِأَن تَركهَا سَبَب لضياعها. وَفِيه قَول ثَالِث: إِن وجدهَا فِي الْقرى عرفهَا، وَفِي الصَّحرَاء لَا يعرفهَا. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: الْأَصَح أَنه إِن وجدهَا بمفازة فللقاضي التقاطها للْحِفْظ، وَكَذَا لغيره، وَيحرم التقاطها للتَّمَلُّك، وَإِن وجدهَا بقرية فَيجوز التَّمَلُّك. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ رأى ضَالَّة الْبَقر كضالة الْإِبِل طَاوُوس وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَبَعض أَصْحَاب مَالك، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي ضَالَّة الْبَقر: إِن وجدت فِي مَوضِع يخَاف عَلَيْهَا فَهِيَ فِي منزلَة الشَّاة، وإلاَّ فكالبعير، وَقيل: إِن كَانَت لَهَا قُرُون تمنع بهَا فكالبعير وإلاَّ فكالشاة، حَكَاهُ ابْن التِّين، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: عندنَا فِي الْبَقر وَالْغنم قَولَانِ، وَرَأى مَالك إلحاقها بالغنم، وَرَأى ابْن الْقَاسِم إلحاقها بِالْإِبِلِ إِذا كَانَت بِموضع لَا يخَاف عَلَيْهَا من السبَاع، وَكَانَ هَذَا تَفْصِيل أَحْوَال لَا اخْتِلَاف أَقْوَال، وَمثلهَا جَاءَ فِي الْإِبِل إِلْحَاقًا بهَا.
وَاخْتلف فِي الْتِقَاط الْخَيل وَالْبِغَال والحمر، فَظَاهر قَول ابْن الْقَاسِم: الْجَوَاز، وَمنعه أَشهب وَابْن كنَانَة، وَقَالَ ابْن حبيب: وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْعَبِيد كل مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَيذْهب، هُوَ دَاخل فِي الضَّالة، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْخَيل وَالْإِبِل وَالْبَقر وَالْبِغَال وَالْحمير وَالشَّاة والظباء: لَا يجوز عندنَا التقاطها إلاَّ أَن يَأْخُذهَا الإِمَام للْحِفْظ، وَفِي (التَّوْضِيح) : إِذا عرف المَال وَشبهه وانقضى الْحول أَو قبله، وَجَاء صَاحبه أَخذه بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَة، وَكَذَا الْمُنْفَصِلَة إِن حدثت قبل التَّمَلُّك، وَإِن حدثت بعده رَجَعَ فِيهَا دون الزِّيَادَة.(12/270)
3 - (بابُ ضالَّةِ الغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْتِقَاط ضَالَّة الْغنم، وَإِنَّمَا أفرد هَذَا الْبَاب بترجمة وَإِن كَانَ مَذْكُورا فِي الْبَاب السَّابِق لزِيَادَة فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن حكم هَذَا الْبَاب غير حكم ذَاك الْبَاب.
8242 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُلَيْمانُ عنْ يَحْيَى اعنْ يَزيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ أنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بنَ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقولُ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ اللُّقَطَةِ فزَعَمَ أنَّهُ قَالَ اعْرِفْ عِفَاصَها وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنةً يَقولُ يَزيدُ إنْ لَمْ تُعْتَرَفِ اسْتَنْفِقَ بِها صاحِبُها وكانَتْ ودِيعَةً عِنْدَهُ قَالَ يَحْياى فَهاذَا الَّذِي لاَ أدْرِي أفِي حَديثِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدهِ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تَراى فِي ضالَّةِ الغَنَمِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذْهَا فإنَّما هِيَ لَكَ أوْ لِأَخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَزيدُ وهْيَ تُعَرَّفُ أيْضاً ثُمَّ قَالَ كيْفَ تَراى فِي ضالَّةِ الإبِلِ قَالَ فَقَالَ دَعْها فإنَّ معَهَا حِذَاءَها وسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وتَأكُلُ الشَّجَرَ حتَّى يَجِدَها رَبُّهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَيفَ ترى فِي ضَالَّة الْغنم؟) وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي الْبَاب السَّابِق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَمْرو بن عَبَّاس عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ربيعَة عَن يزِيد ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن إِسْمَاعِيل ابْن عبد الله هُوَ ابْن أبي أويس عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن يزِيد. . إِلَى آخِره.
قَوْله: (فَزعم) ، أَي: قَالَ، فالزعم يسْتَعْمل مقَام القَوْل الْمُحَقق كثيرا، والزاعم هُوَ زيد بن خَالِد. قَوْله: (أَنه قَالَ) أَي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (قَالَ: أعرف) من الْمعرفَة. قَوْله: (يَقُول يزِيد) يَعْنِي: قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ: يَقُول يزِيد، وَهَذِه الْجُمْلَة مقول قَول يحيى، فَافْهَم. وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (إِن لم تُعرف) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول من التَّعْرِيف، ويروى: إِن لم تُعرف، من الْمعرفَة على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (صَاحبهَا) ، أَي: ملتقطها. قَوْله: (قَالَ يحيى) ، أَي: يحيى بن سعيد الرَّاوِي، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَالْحَاصِل أَن يحيى بن سعيد شكّ: هَل قَوْله: وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده، من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: فَهَذَا الَّذِي لَا أَدْرِي، أَي: لَا أعلم (أَفِي حَدِيث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (هُوَ) يرجع إِلَى قَوْله: (وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده) . قَوْله: (أم شَيْء من عِنْده) أَي: أَو هُوَ شَيْء قَالَه من عِنْده، وَقد جزم يحيى بن سعيد بذلك أَنه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يشك فِيهِ، وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن القعْنبِي والإسماعيلي من طَرِيق يحيى ابْن حسان، كِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى، فَقَالَ فِيهِ: فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وَدِيعَة عنْدك. وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى رَفعهَا على مَا يَجِيء بعد أَبْوَاب، لِأَنَّهُ ترْجم بقوله: إِذا جَاءَ صَاحب اللّقطَة بعد سنة ردهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده. قَوْله: (قَالَ يزِيد) ، وَهِي تعرف أَيْضا، أَي: قَالَ يزِيد مولى المنبعث الرَّاوِي الْمَذْكُور، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَقَوله: (تعرف) ، بتَشْديد الرَّاء من التَّعْرِيف على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (حَتَّى يجدهَا رَبهَا) أَي: صَاحبهَا.
فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز أَن يُقَال لمَالِك السّلْعَة: رب السّلْعَة. وَالْأَحَادِيث متظاهرة بذلك إلاَّ أَنه قد نهى عَن ذَلِك فِي العَبْد وَالْأمة فِي الحَدِيث الصَّحِيح، فَقَالَ: لَا يقل أحدكُم: رَبِّي، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فكرهه بَعضهم مُطلقًا، وَأَجَازَهُ بَعضهم مُطلقًا، وَفرق قوم فِي ذَلِك بَين من لَهُ روح ومالا روح لَهُ، فكره أَن يُقَال: رب الْحَيَوَان، وَلم يكره ذَلِك فِي الْأَمْتِعَة، وَالصَّوَاب: تَقْيِيد الْكَرَاهَة أَو التَّحْرِيم بِجِنْس الْمَمْلُوك من الْآدَمِيّين، فَأَما غير الْآدَمِيّ فقد ورد فِي عدَّة أَحَادِيث، فَقَالَ هَهُنَا: حَتَّى يجدهَا رَبهَا، وَقَالَ فِي الْإِبِل: حَتَّى يلقاها رَبهَا.(12/271)
4 - (بابٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ صاحِبُ اللقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَهَا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يُوجد صَاحب اللّقطَة بعد التَّعْرِيف بِسنة فَهِيَ، أَي: اللّقطَة، لمن وجدهَا، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْوَاجِد الْغَنِيّ وَالْفَقِير، وَهَذَا خلاف مَذْهَب الْجُمْهُور، فَإِن عِنْدهم: إِذا كَانَت الْعين مَوْجُودَة يجب الرَّد، وَإِن كَانَت استهلكت يجب الْبَدَل، وَلم يخالفهم فِي ذَلِك إلاَّ الْكَرَابِيسِي من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ: وَوَافَقَهُمَا البُخَارِيّ فِي ذَلِك، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْبَاب: فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا، وَهَذَا تَفْوِيض إِلَى اخْتِيَاره. وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي حَدِيث زيد بن خَالِد عَن الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة بِلَفْظ: وإلاَّ فتصنع بهَا مَا تصنع بِمَالك، وَمن حجَّة الْجُمْهُور، قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب السَّابِق: وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده، وَقَوله فِي رِوَايَة بشر بن سعيد بن زيد بن خَالِد: فاعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ كُلها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها إِلَيْهِ فَإِن ظَاهر قَوْله: فَإِن جَاءَ صَاحبهَا ... إِلَى آخِره، بعد قَوْله: كلهَا، يَقْتَضِي وجوب ردهَا بعد أكلهَا، فَيحمل على رد الْبَدَل، وَقَالَ ابْن بطال: إِذا جَاءَ صَاحب اللّقطَة بعد الحَول لزم ملتقطها أَن يردهَا إِلَيْهِ، وعَلى هَذَا إِجْمَاع أَئِمَّة الْفَتْوَى، وَزعم بعض من نسب نَفسه إِلَى الْعلم: أَنَّهَا لَا تُؤَدّى إِلَيْهِ بعد الْحول، اسْتِدْلَالا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فشأنك بهَا) . قَالَ: فَهَذَا يدل على ملكهَا، قَالَ: وَهَذَا القَوْل يُؤَدِّي إِلَى تنَاقض السّنَن، إِذْ قَالَ: فأدها إِلَيْهِ قلت: قَوْله فأدها إِلَيْهِ دَلِيل على أَنه إِذا استنفقها أَو تلفت عِنْده بعد التَّمَلُّك أَنه يضمنهَا لصَاحِبهَا إِذا جَاءَ، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله فِي رِوَايَة بشر بن سعيد عَن زيد: ثمَّ كلهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها ... أمره بأدائها بعد الْهَلَاك إِذا كَانَ قد يملكهَا أما إِذا أتلفت عِنْده بِغَيْر تَفْرِيط مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يضمنهَا لصَاحِبهَا إِذا جَاءَ، لِأَن يَده عَلَيْهَا يَد أَمَانَة فَصَارَت كَالْوَدِيعَةِ.
9242 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ يَزِيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُ عنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَها ووِكاءَها ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلاَّ فَشأْنُكَ بِها قَالَ فَضالَّةُ الغَنَمِ قَالَ هِيَ لَكَ أوْ لِأَخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضالَّةُ الإبلِ قَالَ مالَكَ ولَهَا مَعَها سِقَاؤُها وحِذَاؤُها تَردُ الْمَاءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حتَّى يَلْقَاها ربُّهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فشأنك بهَا) بِنصب النُّون، أَي: إلزم شَأْنك ملتبساً بهَا، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قيل: إِنَّه مَنْصُوب على الْمصدر، يُقَال: شأنت شَأْنه مَعهَا ... الخ أَي: قصدت قَصده، وأشأن شَأْنك أَي: إعمل مَا تُحسنهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (فشأنك) بِالنّصب وبالرفع، فَقَالَ فِي النصب: أَي: إلزم شَأْنك، وَلم يبين الرّفْع، وَوَجهه أَن يكون مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: فشأنك مُبَاح أَو جَائِز أَو نَحْو ذَلِك، والشأن: الْخطب وَالْأَمر وَالْحَال. قَوْله: (مَالك وَلها؟) أَي: مَالك وَأَخذهَا وَالْحَال أَنَّهَا مُسْتَقلَّة بِأَسْبَاب تعيشها، فَيكون قَوْله: (مَعهَا سقاؤها) ، على تَقْدِير الْحَال، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت.
5 - (بابٌ إذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أوْ سَوْطاً أوْ نَحْوَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وجد شخص خَشَبَة فِي الْبَحْر أَو وجد سَوْطًا فِي مَوضِع أَو وجد شَيْئا وَنَحْو ذَلِك مثل عَصا وحبل وَمَا أشبههما، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: مَاذَا يصنع بِهِ؟ هَل يَأْخُذهُ أَو يتْركهُ؟ فَإِذا أَخذه هَل يَتَمَلَّكهُ أَو سَبيله سَبِيل اللّقطَة؟ فَفِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء. فروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك: إِذا ألْقى الْبَحْر خَشَبَة فَتَركهَا أفضل، وَقَالَ ابْن شعْبَان: فِيهَا قَول آخر: إِن وجدهَا يَأْخُذهَا، فَإِن جَاءَ رَبهَا غرم لَهُ قيمتهَا. ورخصت طَائِفَة فِي أَخذ اللّقطَة الْيَسِيرَة وَالِانْتِفَاع بهَا وَترك تَعْرِيفهَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ عمر وَعلي وَابْن عمر وَعَائِشَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وطاووس، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي اللّقطَة: لَا بَأْس بِمَا دون الدِّرْهَم أَن يسْتَمْتع بِهِ. وَعَن جَابر كَانُوا يرخصون فِي السَّوْط وَالْحَبل وَنَحْوه أَن ينْتَفع بِهِ. وَقَالَ عَطاء: لَا بَأْس للْمُسَافِر إِذا وجد السَّوْط والسقاء والنعلين أَن ينْتَفع بهَا، اسْتدلَّ من(12/272)
يُبِيح ذَلِك بِحَدِيث الْخَشَبَة، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَنه أَخذهَا حطباً لأَهله وَلم يَأْخُذهَا ليعرفها، وَلم يقل أَنه فعل مَا لَا يَنْبَغِي.
وَفِي (الْهِدَايَة) : وَإِن كَانَت اللّقطَة مِمَّا يعلم أَن صَاحبهَا لَا يتطلبها: كالنواة وقشور الرُّمَّان فإلقاؤه إِبَاحَة أَخذه فَيجوز الِانْتِفَاع بِهِ من غير تَعْرِيف، وَلكنه يبْقى على ملك مَالِكه، لِأَن التَّمْلِيك من الْمَجْهُول لَا يَصح، وَقَالَ ابْن رشد الأَصْل فِي ذَلِك مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بتمرة فِي الطَّرِيق، (فَقَالَ: لَوْلَا أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها) ، وَلم يذكر فِيهَا تعريفاً، وَهَذَا مثل الْعَصَا وَالسَّوْط، وَإِن كَانَ أَشهب قد اسْتحْسنَ تَعْرِيف ذَلِك، فَإِن كَانَ يَسِيرا، إلاَّ أَن لَهُ قدرا وَمَنْفَعَة فَلَا خلاف فِي تَعْرِيفه سنة، وَقيل: أَيَّامًا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يبقي فِي يَد ملتقطه ويخشى عَلَيْهِ التّلف، فَإِن هَذَا يَأْكُلهُ الْمُلْتَقط فَقِيرا كَانَ أَو غَنِيا، وَهل يضمن؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَشْهر أَن لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ مِمَّا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد فِي الْحَاضِرَة، فَقيل: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَقيل: عَلَيْهِ الضَّمَان، وَقيل: بِالْفرقِ أَن يتَصَدَّق بِهِ أَو يَأْكُلهُ، أَعنِي: إِنَّه يضمن فِي الْأكل وَلَا يضمن فِي الصَّدَقَة، وَفِي (الْوَاقِعَات) : الْمُخْتَار فِي القشود والنواة يملكهَا، وَفِي الصَّيْد لَا يملكهُ، وَإِن جمع سنبلاً بعد الْحَصاد فَهُوَ لَهُ لإِجْمَاع النَّاس على ذَلِك، وَإِن سلخ شَاة ميتَة فَهُوَ لَهُ ولصاحبها أَن يَأْخُذهَا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الحكم فِي صوفها.
0342 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وساقَ الْحَدِيثَ فَخَرَجَ يَنْطُر لعَلَّ مَرْكباً قَدْ جاءَ بِمَالِه فإذَا هُوَ بالْخَشَبَةِ فأخَذَها لَأَهْلِهِ حَطَباً فلَمَّا نَشرَهَا وجَدَ الْمَالَ والصَّحِيفَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا هُوَ بالخشبة فَأَخذهَا) ، وَقيل: لَيْسَ فِي الْبَاب ذكر السَّوْط. وَأجِيب: بِأَنَّهُ استنبطه بطرِيق الْإِلْحَاق. وَقيل: كَأَنَّهُ فَاتَهُ عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بِالسَّوْطِ إِلَى أثر يَأْتِي بعد أَبْوَاب فِي حَدِيث أبي بن كَعْب، أَو أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر، قَالَ: رخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل، وأشباهه، يلتقطه الرجل ينْتَفع بِهِ. انْتهى. قلت: لَو أَشَارَ بِالسَّوْطِ إِلَى أثر يَأْتِي ... إِلَى آخِره، على مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل، كَانَ الأصوب أَن يذكر السَّوْط هُنَاكَ، وَذكره هُنَا وإشارته إِلَى هُنَاكَ فِيهِ مَا فِيهِ، وَقَوله: أَو أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ كثيرا مَا يذكر تَرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ أَو أَكثر، وَلَا يذكر لبعضها حَدِيثا أَو أثرا، فيجاب عَنهُ بِأَنَّهُ ذكره على أَن يجد شَيْئا صَحِيحا فيذكره، وَلَكِن لم يجده فَسكت عَنهُ، وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد ضَعِيف، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، فَكيف يرضى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ؟ وَقد مضى الحَدِيث بِتَمَامِهِ فِي الْكفَالَة، وَقد ذكره هُنَا أَيْضا تَعْلِيقا عَن اللَّيْث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (وجد المَال) أَي: الَّذِي بَعثه الْمُسْتَقْرض إِلَيْهِ، والصحيفة الَّتِي كتبهَا الْمُسْتَقْرض إِلَيْهِ يذكر فِيهَا بعث مَال الْقَرَاض.
6 - (بابٌ إذَا وجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا وجد شخص تَمْرَة فِي الطَّرِيق، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره يجوز لَهُ أَخذهَا وأكلها وَذكر التمرة لَيْسَ بِقَيْد وَكَذَا كل مَا كَانَ نَحْوهَا من المحقرات.
1342 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ مَنْصورٍ عنْ طَلْحَةَ عنْ أنَس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ مَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّريِقِ قَالَ لَوْلاَ أنِّي أخافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأكَلْتُها. (انْظُر الحَدِيث 5502) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن يُوسُف بن وَاقد أَبُو عبد الله الْفرْيَابِيّ، قَالَه أَبُو نعيم وَغَيره، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَطَلْحَة هُوَ ابْن مصرف على وزن اسْم فَاعل من التصريف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع فِي: بَاب مَا يتنزه من الشُّبُهَات عَن قبيصَة عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة عَن أنس إِلَى آخِره. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِيه: جَوَاز أكل مَا يُوجد من المحقرات ملقى فِي الطرقات لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر أَنه لم يتمنع من أكلهَا إلاَّ تورعاً لخشيته أَن تكون من الصَّدَقَة الَّتِي حرمت عَلَيْهِ، لَا لكَونهَا مرمية فِي الطَّرِيق. وَفِيه: حُرْمَة الصَّدَقَة على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاحتراز عَن الشُّبْهَة. وَقيل: هَذَا أَشد مَا رُوِيَ فِي الشُّبُهَات. وَفِيه: إِبَاحَة الشَّيْء التافه بِدُونِ التَّعْرِيف، وَأَنه خَارج عَن حكم اللّقطَة لِأَن صَاحبه لَا يَطْلُبهُ وَلَا يتشاح فِيهِ، وَقد(12/273)
روى عبد الرَّزَّاق أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْتقط حبا أَو حَبَّة من رمان فَأكلهَا، وَعَن ابْن عمر أَنه وجد تَمْرَة فَأَخذهَا فَأكل نصفهَا ثمَّ لقِيه مِسْكين فَأعْطَاهُ النّصْف الآخر. وَفِيه: إِسْقَاط الْغرم عَن أكل الطَّعَام الْمُلْتَقط، وَقيل: يضمنهُ وَإِن أكله مُحْتَاجا إِلَيْهِ، ذكره ابْن الْجلاب.
2342 - وَقَالَ يَحْياى حدَّثنا سُفيانُ قَالَ حدَّثني مَنصُورً وَقَالَ زَائِدَةُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ طَلْحَةَ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ وحدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّه عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأَنقَلَّبُ إلاى أَهلِي فأجِدُ التَّمْرَةَ ساقِطَة عَلَى فِرَاشي فأرْفَعُهَا لِآكُلَها ثُمَّ أخْشَى أنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيها.
يحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسَدّد فِي مُسْنده عَن يحيى، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُسَدّد.
قَوْله: (وَقَالَ زَائِدَة) ، أَي: ابْن قدامَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن زَائِدَة عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة بن مصرف، قَالَ: حَدثنَا أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بتمرة فِي الطَّرِيق فَقَالَ: لَوْلَا أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها. قَوْله: (عبد الله) ، هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، وَهَمَّام، بتَشْديد الْمِيم على وزن فعال: ابْن مُنَبّه بن كَامِل الْيَمَانِيّ الأبناوي، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا يتنزه من الشُّبُهَات مُعَلّقا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فألقيها) ، بِضَم الْهمزَة: من الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فألقيها بِالرَّفْع لَا غير، يَعْنِي: لَا يجوز نصب الْيَاء فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: فارفعها، فَإِذا نصب رُبمَا يظنّ أَنه عطف على قَوْله: أَن تكون، فَيفْسد الْمَعْنى.
7 - (بابٌ كَيْفَ تُعَرَّفُ لَقَطَةُ أهْلِ مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيفَ تعرف، بِالتَّشْدِيدِ من التَّعْرِيف على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذِه التَّرْجَمَة تبين إِثْبَات لقطَة الْحرم، وَفِيه رد على من يَقُول: لَا يلتقط لقطَة أهل الْحرم، وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن لقطَة الْحَاج، وأجابت الْعَامَّة عَن ذَلِك بِأَن المُرَاد التقاطها للتَّمَلُّك لَا للْحِفْظ، وَقد أوضح هَذَا حَدِيث الْبَاب، وَقيل: لم يبين أَن كَيْفيَّة لقطَة الْحرم مثل كَيْفيَّة لقطَة غَيره فِي التَّعْرِيف وَالتَّمْلِيك أم هِيَ مقتصرة على الْحِفْظ فِيهِ؟ قلت: بل هِيَ مقتصرة على الْحِفْظ فَقَط، يدل عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب، وَاكْتفى بِمَا فِي الحَدِيث عَن تَصْرِيح ذَلِك فِي التَّرْجَمَة.
وقالَ طَاوُوسٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَلْتَقِطُ لُقْطَتَها إلاَّ مَنْ عَرَّفَها
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث وَصلهَا البُخَارِيّ فِي الْحَج فِي: بَاب لَا يحل الْقِتَال. قَوْله: (لَا يلتقط لقطتهَا) ، أَي: لقطَة أهل مَكَّة (إلاَّ من عرفهَا) يَعْنِي: للْحِفْظ لصَاحِبهَا.
وَقَالَ خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُلْتَقَطُ لُقْطَتُها إلاَّ لِمُعَرِّفٍ
خَالِد هُوَ الْحذاء، وَهَذَا أَيْضا قِطْعَة وَصلهَا البُخَارِيّ فِي أَوَائِل الْبيُوع فِي: بَاب مَا قيل فِي الصواغ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.(12/274)
3342 - وَقَالَ أحْمَدُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا رَوْحٌ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ دِينار عَن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يُعْضَدُ عِضاهُما ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُها ولاَ تَحل لُقْطَتُها إلاَّ لِمُنْشِدٍ وَلَا يُخْتَلاى خِلاَها فَقَالَ عبَّاسٌ يَا رسولَ الله إلاَّ الْإذْخِرَ فَقَالَ إلاَّ الْإذْخِرَ. .
اخْتلف فِي أَحْمد بن سعيد هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي: هُوَ ابو عبد الله أَحْمد بن سعيد الرباطي، وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ، وروح هُوَ ابْن عبَادَة، وزكرياء هُوَ ابْن إِسْحَاق الْمَكِّيّ. وَوصل هَذَا التَّعْلِيق الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الْعَبَّاس ابْن عبد الْعَظِيم، وَأَبُو نعيم من طَرِيق خلف بن سَالم، كِلَاهُمَا عَن روح بن عبَادَة.
قَوْله: (لَا يعضد) بِالْجَزْمِ، أَي: لَا يقطع، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِالْجَزْمِ وَالرَّفْع. قلت: الْجَزْم على أَنه نهي، وَالرَّفْع على أَنه نفي، والعضاه شجر أم غيلَان، وكل شجر لَهُ شوك عَظِيم، الْوَاحِدَة عضة بِالتَّاءِ، وَأَصلهَا عضهة. وَقيل: واحدته عضاهة، وعضهت العضاه: إِذا قطعتها. قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) ، وَهُوَ المعرّف، يُقَال: أنشدته، أَي: عَرفته. وَقَالَ ابْن بطال: قيل: معنى المنشد من سمع ناشده يَقُول: من أصَاب كَذَا، فَحِينَئِذٍ يجوز للملتقط أَن يرفعها لكَي يردهَا. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: المنشد الطَّالِب، وَهُوَ صَاحبهَا، وَقَالَ أَبُو عبيد: لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال للطَّالِب: المنشد، إِنَّمَا هُوَ الْمُعَرّف، والطالب الناشد، وَقيل: إِنَّمَا لَا يتَمَلَّك لقطتهَا لِإِمْكَان إيصالها إِلَى رَبهَا إِن كَانَت للمكي، فَظَاهر، وَإِن كَانَت للغريب فيقصد فِي كل عَام من أقطار الأَرْض إِلَيْهَا فيسهل التَّوَصُّل إِلَيْهَا. قَوْله: (وَلَا يخْتَلى خَلاهَا) ، الخلا مَقْصُورا النَّبَات الرطب الرَّقِيق مَا دَامَ رطبا، واختلاؤه قطعه، واختلت الأَرْض كثر خَلاهَا، فَإِذا يبس فَهُوَ حشيش، والإذخر، بِكَسْر الْهمزَة: حشيشة طيبَة الرَّائِحَة يسقف بهَا الْبيُوت فَوق الْخشب، وهمزتها زَائِدَة، قَالَه ابْن الْأَثِير، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي لقطَة مَكَّة، فَقَالَت طَائِفَة: حكمهَا كَحكم سَائِر الْبلدَانِ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا هَذَا القَوْل عَن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَابْن الْمسيب، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد، وَقَالَت طَائِفَة: لَا تحل أَلْبَتَّة، وَلَيْسَ لواجدها إلاَّ إنشادها، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَابْن مهْدي وَأبي عبيد بن سَلام.
4342 - حدَّثنا يَحْياى بنُ موساى قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا اْلأوْزَاعِي قَالَ حدَّثني يَحْياى بنُ أبِي كَثيرٍ قَالَ حدَّثني أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثني أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا فَتَحَ الله علَى رَسولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكَّةَ قامَ فِي النَّاسِ فَحمِدَ الله وأثْنى علَيْهِ ثُمَّ قالَ إنَّ الله حبَسَ عنْ مَكَّةَ الفِيلَ وسَلَّطَ علَيْها رسولَهُ والْمُؤْمِنينَ فإنَّها لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ كانَ قَبْلي وإنَّها أُحِلَّتْ لي سَاعَة مِنْ نَهَارٍ وإنَّهَا لَا تَحِلُّ لَأَحَدٍ بَعْدِي فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُها وَلَا يخْتَلاى شَوْكُهَا وَلَا تَحلُّ ساقِطَتُها إلاَّ لِمُنْشِدٍ ومَنْ قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أنْ يُفْداى وإمَّا أنْ يُقِيدَ فَقَالَ العبَّاسُ إلاَّ الإذْخِرَ فإنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنا وبُيُوتِنَا فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ الإذْخِرَ فقامَ أَبُو شاهٍ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِي يَا رسولَ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اكْتُبُوا لِأَبِي شاهٍ قُلْتُ لِلأوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رسولَ الله قَالَ هاذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَها مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تحل ساقطتها إِلَّا لِمُنْشِد) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن مُوسَى ابْن عبد ربه أَبُو زَكَرِيَّاء السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، بِلَفْظ الْفَاعِل من الْإِسْلَام.(12/275)
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير وَاسم أبي كثير صَالح. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَهَذَا من الغرائب، أَن كل وَاحِد من الروَاة صرح بِالتَّحْدِيثِ. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ شاميان وَيحيى يمامي وَأَبُو سَلمَة مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: ثَلَاثَة من المدلسين على نسق وَاحِد.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبيد الله بن سعيد، كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ إلاَّ أَنه لم يذكر قصَّة أبي شاه، وَفِي الْعلم عَن مُؤَمل بن الْفضل عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ مُخْتَصرا، وَعَن عَليّ بن سهل الرَّمْلِيّ عَن الْوَلِيد بن مُسلم وَفِي الدِّيات عَن الْعَبَّاس ابْن الْوَلِيد بن يزِيد عَن أَبِيه عَن الْأَوْزَاعِيّ بِبَعْضِه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدِّيات عَن مَحْمُود بن غيلَان وَيحيى بن مُوسَى، كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِبَعْضِه، وَفِي الْعلم بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن يزِيد عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم دُحَيْم عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِبَعْضِه: من قتل لَهُ قَتِيل إِلَى قَوْله: يفدى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما فتح الله على رَسُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَكَّة قَامَ فِي النَّاس) ظَاهره أَن الْخطْبَة وَقعت عقيب الْفَتْح وَلَيْسَ كَذَلِك، بل وَقعت بعد الْفَتْح عقيب قتل رجل من خُزَاعَة رجلا من بني لَيْث، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة من وَجه آخر فِي الْعلم فِي: بَاب كِتَابَة الْعلم، عَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى عَن سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: أَن خُزَاعَة قتلوا رجلا من بني لَيْث عَام فتح مَكَّة بقتيل مِنْهُم قَتَلُوهُ، فَأخْبر بذلك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَركب رَاحِلَته فَخَطب فَقَالَ: إِن الله قد حبس عَن مَكَّة الْفِيل أَو الْقَتْل ... الحَدِيث. قَوْله: (الْقَتْل) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بِالْقَافِ وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بِالْفَاءِ وبالياء آخر الْحُرُوف، وَالْمرَاد بِهِ الْفِيل الَّذِي أخبر الله فِي كِتَابه فِي سُورَة {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} (الْفِيل: 1) . قَوْله: (وَلَا تحل لأحد كَانَ قبلي) ، كلمة: لَا، بِمَعْنى: لم، أَي: لم تحل. قَوْله: (وَلَا ينفر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التنفير، يُقَال: (نفر ينفر نفوراً ونفاراً إِذا فر وَذهب. قَوْله: (وَلَا تحل) على بِنَاء الْمَعْلُوم والساقطة هِيَ اللّقطَة. قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) أَي، لمعرف يَعْنِي: لَا تحل لقطتهَا إلاَّ لمن يُرِيد أَن يعرفهَا فَقَط، لَا لمن أَرَادَ أَن يتملكها. قَوْله: (من قتل لَهُ قَتِيل) ، قد مر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا قَالَ هَذَا لما أخبر أَن خُزَاعَة قتلوا رجلا من بني لَيْث عَام فتح مَكَّة بقتيل مِنْهُم، أَي: بِسَبَب قَتِيل مِنْهُم. قَوْله: (فَهُوَ بِخَير النظرين) ، أَي: بِخَير الْأَمريْنِ، يَعْنِي: الْقصاص وَالدية، فَأَيّهمَا اخْتَار كَانَ لَهُ إِمَّا أَن يفدى، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: يعْطى لَهُ الْفِدْيَة، أَي: الدِّيَة، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ وَغَيره: إِمَّا أَن يودى لَهُ، من وديت الْقَتِيل أديه دِيَة: إِذا أَعْطَيْت دِيَته، وَإِمَّا أَن يُقيد، أَي: يقْتَصّ، من الْقود، وَهُوَ الْقصاص وَفِي رِوَايَة: وَأما أَن يُقَاد لَهُ. قَوْله: (فَقَامَ أَبُو شاه) ، بِالْهَاءِ لَا غير، قَالَ النَّوَوِيّ: وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات بِالتَّاءِ، وَكَذَا عَن ابْن دحْيَة. وَفِي (الْمطَالع) : وَأَبُو شاه، مصروفاً ضَبطه بَعضهم، وقرأته أَنا معرفَة ونكرة. قلت: معنى قَوْله: مصروفاً، أَنه بِالتَّنْوِينِ، وَمعنى: شاه، بِالْفَارِسِيَّةِ ملك وَيجمع على شاهان، وَقد ورد النَّهْي عَن القَوْل بشاهان شاه، يَعْنِي: ملك الْمُلُوك، وَيقدم الْمُضَاف إِلَيْهِ على الْمُضَاف فِي اللُّغَة الفارسية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على أَحْكَام: مِنْهَا: أَحْكَام تتَعَلَّق بحرم مَكَّة، وَقد مر أبحاثه فِي كتاب الْحَج. وَمِنْهَا: مَا يتَعَلَّق باللقطة، وَقد مر أبحاثها فِي كتاب اللّقطَة. وَمِنْهَا: مَا يتَعَلَّق بِكِتَاب أبي شاه، وَقد مر فِي كتاب الْعلم. وَمِنْهَا: مَا يتَعَلَّق بِالْقصاصِ وَالدية، وَهُوَ قَوْله: وَمن قتل لَهُ قَتِيل، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، وَهُوَ أَن من قتل لَهُ قَتِيل عمدا فَوَلِيه بِالْخِيَارِ بَين أنم يعْفُو وَيَأْخُذ الدِّيَة أَو يقْتَصّ، رَضِي بذلك الْقَاتِل أَو لم يرض، وَهُوَ مَذْهَب سعيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،(12/276)
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعبد الله بن ذكْوَان وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن شبْرمَة وَالْحسن ابْن حييّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله لَيْسَ لوَلِيّ الْمَقْتُول أَن يَأْخُذ الدِّيَة إلاَّ برضى الْقَاتِل، وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ الْقود أَو الْعَفو. وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أنس أَن الرّبيع بنت النَّضر، عمته لطمت جَارِيَة فَكسرت سنّهَا، فعرضوا عَلَيْهِم الْأَرْش فَأَبَوا، فطلبوا الْعَفو فَأَبَوا، فَأتوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَمرهمْ بِالْقصاصِ، فجَاء أَخُوهَا أنس بن النَّضر، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {أتكسر سنّ الرّبيع؟ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا تكسر سنّهَا. فَقَالَ: يَا أنس} كتاب الله الْقصاص، فَعَفَا الْقَوْم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من عباد الله لَو أقسم على الله لَأَبَره) ، فَثَبت بِهَذَا الحَدِيث أَن الَّذِي يجب بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله فِي الْعمد هُوَ الْقصاص، لِأَنَّهُ لَو كَانَ للْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْخِيَار بَين الْقصاص وَبَين أَخذ الدِّيَة إِذا لخيره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما حكم لَهَا بِالْقصاصِ بِعَيْنِه فأذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يحمل قَوْله: فَهُوَ بِخَير النظرين، إِمَّا أَن يفدى وَأما أَن يُقيد على أَخذ الدِّيَة برضى الْقَاتِل، حَتَّى تتفق مَعَاني الْآثَار. وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم يكن فيهم الدِّيَة فَقَالَ الله لهَذِهِ الْأمة: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} (الْبَقَرَة: 871) . الْآيَة، وَقَوله: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء} (الْبَقَرَة: 871) . فالعفو أَن يقبل الدِّيَة فِي الْعمد، قَوْله: {ذَلِك تَخْفيف من ربكُم} (الْبَقَرَة: 871) . يَعْنِي: مِمَّا كتب على من كَانَ قبلكُمْ، أَو نقُول: التَّخْيِير من الشَّرْع تَجْوِيز الْفِعْلَيْنِ وَبَيَان المشروعية فيهمَا وَنفي الْحَرج عَنْهُمَا، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الربويات: (إِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم) ، مَعْنَاهُ: تَجْوِيز البيع مفاضلة ومماثلة بِمَعْنى نفي الْحَرج عَنْهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَن يسْتَقلّ بِهِ دون رضى المُشْتَرِي، فَكَذَا هُنَا جَوَاز الْقصاص وَجَوَاز أَخذ الدِّيَة، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِقْلَال يَسْتَغْنِي بِهِ عَن رضى الْقَاتِل. فَإِن قلت: قد أخبر الله تَعَالَى فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة أَن للْوَلِيّ الْعَفو وَاتِّبَاع الْقَاتِل بِإِحْسَان فَيَأْخُذ الدِّيَة من الْقَاتِل، وَإِن لم يكن اشْترط ذَلِك فِي عَفوه. قلت: الْعَفو فِي اللُّغَة الْبَذْل: {خُذ الْعَفو} (الْأَعْرَاف: 991) . أَي: مَا سهل، فَإِذا الْمَعْنى: فَمن بذل لَهُ شَيْء من الدِّيَة فليقبل، والإبذال لَا يجب إلاَّ برضى من يجب لَهُ ورضى من يجب عَلَيْهِ.
8 - (بابٌ لَا تُحْتَلَبُ ماشِيَةُ أحَدٍ بِغَيْرِ إذْنٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا تحتلب مَاشِيَة أحد بِغَيْر إِذن صَاحبهَا، والماشية تقع على الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَلكنه فِي الْغنم أَكثر، قَالَه ابْن الْأَثِير. قَوْله: (بِغَيْر إِذن) بِالتَّنْوِينِ، ويروى: (بِغَيْر إِذْنه) . مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقَضَاء وَأَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد جَمِيعًا بِالْإِسْنَادِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " عَن نَافِع فِي موطأ مُحَمَّد بن الْحسن أخبرنَا نَافِع وَفِي رِوَايَة أبي قطن فِي الموطآت للدارقطني قلت لمَالِك أحَدثك نَافِع قَوْله " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي رِوَايَة يزِيد بن الْهَاد عَن مَالك عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول قَوْله " لَا يحلبن بِضَم اللَّام وبالنون الثَّقِيلَة كَذَا فِي البُخَارِيّ وَأكْثر الموطآت وَفِي رِوَايَة ابْن الْهَاد " لَا يحتلبن " من الاحتلاب من بَاب الافتعال قَوْله " مَاشِيَة امرىء " وَفِي رِوَايَة ابْن الْهَاد وَجَمَاعَة من رُوَاة الْمُوَطَّأ " مَاشِيَة رجل " وَفِي بعض شُرُوح الْمُوَطَّأ بِلَفْظ " مَاشِيَة أَخِيه " وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَيْسَ بِقَيْد لِأَنَّهُ لَا اخْتِصَاص لَهُ بِالرِّجَالِ وَلَا بِالْمُسْلِمين لأَنهم سَوَاء فِي هَذَا الحكم قيل فرق بَين الْمُسلم وَالذِّمِّيّ فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِذْن فِي الذِّمِّيّ لِأَن الصَّحَابَة شرطُوا على أهل الذِّمَّة من الضِّيَافَة للْمُسلمين وَصَحَّ ذَلِك عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَذكر ابْن وهب عَن مَالك فِي الْمُسَافِر ينزل بالذمي قَالَ لَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إِلَّا بِإِذْنِهِ قيل لَهُ فالضيافة الَّتِي جعلت عَلَيْهِم قَالَ كَانُوا يَوْمئِذٍ يُخَفف عَنْهُم بِسَبَبِهَا وَأما(12/277)
الْآن فَلَا وَقَالَ بَعضهم نسخ الْإِذْن وَحَمَلُوهُ على أَنه كَانَ قبل فرض الزَّكَاة قَالُوا وَكَانَت الضِّيَافَة وَاجِبَة حِينَئِذٍ ثمَّ نسخ ذَلِك بِفَرْض الزَّكَاة وَذكر الطَّحَاوِيّ كَذَلِك أَيْضا قَوْله " مشْربَته " بِضَم الرَّاء وَفتحهَا هِيَ الْموضع المصون لما يخزن كالغرفة وَقَالَ الْكرْمَانِي هِيَ الغرفة المرتفعة عَن الأَرْض وفيهَا خزانَة الْمَتَاع انْتهى والمشربة بِفَتْح الرَّاء خَاصَّة مَكَان الشّرْب والمشربة بِكَسْر الرَّاء إِنَاء الشّرْب قَوْله " خزانته " بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة الْموضع أَو الْوِعَاء الَّذِي يخزن فِيهِ الشَّيْء مِمَّا يُرَاد حفظه وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عِنْد أَحْمد فيكسر بَابهَا قَوْله " فَينْتَقل " بالنُّون وَالْقَاف من الِانْتِقَال وَهُوَ التَّحْوِيل من مَكَان إِلَى مَكَان وَهَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الموطآت عَن مَالك وَحكى ابْن عبد الْبر عَن بَعضهم فينتثل بنُون ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ ثاء مُثَلّثَة من الانتثال من النثل وَهُوَ النثر مرّة وَاحِدَة بِسُرْعَة وَيُقَال نثل مَا فِي كِنَانَته إِذا صبها ونثرها وَهَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق روح بن عبَادَة وَمُسلم من رِوَايَة أَيُّوب ومُوسَى بن عقبَة وَغَيرهمَا عَن نَافِع وَرَوَاهُ عَن اللَّيْث عَن نَافِع بِالْقَافِ وَهُوَ عِنْد ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه بِالْمُثَلثَةِ وَقَوله تُؤْتى وَقَوله فتكسر وَقَوله فَينْتَقل كلهَا على بِنَاء الْمَجْهُول قَوْله تخزن بِضَم الزَّاي على بِنَاء الْفَاعِل وضروع مَوَاشِيهمْ كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل تخزن وَقَوله أطعماتهم بِالنّصب مَفْعُوله وَهِي جمع أَطْعِمَة والأطعمة جمع طَعَام وَالْمرَاد بِهِ هُنَا اللَّبن والضروع جمع ضرع وَهُوَ لكل ذَات خف وظلف كالثدي للْمَرْأَة وَفِي رِوَايَة الْكشميهني تحرز ضروع مَوَاشِيهمْ بِضَم التَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره زَاي وَالْمعْنَى أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شبه اللَّبن فِي الضَّرع بِالطَّعَامِ المخزون الْمَحْفُوظ فِي الخزانة فِي أَنه لَا يحل أَخذه بِغَيْر إِذن وَلَا فرق بَين اللَّبن وَغَيره (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) قَالَ أَبُو عمر يحمل هَذَا الحَدِيث على مَا لَا تطيب بِهِ النَّفس لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يحل مَال امرىء مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس مِنْهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام وَإِنَّمَا خص اللَّبن بِالذكر لتساهل النَّاس فِي تنَاوله وَلَا فرق بَين اللَّبن وَالتَّمْر وَغَيرهمَا فِي ذَلِك وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا يحل شَيْء من لبن الْمَاشِيَة وَلَا من التَّمْر إِلَّا إِذا علم طيب نفس صَاحبه وَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك يحل وَإِن لم يعلم حَال صَاحبه لِأَن ذَلِك حق جعله الشَّارِع لَهُ يُؤَيّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا أَتَى أحدكُم على مَاشِيَة فَإِن كَانَ فِيهَا صَاحبهَا فليستأذنه فَإِن أذن لَهُ وَإِلَّا فليحلب وَيشْرب وَإِن لم يكن فِيهَا فليصوت ثَلَاثًا فَإِن أجَاب فليستأذنه فَإِن أذن لَهُ وَإِلَّا فليحلب وَيشْرب وَلَا يحمل وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ حَدِيث سَمُرَة حَدِيث حسن غَرِيب صَحِيح وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح وَقد تكلم بعض أهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة وَقَالُوا إِنَّمَا يحدث عَن صحيفَة سَمُرَة وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِحَدِيث أبي سعيد رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة أبي نَضرة عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أتيت على رَاع فناده ثَلَاث مَرَّات فَإِن أجابك وَإِلَّا فَاشْرَبْ من غير أَن تفْسد وَإِذا أتيت على حَائِط بُسْتَان فناده ثَلَاث مَرَّات فَإِن أجابك وَإِلَّا فَكل من غير أَن تفْسد وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث يحيى بن سليم عَن عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن التَّمْر الْمُعَلق فَقَالَ من أصَاب مِنْهُ من ذِي حَاجَة غير متخذ خبنة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث يحيى بن سليم وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن التَّمْر الْمُعَلق إِلَى آخِره نَحوه والخبنة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا نون قَالَ الْجَوْهَرِي هُوَ مَا تحمله فِي حضنك وَقَالَ ابْن الْأَثِير الخبنة معطف الْإِزَار وطرف الثَّوْب أَي لَا يَأْخُذ مِنْهُ فِي طرف ثَوْبه يُقَال أخبن الرجل إِذا خبأ شَيْئا فِي خبنة ثَوْبه أَو سراويله وَالْمرَاد من التَّمْر الْمُعَلق هُوَ التَّمْر على النّخل قبل أَن يقطع وَلَيْسَ المُرَاد مَا كَانُوا يعلقونه فِي الْمَسْجِد من الأقناء فِي أَيَّام التمرة فَإِن ذَلِك مُسبل مَأْذُون فِيهِ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بقضية الْهِجْرَة وَشرب أبي بكر وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غنم الرَّاعِي وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء وفقهاء الْأَمْصَار مِنْهُم الْأَئِمَّة أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم لَا يجوز لأحد أَن يَأْكُل من بُسْتَان أحد وَلَا يشرب من لبن غنمه إِلَّا بِإِذن صَاحبه اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا كَانَ مُضْطَرّا فَحِينَئِذٍ يجوز لَهُ ذَلِك قدر دفع الْحَاجة وَالْجَوَاب عَن الْأَحَادِيث(12/278)
الْمَذْكُورَة من وُجُوه الأول أَن التَّمَسُّك بالقاعدة الْمَعْلُومَة أولى قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَالثَّانِي أَن حَدِيث النَّهْي أصح وَالثَّالِث أَن ذَلِك مَحْمُول على مَا إِذا علم طيب نفوس أَرْبَاب الْأَمْوَال بِالْعَادَةِ أَو بغَيْرهَا وَالرَّابِع أَن ذَلِك مَحْمُول على أَوْقَات الضرورات كَمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن هَذِه الْأَحَادِيث كَانَت فِي حَال وجوب الضِّيَافَة حِين أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهَا وأوجبها للمسافرين على من حلوا بِهِ فَلَمَّا نسخ وجوب ذَلِك وارتفع حكمه ارْتَفع أَيْضا حكم الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَشرب أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حِين الْهِجْرَة من غنم الرَّاعِي وإعطائه للشارع كَانَ إدلالا على صَاحب الْغنم لمعرفته إِيَّاه وَأَنه كَانَ يعلم أَنه أذن لِلرَّاعِي أَن يسْقِي من مر بِهِ أَو أَنه كَانَ عرفه أَنه أَبَاحَ بذلك أَو أَنه مَال حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ وَقَالَ ابْن أبي صفرَة حَدِيث الْهِجْرَة فِي زمن المكارمة وَهَذَا فِي زمن التشاح لما علم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من تغير الْأَحْوَال بعده وَقَالَ الدَّاودِيّ إِنَّمَا شرب الشَّارِع وَالصديق لِأَنَّهُمَا ابْنا سَبِيل وَلَهُمَا شرب ذَلِك إِذا احتاجا وَفِي الحَدِيث اسْتِعْمَال الْقيَاس لتشبيه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اللَّبن فِي الضَّرع بِالطَّعَامِ المخزون وَهَذَا هُوَ قِيَاس الْأَشْيَاء على نظائرها وأشباهها وَفِيه إِبَاحَة خزن الطَّعَام واحتكاره خلافًا لغلاة المتزهدة حَيْثُ يَقُولُونَ لَا يجوز الادخار مُطلقًا وَفِيه أَن اللَّبن يُسمى طَعَاما فَيحنث بِهِ من حلف لَا يتَنَاوَل طَعَاما إِلَّا أَن يكون لَهُ نِيَّة تخرج اللَّبن وَقَالَ ابْن عمر فِيهِ مَا يدل على أَن من حلب من ضرع شَاة أَو بقرة أَو نَاقَة بعد أَن يكون فِي حرزها مَا يبلغ قِيمَته مَا يجب فِيهِ الْقطع إِن عَلَيْهِ الْقطع إِلَّا على قَول من لَا يرى الْقطع فِي الْأَطْعِمَة الرّطبَة من الْفَوَاكِه وَفِيه بيع الشَّاة اللَّبُون بِالطَّعَامِ لقَوْله فَإِنَّمَا يخزن لَهُم ضروع مَوَاشِيهمْ أطعماتهم فَجعل اللَّبن طَعَاما وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي بيع الشَّاة اللَّبُون بِاللَّبنِ وَسَائِر الطَّعَام نَقْدا أَو إِلَى أجل فَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَنه لَا بَأْس بِبيع الشَّاة اللَّبُون بِاللَّبنِ يدا بيد مَا لم يكن فِي ضرْعهَا لبن فَإِن كَانَ فِي ضرْعهَا لبن لم يجز يدا بيد بِاللَّبنِ من أجل الْمُزَابَنَة فَإِن كَانَت الشَّاة غير لبون جَازَ فِي ذَلِك الْأَجَل وَغير الْأَجَل وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه لَا يجوز بيع الشَّاة اللَّبُون بِالطَّعَامِ إِلَى أجل وَلَا يجوز عِنْد الشَّافِعِي بيع شَاة فِي ضرْعهَا لبن بِشَيْء من اللَّبن يدا بيد وَلَا إِلَى أجل وَفِيه ذكر الحكم بعلته وإعادته بعد ذكر الْعلَّة تَأْكِيدًا وتقريرا وَفِيه أَن الْقيَاس لَا يشْتَرط فِي صِحَّته مُسَاوَاة الْفَرْع للْأَصْل بِكُل اعْتِبَار بل رُبمَا كَانَت للْأَصْل مزية لَا يضر سُقُوطهَا فِي الْفَرْع إِذا تشاركا فِي أصل الصّفة لِأَن الضَّرع لَا يُسَاوِي الخزانة فِي الخزن لما أَن الصر لَا يُسَاوِي القفل فِيهِ وَمَعَ ذَلِك فقد ألحق الشَّارِع الضَّرع المصرور بالحكم بالخزانة المقفلة فِي تَحْرِيم تنَاول كل مِنْهُمَا بِغَيْر إِذن صَاحبه وَفِيه ضرب الْأَمْثَال للتقريب للإفهام وتمثيل مَا يخفى بِمَا هُوَ وَاضح مِنْهُ -
9 - (بابٌ إذَا جاءَ صاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ ردَّهَا علَيْهِ لِأَنَّها ودِيعَةٌ عِنْدَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا جَاءَ صَاحب اللّقطَة ... إِلَى آخِره. قَوْله: (بعد سنة) أَي: بعد مُضِيّ سنة التَّعْرِيف. قَوْله: (لِأَنَّهَا) أَي: لِأَن اللّقطَة وَدِيعَة عِنْد الْمُلْتَقط، فَيجب ردهَا إِلَى صَاحبهَا.
6342 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ يَزيدَ مَولاى الْمُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ الْجُهنيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رجُلاً سَأَلَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ اللُّقَطَةِ قَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وعِفَاصَها ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِها فإنْ جاءَ رَبُّهَا فأدَّهَا إلَيْهِ قَالُوا يَا رسولَ الله فَضالَّةُ الغَنَمِ قَالَ خُذْهَا فإنَّمَا هِيَ لَكَ أوْ لِأَخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَا رسولَ الله فَضالَّةُ الإبلِ قَالَ فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى احْمَرَّتْ وجْنَتَاهُ إوِ احْمَرَّ وجْهُهُ ثُمَّ قَالَ مالَكَ ولَها مَعها حِذَاؤُهَا وسِقَاؤُها حتَّى يَلْقاها ربُّهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن جَاءَ رَبهَا فأدها إِلَيْهِ) . فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث لفظ: لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده؟ قلت: أُجِيب بجوابين: أَحدهمَا: أَنه ذكر هَذِه اللَّفْظَة فِي: بَاب ضَالَّة الْغنم، قبل هَذَا الْبَاب بِخَمْسَة أَبْوَاب، وَلكنه ذكره بِالشَّكِّ هُنَاكَ(12/279)
وَذكره هُنَا مترجماً بِالْمَعْنَى، لِأَن قَوْله: (أدها إِلَيْهِ) بعد الاستنفاق، يدل على وجوب الرَّد وعَلى أَنه لَا يملكهَا، فَيكون كَالْوَدِيعَةِ عِنْده، وَالْجَوَاب الآخر: أَنه أسقط هَذَا اللَّفْظ من حَيْثُ اللَّفْظ، وَذكره ضمنا من حَيْثُ الْمَعْنى، لِأَن قَوْله: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها إِلَيْهِ) ، يدل على بَقَاء ملك صَاحبهَا، خلافًا لمن أَبَاحَهَا بعد الْحول بِلَا ضَمَان، والجوابان متقاربان، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصًى. ثمَّ إِنَّه يسْتَدلّ من قَوْله: (لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده) على أَنَّهَا إِذا تلفت من غير تَقْصِير مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَيدل على هَذَا اخْتِيَاره، كَمَا هُوَ قَول جمَاعَة من السّلف. فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر الْأَدَاء بعد الأْستنفاق؟ قلت: بدلهَا يقوم مقَامهَا، وَكَيْفِيَّة ذَلِك مَعَ مَا قَالُوا فِيهِ قد مَضَت محررة. قَوْله: (حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه أَو احمر وَجهه) ، شكّ من الرَّاوِي، والوجنتان تَثْنِيَة: وجنة، وَهِي مَا ارْتَفع من الْخَدين، وفيهَا أَربع لُغَات: بِالْوَاو وبالهمزة وبالفتح فيهمَا وبالكسر أَيْضا. وَالله أعلم.
01 - (بابٌ هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا تَضِيعُ حتَّى لَا يأخُذُها مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يَأْخُذ الْمُلْتَقط اللّقطَة وَلَا يَدعهَا حَال كَونهَا تضيع بِتَرْكِهِ إِيَّاهَا؟ قَوْله: (حَتَّى لَا يَأْخُذهَا) ، كَذَا هُوَ بِحرف: لَا، بعد: حَتَّى، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: حَتَّى يَأْخُذهَا، بِدُونِ حرف: لَا. وَقَالَ بَعضهم: وأظن الْوَاو سَقَطت من قبل: حَتَّى، وَالْمعْنَى: لَا يَدعهَا تضيع وَلَا يَدعهَا يَأْخُذهَا من لَا يسْتَحق. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الظَّن، وَلَا إِلَى تَقْدِير الْوَاو، لِأَن الْمَعْنى صَحِيح وَالتَّقْدِير لَا يَتْرُكهَا ضائعة، يَنْتَهِي إِلَى أَخذهَا من لَا يسْتَحق، وَكلمَة: هَل، هُنَا لَيست على معنى الِاسْتِفْهَام، بل هِيَ بِمَعْنى: قد، للتحقيق، وَالْمعْنَى: بَاب يذكر فِيهِ قد يَأْخُذ اللّقطَة ... إِلَى آخِره، وَلِهَذَا لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب. وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من كره أَخذ اللّقطَة. روى ذَلِك عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه كره أَخذهَا، والآبق فَإِن أَخذ ذَلِك وضاعت وأبق من غير تضييعه لم يضمن، وَكره أَحْمد أَخذهَا أَيْضا، وَمن حجتهم فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن أبي الْعَلَاء يزِيد بن عبد الله بن الشخير عَن أبي مُسلم الجذمي عَن الْجَارُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار) . وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي دَاوُد عَن الْمثنى بن سعيد عَن قَتَادَة عَن يزِيد بن عبد الله عَن أبي مُسلم الجذمي عَن الْجَارُود نَحوه. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قلت: سُلَيْمَان بن حَرْب شيخ البُخَارِيّ وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ. وَأَبُو مُسلم الجذمي، بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى جذيمة عبد الْقَيْس، لَا يعرف اسْمه، والجارود هُوَ ابْن الْمُعَلَّى الْعَبْدي، واسْمه: بشر، والجارود: لقب بِهِ لِأَنَّهُ أغار فِي الْجَاهِلِيَّة على بكر بن وَائِل فَأَصَابَهُمْ وجردهم، وَفد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر فِي وَفد عبد الْقَيْس، فَأسلم وَكَانَ نَصْرَانِيّا، ففرح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْلَامِهِ وأكرمه وقربه. والضالة: هِيَ الضائعة من كل مَا يقتنى من الْحَيَوَان وَغَيره، يُقَال: ضل الصَّبِي، إِذا ضَاعَ، وضل عَن الطَّرِيق إِذا حَار وَقد: مر الْكَلَام فِيهِ مرّة. قَوْله: (حرق النَّار) ، بِفتْحَتَيْنِ وَقد تسكن الرَّاء، وَحرق النَّار لهيبها، وَالْمعْنَى: أَن ضَالَّة الْمُسلم إِذا أَخذهَا إِنْسَان ليتملكها إدته إِلَى النَّار، وَهَذَا تَشْبِيه بليغ. وحرف التَّشْبِيه مَحْذُوف لأجل الْمُبَالغَة، وَهُوَ من تَشْبِيه المحسوس بالمحسوس. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَأحمد فِي رِوَايَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يحرم أَخذ الضوال، وَعَن الشَّافِعِي فِي قَول وَأحمد فِي رِوَايَة: ندب تَركهَا، وَعَن الشَّافِعِي فِي قَول: يجب رَفعهَا، وَقَالَ ابْن حزم: قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: كلا الْأَمريْنِ، مُبَاح، وَالْأَفْضَل أَخذهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي مرّة: أَخذهَا أفضل، وَمرَّة قَالَ: الْوَرع تَركهَا. وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن الحَدِيث الْمَذْكُور أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَخذهَا لغير التَّعْرِيف، وَقد بَين ذَلِك مَا رُوِيَ عَن الْجَارُود أَيْضا أَنه قَالَ: قد كُنَّا أَتَيْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن على إبل عجاف، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله إِنَّا قد نمر بالحرف فنجد إبِلا فنركبها؟ فَقَالَ: إِن ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار، وَكَانَ سُؤَالهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَخذهَا لِأَن يركبوها، لَا لِأَن يعرفوها، فأجابهم: بِأَن قَالَ: ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار، أَي: إِن ضَالَّة الْمُسلم حكمهَا أَن تحفظ على صَاحبهَا حَتَّى تُؤَدّى إِلَى صَاحبهَا، لَا لِأَن ينْتَفع بهَا لركوب، وَلَا لغير ذَلِك، فَبَان بذلك معنى الحَدِيث.(12/280)
7342 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمةَ بنِ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بنَ غَفَلَةَ قَالَ كُنْتُ معَ سَلْمانَ بنِ رَبِيعَةَ وزيْدِ بنِ صُوحَانَ فَي غَزاةٍ فوَجَدْتُ سَوْطاً فَقَالَ لي ألْقِهِ قلتُ لَا ولاكِنْ إنْ وجَدْتُ صاحِبَهُ وإلاَّ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ فلَمَّا رَجَعْنا حَجَجْنا فمَرَرْتُ بالْمَدِينَةِ فسألْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ وجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيها مِائَةُ دِينارٍ فأَتَيْتُ بِها النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً فعَرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُ فَقَالَ عرِّفْها حَوْلاً فعرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُهُ قَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً فعرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَها وَوِعَاءَها فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلاَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِيَّاه بالتعريف، يدل على أَن أَخذ اللّقطَة مَشْرُوع لِئَلَّا تضيع إِذا تَركهَا وَتَقَع فِي يَد غير مستحقها. والْحَدِيث مضى فِي أول كتاب اللّقطَة، وَلكنه أخرجه هَهُنَا من طَرِيق آخر مَعَ زِيَادَة فِيهِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا مَعَ تَرْجَمَة سُوَيْد بن غَفلَة هُنَاكَ، وسلمان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، يُقَال: لَهُ صُحْبَة، وَيُقَال لَهُ: سلمَان الْخَيل، لخبرته بهَا، وَكَانَ أَمِيرا على بعض الْمَغَازِي فِي فتوح الْعرَاق سنة ثَلَاثِينَ، فِي عهد عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ أول من تولى قَضَاء الْكُوفَة، وَاسْتشْهدَ فِي خِلَافَته فِي فتوح الْعرَاق، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَزيد بن صوحان، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا حاء مُهْملَة وَبعد الْألف نون: الْعَبْدي، تَابِعِيّ كَبِير مخضرم أَيْضا، وَزعم ابْن الْكَلْبِيّ: أَن لَهُ صُحْبَة. وروى أَبُو يعلى من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: من سره أَن ينظر إِلَى من سبقه بعض أَعْضَائِهِ إِلَى الْجنَّة فَلْينْظر إِلَى زيد بن صوحان، وَكَانَ قدوم زيد فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَشهد الْفتُوح، وروى ابْن مَنْدَه من حَدِيث بُرَيْدَة، قَالَ: سَاق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة فَقَالَ زيد: زيد الْخَيْر: فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ رجل سبقه يَده إِلَى الْجنَّة فَقطعت يَد زيد بن صوحان فِي بعض الْفتُوح، وَقتل مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم الْجمل.
قَوْله: (فِي غزَاة) ، زَاد أَحْمد من طَرِيق سُفْيَان عَن سَلمَة: حَتَّى إِذا كُنَّا بالعذيب، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الدَّال الْمُعْجَمَة: وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة مصغر عذب: وَهُوَ مَوضِع، قَالَه بعض الشُّرَّاح وَسكت. قلت: عذيب وادٍ بِظَاهِر الْكُوفَة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد فِي (شَرحه لشعر أبي الطّيب) عِنْد قَوْله:
(تذكرت مَا بَين العذيب وبارق)
العذيب: مَاء لبني تَمِيم، وَكَذَلِكَ: بارق. قَالَ الرشاطي والبكري: ديار بني تَمِيم بِالْيَمَامَةِ، وعذيبة تَأْنِيث الَّذِي قبله مَوضِع فِي طَرِيق مَكَّة بَين الْجَار وينبع. قَوْله: (ألقه) ، أَمر من الْإِلْقَاء، وَهُوَ الرَّمْي. قَوْله: (قلت: لَا) ، أَي: لَا ألقيه. قَوْله: (الرَّابِعَة) ، هِيَ رَابِعَة بِاعْتِبَار مَجِيئه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وثالثة بِاعْتِبَار التَّعْرِيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم أول اللّقطَة أَنَّهَا الثَّالِثَة؟ قلت: التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد. انْتهى. والأصوب مَا قُلْنَاهُ. قَوْله: (عدتهَا) ، أَي: عَددهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا يدل على تَأْخِير الْمعرفَة عَن التَّعْرِيف، يَعْنِي. قَوْله: (أعرف عدتهَا) ، وَالرِّوَايَات السَّابِقَة بِالْعَكْسِ. قلت: مضى الْجَواب عَن هَذَا عَن قريب، وَهُوَ أَنه مَأْمُور بمعرفتين، يعرف أَولا ليعلم صدق وصفهَا، وَيعرف ثَانِيًا معرفَة زَائِدَة على الأولى، من قدرهَا وجودتها على سَبِيل التَّحْقِيق، ليردها على صَاحبهَا بِلَا تفَاوت.
حدَّثنا عبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ سلَمَةَ بِهاذَا قَالَ فَلَقَيْته بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ لاَ أدْرِي أثَلاثَةَ أحْوَالٍ أوْ حَوْلاً واحِداً
عَبْدَانِ: اسْمه عبد الله، وعبدان لقب عَلَيْهِ، وَأَبُو عُثْمَان بن جبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحتين: الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَسَلَمَة هُوَ ابْن كهيل.
قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور. قَوْله: (قَالَ: فَلَقِيته) ، أَي: قَالَ سُوَيْد بن غَفلَة: فَلَقِيت أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (بِمَكَّة فَقَالَ لَا أَدْرِي) أَي: لَا أعلم ... إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة. وحَدثني أَبُو بكر بن نَافِع، وَاللَّفْظ لَهُ، حَدثنَا غنْدر حَدثنَا شُعْبَة عَن سَلمَة بن كهيل، قَالَ: سَمِعت سُوَيْد بن غَفلَة،(12/281)
قَالَ: خرجت أَنا وَزيد بن صوحان وسلمان بن ربيعَة غازين، فَوجدت سَوْطًا فَأَخَذته، فَقَالَا لي: دَعه، فَقلت: لَا، وَلَكِنِّي أعرف بِهِ، فَإِن جَاءَ صَاحبه وإلاَّ استمتعت بِهِ. قَالَ: فأبيت عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَجعْنَا من غزاتنا قضي لي أَنِّي حججْت، فَأتيت الْمَدِينَة، فَلَقِيت أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَخْبَرته بشأن السَّوْط، وبقولهما، فَقَالَ: إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتيت بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: عرفهَا حولا، قَالَ: فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته. فَقَالَ: عرفهَا حولا فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته. فَقَالَ: عرفهَا حولا، فَلم أجد من يعرفهَا، فَقَالَ: إحفظ عَددهَا ووعاءها ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فاستمتع بهَا، فاستمتعت بهَا، فَلَقِيته بعد ذَلِك بِمَكَّة، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، بِثَلَاثَة أَحْوَال أَو حول وَاحِد. انْتهى. وَإِنَّمَا سقت حَدِيث مُسلم هَذَا بِطُولِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لرِوَايَة البُخَارِيّ هَذِه.
11 - (بابُ مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ ولَمْ يَدْفَعْهَا إلاى السُّلْطَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من عرف بِالتَّشْدِيدِ من التَّعْرِيف. قَوْله: (وَلم يَدْفَعهَا) ، من الدّفع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَلم يرفعها، بالراء مَوضِع الدَّال، وَحَاصِل هَذِه التَّرْجَمَة أَن الْمُلْتَقط لَا يجب عَلَيْهِ أَن يدْفع اللّقطَة إِلَى السُّلْطَان، سَوَاء كَانَت قَليلَة أَو كَثِيرَة، لِأَن السّنة وَردت بِأَن وَاجِد اللّقطَة هُوَ الَّذِي يعرفهَا دون غَيره، لقَوْله: عرفهَا، إلاَّ إِذا كَانَ الْمُلْتَقط غير أَمِين، فَإِن السُّلْطَان يَأْخُذهَا مِنْهُ ويدفعها إِلَى أَمِين ليعرفها على مَا نذكرهُ عَن قريب، وَأَشَارَ بهَا أَيْضا إِلَى رد قَول من يفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير حَيْثُ يَقُولُونَ: إِن كَانَ قَلِيلا يعرفهُ وَإِن كَانَ كثيرا يرفعهُ إِلَى بَيت المَال، وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى ذَلِك: الْأَوْزَاعِيّ، وَفرق بَعضهم بَين اللّقطَة والضوال، وَفرق بعض الْمَالِكِيَّة وَبَعض الشَّافِعِيَّة بَين المؤتمن وَغَيره، فالزموا المؤتمن بالتعريف، وَأمرُوا بدفعها إِلَى السُّلْطَان فِي غير المؤتمن ليعطيها لمؤتمن يعرفهَا.
8342 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ رَبيعَةَ عنْ يَزيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ بنِ خالدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ أعرابِياً سألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ اللُّقَطَةِ قَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً فإنْ جاءَ أحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا ووِكَائِهَا وإلاَّ فاسْتَنْفِقْ بِها وسألَهُ عنْ ضالَّةِ الإبِلِ فتَمَعَّرَ وَجُهُهُ وَقَالَ مالَكَ ولَهَا مَعَها سِقاؤُها وحذَاؤُها تَردُ الماءَ وتأكُلُ الشِّجَرَ دَعْها حتَّى يَجِدَها رَبُّها وسألَهُ عنْ ضالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ هِيَ لَكَ أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لَا يجب على الْمُلْتَقط دَفعهَا إِلَى السُّلْطَان، بل هُوَ يعرفهَا، وَهُوَ حَاصِل معنى قَوْله: (من عرف اللّقطَة وَلم يَدْفَعهَا إِلَى السُّلْطَان) ، والْحَدِيث مضى مكرراً مَعَ شَرحه.
21 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ كالفصل لما قبله، وَهَكَذَا وَقع بِغَيْر تَرْجَمَة، وَلَيْسَ هُوَ بموجود فِي رِوَايَة أبي ذَر.
9342 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا النَّضْرُ قَالَ أخبرنَا إسْرَائيلُ عنْ أبي إسحاقَ قَالَ أخبرَني الْبَراءُ عنْ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما وحدَّثنا عبدُ الله بنُ رَجاءٍ قَالَ حدَّثنا إسْرَائيلُ عنْ أبي إسْحاقَ عَن الْبَرَاءِ عنْ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ انْطَلَقْتُ فإذَا أنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أنْتَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فسَمَّاهُ فعَرَفْتُهُ فقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ هَلْ أنْتَ حالِبٌ لِي قَالَ نَعَمْ فأمَرْتُهُ فاعْتَقَلَ شَاة منْ غَنَمِهِ ثُمَّ أمَرْتُهُ أنْ يَنْفُضَ ضَرْعَها مِنَ الغُبَارِ ثُمَّ أمَرْتُهُ أنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إحْدَى كفَّيْهِ بِالأُخْرَى فحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وقَدْ جَعَلْتُ(12/282)
لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إدَاوَةً على فَمِها خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ علَى اللَّبَنِ حتَّى برَدَ أسْفَلُهُ فانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلْتُ اشْرَبْ يَا رسولَ الله فَشرِبَ حتَّى رَضِيتُ..
وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب الَّذِي كالفصل من الْبَاب المترجم الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن الْبَاب المترجم مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام اللّقطَة، وَهَذَا أَيْضا فِيهِ شَيْء يشبه حَاله حَال اللّقطَة، وَهُوَ الشّرْب من لبن غنم لَهَا راعٍ وَاحِد فِي الصَّحرَاء، وَهُوَ فِي حكم الضائع فِي هَذِه الْحَالة، فَصَارَ كالسوط أَو الْحَبل أَو نَحْوهمَا الَّذِي يُبَاح الْتِقَاطه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التلفيق بَينه وَبَين مَا تقدم آنِفا من حَدِيث: (لَا يحلبن أحد مَاشِيَة أحد؟) قلت: كَانَ هَهُنَا إِذن عادي أَو كَانَ صَاحبه صديق الصّديق، أَو كَانَ كَافِرًا حَرْبِيّا أَو كَانَ حَالهمَا حَال اضطرار أَو من جِهَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أولى بِالْمُؤْمِنِينَ. انْتهى. قلت: لَا تطلب الْمُطَابقَة إلاَّ بَين حَدِيث الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي ترْجم عَلَيْهِ، وَهَهُنَا الْبَاب الَّذِي فِيهِ هَذَا الحَدِيث مُجَرّد من التَّرْجَمَة، وَهُوَ دَاخل فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ: بَاب من عرف اللّقطَة وَلم يَدْفَعهَا إِلَى السُّلْطَان، وَالَّذِي ذكره الْكرْمَانِي لَيْسَ لَهُ مُنَاسبَة هَهُنَا أصلا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم مَا ذكره بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين: بَاب لَا يحتلب مَاشِيَة أحد إلاَّ بِإِذن، وَبَينهمَا ثَلَاثَة أَبْوَاب، وَالْأَصْل بَيَان الْمُطَابقَة بَين كل بَاب وَحَدِيثه.
ثمَّ إِن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه عَن النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل مصغر شَمل عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي عَن الْبَراء بن عَازِب. الثَّانِي: عَن عبد الله بن رَجَاء بن الْمثنى الفداني الْبَصْرِيّ أبي عَمْرو عَن إِسْرَائِيل ... إِلَى آخِره، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي الْهِجْرَة عَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن مَحْمُود عَن النَّضر. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن سَلمَة بن شبيب، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن أبي مُوسَى.
قَوْله: (فَإِذا أَنا) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (انْطَلَقت) ، أَي: حِين كَانَ مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَاصِدين الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (يَسُوق غنمه) ، جملَة حَالية. قَوْله: (هَل فِي غنمك من لبن؟) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَحكى عِيَاض رِوَايَة ضم اللَّام وَسُكُون الْبَاء أَي: شَاة ذَات لبن، كَذَا قَالَه بَعضهم: وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا اللَّبن، بِضَم اللَّام وَسُكُون الْبَاء جمع: لبنة، وَكَذَلِكَ لبن بِكَسْر اللَّام، وَعَن يُونُس يُقَال: كم لبن غنمك وَلبن غنمك؟ أَي: ذَوَات الدّرّ مِنْهَا. قَوْله: (فَأَمَرته) ، أَي: بالاعتقال، وَهُوَ الْإِمْسَاك، يُقَال: اعتقلت الشَّاة إِذا وضعت رجلهَا بَين فخذيك أَو ساقيك لتحلبها. قَوْله: (كثبة) ، بِضَم الْكَاف وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ قدر حلبة. وَقيل: الْقَلِيل مِنْهُ، وَقيل: الْقدح من اللَّبن. قَوْله: (إداوة) ، وَهِي الركوة.
وَفِي الحَدِيث من الْفَوَائِد: اسْتِصْحَاب الاداوة فِي السّفر وخدمة التَّابِع للمتبوع. وَفِيه: من التأدب والتنظيف مَا صنعه أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من نفض يَد الرَّاعِي ونفض الضَّرع، وَقَالَ ابْن بطال: سَأَلت بعض شيوخي عَن وَجه استجازة الصّديق لشرب اللَّبن من ذَلِك الرَّاعِي، فَقَالَ لي: يحْتَمل أَن يكون الشَّارِع قد كَانَ أذن لَهُ فِي الْحَرْب، وَكَانَت أَمْوَال الْمُشْركين لَهُ حَلَالا، فعرضته على الْمُهلب، فَقَالَ لي: لَيْسَ هَذَا بِشَيْء لِأَن الْحَرْب وَالْجهَاد إِنَّمَا فرض بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَغَانِم إِنَّمَا نزل تحليلها يَوْم بدر بِنَصّ الْقُرْآن، وَإِنَّمَا شرباه بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارف عِنْدهم فِي ذَلِك الزَّمن من المكارمات، وَرُبمَا استفهم بِهِ الصّديق الرَّاعِي من أَنه حالب أَو غير حالب؟ وَلَو كَانَ بِمَعْنى الْغَنِيمَة مَا استفهمه، ويحلب على مَا أَرَادَ الرَّاعِي أَو كره، وَالله أعلم.
بسمِ الله الرَّحْمان الرَّحيمِ
64 - (كِتابُ الْمَظَالِمُ والْغَضَبِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان تَحْرِيم الْمَظَالِم وَتَحْرِيم الْغَصْب، والمظالم جمع مظْلمَة مصدر ميمي من ظلم يظلم ظلما، وَأَصله: الْجور ومجاوزة الْحَد، وَمَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه الشَّرْعِيّ. وَقيل: التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه. والمظلمة أَيْضا اسْم مَا أَخذ مِنْك بِغَيْر حق، وَفِي الْمغرب الْمظْلمَة الظُّلم، وَاسم للمأخوذ فِي قَوْلهم: عِنْد فلَان مظلمتي وظلامتي أَي: حَقي الَّذِي أَخذ مني ظلما، وَالْغَصْب أَخذ مَال الْغَيْر ظلما وعدواناً. يُقَال: غصبه يغصبه غصبا فَهُوَ غَاصِب، وَذَاكَ مَغْصُوب، وَقيل: الْغَصْب(12/283)
الِاسْتِيلَاء على مَال الْغَيْر ظلما. وَقيل: أَخذ حق الْغَيْر بِغَيْر حق، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا هِيَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره سقط لفظ: كتاب هَكَذَا فِي الْمَظَالِم وَالْغَصْب، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: كتاب الْغَصْب: بَاب فِي الْمَظَالِم.
وقَوْلِ الله تعَالى: {ولاَ تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الْظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ الْمُقْنِعُ والْمُقْمِحُ واحِدٌ (إِبْرَاهِيم: 412، 24 و 34) .
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر من قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . إِلَى قَوْله: {عَزِيز ذُو انتقام} (ابراهيم: 64) . وَهِي سِتّ آيَات فِي أَوَاخِر سُورَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة غَيره: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . وسَاق الْآيَة فَقَط. قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . إِن كَانَ الْخطاب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَعْنَاه التثبيت على مَا كَانَ عَلَيْهِ من أَنه لَا يحسبه غافلاً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} (الْأَنْعَام: 41، يُونُس: 501، الْقَصَص: 78) . وَإِن كَانَ الْخطاب لغيره مِمَّن يجوز أَنه يحسبه غافلاً لجهله بصفاته فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير شَيْء. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن يُرَاد: وَلَا تحسبنه يعاملهم مُعَاملَة الغافل عَمَّا يعْملُونَ، وَلَكِن مُعَاملَة الرَّقِيب عَلَيْهِم المحاسب على النقير والقطمير. قَوْله: {إِنَّمَا يؤخرهم ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: أَبْصَارهم، لَا تقرّ فِي أماكنهم من هول مَا ترى. قَوْله: {مهطعين} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . يَعْنِي: مُسْرِعين إِلَى الدَّاعِي، وَقيل: الإهطاع: أَن تقبل ببصرك على المرئي وتديم النّظر إِلَيْهِ لَا تطرف. قَوْله: {مقنعي رؤوسهم} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: رافعي رُؤْسهمْ، كَذَا فسره مُجَاهِد: {وَلَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: لَا يطرفون، وَلَكِن عيونهم مَفْتُوحَة ممدودة من غير تَحْرِيك الأجفان {وأفئدتهم هَوَاء} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: خلاء، وَهُوَ الَّذِي لم تشغله الأجرام أَي: لَا فوة فِي قُلُوبهم وَلَا جَرَاءَة وَيُقَال للأحمق أَيْضا: قلبه هَوَاء، وَعَن ابْن جريج: هَوَاء أَي: صفر من الْخَيْر خَالِيَة عَنهُ. قَوْله: (الْمقنع والمقمح وَاحِد) ، كَذَا ذكره أَبُو عُبَيْدَة، أَي: هَذِه الْكَلِمَة بالنُّون وَالْعين وبالميم والحاء مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَهُوَ: رفع الرَّأْس. وَحكى ثَعْلَب أَن لَفْظَة: اقنع مُشْتَرك بَين مَعْنيين، يُقَال؛ أقنع إِذا رفع رَأسه، واقنع إِذا يطأطئه، وَيحْتَمل الْوَجْهَيْنِ هُنَا: أَن يرفع رَأسه ينظر ثمَّ يطاطئه ذلاً وخضوعاً.
وقالَ مُجَاهِدٌ مُهْطِعِينَ أيْ مُدِيمِي النَّظَرَ ويقالُ مُسْرِعِينَ {لَا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وأفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . يَعْنِي جُوفاً لاَ عُقُولَ لَهُمْ
تَفْسِير مُجَاهِد أخرجه الْفرْيَابِيّ عَنهُ، وَقد ذكرنَا معنى: {لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم وأفئدتهم هَوَاء} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . قَوْله: (جوفاً) بِضَم الْجِيم جمع: أجوف، قَوْله: (يَعْنِي، لَا عقول لَهُم) كَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة فِي (الْمجَاز) ، وَقيل: معنى: {وأفئدتهم هَوَاء} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . نزعت أفئدتهم من أَجْوَافهم.
وأنْذِرْ الناسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنَا إِلَى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِع الرُّسُلَ أوَ لَمْ تَكُونُو أقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مالَكُمْ مِنْ زوَالٍ وسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ وتبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمْ الأمْثَالَ وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلفٌ وعْدِهِ رُسُلَهُ إِن الله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (ابراهيم: 64) .
قد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة أبي ذَر سيق من قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . إِلَى قَوْله: {عَزِيز ذُو انتقام} (ابراهيم: 64) . سِتّ آيَات، وَفِي رِوَايَة غَيره آيَة وَاحِدَة فَقَط وَهِي الْآيَة الأولى. قَوْله: {وانذر النَّاس} الْخطاب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بإنذار النَّاس وتخويفهم. قَوْله: {يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب} (ابراهيم: 64) . وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ مفعول ثَان: لأنذر. قَوْله: {أخرنا إِلَى أجل قريب} (ابراهيم: 64) . يَعْنِي: ردنا إِلَى الدُّنْيَا وأمهلنا إل أجل وحد من الزَّمَان قريب نتدارك مَا فرطنا فِيهِ من إِجَابَة دعوتك وَاتِّبَاع رسلك. قَوْله: {أَو لم تَكُونُوا أقسمتم} (ابراهيم: 64) . أَي: يُقَال لَهُم: أَو لم تَكُونُوا حلفتم أَنكُمْ باقون فِي الدُّنْيَا لَا تزالون بِالْمَوْتِ والفناء حَتَّى كَفرْتُمْ بِالْبَعْثِ وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا من قبلكُمْ {وَتبين لكم} (ابراهيم: 64) . ظهر لكم مَا فعلنَا بهم من أَنْوَاع الزَّوَال بموتهم وخراب مساكنهم والانتقام مِنْهُم، بَعْضهَا بِالْمُشَاهَدَةِ(12/284)
وَبَعضهَا بالإخبار {وضربنا لكم الْأَمْثَال} (ابراهيم: 64) . أَي: صِفَات مَا فعلوا بالأمثال المضروبة لكل ظَالِم. قَوْله: {وَقد مكروا مَكْرهمْ} (ابراهيم: 64) . يَعْنِي: بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين هموا بقتْله {وَعند الله مَكْرهمْ} (ابراهيم: 64) . أَي: عَالم بِهِ لَا يخفى عَلَيْهِ، فيجازيهم. قَوْله: {وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال} (ابراهيم: 64) . يَعْنِي: وَإِن كَانَ مَكْرهمْ ليبلغ فِي الكيد إِلَى إِزَالَة الْجبَال، فَإِن الله ينصر دينه، وَالْمرَاد بالجبال هُنَا: الاسلام، وَقيل: جبال الأَرْض مُبَالغَة، وَالْأول اسْتِعَارَة، ثمَّ طمن قلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: {وَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله إِن الله عَزِيز} (ابراهيم: 64) . أَي: منيع {ذُو انتقام} (ابراهيم: 64) . من الْكفَّار.
1 - (بابُ قِصَاص الْمَظَالِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصاص الْمَظَالِم يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقصاص اسْم بِمَعْنى الْمُقَاصَّة، وَهُوَ مقاصة ولي الْمَقْتُول الْقَاتِل، والمجروح الْجَارِح، وَهِي مساواته إِيَّاه فِي قتل أَو جرح، ثمَّ عَم فِي كل مُسَاوَاة، وَيُقَال: أقصه الْحَاكِم يقصه إِذا مكنه من أَخذ الْقصاص.
0442 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا معاذُ بنُ هِشامٍ قَالَ حدَّثني أبي عَن قَتَادَةَ عنْ أبِي الْمُتَوَكِّل النَّاجي عنْ أبِي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا خلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ فيَتَقَاصُّونَ مَظالِمَ كانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيا حتَّى إِذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجنَّةِ فَوَالَّذِي نفْسُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ لأَحَدُهُم بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كانَ فِي الدُّنْيَا. (الحَدِيث 0442 طرفه فِي: 5356) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فيقاصون مظالم كَانَت بَينهم) وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، ومعاذ بن هِشَام الْبَصْرِيّ، سكن نَاحيَة الْيمن، يكنى أَبَا عبد الله، وَأَبوهُ هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي، ودستواء من نَاحيَة الأهواز، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دؤاد، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة الأولى النَّاجِي، بالنُّون وبالجيم وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، سعيد بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَقد ترْجم هُنَاكَ فِي: بَاب الْقصاص يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: (إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ) ، بِفَتْح اللَّام أَي: إِذا سلمُوا ونجوا من النَّار، وَالْمرَاد بعض الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (حبسوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: عرفُوا. قَوْله: (بقنطرة) ، قَالَ ابْن التِّين: القنطرة كل شَيْء ينصب على عين أَو وَاد، وَقَالَ الْهَرَوِيّ سمي الْبناء قنطرة لتكاثف بعض الْبناء على بعض، وسماها الْقُرْطُبِيّ: الصِّرَاط الثَّانِي وَالْأول لأهل الْمَحْشَر، كلهم إلاَّ من دخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب أَو يلتقطه عنق من النَّار، فَإِذا خلص من الْأَكْبَر وَلَا يخلص مِنْهُ إلاَّ الْمُؤْمِنُونَ، حبسوا على صِرَاط خَاص بهم، وَلَا يرجع إِلَى النَّار من هَذَا أحد، وَهُوَ معنى قَوْله إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ من النَّار أَي: من الصِّرَاط الْمَضْرُوب على النَّار، وَقَالَ مقَاتل: إِذا قطعُوا جسر جَهَنَّم حبسوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، فَإِذا هذبوا قَالَ لَهُم رضوَان: {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين} (الزمر: 37) . قَوْله: (بَين الْجنَّة وَالنَّار) ، أَي: بقنظرة كائنة بَين الْجنَّة والصراط الَّذِي على متن النَّار، وَلِهَذَا سمي بالصراط الثَّانِي، وَبِهَذَا يرد على بَعضهم فِي قَوْله بقنطرة: الَّذِي يظْهر أَنَّهَا طرف الصِّرَاط مِمَّا يَلِي الْجنَّة، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيره بَين الصِّرَاط وَالْجنَّة. انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله، مَا هَذَا التَّصَرُّف بالتعسف، فَإِن الحَدِيث مُصَرح بِأَن تِلْكَ القنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَهُوَ يَقُول: إِنَّهَا طرف الصِّرَاط، وطرف الصِّرَاط من الصِّرَاط، وَقَوله بيه، يدل على أَنَّهَا قنطرة مُسْتَقلَّة غير مُتَّصِلَة بالصراط، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى قطعا. وَجعل هَذَا الْقَائِل هَذَا الْمَعْنى بِالِاحْتِمَالِ وَمَا غر هَذَا الْقَائِل إلاَّ حِكَايَة ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ: أَن القنطرة هُنَا يحْتَمل أَن تكون طرف الصِّرَاط، والكرماني أَيْضا تصرف هُنَا قَرِيبا من كَلَام الدَّاودِيّ، حَيْثُ قَالَ: قَوْله: قنطرة. فَإِن قلت: هَذَا يشْعر بِأَن فِي الْقِيَامَة جسرين، هَذَا وَالْآخر على متن جَهَنَّم الْمَشْهُور بالصراط. قلت: لَا مَحْذُور فِيهِ، وَلَئِن ثَبت بِالدَّلِيلِ أَنه وَاحِد فَلَا بُد من تَأْوِيله: أَن هَذِه القنطرة من تَتِمَّة الصِّرَاط وذنابته، وَنَحْو ذَلِك، انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله، فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا السُّؤَال بقوله: يشْعر ... إِلَى آخِره لِأَنَّهُ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن(12/285)
القنطرة الْمَذْكُورَة غير الصِّرَاط، وَلَا من تتمته كَمَا ذكرنَا، وَقَوله: وَلَئِن ثَبت، وَلم يثبت ذَلِك، فَلَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل الَّذِي ذكره. قَوْله: (فيتقاصون) ، بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: من الْقصاص، يَعْنِي: يتبع بَعضهم بَعْضًا فِيمَا وَقع بَينهم من الْمَظَالِم الَّتِي كَانَت بَينهم فِي الدُّنْيَا فِي كل نوع من الْمَظَالِم الْمُتَعَلّقَة بالأبدان، وَالْأَمْوَال. وَقَالَ ابْن بطال: الْمُقَاصَّة فِي هَذَا الحَدِيث هِيَ لقوم دون قوم، هم قوم لَا تستغرق مظالمهم جَمِيع حسناتهم، لِأَنَّهَا لَو استغرقت جَمِيع حسناتهم لكانوا مِمَّن وَجب لَهُم الْعَذَاب، وَلما جَازَ أَن يُقَال فيهم: خلصوا من النَّار، فَمَعْنَى الحَدِيث، وَالله أعلم، على الْخُصُوص لمن لم يكن لَهُم تبعات يسيرَة، إِذْ الْمُقَاصَّة أَصْلهَا فِي كَلَام الْعَرَب مقاصصة، وَهِي مفاعلة، وَلَا يكون أبدا إلاَّ بَين اثْنَيْنِ: كالمشاتمة والمقاتلة، فَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُم على أَخِيه مظْلمَة، وَعَلِيهِ لَهُ مظْلمَة، وَلم يكن فِي شَيْء مِنْهَا مَا يسْتَحق عَلَيْهِ النَّار فيتقاصون بِالْحَسَنَاتِ والسيئات، فَمن كَانَت مظلمته أَكثر من مظْلمَة أَخِيه أَخذ من حَسَنَاته، فَيدْخلُونَ الْجنَّة ويقتطعون فِيهَا الْمنَازل على قدر مَا بَقِي لكل وَاحِد مِنْهُم من الْحَسَنَات، فَلهَذَا يتقاصصون بعد خلاصهم من النَّار لِأَن أحدا لَا يدْخل الْجنَّة ولأحد عَلَيْهِ تباعة، وَقَالَ الْمُهلب: هَذِه الْمُقَاصَّة إِنَّمَا تكون فِي الْمَظَالِم فِي الْأَبدَان، من اللَّطْمَة وَشبههَا مِمَّا يُمكن فِيهِ أَدَاء الْقصاص بِحُضُور بدنه، فَيُقَال للمظلوم: إِن شِئْت أَن تنتصف وَإِن شِئْت أَن تَعْفُو. وَقَالَ غَيره: لَا قصاص فِي الْآخِرَة فِي الْعرض وَالْمَال وَغَيره إلاَّ بِالْحَسَنَاتِ والسيئات. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن أَبَا الْفضل ذكر فِي كتاب (التَّرْغِيب والترهيب) بِسَنَد صَالح عَن سعيد بن الْمسيب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا فرغ الله من الْقَضَاء أقبل على الْبَهَائِم حَتَّى إِنَّه ليجعل للجماء الَّتِي نطحتها القرناء قرنين فتنطح بهما الْأُخْرَى، وَيُقَال: معنى يتقاصون يتتاركون، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع مقاصة وَلَا محاسبة، لَكِن يلقِي الله، عز وَجل، فِي قُلُوبهم الْعَفو لبَعْضهِم عَن بعض، أَو يعوض الله بَعضهم من بعض. قَوْله: (حَتَّى إِذا نقوا) ، بِضَم النُّون وَتَشْديد الْقَاف: من التنقية، وَهُوَ إِفْرَاد الْجيد من الرَّدِيء، وَوَقع للمستملي هُنَا: حَتَّى إِذا تقصوا، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، أَي: أكملوا التَّقَاصّ. قَوْله: (وهذبوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّهْذِيب، وَهُوَ التَّلْخِيص من الآثام بمقاصصة بَعضهم بِبَعْض، وَيشْهد لهَذَا الحَدِيث قَوْله فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي ذكره فِي التَّوْحِيد: لَا يحل لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة ولأحد قِبَلَهُ مظْلمَة.
فَإِن قلت: ذكر الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيثا فِيهِ: أَن الْجنَّة بعد الصِّرَاط، وَهَذَا يُعَارض حَدِيث القنطرة؟ قلت: لَا، لِأَن المُرَاد بعد الصِّرَاط الثَّانِي هُوَ القنطرة كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أَصْحَاب الْحَشْر محبوسون بَين الْجنَّة وَالنَّار، يسْأَلُون عَن فضول أَمْوَال كَانَت بِأَيْدِيهِم، وَهَذَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب. قلت: لَا، لِأَن مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف لاخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس، لِأَن من الْمُؤمنِينَ من لَا يحبسون بل إِذا خَرجُوا بثوا على أَنهَار الْجنَّة. قَوْله: (لأَحَدهم) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَهِي مَفْتُوحَة، وأحدهم مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، فخبره قَوْله: أدل بمنزله الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُهلب: انماً، كَانَ أدل، لأَنهم عرفُوا مساكنهم، بتعريضها عَلَيْهِم بِالْغَدَاةِ والعشي. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ عَن عبد الله ابْن سَلام: أَن الْمَلَائِكَة تدلهم على طَرِيق الْجنَّة. قلت: لَا تعَارض، فَإِن هَذَا يكون مِمَّن لم يحبس على القنطرة وَلم يدْخل النَّار أَو يخرج مِنْهَا فيطرح على بَاب الْجنَّة، وَقد يحْتَمل أَن يكون ذَلِك فِي الْجَمِيع، فَإِذا وصلت بهم الْمَلَائِكَة، كَانَ كل أحد عرف بمنزله، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} (مُحَمَّد: 6) . وَقَالَ أَكثر أهل التَّفْسِير إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة يُقَال لَهُم: تفَرقُوا إِلَى مَنَازِلكُمْ، فهم أعرف بهَا من أهل الْجُمُعَة إِذا انصرفوا. وَقيل: إِن هَذَا التَّعْرِيف إِلَى الْمنَازل بِدَلِيل، وَهُوَ الْملك الْمُوكل بِعَمَل العَبْد يمشي بَين يَدَيْهِ، وَحَدِيث الْبَاب يردهُ، فَلْينْظر.
وقالَ يونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا شَيْبانُ عنْ قَتَادَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو الْمُتَوَكِّلِ
يُونُس بن مُحَمَّد: هُوَ أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ يكنى أَبَا مُعَاوِيَة، سكن الْكُوفَة وَأَصله بَصرِي وَكَانَ مؤدباً لبني دَاوُد بن عَليّ، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَأَبُو المتَوَكل النَّاجِي قد مر عَن قريب، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن مَنْدَه فِي (كتاب الْإِيمَان) وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهِ بَيَان سَماع قَتَادَة لهَذَا الحَدِيث من أبي المتَوَكل بطرِيق التحديث وَفِي (التَّلْوِيح) : رَوَاهُ أَيْضا أَبُو نعيم الْحَافِظ عَن أبي عَليّ مُحَمَّد بن أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن الْحُسَيْن بن مَيْمُون بن مُحَمَّد الْمروزِي حَدثنَا شَيبَان عَن قَتَادَة حَدثنَا أَبُو المتَوَكل، فَذكره. قيل: أَبُو نعيم رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد.(12/286)
2 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {ألاَ لَعْنَةُ الله علَى الظَّالِمِينَ} (هود: 81) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْمَلَائِكَة أَو الرُّسُل أَنهم يَقُولُونَ يَوْم الْقِيَامَة: {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . وَهَذَا آخر آيَة فِي سُورَة هود، وَأول الْآيَة هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . الأشهاد: هم الرُّسُل، وَقيل: الْمَلَائِكَة، وَقيل: النَّبِيُّونَ، وَقيل: أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشْهدُونَ على النَّاس، وَيَقُولُونَ: {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم} (هود: 81) . أَي: زَعَمُوا أَن لَهُ شَرِيكا وَولدا: {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . أَي: الْمُشْركين. والأشهاد: جمع شَاهد، مثل: نَاصِر وأنصار وَصَاحب وَأَصْحَاب. وَيجوز أَن يكون جمع: شَهِيد، مثل شرِيف وأشراف، ويوضح ذَلِك حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ صَفْوَان بن مُحرز عَن ابْن عمر، وَفِيه: فينادي على رُؤُوس الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم ألاَ لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) .
1442 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ أخْبرني قَتادَةُ عنْ صَفْوانَ ابنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ بَيْنَما أنَا أمْشِي مَعَ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا آخِذٌ بيَدِهِ إذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّجْواى فَقَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ الله يُدْنِي الْمُؤمِنَ فَيَضَعُ علَيْهِ كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ فيَقُولُ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذَا أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فيَقُولُ نَعَمْ أيْ رَبِّ حَتَّى إذَا قرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ورَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هلَكَ قَالَ سَتَرْتُهِا علَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنا أغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ فَيُعْطَى كَتابَ حَسَنَاتِهِ وأمَّا الكَافِرُ والْمُنَافِقُونَ فَيقُولُ {الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الذِينَ كَذَبُوا علَى رَبِّهِمْ ألاَ لَعْنَةُ الله علَى الظَّالِمِينَ} (هود: 81) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث، وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ، وَصَفوَان بن مُحرز، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالزاي: الْمَازِني الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد، وَفِي الْأَدَب وَفِي التَّوْحِيد عَن مُسَدّد أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي مُوسَى وَعَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن أبي عبيد الله وَفِي الرَّقَائِق عَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن حميد بن مسْعدَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، ويروى: بَينا، قَوْله: (آخذ بِيَدِهِ) أَي: بيد ابْن عمر، وآخذ على وزن فَاعل، مَرْفُوع على أَنه بدل من أَمْشِي، وَقد ذكر فِي مَوْضِعه أَنه يُبدل كل من الِاسْم وَالْفِعْل وَالْجُمْلَة من مثله. وَقَوله: (أَمْشِي) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر لمبتدأ. وَهُوَ قَوْله: (أَنا) وَسمي الْفِعْل الْمُضَارع مضارعاً أَي: مشابهاً لاسم الْفَاعِل فِي الحركات والسكنات وَغير ذَلِك، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز أَن يُبدل اسْم الْفَاعِل من الْمُضَارع، وَيجوز نصب: آخذ، على الْحَال من جِهَة الْعَرَبيَّة. قَوْله: (إِذْ عرض) جَوَاب: بَيْنَمَا. قَوْله: (فِي النَّجْوَى) أَي: الَّذِي يَقع بَين الله تَعَالَى وَبَين عَبده الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ فضل من الله تَعَالَى حَيْثُ يذكر الْمعاصِي للْعَبد سرا. قَوْله: (يدني) بِضَم الْيَاء من الإدناء وَهُوَ التَّقْرِيب الرتبي لَا المكاني. قَوْله: (فَيَضَع عَلَيْهِ كنفه) ، بِفَتْح النُّون وَالْفَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: الكنف الْجَانِب والساتر والعون، يُقَال: كنفت الرجل أَي: صنته وحطته وأعنته. انْتهى. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: كنفه حفظه وستره من أهل الْموقف وصونه عَن الخزي والتفضيح، مستعار من كنف الطَّائِر وَهُوَ جنَاحه يصون بِهِ نَفسه وَيسْتر بِهِ بيضه فيحفظه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا أَي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: كتفه، بالفوقانية. قلت: هَذِه الرِّوَايَة وَقعت من أبي ذَر عَن الْكشميهني. قَالَ عِيَاض: وَهُوَ تَصْحِيف قَبِيح. قَوْله: (الأشهاد) جمع شَاهد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (على الظَّالِمين) المُرَاد بالظلم هُنَا الْكفْر والنفاق وَلَيْسَ كل ظلم يدْخل فِي معنى الْآيَة، وَيسْتَحق اللَّعْنَة، لِأَنَّهُ لَا يكون عُقُوبَة الْكفْر عِنْد الله كعقوبة صغائر الذُّنُوب، واللعن الإبعاد والطرد، وَهَذَا الحَدِيث يبين أَن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} (التكاثر: 8) . إِن السُّؤَال عَن(12/287)
النَّعيم الْحَلَال إِنَّمَا هُوَ سُؤال تَقْرِير وتوقيف لَهُ على نعمه الَّتِي أنعم بهَا عَلَيْهِ، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى يوقفه على ذنُوبه الَّتِي عَصَاهُ فِيهَا ثمَّ يغفرها لَهُ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فسؤاله عباده عَن النَّعيم الْحَلَال أولى أَن يكون سُؤال تَقْرِير لَا سُؤال حِسَاب وانتقام.
وَفِيه: حجَّة لأهل السّنة أَن أهل الذُّنُوب من الْمُؤمنِينَ لَا يكفرون بِالْمَعَاصِي، كَمَا زعمت الْخَوَارِج. وَفِيه: حجَّة أَيْضا على الْمُعْتَزلَة فِي مغْفرَة الذُّنُوب إلاَّ الْكَبَائِر.
3 - (بابٌ لَا يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُسْلِمُهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يظلم الْمُسلم الْمُسلم، الأول: مَرْفُوع على الفاعلية، وَالثَّانِي: مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (وَلَا يُسلمهُ) بِضَم الْيَاء، يُقَال: أسلم فلَان فلَانا إِذا أَلْقَاهُ إِلَى الهلكة وَلم يحمه من عدوه، وَيُقَال: معنى (لَا يُسلمهُ) : لَا يتْركهُ مَعَ من يُؤْذِيه، بل ينصره وَيدْفَع عَنهُ.
2442 - حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ سالِماً أخبرهُ أنَّ عبدَ الله بن عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبرهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ ولاَ يُسْلِمُهُ ومَنْ كانَ فِي حاجَةِ أخِيهِ كانَ الله فِي حاجَتِهِ ومَنْ فَرَّجَ عنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيامَةِ ومَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله يوْمَ الْقِيَامَةِ. (الحَدِيث 2442 طرفه فِي: 1596) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِكْرَاه عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْحُدُود. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم.
وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من نفس عَن مُسلم كربَة من كرب الدُّنْيَا نفس الله عَنهُ كربَة من كرب يَوْم الْقِيَامَة، وَمن يسر على مُعسر فِي الدُّنْيَا يسر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَمن ستر على مُسلم فِي الدُّنْيَا ستر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه) . وَعَن عقبَة بن عَامر أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي الْهَيْثَم عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من رأى عَورَة فسترها كَانَ كمن أحيى موؤدة) زَاد الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) : (من قبرها) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَعَن ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (من ستر عَورَة أَخِيه الْمُسلم ستر الله عَوْرَته يَوْم الْقِيَامَة) . وَعَن كَعْب بن عجْرَة أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن كَعْب بن عجْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من نفس عَن مُؤمن كربَة نفس الله عَنهُ كربَة يَوْم الْقِيَامَة، وَمن ستر على مُؤمن عَورَة ستر الله عَلَيْهِ عَوْرَته يَوْم الْقِيَامَة، وَمن فرج عَن مُؤمن كربَة فرج الله عَنهُ كربته) . وَعَن مسلمة ابْن مخلد أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي أَيُّوب عَنهُ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من ستر مُسلما فِي الدُّنْيَا ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) الحَدِيث، وَإِسْنَاده صَحِيح. وَعَن أبي سعيد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يرى مُؤمن من أَخِيه عَورَة فيسترها عَلَيْهِ إلاَّ أدخلهُ الله الْجنَّة) . وَعَن جَابر بن عبد الله أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ستر على أَخِيه عَورَة فَكَأَنَّمَا أَحْيَا موؤدة) وَضَعفه ابْن عدي. وَعَن نبيط بن شريط أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) عَن أَحْمد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نبيط بن شريط عَن أَبِيه عَن جده عَن أَبِيه نبيط، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ستر عَورَة حُرْمَة مُؤمنَة ستره الله من النَّار) . وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب الثَّوَاب) من رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْعُكَّاشِي عَن عَمْرو بن وثاب عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ستر مُؤمنا فَكَأَنَّمَا يستر الله عز وَجل) ، والعكاشي ضَعِيف.(12/288)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمُسلم أَخُو الْمُسلم) ، يَعْنِي أَخُوهُ فِي الْإِسْلَام، وكل شَيْئَيْنِ يكون بَينهمَا اتِّفَاق تطلق عَلَيْهِمَا اسْم الْأُخوة. وَقَوله: الْمُسلم، تنَاول الْحر وَالْعَبْد والبالغ والمميز. قَوْله: (وَلَا يَظْلمه) ، نفي بِمَعْنى الْأَمر وَهُوَ من بَاب التَّأْكِيد، لِأَن ظلم الْمُسلم للْمُسلمِ حرَام. قَوْله: (وَلَا يُسلمهُ) ، قد فسرناه الْآن، وَزَاد الطَّبَرَانِيّ فِي رِوَايَته عَن سَالم: وَلَا يُسلمهُ فِي مصيبته. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يَظْلمه فرض، وَلَا يُسلمهُ مُسْتَحبّ. وَظَاهر كَلَام الدَّاودِيّ أَنه كظلمه، قَالَ: وَفِيه تَفْصِيل الْوُجُوب إِذا فجئه عَدو وَشبه ذَلِك، والاستحباب فِيمَا كَانَ من إِعَانَة فِي شَيْء من الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْن بطال: نصر الْمَظْلُوم فرض كِفَايَة وتتعين فرضيته على السُّلْطَان. قلت: الْوُجُوب والاستحباب بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحْوَال، والستر على الْمُسلم لَا يمْنَع الْإِنْكَار عَلَيْهِ خُفْيَة وَهَذَا فِي غير المجاهر، وَأما المجاهر فخارج عَن هَذَا وَلَا غيبَة لَهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر؟ مَتى يعرفهُ النَّاس؟ أذكروه بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس) ، رَوَاهُ صَاحب (التَّلْوِيح) : بِإِسْنَادِهِ عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هُوَ ضَعِيف، وجد بهز هُوَ مُعَاوِيَة بن حيدة بن مُعَاوِيَة الْقشيرِي، وَعَن يحيى بن معِين بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده إِسْنَاده صَحِيح إِذا كَانَ دونه ثِقَة. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: بهز شيخ يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ حجَّة عِنْدِي، اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) وروى لَهُ فِي (الْأَدَب) وروى لَهُ الْأَرْبَعَة. قَوْله: (كربةَ) ، بِضَم الْكَاف: وَهُوَ الْغم الَّذِي يَأْخُذ النَّفس، وَكَذَلِكَ الكرب على وزن الضَّرْب، تَقول مِنْهُ: كربه الْغم إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ. قَوْله: (من كربات) ، جمع كربَة، ويروى: من كرب، بِضَم الْكَاف وَفتح الرَّاء. وَابْن التِّين اقْتصر على الأول، وَقَالَ: ضبط بِضَم الرَّاء وَيجوز فتحهَا وإسكانها. قَوْله: (وَمن ستر مُسلما) ، أَي: رَآهُ على قَبِيح فَلم يظهره للنَّاس، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي ترك الْإِنْكَار عَلَيْهِ خُفْيَة.
وَفِي الحَدِيث: حض على التعاون وَحسن المعاشرة والإلفة والستر على الْمُؤمن وَترك التسمع بِهِ والإشهار لذنوبه. وَفِيه: أَن المجازاة قد تكون فِي الْآخِرَة من جنس الطَّاعَة فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الحَدِيث يحتوي على كثير من آدَاب الْمُسلمين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: السّتْر إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْصِيّة وَقعت وَانْقَضَت، أما فِيمَا تلبس الشَّخْص فَيجب الْمُبَادرَة بإنكارها وَمنعه مِنْهَا، وَأما مَا يتَعَلَّق بِجرح الروَاة وَالشُّهُود فَلَا يحل السّتْر عَلَيْهِم، وَلَيْسَ هَذَا من الْغَيْبَة الْمُحرمَة، بل من النَّصِيحَة الْوَاجِبَة.
4 - (بابٌ أعِنْ أخاكَ ظالِماً أوْ مَظْلُوماً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِعَانَة أَخِيه سَوَاء كَانَ ظَالِما أَو مَظْلُوما.
3442 - حدَّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا هُشَيْمٌ أخبرنَا عُبيدُ الله بنُ أبي بَكْرِ بنِ أنَسٍ وحُمَيدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْصُرْ أخاكَ ظالِماً أوْ مَظْلُوماً.
4442 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أَنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْصُرْ أخاكَ ظالِماً أوْ مظْلُوماً قَالُوا يَا رسولَ الله هاذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُوماً فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظالِماً قَالَ تأخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 3442 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما) . فَإِن قلت: الحَدِيث: أنْصر أَخَاك. قلت: النُّصْرَة تَسْتَلْزِم الْإِعَانَة فَيَكْفِي هَذَا الْمِقْدَار فِي وَجه الْمُطَابقَة. وَقيل: أَشَارَ بِلَفْظ الْإِعَانَة إِلَى مَا رُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا: أعن أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من الْوَجْه الَّذِي أخرجه مِنْهُ البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وروى هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن عُثْمَان مُخْتَصرا، والْحَدِيث من أَفْرَاده، وهشيم مصغر هشم ابْن بشير مصغر بشر الوَاسِطِيّ، وَعبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (سمع) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: حميد، ويروى: سمعا، بالتثنية وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: حميد وَعبيد الله. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر بِلَفْظ الْفَاعِل من الاعتمار ابْن سُلَيْمَان الْبَصْرِيّ عَن حميد الطَّوِيل، وَفِي هَذَا من الزِّيَادَة، وَهِي قَوْله: قَالُوا: يَا رَسُول الله ... إِلَى آخِره، وَهِي رِوَايَة أبي الْوَقْت. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْإِكْرَاه:(12/289)
وَقَالَ رجل. وَفِي رِوَايَة: قَالَ: يَا رَسُول الله! بِالْإِفْرَادِ، وَرِوَايَة: قَالَ رجل، يُوضح أَن فَاعل قَالَ مُضْمر فِيهِ يرجع إِلَى الرجل، قَوْله: (هَذَا) ، إِشَارَة إِلَى مَا فِي ذهنهم من الرجل الَّذِي ينصرونه. (ومظلوماً) نصب على الْحَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: ننصره، وَكَذَلِكَ: (مَظْلُوما) نصب على الْحَال. قَوْله: (تَأْخُذ فَوق يَدَيْهِ) أَي: تَمنعهُ عَن الظُّلم، وَكلمَة: فَوق، مقحمة، أَو ذكرت إِشَارَة إِلَى الْأَخْذ بالاستعلاء وَالْقُوَّة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث حميد عَن أنس، قَالَ: تكفه عَن الظُّلم فَذَاك نَصره إِيَّاه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث جَابر: إِن كَانَ ظَالِما فلينهه، فَإِنَّهُ لَهُ نصْرَة. وَقَوله: تَأْخُذ، يدل على أَن الْقَائِل وَاحِد، وَلَو كَانَ جمعا لقَالَ: تأخذون، وَقَالَ ابْن بطال: النَّصْر عِنْد الْعَرَب الْإِعَانَة، وَتَفْسِيره لنصر الظَّالِم بِمَنْعه من الظُّلم من تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يؤول إِلَيْهِ، وَهُوَ من وجيز البلاغة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ مَعْنَاهُ: أَن الظَّالِم مظلوم فِي نَفسه فَيدْخل فِيهِ ردع الْمَرْء عَن ظلمه لنَفسِهِ حسا وَمعنى، فَلَو رأى إنْسَانا يُرِيد أَن يجب نَفسه لظَنّه أَن ذَلِك يزِيل مفسده طلبه للزِّنَا، مثلا، مَنعه من ذَلِك، وَكَانَ ذَلِك نصرا لَهُ، واتحد فِي هَذِه الصُّورَة الظَّالِم والمظلوم. وَفِي (التَّلْوِيح) : ذكر الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ فِي كِتَابه (الفاخر) : أَن أول من قَالَ: أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، جُنْدُب ابْن العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم، بقوله لسعد بن زيد مَنَاة لما أسر:
(يَا أَيهَا الْمَرْء الْكَرِيم المكسوم ... أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مظلوم)
وَأنْشد التاريخي للأسلع بن عبد الله:
(إِذا أَنا لم أنْصر أخي وَهُوَ ظَالِم ... على الْقَوْم لم أنْصر أخي حِين يظلم)
فأرادوا بذلك مَا اعتادوه من حمية الْجَاهِلِيَّة، لَا على مَا فسره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
5 - (بابُ نَصْرِ الْمَظْلُومِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب نصر الْمَظْلُوم.)
5442 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ الرَّبِيع قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الأشْعَثِ بنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعاوِيَةَ بنَ سُوَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ بنَ عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أمَرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبْعٍ ونهَانا عنْ سَبْعٍ فذَكَرَ عِيادَةَ الْمَرِيضِ واتِّباعَ الْجَنائِزِ وتَشْميتَ العاطِسِ ورَدَّ السَّلاَمِ ونَصْرَ الْمَظْلُومِ وإجَابَةَ الدَّاعِي وإبْرَارَ الْمُقْسِمِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَنصر الْمَظْلُوم) وَهُوَ أحد السَّبْعَة الْمَذْكُورَة.
وَرِجَاله خَمْسَة قد ذكرُوا، وَسَعِيد بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء: الْبَصْرِيّ بياع الثِّيَاب الهروية، مر فِي جَزَاء الصَّيْد، والأشعث بن سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة: الْكُوفِي المكنى بِأبي الشعْثَاء، مر فِي التَّيَمُّن فِي الْوضُوء، وَمُعَاوِيَة بن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة: مر مَعَ الحَدِيث فِي أول الْجَنَائِز.
والْحَدِيث مر فِي: بَاب الْأَمر بِاتِّبَاع الْجَنَائِز، مَعَ اشتماله على السَّبْعَة الْمنْهِي عَنْهَا بالسند الْمَذْكُور، إِلَّا شَيْخه، فَإِنَّهُ هُنَاكَ: أَبُو الْوَلِيد عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وإبرار الْمقسم) ، ويروي: (وإبرار الْقسم) ، قَالَ الْعلمَاء: نصر الْمَظْلُوم فرض وَاجِب على الْمُؤمنِينَ على الْكِفَايَة، فَمن قَامَ بِهِ سقط عَن البَاقِينَ، وَيتَعَيَّن فرض ذَلِك على السُّلْطَان، ثمَّ على من لَهُ قدرَة على نصرته إِذا لم يكن هُنَاكَ من ينصره غَيره من سُلْطَان وَشبهه، وعيادة الْمَرِيض سنة مرعية، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز من فروض الْكِفَايَة، وتشميت الْعَاطِس سنة، وَقيل: فرض كِفَايَة، حَكَاهُ ابْن بطال، وَبِه قَالَ ابْن سراقَة من الشَّافِعِيَّة، وَقيل: وَاجِب كرد السَّلَام، وَإجَابَة الدَّاعِي سنة إلاَّ أَنه فِي الْوَلِيمَة قيل: فرض عين، وَقيل: فرض كِفَايَة. وَقَالَ ابْن بطال: هُوَ فِي الْوَلِيمَة آكِد، وإبرار الْمقسم، مَنْدُوب إِلَيْهِ إِذا أقسم عَلَيْهِ فِي مُبَاح يَسْتَطِيع فعله، فَإِن أقسم على مَا لَا يجوز، أَو يشق على صَاحبه، لم ينْدب إِلَى الْوَفَاء بِهِ.
6442 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أَبُو أسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِي موساى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُد بَعضُهُ بَعْضاً وشَبَّكَ بيْنَ أصَابِعِهِ. (انْظُر الحَدِيث 184 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث: فَإِن الْمُؤمن إِذا شدّ الْمُؤمن فقد نَصره، وَأَبُو اسامة حَمَّاد بن أُسَامَة وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة، يروي عَن جده أبي بردة، بِضَم الْبَاء، وَاسم أبي بردة: الْحَادِث. وَقيل: عَامر، وَقيل: اسْمه كنيته، وَهُوَ ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
وَفِي هَذَا السَّنَد: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده، وَرِوَايَة الرَّاوِي(12/290)
عَن أَبِيه فَالْأول: بريد، وَالثَّانِي: أَبُو بردة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَغَيره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَرَوَاهُ هُنَاكَ عَن خَلاد بن يحيى عَن سُفْيَان عَن بريد إِلَى آخِره.
قَوْله: (بعضه) فِي رِوَايَة الْكشميهني: (يشد بَعضهم) ، بِصِيغَة الْجمع، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
6 - (بابُ الإنْتِصارِ مِنَ الظَّالِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِانْتِصَار، أَي: الانتقام.
لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَا يُحِبُّ الله الجهْرَ بالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ الله سَميعاً عَلِيماً (النِّسَاء: 841) .
هَذَا تَعْلِيل لجَوَاز الِانْتِصَار من الظَّالِم، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم} (النِّسَاء: 841) . يَقُول: لَا يحب الله أَن يَدْعُو أحد على أحد إلاَّ أَن يكون مَظْلُوما، فَإِنَّهُ قد أرخص لَهُ أَن يَدْعُو على من ظلمه، وَذَلِكَ قَوْله: {إِلَّا من ظلم} (النِّسَاء: 841) . وَإِن صَبر فَهُوَ خير لَهُ، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا الْمثنى بن الصَّباح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إلاَّ من ظلم} (النِّسَاء: 841) . قَالَ: ضاف رجل رجلا فَلم يؤد إِلَيْهِ حق ضيافته، فَلَمَّا خرج أخبر النَّاس، فَقَالَ: ضفت فلَانا فَلم يؤد إِلَيّ حق ضيافتي. قَالَ: فَذَلِك الْجَهْر بالسوء من القَوْل إلاَّ من ظلم حِين لم يؤد إِلَيْهِ الآخر حق ضيافته، وَقَالَ عبد الْكَرِيم بن مَالك الْجَزرِي، فِي هَذِه الْآيَة: هُوَ الرجل يشتمك فتشتمه، وَلَكِن إِن افترى عَلَيْك فَلَا تفتر عَلَيْهِ، لقَوْله تَعَالَى: {وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} (الشورى: 14) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (المستبان مَا قَالَا، فعلى البادىء مِنْهُمَا مَا لم يعتدِ الْمَظْلُوم) .
{والَّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشورى: 93) .
الْبَغي الظُّلم: أَي: الَّذين إِذا أَصَابَهُم بغي الْمُشْركين فِي الدّين انتصروا عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ، أَو إِذْ بغى عَلَيْهِم باغٍ كره أَن يستذلوا لِئَلَّا يجترىء عَلَيْهِم الْفُسَّاق، فَإِذا قدرُوا عفوا. وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ فِي قَوْله: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} (الشورى: 93) . قَالَ: يَعْنِي فَمن بغى عَلَيْهِم من غير أَن يعتدوا، وروى النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (دخلت على زَيْنَب بنت جحش فسبتني، فردعها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَبت، فَقَالَ لي: سبيهَا فسببتها حَتَّى جف رِيقهَا فِي فمها، فَرَأَيْت وَجهه يَتَهَلَّل) .
قَالَ إبْرَاهِيمُ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يُسْتَذَلُّوا فإذَا قَدَرُوا عَفَوْا
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ. قَوْله: (كَانُوا) أَي: السّلف. قَوْله: (أَن يستذلوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَهُوَ من الذلك، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) عَن قبيصَة عَنهُ، وَفِي رِوَايَة قَالَ مَنْصُور: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن قَوْله: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} (الشورى: 93) . قَالَ: كَانُوا يكْرهُونَ للْمُؤْمِنين أَن يذلوا أنفسهم فيجترىء الْفُسَّاق عَلَيْهِم.
7 - (بابُ عَفْوِ الْمَظْلُومِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حسن عَفْو الْمَظْلُوم عَمَّن ظلمه.
لِقَوْلِهِ تعالاى: {إنْ تُبْدُوا خَيْراً أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عنْ سِوءٍ فإنَّ الله كانَ عَفُوُّاً قَدِيراً} (النِّسَاء: 941) .
هَذَا تَعْلِيل لحسن عَفْو الْمَظْلُوم. قَوْله: {إِن تبدوا} (النِّسَاء: 941) . أَي: تظهروا {خيرا} (النِّسَاء: 941) . بَدَلا من السوء {أَو تُخْفُوهُ} (النِّسَاء: 941) . أَي: أَو أخفيتموه، أَو عفوتم عَمَّن أَسَاءَ إِلَيْكُم فَإِن ذَلِك مِمَّا يقربكم إِلَى الله تَعَالَى ويجزل ثوابكم لَدَيْهِ، فَإِن من صِفَاته تَعَالَى أَن يعْفُو عَن عباده مَعَ قدرته على عقابهم، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِن الله كَانَ عفوا قَدِيرًا} (النِّسَاء: 941) . وَلِهَذَا ورد فِي الْأَثر أَن حَملَة الْعَرْش يسبحون الله تَعَالَى، فَيَقُول بَعضهم: سُبْحَانَكَ على حلمك بعد علمك، وَيَقُول بَعضهم: سُبْحَانَكَ على عفوك بعد قدرتك. وَفِي (الصَّحِيح) : (مَا نقص مَال من صَدَقَة، وَمَا زَاد الله عبدا بِعَفْو إلاَّ عزا، وَمن تواضع لله رَفعه الله) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ(12/291)
لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (مَا من عبد ظلم مظْلمَة فَعَفَا عَنْهَا إلاَّ أعز الله بهَا نَصره) . وَأخرج الطَّبَرِيّ عَن السّديّ فِي قَوْله: {أَو تعفوا عَن سوء} (النِّسَاء: 941) . أَي: عَمَّن ظلم.
وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً مِثْلُهَا فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فأجْرُهُ عَلَى الله إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: 04) .
أَي: وَقَوله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة ... } (الشورى: 04) . وَقَوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة} (الشورى: 04) . إِلَى قَوْله: {من سَبِيل} (الشورى: 04) . آيَات متناسقة من سُورَة حم عسق، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله: {وَجَزَاء سية سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 04) . قَالَ: إِذا شتمك شتمته بِمِثْلِهَا من غير أَن تعتدي، وَعَن الْحسن رخص لَهُ إِذا سبه أحد أَن يسبه، وَيُقَال: يُرِيد بقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 04) . الْقصاص فِي الْجراح المتماثلة، وَإِذا قَالَ: أَخْزَاهُ الله، أَو: لَعنه الله، قابله بِمثلِهِ، وَسميت الثَّانِيَة: سَيِّئَة، لازدواج الْكَلَام ليعلم أَنه جَزَاء على الأولى.
{ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ولَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ وتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا العَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 14 44) .
اللَّام فِي: {وَلمن انتصر} للتَّأْكِيد أَي: انتقم. قَوْله: {بعد ظلمه} من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول. قَوْله: {فَأُولَئِك} إِشَارَة إِلَى معنى من دون لَفظه {مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} للمعاقب، وَالْمعْنَى: أَخذ حَقه بعد أَن ظلم فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل إِلَى لومه، وَقيل: مَا عَلَيْهِم من إِثْم، إِنَّمَا السَّبِيل باللوم وَالْإِثْم على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس، يبتدرون النَّاس بالظلم ويبغون فِي الأَرْض يتكبرون فِيهَا وَيقْتلُونَ ويفسدون عَلَيْهِم بِغَيْر الْحق، أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم أَي: مؤلم، وَلمن صَبر على الظُّلم والأذى وَلم ينتصر وفوض أمره إِلَى الله إِن ذَلِك الصَّبْر وَالْمَغْفِرَة مِنْهُ لمن عزم الْأُمُور، أَي: من الْأُمُور الَّتِي ندب إِلَيْهَا، والعزم: الْإِقْدَام على الْأَمر بعد الروية والفكر. قَوْله: {وَمن يضلل الله} أَي: وَمن يخلق الله تَعَالَى فِيهِ الضَّلَالَة، فَمَا لَهُ من ولي من بعده وَلَيْسَ لَهُ من نَاصِر يَتَوَلَّاهُ من بعد إضلاله إِيَّاه. قَوْله: {وَترى الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين لما رَأَوْا الْعَذَاب أَي: لما يرَوْنَ، فجَاء بِلَفْظ الْمَاضِي تَحْقِيقا {يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل؟} أَي: هَل إِلَى رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا من حِيلَة، فنؤمن بك؟ وَذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن عَفْو الْمَظْلُوم وصفحه واستحقاقه الْأجر الْجَمِيل وَالثَّوَاب الجزيل.
8 - (بابٌ الْظُّلْمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الظُّلم ظلمات، وَهُوَ جمع ظلمَة وَهُوَ خلاف النُّور، وَضم اللَّام فِيهِ لُغَة، وَيجوز فِي الظُّلُمَات ضم اللَّام وَفتحهَا وسكونها، وَيُقَال: أظلم اللَّيْل، والظلام أول اللَّيْل، والظلماء الظلمَة، وَرُبمَا وصف بهَا يُقَال لَيْلَة ظلماء، أَي: مظْلمَة، وظلم اللَّيْل بِالْكَسْرِ وأظلم بِمَعْنى، وَعَن الْفراء: أظلم الْقَوْم دخلُوا فِي الظلام، قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذا هم مظلمون} (يس: 73) . قَوْله: (يَوْم الْقِيَامَة) ، نصب على الظّرْف.
7442 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يونُسَ قَالَ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ الْمَاجِشُونُ أخبرنَا عَبْدُ الله بنُ دِينارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الظُّلْمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَأحمد هُوَ ابْن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن أبي سَلمَة الْمَاجشون، وَاسم أبي سَلمَة: دِينَار، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، والماجشون، بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَكسرهَا، وَهَذَا لقب يَعْقُوب بن أبي سَلمَة، وَسمي بذلك وَلَده وَأهل بَيته، وَلِهَذَا يرْوى هُنَا: عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون، وَلَيْسَ بلقب خَاص لعبد الْعَزِيز، وَسمي بذلك لِأَن وجنتيه كَانَتَا حمراوان، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقد مر عبد الْعَزِيز فِي الْعلم وَمر الْكَلَام فِي معنى الْمَاجشون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن حَاتِم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن عَبَّاس(12/292)
الْعَنْبَري وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَرَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق محَارب بن دثار عَن ابْن عمر، وَزَاد فِي أَوله: يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا الظُّلم ... وَفِي رِوَايَة: وَإِيَّاكُم وَالظُّلم، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: اتَّقوا الظُّلم فَإِن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقوا الشُّح ... الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الظُّلم يشْتَمل على معصيتين: أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر حق، ومبارزة الْآمِر بِالْعَدْلِ بالمخالفة، وَهَذِه أدهى، لِأَنَّهُ لَا يكَاد يَقع الظُّلم إلاَّ للضعيف الَّذِي لَا نَاصِر لَهُ غير الله، وَإِنَّمَا ينشأ من ظلمَة الْقلب، لِأَنَّهُ لَو استنار بِنور الْهَدْي لنظر فِي العواقب. وَقَالَ الْمُهلب: الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْقُرْآن: أَنَّهَا ظلمات على الْبَصَر حَتَّى لَا يَهْتَدِي سَبِيلا، قَالَ الله تَعَالَى فِي الْمُؤمنِينَ: {يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم وبأيمانهم} (الْحَدِيد: 21) . وَقَالَ فِي الْمُنَافِقين: {انظرونا نقتبس من نوركم} (الْحَدِيد: 31) . فأثاب الله الْمُؤمن بِلُزُوم نور الْإِيمَان لَهُم، ولذذهم بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وقوى بِهِ أَبْصَارهم، وعاقب الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ بِأَن أظلم عَلَيْهِم ومنعهم لَذَّة النّظر إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقَزاز: الظُّلم هُنَا الشّرك، أَي: هُوَ عَلَيْهِم ظلام وعمى، وَمن هَذَا زعم بعض اللغويين أَن اشتقاق الظُّلم من الظلام، كَأَن فَاعله فِي ظلام عَن الْحق، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
9 - (بابُ الإتِّقَاءِ والحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاتقاء أَي: الاجتناب وَالْخَوْف والحذر من دَعْوَة الْمَظْلُوم لِأَنَّهَا لَا ترد.
8442 - حدَّثنا يَحْياى بنُ مُوساى قَالَ حدَّثنا وكِيعٌ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عنْ يَحْياى بنُ عَبْدِ الله بنِ صَيْفِيّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ مُعاذاً إلاى اليَمَنِ فَقَالَ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فإنَّهَا لَيْسَ بَيْنَها وبيْنَ الله حجَابٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) . والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب أَخذ الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله عَن زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن يحيى بن مُوسَى ابْن عبد ربه أبي زَكَرِيَّاء السّخْتِيَانِيّ الْحدانِي الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، عَن وَكِيع بن الْجراح عَن زَكَرِيَّاء ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن دَعْوَة الْمَظْلُوم. ويروى: فَإِنَّهُ أَي: فَإِن الشَّأْن لَيْسَ بَين دَعْوَة الْمَظْلُوم وَبَين الله حجاب، وَمعنى عدم الْحجاب أَنَّهَا مجابة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر مُفَسرًا دَعْوَة الْمَظْلُوم مجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا.
01 - (بابُ مَنْ كَانتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلِمَتَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من كَانَت لَهُ مظْلمَة، أَي: الْمَأْخُوذ بِغَيْر حق عِنْد الرجل، ويروى: عِنْد رجل. قَوْله: (هَل يبين مظلمته؟) أَي: هَل يحْتَاج إِلَى بَيَان تِلْكَ الْمظْلمَة حَتَّى يَصح التَّحْلِيل؟ وَفِيه خلاف، فَلذَلِك لم يذكر جَوَاب: هَل.
9442 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إياسٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا سَعيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ كانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دِينارٌ ولاَ دِرْهَمٌ إنْ كانَ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. (الحَدِيث 9442 طرفه فِي: 4356) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، فَإِنَّهُ أَعم من أَن يبين قدر مَا يتَحَلَّل بِهِ، أَو لَا يبين، وَهَذَا يُقَوي قَول من قَالَ بِصِحَّة الْإِبْرَاء الْمَجْهُول، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من كَانَت لَهُ) ، قَالَ بَعضهم: اللَّام فِيهِ بِمَعْنى، على، أَي: من كَانَت عَلَيْهِ مظْلمَة لِأَخِيهِ. قلت:(12/293)
لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك، بل اللَّام هُنَا بِمَعْنى: عِنْد، كَقَوْلِهِم: كتبته لخمس خلون، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مَالك عَن المَقْبُري فِي الرقَاق بِلَفْظ: من كَانَت عِنْده مظْلمَة لِأَخِيهِ ... وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (مظْلمَة) ، قَالَ ابْن مَالك: مظْلمَة، بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا، وَالْكَسْر أشهر، وَقد رُوِيَ بِالضَّمِّ أَيْضا. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ الْقَزاز بِضَم اللَّام وَكسرهَا، وَفِي (أدب الْكَاتِب) لِابْنِ قُتَيْبَة بِفَتْح اللَّام، وَنقل ابْن التِّين عَن ابْن قُتَيْبَة فتح اللَّام وَكسرهَا. قَالَ: وَضبط عَن (الصِّحَاح) ضمهَا، وَهُوَ خطأ. قَوْله: (من عرضه) ، بِكَسْر الْعين، وَعرض الرجل مَوضِع الْمَدْح والذم مِنْهُ، سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه أَو من يلْزمه أمره، وَقيل: هُوَ جَانِبه الَّذِي يصونه من نَفسه وحسبه ويحامي عَنهُ أَن ينتقص أَو يثلب. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض الرجل نَفسه وبدنه لَا غير. قَوْله: (أَو شَيْء) ، أَي: من الْأَشْيَاء، وَهُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، فَيدْخل فِيهِ المَال بأصنافه والجراحات حَتَّى اللَّطْمَة وَنَحْوهَا، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: من عرض أَو مَال. قَوْله: (فليتحلله) ، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: يستوهبه وَيقطع دَعْوَاهُ عَنهُ، لِأَن مَا حرم الله من الْغَيْبَة لَا يُمكن تَحْلِيله، وَجَاء رجل إِلَى ابْن سِيرِين، فَقَالَ: اجْعَلنِي فِي حل فقد اغتبتك، فَقَالَ: إِنِّي لَا أحل مَا حرم الله تَعَالَى، وَلَكِن مَا كَانَ من قبلنَا فَأَنت فِي حل، وَيُقَال: معنى: فليتحلله إِذا سَأَلَهُ: أَن يَجعله فِي حل، يُقَال: تحللته واستحللته. قَوْله: (الْيَوْم) ، نصب على الظّرْف أَرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. قَوْله: (قبل أَن لَا يكون دِينَار وَلَا دِرْهَم) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (إِن كَانَ لَهُ عمل صَالح) إِلَى آخِره، معنى أَخذ الْحَسَنَات والسيئات أَن يَجْعَل ثَوَابهَا لصَاحب الْمظْلمَة، وَيجْعَل على الظَّالِم عُقُوبَة سيئاته. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461 والإسراء: 51 وفاطر: 81 وَالزمر: 7) . قلت: لَا تعَارض بَينهمَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَاقب بِسَبَب فعله وظلمه، وَلم يُعَاقب بِغَيْر جِنَايَة مِنْهُ، لِأَنَّهُ لما تَوَجَّهت عَلَيْهِ حُقُوق للْغُرَمَاء دفعت إِلَيْهِم حَسَنَاته وَلما لم يبْق مِنْهَا بَقِيَّة، قوبل على حسب مَا اقْتَضَاهُ عدل الله تَعَالَى فِي عباده، فَأَخَذُوهَا من سيئاته فَعُوقِبَ بهَا. انْتهى. قلت فِيهِ: مَا فِيهِ يعلم بِالتَّأَمُّلِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه إِذا بَين مظلمته عَلَيْهِ فأبراه فَهُوَ نَافِذ، وَاخْتلفُوا فِيمَن بَينهمَا مُلَابسَة أَو مُعَاملَة ثمَّ حلل بعضهما بَعْضًا من كل مَا جرى بَينهمَا من ذل، فَقَالَ قوم: إِن ذَلِك بَرَاءَة لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِن لم يبين مِقْدَاره وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا تصح الْبَرَاءَة إِذا بَين لَهُ وَعرف مَاله عِنْده أَو قَارب ذَلِك بِمَا لَا مشاحة فِي ذكره، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لهَذَا، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {أخذت مِنْهُ بِقدر مظلمته) ، يدل أَنه يجب أَن يكون مَعْلُوم الْقدر مشاراً إِلَيْهِ، وَكَانَ ابْن الْمسيب لَا يحلل أحدا، وَكَانَ ابْن يسَار يحلل من الْعرض وَالْمَال، وَقَالَ مَالك: أما المَال فَنعم، وَأما من الْعرض: {فَإِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس} (الشورى: 24) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَحسب مَالِكًا أَرَادَ: إِن أصَاب من عرض رجل لم يجز لوَارِثه أَن يحلله. وَقَالَ ابْن التِّين: وَأرَاهُ خلافًا لقَوْل مَالك، لِأَنَّهُ قَالَ: إِن مَاتَ وَلَا وَفَاء عِنْده، فَالْأَفْضَل أَن يحلله، وَأما من ظلم أَو اغتاب فَلَا، وَذكر الْآيَة، وَكَانَ بَعضهم يحلل من عرضه ويتأول الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، وَكَانَ الْقَاسِم يحلل من ظلمه وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا اغتاب رجل رجلا فَإِن كَانَ بلغ القَوْل مِنْهُ ذَلِك فَلَا بُد أَن يسْتَحل، وَإِن لم يبلغهُ اسْتغْفر الله وَلَا يُخبرهُ، وَأما التَّحَلُّل فِي المَال فَإِنَّمَا يَصح ذَلِك فِي أَمر مَعْلُوم، وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّمَا يَصح ذَلِك فِي الْمَنَافِع الَّتِي هِيَ أَعْرَاض، مثل أَن يكون قد غصبه دَارا فسكنها، أَو دَابَّة فركبها، أَو ثوبا فلبسه أَو يكون أعياناً فَتلفت، فَإِذا تحلل مِنْهَا صَحَّ التَّحَلُّل، فَإِن كَانَت الدَّار قَائِمَة وَالدَّرَاهِم فِي يَده حَاصِلَة لم يَصح التَّحَلُّل مِنْهَا إلاَّ أَن يهب أعيانها مِنْهُ، فَتكون هبة مستأنفة.
قَالَ أَبُو عبْدِ الله قَالَ اسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ إنَّما سُمِّي الْمَقْبُرِيُّ لِأَنَّهُ كانَ نَزَلَ ناحِيَةَ الْمَقابِرِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس من شُيُوخه، وَاسم أبي أويس عبد الله الأصبحي الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس قَوْله: (إِنَّمَا سمى) ، أَي: سعيد، الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث: المَقْبُري لنزوله نَاحيَة الْمَقَابِر بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة. وَقَوله: (قَالَ أَبُو عبد الله) إِلَى آخِره، إِنَّمَا يثبت فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده.
قَالَ أبُو عبد الله وسَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلاى بَنِي ليْثٍ وهْو سَعيدُ بنُ أبي سَعِيدٍ وَاسم ابي سعيد كَيْسَانُ
هَذَا أَيْضا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَكَانَ اسْم أبي سعيد كيسَان، كَانَ مكَاتبا لامْرَأَة من أهل الْمَدِينَة من بني لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، وكيسان روى عَن عمر بن الْخطاب، وَعلي بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد(12/294)
الْخُدْرِيّ، وروى عَنهُ ابْنه سعيد وَآخَرُونَ، وَقَالَ مُحَمَّد بن عمر: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، توفّي سنة مائَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: جعله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على حفر الْقُبُور فَسُمي المَقْبُري، وَأما ابْنه سعيد فروى عَن أبي هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك وَجَابِر بن عبد الله وَعبد الله بن عمر وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَآخَرين، وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ وَآخَرُونَ: ثِقَة، وَكَذَا قَالَ ابْن خرَاش، وَزَاد: جليل أثبت النَّاس فِيهِ اللَّيْث، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَآخَرُونَ.
11 - (بابٌ إذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا حلل الْمَظْلُوم من ظلمه فَلَا رُجُوع فِيهِ إِن كَانَ مَعْلُوما عِنْد من يَشْتَرِطه، أَو مَجْهُول عِنْد من يُجِيزهُ على الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق.
0542 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي هاذِهِ الْآيَة {وإنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزَاً أوْ إعْرَاضاً} (النِّسَاء: 821) . قالَتِ الرَّجُلُ تَكونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْها يُريدُ أنْ يُفارِقَها فَقَالَتْ أجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ فنَزَلَتْ هاذِهِ الآيةُ فِي ذالِكَ. .
قَالَ الدَّاودِيّ: لَيست التَّرْجَمَة مُطَابقَة للْحَدِيث، لِأَن هَذَا فِيمَا يَأْتِي وَلَيْسَ بظُلْم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ دلّ، يَعْنِي: الحَدِيث على التَّرْجَمَة؟ قلت: الْخلْع عقد لَازم لَا رُجُوع فِيهِ، وَكَذَا لَو كَانَ التَّحْلِيل بطرِيق الصُّلْح أَو الْهِبَة أَو الْإِبْرَاد، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: قَالَ الْكرْمَانِي كَذَا فَوَهم، ومورد الحَدِيث وَالْآيَة إِنَّمَا هُوَ فِي حق من يسْقط حَقّهَا من الْقِسْمَة، وَلَيْسَ من الْخلْع فِي شَيْء. انْتهى. قلت: نعم، قَوْله: الْخلْع عقد لَازم لَا رُجُوع فِيهِ لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ مَا فِي التَّرْجَمَة، وَلَا فِي الحَدِيث شيى يدل على الْخلْع، وَلَكِن قَوْله: وَكَذَا ... إِلَى آخِره، لَهُ وَجه، لِأَن التَّرْجَمَة فِي تَحْلِيل من ظلمه وَلَا رُجُوع فِيهِ. والْحَدِيث أَيْضا فِيهِ التَّحْلِيل على مَا لَا يخفى، وَلَكِن يُعَكر عَلَيْهِ بِشَيْء، وَذَلِكَ لِأَن التَّحْلِيل إِسْقَاط الْحق من الْمظْلمَة الْفَائِتَة ومضمون الْآيَة إِسْقَاط الْحق الْمُسْتَقْبل حَتَّى لَا يكون عدم الْوَفَاء بِهِ مظْلمَة لسقوطه، وَلَكِن وَجه هَذَا بِأَن يُقَال: بِأَن البُخَارِيّ تأنق فِي الِاسْتِدْلَال، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا نفذ الْإِسْقَاط فِي الْحق المتوقع فنفوذه فِي الْحق المتحقق أولى وأجدر، وَهَذَا هُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ، عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَمن لطائف إِسْنَاده أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَأَن فِيهِ: العنعنة فِي موضِعين وَأَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان وَأَن هشاماً وأباه عُرْوَة مدنيان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد عَن عبد الله أَيْضا، وَلكنه فِي التَّفْسِير نسبهما، وَهَهُنَا لم ينسبهما، كَمَا ترى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي هَذِه الْآيَة) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن امْرَأَة خَافت ... } (النِّسَاء: 821) . الْآيَة. قَوْله: (قَالَت) ، أَي: عَائِشَة. قَوْله: (الرجل عِنْده الْمَرْأَة) إِلَى آخِره، مقول القَوْل: (وَالرجل) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله: (يُرِيد أَن يفارقها) وَقَوله: (عِنْده الْمَرْأَة لَيْسَ بمستكثر مِنْهَا) جملتان حاليتان، والجمل بعد الْمعرفَة تقع حَالا، وَبعد النكرَة صفة. وَمعنى قَوْله: (لَيْسَ بمستكثر مِنْهَا) : لَيْسَ بطالب كَثْرَة الصُّحْبَة مِنْهَا، وَيُرِيد مفارقتها إِمَّا لكبرها أَو لدمامتها أَو لسوء خلقهَا أَو لِكَثْرَة شَرها أَو غير ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَت) ، أَي: تِلْكَ الْمَرْأَة: (أجعلك من شأني) أَي: من أجل شأني (فِي حل) من مواجب الزَّوْجِيَّة وحقوقها. قَوْله: (فَنزلت هَذِه الْآيَة) أَي: قَوْله تَعَالَى: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا ... } (النِّسَاء: 821) . الْآيَة قَوْله: (فِي ذَلِك) ، أَي: فِي أَمر هَذِه الْمَرْأَة. قَوْله: {وَإِن امْرَأَة خَافت} (النِّسَاء: 821) . أَي: وَإِن خَافت امْرَأَة من بَعْلهَا أَي: من زَوجهَا نُشُوزًا، والنشوز مِنْهُ أَن يسيء عشرتها ويمنعها النَّفَقَة. قَوْله: {أَو إعْرَاضًا} (النِّسَاء: 821) . الْإِعْرَاض مِنْهُ كَرَاهَته إِيَّاهَا وإرادته مفارقتها، فَإِذا كَانَ كَذَلِك: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصالحا بَينهمَا(12/295)
صلحا} (النِّسَاء: 821) . وَهُوَ أَن يقبل مِنْهَا مَا تسقطه من حَقّهَا من نَفَقَة أَو كسْوَة أَو مبيت عِنْدهَا أَو غير ذَلِك من حُقُوقهَا عَلَيْهِ، فَلَا جنَاح عَلَيْهَا فِي بذلها لَهُ ذَلِك، وَلَا عَلَيْهِ فِي قبُوله مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَا جناج عَلَيْهِمَا أَن يصالحا بَينهمَا صلحا} (النِّسَاء: 821) . ثمَّ قَالَ: {وَالصُّلْح خير} (النِّسَاء: 821) . أَي: من الْفِرَاق، وَلِهَذَا لما كَبرت سَوْدَة بنت زَمعَة وعزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فراقها صالحته على أَن يمْسِكهَا وتترك يَوْمهَا لعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا، وأبقاها على ذَلِك، فَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا سُلَيْمَان ابْن معَاذ عَن سماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: خشيت سَوْدَة أَن يطلقهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! لَا تُطَلِّقنِي وَأَجْعَل يومي لعَائِشَة، فَفعل، فَنزلت هَذِه الْآيَة: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا} (النِّسَاء: 821) . الْآيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: فَمَا اصطلحا عَلَيْهِ من شَيْء فَهُوَ جَائِز، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَقَالَ: حسن غَرِيب وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور: أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: انزلت فِي سَوْدَة وأشباهها: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا} (النِّسَاء: 821) . وَذَلِكَ أَن سَوْدَة كَانَت امْرَأَة قد أَسِنَت، ففرقت أَن يفارقها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضنت بمكانها مِنْهُ، وَعرفت من حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَائِشَة ومنزلتها مِنْهُ، فَوهبت يَوْمهَا من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعَائِشَة، فَقبل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الدغولي فِي أول (مُعْجَمه) : حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا الدستوَائي حَدثنَا الْقَاسِم بن أبي بزَّة قَالَ: بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى سَوْدَة بت زَمعَة بِطَلَاقِهَا، فَلَمَّا أَن أَتَاهَا جَلَست لَهُ على طَرِيق عَائِشَة، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَت لَهُ: أنْشدك بِالَّذِي أنزل عَلَيْك كِتَابه واصطفاك على خلقه لما راجعتني، فَإِنِّي قد كَبرت وَلَا حَاجَة لي فِي الرِّجَال، أبْعث مَعَ نِسَائِك يَوْم الْقِيَامَة، فَرَاجعهَا، قَالَت: فَإِنِّي قد جعلت يومي وليلتي لحبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن كثير: وَهَذَا غَرِيب مُرْسل. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا ابْن حميد وَابْن وَكِيع، قَالَا: حَدثنَا جرير عَن شُعْبَة عَن ابْن سِيرِين قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَهُ عَن آيَة، فكره ذَلِك وضربه بِالدرةِ، فَسَأَلَهُ آخر عَن هَذِه الْآيَة: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا} (النِّسَاء: 821) . فَقَالَ: عَن مثل هَذَا فَسَلُوا، ثمَّ قَالَ: هَذِه الْمَرْأَة تكون عِنْد الرجل قد خلا من سنّهَا فَتزَوج الْمَرْأَة الشَّابَّة يلْتَمس وَلَدهَا، فَمَا اصطلحا عَلَيْهِ من شَيْء فَهُوَ جَائِز. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا عَليّ بن الْحسن الهسنجاني حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك بن حَرْب عَن خَالِد بن عُرْوَة، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَهُ عَن قَول الله عز وَجل: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} (النِّسَاء: 821) . قَالَ عَليّ: يكون الرجل عِنْده الْمَرْأَة فسوا عَيناهُ عَنْهَا من دمامتها أَو كبرها أَو سوء خلقهَا أَو قذرها فتكره فِرَاقه، فَإِن وضعت لَهُ من مهرهَا شَيْئا حل لَهُ، وَإِن جعلت لَهُ من أَيَّامهَا فَلَا حرج، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَأبي الْأَحْوَص، وَرَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق إِسْرَائِيل أربعتهم عَن سماك بِهِ، وَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس وَعبيدَة السَّلمَانِي وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وعطية الْعَوْفِيّ وَمَكْحُول وَالْحكم بن عتيبة وَالْحسن وَقَتَادَة وَغير وَاحِد من السّلف وَالْأَئِمَّة، وَلَا أعلم فِي ذَلِك خلافًا فِي أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة هَذَا، وَالله أعلم. وَذكر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن خضر ابْن عَسْكَر فِي كِتَابه (ذيل التَّعْرِيف والإعلام) : أَنَّهَا نزلت بِسَبَب أبي السنابل بن بعكك وَامْرَأَته، وَفِي تَفْسِير مقَاتل: نزلت فِي خُوَيْلَة بنت مُحَمَّد بن مسلمة حِين أَرَادَ زَوجهَا رَافع بن خديج طَلاقهَا، وَفِي كتاب عبد الرَّزَّاق: خَوْلَة، وَفِي (غرر التِّبْيَان) زَوجهَا سعد بن الرّبيع، وَفِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) : هِيَ عمْرَة بنت مُحَمَّد بن مسلمة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز هبة بعض الزَّوْجَات يَوْمهَا لبعضهن، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَا يكون ذَلِك إلاَّ برضى الزَّوْج والتسوية بَينهُنَّ كَانَ غير وَاجِب عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَله تفضلاً مِنْهُ، وَعَن الدَّاودِيّ: إِذا رضيت بترك الْقسم والإنفاق عَلَيْهَا ثمَّ سَأَلته الْعدْل فلهَا ذَلِك، وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: ولواحدة مِنْهُنَّ أَن ترجع إِن وهبت قسمهَا لِلْأُخْرَى لِأَنَّهَا أسقطت حَقًا لم يجب بعد، فَلَا يسْقط كالمعير يرجع فِي الْعَارِية مَتى شَاءَ.(12/296)
21 - (بابٌ إذَا أذِنَ لَهُ أوْ حَلَّلَهُ ولَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أذن رجل لَهُ أَي: لرجل آخر فِي اسْتِيفَاء حَقه. قَوْله: (أَو حلله) ، أَي: أَو حلل رجل رجلا آخر، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره أَو أحله لَهُ. قَوْله: (وَلم يبين كم هُوَ) أَي: مِقْدَار الْمَأْذُون أَو الْمُحَلّل، وَلم يذكر جَوَاب إِذا الَّذِي هُوَ جَوَاب الْمَسْأَلَة، لِأَن فِيهِ تَفْصِيلًا، لأَنا إِذا قُلْنَا: حَدِيث هَذَا الْبَاب مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي: بَاب من كَانَت لَهُ مظْلمَة فحللها، هَل يبين مظلمته؟ يكون فِيهِ الْخلاف الْمَذْكُور هُنَاكَ، وَلَكِن حَدِيث أبي هُرَيْرَة مُشْتَمل على الْأُمُور الْوَاجِبَة، وَحَدِيث الْبَاب مُشْتَمل على المكارمة وَقلة التشاح، وَلَا يضر فِي هَذَا عدم معرفَة الْمِقْدَار، لِأَن الْغُلَام فِيهِ لَو حلل من نصِيبه الْأَشْيَاخ وَأذن فِي إِعْطَائِهِ لَهُم لَكَانَ مَا حلل مِنْهُ غير مَعْلُوم، لِأَنَّهُ لَا يعرف مِقْدَار مَا كَانُوا يشربون، وَلَا مِقْدَار مَا كَانَ يشرب هُوَ، وَلَا شكّ أَن سَبِيل مَا يوضع للنَّاس للْأَكْل وَالشرب سَبيله المكارمة وَقلة المشاححة، فعلى هَذَا يقدر الْجَواب هُنَا: جَائِز أَو يجوز.
1542 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالِكٌ عنْ أبِي حازِمِ بنِ دِينارٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وعنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وعنْ يَسارِهِ الأشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلامِ أتأْذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلاءِ فَقَالَ الْغُلاَمُ لاَ وَالله يَا رسولَ الله لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أحَداً قَالَ فَتَلَّهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَدِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، لِأَنَّهُ لَو أذن الْغُلَام لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدفع الشَّرَاب الَّذِي شرب مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الأشياح الَّذين كَانُوا على يسَاره لَكَانَ تَحْلِيل الْغُلَام غير مَعْلُوم، وَكَذَلِكَ مِقْدَار شربهم وشربه، وَكَانَ دلّ ذَلِك على جَوَازه بِلَا خلاف من غير بَيَان مِقْدَاره، وَلكنه مُقَيّد بِمثل هَذَا الْبَاب كَمَا ذكرنَا، لَا فِي الْأَبْوَاب الَّتِي تتَعَلَّق بالواجبات، وَيجْرِي الْخلاف فِيهَا، من ذَلِك مَا اخْتلف الْعلمَاء فِي هبة الْمشَاع، فَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: تجوز ويتأتى فِيهَا الْقَبْض، كَمَا يجوز فِيهَا البيع، وَسَوَاء كَانَ الْمشَاع مِمَّا يقسم، كالدور وَالْأَرْض، أَو مِمَّا لَا يقسم: كَالْعَبْدِ وَالثيَاب والجواهر، وَسَوَاء مِمَّا كَانَ يقبض بِالتَّخْلِيَةِ أَو مِمَّا يقبض بالتحويل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ الْمشَاع مِمَّا يقسم لم تجز هبة شَيْء مِنْهُ مشَاعا، وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يقسم تجوز هِبته.
والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَائِل كتاب الشّرْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سعيد ابْن أبي مَرْيَم عَن أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَأخرجه هَهُنَا: عَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي عَن مَالك عَن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، وَهنا فِيهِ زِيَادَة، وَهُوَ قَوْله: فتله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي يَده، فتلة، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد اللَّام وَمَعْنَاهُ: دَفعه إِلَيْهِ بِقُوَّة وعنف، قَالَه الْخطابِيّ. وَقَالَ غَيره: وَضعه فِي يَده، وَأنكر غَيره هَذِه، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {وتله للجبين} (الصافات: 301) . أَي: صرعه لَكِن بِرِفْق لَا بعنف، وَقَالَ ابْن التِّين: من قَالَ: الْغُلَام، ابْن عَبَّاس، يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الصَّبِي يُسمى غُلَاما، وَمن قَالَ: إِنَّه الْفضل، أَخذ مِنْهُ أَن الْبَالِغ يُسمى غُلَاما.
31 - (بابُ إثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئاً مِنَ الأرْضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من ظلم شَيْئا من الأَرْض، يَعْنِي: استولى عَلَيْهِ. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن الْغَصْب يتَحَقَّق فِي الْعقار، وَأَنه لَيْسَ بمخصوص بِمَا يحول وينقل. وَفِيه: خلاف نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلم يذكر جَوَاب: من، اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث.
25 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنِي طَلْحَة بن عبد الله أَن(12/297)
عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سهل قَالَ أخبرهُ أَن سعيد بن زيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من ظلم من الأَرْض شَيْئا طوقه من سبع أَرضين) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله شَيْئا فِي التَّرْجَمَة يتَنَاوَل قدر شبر وَمَا فَوْقه وَمَا دونه وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب وَطَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف بن أخي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سهل الْأنْصَارِيّ الْمدنِي وَقد ينْسب إِلَى جده وَقد نسبه الْمزي الْأنْصَارِيّ أَيْضا وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الحَدِيث فَقَط وَفِي هَذَا السَّنَد ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد وهم الزُّهْرِيّ وَطَلْحَة وَعبد الرَّحْمَن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَسَعِيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل الْقرشِي أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ أسلم قَدِيما وَكَانَ مجاب الدعْوَة وَقد أسقط بعض أَصْحَاب الزُّهْرِيّ فِي روايتهم عَنهُ هَذَا الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سهل وجعلوه من رِوَايَة طَلْحَة عَن سعيد بن زيد نَفسه وَفِي مسندي أَحْمد وَأبي يعلى وصحيح ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن إِسْحَق حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن طَلْحَة بن عبد الله قَالَ أَتَتْنِي أروى بنت أويس فِي نفر من قُرَيْش فيهم عبد الرَّحْمَن بن سهل فَقَالَت إِن سعيدا انْتقصَ من أرضي إِلَى أرضه مَا لَيْسَ لَهُ وَقد أَحْبَبْت أَن تأتوه فتكلموه قَالَ فَرَكبْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ بأرضه بالعقيق فَذكر الحَدِيث وَقَالَ الْكرْمَانِي رُوِيَ أَن مَرْوَان أرسل إِلَى سعيد نَاسا يكلمونه فِي شَأْن أروى بنت أويس وَكَانَت شكته إِلَى مَرْوَان فِي أَرض فَقَالَ سعيد تروني ظلمتها وَقد سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول الحَدِيث فَترك سعيد لَهَا مَا ادَّعَت وَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كَانَت كَاذِبَة فَلَا تمتها حَتَّى تعمي بصرها وَتجْعَل قبرها فِي بِئْر قَالُوا فوَاللَّه مَا مَاتَت حَتَّى ذهب بصرها فَجعلت تمشي فِي دارها فَوَقَعت فِي بِئْرهَا قَوْله " طوقه " على بِنَاء الْمَجْهُول قَالَ الْخطابِيّ لَهُ وَجْهَان أَحدهمَا أَنه يُكَلف نقل مَا ظلم مِنْهَا فِي الْقِيَامَة إِلَى الْمَحْشَر فَيكون كالطوق فِي عُنُقه وَالْآخر أَن يُعَاقب بالخسف إِلَى سبع أَرضين كَمَا فِي الحَدِيث الآخر الَّذِي بعده وَقَالَ النَّوَوِيّ وَأما التطويق فَقَالُوا يحْتَمل أَن مَعْنَاهُ أَن يحمل مِنْهُ من سبع أَرضين ويكلف إطاقته ذَلِك أَو يَجْعَل لَهُ كالطوق فِي عُنُقه وَيطول الله عُنُقه كَمَا جَاءَ فِي غلظ جلد الْكَافِر وَعظم ضرسه أَو يطوق اثم ذَلِك وَيلْزم كلزوم الطوق بعنقه وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هُوَ من تطويق التَّكْلِيف لَا من التَّقْلِيد قَالَ وَلَيْسَ ذَلِك بممتنع فَإِنَّهُ صَحَّ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ " لَا أَلفَيْنِ أحدكُم تَأتي على رقبته بعير أَو شَاة " وَأما الْخَسْف أَن يخسف بِهِ الأَرْض بعد مَوته أَو فِي حشره وَفِي تَهْذِيب الطَّبَرِيّ بَيَان لهَذَا التطويق قَالَ حَدثنَا سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا حسن بن عَليّ حَدثنَا زَائِدَة عَن الرّبيع عَن أَيمن حَدثنِي يعلى بن مرّة سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول أَيّمَا رجل ظلم شبْرًا من الأَرْض كلفه الله أَن يحفره حَتَّى يبلغ سبع أَرضين ثمَّ يطوقه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يقْضِي بَين النَّاس وَفِي رِوَايَة الشّعبِيّ عَن أَيمن عَنهُ من سرق شبْرًا من أَرض أَو غلَّة جَاءَ يحْتَملهُ يَوْم الْقِيَامَة على عُنُقه إِلَى سبع أَرضين وَفِي رِوَايَة كلف أَن يحمل ترابها إِلَى الْمَحْشَر وَفِي التَّوْضِيح وَالصَّوَاب أَيمن عَن يعلى وَوهم ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم فِي ظنهما أَن لأيمن صُحْبَة (قلت) وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد الصَّحَابَة أَنَّهُمَا وهما فِي ذَلِك (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ دَلِيل أَن من ملك أَرضًا ملك أَسْفَلهَا إِلَى مُنْتَهَاهَا وَله أَن يمْنَع من حفر تحتهَا سربا أَو بِئْرا سَوَاء أضرّ ذَلِك بأرضه أَو لَا قَالَه الْخطابِيّ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ لِأَن حكم أَسْفَلهَا تبع لأعلاها وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَقد اخْتلف فِيمَا إِذا حفر أرضه فَوجدَ فِيهَا معدنا أَو شبهه فَقيل هُوَ لَهُ وَقيل بل للْمُسلمين وعَلى ذَلِك فَلهُ أَن ينزل بِالْحفرِ مَا شَاءَ مَا لم يضر بجاره وَكَذَلِكَ لَهُ أَن يرفع فِي الْهَوَاء الْمُقَابل لذَلِك الْقدر من الأَرْض من الْبناء مَا شَاءَ مَا لم يضر بِأحد وَاسْتدلَّ الدَّاودِيّ على أَن السَّبع الْأَرْضين بَعْضهَا على بعض لم يفتق بَعْضهَا من بعض قَالَ لِأَنَّهُ لَو فتقت لم يطوق مِنْهَا مَا ينْتَفع بِهِ غَيره وَقيل بَين كل أَرض وَأَرْض خمس مائَة عَام مثل مَا بَين كل سَمَاء وسماء. وَفِيه تهديد عَظِيم للغصاب. وَفِيه دَلِيل على أَن الْأَرْضين سبع كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ} وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِيه غصب الأَرْض خلافًا للحنفية قلت رمى الْكرْمَانِي كَلَامه جزَافا من غير وقُوف على كَيْفيَّة مَذْهَب الْحَنَفِيَّة فَإِن مَذْهَبهم فِيهِ خلاف فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف الْغَصْب لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِيمَا ينْقل ويحول لِأَن إِزَالَة الْيَد بِالنَّقْلِ وَلَا نقل فِي الْعقار فَإِذا غصب عقارا فَهَلَك فِي يَده لَا يضمن وَقَالَ مُحَمَّد يضمن وَهُوَ قَول أبي(12/298)
يُوسُف الأول وَبِه قَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد لِأَن الْغَصْب عِنْدهم يتَحَقَّق فِي الْعقار وَالْخلاف فِي الْغَصْب لَا فِي الْإِتْلَاف وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا يتَحَقَّق الْغَصْب فِي الْعقار أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَكِن لَا على وَجه يُوجب الضَّمَان وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه لَا يتَحَقَّق فِي الْعقار أصلا وَالِاسْتِدْلَال بِحَدِيث الْبَاب على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ غير مُسْتَقِيم لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جعل جَزَاء غصب الأَرْض التطوق يَوْم الْقِيَامَة وَلَو كَانَ الضَّمَان وَاجِبا لبينه لِأَن الضَّمَان من أَحْكَام الدُّنْيَا فالحاجة إِلَيْهِ أمس وَالْمَذْكُور جَمِيع جَزَائِهِ فَمن زَاد عَلَيْهِ كَانَ نسخا وَذَا لَا يجوز بِالْقِيَاسِ وَإِطْلَاق لفظ الْغَصْب عَلَيْهِ لَا يدل على تحقق الْغَصْب الْمُوجب للضَّمَان كَمَا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أطلق لفظ البيع على الْحر بقوله " من بَاعَ حرا " وَلَا يدل ذَلِك على البيع الْمُوجب للْحكم على أَنه جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظ أَخذ فَقَالَ من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما فَإِنَّهُ يطوقه الله يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين فَعلم أَن المُرَاد من الْغَصْب الْأَخْذ ظلما لَا غصبا مُوجبا للضَّمَان فَإِن قلت قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " على الْيَد مَا أخذت حَتَّى ترد " يدل على ذَلِك بِإِطْلَاقِهِ وَالتَّقْيِيد بالمنقول خِلَافه قلت هَذَا مجَاز لِأَن الْأَخْذ حَقِيقَة لَا يتَصَوَّر فِي الْعقار لِأَن حد الْأَخْذ أَن يصير الْمَأْخُوذ تبعا ليده فَافْهَم
26 - (حَدثنَا أَبُو معمر قَالَ حَدثنَا عبد الْوَارِث قَالَ حَدثنَا حُسَيْن عَن يحيى بن أبي كثير قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَن أَبَا سَلمَة قَالَ حَدثهُ أَنه كَانَت بَينه وَبَين أنَاس خُصُومَة فَذكر لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَت لَهُ يَا أَبَا سَلمَة اجْتنب الأَرْض فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ من ظلم قيد شبر من الأَرْض طوقه من سبع أَرضين) مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي وَرِجَاله سَبْعَة الأول أَبُو معمر عبد الله بن عَمْرو بن الْحجَّاج المقعد الْبَصْرِيّ الثَّانِي عبد الْوَارِث بن سعيد الثَّالِث حُسَيْن الْمعلم الرَّابِع يحيى بن أبي كثير الطَّائِي الْيَمَانِيّ الْخَامِس مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ السَّادِس أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن السَّابِع أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن عَليّ عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَعَن إِسْحَق بن مَنْصُور قَوْله " بَين أنَاس خُصُومَة " وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق حَرْب بن شَدَّاد عَن يحيى بِلَفْظ وَكَانَ بَينه وَبَين قومه خُصُومَة فِي أَرض وَهَذَا يُفَسر أَن الْخُصُومَة كَانَت فِي أَرض وَأَنَّهَا كَانَت بَينه وَبَين قومه وَعلم مِنْهُ أَن المُرَاد من قَوْله أنَاس هم قومه وَلَكِن مَا علمت أَسمَاؤُهُم قَوْله " فَذكر لعَائِشَة " فِيهِ حذف الْمَفْعُول وَسَيَأْتِي فِي بَدْء الْخلق من وَجه آخر بِلَفْظ فَدخل على عَائِشَة فَذكر لَهَا ذَلِك قَوْله " قيد شبر " بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف أَي قدر شبر قَوْله " أَرضين " بِفَتْح الرَّاء وَجَاء إسكانها أَيْضا -
4542 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الله بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا مُوساى بنُ عُقْبَةَ عنْ سالِمٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أخذَ مِنَ الأرْضِ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلَى سَبْعِ أرْضِينَ. (الحَدِيث 4542 طرفه فِي: 6913) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من أَخذ من الأَرْض شَيْئا بِغَيْر حَقه) ، لِأَن الْأَخْذ بِغَيْر الْحق ظلم، وَرِجَاله كلهم ذكرُوا غير مرّة، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر يروي عَن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن بشر بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك.
قَوْله: (شَيْئا) يتَنَاوَل قَلِيلا وَكَثِيرًا قَوْله: (خسف بِهِ) ، أَي: بذلك الشَّيْء الَّذِي أَخذه من الأَرْض بِغَيْر حق، وَقد ذكرنَا أَنه يخسف بِهِ بعد مَوته، أَو فِي حشره، وَلَكِن بعد أَن ينْقل جَمِيع مَا أَخذه إِلَى سبع أَرضين، وَيجْعَل كُله فِي عُنُقه طوقاً ثمَّ يخسف بِهِ، وروى الطَّبَرِيّ وَابْن حبَان من حَدِيث يعلى بن مرّة مَرْفُوعا، الحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وروى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ: (أعظم الْغلُول يَوْم الْقِيَامَة ذِرَاع أَرض يسرقه الرجل فيطوقه من سبع أَرضين) .(12/299)
قَالَ الْفِربْرِي قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بنُ أبي حاتِمٍ
أَبُو جَعْفَر: هُوَ مُحَمَّد بن أبي حَاتِم البُخَارِيّ وراق البُخَارِيّ، وَقد ذكر عَنهُ الْفربرِي فِي هَذَا الْكتاب فَوَائِد كَثِيرَة عَن البُخَارِيّ وَغَيره، وَثبتت هَذِه الْفَائِدَة فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن مشايخه الثَّلَاثَة، وَسَقَطت لغيره. فَافْهَم.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله هذَا الحَدِيثُ لَيْسَ بُخُرَاسَانَ فِي كِتابِ ابنُ الْمُبارَكِ أمْلاهُ عَلَيْهِمْ بالْبَصْرَةِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (هَذَا الحَدِيث) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيث الْبَاب. قَوْله: (لَيْسَ بخراسان فِي كتاب ابْن الْمُبَارك) ، أَرَادَ أَن عبد الله بن الْمُبَارك صنف كتبه بخراسان، وَحدث بهَا هُنَاكَ، وَحملهَا عَنهُ أَهلهَا، إلاَّ هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ أملاه عَلَيْهِم بِالْبَصْرَةِ. قَوْله: (فِي كتاب) ، ويروى: فِي كتب. قَوْله: (أملاه) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: أمْلى عَلَيْهِم، بِحَذْف الْمَفْعُول، وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب. قيل: لَا يلْزم من كَونه لَيْسَ فِي كتبه الَّتِي حدث بهَا فِي خُرَاسَان أَن لَا يكون حدث بِهِ بخراسان، فَإِن نعيم بن حَمَّاد الْمروزِي مِمَّن حمل عَنهُ بخراسان، وَقد حدث عَنهُ بِهَذَا الحَدِيث، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه، وَيحْتَمل أَن يكون نعيم أَيْضا إِنَّمَا سَمعه من ابْن الْمُبَارك بِالْبَصْرَةِ، وَهُوَ من غرائب الصَّحِيح، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.(12/300)
(بابٌ إذَا أذِنَ إنْسانٌ لآِخَرَ شَيْئاً جَازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أذن إِنْسَان لإِنْسَان آخر. قَوْله: (شَيْئا) أَي: فِي شَيْء، فَلَمَّا حذف حرف الْجَرّ تعدى الْفِعْل فنصب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا} (الْأَعْرَاف: 551) . أَي: من قومه. قَوْله: (جَازَ) جَوَاب إِذا.
5542 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ جَبَلَةَ كُنَّا بالمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أهْلِ الْعِرَاقِ فأصابَتْنا سَنَةٌ فكانَ ابنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنا التَّمْرَ فكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَمُرُّ بِنا فَيقُولُ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهاى عنِ الإقْرَانِ إلاَّ أنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أخاهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ أَن يسْتَأْذن الرجل مِنْكُم أَخَاهُ) . وجبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام المفتوحات: ابْن سحيم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة: الشَّيْبَانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن آدم وَفِي الشّركَة عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن بنْدَار وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن عَليّ بن خشرم وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عبد الحميد بن مُحَمَّد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن بنْدَار وروى أَحْمد من حَدِيث الْحسن عَن سعد مولى أبي بكر، قَالَ: قدمت بَين يَدي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَمرا فَجعلُوا يقرنون، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقرنوا) ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا عَن سعد مولى أبي بكر، وَلَفظه: (وَكَانَ يخْدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُعْجِبهُ خدمته، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الإقران) ، يَعْنِي فِي التَّمْر، وروى الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَمرا بَين أَصْحَابه، فَكَانَ بَعضهم يقرن، فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقرن إلاَّ بِإِذن صَاحبه) ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) بِلَفْظ: (كنت فِي الصّفة فَبعث إِلَيْنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تمر عَجْوَة، فَسَكَبت بَيْننَا، فَكُنَّا نقرن الثِّنْتَيْنِ من الْجُوع، فَكُنَّا إِذا قرن أَحَدنَا لأَصْحَابه: إِنِّي قد قرنت فأقرنوا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث أبي طَلْحَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الإقران.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي بعض أهل الْعرَاق) ، وَعند التِّرْمِذِيّ: فِي بعث أهل الْعرَاق. قَوْله: (سنة) ، أَي: غلاء وجدب. قَوْله: (فَكَانَ ابْن الزبير) ، أَي: عبد الله بن الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (نهى عَن الإقران) ، بِكَسْر الْهمزَة من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، قَالَ ابْن التِّين: كَذَا وَقع فِي البُخَارِيّ رباعياً، وَالْمَعْرُوف خِلَافه، وَالَّذِي فِي اللُّغَة ثلاثي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَذَا لجَمِيع رُوَاة مُسلم: (الإقران)(13/2)
وَلَيْسَت مَعْرُوفَة، وَالصَّوَاب: الْقرَان. ثلاثي. وَقَالَ الْفراء: لَا يُقَال: أقرن، وَقَالَ غَيره: إِنَّمَا يُقَال: أقرن على الشَّيْء إِذا قوي عَلَيْهِ وأطاقه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} (الزخرف: 35) . أَي: مطيقين، وَفِي (الصِّحَاح) : أقرن الدَّم الْعرق واستقرن أَي: كثر، فَيحْتَمل أَن يكون الإقران فِي هَذَا الحَدِيث على ذَلِك، وَيكون مَعْنَاهُ النَّهْي عَن الْإِكْثَار من أكل التَّمْر إِذا كَانَ مَعَ غَيره، وَيرجع مَعْنَاهُ إِلَى الْقرَان الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَنقل الْمُنْذِرِيّ عَن أبي مُحَمَّد الْمعَافِرِي أَنه: يُقَال: قرن بَين الشَّيْئَيْنِ وأقرن: إِذا جمع بَينهمَا. قَوْله: (ألاَّ أَن يسْتَأْذن الرجل مِنْكُم أَخَاهُ) ، قَالَ الْخَطِيب: هَذَا من قَول ابْن عمر وَلَيْسَ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيَّن ذَلِك آدم بن أبي إِيَاس وشبابة بن سوار عَن شُعْبَة، وَقَالَ عَاصِم بن عَليّ: أرى الْإِذْن من قَول ابْن عمر، قيل: يرد على هَذَا مَا أخرجه البُخَارِيّ بعدُ من حَدِيث جبلة بن سحيم: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقرن الرجل بَين التمرتين جَمِيعًا حَتَّى يسْتَأْذن أَصْحَابه) . قلت: إحتمال الإدراج باقٍ فِيهِ أَيْضا، فَلْيتَأَمَّل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: النَّهْي عَن الإقران. قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه (المغيث) : للنَّهْي عَن الْقرَان وَجْهَان: الأول: ذهبت عَائِشَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى أَنه قَبِيح، وَفِيه شَره وهلع وَهُوَ يزري بِصَاحِبِهِ. الثَّانِي: كَانَ التَّمْر من جِهَة ابْن الزبير وَكَانَ ملكهم فِيهِ سَوَاء، فَيصير الَّذِي يقرن أَكثر أكلا من غَيره، فَأَما إِذا كَانَ التَّمْر ملكا لَهُ فَلهُ أَن يَأْكُل كَمَا شَاءَ، كَمَا رُوِيَ أَن سالما كَانَ يَأْكُل التَّمْر كفا كفا، وَقيل: إِذا كَانَ الطَّعَام بِحَيْثُ يكون شبعاً للْجَمِيع كَانَ مُبَاحا لَهُ لَو أكله، وَجَاز لَهُ أَن يَأْكُل كَمَا شَاءَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَحمل أهل الظَّاهِر هَذَا النَّهْي على التَّحْرِيم مُطلقًا. قَالَ: وَهُوَ مِنْهُم ذُهُول عَن مساق الحَدِيث وَمَعْنَاهُ. وَحمله جُمْهُور الْفُقَهَاء على حَالَة الْمُشَاركَة بِدَلِيل مساق الحَدِيث. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَاخْتلفُوا فِي أَن هَذَا النَّهْي على التَّحْرِيم أَو على الْكَرَاهَة وَالْأَدب؟ وَالصَّوَاب: التَّفْصِيل كَمَا سبق.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا يملك من الطَّعَام حِين وَضعه، فَإِن قُلْنَا: إِنَّهُم يملكونه بِوَضْعِهِ بَين أَيْديهم فَيحرم أَن يَأْكُل أحد أَكثر من الآخر، وَإِن قُلْنَا: إِنَّمَا يملك كل وَاحِد مِنْهُم مَا رفع إِلَى فِيهِ فَهُوَ سوء أدب وشره ودناءة، وَيكون مَكْرُوها. وَقَالَ ابْن التِّين: وَحمله بَعضهم على مَا إِذا اسْتَوَت أثمانهم فِيهِ مثل أَن يتخارجوا فِي ثمنه أَو يَهبهُ لَهُم رجل أَو يوصى لَهُم بِهِ، وَأما إِن أطْعمهُم هُوَ، فروى ابْن نَافِع عَن مَالك: لَا بَأْس بِهِ، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب: لَيْسَ بجميل أَن يَأْكُل تمرتين أَو ثَلَاثًا فِي لقْمَة دونهم. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة يزِيد بن زُرَيْع عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الإقران فِي التَّمْر، فَإِن الله قد وسع عَلَيْكُم فأقرنوا) قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن شاهين أَيْضا فِي كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) ، ثمَّ قَالَ: الحَدِيث الَّذِي فِيهِ النَّهْي عَن الإقران صَحِيح الْإِسْنَاد، وَالَّذِي فِيهِ الْإِبَاحَة لَيْسَ بِذَاكَ الْقوي، لِأَن فِي سَنَده اضطراباً، وَإِن صَحَّ فَيحمل على أَنه نَاسخ للنَّهْي. وَقَالَ الْحَازِمِي: وَذكر الْحَدِيثين: إِسْنَاد الأول أصح وَأشهر من الثَّانِي، غير أَن الْخطب فِي هَذَا الْبَاب يسير، لِأَنَّهُ لَيْسَ من بَاب الْعِبَادَات والتكاليف، وَإِنَّمَا هُوَ من قبيل الْمصَالح الدنياوية فَيَكْفِي فِي ذَلِك الحَدِيث الثَّانِي، ثمَّ يشيده إِجْمَاع الامة على خلاف ذَلِك. وَقيل: إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك حَيْثُ كَانَ الْعَيْش زهيداً والقوت متعذراً مُرَاعَاة لجَانب الْفُقَرَاء والضعفاء وَالْمَسَاكِين، وحثاً على الإيثار والمواساة ورغبة فِي تعَاطِي أَسبَاب المعدلة حَالَة الِاجْتِمَاع والاشتراك، فَلَمَّا وسع الله الْخَيْر وَعم الْعَيْش الْغَنِيّ، وَالْفَقِير، قَالَ: فشأنكم إِذا.
6542 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وائِلٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ أنَّ رَجُلاً منَ الأنْصَارِ يُقالُ لَهُ أبُو شُعَيْب كانَ لهُ غُلامٌ لَحَّامٌ فَقَالَ لَهُ أبُو شُعَيْبٍ اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أدْعُو النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خامِسَ خَمْسَةٍ وأبْصَرَ فِي وجْهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجُوعَ فَدَعاهُ فتَبِعَهُمْ رَجلٌ لَمْ يُدْعَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ هاذا قدْ اتَّبَعَنَا أتَأذَنُ لَهُ قَالَ نَعَمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أتأذن لَهُ؟ قَالَ: نعم) فَإِن معنى التَّرْجَمَة يَشْمَل ذَلِك. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي(13/3)
وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا قيل فِي اللحام والجزار، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَأبْصر) ، جملَة مَاضِيَة وَقعت حَالا. قَوْله: (قد اتَّبعنَا) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي الْحسن، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: تبعنا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: معنى اتَّبعنَا سَار مَعنا، وتبعهم لحقهم. وَقَالَ ابْن فَارس: تبِعت فلَانا إِذا تلوته، واتبعته إِذا لحقته، وبنحوه ذكره الْجَوْهَرِي: تبِعت الْقَوْم إِذا تلوتهم، وَاتَّبَعتهمْ إِذا سرت مَعَهم. وَقَالَ الْأَخْفَش: تبع وأتبع سَوَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالصَّوَاب أَن يقْرَأ: اتَّبعنَا، بتَشْديد التَّاء على بَاب افتعل من تبع، فَمَعْنَاه مثل معنى تبع، وَضبط الدَّاودِيّ هُنَا لظَنّه أَن الْهمزَة همزَة قطع، فَقَالَ: معنى اتَّبعنَا سَار مَعنا، وتبعهم أَي اتبعهم.
51 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالاى {وهْوَ ألَدُّ الخِصَامِ} (الْبَقَرَة: 402) .)
أَي: هَذَا بَاب مَا جَاءَ فِي الحَدِيث مَا يُوَافق لفظ الْقُرْآن، وَمَعْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ أَلد الْخِصَام} (الْبَقَرَة: 402) . وَتَمام هَذَا هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام} (الْبَقَرَة: 402) . وَقَالَ السّديّ: هَذِه الْآيَة وَثَلَاث آيَات بعْدهَا نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق الثَّقَفِيّ، جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأظْهر الْإِسْلَام وَفِي بَاطِنه خلاف ذَلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي نفر من الْمُنَافِقين تكلمُوا فِي خبيب وَأَصْحَابه الَّذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فَأنْزل الله ذمّ الْمُنَافِقين ومدح خبيباً وَأَصْحَابه. وَقيل: بل ذَلِك عَام فِي الْمُنَافِقين كلهم، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَمُجاهد وَالربيع بن أنس وَغير وَاحِد، وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنِي يُونُس أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي اللَّيْث بن سعد عَن خَالِد بن يزِيد عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن الْقرظِيّ عَن نوف وَهُوَ الْبكالِي وَكَانَ مِمَّن يقْرَأ الْكتب، قَالَ: إِنِّي لَا أجد صفة نَاس من هَذِه الْأمة، فِي كتاب الله الْمنزل قوم يحتالون الدُّنْيَا بِالدّينِ، ألسنتهم أحلى من الْعَسَل، وَقُلُوبهمْ أَمر من الصَّبْر يلبسُونَ لِبَاس مسوك الضَّأْن وَقُلُوبهمْ قُلُوب الذئاب، فعليَّ يجرأون؟ وفيَّ يفترون؟ حَلَفت بنفسي لأبعثنَّ عَلَيْهِم فتْنَة تتْرك الْحَلِيم فِيهَا حيران. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: تدبرتها فِي الْقُرْآن فَإِذا هم المُنَافِقُونَ. قَوْله: (وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه) ، أَي: يظْهر للنَّاس الْإِسْلَام ويبارز الله تَعَالَى بِمَا فِي قلبه من الْكفْر والنفاق، هَذَا مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد عَن عِكْرِمَة أَو سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. وَقيل: مَعْنَاهُ إِنَّه إِذا أظهر للنَّاس الْإِسْلَام حلف وَأشْهد الله لَهُم أَن الَّذِي فِي قلبه مُوَافق لِلِسَانِهِ، وَهَذَا الْمَعْنى صَحِيح. قَوْله: {وَهُوَ أَلد الْخِصَام} (الْبَقَرَة: 402) . الألد فِي اللُّغَة هُوَ الأعوج: {وتنذر بِهِ قوما لداً} (مَرْيَم: 79) . أَي: عوجا، وَهَكَذَا الْمُنَافِق فِي حَال خصومته يكذب ويزور عَن الْحق وَلَا يَسْتَقِيم مَعَه، بل يفتري وَيفجر. وَيُقَال: الألد هُوَ شَدِيد الْجِدَال، وَالْإِضَافَة فِيهِ بِمَعْنى: فِي، كَقَوْلِهِم: ثَبت الْغدر أَو جعل الْخِصَام أَلد على الْمُبَالغَة، وَفِي (الْجَامِع) : واللدد مصدر الألد، وَرجل أَلد إِذا اشْتَدَّ فِي الْخُصُومَة، وَالْأُنْثَى لداء، واللدد الْجِدَال أَخذ من: لديد الْوَادي أَي: جَانِبه، كَأَنَّهُ إِذا منع من جَانب جَاءَ من جَانب آخر، وَفِي تَفْسِير عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عَبَّاس: أَلد الْخِصَام، أَي: ذُو جِدَال إِذا كلمك وراجعك. وَعَن الْحسن: كَاذِب القَوْل، وَعَن مُجَاهِد: ظَالِم لَا يَسْتَقِيم، وَعَن قَتَادَة شَدِيد الْقَسْوَة فِي مَعْصِيّة الله جدل بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ ابْن سَيّده: لددت لدداً صرت أَلد، ولددته ألده إِذا خصمته. وَقيل: مَأْخُوذ من اللديدين وهما صفحتا الْعُنُق، وَالْمعْنَى: من أَي جَانب أَخذ فِي الْخُصُومَة قوي، وَالْخِصَام جمع: الْخصم، كصعب وصعاب، قَالَه الزّجاج. وَقيل: هُوَ مصدر خاصمته.
7542 - حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ أبْغَضَ الرِّجَالِ إلاى الله الألعدُّ الخَصِمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، وَاسم أبي مليكَة زُهَيْر بن عبد الله الْمَكِّيّ الْأَحول، كَانَ قَاضِيا لعبد الله بن الزبير.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن مُسَدّد، وَفِي التَّفْسِير عَن قبيصَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن أبي بكر بن(13/4)
أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْقَضَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (الْخصم) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الصَّاد: المولع بِالْخُصُومَةِ الماهر فِيهَا. قَالَ الله تَعَالَى: {بل هم قوم خصمون} (الزخرف: 85) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الأبغض هُوَ الْكَافِر. قلت: اللَّام للْعهد عَن الْأَخْنَس، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون وبالمهملة: ابْن شريق، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: الَّذِي نزل فِيهِ الْآيَة، وَهُوَ مُنَافِق، أَو هُوَ تَغْلِيظ فِي الزّجر أَو المُرَاد الألد فِي الْبَاطِل المستحل لَهُ.
61 - (بابُ إثْمِ مَنْ خاصَمَ فِي باطِلٍ وهْوَ يَعْلَمُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من خَاصم فِي أَمر بَاطِل، وَالْحَال أَنه يعمله، أَي: يعلم أَنه بَاطِل.
8542 - حدَّثنا عبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمْ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخْبَرَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ زَيْنَبَ أُمِّ سَلَمَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ أُمَّها سلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرَتْها عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً ببابِ حُجْرَتِهِ فخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ إنَّما أَنا بَشَرٌ وإنَّهُ يأْتِينِي الخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فأحْسِبُ أنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْها أوْ فَلْيَتْرُكْها..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز. الرَّابِع: مُحَمَّد، بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: زَيْنَب بنت أم سَلمَة وَهِي بنت أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد، وَكَانَ اسْمهَا برة فسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب، سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد البُخَارِيّ. السَّابِع: أمهَا أم سَلمَة وَاسْمهَا: هِنْد بنت أبي أُميَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وهم: صَالح على قَول من قَالَ: رأى عبد الله بن عمر وَالزهْرِيّ وَعُرْوَة. وَفِيه: رِوَايَة الصحابية عَن الصحابية، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان وَفِي الشَّهَادَات وَالْأَحْكَام أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك وَفِي ترك الْحِيَل عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه مُسلم فِي الْقَضَاء عَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي كريب وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَحْكَام مُخْتَصرا عَن هَارُون بن إِسْحَاق، وَلم يذكرهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) فَكَأَنَّهُ غفل عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا أَنا بشر) أَي: لَا أعلم الْغَيْب وبواطن الْأُمُور، كَمَا هُوَ مُقْتَضى حَال البشرية، وَأَنه إِنَّمَا يحكم بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر، وَلَو شَاءَ الله لأطلعه على بَاطِن الْأُمُور حَتَّى يحكم بِالْيَقِينِ، لَكِن أَمر الله أمته بالإقتداء بِهِ، فَأجرى أَحْكَامه على الظَّاهِر لتطيب نُفُوسهم للانقياد. قَوْله: (أبلغ من بعض) ، أَي: أفْصح بِبَيَان حجَّته، وَقَالَ الزّجاج: بلغ الرجل يبلغ بلاغة وَهُوَ بليغ: إِذا كَانَ يبلغ بِعِبَارَة لِسَانه كنه مَا فِي قلبه، وَقَالَ غَيره: البلاغة إِيصَال الْمَعْنى إِلَى الْقلب، فِي أحسن صُورَة من اللَّفْظ، وَقيل: الإيجاز مَعَ الإفهام وَالتَّصَرُّف من غير إِضْمَار، وَذكر ابْن رَشِيق فِي (الْعُمْدَة) وَمن خطه، فِيمَا قيل: البلاغة قَلِيل يفهم وَكثير لَا يسأم، وَقَالَ آخر: إجاعة اللَّفْظ وإشباع الْمَعْنى. وَقَالَ آخر: البليغ أسهلهم لفظا وَأَحْسَنهمْ بديهة. وَقَالَ خلف(13/5)
الْأَحْمَر: البلاغة لمحة دَالَّة، وَقَالَ الْخَلِيل: البلاغة كلمة تكشف عَن البغية، وَقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، وَقيل: البلاغة معرفَة الْوَصْل والفصل، وَقيل: أَن يدل أول الْكَلَام على آخِره وَآخره على أَوله، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: (وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض، فَمن قطعت لَهُ من حق أَخِيه قِطْعَة، فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار) . واللحن، بِالتَّحْرِيكِ. قَالَ الْخطابِيّ: الفطنة، وَقد لحن، بِالْكَسْرِ يلحن لحناً بِسُكُون الْحَاء: الْخَطَأ فِي الْإِعْرَاب. قَوْله: (فأحسب) بِالنّصب عطف على قَوْله: أَن يكون أبلغ، وَأدْخل: أَن تَشْبِيها للعل بعسى. قَوْله: (فَمن قضيت) أَي: حكمت لَهُ بِحَق مُسلم، إِنَّمَا ذكر مُسلما تَغْلِيبًا أَو اهتماماً بِحَالهِ أَو نظرا، إِلَى لفظ بَعْضكُم، فَإِنَّهُ خطاب للْمُؤْمِنين. قَوْله: (قِطْعَة من النَّار) ، أَي: هُوَ حرَام مآله النَّار. قَوْله: (فليأخذها) ، أَمر تهديد لَا تَخْيِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} (الْكَهْف: 92) . وَكَقَوْلِه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} (فصلت: 04) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة على الحكم بِالظَّاهِرِ تَشْرِيفًا للْأمة، وَهُوَ كَقَوْلِه: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلاه إلاَّ الله) ، وَقَوله فِي حَدِيث المتلاعنين: (لَوْلَا الْإِيمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن) ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقد رُوِيَ فِي هَذَا إِنَّمَا أحكم بِمَا أسمع، وَإِنَّمَا للحصر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أحكم إلاَّ بِمَا أسمع، وَقد اخْتلف فِي هَذَا فَقَالَ مَالك، فِي الْمَشْهُور عَنهُ: أَن الْحَاكِم لَا يحكم بِعِلْمِهِ فِي شَيْء، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: وَأَبُو عبيد وَالشعْبِيّ، وروى عَن شُرَيْح. وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى: أَنه يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي كل شَيْء من الْأَمْوَال وَالْحُدُود. وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي. وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّفْرِيق، فَمنهمْ من قَالَ: يقْضِي بِعِلْمِهِ بِمَا سَمعه فِي مجْلِس قَضَائِهِ خَاصَّة لَا قبله وَلَا فِي غَيره، إِذا لم يحضر مَجْلِسه بيِّنة فِي الْأَمْوَال بِعِلْمِهِ خَاصَّة، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة من أَصْحَاب مَالك، وحكوه عَنهُ أَيْضا. وَمِنْهُم من قَالَ: يحكم بِمَا سَمعه فِي مجْلِس قَضَائِهِ وَفِي غَيره، لَا قبل قَضَائِهِ وَلَا فِي غير مصره، فِي الْأَمْوَال خَاصَّة، سَوَاء سمع ذَلِك فِي مجْلِس قَضَائِهِ أَو فِي غَيره لَا قبل ولَايَته أَو بعْدهَا، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي. قَالَ: وَذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى أَنه يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَال وَالْقَذْف خَاصَّة، وَلم يشْتَرط مجْلِس الْقَضَاء. وَاتَّفَقُوا على أَنه يحكم بِعِلْمِهِ فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، لِأَن ذَلِك ضَرُورِيّ فِي حَقه، وَقَالَ الْمُهلب: دلّ الحَدِيث على أَن الْقوي على الْبَيَان البليغ فِي تأدية الْحجَّة يبلغ بِالْبَاطِلِ مَا يقْضِي لَهُ على خَصمه، وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يحل لَهُ مَا حرم الله عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام لتأكلوا فريقاً من أَمْوَال النَّاس} (الْبَقَرَة: 881) . وَفِيه: دلَالَة أَن الْبَيِّنَة مسموعة بعد الْيَمين، وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ وَبَوَّبَ لَهُ بعد: بَاب من أَقَامَ الْبَيِّنَة بعد الْيَمين. وَفِيه: دلَالَة على حكمه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ عِيَاض: وَهُوَ قَول الْمُحَقِّقين، قَالَه الْخطابِيّ. وَفِيه: دَلِيل على أَنه لَيْسَ كل مُجْتَهد مصيباً، وَأَن إِثْم الْخَطَأ مَرْفُوع عَنهُ إِذا اجْتهد. وَفِيه: الْعَمَل بِالظَّنِّ، قَالَ: فأحسب أَنه صدق، وَهُوَ أَمر لم يخْتَلف فِيهِ فِي حق الْحَاكِم، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: ذهب قوم إِلَى أَن كل مَا يقْضِي بِهِ الْحَاكِم من تمْلِيك مَال وَإِزَالَة ملك أَو إِثْبَات نِكَاح أَو طَلَاق أَو مَا أشبه ذَلِك على مَا حكم، وَإِن كَانَ فِي الْبَاطِن على خلاف مَا شهد بِهِ الشَّاهِدَانِ، وعَلى خلاف مَا حكم بِشَهَادَتِهِمَا على الحكم الظَّاهِر، لم يكن قَضَاء القَاضِي مُوجبا شَيْئا من تمْلِيك وَلَا تَحْلِيل وَلَا تَحْرِيم، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك: أَبُو يُوسُف، وَخَالفهُم آخَرُونَ فَقَالُوا: مَا كَانَ ذَلِك من تمْلِيك مَال فَهُوَ على حكم الْبَاطِن، وَمَا كَانَ من ذَلِك من قَضَاء بِطَلَاق أَو نِكَاح بِشُهُود ظَاهِرهمْ الْعَدَالَة وَبَاطِنهمْ الجرحة، فَحكم الْحَاكِم بِشَهَادَتِهِم على ظَاهِرهمْ، فَإِنَّهُ ينفذ ظَاهرا وَبَاطنا، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد، رحمهمَا الله.
71 - (بابُ إذَا خاصَمَ فَجَرَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (إِثْم من إِذا خَاصم فجر) ، من الْفُجُور، وَهُوَ الْكَذِب والفسوق والعصيان، وأصل الْفجْر: الشق وَالْفَتْح، يُقَال فجر المَاء إِذا شقَّه، وَمِنْه: فجر الصُّبْح، وَكَأن الْفَاجِر يفتح مَعْصِيّة ويتسع فِيهَا.
9542 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ خَالِدٍ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمْروٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ(13/6)
مُنَافِقاً أوْ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أرْبَعَةٍ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَها إذَا حدَّثَ كَذَبَ وإذَا وعَدَ أخْلَفَ وإذَا عاهَدَ غَدَرَ وإذَا خاصَمَ فَجَرَ.
(انْظُر الحَدِيث 43 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِذا خَاصم فجر) . و (بشر) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة ابْن خَالِد أَبُو مُحَمَّد العسكري، شيخ مُسلم أَيْضا، وَمُحَمّد هُوَ ابْن جَعْفَر، وَصرح بِهِ فِي بعض النّسخ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ، وَذكر هُنَاكَ مَوضِع: إِذا وعد أخلف، وَإِذا ائْتمن خَان، وَذَلِكَ لِأَن الْمَتْرُوك فِي الْمَوْضِعَيْنِ دَاخل تَحت الْمَذْكُور مِنْهُمَا.
81 - (بابُ قِصاصِ الْمَظْلُومِ إذَا وجَدَ مالَ ظالِمِه)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قصاص الْمَظْلُوم الَّذِي أَخذ مِنْهُ المَال إِذا وجد يَعْنِي: إِذا ظهر بِمَال الَّذِي ظلمه، وَجَوَاب، إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يَأْخُذ مِنْهُ بِقدر حَقه؟ يَعْنِي: يَأْخُذ. وَاكْتفى بِذكر أثر ابْن سِيرِين عَن ذكر الْجَواب، واستمرت عَادَته على هَذَا الْوَجْه وَهِي مَسْأَلَة الظفر، وفيهَا خلاف وتفصيل، فَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي الَّذِي يجْحَد وَدِيعَة غَيره، ثمَّ إِن الْمُودع يجد لَهُ مَالا، هَل يَأْخُذهُ عوضا من حَقه؟ فروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَنه لَا يفعل، وروى عَنهُ: أَن لَهُ أَن يَأْخُذ حَقه إِذا وجده من مَاله إِذا لم يكن فِيهِ شَيْء من الزِّيَادَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ النَّوَوِيّ: من لَهُ حق على رجل وَهُوَ عَاجز عَن اسْتِيفَائه يجوز لَهُ أَن يَأْخُذ من مَاله قدر حَقه من غير إِذْنه، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمنع من ذَلِك أَبُو حنيفَة وَمَالك، وَقَالَ ابْن بطال: وروى ابْن وهب عَن مَالك: أَنه إِذا كَانَ على الجاحد لِلْمَالِ دين فَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ إلاَّ مِقْدَار مَا يكون فِيهِ أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَعَن أبي حنيفَة: يَأْخُذ من الذَّهَب الذَّهَب وَمن الْفضة الْفضة وَمن الْمكيل الْمكيل وَمن الْمَوْزُون الْمَوْزُون، وَلَا يَأْخُذ غير ذَلِك، وَقَالَ زفر: لَهُ أَن يَأْخُذ الْعرض بِالْقيمَةِ. انْتهى. قلت: مَذْهَبنَا أَنه إِذا بخس حَقه فَلهُ أَن يَأْخُذهُ وإلاَّ فَلَا.
وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ يُقاصهُ وقَرَأ {وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النَّحْل: 621) .
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين إِذا وجد مَال ظالمه يقاصه، بِالتَّشْدِيدِ، وَأَصله: يقاصصه، أَرَادَ: يَأْخُذ مثل مَاله، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الله بن حميد فِي تَفْسِيره من طَرِيق خَالِد الْحذاء عَنهُ بِلَفْظ: أَن أَخذ أحد مِنْك شَيْئا فَخذ مثله. قَوْله: (وَقَرَأَ) ، إِشَارَة إِلَى أَنه احْتج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النَّحْل: 621) . يَعْنِي: لَا يزِيد وَلَا ينقص.
0642 - حدَّثنا أَبُو الْيَمانِ قَالَ أخْبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ جاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ فقالَتْ يَا رسولَ الله إنَّ أبَا سُفْيانَ رجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أنْ أُطْعِمَ منَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنا فَقَالَ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أنْ تُطْعِمِيهِمْ بالْمَعْرُوفِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهِنْد بِالْأَخْذِ من مَال زَوجهَا. قَالَ ابْن بطال: فَهَذَا يدل على جَوَاز أَخذ صَاحب الْحق من مَال من لَو يوفه أَو جَحده قدر حَقه، وَإسْنَاد هَذَا الحَدِيث على هَذَا النسق بِعَيْنِه قد مر غير مرّة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَهِنْد بنت عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن ربيعَة أم مُعَاوِيَة، أسلمت يَوْم الْفَتْح وَمَاتَتْ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَزوجهَا أَبُو سُفْيَان اسْمه: صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة وَالِد مُعَاوِيَة.
قَوْله: (مسيك) ، بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف السِّين على وزن: فعيل، بِفَتْح الْفَاء، ويروى بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد السِّين على وزن فعيل بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيد، وَهُوَ صِيغَة مُبَالغَة: كسكين وخمير، مَعْنَاهُ: بخيل شَدِيد الْمسك بِمَا فِي يَدَيْهِ، وَقَالَ عِيَاض: فِي رِوَايَة كثير من أهل الإتقان بِالْفَتْح وَالتَّخْفِيف، وَقَيده بَعضهم بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: فِي كتب الحَدِيث الْفَتْح وَالتَّخْفِيف، وَالْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين الْكسر وَالتَّشْدِيد. قَوْله: (حرج) ، أَي: إِثْم. قَوْله: (أَن تطعميهم) ، كلمة: أَن مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: لَا حرج عَلَيْك بإطعامك إيَّاهُم بِالْمَعْرُوفِ، أَي: بِقدر مَا يتعارف أَن يَأْكُل الْعِيَال، وَهَذَا الحَدِيث يشْتَمل على أَحْكَام، وَهِي النَّفَقَة للأولاد وَأَنَّهَا مقدرَة بالكفاية لَا بالإمداد.(13/7)
وَجَوَاز سَماع كَلَام الْأَجْنَبِيَّة وَذكر الْإِنْسَان بِمَا يكره عِنْد الْحَاجة، وَأَن للْمَرْأَة مدخلًا فِي كَفَالَة أَوْلَادهَا، وَجَوَاز خُرُوج الْمَرْأَة من بَيتهَا لقَضَاء حَاجَتهَا، وَقد اسْتدلَّ بِهِ من يرى بِجَوَاز الحكم على الْغَائِب. قلت: هَذَا اسْتِدْلَال فَاسد من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَانَ فَتْوَى لَا حكما. وَالْآخر: أَن أَبَا سُفْيَان كَانَ حَاضرا فِي الْبَلَد.
1642 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني يَزِيدُ عنْ أبِي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ ابنِ عامِر رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قُلْنا لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّكَ تَبْعَثُنَا فنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونا فَما تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَنا إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَأقْبَلُوا فإنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ.
(الحَدِيث 1642 طرفه فِي: 7316) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ بالتكلف من قَوْله: (فَخُذُوا مِنْهُم حق الضَّيْف) فَإِنَّهُ أثبت فِيهِ حَقًا للضيف، وَلِصَاحِب الْحق أَخذ حَقه مِمَّن يتَعَيَّن فِي جِهَته، وَفِيه معنى قصاص الْمَظْلُوم.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيزِيد من الزِّيَادَة هُوَ ابْن أبي حبيب. وَأَبُو الْخَيْر ضد الشَّرّ واسْمه مرْثَد، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عبد الله الْيَزنِي، وَهَؤُلَاء كلهم مصريون مَا خلا شَيْخه فَإِنَّهُ تنيسي، وَلَكِن أَصله من دمشق وعد من المصريين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن قُتَيْبَة، وَقَالَ: حسن، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن رمح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يقرونا) ، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْقَاف وَإِسْقَاط نون الْجمع، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا لَا يقروننا، على الأَصْل، لِأَن نون جمع الْمُذكر لَا يسْقط إلاَّ فِي مَوَاضِع مَعْرُوفَة، وَأَصله من قريب الضَّيْف قرى، مثل قليته قلى. وقراءً إِذا أَحْسَنت إِلَيْهِ، فَإِذا كسرت الْقَاف قصرت، وَإِذا فتحتها مددت. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا يقروننا، بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف أَي: لَا يضيفونا. قَوْله: (فَخُذُوا مِنْهُم) ، وَفِي رِوَايَة الكشميني: فَخُذُوا مِنْهُ، أَي: من مَالهم، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي الْخَيْر عَن عقبَة بن عَامر، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا نمر بِقوم فَلَا هم يضيفونا وَلَا هم يؤدون مَا لنا عَلَيْهِم من الْحق، وَلَا نَحن نَأْخُذ مِنْهُم. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن أَبَوا إلاَّ أَن تَأْخُذُوا مِنْهُم كرها فَخُذُوا) . ثمَّ قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَأْمر بِنَحْوِ هَذَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن ظَاهر الحَدِيث وجوب قِرى الضَّيْف، وَأَن المنزول عَلَيْهِ لَو امْتنع من الضِّيَافَة أخذت مِنْهُ كرها، وَإِلَيْهِ ذهب اللَّيْث مُطلقًا، وَخَصه أَحْمد بِأَهْل الْبَوَادِي دون الْقرى، وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي كَرِيمَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْلَة الضَّيْف حق على كل مُسلم، فَمن أصبح بفنائه فَهُوَ عَلَيْهِ دين، فَإِن شَاءَ اقْتضى وَإِن شَاءَ ترك، وَأَبُو كَرِيمَة هُوَ الْمِقْدَام بن معدي كرب، وَصرح بِهِ الطَّحَاوِيّ فِي رِوَايَته عَنهُ، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَيّمَا ضيف نزل بِقوم فَأصْبح الضَّيْف محروماً، فَلهُ أَن يَأْخُذهُ، بِقدر قراه، وَلَا حرج عَلَيْهِ) . وَقَالَ الْجُمْهُور: الضِّيَافَة سنَّة وَلَيْسَت بواجبة، وَقد كَانَت وَاجِبَة فنسخ وُجُوبهَا، قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث الْمِقْدَاد ابْن الْأسود، قَالَ: جِئْت أَنا وَصَاحب لي حَتَّى كَادَت تذْهب أسماعنا وأبصارنا من الْجُوع، فَجعلنَا نتعرض للنَّاس فَلم يضفنا أحد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَجعلنَا نعرض أَنْفُسنَا على أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ أحد مِنْهُم يقبلنا، فأتينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْطَلق بِنَا إِلَى أَهله، فَإِذا ثَلَاثَة أعنز، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: احتلبوا هَذَا اللَّبن بَيْننَا ... الحَدِيث بِطُولِهِ، قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَفلا يرى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يضيفوهم، وَقد بلغت بهم الْحَاجة، ثمَّ لم يعنفهم رَسُول الله على ذَلِك؟ فَدلَّ على نسخ مَا كَانَ أوجب على النَّاس من الضِّيَافَة، ثمَّ روى من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن جده: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا يَأْخُذ أحدكُم مَتَاع صَاحبه لاعباً وَلَا جاداً، وَإِذا أَخذ أحدكُم عَصا صَاحبه فليردها إِلَيْهِ) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقيل: الحَدِيث مَحْمُول على الْمُضْطَرين. ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يلْزم الْمُضْطَر الْعِوَض أَو لَا؟ فَقيل: يلْزم، وَقيل: لَا، وَقيل: كَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام، فَكَانَت الْمُوَاسَاة وَاجِبَة، فَلَمَّا فتحت الْفتُوح نسخ ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أبي شُرَيْح عِنْد مُسلم فِي حق(13/8)
الضَّيْف: وجائزته يَوْم وَلَيْلَة، والجائزة تفضل لَا وَاجِبَة، وَقيل: هَذَا كَانَ مَخْصُوصًا بالعمال المبعوثين لقبض الصَّدقَات من جِهَة الإِمَام، فَكَانَ على الْمَبْعُوث إِلَيْهِم إنزالهم فِي مُقَابلَة عَمَلهم الَّذِي يتولونه، لِأَنَّهُ لَا قيام لَهُم إلاَّ بذلك، حَكَاهُ الْخطابِيّ، قَالَ: وَكَانَ هَذَا فِي ذَلِك الزَّمَان إِذْ لم يكن للْمُسلمين بَيت مَال، فَأَما الْيَوْم فأرزاق الْعمَّال من بَيت المَال. قَالَ: وَإِلَى نَحْو هَذَا ذهب أَبُو يُوسُف فِي الضِّيَافَة على أهل نَجْرَان خَاصَّة، وَقيل: كَانَ هَذَا خَاصّا بِأَهْل الذِّمَّة، وَقد شَرط عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين ضرب الْجِزْيَة على نَصَارَى الشَّام ضِيَافَة من نزل بهم، وَقَالَ ابْن التِّين: نسخه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} (الْبَقَرَة: 881) . قَالَ: وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي أهل العمود والمواطن الَّتِي لَا أسواق فِيهَا.
91 - (بابُ مَا جاءَ فِي السَّقَائِفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي السقائف، وَهُوَ جمع سَقِيفَة، على وزن فعيلة بِمَعْنى مفعولة، وَهِي الْمَكَان المظلل كالساباط والحوانيت بِجَانِب الدَّار، وَكَانَ مُرَاده من وضع هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الْجُلُوس فِي الْأَمْكِنَة الْعَامَّة جَائِز، وَأَن اتِّخَاذ صَاحب الدَّار ساباطاً أَو مستظلاً جَائِز إِذا لم يضر الْمَارَّة. وَقَالَ ابْن التِّين: لما كَانَ لأهل الْمَوَاضِع أَن يرتفقوا بسقائفهم وأفنيتهم جَازَ الْجُلُوس فِيهَا. وَقَالَ ابْن بطال: السقائف والحواني قد علم النَّاس لِمَ وضعت، وَمن اتخذ فِيهَا مَجْلِسا فَذَلِك مُبَاح لَهُ إِذا الْتزم مَا فِي ذَلِك من: غض الْبَصَر، ورد السَّلَام، وهداية الضال، وَجَمِيع شُرُوطه.
وجَلَسَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي ساعِدَةَ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق سهل بن سعد فِي الْأَشْرِبَة على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وسقيفة بني سَاعِدَة كَانُوا يَجْتَمعُونَ فِيهَا، وَكَانَت مُشْتَركَة بَينهم، وَجلسَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَهم فِيهَا، وفيهَا وَقعت الْمُبَايعَة بخلافة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبَنُو سَاعِدَة فِي الْأَنْصَار فِي الْخَزْرَج، وساعدة هُوَ ابْن كَعْب بن الْخَزْرَج، قَالَ ابْن دُرَيْد: سَاعِدَة اسْم من أَسمَاء الْأسد.
2642 - حدَّثنا يَحْياى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْبٍ قَالَ حدَّثني مالِكٌ ح وأخْبَرَنِي يونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم قَالَ حِينَ تَوَفَّى الله نَبِيَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الأنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي ساعِدَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، قيل: لَيْسَ لإدخال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْمَظَالِم وَجه، قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْغَرَض بَيَان أَن الْجُلُوس فِي السَّقِيفَة الَّتِي للعامة لَيْسَ ظلما، وَفِيه مَا فِيهِ. وَيحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي نزيل مصر، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (وَأَخْبرنِي) أَي: قَالَ ابْن وهب وَيُونُس أَيْضا: أَخْبرنِي بِهِ، وَهَذَا تَحْويل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر، وَكَانَ ابْن وهب حَرِيصًا على التَّفْرِقَة بَين التحديث والإخبار مُرَاعَاة للاصطلاح، وَيُقَال: إِنَّه أول من اصْطلحَ على ذَلِك بِمصْر، والْحَدِيث مُخْتَصر من قصَّة بيعَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَة، وَفِي كتاب الْحُدُود بِطُولِهِ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
02 - (بابٌ لَا يَمْنَعُ جارٌ جارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يمْنَع جَار ... إِلَى آخِره. قَوْله: (خَشَبَة) ، بِالْإِفْرَادِ والتنوين فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره خشباً بِصِيغَة الْجمع، وَرَأَيْت صَاحب (التَّلْوِيح) قد ضبط بِيَدِهِ: خشباً، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الشين. قلت: تجمع الْخَشَبَة على خشب بِفتْحَتَيْنِ وخشب بِضَم الْخَاء وَسُكُون الشين وخشب بِضَمَّتَيْنِ وخشبان، وروى الطَّحَاوِيّ عَن جمَاعَة من الْمَشَايِخ أَنهم رَوَوْهُ فِي الحَدِيث بِالْإِفْرَادِ، وَأنكر ذَلِك عبد الْغَنِيّ بن سعيد، فَقَالَ: النَّاس كلهم يَقُولُونَ بِالْجمعِ إلاَّ الطَّحَاوِيّ.(13/9)
قلت: إِنْكَار عبد الْغَنِيّ لَيْسَ بموجه، لِأَن الطَّحَاوِيّ مَا انْفَرد بِهِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَن الْمَشَايِخ فَكيف يَقُول: النَّاس كلهم؟ وَقَالَ أَبُو عمر: قد رُوِيَ اللفظان يَعْنِي: الْإِفْرَاد وَالْجمع. فِي (الْمُوَطَّأ) ، والإفراد أحسن لِأَن أمره أخف فِي مُسَامَحَة الْجَار، بِخِلَاف الْجمع، لِأَنَّهُ أشق عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاحِد.
3642 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يمْنَعُ جارٌ جارَهُ أنْ يَغرِزَ خشَبةً فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مالِي أراكُمْ مُعْرِضِينَ وَالله لأرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أكْتَافِكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إنَّهُمَا سَوَاء، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْقَضَاء عَن مُسَدّد وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي خلف. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن مَالك عَن ابْن شهَاب) كَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) وَقَالَ خَالِد بن مخلد: عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد، بدل: ابْن شهَاب. وَقَالَ بشر بن عمر: عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة، بدل: الْأَعْرَج، وَوَافَقَهُ هِشَام بن يُوسُف عَن مَالك وَمعمر عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) ، وَقَالَ: الْمَحْفُوظ عَن مَالك الأول، وَقَالَ فِي (الْعِلَل) : رَوَاهُ هِشَام الدستوَائي: عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد ب الْمسيب، بدل: الْأَعْرَج، وَكَذَا قَالَ عقيل: عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ ابْن أبي حَفْصَة: عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، بدل: الْأَعْرَج. وَالْمَحْفُوظ: عَن الزُّهْرِيّ عَن الْأَعْرَج، وَبِذَلِك جزم ابْن عبد الْبر أَيْضا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَنه يحْتَمل أَن يكون عِنْد الزُّهْرِيّ عَن الْجَمِيع. قَوْله: (لَا يمْنَع) بِالْجَزْمِ على أَن كلمة: لَا، ناهية، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالرَّفْع، على أَن: لَا، نَافِيَة خبر بِمَعْنى النَّهْي، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: لَا يمنعن، بِزِيَادَة نون التَّأْكِيد، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (لَا ضَرَر وَلَا ضرار، وللرجل أَن يضع خَشَبَة فِي حَائِط جَاره) . قَوْله: (أَن يغرز) ، أَي: بِأَن يغرز، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: بغرز خَشَبَة فِي جِدَار جَاره. قَوْله: (ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا اسْتَأْذن أحدكُم أَخَاهُ أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره فَلَا يمنعهُ، فنكسوا، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: مَا لي أَرَاكُم قد أعرضتم، لألقينَّها بَين أكتافكم. وَفِي رِوَايَة أَحْمد: فَلَمَّا حَدثهمْ أَبُو هُرَيْرَة بذلك طأطأوا رؤوسهم. قَوْله: (عَنْهَا) ، أَي: عَن هَذِه الْمقَالة، أَو عَن هَذِه السنَّة. قَوْله: (لأرمينَّ بهَا) ، وَفِي رِوَايَة: لأرمينها. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: لألقينها، كَمَا مرت الْآن. قَوْله: (بَين أكتافكم) ، قَالَ ابْن عبد الْبر: روينَاهُ فِي (الْمُوَطَّأ) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة وبالنون، يَعْنِي: بِالْوَجْهَيْنِ: بأكتافكم، جمع كتف بِالتَّاءِ، وبأكنافكم، بالنُّون: جمع كنف، وَهُوَ الْجَانِب، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ إِن لم تقبلُوا هَذَا الحكم وتعملوا بِهِ راضين لأجعلنَّها أَي: الْخَشَبَة على رِقَابكُمْ كارهين، وَأَرَادَ بذلك الْمُبَالغَة، وَوَقع ذَلِك من أبي هُرَيْرَة حِين كَانَ يَلِي إمرة الْمَدِينَة لمروان، وَوَقع فِي رِوَايَة عِنْد ابْن عبد الْبر من وَجه آخر: لأرمين بهَا بَين أعينكُم وَإِن كرهتم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ قوم: مَعْنَاهُ النّدب إِلَى بر الْجَار وَلَيْسَ على الْوُجُوب، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك، وروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك، قَالَ: لَيْسَ يقْضِي على رجل أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَار جَاره، وَإِنَّمَا نرى أَن ذَلِك كَانَ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الوصاءة بالجار. قَالَ: وَأكْثر عُلَمَاء السّلف أَن ذَلِك على النّدب، وَحَمَلُوهُ على معنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا اسْتَأْذَنت أحدَكم امرأتُه إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يمْنَعهَا) ، وَقد مر فِي حَدِيث أبي دَاوُد: إِذا اسْتَأْذن أحدكُم أَخَاهُ، وَقيد بَعضهم الْوُجُوب بالاستئذان، وَقَالَ قوم: هُوَ وَاجِب إِذا لم يكن فِي ذَلِك مضرَّة على صَاحب الْجِدَار، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْر وَجَمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَهُوَ مَذْهَب عمر بن الْخطاب، وروى الشَّافِعِي عَن مَالك بِسَنَد صَحِيح: أَن الضَّحَّاك بن خَليفَة سَأَلَ مُحَمَّد بن مسلمة أَن(13/10)
يَسُوق خليجاً لَهُ فيمر بِهِ فِي أَرض مُحَمَّد بن مسلمة، فَامْتنعَ، فَكَلمهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي ذَلِك فَأبى، فَقَالَ: وَالله ليمرن بِهِ وَلَو على بَطْنك، فَحمل عمر الْأَمر على ظَاهره وعداه إِلَى كل مَا يحْتَاج الْجَار إِلَى الِانْتِفَاع بِهِ من دَار جَاره وأرضه. وَقَالَ بَعضهم: وَقد قوى الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم القَوْل بِالْوُجُوب بِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قضى بِهِ وَلم يُخَالِفهُ أحد من أهل عصره، وَكَانَ اتِّفَاقًا مِنْهُم على ذَلِك. انْتهى. قلت: هَذَا مُجَرّد دَعْوَى يحْتَاج إِلَى إِقَامَة دَلِيل، وَعَن الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد قَولَانِ: أشهرهما: اشْتِرَاط إِذن الْمَالِك، فَإِن امْتنع لم يجْبر، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وحملوا الْأَمر فِيمَا جَاءَ من الحَدِيث على النّدب وَالنَّهْي على التَّنْزِيه جمعا بَينه وَبَين الْأَحَادِيث الدَّالَّة على تَحْرِيم مَال الْمُسلم إلاَّ بِرِضَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا زَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يوصيني بالجار حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيورثه، وَكَقَوْلِه: مَا آمن من بَات شبعان وجاره طاو، وَقيل: إِن الْهَاء فِي: جِدَاره، يرجع إِلَى الغارز، لِأَن الْجِدَار إِذا كَانَ بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ لأَحَدهمَا فَأَرَادَ صَاحبه أَن يضع عَلَيْهِ الْجُذُوع وَيَبْنِي، رُبمَا مَنعه جَاره لِئَلَّا يشرف عَلَيْهِ، فَأخْبر الشَّارِع أَنه لَا يمنعهُ ذَلِك، وَقَالَ ابْن التِّين: عورض هَذَا بِأَنَّهُ إِحْدَاث قَول ثَالِث فِي معنى الْخَبَر، وَذَلِكَ مَمْنُوع عِنْد أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَلَا يسلم لَهُ، وَالله أعلم.
12 - (بابُ صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صب الْخمر فِي طَرِيق النَّاس، هَل يَنْبَغِي ذَلِك أم لَا؟ فَقيل: لَا يمْنَع من ذَلِك، لِأَنَّهُ للإعلان برفضها، وليشتهر تَركهَا، وَذَلِكَ أَنه أرجح فِي الْمصلحَة من التأذي بصبها فِي الطَّرِيق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُهلب، وَقيل: يمْنَع من ذَلِك، فَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الَّذِي فِي الحَدِيث كَانَ فِي أول الْإِسْلَام قبل أَن ترَتّب الْأَشْيَاء وتنظف، فَأَما الْآن فَلَا يَنْبَغِي صب النَّجَاسَات فِي الطّرق خوفًا أَن يُؤْذِي الْمُسلمين، وَقد منع سَحْنُون أَن يصب المَاء من بِئْر وَقعت فِيهِ فَأْرَة فِي الطَّرِيق. قَوْله: (فِي الطَّرِيق) ، ويروى: فِي الطّرق.
4642 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيى قَالَ أخبرنَا عَفَّانُ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كنتُ ساقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أبِي طَلْحَةَ وكانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فأمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنادِياً يُنادي ألاَ إنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فقالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فأهْرِقْها فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُها فجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وهْيَ فِي بُطُونِهِمْ فأنْزَلَ الله {لَيْسَ علَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا} (الْمَائِدَة: 39) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَهَرَقْتهَا فجرت فِي سِكَك الْمَدِينَة) ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى هُوَ الْمَعْرُوف بصاعقة، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعَفَّان هُوَ ابْن مُسلم الصفار، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز بِدُونِ الْوَاسِطَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَنهُ نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كنت ساقي الْقَوْم فِي منزل أبي طَلْحَة) ، وَأَبُو طَلْحَة زوج أم أنس، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وأحداً وَسَائِر الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء، وعاش بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة، وَمَات بِالشَّام، قَالَه أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي. وَعَن أنس: أَنه غزا الْبَحْر فَمَاتَ فِيهِ، فَمَا وجدوا جَزِيرَة فدفنوه فِيهَا إِلَّا بعد سَبْعَة أَيَّام، وَلم يتَغَيَّر، وَفِي الْقَوْم كَانَ أَبُو عُبَيْدَة وَأبي بن كَعْب، على مَا يَأْتِي فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: إِنِّي لقائم أسقيها أَبَا طَلْحَة، وَأَبا أَيُّوب ورجالاً من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِنِّي لقائم على الْحَيّ على عمومتي أسقيهم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: كنت أَسْقِي أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة ومعاذ بن جبل فِي رَهْط من الْأَنْصَار، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِنِّي لأسقي أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة وَسُهيْل بن بَيْضَاء من مزادة. قَوْله: (وَكَانَ خمرهم يَوْمئِذٍ الفضيخ) ، أصل الْخمر من المخامرة، وَهِي المخالطة،(13/11)
سميت بهَا لمخالطتها الْعقل، وَمن التخمير وَهُوَ التغطية، سميت بهَا لتغطيتها الْعقل، يذكر وَيُؤَنث، وَجزم ابْن التِّين بالتأنيث، وَقَالَ ابْن سَيّده: هِيَ مَا أسكر من عصير الْعِنَب، والأعرف فِيهَا التَّأْنِيث، وَقد يذكر، وَالْجمع: خمور. وَقَالَ ابْن الْمسيب، فِيمَا حكا النّحاس فِي (ناسخه) سميت بذلك لِأَنَّهَا صعد صفوها ورسب كدرها، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: لِأَنَّهَا تركت فَاخْتَمَرت، واختمارها تغير رِيحهَا، وَجعلهَا أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي من الْحُبُوب، وَأَظنهُ تسمحاً مِنْهُ، لِأَن حَقِيقَة الْخمر إِنَّمَا هِيَ للعنب دون سَائِر الْأَشْيَاء، وَعند أبي حنيفَة الإِمَام: الْخمر هِيَ النيء من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ، وَلها عدَّة أَسمَاء نَحْو الْمِائَتَيْنِ، ذَكرنَاهَا فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) والفضيخ، بفاء مَفْتُوحَة وضاد وخاء معجمتين: شراب يتَّخذ من الْبُسْر من غير أَن تمسه النَّار، وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ شراب يتَّخذ من الْبُسْر المفضوخ، يَعْنِي: المشدوخ. وَفِي (مجمع الغرائب) : ويروى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لَيْسَ بالفضيخ، وَلكنه الفضوخ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة عَن الْأَعْرَاب: هُوَ مَا اعتصر من الْعِنَب اعتصاراً، فَهُوَ الفضيخ، وَكَذَلِكَ فضيخ الْبُسْر. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يهشم الْبُسْر وَيجْعَل مَعَه المَاء، وَقَالَهُ اللَّيْث أَيْضا. قَوْله: (فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منادياً يُنَادي) ، وَفِي رِوَايَة: فَأَتَاهُم آتٍ، يَعْنِي: أَن الْآتِي أخْبرهُم بالنداء، والنداء عَن الْأَمر يتنزل فِي الْعَمَل بِهِ منزلَة سَماع. قَوْله: (فَأَهْرقهَا) الْهَاء فِيهِ زَائِدَة وَأَصله: أراقها من الإراقة، وَهِي الإسالة والصب، وَيُقَال: أراق وهراق. قَوْله: (فِي سِكَك الْمَدِينَة) أَي: فِي طرقها، جمع: سكَّة بِالْكَسْرِ. قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا ... } (الْمَائِدَة: 39) . الْآيَة. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا الْأسود بن عَامر أَنبأَنَا إِسْرَائِيل عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما حرمت الْخمر قَالَ أنَاس: يَا رَسُول الله {أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يشربونها؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} (الْمَائِدَة: 39) . قَالَ: وَلما حولت الْقبْلَة، قَالَ أنَاس: يَا رَسُول الله} أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يصلونَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} (الْبَقَرَة: 341) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بن عَازِب، قَالَ: لما نزل تَحْرِيم الْخمر، قَالُوا: كَيفَ بِمن كَانَ يشْربهَا قبل أَن تحرم؟ فَنزلت {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا ... } (الْمَائِدَة: 39) . الْآيَة، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَحْرِيم الْخمر، وَذكر ابْن سعد وَغَيره أَن تَحْرِيم الْخمر كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة بعد غَزْوَة أحد. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد. وَفِيه: حُرْمَة إِِمْسَاكهَا، وَنقل النَّوَوِيّ اتِّفَاق الْجُمْهُور عَلَيْهِ. وَفِيه: قَول من قَالَ: قتل قوم وَهِي فِي بطونهم، صدر عَن غَلَبَة خوف وشفقة، أَو عَن غَفلَة عَن الْمَعْنى، لِأَن الْخمر كَانَت مُبَاحَة أَولا، وَمن فعل مَا أُبِيح لَهُ لم يكن لَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْء، لِأَن الْمُبَاح مستوى الطَّرفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع. وَفِيه: فجرت فِي سِكَك الْمَدِينَة، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن حزم على طَهَارَة الْخمر، لِأَن الصَّحَابَة كَانَ أَكْثَرهم يمشي حافياً، فَمَا يُصِيب قدمه لَا ينجس بِهِ. قلت: هَذِه جَرَاءَة عَظِيمَة، لِأَن الْقُرْآن أخبر بنجاستها.
22 - (بابُ أفْنِيَةِ الدُّورِ والْجُلوسِ فِيهَا عَلَى الصُّعُدَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْجُلُوس فِي أفنية الدّور، والأفنية جمع: فنَاء، بِكَسْر الْفَاء وبالنون وَالْمدّ: وَهُوَ مَا امْتَدَّ من جَوَانِب الدَّار. وَفِي (الْمغرب) : وَهُوَ سَعَة أَمَام الْبيُوت. وَقَالَ ابْن ولاد: الفناء حَرِيم الدَّار. قَوْله: (وَالْجُلُوس على الصعدات) ، أَي: وَبَيَان حكم الْجُلُوس على الصعدات، وَهِي بِضَمَّتَيْنِ: الطرقات، وَهُوَ جمع: صَعِيد، مثل: طَرِيق يجمع على طرقات، وَقيل: الصعدات جمع صعد بِضَمَّتَيْنِ، والصعد جمع صَعِيد، فَيكون الصعدات جمع الْجمع، كطرق فَإِنَّهُ جمع طَرِيق وَيجمع على طرقات. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَقيل: هِيَ جمع صعدة كظلمة، وَهِي فنَاء بَاب الدَّار وممر النَّاس بَين يَدَيْهِ.
وقالَتْ عائِشَةُ فابْتَنَى أبُو بَكْرٍ مَسْجِدَاً بِفِناءِ دارِهِ يُصَلِّي فِيهِ ويَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِساءُ الْمُشْرِكِينَ وأبْنَاؤُهُمْ يعْجَبونَ مِنْهُ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق دَلِيلا على جَوَاز التَّصَرُّف من صَاحب الدَّار فِي فنَاء دَاره، وَهُوَ أَيْضا يُوضح الحكم الَّذِي أبهمه فِي التَّرْجَمَة، وَوَصله فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْمَسْجِد يكون فِي الطَّرِيق من غير ضَرَر للنَّاس فِيهِ، عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير: أَن عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت ... الحَدِيث، وَفِيه: ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا(13/12)
بِفنَاء دَاره فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيقْرَأ الْقُرْآن، فتقف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين وأبناؤهم يعْجبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ... الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي الْهِجْرَة بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مطولا.
وَفِيه: ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيقْرَأ الْقُرْآن، فتتقذف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين وأبناؤهم، وهم يعْجبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ويروى: فينقذف عَلَيْهِ، وَمر هَذَا أَيْضا فِي الْكفَالَة فِي: بَاب جوَار أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: فيتقصف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين، وَمَعْنَاهُ: يزدحمون عَلَيْهِ، وَأَصله من القصف، وَهُوَ: الْكسر وَالدَّفْع الشَّديد لفرط الزحام، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت هُنَا أَربع رِوَايَات. الأولى: فتقف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين، مر فِي: بَاب الْمَسْجِد على الطَّرِيق. وَالثَّانيَِة: هُنَا: فيتقصف. وَالثَّالِثَة: فِي الْهِجْرَة: فيتقذف، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بدل الصَّاد من الْقَذْف، وَهُوَ الرَّمْي بِقُوَّة وَالْمعْنَى: يرْمونَ أنفسهم عَلَيْهِ ويتزاحمون. وَالرَّابِعَة: فينقذف من الْقَذْف أَيْضا. وَلَكِن الْفرق بَينهمَا أَن: يتقذف، على وزن: يتفعل، من بَاب التفعل، وينقذف على وزن: ينفعل، من بَاب الانفعال. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَفِي حَدِيث الْهِجْرَة: فيتقذف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين، وَفِي رِوَايَة: فينقذف، وَالْمَعْرُوف: فيتقصف. قلت: وَقد قيل رِوَايَة أُخْرَى، وَهِي: يتصفف من الصَّفّ، أَي: يصطفون عَلَيْهِ ويقفون صفا صفا. قَوْله: (يعْجبُونَ) ، جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ بِمَكَّة) .
5642 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بنُ مَيْسَرَةْ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ ابنِ يَسارٍ عنْ أبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إيَّاكُمْ والجلوسَ عَلى الطُّرُقَاتِ فقالُوا مَا لَنا بُدٌّ إنَّما هِيَ مَجالِسُنا نَتَحَدَّثُ فِيها قَالَ فإذَا أبَيْتُمْ إلاَّ الْمَجَالِسَ فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّها قَالُوا مَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وكَفُّ الأذَى ورَدُّ السَّلاَمِ وأمْرٌ بالْمَعْرُوفِ ونَهْيٌ عنِ الْمُنْكَرِ.
(الحَدِيث 5642 طرفه فِي: 9226) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالْجُلُوس على الطرقات) فَإِن قلت: التَّرْجَمَة على الصعدات؟ قلت: الصعدات هِيَ الطرقات كَمَا ذكرنَا، وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى، وَعند أبي دَاوُد بِلَفْظ: الطرقات. وَرِجَاله قد ذكرُوا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِيهِ وَفِي اللبَاس عَن سُوَيْد بن سعيد عَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي عَن الدَّرَاورْدِي بِهِ.
قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالْجُلُوس) ، بِالنّصب على التحذير، أَي: اتَّقوا الْجُلُوس واتركوه على الطرقات. قَوْله: (مَا لنا بدُّ) أَي: مَا لنا غنى عَنهُ. قَوْله: (هِيَ) أَي: الطرقات. قَوْله: (فَإِذا أَبَيْتُم) ، من: الإباء فَإِذا امتنعتم عَن الْجُلُوس إلاَّ فِي الْمجَالِس، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَإِذا أتيتم إِلَى الْمجَالِس، من الْإِتْيَان، وبكلمة: إِلَى، الَّتِي للغاية. قَوْله: (قَالَ: غض الْبَصَر) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حق الطَّرِيق غض الْبَصَر، وَأَرَادَ بِهِ السَّلامَة من التَّعَرُّض للفتنة لمن يمء من النِّسَاء وَغَيرهم قَوْله (وكف الْأَذَى) بِالرَّفْع عطف على مَا قبله وَأَرَادَ بِهِ السَّلامَة من التَّعَرُّض إِلَى أحد بالْقَوْل وَالْفِعْل مِمَّا لَيْسَ فيهمَا من الْخَيْر. قَوْله: (ورد السَّلَام) ، يَعْنِي: على الَّذِي يسلم عَلَيْهِ من المارين. قَوْله: (وَأمر بِمَعْرُوف) ، وَهُوَ كل أَمر جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله تَعَالَى والتقرب إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس وكل مَا ندب إِلَيْهِ الشَّرْع من المحسنات وَنهى عَنهُ من المقبحات، وَالْمُنكر ضد الْمَعْرُوف، وكل مَا قبحه الشَّرْع وَحرمه وَكَرِهَهُ، وَزَاد عِنْد أبي دَاوُد: وإرشاد السَّبِيل وتشميت الْعَاطِس إِذا حمد، وَمن حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الطَّبَرَانِيّ: وإغاثة الملهوف، زِيَادَة على مَا ذكر. قَالُوا: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجُلُوس فِي الطرقات لِئَلَّا يضعف الْجَالِس على الشُّرُوط الَّتِي ذكرهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فهم الْعلمَاء أَن هَذَا الْمَنْع لَيْسَ على جِهَة التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب سد الذرائع والإرشاد إِلَى الصُّلْح. قَالَ: وَفِي رِوَايَة: وَحسن الْكَلَام من رد الْجَواب، قَالَ: يُرِيد أَن من جلس على الطَّرِيق فقد تعرض لكَلَام النَّاس، فليحسن لَهُم كَلَامه وَيصْلح شَأْنه. وروى هِشَام بن عُرْوَة عَن عبد الله بن الزبير، قَالَ: الْمجَالِس حلق الشَّيْطَان إِن يرَوا حَقًا لَا يقومُونَ بِهِ، وَإِن يرَوا بَاطِلا فَلَا يدفعونه. وَقَالَ عَامر: كَانَ النَّاس يَجْلِسُونَ فِي مَسَاجِدهمْ: فَلَمَّا قتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خَرجُوا إِلَى الطَّرِيق يسْأَلُون عَن الْإِخْبَار. وَقَالَ طَلْحَة(13/13)
ابْن عبيد الله: مجْلِس الرجل بِبَابِهِ مرؤة. وَقَالَ ابْن أبي خَالِد: رَأَيْت الشّعبِيّ جَالِسا فِي الطَّرِيق.
وَفِيه: الدّلَالَة على النّدب إِلَى لُزُوم الْمنَازل الَّتِي يسلم لازمها من رُؤْيَة مَا تكره رُؤْيَته، وَسَمَاع مَا لَا يحل لَهُ سَمَاعه، وَمَا يجب عَلَيْهِ إِنْكَاره، وَمن إغاثة مستغيث تلْزمهُ إغاثته، وَذَلِكَ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا أذن فِي الْجُلُوس بالأفنية، والطرق بعد نَهْيه عَنهُ إِذا كَانَ من يقوم بالمعاني الَّتِي ذكرهَا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالأسواق الَّتِي تجمع الْمعَانِي الَّتِي أَمر الشَّارِع الْجَالِس بالطرق باجتنابها، مَعَ الْأُمُور الَّتِي هِيَ أوجب مِنْهَا، وألزم من ترك الْكَذِب وَالْحلف بِالْبَاطِلِ وتحسين السّلع بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وغش الْمُسلمين وَغير ذَلِك من الْمعَانِي الَّتِي لَا يُطيق الْكَلَام بِمَا يلْزمه مِنْهَا إلاَّ من عصمه الله، أَحَق وَأولى بترك الْجُلُوس مِنْهَا فِي الأفنية والطرق.
32 - (بابُ الآبَارِ علَى الطُّرُقِ إذَا لَمْ يَتَأذَّ بِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْآبَار الَّتِي حفرت على الطَّرِيق إِذا لم يتأذَّ بِها، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول يَعْنِي: إِذا لم يحصل مِنْهَا أَذَى لأحد من المارين، وَالْحكم لم يفهم من التَّرْجَمَة ظَاهرا، لَكِن من حَدِيث الْبَاب يفهم الحكم، وَهُوَ الْجَوَاز، لِأَن فِيهِ مَنْفَعَة لِلْخلقِ والبهائم، غير أَنه مُقَيّد بِشَرْط أَن لَا يكون فِي حفرهَا أَذَى لأحد، والآبار جمع: بِئْر، كالأجمال جمع حمل، وَهُوَ جمع الْقلَّة، وَالْكَثْرَة بئار، وَذكرت فِي شرحي: أَن الْبِئْر يجمع فِي الْقلَّة على أبؤر وآبار، بِهَمْزَة بعد الْبَاء، وَمن الْعَرَب من يقلب الْهمزَة ألفا فَيَقُول: آبار، فَإِذا كثرت فَهِيَ: البئار، وَقد بأرت بِئْرا، وَقَالَ أَبُو زيد: بأرت أبأر بأراً.
6642 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنا رَجُلٌ بِطَريقٍ اشْتدَّ علَيْهِ العَطَشُ فوَجَدَ بِئْراً فنَزَلَ فِيها فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فإذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ فقالَ الرُّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هاذا الْكَلْبُ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كانَ بلَغَ مِنِّي فنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاء فَسَقى الْكَلْبُ فشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رسولَ الله وإنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ لأجرَاً فَقَالَ فِي كُلّ ذَاتٍ كبِدٍ رَطْبَةٍ أجْر..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل على ذكر بِئْر فِي طَرِيق، وَلم يحصل مِنْهُ إلاَّ مَنْفَعَة لآدَمِيّ وحيوان، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الشّرْب فِي: بَاب فضل سقِِي المَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه غير شَيْخه، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن عبد الله بن ييوسف عَن مَالك، وَهنا أخرجه: عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا يدل على أَن حفر الْآبَار بِحَيْثُ يجوز للحافر حفرهَا من أَرض مُبَاحَة أَو مَمْلُوكَة لَهُ جَائِز، وَلم يمْنَع ذَلِك لما فِيهِ من الْبركَة، وتلافي العطشان، وَلذَلِك لم يكن ضَامِنا، لِأَنَّهُ قد يجوز مَعَ الِانْتِفَاع بهَا إِن يستضربها بساقط بلَيْل، أَو تقع فِيهَا مَاشِيَة، لكنه لما كَانَ ذَلِك نَادرا، وَكَانَت الْمَنْفَعَة أَكثر، فغلب عَلَيْهِ حَال الِانْتِفَاع على حَال الاستضرار، فَكَانَ جُباراً لَا دِيَة لمن هلك فِيهَا.
42 - (بابُ إمَاطَةِ الأذَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر إمَاطَة الْأَذَى، أَي: إِزَالَته عَن الْمُسلمين. قَالَ أَبُو عبيد عَن الْكسَائي: مطت عَنهُ الْأَذَى وأمطته: نحيته، وَكَذَلِكَ: مطت غَيْرِي وأمطيته، وَأنكر الْأَصْمَعِي ذَلِك، وَقَالَ: مطت أَنا وأمطت غَيْرِي، ومادته: مِيم وياء وطاء.
وقالَ هَمَّامٌ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُمِيطُ الأذاى عنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ(13/14)
همامٌ، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ: هُوَ ابْن مُنَبّه، أَخُو وهب بن مُنَبّه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد فِي: بَاب من أَخذ بالركاب، بِلَفْظ: وتميط الْأَذَى عَن الطَّرِيق صَدَقَة. قَوْله: (تميط) ، تَقْدِيره: أَن تميط، وَإِن، مَصْدَرِيَّة، أَي: إماطتك الْأَذَى عَن الطَّرِيق صَدَقَة كَمَا تقدر، كَذَا فِي قَوْلهم: تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ أَي: أَن تسمع، أَي: سماعك، وَقيل: هَذَا من قَول أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا القَوْل لَيْسَ من أبي هُرَيْرَة، لِأَن الْفَضَائِل لَا تدْرك بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ توقيفاً من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَقد أسْند مَالك مَعْنَاهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بَيْنَمَا رجل يمشي إِذا وجد غُصْن شوك على الطَّرِيق، فَأخْرجهُ فَشكر الله لَهُ فغفر لَهُ، يَأْتِي هَذَا الحَدِيث عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: كَيفَ تكون إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق صَدَقَة؟ قلت: معنى الصَّدَقَة إِيصَال النَّفْع إِلَى الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ، وَالَّذِي أماط الْأَذَى عَن الطَّرِيق قد تصدق عَلَيْهِ بالسلامة، فَكَانَ لَهُ أجر الصَّدَقَة.
52 - (بابُ الغُرْفَةِ والْعِلِّيَّةِ الِمُشْرِفَةِ وغيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وغيْرِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اسْتِعْمَال الغرفة، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْفَاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: الغرفة الْعلية وَالْجمع: غرفات وغرفات وغرفات وغرف. قَوْله: (والعلية) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَضمّهَا وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة وبالياء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، وَهِي الغرفة على تَفْسِير الْجَوْهَرِي، لِأَنَّهُ فسر الغرفة بالعلية فِي: بَاب الغرف، ثمَّ فسر الْعلية بالغرفة فِي: بَاب علا، ثمَّ قَالَ: وَالْجمع العلالي: وَقَالَ: وَهِي فعيلة مثل مزيفة وَأَصلهَا: عليوة، فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت وَهِي من: علوات، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ الْعلية، بِالْكَسْرِ على فعيلة، وَبَعْضهمْ يَجْعَلهَا من المضاعف ووزنها: فعلية، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَام فعلية. انْتهى كَلَامه. وَاعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: وَبَعْضهمْ يَجْعَلهَا من المضاعف ووزنها فعلية، بِأَنَّهُ لَا يَصح، لِأَن الْعلية: من: (ع ل و) ، وَلَيْسَت من: (ع ل ل) ، وَقَوله: لَيْسَ فِي الْكَلَام فعلية سَهْو، لِأَنَّهُ قد ذكر: مزيفة، وَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون عطف الْعلية على الغرفة عطفا تفسيرياً. قَوْله: (المشرفة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: من الإشراف على الشَّيْء، وَهُوَ الِاطِّلَاع عَلَيْهِ. قَوْله: (فِي السطوح) ، أَي: سَوَاء كَانَت الْعلية المشرفة على مَكَان أَو غير المشرفة كائنة على سطح، أَو مُنْفَرِدَة قَائِمَة مُرْتَفعَة من غير أَن تكون على سطح، فيفهم من كَلَامه أَنَّهَا على أَرْبَعَة أَقسَام: الأول: علية مشرفة على مَكَان على سطح. الثَّانِي: مشرفة على مَكَان على غير سطح. الثَّالِث: غير مشرفة على مَكَان على سطح. الرَّابِع: غير مشرفة على مَكَان على غير سطح. وَقَالَ ابْن بطال: الغرفة على السطوح مُبَاحَة مَا لم يطلع مِنْهَا على حُرْمَة أحد. قلت: الَّذِي ذكره هِيَ الْعلية على السَّطْح غير المشرفة، فيفهم مِنْهُ أَنَّهَا إِذا كَانَت مشرفة على مَكَان فَهِيَ غير مُبَاحَة، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت على غير سطح، وَكَانَت مشرفة، وَلم أر أحدا من شرَّاح البُخَارِيّ حقق هَذَا الْموضع.
7642 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ محمَّدٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ أشْرَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أراى إنِّي أرى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أشرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَطَم من آطام الْمَدِينَة) ، لِأَن الأطم، بِضَمَّتَيْنِ: بِنَاء مُرْتَفع، قَالَه ابْن الْأَثِير، وَهُوَ كالعلية المشرفة لِأَنَّهَا أَيْضا بِنَاء مُرْتَفع، غير أَنه تَارَة تبنى على غير سطح، وَقَالَ غَيره: الأطم، بِضَم الْهمزَة والطاء وسكونها وَالْجمع: آطام، وَهِي: حصون لأهل الْمَدِينَة، والواحدة: أطمة، مثل: أكمة، وَقيل: الأطم: حصن مَبْنِيّ بِالْحِجَارَةِ. وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَابْن عُيَيْنَة، بِضَم الْعين وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وبالنون الْمَفْتُوحَة: هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج فِي: بَاب آطام الْمَدِينَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (مواقع) ، مَنْصُوب بدل: عَمَّا أرى، وَهَذَا إِخْبَار بِكَثْرَة الْفِتَن فِي الْمَدِينَة، وَقد وَقع كَمَا أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(13/15)
8642 - حدَّثنا يحياى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله بنِ أبِي ثَوْرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أزَلْ حَرِيصاً علَى أنْ أسْألَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّتَيْنِ قَالَ الله لَهُما إنْ تَتُوبَا إلاى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكما. فَحَجَجْتُ معَهُ فَعَدَلَ وعَدَلْتُ معَهُ بِالإدَاوَةِ فتَبَرَّزَ حتَّى جاءَ فَسَكَبْتُ علَى يَدَيْهِ مِنَ الإدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْآتانِ مِنْ أزْواجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّتانِ قَالَ لَهُمَا إنْ تَتُوبَا إلاى الله فَقَالَ واَعَجَبِي لَكَ يَا ابنَ عَبَّاسٍ عائِشَةُ وحفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ إنِّي كُنْتُ وجارٌ لِي مِنَ الأنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيْدٍ وهْيَ مِنْ عَوالِي الْمَدِينَةِ وكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ علَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْزِلُ هُوَ يَوْمَاً وأُنْزِلُ يُوْما فإذَا نَزلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خبَرِ ذالِكَ الْيَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وغيْرِهِ وإذَا نزَلَ فَعَلَ مِثْلهُ وكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فلَمَّا قَدِمْنَا علَى الأنْصَارِ إذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِساؤُنَا يأخُذْنَ مِنْ أدَبِ نِسَاءِ الأنْصَارِ فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي فرَاجَعَتْنِي فأنْكَرْتُ أنْ تُرَاجِعَنِي فقالَتْ ولِمَ تُنْكِرُ أنْ أُراجِعَكَ فَوالله إنَّ أزْواجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْرَاجِعْنَهُ وإنَّ إحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حتَّى اللَّيْلِ فأفْزَعَنِي فقُلْتُ خابَتْ منْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ ثُمَّ جَمَعْتُ علَيَّ ثِيَابِي فدَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ أيْ حَفْصَةُ أتُغَاضِبُ إحْدَاكُنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اليَوْمَ حتَّى اللَّيْلَ فقالَتْ نَعَمْ فقُلْتُ خابَتْ وخَسِرَتْ أفْتَأْمَنُ أنْ يَغْضَبَ الله لِغَضَبِ رسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتَهْلِكِينَ لاَ تَسْتَكْثِرِي علَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءً وَلَا تَهْجُرِيهِ واسْأَلِيني مَا بَدَا لَكِ ولاَ يَغُرَّنَّكِ أنْ كانَتْ جارَتكِ هِيَ أوْضأُ مِنْكِ وأحَبَّ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ عائِشَةَ وكُنَّا تَحدَّثْنَا أنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعالَ لِغَزْوِنا فنَزَلَ صاحِبي يَوْمَ نَوْبَتِهِ فرَجَعَ عِشَاءً فضَرَبَ بابِي ضَرْباً شَدِيداً وَقَالَ أَنا نائِمٌ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إلَيْهِ وَقَالَ حَدَثَ أمْرٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هُوَ أجَاءَتْ غَسَّانُ قَالَ لَا بَلْ أعْظَمُ مِنْهُ وأطْولُ طَلَّقَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِساءَهُ قَالَ قدْ خابَتْ حَفْصَةُ وخَسِرَتْ كُنْتُ أظُنُّ أنَّ هاذا يُوشِكُ أنْ يَكُونَ فَجَمَعْتُ علَيَّ ثيابِي فصَلَّيْتُ صَلاةَ الفَجْرِ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدَخَلَ مَشْرُبةً لَهُ فاعْتَزَلَ فِيها فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فإذَا هِيَ تَبْكِي قُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أوَ لَمْ أكُنْ حَذَّرْتُكِ أطلَّقكُنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالتْ لَا أدْرِي هُوَ ذَا فِي الْمَشْرُبَةِ فخَرَجْتُ فجِئْتُ المنْبرَ فإذَا حَوْله رَهْطٌ يَبْكِي بعْضُهُمْ فَجلَسْتُ معهُم قَلِيلا ثُمَّ غلَبَنِي مَا أجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيها فَقلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أسْوَدَ استَأْذِنْ لِعُمَرَ فدَخلَ فكلَّمَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصمَت فانْصَرَفْتُ حتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَني مَا أجِدُ فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غلَبَنِي مَا أجِدُ فَجِئْتُ الغُلاَمَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فلَمَّا(13/16)
وَلَّيْتُ مُنْصَرِفَاً فإذَا الغُلاَمُ يَدْعُونِي قَالَ أذِنَ لَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَخَلْتُ علَيْهِ فإذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ علَى رِمالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ فِرَاشٌ قدْ أثَّرَ الرِّمالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِيءٌ علَى وِسَادَةٍ مِنْ أدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ فسَلَّمْتُ علَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنا قائِمٌ طَلَّقْتَ نِساءَكَ فرَفَعَ بَصرَهُ إلِيَّ فقالَ لاَ ثُمَّ قُلْتُ وأنَا قائِمٌ أسْتِأنِسُ يَا رسولَ الله لَوْ رَأَيْتَنِي وكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فلَمَّا قَدِمْنَا علَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَذَكَرَهُ فتَبَسَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قُلْتُ لَوْ رَأَيْتَنِي ودَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لاَ يَغُرَّنَّكِ إنْ كانَتْ جارَتُكِ هِيَ أوْضَأ مِنْكِ وأحَبَّ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ عائِشَةَ فتَبَسَّمَ أُخْرَى فَجلَسْتُ حينَ رَأَيْتُهُ تبَسَّمَ ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَالله مَا رَأيْتُ فِيه شَيْئاً يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ فَقُلْتُ ادْعُ الله فلْيُوَسِّعْ علَى أُمَّتِكَ فإنَّ فَارِسَ والرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وأُعْطُوا الدُّنْيا وهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ الله وكانَ مُتَّكِئَاً فَقَالَ أوَفِي شَكٍّ أنتَ يَا ابْنَ الخطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُنْيَا فَقُلْتُ يَا رسولَ الله اسْتَغْفِرْ لِي فاعْتَزَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ أفْشَتْهُ حَفْصَةُ إلَى عائِشَةَ وكانَ قَدْ قالَ مَا أنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرَاً مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حينَ عاتَبَهُ الله فلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وعِشْرُونَ دَخَلَ علَى عائِشَةَ فبَدَأَ بِهَا فقَالَتْ لَهُ عائِشَةُ إنَّكَ أقْسَمْتَ أنْ لاَ تَدْخُلَ علَيْنَا شَهْراً وإنَّا أصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وعِشْرِينَ لَيْلَةً أعَدَّهَا عَدّاً فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ وكانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ قالَتْ عائِشَةُ فأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فبَدَأَ بِي أوَّلَ امْرَأَةٍ فَقَالَ إنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أمْراً ولاَ عَلَيْكَ أنْ لاَ تَعْجَلِي حتَّى تَسْتَأمِرِي أبَوَيْكِ قالَتْ قَدْ أعْلَمُ أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ ثُمَّ قَالَ إنَّ الله قَالَ: {يَا أيُّها النبيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إِلَى قَوْله {عظِيماً} (الْأَحْزَاب: 82، 92) قُلْتُ أفِي هَذَا أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ فإنِّي أرِيدُ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ ثُمَّ خَيَّرَ نِساءَهُ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قالَتْ عائِشَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَدخل مشربَة لَهُ) ، لِأَن الْمشْربَة هِيَ الغرفة، قَالَه ابْن الْأَثِير وَغَيره، وَقد ذكرهَا فِي التَّرْجَمَة باسمها الآخر، وَهِي: الغرفة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَضم الرَّاء وَفتحهَا، والمشربة بِفَتْح الْمِيم وَفتح الرَّاء: الْموضع الَّذِي يشرب مِنْهُ، كالمشرعة، والمشربة بِكَسْر الْمِيم: آلَة الشّرْب.
وَعقيل، بِضَم الْعين، وَعبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، وَأَبُو ثَوْر، بالثاء الْمُثَلَّثَة الْمَفْتُوحَة، وَقَالَ الْحَافِظ الدمياطي، قَالَ الْخَطِيب فِي (تكملته) : لَا أعلم أحدا روى عَن عبيد الله هَذَا إِلَّا الزُّهْرِيّ، وَلَا أعلمهُ حدث عَن غير ابْن عَبَّاس. قلت: خرج أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير بن الْعَوام عَن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَوْر عَن ابْن عَبَّاس فِي طواف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام الْفَتْح على الْبَعِير، وَقد مضى بعض هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب التناوب فِي الْعلم، عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، وَذكرنَا هُنَاكَ تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَعدل) ، أَي: عَن الطَّرِيق. قَوْله: (بالأداواة) ، بِكَسْر الْهمزَة: وَهِي إِنَاء صَغِير من جلد يتَّخذ للْمَاء كالسطيحة وَنَحْوهَا، وَيجمع على: أداوي. قَوْله: (فَتبرز) أَصله: خرج إِلَى الفضاء لقَضَاء الْحَاجة. قَوْله: (واعجبي لَك {} ) بِالْألف فِي آخِره، ويروى: وَاعجَبا، بِالتَّنْوِينِ نَحْو: يَا رجلا، كَأَنَّهُ ينْدب على التَّعَجُّب، وَهُوَ إِمَّا تعجب من جَهله بذلك وَهُوَ كَانَ مَشْهُورا بَينهم بِعلم التَّفْسِير، وَإِمَّا من حرصه على سُؤَاله عَمَّا مَا لَا يتَنَبَّه لَهُ إلاَّ الْحَرِيص على الْعلم من تَفْسِير مَا لَا حكم فِيهِ من الْقُرْآن.(13/17)
وَقَالَ ابْن مَالك: وَا، فِي: وَاعجَبا، اسْم فعل إِذا نون عجبا بِمَعْنى: اعْجَبْ، وَمثله: وي، وَجِيء بعده بقوله: عجبا توكيداً، وَإِذا لم ينون فَالْأَصْل فِيهِ: واعجبي، فأبدلت الْيَاء ألفا، وَفِيه شَاهد على اسْتِعْمَال: وَا، فِي غير الندبة، كَمَا هُوَ رَأْي الْمبرد، وَقَالَ فِي (الْكَشَّاف) : قَالَه تَعَجبا كَأَنَّهُ كره مَا سَأَلَهُ عَنهُ. قَوْله: (عَائِشَة وَحَفْصَة) ، أَي: الْمَرْأَتَانِ اللَّتَان قَالَ الله تَعَالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله ... } (التَّحْرِيم: 4) الْآيَة، هما عَائِشَة وَحَفْصَة. قَوْله: (يَسُوقهُ) ، جملَة حَالية. قَوْله: (وجار لي من الْأَنْصَار) ، جَار مَرْفُوع لِأَنَّهُ عطف على الضَّمِير الَّذِي فِي: كنت، على مَذْهَب الْكُوفِيّين، وَفِي رِوَايَته فِي: بَاب التناوب فِي كتاب الْعلم: كنت أَنا وجار لي هَذَا على مَذْهَب الْبَصرِيين، لِأَن عِنْدهم لَا يَصح الْعَطف بِدُونِ إِظْهَار: أَنا، حَتَّى لَا يلْزم عطف الِاسْم على الْفِعْل، والكوفيون لَا يشترطون ذَلِك، وَكلمَة: من، فِي: من الْأَنْصَار، بَيَانِيَّة. وَالْمرَاد من هَذَا الْجَار هُوَ عتْبَان بن مَالك بن عَمْرو الْعجْلَاني الْأنْصَارِيّ الخزرجي. قَوْله: (فِي بني أُميَّة بن زيد) ، فِي مَحل الْجَرّ على الوصفية، أَي: الكائنين فِي بني أُميَّة بن زيد، أَو المستقرين. قَوْله: (وَهِي رَاجِعَة) ، إِلَى أمكنة بني أُميَّة. قَوْله: (من عوالي الْمَدِينَة) ، وَهِي الْقرى بِقرب الْمَدِينَة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: العوالي أَمَاكِن بِأَعْلَى أَرَاضِي الْمَدِينَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: علوي، على غير قِيَاس، وَأَدْنَاهَا من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال، وأبعدها من جِهَة نجد ثَمَانِيَة. قَوْله: (فَينزل يَوْمًا) ، الْفَاء فِيهِ تفسيرية تفسر التناوب الْمَذْكُور. قَوْله: (من الْأَمر) أَي: الْوَحْي، إِذْ اللَّام للمعهود عِنْدهم، أَو الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة. قَوْله: (وَغَيره) ، أَي: وَغير الْأَمر من أَخْبَار الدُّنْيَا. قَوْله: (معشر قُرَيْش) ، أَي: جمع قُرَيْش. قَوْله: (فَطَفِقَ نساؤنا) ، بِكَسْر الْفَاء وفتحا، وَمعنى: طفق فِي الْفِعْل: أَخذ فِيهِ، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة. قَالَ الله تَعَالَى: {وطفقا يخصفان عَلَيْهِنَّ من ورق الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 22 وطه: 121) . أَي: أخذا فِي ذَلِك. قَوْله: (فراجعتني) ، أَي: ردَّتْ عَليّ الْجَواب. قَوْله: (حَتَّى اللَّيْل) أَي: إِلَى اللَّيْل. قَوْله: (بعظيم) ، أَي: بِأَمْر عَظِيم. قَوْله: (ثمَّ جمعت عَليّ ثِيَابِي) أَي: لبستها. قَوْله: (أَي حَفْصَة) أَي: يَا حَفْصَة. قَوْله: (مَا بدا لَك؟) أَي: مَا كَانَ لَك من الضرورات؟ قَوْله: (إِن كَانَت جارتك) أَي: بِأَن كَانَت، فَإِن مَصْدَرِيَّة، أَي: وَلَا يغرنك كَون جارتك أَضْوَأ مِنْك، أَي أَزْهَر وَأحسن، ويروى: أوضأ من الْوَضَاءَة أَي: من أجمل وأنظفحدَّثنا وَالْمرَاد من الْجَار: الضرة، وَالْمرَاد بهَا عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَفسّر ذَلِك بقوله: يُرِيد عَائِشَة. قَوْله: (غَسَّان) ، على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ اسْم مَاء من جِهَة الشَّام نزل عَلَيْهِ قومٌ من الأزد، فنسبوا إِلَيْهِ مِنْهُم بَنو جَفْنَة رَهْط الْمُلُوك، وَيُقَال: هُوَ اسْم قَبيلَة. قَوْله: (تنعل) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون من: إنعال الدَّوَابّ، وَأَصله: تنعل الدَّوَابّ النِّعَال، لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى المفعولين، فَحذف أَحدهمَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النِّعَال لَا تنعل، ويروى: تنعل البغال، جمع: بغل، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والغين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (عشَاء) ، نصب على الظَّرْفِيَّة أَي: فِي عشَاء. قَوْله: (فَضرب بَابي) ، فِيهِ: حذف، وَهُوَ عطف عَلَيْهِ، أَي: فَسمع اعتزال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن زَوْجَاته، فَرجع إِلَى العوالي، فجَاء إِلَى بَابي فَضرب، وَالْفَاء فِيهِ تسمى بِالْفَاءِ الفصيحة، لِأَنَّهَا تفصح عَن الْمُقدر، قَوْله: (أنائم هُوَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فَفَزِعت) أَي: فَخفت، الْقَائِل هُوَ عمر، الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي: لأجل الضَّرْب الشَّديد، فزعت. قَوْله: (يُوشك أَن يكون) ، أَي: يقرب كَونه، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، يُقَال: أوشك يُوشك إيشاكاً فَهُوَ موشك، وَقد وَشك وشكا ووشاكة. قَوْله: (مشربَة لَهُ) ، قد ذكرنَا أَن الْمشْربَة هِيَ الغرفة الصَّغِيرَة، وَكَذَا قَالَ ابْن فَارس، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ كالصفة بَين يَدي الغرفة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الغرفة الصَّغِيرَة، وَقَالَ ابْن بطال: الْمشْربَة الخزانة الَّتِي يكون فِيهَا طَعَامه وَشَرَابه، وَقيل لَهَا: مشربَة، فِيمَا أرى لأَنهم كَانُوا يخزنون فِيهَا شرابهم، كَمَا قيل للمكان الَّذِي تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس ويشرق فِيهِ صَاحبه: مشرقة. قَوْله: (لغلام لَهُ أسود) ، قيل: اسْمه رَبَاح، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. قَوْله: (منصرفاً) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (فَإِذا الْغُلَام) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (على رمال حَصِير) ، بِالْإِضَافَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرمال، بِضَم الرَّاء وخفة الْمِيم: المرمول أَي: المنسوج، قَالَ أَبُو عبيد: رملت وأرملت أَي: نسجت، وَقَالَ الْخطابِيّ: رمال الْحَصِير ضلوعه المتداخلة بِمَنْزِلَة الخيوط فِي الثَّوْب المنسوج، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرمال مَا رمل أَي: نسج، يُقَال: رمل الْحَصِير وأرمله فَهُوَ مرمول ومرمل، ورملته شدد للتكثير، وَيُقَال: الرمال جمع رمل بِمَعْنى مرمول، كخلق الله بِمَعْنى مَخْلُوق، وَالْمرَاد أَنه كَأَن السرير قد نسج وَجهه بالسعف، وَلم يكن على السرير وطاء سوى الْحَصِير. قَوْله: (متكىء) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ(13/18)
متكىء. قَوْله: (على وسَادَة) ، بِكَسْر الْوَاو وَهِي: المخدة. قَوْله: (من أَدَم) ، بِفتْحَتَيْنِ، وَهُوَ اسْم لجمع أَدِيم، وَهُوَ الْجلد المدبوغ المصلح بالدباغ. قَوْله: (طلقت نِسَاءَك؟) ، همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة، أَي: أطلقت. قَوْله: (أستأنس) أَي: أتبصر هَل يعود رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الرضى، أَو هَل أَقُول قولا أطيب بِهِ وقته وأزيل مِنْهُ غَضَبه. قَوْله: (غير أهبة) ، بالفتحات جمع إهَاب على غير الْقيَاس، والإهاب: الْجلد الَّذِي لم يدبغ، وَالْقِيَاس أَن يجمع الإهاب على: أهب، بِضَمَّتَيْنِ. قَوْله: (فليوسع) ، هَذِه الْفَاء عطف على مَحْذُوف، لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يكون جَوَابا لِلْأَمْرِ، لِأَن مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يُقَال أدع الله أَن يُوسع، وَتَقْدِير الْكَلَام هَكَذَا، وَقَوله: فليوسع عطف عَلَيْهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (أَفِي شكّ؟) يَعْنِي: هَل أَنْت فِي شكّ؟ والمشكوك هُوَ الْمَذْكُور بعده، وَهُوَ تَعْجِيل الطَّيِّبَات. قَوْله: (اسْتغْفر لي) ، طلب الاسْتِغْفَار إِنَّمَا كَانَ عَن جراءته على مثل هَذَا الْكَلَام، فِي حَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن استعظامه التجملات الدنياوية. قَوْله: (فاعتزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ابْتِدَاء كَلَام من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد فَرَاغه من كَلَامه الأول، فَلذَلِك عطفه بِالْفَاءِ. قَوْله: (من أجل ذَلِك الحَدِيث) ، أَي: اعتزاله إِنَّمَا كَانَ من أجل إفشاء ذَلِك الحَدِيث، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلا بمارية فِي يَوْم عَائِشَة، وَعلمت بذلك حَفْصَة، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أكتمي عَليّ وَقد حرمت مَارِيَة على نَفسِي) ، ففشت حَفْصَة إِلَى عَائِشَة فَغضِبت عَائِشَة حَتَّى حلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يقربهن شهرا، وَهُوَ معنى قَوْله: (مَا إِنَّا بداخل عَلَيْهِم شهرا) . قَوْله: (من شدَّة موجدته) ، أَي: من شدَّة غَضَبه، والموجدة مصدر ميمي من وجد يجد وجدا وموجدة. قَوْله: (حِين عاتبه الله تَعَالَى) ، ويروى: حَتَّى عاتبه الله، وَهَذِه هِيَ الْأَظْهر، وعاتبه الله تَعَالَى بقوله: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضاة أَزوَاجك} (التَّحْرِيم: 1) . قَوْله: (لتسْع وَعشْرين لَيْلَة) ، بِاللَّامِ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بتسع، بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ) ، أَي الشَّهْر الَّذِي آلَيْت بِهِ تسع وَعِشْرُونَ وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه كَانَ نَاقِصا يَوْمًا قَوْله (وَكَانَ ذَلِك تسع وَعِشْرُونَ) ويروى: تسعا وَعشْرين، وَجه الرِّوَايَة الأولى: أَن: كَانَ فِيهَا تَامَّة فَلَا يحْتَاج إِلَى خبر، وتسع بِالرَّفْع يجوز أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: وجد ذَلِك الشَّهْر وَهُوَ تسع وَعِشْرُونَ، وَيجوز أَن يكون بَدَلا من الشَّهْر، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَن: كَانَ، نَاقِصَة، وتسعاً وَعشْرين خَبَرهَا. قَوْله: (فأنزلت آيَة التَّخْيِير) ، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا} إِلَى قَوْله: {أجرا عَظِيما} (الْأَحْزَاب: 82) [/ ح.
اخْتلف الْعلمَاء: هَل خيرهن فِي الطَّلَاق أَو بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ وَهل اخْتِيَارهَا صَرِيح أَو كِنَايَة؟ وَهل هُوَ فرقة أم لَا؟ وَهل هُوَ بِالْمَجْلِسِ أَو بِالْعرْفِ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي كَيْفيَّة تَخْيِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَزوَاجه على قَوْلَيْنِ: الأول: خيرهن بِإِذن الله تَعَالَى فِي الْبَقَاء على الزَّوْجِيَّة أَو الطَّلَاق، فاخترن الْبَقَاء. الثَّانِي: خيرهن بَين الدُّنْيَا فيفارقهن وَبَين الْآخِرَة فيمسكهن، وَلم يُخَيِّرهُنَّ فِي الطَّلَاق. ذكره الْحسن وَقَتَادَة، وَمن الصَّحَابَة عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ، أَنه قَالَ: لم يُخَيّر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ إلاَّ بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَالَت عَائِشَة: خيرهن بَين الطَّلَاق وَالْمقَام مَعَه، وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَالشعْبِيّ وَمُقَاتِل.
وَاخْتلفُوا فِي سَببه، فَقيل: لِأَن الله خَيره بَين ملك الدُّنْيَا ونعيم الْآخِرَة، فَاخْتَارَ الْآخِرَة على الدُّنْيَا، فَلَمَّا اخْتَار ذَلِك أَمر الله بِتَخْيِير نِسَائِهِ ليكن على مثل حَاله، وَقيل: لِأَنَّهُنَّ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ، فآلى مِنْهُنَّ شهرا، وَقيل: لِأَنَّهُنَّ اجْتَمعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيد مَا يُرِيد النِّسَاء من الْحلِيّ، حَتَّى قَالَ بَعضهنَّ: لَو كُنَّا عِنْد غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذن لَكَانَ لنا شَأْن وَثيَاب وحلي. وَقيل: لِأَن الله تَعَالَى صان خلْوَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فخيرهن على أَن لَا يتزوجن بعده، فَلَمَّا أجبن إِلَى ذَلِك أمسكهن. وَقيل: لِأَن كل وَاحِدَة طلبت مِنْهُ شَيْئا، وَكَانَ غير مستطيع، فطلبت أم سَلمَة معلما، ومَيْمُونَة حلَّة يَمَانِية، وَزَيْنَب ثوبا مخططاً وَهُوَ الْبرد الْيَمَانِيّ، وَأم حَبِيبَة ثوبا سحولياً، وَحَفْصَة ثوبا من ثِيَاب مصر، وَجُوَيْرِية معجراً وَسَوْدَة قطيفة خيبرية، إلاَّ عَائِشَة فَلم تطلب مِنْهُ شَيْئا، وَكَانَت تَحْتَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع نسْوَة، خمس من قُرَيْش: عَائِشَة، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأم سَلمَة بنت أبي الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. وَأَرْبع من غير قُرَيْش: صَفِيَّة بنت حييّ الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَزَيْنَب بنت جحش الأَسدِية، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة. قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك} (الْأَحْزَاب: 82) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سألنه شَيْئا من عرض الدُّنْيَا وآذينه بِزِيَادَة النَّفَقَة والغيرة، فغم ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهجرهن وآلى أَن لَا يقربهن شهرا، وَلم يخرج إِلَى أَصْحَابه فِي الصَّلَاة، فَقَالُوا: مَا شَأْنه؟ قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن شِئْتُم لأعلمن لكم مَا شَأْنه؟ فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجرى مِنْهُ مَا ذكر(13/19)
فِي حَدِيث الْبَاب. وَذكروا أَيْضا أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تتبع نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يكلمهن لكل وَاحِدَة بِكَلَام، فَقَالَت أم سَلمَة: يَا ابْن الْخطاب! أَو مَا بَقِي لَك إلاَّ أَن تدخل بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين نِسَائِهِ؟ من يسْأَل الْمَرْأَة إلاَّ زَوجهَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة بالتخيير، فَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعائشة، وَكَانَت أحبهنَّ إِلَيْهِ، فَخَيرهَا وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآن، فَاخْتَارَتْ الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة، فرؤى الْفَرح فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتتابعتها بَقِيَّة النسْوَة واخترن اخْتِيَارهَا، وَقَالَ قَتَادَة: فَلَمَّا اخْترْنَ الله وَرَسُوله شكر لَهُنَّ على ذَلِك وقصره عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: {لَا تحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج} (الْأَحْزَاب: 25) . قَوْله: {فتعالين} (الْأَحْزَاب: 82) . أصل: تعال، أَن يَقُول من فِي الْمَكَان الْمُرْتَفع لمن فِي الْمَكَان المستوطىء ثمَّ كثر حَتَّى اسْتَقر اسْتِعْمَاله فِي الْأَمْكِنَة كلهَا، وَمعنى تعالين: أقبلن، وَلم يرد نهوضهن إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِنَّ. قَوْله: {وأسرحكن} (الْأَحْزَاب: 82) . يَعْنِي: الطَّلَاق {سراحاً جميلاً} (الْأَحْزَاب: 82) . من غير إِضْرَار، طَلَاقا بِالسنةِ، وقرىء بِالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف. قَوْله: {وَالدَّار الْآخِرَة} (الْأَحْزَاب: 82) . يَعْنِي: الْجنَّة. قَوْله: {مِنْكُن} (الْأَحْزَاب: 82) . يَعْنِي: اللَّاتِي آثرن الْآخِرَة. {أجرا عَظِيما} (الْأَحْزَاب: 82) . وَهُوَ الْجنَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الْمُحدث قد يَأْتِي بِالْحَدِيثِ على وَجهه وَلَا يختصر، لِأَنَّهُ قد كَانَ يَكْتَفِي، حِين سَأَلَهُ ابْن عَبَّاس عَن الْمَرْأَتَيْنِ بِمَا كَانَ يُخبرهُ مِنْهُ أَنَّهُمَا عَائِشَة وَحَفْصَة، وَفِيه: موعظة الرجل ابْنَته وَإِصْلَاح خلقهَا لزَوجهَا. وَفِيه: الْحزن والبكاء لأمور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يكرههُ والاهتمام بِمَا يهمه. وَفِيه: الاسْتِئْذَان والحجابة للنَّاس كلهم، كَانَ مَعَ المستأذن عِيَال أَو لم يكن. وَفِيه: الانصارف بِغَيْر صرف من المستأذن عَلَيْهِ، وَمن هَذَا الحَدِيث قَالَ بعض الْعلمَاء: إِن السُّكُوت يحكم بِهِ، كَمَا حكم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بسكوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صرفه إِيَّاه. وَفِيه: التكرير بالاستئذان. وَفِيه: أَن للسُّلْطَان أَن يَأْذَن أَو يسكت أَو يصرف. وَفِيه: تقلله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّنْيَا وَصَبره على مضض ذَلِك، وَكَانَت لَهُ عَنهُ مندوحة. وَفِيه: أَنه يسْأَل السُّلْطَان عَن فعله إِذا كَانَ ذَلِك مِمَّا يهم أهل طَاعَته. وَفِيه: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا ردا لما أخبر بِهِ الْأنْصَارِيّ من طَلَاق نِسَائِهِ، وَلم يخبر عمر بِمَا أخبر بِهِ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا شكاه لعلمه أَنه لم يقْصد الْإِخْبَار بِخِلَاف الْقِصَّة، وَإِنَّمَا هُوَ وهم جرى عَلَيْهِ. وَفِيه: الْجُلُوس بَين يَدي السُّلْطَان وَإِن لم يَأْمر بِهِ إذات استؤنس مِنْهُ إِلَى انبساط خلق. وَفِيه: أَن أحدا لَا يجوز أَن يسْخط حَاله وَلَا مَا قسم الله لَهُ وَلَا سَابق قَضَائِهِ، لِأَنَّهُ يخَاف عَلَيْهِ ضعف يقينه. وَفِيه: أَن التقلل من الدُّنْيَا لرفع طيباته إِلَى دَار الْبَقَاء خير حَال مِمَّن يعجلها فِي الدُّنْيَا الفانية والعجل لَهَا أقرب إِلَى السَّفه. وَفِيه: الاسْتِغْفَار من السخط وَقلة الرضى. وَفِيه: سُؤال من الشَّارِع الاسْتِغْفَار، وَلذَلِك يجب أَن يسْأَل أهل الْفضل وَالْخَيْر الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة تعاقب على إفشاء سر زَوجهَا، وعَلى التحيل عَلَيْهِ بالأذى بالتوبيخ لَهَا بالْقَوْل، كَمَا وبخ الله تَعَالَى أَزوَاج نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تظاهرهما وإفشاء سره، وعاتبهن بالإيلاء والاعتزال والهجران كَمَا قَالَ تَعَالَى: {واهجروهن فِي الْمضَاجِع} (النِّسَاء: 43) . وَفِيه: أَن الشَّهْر يكون تِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة الرشيدة لَا بَأْس أَن تشَاور أَبَوَيْهَا أَو ذَوي الرَّأْي من أَهلهَا فِي أَمر نَفسهَا الَّتِي هِيَ أَحَق بهَا من وَليهَا، وَهِي فِي المَال أولى بالمشاورة، لَا على أَن الْمُشَاورَة لَازِمَة لَهَا إِذا كَانَت رَشِيدَة كعائشة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: دَلِيل لجَوَاز ذكر الْعَمَل الصَّالح، وَهِي فِي قَول عبد الله بن عَبَّاس: فحججت مَعَه، أَي: مَعَ عمر. وَفِيه: الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء إِذْ هُوَ الظَّاهِر من قَوْله: فَتَوَضَّأ، وَقَالَ ابْن التِّين: وَيحْتَمل الِاسْتِنْجَاء، وَذَلِكَ أَن يصب المَاء فِي يَده الْيُمْنَى ثمَّ يُرْسِلهُ حَيْثُ شَاءَ، وَفِيه: رد الْخطاب إِلَى الْجمع بعد الْإِفْرَاد، وَذَلِكَ فِي قَوْله: أفتأمن؟ أَي: إحداكن، ثمَّ قَالَ: فتهلكن، على رِوَايَة: تهلكن، بِضَم الْكَاف وبالنون الْمُشَدّدَة، قَالَه الدَّاودِيّ. وَفِيه: أَن ضحكه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التبسم إِكْرَاما لمن يضْحك إِلَيْهِ. وَقَالَ جرير: مَا رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنْذُ أسلمت إلاَّ تَبَسم. وَفِيه: التَّخْيِير، وَقد اسْتعْمل السّلف الِاخْتِيَار بعده، فَعِنْدَ الشَّافِعِي أَن الْمَرْأَة إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة، وَهُوَ قَول عَائِشَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَذكر عَليّ: أَنَّهَا إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا فَثَلَاث. وَقَالَ طَاوُوس: نفس الِاخْتِيَار لَا يكون طَلَاقا حَتَّى يوقعه، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن وَاحِدَة من نِسَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتَارَتْ نَفسهَا، فَبَقيت إِلَى زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَت تَأتي بالحطب بِالْمَدِينَةِ فتبيعه، وَأَنَّهَا أَرَادَت النِّكَاح فَمنعهَا عمر، فَقَالَت: إِن كنت من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اضْرِب عَليّ الْحجاب، فَقَالَ لَهَا: وَلَا كَرَامَة. وَقيل: إِنَّهَا رعت(13/20)
غنما. وَالَّذِي فِي (الصِّحَاح) : أَنَّهُنَّ اخْترْنَ الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة.
وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ الْجَصَّاص الْحَنَفِيّ: اخْتلف السّلف فِيمَن خير امْرَأَته، فَقَالَ عَليّ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَعنهُ: وَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة. وَقَالَ زيد بن ثَابت فِي: أَمرك بِيَدِك، إِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وصاحباه وَزفر، فِي الْخِيَار: بَائِنَة اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة إِذا أَرَادَ الزَّوْج الطَّلَاق، وَلَا يكون ثَلَاثًا، وَإِن نوى. وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة. وَقَالَ مَالك فِي الْخِيَار: إِنَّه ثَلَاث، إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا وَإِن طلقت نَفسهَا بِوَاحِدَة لم يَقع شَيْء، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَأحمد وجماهير الْعلمَاء: أَن من خير زَوجته فَاخْتَارَتْ لم يكن ذَلِك طَلَاقا، وَلَا يَقع بِهِ فرقة. وَرُوِيَ عَن عَليّ وَزيد بن ثَابت وَالْحسن وَاللَّيْث: أَن نفس التَّخْيِير يَقع بِهِ طَلْقَة بَائِنَة، سَوَاء اخْتَارَتْ زَوجهَا أم لَا، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ وَغَيره عَن مَذْهَب مَالك، قَالَ القَاضِي: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك.
وَفِيه: جَوَاز الْيَمين شهرا، أَن لَا يدْخل على امْرَأَته، وَلَا يكون بذلك موليا، لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْإِيلَاء الْمَعْرُوف فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء وَلَا لَهُ حِكْمَة، وأصل الْإِيلَاء فِي اللُّغَة: الْحلف على الشَّيْء يُقَال مِنْهُ: آلى يولي إِيلَاء وتآلى تآلياً، وايتلى إيتلاءٍ: وَصَارَ فِي عرف الْفُقَهَاء مُخْتَصًّا بِالْحلف عَن الِامْتِنَاع عَن وَطْء الزوجه، وَلَا خلاف فِي هَذَا إلاَّ مَا حُكيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: الْإِيلَاء الشَّرْعِيّ مَحْمُول على مَا يتَعَلَّق بِالزَّوْجَةِ من ترك جماع أَو كَلَام أَو انفاق، وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِي مسَائِل الْإِيلَاء المصطلح عَلَيْهِ فِي بَابه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه: جَوَاز دق الْبَاب وضربه. وَفِيه: جَوَاز دُخُول الْآبَاء على الْبَنَات بِغَيْر إِذن أَزوَاجهنَّ والتفتيش عَن الْأَحْوَال، سِيمَا عَمَّا يتَعَلَّق بالمزاوجة. وَفِيه: السُّؤَال قَائِما. وَفِيه: التناوب فِي الْعلم والاشتغال بِهِ. وَفِيه: الْحِرْص على طلب الْعلم. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد وَالْعَمَل بمراسيل الصَّحَابَة. وَفِيه: أَن الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، كَانَ يخبر بَعضهم بَعْضًا بِمَا يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويجعلون ذَلِك كالمسند، إِذْ لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من يكذب وَلَا غير ثِقَة، وَفِيه: أَن شدَّة الْوَطْأَة على النِّسَاء غير وَاجِبَة، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَار بسيرة الْأَنْصَار فِيهِنَّ. وَفِيه: فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
9642 - حدَّثنا ابنُ سَلامٍ قَالَ حدَّثنا الْفَزَارِيُّ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيل عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ آلَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ نِسائِهِ شهْرَاً وكانتِ انْفَكَّتْ قدَمُهُ فجَلَسَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ فَجاءَ عُمَرُ فَقَالَ أطَلَّقْتَ نِساءَكَ قَالَ لاَ ولاكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْراً فمَكَثَ تِسْعاً وعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ علَى نِسَائِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَجَلَسَ فِي علية لَهُ) ، وَابْن سَلام هُوَ مُحَمَّد بن سَلام، والفزاري، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء: هُوَ مَرْوَان بن مُعَاوِيَة، مر فِي الصَّلَاة. قَوْله: (آلى) ، أَي: حلف، وَلَا يُرِيد بِهِ الْإِيلَاء الفقهي. قَوْله: (انفكت) أَي: انفرجت، والفك انفراج الْمنْكب أَو الْقدَم عَن مفصله. قَوْله: (فجَاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) يَعْنِي: إِلَى عليته. وَفِي الحَدِيث الَّذِي قبله، قَالَ عمر: فَجئْت الْمشْربَة الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقلت لغلام لَهُ أسود ... الحَدِيث.
62 - (بابُ مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ علَى البَلاَطِ أوْ بابِ الْمَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من عقل بعيره، يَعْنِي: شدّ بعيره بالعقال على البلاطد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ حِجَارَة مفروشة عِنْد بَاب الْمَسْجِد. قَوْله: (وَبَاب الْمَسْجِد) ، أَي: أَو على بَاب الْمَسْجِد.
0742 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا أبُو عُقَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنا أبُو الْمُتَوَكِّلِ الناجِيُّ قَالَ أتَيْتُ جابِرَ ابنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْجِدَ فَدَخَلْتُ إلَيْهِ وعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي ناحِيَةِ البَلاطِ فقُلْتُ هَذا جَمَلُكَ فخَرَجَ فجَعَلَ يُطِيفُ بالجَمَلِ قَالَ الثَّمَنُ والْجَمَلُ لَكَ.
.(13/21)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وعقلت الْجمل فِي نَاحيَة البلاط) . قيل: هُنَا نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة على البلاط وَالْمَذْكُور فِي الحَدِيث فِي نَاحيَة البلاط وناحية الشَّيْء غَيره. وَالْآخر: أَن فِي التَّرْجَمَة أَو بَاب الْمَسْجِد وَلَيْسَ فِي الحَدِيث ذَلِك. قلت: يُمكن الْجَواب عَن الأول: بِأَن يكون المُرَاد بِنَاحِيَة البلاط طرفها، وَكَانَ عقل الْجمل بطرفها، وَلَا يَتَأَتَّى إلاَّ بالطرف. وَعَن الثَّانِي: بِأَنَّهُ ألحق بَاب الْمَسْجِد بِمَا قبله فِي الحكم قِيَاسا عَلَيْهِ، وَقيل: أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه. قلت: هَذَا لَا بَأْس بِهِ إِن ثَبت مَا ادَّعَاهُ من ذَلِك، وَمَعَ هَذَا فالموضع كُله مَوضِع تَأمل.
وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَأَبُو عقيل، بِالْفَتْح: هُوَ بشير ضد النذير ابْن عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف الدَّوْرَقِي، وَأَبُو المتَوَكل هُوَ عَليّ النَّاجِي، بالنُّون وَالْجِيم وياء النِّسْبَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن عقبَة بن مكرم.
قَوْله: (فَقلت) ، أَي: قَالَ جَابر: فَقلت: يَا رَسُول الله! هَذَا جملك، وَهُوَ الْجمل الَّذِي اشْتَرَاهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فِي السّفر، وَقد مرت قصَّته فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الدَّوَابّ وَالْحمير. قَوْله: (فَخرج) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْمَسْجِد. قَوْله: (فَجعل يطِيف بالجمل) ، أَي: يلم بِهِ ويقاربه. قَوْله: (قَالَ الثّمن) ، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ثمن الْجمل والجمل لَك، يَعْنِي: كِلَاهُمَا لَك، وَهَذَا يدل على غَايَة كرم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن جَابِرا عِنْده بِمَنْزِلَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن رحاب الْمَسْجِد مناخ للبعير. وَفِيه: جَوَاز إِدْخَال الْأَمْتِعَة فِي الْمَسْجِد، قِيَاسا على الْبَعِير. وَفِيه: حجَّة لمَالِك والكوفيين فِي طَهَارَة أَبْوَال الْإِبِل وأرواثها. وَفِيه: رد على الشَّافِعِي فِيمَا قَالَ بنجاستها، قَالَ ابْن بطال: وَهَذَا خلاف مِنْهُ، لدَلِيل الحَدِيث، وَلَو كَانَت نَجِسَة كَمَا زعم مَا كَانَ لجَابِر إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد، وَحين رَآهُ الشَّارِع لم يُنكر عَلَيْهِ، وَلَو كَانَت نَجِسَة لأَمره بإخراجها من الْمَسْجِد خشيَة مَا يكون فِيهِ من الروث وَالْبَوْل، إِذْ لَا يُؤمن من حُدُوث ذَلِك مِنْهَا. انْتهى. قلت: أجَاب الْكرْمَانِي عَن ذَلِك بقوله: أَقُول: لَا دَلِيل على دُخُول الْبَعِير فِي الْمَسْجِد وَلَا على حُدُوث الْبَوْل والروث فِيهِ على تَقْدِير الْحُدُوث، فقد يغسل الْمَسْجِد وينظف مِنْهُ، فَلَا حجَّة لَهُم وَلَا رد عَلَيْهِ، أَي: على الشَّافِعِي. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء من الْجَواب، لِأَن جَابِرا صرح بِأَنَّهُ عقل جمله فِي نَاحيَة بلاط الْمَسْجِد، وَهُوَ رحاب الْمَسْجِد وللرحاب حكم الْمَسْجِد، وَقَوله: وَلَا على حُدُوث الْبَوْل والروث فِيهِ، لم يقل بِهِ الرَّاد، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يُؤمن حُدُوثه، فَلَو كَانَ بَوْله وروثه نجسا لمَنعه من ذَلِك. وَقَوله: وعَلى تَقْدِير الْحُدُوث ... إِلَى آخِره، جَوَاب بطرِيق التسلم فَلَيْسَ بِجَوَاب، لِأَنَّهُ لَا يجوز السُّكُوت عَن ذَلِك، مَعَ الْعلم بِنَجَاسَتِهِ اكْتِفَاء بِالْغسْلِ والتنظيف، وَأجَاب صَاحب (التَّوْضِيح) عَن ذَلِك بقوله: ومذهبه جَوَاز إِدْخَاله فِيهِ، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا ذكره، فَسلم من التعسف الْمَذْكُور.
72 - (بابُ الوُقُوفِ والْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ القَوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْوُقُوف وَالْبَوْل عِنْد سباطة قوم، والسباطة، بِالضَّمِّ: الكناسة، وَقيل: المزبلة، ومعناهما مُتَقَارب، لِأَن الكناسة: الزبل الَّذِي يكنس.
1742 - حدَّثني سُلَيْمَانُ بنُ حَرْب عنْ شُعْبَةَ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ قالَ لَقَدْ أتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبالَ قائِماً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة الْكُوفِي، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب الْبَوْل قَائِما، وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن آدم عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
82 - (بابُ مَنْ أخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فرَمَى بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ثَوَاب من أَخذ الْغُصْن، أَي غُصْن كَانَ، من أَي شجر كَانَ، مِمَّا يشوش على المارين فِي الطَّرِيق. قَوْله: (وَمَا يُؤْذِي) أَي: وَفِي ثَوَاب من أَخذ مَا يُؤْذِي النَّاس، وَهَذَا أَعم من الأول لِأَنَّهُ يَشْمَل الْغُصْن وَالْحجر وَنَحْوهمَا مِمَّا يحصل(13/22)
مِنْهُ الْأَذَى للنَّاس عِنْد الْمُرُور عَلَيْهِ. قَوْله: (فَرمى بِهِ) ، يَعْنِي رَفعه من الطَّرِيق وَرمى بِهِ فِي غير الطَّرِيق، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بَاب من أخر الْغُصْن، من التَّأْخِير، وَهُوَ إزاحته عَن الطَّرِيق.
2742 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فأخَذَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 256) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله هُوَ ابْن يُوسُف، وَفِي بعض النّسخ، ذكر صَرِيحًا. وَسمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن الْمُغيرَة هِشَام، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات، والرواة كلهم مدنيون مَا خلال شَيْخه.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن قُتَيْبَة بِهِ وَفِي رِوَايَته: فَأَخَّرَهُ، مَوضِع: فَأَخذه. ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي بَرزَة وَابْن عَبَّاس وَأبي ذَر. قلت: أما حَدِيث أبي بَرزَة فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه، عَنهُ قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! دلَّنِي على عمل أنتفع بِهِ، قَالَ: أعزل الْأَذَى من طَرِيق الْمُسلمين. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ ...
وَأما حَدِيث أبي ذَر فَأخْرجهُ ابْن عبد الْبر من حَدِيث مَالك ب يزِيد عَن أَبِيه عَن أبي ذَر، مَرْفُوعا: (إماطتك الْحجر والشوك والعظم عَن الطَّرِيق صَدَقَة) . قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي سعيد، أخرجه ابْن زَنْجوَيْه من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن دراج عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد مَرْفُوعا: (غفر الله لرجل أماط عَن الطَّرِيق غُصْن شوك، مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر) . وَعَن أبي بُرَيْدَة، أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: فِي الْإِنْسَان ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ مفصلا، فَعَلَيهِ أَن يتَصَدَّق عَن كل مفصل مِنْهُ بِصَدقَة، قَالُوا: وَمن يُطيق ذَلِك؟ قَالَ: النخاعة فِي الْمَسْجِد يدفنها، وَالشَّيْء ينحيه عَن الطَّرِيق ... وَعَن أنس، أخرجه ابْن أبي شيبَة من حَدِيث قَتَادَة عَنهُ، قَالَ: (كَانَت شَجَرَة على طَرِيق النَّاس فَكَانَت تؤذيهم، فعزلها رجل عَن طريقهم، قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْته يتقلب فِي ظلها فِي الْجنَّة) . وَاعْلَم أَن الشَّخْص يُؤجر على إمَاطَة الْأَذَى، وكل مَا يُؤْذِي النَّاس فِي الطَّرِيق، وَفِيه دلَالَة على أَن طرح الشوك فِي الطَّرِيق وَالْحِجَارَة والكناسة والمياه الْمفْسدَة للطرق وكل مَا يُؤْذِي النَّاس يخْشَى الْعقُوبَة عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَلَا شكّ أَن نزع الْأَذَى عَن الطَّرِيق من أَعمال الْبر، وَأَن أَعمال الْبر تكفر السَّيِّئَات وتوجب الغفران، وَلَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يحقر شَيْئا من أَعمال الْبر، أما مَا كَانَ من شجر فَقَطعه وألقاه، وَأما مَا كَانَ مَوْضُوعا فأماطه، وَالْأَصْل فِي هَذَا كُله قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7) . وإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق شُعْبَة من شعب الْإِيمَان.
92 - (بابٌ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيق الْمِيتاءِ وَهْيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْها الطَّرِيقُ سَبَعةَ أذْرُعٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اخْتلف النَّاس فِي الطَّرِيق الميتاء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق ممدودة، وَهِي على وزن مفعال، أَصله من الْإِتْيَان، وَالْمِيم زَائِدَة، ويروى مَقْصُورَة على وزن مفعل، وَقد فسره البُخَارِيّ بقوله: وَهِي الرحبة إِلَى آخِره، أَي: الواسعة تكون بَين الطَّرِيق. وَقيل: الرحبة الساحة، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الميتاء أعظم الطّرق وَهِي الَّتِي يكثر مُرُور النَّاس بهَا. وَقيل: الطَّرِيق العامرة، وَقيل: الفناء بِكَسْر الْفَاء، وروى ابْن عدي من حَدِيث عباد بن مَنْصُور عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (قَالَ: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الطَّرِيق الميتاء الَّتِي يُؤْتى من كل مَكَان) الحَدِيث، وَقد فسر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّرِيق الميتاء بقوله: الَّتِي يُؤْتى من كل مَكَان. قَوْله: (ثمَّ يُرِيد أَهلهَا) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أَصْحَاب الطَّرِيق الميتاء إِذا أَرَادوا أَن يبنوا فِيهَا يتْركُوا مِنْهَا الطَّرِيق لِلْمَارِّينَ مِقْدَار سَبْعَة أَذْرع، على مَا نذكرهُ فِي معنى(13/23)
الحَدِيث، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث رَوَاهُ عبَادَة بن الصَّامِت عِنْد عبد الله بن أَحْمد فِيمَا زَاده مطولا عَن أبي كَامِل الجحدري، حَدثنَا الْفضل بن سُلَيْمَان حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة عَن إِسْحَاق بن يحيى بن طَلْحَة عَنهُ.
3742 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عنِ الزُّبَيْرِ بنِ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَضَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تشاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ المِيتاءِ بِسَبْعَةِ أذْرُعٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء: ابْن حَازِم، بالزاي، وَالزُّبَيْر بن الخريت هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وحديثين فِي التَّفْسِير، وَآخر فِي الدَّعْوَات، وَالزُّبَيْر، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن خريت، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، وَمَعْنَاهُ فِي الأَصْل: الماهر الحاذق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا تشاجروا) ، أَي: إِذا تخاصموا، يَعْنِي: أَصْحَاب الطَّرِيق الميتاء. قَوْله: (فِي الطَّرِيق) ، زَاد الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَته، فِي الطَّرِيق الميتاء، وَلَيْسَت هَذِه الزِّيَادَة مَحْفُوظَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَإِن قلت: لم ذكر فِي التَّرْجَمَة بقوله فِي الطَّرِيق الميتاء؟ قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذِه الزِّيَادَة وردة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا اختلفتم فِي الطَّرِيق الميتاء فاجعلوها سَبْعَة أَذْرع) . قَوْله: (بسبعة أَذْرع) ، يتَعَلَّق بقوله: قضى) وَالْمرَاد بالذراع ذِرَاع الْبُنيان الْمُتَعَارف، وَقيل: بِمَا يتعارفه أهل كل بلد من الذرعان. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: لم نجد لهَذَا الحَدِيث معنى أولى أَن يحمل من أَن الطَّرِيق المبتدأة، إِذا اخْتلف مبتدئوها فِي الْمِقْدَار الَّذِي يوقفون لَهَا من الْمَوَاضِع الَّتِي يحاولون اتخاذها مِنْهَا، كالقوم يفتتحون مَدِينَة من مَدَائِن الْعَدو، فيريد الإِمَام قسمتهَا وَيُرِيد بِهِ، مَعَ ذَلِك أَن يَجْعَل فِيهَا طرقاً لكل من يسلكها بَين النَّاس إِلَى مَا سواهَا من الْبلدَانِ وَلَا يجدهَا، مِمَّا كَانَ المفتتحة عَلَيْهِم أحكموا ذَلِك فِيهَا، فَيجْعَل كل طَرِيق مِنْهَا سَبْعَة أَذْرع، وَمثل ذَلِك الأَرْض الْموَات، يقطعهَا الإِمَام رجلا وَيجْعَل عَلَيْهِ إحياءها وَوضع طريقها مِنْهَا لاجتياز النَّاس فِيهِ مِنْهَا إِلَى مَا سواهَا، فَيكون ذَلِك الطَّرِيق سَبْعَة أَذْرع. وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا الحكم فِي الأفنية، إِذا أَرَادَ أَهلهَا الْبُنيان أَن يَجْعَل سَبْعَة أَذْرع حَتَّى لَا يضر بالمارة، ولمدخل الْأَحْمَال ومخرجها، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ على الْوُجُوب عِنْد الْعلمَاء للْقَضَاء بِهِ، ومخرجه عِنْدهم على الْخُصُوص، وَمَعْنَاهُ أَن كل طَرِيق يَجْعَل كَذَلِك، وَمَا يبْقى بعد ذَلِك لكل وَاحِد من الشُّرَكَاء فِي الأَرْض قدر مَا ينْتَفع بِهِ، وَلَا مضرَّة عَلَيْهِ. وكل طَرِيق يُؤْخَذ لَهَا سَبْعَة أَذْرع وَيبقى لبَعض الشُّرَكَاء من نصِيبه بعد ذَلِك، وَمَا لَا ينْتَفع بِهِ فَغير دَاخل فِي معنى الحَدِيث. وَقيل هَذَا الحَدِيث فِي أُمَّهَات الطَّرِيق، وَمَا يكثر الِاخْتِلَاف فِيهِ وَالْمَشْي عَلَيْهِ، وَأما مَا ينتاب من الطّرق فَيجوز فِي أفنيتها مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ أقل من سَبْعَة أَذْرع. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يكون ذَلِك فِي الطَّرِيق الْوَاسِع من الشوارع الَّذِي يقْعد فِي حافية الباعة، وَإِن كَانَ أقل من سَبْعَة أَذْرع منعُوا لِئَلَّا يضيق بأَهْله.
03 - (بابُ النُّهْبَى بِغَيْرِ إذْنِ صاحِبِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم النهبى، بِضَم النُّون على وزن فعلى: من النهب، وَهُوَ أَخذ الشَّيْء من أحد عيَانًا قهرا. وَقَالَ الْخطابِيّ: النهبى اسْم مَبْنِيّ من النهب، كالعمرى من الْعُمر. قَوْله: (بِغَيْر إِذن صَاحبه) ، أَي: صَاحب المنهوب بِقَرِينَة. قَوْله: (النهبى) ، فَلَا يكون إضماراً قبل الذّكر، وَمَفْهُوم هَذَا أَنه إِذا أذن بالنهب جَازَ.
وَقَالَ عُبَادَةُ بَايَعْنا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ لَا نَنْتَهِبَ
عبَادَة هُوَ ابْن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أخرجه فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قد مر فِي كتاب(13/24)
الْإِيمَان فِي بَاب حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرنَا أَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بن عبد الله أَن عبَادَة ابْن الصَّامِت، وَكَانَ شهد بَدْرًا ... الحَدِيث، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الانتهاب، وَإِنَّمَا ذكره فِي رِوَايَة الصنَابحِي فِي: بَاب وُفُود الْأَنْصَار، وَلَفظه: بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا وَلَا نَسْرِق وَلَا نزني وَلَا نقْتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَلَا ننتهب ... الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتاب الْإِيمَان.
4742 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَدِيُّ بنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عبْدَ الله بنَ يَزِيدَ الأنْصَارِيَّ وهْوَ جَدُّهُ أبُو أُمِّه قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النُّهْبَى والمثْلَةِ.
(الحَدِيث 4742 طرفه فِي: 6155) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن معنى التَّرْجَمَة: بَاب النَّهْي بِغَيْر إِذن صَاحبه لَا يجوز، لِأَن نهب مَال الْغَيْر حرَام. قَوْله: (عبد الله بن يزِيد) ، بِالْيَاءِ فِي أَوله من الزِّيَادَة، وَهُوَ هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده: عبد الله ابْن زيد، بِدُونِ الْيَاء فِي أَوله، وَهُوَ غير صَحِيح. قَوْله: (وَهُوَ) ، يَعْنِي عبد الله بن يزِيد. قَوْله: (جده) ، يَعْنِي: جد عدي بن ثَابت لأمه، وَاسم أمه فَاطِمَة، وتكنى أم عدي، وَعبد الله بن يزِيد بن حُصَيْن بن عَمْرو بن الْحَارِث بن خطمة واسْمه عبد الله ابْن جشم بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ، أَبُو مُوسَى الخطمي، مضى ذكره فِي الاسْتِسْقَاء، وَلَيْسَ لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَله فِيهِ عَن الصَّحَابَة غير هَذَا، وَقد اخْتلف فِي سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن مُصعب بن الزبير قَالَ: لَيْسَ لَهُ صُحْبَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَهُ رُؤْيَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ صَغِيرا على عَهده، فَإِن صحت رِوَايَته فَذَاك، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ. قَوْله: (والمثلة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز فتح الْمِيم وَضم الثَّاء، وَيجمع على: مثلات، وَهِي الْعقُوبَة فِي الْأَعْضَاء: كجدع الْأنف وَالْأُذن وفقء الْعين وَنَحْوهَا، وَقَالَ ابْن بطال: الانتهاب الْمحرم هُوَ مَا كَانَت الْعَرَب عَلَيْهِ من الغارات، وَعَلِيهِ وَقعت الْبيعَة فِي حَدِيث عبَادَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: النهبة الْمُحرمَة أَن ينهب مَال الرجل بِغَيْر أُذُنه، وَهُوَ لَهُ كَارِه، وَأما الْمَكْرُوه فَهُوَ مَا أذن صَاحبه للْجَمَاعَة وأباحه لَهُم، وغرضهم تساويهم فِيهِ أَو تقاربهم، فيغلب الْقوي على الضَّعِيف. وَقَالَ الْخطابِيّ، مَعْلُوم أَن أَمْوَال الْمُسلمين مُحرمَة، فيؤول هَذَا فِي الْجَمَاعَة يغزون، فَإِذا غنموا انتهبوا وَأخذ كل وَاحِد مَا وَقع بِيَدِهِ مستأثراً بِهِ من غير قسْمَة، وَقد يكون ذَلِك فِي الشَّيْء تشاع الْهِبَة فِيهِ، فينتهبون على قدر قوتهم، وَكَذَلِكَ الطَّعَام يقدم إِلَيْهِم، فَلِكُل وَاحِد أَن يَأْكُل مِمَّا يَلِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا ينتهب وَلَا يستلب من عِنْد غَيره، وَكَذَلِكَ كره من كره أَخذ النثار فِي عُقُود الْأَمْلَاك وَنَحْوه، وَقَالَ الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة: معنى الحَدِيث النهبة الْمُحرمَة، وَهِي أَن يينتهب مَال الرجل بِغَيْر إِذْنه.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا ينثر على رُؤُوس الصّبيان وَفِي الأعراس، فَتكون فِيهَا النهبة، فكرهه مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَإِنَّمَا كره لِأَنَّهُ قد يَأْخُذ مِنْهُ من لَا يحب صَاحب الشَّيْء أَخذه، وَيجب أَخذ غَيره، وَمَا حُكيَ عَن الْحسن بِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى بَأْسا بالنهب فِي العرسات والولائم، وَكَذَلِكَ الشّعبِيّ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَنهُ: فَلَيْسَ من النهبة الْمُحرمَة، وَكَذَا حَدِيث عبد الله بن قرط عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الْبدن الَّتِي نحرها: (من شَاءَ اقتطع) ، قَالَ الشَّافِعِي: صَار ملكا للْفُقَرَاء، لِأَنَّهُ خلى بَينه وَبينهمْ. فَإِن قلت: روى عَن عون بن عمَارَة وعصمة بن سُلَيْمَان عَن لمازة بن الْمُغيرَة عَن ثَوْر بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن معَاذ ابْن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي أَمْلَاك، فَجَاءَت الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الأطباق عَلَيْهَا اللوز وَالسكر، فَأمْسك الْقَوْم أَيْديهم، فَقَالَ: أَلا تنتهبون؟ قَالُوا: إِنَّك كنت نَهَيْتنَا عَن النهبة. قَالَ: تِلْكَ نهبة العساكر، فَأَما العرسان فَلَا، قَالَ: فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجاذبهم ويجاذبونه) . قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عون وعصمة لَا يحْتَج بحديثهما، ولمازة مَجْهُول، وَابْن معدان عَن معَاذ مُنْقَطع. قلت: خَالِد بن معدان، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلكنه لم يسمع من معَاذ بن جبل. وَقَالَ الشَّافِعِي: فَإِن أَخذ آخذ لَا تجرح شَهَادَته أَن كثيرا يزْعم أَن هَذَا مُبَاح، لِأَن مَالِكه إِنَّمَا طَرحه لمن يَأْخُذهُ، وَأما أَنا فأكرهه لمن أَخذه، وَكَانَ أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ يكرههُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَمَالك، وَذكر ابْن قدامَة أَنه يجب الْقطع على المنتهب قبل الْقِسْمَة، وَحكى عَن دَاوُد أَنه يرى الْقطع على من أَخذ مَال الْغَيْر، سَوَاء أَخذه من حرز أَو من غير حرز.(13/25)
5742 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَزْنِي الزَّانِي حينَ يَزْنِي وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُها وهْوَ مُؤْمِنٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا ينتهب نهبة) إِلَى آخِره، قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا، لِأَن التَّرْجَمَة مُقَيّدَة بِغَيْر الْإِذْن. والْحَدِيث مُطلق، وَأجِيب: بِأَن الحَدِيث أَيْضا مُقَيّد بِعَدَمِ الْإِذْن، وَذَلِكَ لِأَن رفع الْبَصَر إِلَيْهِ لَا يكون عَادَة إلاَّ عِنْد عدم الْإِذْن. وَهَذَا هُوَ فَائِدَة ذكر الرّفْع، وَهَذَا الْجَواب من الْكرْمَانِي أَخذه بَعضهم وَلم ينْسبهُ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النهب لَا يتَصَوَّر إلاَّ بِغَيْر إِذن صَاحبه، فَمَا فَائِدَة التَّقْيِيد بِهِ فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: المُرَاد الْإِذْن الإجمالي حَتَّى يخرج مِنْهُ انتهاب مشَاع الْهِبَة وَنَحْوه من الموائد.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحُدُود عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الْملك بن شُعَيْب عَن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده بِإِسْنَادِهِ نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَشْرِبَة، وَفِي الرَّجْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث. . إِلَى آخِره، نَحوه، وَفِي الْبَاب عَن أبي دَاوُد من حَدِيث ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من انتهب نهبة فَلَيْسَ منا) ، وَعند ابْن حبَان من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثله، وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من انتهب نهبة فَلَيْسَ منا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَعند أَحْمد عَن زيد بن خَالِد، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النهبة، وَعند ابْن حبَان عَن ثَعْلَبَة عَن الحكم، قَالَ: انتهينا غنما لِلْعَدو فنصبنا قدورنا، فَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقدور فَأمر بهَا فأكفئت، ثمَّ قَالَ: إِن النهبة لَا تحل. وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه: أَخْبرنِي رجل من الصَّحَابَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غزَاة، فأصابتنا مجاعَة وأصبنا غنما فانتهبناها قبل أَن يقسم فِينَا، فَأَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متوكئاً على قَوس، فأكفأ قدورنا بقوسه، وَقَالَ: لَيست النهبة بأحل من الْميتَة. قَوْله: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي) أَي: لَا يَزْنِي الشَّخْص الَّذِي يَزْنِي. قَوْله: (حِين يَزْنِي) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (وَهُوَ مُؤمن) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، قيل: مَعْنَاهُ وَالْحَال أَنه مُسْتَكْمل شرائع الْإِيمَان. وَقيل: يَزُول مِنْهُ الثَّنَاء بِالْإِيمَان لَا نفس الْإِيمَان، وَقيل: يَزُول إيمَانه إِذا اسْتمرّ على ذَلِك الْفِعْل، وَقيل: إِذا فعله مستحلاً يَزُول عَنهُ الْإِيمَان فيكفر، وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ البُخَارِيّ: ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان. قَوْله: (وَلَا يشرب) ، فَاعله مَحْذُوف، قَالَ ابْن مَالك: فِيهِ حذف الْفَاعِل، أَي: لَا يشرب الشَّارِب، وَرُوِيَ: لَا يشرب الْخمر، بِكَسْر الْبَاء على معنى النَّهْي، يَعْنِي: إِذا كَانَ مُؤمنا فَلَا يفعل. قَوْله: (وَلَا يسرق) ، الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي لَا يَزْنِي. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى المنتهب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: وَلَا ينتهب. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي النهبة. قَوْله: (أَبْصَارهم) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول: يرفع النَّاس. قَوْله: (حِين ينتهبها) ، نصب على الظّرْف، أَي: وَقت انتهابها. قَوْله: (وَهُوَ مُؤمن) ، جملَة حَالية. وروى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن أبي أوفى، يرفعهُ: وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع الْمُسلمُونَ إِلَيْهَا رؤوسهم وَهُوَ مُؤمن، وروى مُسلم من حَدِيث يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة، وَسَعِيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يَزْنِي الزَّانِي) الحَدِيث، وَفِيه قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: أَن أَبَا بكر كَانَ يُحَدِّثهُمْ هَؤُلَاءِ عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ يَقُول: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يلْحق مَعَهُنَّ: وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع النَّاس إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارهم حِين ينتهبها وَهُوَ مُؤمن. ثمَّ روى من حَدِيث عقيل بن خَالِد، قَالَ: قَالَ ابْن شهَاب: وَأَخْبرنِي أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَزْنِي الزَّانِي) وَاقْتصر الحَدِيث يذكر مَعَ ذكر النهبة، وَلم يقل: ذَات شرف، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْن هِشَام: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل حَدِيث أبي بكر هَذَا إلاَّ النهبة. قَوْله: (وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يلْحق) ، بِضَم الْيَاء من الْإِلْحَاق. قَوْله: (مَعَهُنَّ) ، أَي: مَعَ قَوْله: (لَا يَزْنِي) ، وَقَوله:(13/26)
(وَلَا يشرب) ، وَقَوله: (وَلَا يسرق) ، قَوْله: (وَلَا ينتهب) ، فِي مَحل المفعولية لقَوْله: (وَيلْحق) ، على سَبِيل الْحِكَايَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: ظَاهر هَذَا أَنه من كَلَام أبي هُرَيْرَة مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَلَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى تدل على أَنه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجمع الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح بِمَا يؤول إِلَيْهِ ملخص كَلَامه: أَن معنى قَول أبي هُرَيْرَة: يلْحق مَعَهُنَّ وَلَا ينتهب ... إِلَى آخِره، يَعْنِي يلْحقهَا رِوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا من عِنْد نَفسه، واختصاص أبي بكر بِهَذَا لكَونه بلغه أَن غَيره لَا يَرْوِيهَا. قَوْله: (ذَات شرف) ، فِي الْأُصُول الْمَشْهُورَة المتداولة بالشين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، وَمَعْنَاهُ: ذَات قدر عَظِيم، وَقيل: ذَات استشراف، ليستشرف النَّاس لَهَا ناظرين إِلَيْهَا رافعين أَبْصَارهم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْجُوَيْنِيّ بِالسِّين الْمُهْملَة، وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: وَكَذَا قَيده بَعضهم فِي كتاب مُسلم، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَيْضا: ذَات قدر عَظِيم. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا الحَدِيث حَدِيث أبي ذَر: من قَالَ لَا إلاه إلاَّ الله ... دخل الْجنَّة، وَإِن زنى وَإِن سرق، وَالْأَحَادِيث الَّتِي نَظَائِره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أَن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} (آل عمرَان: 611) . مَعَ إِجْمَاع أهل الْحق على أَن الزَّانِي وَالسَّارِق وَالْقَاتِل وَغَيرهم من أَصْحَاب الْكَبَائِر، غير الشّرك لَا يكفرون بذلك؟ قلت: هَذَا الَّذِي دعاهم إِلَى أَن قَالُوا هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي تطلق على نفي الشَّيْء يُرَاد نفي كَمَاله، كَمَا يُقَال: لَا علم إلاَّ بِمَا نفع، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل، وَلَا عَيْش إلاَّ عَيْش الْآخِرَة، ثمَّ إِن مثل هَذَا التَّأْوِيل ظَاهر شَائِع فِي اللُّغَة يسْتَعْمل كثيرا، وَبِهَذَا يحصل الْجمع بَينه وَبَين مَا ذكر من الحَدِيث وَالْآيَة، وتأوله بعض الْعلمَاء على من فعل ذَلِك مستحلاً مَعَ علمه بورود الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ.
وعنْ سَعيدٍ وَأبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ إلاَّ النُّهْبَةَ
سعيد هُوَ ابْن الْمسيب، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سعيداً وَأَبا سَلمَة رويا هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور مثل مَا ذكر، إلاَّ النهبة، يَعْنِي: لم يذكرَا حكم الانتهاب، بل ذكر الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالشرب فَقَط. وَقد ذكرنَا آنِفا عَن مُسلم أَنه أخرج فِي حَدِيثه: وَقَالَ ابْن شهَاب: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمثل حَدِيث أبي بكر هَذَا إلاَّ النهبة. وَذكر مُسلم أَيْضا من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ أَن الزُّهْرِيّ روى عَن ابْن الْمسيب وابي سَلمَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث وَفِيه: وَذكر النهبة وَلم يقل ذَات شرف.
قَالَ الفِرَبْرَيُّ وجدْتُ بِخَطِّ أبِي جَعْفَرٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله تفْسِيرُهُ أنْ يُنْزَعَ مِنْهُ يُرِيدُ الإيمانَ
الْفربرِي، هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ وَأَبُو جَعْفَر هُوَ ابْن أبي حَاتِم، ورَّاق البُخَارِيّ وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (تَفْسِيره) ، أَي: تَفْسِير قَوْله: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن) ، أَن ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان، وَالْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بالجنان وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ونوره الْأَعْمَال الصَّالِحَة والاجتناب عَن الْمعاصِي، فَإِذا زنى أَو شرب الْخمر أَو سرق يذهب نوره وَيبقى صَاحبه فِي الظلمَة، وَالْإِشَارَة فِيهِ إِلَى أَنه لَا يخرج عَن الْإِيمَان. قيل: إِن فِي هَذَا الحَدِيث تَنْبِيها على جَمِيع أَنْوَاع الْمعاصِي والتحذير مِنْهَا. فنبه بِالزِّنَا على جَمِيع الشَّهَوَات وبالخمر على جَمِيع مَا يصد عَن الله تَعَالَى وَيُوجب الْغَفْلَة عَن حُقُوقه، وبالسرقة على الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا والحرص على الْحَرَام، وبالنهبة على الاستخفاف بعباد الله تَعَالَى وَترك توقيرهم وَالْحيَاء مِنْهُم، وَجمع الدُّنْيَا من غير وَجههَا، وَالله تَعَالَى أعلم.
13 - (بابُ كَسْرِ الصَّلِيبِ وقَتْلِ الخِنْزِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر عَن كسر عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد نُزُوله صلبان النصاري وأوثان الْمُشْركين وَقتل خنازير الْكل، وَلَيْسَ المُرَاد من هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز كسر صَلِيب النَّصَارَى وَقتل خنازير أهل الذِّمَّة، فَإنَّا أمرنَا بتركهم وَمَا يدينون، وَأما كسر صَلِيب أهل الْحَرْب وَقتل خنازيرهم فَهُوَ جَائِز وَلَا شَيْء على فَاعله، والصليب هُوَ المربع الْمَشْهُور لِلنَّصَارَى من الْخشب، يَزْعمُونَ أَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلب على خَشَبَة(13/27)
على تِلْكَ الصُّورَة، وَقد كذبهمْ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه} (النِّسَاء: 751) . الْآيَة، وَكَانَ أَصله من خشب وَرُبمَا يَعْمَلُونَهُ من ذهب وَفِضة ونحاس وَنَحْوهَا.
6742 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ فيكُمْ ابنُ مرْيَمَ حَكَماً مُقْسِطاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ويَقْتُلَ الخِنْزِيرَ ويَضَعَ الجِزْيَةَ ويفيضَ الْمَالَ حتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أحَدٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مر مرَارًا، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. قَوْله: (السَّاعَة) أَي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (ابْن مَرْيَم) ، هُوَ عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (حكما) بِفتْحَتَيْنِ، بِمَعْنى: الْحَاكِم. قَوْله: (مقسطاً) أَي: عادلاً فِي حكمه، وَهُوَ من الإقساط بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ الْعدْل. يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط إِذا عدل، وقسط يقسط فَهُوَ قاسط إِذا جَار وظلم، فَكَأَن الْهمزَة فِي: أقسط، للسلب كَمَا يُقَال: شكى إِلَيْهِ، فأشكاه أَي: أَزَال شكواه. قَوْله: (فيكسر الصَّلِيب) إِشْعَار بِأَن النَّصَارَى كَانُوا على الْبَاطِل فِي تَعْظِيمه. قَوْله: (وَيَضَع الْجِزْيَة) ، أَي: يَتْرُكهَا فَلَا يقبلهَا بل، يَأْمُرهُم بِالْإِسْلَامِ. فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف حكم الشَّرْع، فَإِن الْكِتَابِيّ إِذا بذل الْجِزْيَة وَجب قبُولهَا فَلَا يجوز بعد ذَلِك إكراهه على الْإِسْلَام وَلَا قَتله؟ قلت: هَذَا الحكم الَّذِي كَانَ بَيْننَا يَنْتَهِي بنزول عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: هَذَا يدل على أَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ينْسَخ الحكم الَّذِي كَانَ فِي شرعنا، وَالْحَال أَنه تَابع لشرع نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَيْسَ هُوَ بناسخ، بل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي بَين بالنسخ. وَأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يفعل ذَلِك بِأَمْر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما ترك الْجِزْيَة فَإِنَّهَا كَانَت تُؤْخَذ فِي زَمَاننَا لحاجتنا إِلَى المَال. وَأما فِي زمن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيكثر المَال وتفتح الْكُنُوز حَتَّى لَا يلتقي أحد من يقبل مِنْهُ فَلذَلِك يتْرك الْجِزْيَة. قَوْله: (وَيفِيض) ، بِالْفَاءِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: من فاض المَاء والدمع وَغَيرهمَا يفِيض فيضاً: إِذا كثر، وَقيل: السَّبَب فِي فيضان المَال: نزُول البركات، وَظُهُور الْخيرَات، وَقلة الرغبات لقصر الآمال لعلمهم بِقرب يَوْم الْقِيَامَة.
23 - (بابٌ هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيها الْخَمْرُ أوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ فإنْ كَسَرَ صَنَماً أوْ صَلِيباً أوْ طُنْبُوراً أوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل تكسر الدنان الَّتِي فِيهَا الْخمر؟ والدنان، بِكَسْر الدَّال: جمع الدن، بِفَتْح الدَّال وَتَشْديد النُّون. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ الخب. قلت: هَذَا تَفْسِير الشَّيْء بِمَا هُوَ أخْفى مِنْهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: والخب الخابية فَارسي مُعرب. قلت: هُوَ فِي اللُّغَة الفارسية خم، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم، فعرب وَقيل: حب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة. وَفِي دستور اللُّغَة فِي: بَاب الْحَاء المضمومة: الْحبّ خم ودستي. قَوْله: (الَّتِي فِيهَا الْخمر) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة الدنان، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف وَإِنَّمَا لم يذكرهُ لِأَن فِيهِ خلافًا وتفصيلاً. بَيَانه: أَن قَوْله: هَل تكسر الدنان الَّتِي فِيهَا الْخمر؟ أَعم من أَن يكون لمُسلم أَو لذِمِّيّ أَو لحربي، فَإِن كَانَ الدن لمُسلم فَفِيهِ الْخلاف: فَعِنْدَ أبي يُوسُف وَأحمد فِي رِوَايَة: لَا يضمن، ويستدل لَهما فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا حميد بن مسْعدَة حَدثنَا الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان، قَالَ: سَمِعت ليثاً يحدث عَن يحيى بن عباد عَن أنس عَن أبي طَلْحَة أَنه قَالَ: يَا نَبِي الله {إِنِّي اشْتريت خمرًا لأيتام فِي حجري} قَالَ: (أهرق الْخمر وَكسر الدنان) ، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ الثَّوْريّ هَذَا الحَدِيث عَن السّديّ عَن يحيى بن عباد عَن أنس: أَن أَبَا طَلْحَة كَانَ عِنْده، وَهَذَا أصح من حَدِيث اللَّيْث، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: يضمن، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، لِأَن الإراقة بِدُونِ الْكسر مُمكنَة. وَأجِيب: عَن الحَدِيث: بِأَنَّهُ ضَعِيف، ضعفه ابْن الْعَرَبِيّ، وَقَالَ: لَا يَصح لَا من حَدِيث أبي طَلْحَة وَلَا من حَدِيث أنس أَيْضا، لِتَفَرُّد السّديّ بِهِ، وَفِيه اللَّيْث بن أبي سليم(13/28)
وَفِيه مقَال، وَقَالَ شَيخنَا: مَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ مَرْدُود، فالسدي هُوَ الْكَبِير واسْمه إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن وَثَّقَهُ يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَأحمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن عدي، وَاحْتج بِهِ مُسلم. قلت: قَول التِّرْمِذِيّ هَذَا أصح من حَدِيث اللَّيْث، يدل على أَن حَدِيث اللَّيْث أَيْضا صَحِيح، وَلَكِن حَدِيث السّديّ أصح. وَالظَّاهِر أَنه لم يُصَرح بِصِحَّتِهِ لأجل اللَّيْث، وَاسم أبي طَلْحَة: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء، مِنْهُم الشَّافِعِي: إِن الْأَمر بِكَسْر الدنان مَحْمُول على النّدب. وَقيل: لِأَنَّهَا لَا تعود تصلح لغيره لغَلَبَة رَائِحَة الْخمر وطعمها، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بذلك الزّجر، قَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله تَعَالَى: يحْتَمل أَنهم لَو سَأَلُوهُ أَن يبقوها ويغسلوها لرخص لَهُم. وَإِن كَانَ الدن لذِمِّيّ فعندنا يضمن بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا، لِأَنَّهُ مَال مُتَقَوّم فِي حَقهم، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يضمن لِأَنَّهُ غير مُتَقَوّم فِي حق الْمُسلم، فَكَذَا فِي حق الذِّمِّيّ. وَإِن كَانَ الدن لحربي فَلَا يضمن بِلَا خلاف إلاَّ إِذا كَانَ مستأمناً.
قَوْله: (أَو تخرق) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة على صِيغَة الْمَجْهُول، عطف على قَوْله: (هَل تكسر الدنان؟) . والزقاق، بِكَسْر الزَّاي: جمع زق جمع الْكَثْرَة، وَجمع الْقلَّة أزقاق، وَفِيه أَيْضا الْخلاف الْمَذْكُور فَإِن كَانَ شقّ زق الْخمر لمُسلم يضمن عِنْد مُحَمَّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعند أبي يُوسُف لَا يضمن لِأَنَّهُ من جملَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مَالك: زق الْخمر لَا يطهره المَاء لِأَن الْخمر غاص فِي دَاخله، وَقَالَ غَيره: يطهره، ويبنى على هَذَا الضَّمَان وَعَدَمه، وَالْفَتْوَى على قَول أبي يُوسُف خُصُوصا فِي هَذَا الزَّمَان، وَقد روى أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: أَخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفرة وَخرج إِلَى السُّوق وَبهَا زقاق خمر جلبت من الشَّام، فشق بهَا مَا كَانَ من تِلْكَ الزقاق. قَوْله: (فَإِن كسر صنماً) ، وَفِي بعض النّسخ: وَإِن كسر، بِالْوَاو، وَفِي بَعْضهَا: وَإِذا كسر، وعَلى تَقْدِير جَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يجوز ذَلِك أم لَا؟ أَو هَل يضمن أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يُصَرح بِذكر الْجَواب لمَكَان الْخلاف فِيهِ أَيْضا. فَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا أتلف على نَصْرَانِيّ صليباً فَإِنَّهُ يضمن قِيمَته صليباً. يَعْنِي: حَال كَونه صليباً لَا حَال كَونه صَالحا لغيره، لِأَن النَّصْرَانِي مقرّ على ذَلِك، فَصَارَ كَالْخمرِ الَّتِي هم مقرون عَلَيْهَا. وَقَالَ أَحْمد: لَا يضمن، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ بعد الْكسر يصلح لنفع مُبَاح لَا يضمن، وإلاَّ لزمَه مَا بَين قِيمَته قبل الْكسر وَقِيمَته بعده، لِأَنَّهُ أتلف مَا لَهُ قيمَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّنَم مَا يتَّخذ إِلَهًا من دون الله، وَقيل: مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة، وَإِن لم يكن لَهُ جسم وَلَا صُورَة فَهُوَ وثن. وَقَالَ فِي بَاب الْوَاو: الوثن كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ يعْمل وَينصب ويعبد، والصنم الصُّورَة بِلَا جثة، وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَأطلقهُمَا على الْمَعْنيين، وَقد يُطلق الوثن على غير الصُّورَة. قَوْله: (أَو طنبور) ، بِضَم الطَّاء وَقد يفتح وَالضَّم أشهر، وَهُوَ آلَة مَشْهُورَة من آلَات الملاهي، وَهُوَ فَارسي مُعرب. قَوْله: (أَو مَا لَا ينْتَفع بخشبه) قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي: أَو كسر شَيْئا لَا يجوز الِانْتِفَاع بخشبه قبل الْكسر، كآلات الملاهي المتخذة من الْخشب، فَهُوَ تَعْمِيم بعد تَخْصِيص، وَيحْتَمل أَن يكون: أَو، بِمَعْنى: إِلَى أَن، يَعْنِي: فَإِن كسر طنبوراً إِلَى حد لَا ينْتَفع بخشبه وَلَا ينْتَفع بعد الْكسر، أَو عطف على مُقَدّر، وَهُوَ: كسراً ينْتَفع بخشبه أَي: كسر كسراً ينْتَفع بخشبه وَلَا ينْتَفع بعد الْكسر. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يخفى تكلّف هَذَا الْأَخير وَبعد الَّذِي قبله. انْتهى.
قلت: الْكرْمَانِي جعل لكلمة: أَو، هُنَا ثَلَاث معَان. مِنْهَا: أَن يكون للْعَطْف على مَا قبله، فَيكون من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. وَمِنْهَا: أَن يكون بِمَعْنى: إِلَى أَن، كَمَا فِي قَوْلك: لألزمنك أَو تقضيني حَقي، وينتصب الْمُضَارع بعْدهَا، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَلَا بعد فِيهِ. وَمِنْهَا: أَن يكون مَعْطُوفًا على شَيْء مُقَدّر، وَهَذَا أَيْضا بَاب وَاسع فَلَا تكلّف فِيهِ، وَإِنَّمَا يكون التَّكَلُّف فِي مَوضِع يُؤْتى بالْكلَام بِالْجَرِّ الثقيل.
وَالْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل أَيْضا على الْخلاف وَالتَّفْصِيل، فَقَالَ أَصْحَابنَا: من كسر لمُسلم طنبوراً أَو بربطاً أَو طبلاً أَو مِزْمَارًا أَو دفاً فَهُوَ ضَامِن، وَبيع هَذِه الْأَشْيَاء جَائِز عِنْد أبي حنيفَة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد: لَا يضمن وَلَا يجوز بيعهَا، وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ بالتفصيل: إِن كَانَ بعد الْكسر يصلح لنفع مُبَاح يضمن، وإلاَّ فَلَا، وَعَن بعض أَصْحَابنَا: الِاخْتِلَاف فِي الدُّف والطبل الَّذِي يضْرب للهو، وَأما طبل الْغُزَاة والدف الَّذِي يُبَاح ضربه فِي الْعرس فَيضمن بالِاتِّفَاقِ. وَفِي (الذَّخِيرَة) للحنفية: قَالَ أَبُو اللَّيْث: ضرب الدُّف فِي الْعرس مُخْتَلف فِيهِ، فَقيل: يكره، وَقيل) لَا. وَأما الدُّف الَّذِي يضْرب فِي زَمَاننَا مَعَ الصنجات والجلاجلات فمكروه بِلَا خلاف.(13/29)
وأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طَنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ
شُرَيْح هُوَ ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ، أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه، استقضاه عمر بن الْخطاب على الْكُوفَة، وَأقرهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأقَام على الْقَضَاء بهَا سِتِّينَ سنة، وَقضى بِالْبَصْرَةِ سنة، وَمَات سنة ثَمَان وَسبعين وَكَانَ لَهُ عشرُون وَمِائَة سنة. قَوْله: (وأتى شُرَيْح فِي طنبور) ، يَعْنِي: أَتَى إِلَيْهِ اثْنَان أدعى أَحدهمَا على الآخر أَنه كسر طنبوره فَلم يقْض فِيهِ بِشَيْء، أَي: لم يحكم فِيهِ بغرامة. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء، بِلَفْظ: أَن رجلا كسر طنبور رجل فرفعه إِلَى شُرَيْح فَلم يضمنهُ شَيْئا، وَذكره وَكِيع بن الْجراح عَن سُفْيَان عَن أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء: أَن رجلا كسر طنبور رجل فحاجه إِلَى شُرَيْح فَلم يضمنهُ شَيْئا، وَهَذَا يُوضح أَن جَوَاب التَّرْجَمَة عدم الضَّمَان. وَقَالَ ابْن التِّين: قضى شُرَيْح فِي الطنبور الصَّحِيح يكسر: بِأَن يدْفع لمَالِكه فينتفع بِهِ، وَقَالَ الْمُهلب: وَمَا كسر من آلَات الْبَاطِل وَكَانَ فِيهَا بعد كسرهَا مَنْفَعَة فصاحبها أولى بهَا مَكْسُورَة، إلاَّ أَن يرى الإِمَام حرقها بالنَّار، على معنى التَّشْدِيد والعقوبة على وَجه الِاجْتِهَاد، كَمَا أحرق عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دَار
على بيع الْخمر، وَقد هم الشَّارِع بتحريق دور من يتَخَلَّف عَن صَلَاة الْجَمَاعَة، وَهَذَا أصل فِي الْعقُوبَة فِي المَال إِذا رأى ذَلِك. قيل: هَذَا كَانَ فِي الصَّدْر الأول، ثمَّ نسخ.
7742 - حدَّثنا أبُو عاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيدٍ عنْ سلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى نِيرَاناً تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ علَى مَا تُوقَدُ هاذِهِ النيرَانُ قالُوا علَى الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ قَالَ اكْسِرُوهَا وأهْرِقُوها قَالُوا ألاَ نُهَرِيقُها ونَغْسِلُهَا قَالَ اغْسِلوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (اكسروها) أَي: الْقُدُور، يدل عَلَيْهِ السِّيَاق، فَلَا يكون إضماراً قبل الذّكر، وَكسر الْقُدُور هُنَا فِي الحكم مثل كسر الدنان الَّتِي فِيهَا الْخمر. وَرِجَاله ثَلَاثَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَهُوَ من تَاسِع ثلاثيات البُخَارِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي، وَفِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة وَفِي الذَّبَائِح عَن مكي بن إِبْرَاهِيم وَفِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي وَفِي الذَّبَائِح عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد وَفِي الذَّبَائِح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الذَّبَائِح عَن يَعْقُوب بن حميد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَوْم خَيْبَر) ، يَعْنِي فِي غَزْوَة خَيْبَر، وَكَانَت سنة سبع وَمن خَيْبَر إِلَى الْمَدِينَة أَربع مراحل. قَوْله: (اكسروها) ، أَي: الْقُدُور، وَقد مر الْآن الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (على الْحمر الأنسية) ، الْحمر بِضَمَّتَيْنِ جمع حمَار، وَأَرَادَ بهَا الأنسية الْحمر الْأَهْلِيَّة. قَوْله: (وأهريقوها) ، بِسُكُون الْهمزَة وَجَاز حذف الْهمزَة أَو الْهَاء وَالْيَاء، ونهريقها، بِفَتْح الْحَاء وسكونها وبسكون الْهَاء وَحذف الْيَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي: هرق المَاء يهريقه بِفَتْح الْهَاء، هراقة، أَي: صبه، وَفِي لُغَة أُخْرَى: أهرق المَاء يهرقه إهراقاً، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: إهراق يهريق إهراقاً، قَالُوا: قَوْله ألاِ نهرقها؟ بِكَلِمَة: ألاَ، الَّتِي للاستفهام عَن النَّفْي، ويروى: لَا نهريقها، بِالنَّفْيِ. لَا يُقَال: إِن فِيهِ مُخَالفَة لأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأَنهم فَهموا بالقرائن أَن الْأَمر لَيْسَ للْإِيجَاب. قَوْله: (قَالَ: اغسلواها) أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جوابهم، لَا نهرقها ونغسلها: إغسلوها، إِنَّمَا رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أمره بالشيئين، وهما الْأَمر بِالْكَسْرِ، وَالْأَمر بالإهراق إِلَى قَوْله: اغسلوها، وَهُوَ مُجَرّد الْأَمر بِالْغسْلِ، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن اجْتِهَاده قد تغير أَو أوحى إِلَيْهِ بذلك، وَالْيَوْم لَا يجوز فِيهِ الْكسر لِأَن الحكم بِالْغسْلِ نسخ التَّخْيِير، كَمَا أَنه نسخ الْجَزْم بِالْكَسْرِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل على نَجَاسَة لحم الْحمر الْأَهْلِيَّة، لِأَن فِيهِ الْأَمر بإراقته، وَهَذَا أبلغ فِي التَّحْرِيم، وَقد كَانَت لُحُوم الْحمر تُؤْكَل قبل ذَلِك. وَاخْتلف الْعلمَاء الَّذين ذَهَبُوا إِلَى إِبَاحَة لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة فِي معنى النَّهْي الْوَارِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكلهَا، لأي عِلّة كَانَ هَذَا النَّهْي. فَقَالَ نَافِع وَعبد الْملك بن جريج وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَبَعض الْمَالِكِيَّة: عِلّة النَّهْي لأجل الْإِبْقَاء على الظّهْر لَيْسَ على وَجه التَّحْرِيم. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مَا(13/30)
نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر عَن أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة. إلاَّ من أجل أَنَّهَا ظهر، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا على عبد الرَّحْمَن، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا أَدْرِي، أنهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل أَنه كَانَ حمولة النَّاس، فكره أَن يذهب حمولتهم أَو حرمه فِي يَوْم خَيْبَر، وَهَذَا يبين أَن ابْن عَبَّاس علم بِالنَّهْي لكنه حمله على التَّنْزِيه تَوْفِيقًا بَين الْآيَة وعمومها، وَبَين أَحَادِيث النَّهْي، وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَبَعض الْمَالِكِيَّة: إِنَّمَا منعت الصَّحَابَة يَوْم خَيْبَر من أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة لِأَنَّهَا كَانَت جوالة تَأْكُل القذرات، فَكَانَ نَهْيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لهَذِهِ الْعلَّة، لَا لأجل التَّحْرِيم. وَقَالَ آخَرُونَ: عِلّة النَّهْي كَانَت لاحتياجهم إِلَيْهَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل الْحمار الأهلي يَوْم خَيْبَر، وَكَانُوا قد احتاجوا إِلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: عِلّة النَّهْي أَنَّهَا أقيتت قبل الْقِسْمَة، فَمنع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أكلهَا قبل أَن تقسم، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَفِي إِذن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أكل الْخَيل، وإباحته لذَلِك يَوْم خَيْبَر، دَلِيل على أَن نَهْيه عَن أكل لُحُوم الْحمر يَوْمئِذٍ عبَادَة لغير عِلّة، لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن الْخَيل أرفع من الْحمير، وَأَن الْخَوْف على الْخَيل وعَلى قِيَامهَا فَوق الْخَوْف على الْحمير، وَأَن الْحَاجة فِي الْغَزْو وَغَيره إِلَى الْخَيل أعظم، وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن أكل لُحُوم الْحمر لم يكن لحَاجَة وضرورة إِلَى الظّهْر وَالْحمل، وَإِنَّمَا كَانَت عبَادَة وَشَرِيعَة، وَالَّذين ذَهَبُوا إِلَى إِبَاحَة أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وهم: عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة، وَعبيد بن الْحسن وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَبَعض الْمَالِكِيَّة، احْتَجُّوا بِحَدِيث غَالب بن أبجر، قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّه لم يبْق من مَالِي شَيْء استطيع أَن أطْعم مِنْهُ أَهلِي غير حمر لي أَو حمرات لي قَالَ: فأطعم أهلك من سمين مَالك، وَإِنَّمَا قذرت لكم جوال الْقرْيَة. رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، فَفِي طَرِيق عَن ابْن معقل عَن رجلَيْنِ من مزينة أَحدهمَا: عَن الآخر عبد الله بن عَمْرو بن لويم، بِضَم اللَّام وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره مِيم، وَالْآخر: غَالب بن أبجر، وَقَالَ مسعر: أرِي غَالِبا الَّذِي سَأَلَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن معقل، وَفِي طَرِيق عبد الله بن معقل، وَفِي طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر، وَفِي طَرِيق عبد الله بن بشر، عوض عبد الرَّحْمَن، وَهَذَا اخْتِلَاف شَدِيد فَلَا يُقَاوم الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي وَردت بِتَحْرِيم لُحُوم الْأَهْلِيَّة. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ بَاطِل، لِأَنَّهَا كلهَا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن ابْن بشر وَهُوَ مَجْهُول، وَالْآخر: من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن لويم، وَهُوَ مَجْهُول، أَو من طَرِيق شريك وَهُوَ ضَعِيف، ثمَّ عَن ابْن الْحسن، وَلَا يدْرِي من هُوَ، أَو من طَرِيق سلمى بنت النَّضر الخضرية وَلَا يدْرِي من هِيَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث مَعْلُول، ثمَّ طول فِي بَيَانه.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله كانَ ابنُ أبي أوَيْسٍ يَقولُ الْحُمُرُ الأنَسِيَّةُ بنَصْبِ الألِفِ والنُّونِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، نَفسه يَحْكِي عَن شَيْخه إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، واسْمه: عبد الله الأصبحي الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: الْحمر الأنسية نِسْبَة إِلَى: الْأنس، بِالْفَتْح ضد الوحشة وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْمَشْهُور فِيهَا كسر الْهمزَة منسوبة إِلَى الْأنس، وهم بَنو آدم الْوَاحِد أنسي. وَفِي كتاب أبي مُوسَى مَا يدل على أَن الْهمزَة مَضْمُومَة، فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ الَّتِي تألف الْبيُوت، والأنس ضد الوحشة، وَالْمَشْهُور فِي ضد الوحشة الْأنس بِالضَّمِّ، وَقد جَاءَ فِيهِ بِالْكَسْرِ قَلِيلا. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعضهم، بِفَتْح الْهمزَة وَالنُّون وَلَيْسَ بِشَيْء قَالَ ابْن الْأَثِير: إِن أَرَادَ أَن الْفَتْح غير مَعْرُوف فِي الرِّوَايَة فَيجوز، وَإِن أَرَادَ أَنه لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي اللُّغَة فَلَا، فَإِنَّهُ مصدر: أنست بِهِ أنسا وأنسة. . وَقَالَ بَعضهم: وَتَعْبِيره عَن الْهمزَة بِالْألف، وَعَن الْفَتْح بِالنّصب جَائِز عِنْد الْمُتَقَدِّمين، وَإِن كَانَ الِاصْطِلَاح أخيراً قد اسْتَقر على خِلَافه، فَلَا تبادر إِلَى إِنْكَاره. انْتهى. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصطلح عِنْد النُّحَاة الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، إِنَّهُم يعبرون عَن الْهمزَة بِالْألف، وَعَن الْفَتْح بِالنّصب، فَمن أدَّعى خلاف ذَلِك، فَعَلَيهِ الْبَيَان، فالهمزة ذَات حَرَكَة، وَالْألف مَادَّة هوائية، فَلَا تقبل الْحَرَكَة. وَالْفَتْح من ألقاب الْبناء، وَالنّصب من ألقاب الْإِعْرَاب، وَهَذَا مِمَّا لَا يخفى على أحد.(13/31)
8742 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدُ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ أبِي مَعْمَرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَخلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ وحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمائَةٍ وسِتُّونَ نُصُباً فجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعودٍ فِي يَدِهِ وجَعلَ يَقولُ {جاءَ الْحَقُّ وزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَة (الْإِسْرَاء: 18) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَجعل يطعنها بِعُود) ، أَي: يطعن النُصب، وَهِي الَّتِي نصبت لِلْعِبَادَةِ من دون الله، وَهُوَ دَاخل فِي التَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَإِن كسر صنماً أَو صليباً.
وَرِجَاله: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَابْن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم: هُوَ عبد الله بن يسَار ضد الْيَمين وَمُجاهد بن جبر، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي التَّفْسِير عَن الْحميدِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَمُحَمّد بن يحيى، الثَّلَاثَة عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ابْن أبي نجيح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعبيد الله بن سعيد فرقهما، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي: فِي غَزْوَة الْفَتْح، وَكَانَت فِي رَمَضَان سنة ثَمَان. قَوْله: (وحول الْكَعْبَة) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (نصبا) . وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي رِوَايَة أبي الْحسن، بِضَم النُّون وَالصَّاد، فَيكون على هَذَا جمع: نِصَاب، وَهُوَ صنم أَو حجر ينصب، وَلَيْسَ ببيّنٍ كَونه جمعا، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بعد سِتِّينَ إلاَّ مُفردا، تَقول عِنْدِي سِتُّونَ ثوبا وَنَحْو ذَلِك، وَلَا تَقول: أثواباً، قَالَ: وَقد قيل: نصب وَنصب بِمَعْنى وَاحِد، فعلى هَذَا يكون جمعا لَا مُفردا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النصب، بِضَم الصَّاد وسكونها: حجر كَانُوا ينصبونه فِي الْجَاهِلِيَّة ويتخذونه صنماً ويعبدونه، وَالْجمع أنصاب، وَقيل: هُوَ حجر كَانُوا ينصبونه ويذبحون عَلَيْهِ فيحمر بِالدَّمِ، ويروى: (صنماً) ، مَوضِع: (نصبا) . قَوْله: (فَجعل يطعنها) ، جعل من أَفعَال المقاربة وَهِي ثَلَاثَة أَنْوَاع، وَهُوَ من النَّوْع الَّذِي وضع على الشُّرُوع فِيهِ، أَي: فِي الْخَبَر، وَهُوَ كثير. (ويطعنها) بِضَم الْعين على الْمَشْهُور، وَيجوز فتحهَا، قَالَ الْجَوْهَرِي: طعنه بِالرُّمْحِ وَطعن فِي السن يطعن بِالضَّمِّ طَعنا، وَطعن فِيهِ بالْقَوْل يطعن أَيْضا، وَطعن فِي الْمَفَازَة يطعن ويطعن أَيْضا: ذهب. قَوْله: (فِي يَده) فِي مَحل الجرِّ لِأَنَّهُ صفة لعود. قَوْله: (وَجعل) مثل جعل الأول. قَوْله: (وزهق) ، أَي هلك وَمَات، يُقَال: زهقت نَفسه تزهق زهوقاً بِالضَّمِّ خرجت، قَالَ الْجَوْهَرِي: {وزهق الْبَاطِل} (الْإِسْرَاء: 18) . أَي: اضمحل، والزهوق بِالْفَتْح ...
. وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دخل مَكَّة وجد بهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ صنماً، فَأَشَارَ إِلَى كل صنم بِعصاً. وَقَالَ: {جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا} (الْإِسْرَاء: 18) . وَكَانَ لَا يُشِير إِلَى صنم إلاَّ سقط من غير أَن يمسهُ بعصاه، وروى أَحْمد من حَدِيث جَابر، قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَة صور فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يمحوها، فَبل عمر ثوبا ومحاها بِهِ، فَدَخلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِيهَا شَيْء. انْتهى. وطعْنُه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَصْنَام عَلامَة أَنَّهَا لَا تدفع عَن نَفسهَا، فَكيف تكون آلِهَة؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الطَّبَرِيّ: فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود جَوَاز كسر آلَات الْبَاطِل وَمَا لَا يصلح إلاَّ فِي الْمعْصِيَة حَتَّى تَزُول هيئتها وَينْتَفع برضاضها، وَقَالَ ابْن بطال: آلَات اللَّهْو كالطنابير والعيدان والصلبان والأنصاب، تكسر حَتَّى تغير عَن هيئتها إِلَى خلَافهَا، وَيُقَال: وكل مَا لَا معنى لَهَا إلاَّ التلهي بهَا عَن ذكر الله تَعَالَى، والشغل بهَا عَمَّا يُحِبهُ الله إِلَى مَا يسخطه، يجب أَن يُغير عَن هَيئته الْمَكْرُوهَة إِلَى خلَافهَا من الهيئات الَّتِي يَزُول مَعهَا الْمَعْنى الْمَكْرُوه، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كسر الْأَصْنَام والجوهر الَّذِي فِيهَا، وَلَا شكّ أَنه يصلح إِذا غير عَن الْهَيْئَة الْمَكْرُوهَة وَينْتَفع بِهِ بعد الْكسر، وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف كسر آلَات الملاهي، وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانَ أَصْحَاب عبد الله يستقبلون الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الدفوف فيخرقونها، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فِي معنى الْأَصْنَام الْقُبُور المتخذة من الْمدر والخشب وشبههما، وكل مَا يَتَّخِذهُ(13/32)
النَّاس فِيمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ إِلَّا للتلهي الْمنْهِي عَنهُ، فَلَا يجوز بيع شَيْء مِنْهُ إلاَّ الْأَصْنَام الَّتِي تكون من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والرصاص إِذا غيرت مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَصَارَت نقراً أَو قطعا فَيجوز بيعهَا وَالشِّرَاء بهَا.
9742 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِر قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِياضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ القَاسِمِ عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها كانَتِ اتَّخَذعتْ علَى سَهْوَةٍ لَها سِتْراً فِيهِ تَماثيلُ فَهَتَكَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فهتكه) ، أَي: فهتك السّتْر، أَي: شقَّه، وَهَذَا يدْخل فِي قَوْله: فَإِن كسر صنماً، لِأَن التماثيل الَّتِي هِيَ الصُّور كَانَت تعبد كَمَا كَانَ الصَّنَم يعبد.
وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَالقَاسِم هُوَ مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَوجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي الْمَظَالِم هُوَ: أَن هتك السّتْر الَّذِي فِيهِ التماثيل من إِزَالَة الظُّلم، لِأَن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذ التماثيل والصور، وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه. فَافْهَم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سهوة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء، وَهِي الصّفة الَّتِي تكون بَين يَدي الْبيُوت، وَقيل: هِيَ بَيت صَغِير منحدر فِي الأَرْض. وَقيل: هِيَ الرف أَو الطاق الَّذِي يوضع فِيهِ الشَّيْء، وَقيل: هِيَ الطاق فِي وسط الْبَيْت، وَقيل: هِيَ بَيت صَغِير سمكه مُرْتَفع عَن الأَرْض يشبه الخزانة الصَّغِيرَة يكون فِيهِ الْمَتَاع. قَوْله: (تماثيل) ، جمع تِمْثَال، وَهُوَ مَا يصنع ويصور مشبهاً بِخلق الله تَعَالَى من ذَوَات الرّوح، وَفِي (الْمغرب) : الصُّورَة عَام وَيشْهد لَهُ مَا ذكر فِي الأَصْل أَنه صلى وَعَلِيهِ ثوب وَفِيه تماثيل، كره لَهُ. قَالَ: وَإِذا قطع رَأسهَا فَلَيْسَتْ بتمثال، ثمَّ ذكر حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ: من ظن أَن الصُّورَة الْمنْهِي عَنْهَا مَا لَهُ شخص دون مَا كَانَ منسوجاً أَو مَنْقُوشًا فِي ثوب أَو جِدَار، فَهَذَا الحَدِيث يكذب ظَنّه. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ تماثيل أَو تصاوير) . كَأَنَّهُ شكّ من الرَّاوِي، وَأما قَوْلهم: وَيكرهُ التصاوير والتماثيل، فالعطف للْبَيَان. قَوْله: (فهتكه) ، أَي: شقَّه، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَفِي حَوَاشِي (الْمغرب) : هتك السّتْر تخريقه. قَوْله: (نمرقتين) ، تَثْنِيَة نمرقة، بِضَم النُّون وَالرَّاء وَكسرهَا وَضم النُّون وَفتح الرَّاء: وَهِي وسَادَة صَغِيرَة، وَقد تطلق على الطنفسة، كَذَا فسره الْكرْمَانِي. وَقَوله: (فكانتا فِي الْبَيْت يجلس عَلَيْهِمَا) يُنَافِي ذَلِك تَفْسِيره بالوسادة.
33 - (بابُ مَنْ قاتَلَ دُونَ مالِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَاتل دون مَاله، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: عِنْد مَاله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: دون فِي أَصْلهَا ظرف مَكَان بِمَعْنى تَحت، وَيسْتَعْمل للسَّبَبِيَّة على الْمجَاز، وَوَجهه أَن الَّذِي يُقَاتل على مَاله إِنَّمَا يَجعله خَلفه أَو تَحْتَهُ، ثمَّ يُقَاتل عَلَيْهِ، وَفِي (الصِّحَاح) : دون نقيض فَوق، وَهُوَ تَقْصِير عَن الْغَايَة، وَيكون ظرفا، وَجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: من قَاتل دون مَاله فَمَاذَا حكمه؟ وَيجوز إِن يكون تَقْدِيره: من قَاتل دون مَاله فَقتل فَهُوَ شَهِيد، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب، على عَادَته فِي مثل ذَلِك.
0842 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ هُوَ ابنُ أبِي أيُّوبَ قَالَ حدَّثني أَبُو الأسْوَدِ عنْ عِكْرِمَةَ عنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ منْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهْوَ شَهِيدٌ.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن الْمُقَاتلَة لَا تَسْتَلْزِم الْقَتْل، وَالشَّهَادَة مرتبَة على الْقَتْل. قلت: قد ذكرت الْآن أَن تَقْدِير التَّرْجَمَة: من قَاتل دون مَاله فَقتل، فَمَاذَا حكمه؟ فَالْجَوَاب: إِنَّه شَهِيد. وَاقْتصر فِي الحَدِيث على لفظ: قتل، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الْمُقَاتلَة، وَبِهَذَا تتضح الْمُطَابقَة. وَقيل أَيْضا: مَا وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذِه الْأَبْوَاب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يدل أَن للْإنْسَان أَن يدْفع من قصد مَاله ظلما، فَإِذا قتل صَار شَهِيدا، وَهَذَا النَّوْع دَاخل فِي الْمَظَالِم لِأَن فِيهِ دفع الظُّلم. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يزِيد من الزِّيَادَة الْقرشِي الْعَدوي أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمقري الْقصير مولى آل عمر بن الْخطاب(13/33)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّانِي: سعيد بن أبي أَيُّوب، واسْمه مِقْلَاص الْخُزَاعِيّ، مَوْلَاهُم أَبُو يحيى، وَقد مر فِي التَّهَجُّد. الثَّالِث: أَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن يَتِيم عُرْوَة، مر فِي الْغسْل. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه سكن مَكَّة وَأَصله من نَاحيَة الْبَصْرَة. وَقيل: من نَاحيَة الأهواز، وَأَن سعيد ابْن أبي أَيُّوب مصري. وَأَن أَبَا الْأسود وَعِكْرِمَة مدنيان. وَفِيه: عَن عِكْرِمَة عَن عبد الله، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن أبي الْأسود أَن عِكْرِمَة أخبرهُ، وَلَيْسَ لعكرمة عَن عبد الله بن عَمْرو فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي متن هَذَا الحَدِيث: روى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث عَن الْمقري، فَقَالَ: فَهُوَ شَهِيد، ودحيم وَابْن أبي عمر وَعبد الْعَزِيز بن سَلام كلهم رَوَوْهُ عَن الْمقري، فَقَالُوا: فَلهُ الْجنَّة، وَكلهمْ قَالُوا: مَظْلُوما، وَلم يقلهُ البُخَارِيّ، وَالْأَشْبَه أَن يكون نَقله من حفظه أَو سَمعه من المقريء من حفظه، فجَاء فِي الحَدِيث على مَا جرى بِهِ اللَّفْظ فِي هَذَا الْبَاب، وَمن جَاءَ بِهِ على غير مَا اُعْتِيدَ من اللَّفْظ فِيهِ فَهُوَ بِالْحِفْظِ أولى، وَلَا سِيمَا فيهم مثل دُحَيْم، وَكَذَلِكَ مَا زادوه من قَوْله: مَظْلُوما، فَإِن الْمَعْنى لَا يجوز إلاَّ أَن يكون كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) : عَن مُحَمَّد بن أَحْمد عَن بشر بن مُوسَى عَن عبد الله بن يزِيد الْمقري بِلَفْظ: من قتل دون مَاله مَظْلُوما، وروى مُسلم هَذَا الحَدِيث وَفِيه قصَّة من حَدِيث سُلَيْمَان الْأَحول: أَن ثَابتا مولى عمر بن عبد الرَّحْمَن أخبرهُ أَنه: لما كَانَ بَين عبد الله بن عَمْرو وَبَين عَنْبَسَة بن أبي سُفْيَان مَا كَانَ تيسروا لِلْقِتَالِ، فَركب خَالِد بن الْعَاصِ إِلَى عبد الله بن عَمْرو فوعظه خَالِد، فَقَالَ عبد الله بن عَمْرو: أما علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد؟ قَوْله: تيسروا. أَي: تأهبوا وتهيأوا. وَأخرجه النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد البُخَارِيّ: أَخْبرنِي عبيد الله بن فضَالة بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أخبرنَا عبد الله، وَهُوَ ابْن يزِيد الْمقري، قَالَ: حَدثنَا سعيد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عِكْرِمَة عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من قتل دون مَاله مَظْلُوما فَلهُ الْجنَّة، وَله، فِي رِوَايَة من طَرِيق آخر عَن عِكْرِمَة عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد، وَهَذَا مَتنه قبل متن حَدِيث البُخَارِيّ، وَإِسْنَاده مُخْتَلف. وَله فِي رِوَايَة أُخْرَى من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة: أَنه سمع عبد الله بن عَمْرو يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أُرِيد مَاله بِغَيْر حق فقاتل فَقتل فَهُوَ شَهِيد. وَقَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدثنَا مُعَاوِيَة بن هِشَام، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن عبد الله بن الْحسن عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: هَذَا خطأ وَالصَّوَاب الَّذِي قبله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد.
ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر، ثمَّ روى عَن عبد بن حميد عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد حَدثنَا أبي عَن أَبِيه عَن أبي عُبَيْدَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر عَن طَلْحَة بن عبيد الله بن عَوْف عَن سعيد بن زيد، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون دَمه فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد. وَمن قتل دون أَهله فَهُوَ شَهِيد ثمَّ قَالَ: هَذَا حسن صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَسليمَان بن دَاوُد الْهَاشِمِي، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة سُفْيَان وَابْن إِسْحَاق وإبن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان فَقَط، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِذكر المَال فَقَط. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث زيد بن عَليّ بن حُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. قَالَ شَيخنَا: أوردهُ أَحْمد هَكَذَا فِي مُسْند عَليّ، وَهُوَ يدل على أَن المُرَاد بقوله عَن جده، عَليّ بن حُسَيْن، فعلى هَذَا يكون مُنْقَطِعًا. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أُرِيد مَاله ظلما فَقتل فَهُوَ شَهِيد. وَأما حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر: من أُتِي عِنْد مَاله فقاتل فقوتل فَهُوَ شَهِيد، وَله(13/34)
طَرِيق آخر رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (المعجم) من رِوَايَة أبي قلَابَة عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَأخْرجهُ ...
. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن: سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وسُويد بن مقرن وَأنس بن مَالك وَعبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَامر بن كريز وفهر بن مطرف ومخارق بن سليم. وَأما حَدِيث سعد فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث عُبَيْدَة بنت نائل عَن عَائِشَة بنت سعد عَن أَبِيهَا، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة أبي وَائِل عَن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل دون مظْلمَة فَهُوَ شَهِيد) ، وَرَوَاهُ الْبَزَّار من رِوَايَة أبي وَائِل عَنهُ، وَلَفظه: (من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث بُرَيْدَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث سُوَيْد بن مقرن فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة سوَادَة بن أبي الْجَعْد عَن أبي جَعْفَر، قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد سُوَيْد بن مقرن، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل دون مظلمته فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْمَقْتُول دون مَاله شَهِيد. وَأما حَدِيث عبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَامر فأخرجهما الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة حَنْظَلَة بن قيس عَن عبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَامر بن كريز: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل أَو قَالَ: مَاتَ دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. وَأما حَدِيث نهير بن مطرف فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمطلب عَن أَخِيه عَن أَبِيه فهيد بن مطرف: أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت إِن عدا عَليّ عادٍ؟ قَالَ: تَأمره وتنهاه، قَالَ: فَإِن أَبى، تَأمر بقتاله؟ قَالَ: نعم، فَإِن قَتلك فَأَنت فِي الْجنَّة، وَإِن قتلته فَهُوَ فِي النَّار. وَأما حَدِيث مُخَارق بن سليم فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث قَابُوس بن مُخَارق عَن أَبِيه، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: الرجل يأتيني فيريد مَالِي؟ قَالَ: ذكِّره بِاللَّه. قَالَ: فَإِن لم يذكر؟ قَالَ: فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِمن حولك من الْمُسلمين. قَالَ: فَإِن لم يكن حَولي أحد من الْمُسلمين؟ قَالَ: فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بالسلطان، قَالَ: فَإِن نأى السُّلْطَان عني؟ قَالَ: قَاتل دون مَالك حَتَّى تكون من شُهَدَاء الْآخِرَة، أَو تمنع مَالك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز قتل القاصد لأخد المَال بِغَيْر حق، سَوَاء كَانَ المَال قَلِيلا أَو كثيرا، لعُمُوم الحَدِيث، وَهَذَا قَول جَمَاهِير الْعلمَاء. وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك: لَا يجوز قَتله إِذا طلب شَيْئا يَسِيرا: كَالثَّوْبِ وَالطَّعَام، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَالصَّوَاب مَا قَالَه الجماهير. وَأما المدافعة عَن الْحَرِيم فواجبة بِلَا خلاف، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِي المدافعة عَن النَّفس بِالْقَتْلِ خلاف فِي مَذْهَبنَا وَمذهب غَيرنَا، والمدافعة عَن المَال جَائِزَة غير وَاجِبَة. وَفِيه: أَن القاصد إِذا قتل لَا دِيَة لَهُ وَلَا قصاص. وَفِيه: أَن الدَّافِع إِذا قتل يكون شَهِيدا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رخص بعض أهل الْعلم للرجل أَن يُقَاتل عَن نَفسه وَمَاله. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: يُقَاتل وَلَو دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ الْمُهلب: وَكَذَلِكَ فِي كل من قَاتل على مَا يحل لَهُ الْقِتَال عَلَيْهِ من أهل أَو دين فَهُوَ كمن قَاتل دون نَفسه وَمَاله، فَلَا دِيَة عَلَيْهِ وَلَا تبعة، وَمن أَخذ فِي ذَلِك بِالرُّخْصَةِ وَأسلم المَال والأهل وَالنَّفس فَأمره إِلَى الله تَعَالَى، وَالله يعذرهُ ويأجره، وَمن أَخذ فِي ذَلِك بالشدة وَقتل كَانَت لَهُ الشَّهَادَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن جمَاعَة من أهل الْعلم أَنهم رَأَوْا قتال اللُّصُوص ودفعهم عَن أنفسهم أَمْوَالهم، وَقد أَخذ ابْن عمر لصاً فِي دَاره، فأصلت عَلَيْهِ السَّيْف، قَالَ سَالم: فلولا أَنا لضربه بِهِ، وَقَالَ النَّخعِيّ: إِذا خفت أَن يبدأك اللص فابدأه. وَقَالَ الْحسن: إِذا طرق اللص بِالسِّلَاحِ فاقتله، وَسُئِلَ مَالك عَن الْقَوْم يكونُونَ فِي السّفر فَتَلقاهُمْ اللُّصُوص؟ قَالَ: يقاتلونهم وَلَو على دانق. وَقَالَ عبد الْملك:(13/35)
إِن قدر أَن يمْتَنع من اللُّصُوص فَلَا يعطهم شَيْئا. وَقَالَ أَحْمد: إِذا كَانَ اللص مُقبلا، وَأما موليا فَلَا. وَعَن إِسْحَاق مثله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي رجل دخل على رجل لَيْلًا للسرقة ثمَّ خرج بِالسَّرقَةِ من الدَّار، فَاتبعهُ الرجل فَقتله: لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: من أُرِيد مَاله فِي مصر أَو فِي صحراء، أَو أُرِيد حريمه، فالاختيار لَهُ أَن يكلمهُ أَو يستغيث، فَإِن منع أَو امْتنع لم يكن لَهُ قِتَاله، فَإِن أَبى أَن يمْتَنع من قَتله من أَرَادَ قَتله، فَلهُ أَن يَدْفَعهُ عَن نَفسه وَعَن مَاله، وَلَيْسَ لَهُ عمد قَتله، فَإِذا لم يمْتَنع فقاتله فَقتله لَا عقل فِيهِ وَلَا قَود وَلَا كَفَّارَة.
43 - (بابٌ إذَا كَسَرَ قَصْعَةً أوْ شَيْئاً لِغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا كسر شخص قَصْعَة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الصَّاد: وَهِي إِنَاء من عود، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَهِي صَحْفَة تشبع عشرَة، وَهِي وَاحِدَة القصاع والقصع. قَوْله: (أَو شَيْئا) من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، أَي: أَو كسر شَيْئا. وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يضمن الْمثل أَو الْقيمَة؟ هَكَذَا قدره بَعضهم، وَفِيه نظر، لِأَن الْقَصعَة وَنَحْوهَا لَيست من الْمِثْلِيَّات أصلا، وَلَكِن يمشي مَا قَالَه فِي قَوْله: (أَو شَيْئا) ، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون من الْمِثْلِيَّات أَو من ذَوَات الْقيم. قلت: فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفع قَصْعَة صَحِيحَة عوض الْقَصعَة الَّتِي كسرتها عَائِشَة على مَا يَجِيء؟ قلت: لم يكن ذَلِك من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَبِيل الحكم على الْخصم، وَكَانَ دَفعه الْقَصعَة عوض الْمَكْسُورَة تطييباً لقلب صاحبتها، فَلَا يدل ذَلِك على أَن الْقَصعَة وَنَحْوهَا من الْمِثْلِيَّات.
1842 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسائِهِ فأرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيها طَعامٌ فضَرَبَتْ بِيَدِهَا فكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وجَعَلَ فِيهَا الطعامَ وَقَالَ كُلُوا وحبَسَ الرَّسولَ والقَصَعةَ حتَّى فَرَغُوا فدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وحبَسَ الْمَكْسُورَةَ.
(الحَدِيث 1842 طرفه فِي: 5225) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكسرت الْقَصعَة) ، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان. قَوْله: (كَانَ عِنْد بعض نِسَائِهِ) ، وروى التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حميد عَن أنس، قَالَ: أَهْدَت بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما فِي قَصْعَة، فَضربت عَائِشَة الْقَصعَة بِيَدِهَا فَأَلْقَت مَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طَعَام بِطَعَام وإناء بِإِنَاء، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه أَحْمد عَن ابْن أبي عدي وَيزِيد بن هَارُون عَن حميد بِهِ، وَقَالَ: أظنها عَائِشَة، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أبهمت عَائِشَة تفخيماً لشأنها. قيل: إِنَّه مِمَّا لَا يخفى وَلَا يلتبس إِنَّهَا هِيَ، لِأَن الْهَدَايَا إِنَّمَا كَانَت تهدى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا، ورد بِأَن هَذَا مُجَرّد دَعْوَى يحْتَاج إِلَى الْبَيَان. وَقَالَ شَيخنَا: لم يَقع فِي رِوَايَة أحد من البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه تَسْمِيَة زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الَّتِي أَهْدَت لَهُ الطَّعَام، وَقد ذكر ابْن حزم من طَرِيق اللَّيْث عَن جرير بن حَازِم عَن حميد عَن أنس: أَن الَّتِي أهدته إِلَيْهِ زَيْنَب بنت جحش، أَهْدَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي بَيت عَائِشَة ويومها جَفْنَة من حيس، فَقَامَتْ عَائِشَة فَأخذت الْقَصعَة فَضربت بهَا فكسرتها، فَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قَصْعَة لَهَا فَدَفعهَا إِلَى رَسُول زَيْنَب، فَقَالَ: هَذِه مَكَان صحفتها. وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة جسرة بنت دجَاجَة عَن عَائِشَة، قَالَت: مَا رَأَيْت صانعاً طَعَاما مثل صَفِيَّة، صنعت لرَسُول الله طَعَاما فَبعثت بِهِ، فأخذني أفكل، يَعْنِي: رعدة، فَكسرت الْإِنَاء، فَقلت: يَا رَسُول الله! مَا كَفَّارَة مَا صنعت؟ قَالَ: إِنَاء مثل إِنَاء وَطَعَام مثل طَعَام. قَالَ الْخطابِيّ: فِي إِسْنَاده مقَال، وَقَالَ الشَّيْخ: يحْتَمل أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَقعت لعَائِشَة مرّة مَعَ زَيْنَب وَمرَّة مَعَ صَفِيَّة، فَلَا مَانع من ذَلِك، فَإِن كَانَ ذَلِك وَاقعَة وَاحِدَة رَجعْنَا إِلَى التَّرْجِيح، وَحَدِيث أنس أصح. وَفِي بعض طرقه زَيْنَب، وَالله أعلم. وَذكر أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي الْحَوَاشِي: أَن مُرْسلَة الْقَصعَة أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أبي المتَوَكل عَن أم سَلمَة، أَنَّهَا أَتَت بِطَعَام فِي صَحْفَة إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه، فَجَاءَت عَائِشَة متزرة بكساء وَمَعَهَا فهر، ففلقت الصحفة ... الحَدِيث، وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني من طَرِيق عبيد الله الْعمريّ(13/36)
عَن ثَابت عَن أنس أَنهم كَانُوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت عَائِشَة إِذْ أَتَى بصحفة خبز وَلحم من بَيت أم سَلمَة، فَوَضَعْنَا أَيْدِينَا وَعَائِشَة تصنع طَعَاما عجلة، فَلَمَّا فَرغْنَا جَاءَت بِهِ وَرفعت صَحْفَة أم سَلمَة فكسرتها. وروى ابْن أبي شيبَة وَابْن مَاجَه، من طَرِيق رجل من بني سواءة غير مُسَمّى عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَصْحَابه فصنعت لَهُ طَعَاما، وصنعت لَهُ حَفْصَة طَعَاما، فسبقتني، فَقلت لِلْجَارِيَةِ: إنطلقي فأكفئي قصعتها. فألقتها. فَانْكَسَرت وانتثر الطَّعَام، فَجَمعه على النطع، فَأَكَلُوا ثمَّ بعث بقصعتي إِلَى حَفْصَة، فَقَالَ: خُذُوا ظرفا مَكَان ظرفكم، وَالظَّاهِر أَنَّهَا قصَّة أُخْرَى، لِأَن فِي هَذِه الْقِصَّة: أَن الْجَارِيَة هِيَ الَّتِي كسرت، وَفِي الَّذِي تقدم أَن عَائِشَة نَفسهَا هِيَ الَّتِي كسرتها، قَوْله: (فَأرْسلت إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ) ، قد تقدم من الْأَحَادِيث أَن الَّتِي أرْسلت دَائِرَة بَين عَائِشَة وَزَيْنَب بنت جحش وَصفِيَّة وَأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن، فَإِن كَانَت الْقِصَّة مُتعَدِّدَة فَلَا كَلَام فِيهَا، وإلاَّ فَالْعَمَل بالترجيح، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (مَعَ خَادِم) ، يُطلق الْخَادِم على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهنا المُرَاد: الْأُنْثَى، بِدَلِيل تَأْنِيث الضَّمِير فِي قَوْله: (فَضربت بِيَدِهَا فَكسرت الْقَصعَة) . وَذكر هُنَا الْقَصعَة، وَفِي غَيره ذكر الْجَفْنَة والصحفة، كَمَا مر، قَوْله: (فِيهَا طَعَام) ، قد ذكر فِي حَدِيث زَيْنَب: أَنه حيس، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة. وَهُوَ الطَّعَام الْمُتَّخذ من التَّمْر والأقط وَالسمن، وَقد يَجْعَل عوض الأقط: الدَّقِيق أَو الفتيت، وَفِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ: خبز وَلحم. قَوْله: (فَضمهَا) ، أَي: ضم الْقَصعَة الَّتِي انْكَسَرت رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَقَالَ: كلوا) ، أَي: قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه الَّذين كَانُوا مَعَه. قَوْله: (وَحبس الرَّسُول) ، أَي: أوقف الْخَادِم الَّذِي هُوَ رَسُول إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (والقصعة) ، أَي: حبس الْقَصعَة الْمَكْسُورَة أَيْضا عِنْده. قَوْله: (حَتَّى فرغوا) أَي: حَتَّى فرغت الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا مَعَه من الْأكل. قَوْله: (فَدفع) ، أَي: أَمر بإحضار قَصْعَة صَحِيحَة من عِنْد الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا فَدَفعهَا إِلَى الرَّسُول وَحبس الْقَصعَة الْمَكْسُورَة عِنْده، وَرَأَيْت فِي بعض الْمَوَاضِع فِي أثْنَاء مطالعتي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْقَصعَة الْمَكْسُورَة. وَكَانَت قطعا، فاستوت صَحِيحَة فِي كَفه الْمُبَارك كَمَا كَانَت أَولا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن التِّين: احْتج بِهَذَا الحَدِيث من قَالَ: يقْضِي فِي الْعرُوض بالأمثال، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَرِوَايَة عَن مَالك، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: كل مَا صنع الآدميون غرم مثله كَالثَّوْبِ وَبِنَاء الْحَائِط وَنَحْو ذَلِك، وَلَك مَا كَانَ من صنع الله عز وَجل مثل العَبْد وَالدَّابَّة فَفِيهِ الْقيمَة، وَالْمَشْهُور من مذْهبه أَن كل مَا كَانَ لَيْسَ بمكيل وَلَا مَوْزُون فَفِيهِ الْقيمَة، وَمَا كَانَ مَكِيلًا أَو مَوْزُونا، فَيقْضى بِمثلِهِ يَوْم استهلاكه. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: الصحفة من ذَوَات الْقيم، فَكيف غرمها؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الظَّاهِر مَا يحويه بَيته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه ملكه فَنقل من ملكه إِلَى ملكه لَا على وَجه الغرامة بِالْقيمَةِ. الثَّانِي: أَن أَخذ الْقَصعَة من بَيت الكاسرة عُقُوبَة، والعقوبة بالأموال مَشْرُوعَة، وَلما اسْتدلَّ ابْن حزم بِحَدِيث الْقَصعَة، قَالَ: هَذَا قَضَاء بِالْمثلِ لَا بِالدَّرَاهِمِ. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمَا قضيا فِيمَن اسْتهْلك فصلاناً بفصلان مثلهَا، وَشبهه دَاوُد بجزاء الصَّيْد فِي العَبْد العَبْد، وَفِي العصفور العصفور. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن اسْتهْلك عرُوضا أَو حَيَوَانا، فَذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة: إِلَى أَن عَلَيْهِ مثل مَا اسْتهْلك، قَالُوا: وَلَا يقْضِي بِالْقيمَةِ إلاَّ عِنْد عدم الْمثل، وَذهب مَالك: إِلَى أَن من اسْتهْلك شَيْئا من الْعرُوض أَو الْحَيَوَان فَعَلَيهِ قِيمَته يَوْم استهلاكه، وَالْقيمَة أعدل فِي ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَاتفقَ مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، فِيمَن اسْتهْلك ذَهَبا أَو وَرقا أَو طَعَاما مَكِيلًا أَو مَوْزُونا أَن عَلَيْهِ مثل مَا اسْتهْلك فِي صفته ووزنه وَكيله. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة أَن كل مَا كَانَ مثلِيا إِذا اسْتَهْلكهُ شخص يجب عَلَيْهِ مثله، وَإِن كَانَ من ذَوَات الْقيم يجب عَلَيْهِ قِيمَته، والمثلي كالمكيل مثل الْحِنْطَة وَالشعِير، وَالْمَوْزُون كالدراهم وَالدَّنَانِير، وَلَكِن بِشَرْط أَن لَا يكون الْمَوْزُون مِمَّا يضر بالتبعيض، يَعْنِي: غير المصوغ مِنْهُ، فَهُوَ يلْحق بذوات الْقيم، وَغير الْمثْلِيّ كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ وَالرُّمَّان والسفرجل وَالثيَاب وَالدَّوَاب، والعددي المتقارب كالجوز وَالْبيض والفلوس كالمكيل. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث الْبَاب مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ الْمَذْكُور آنِفا، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب مَا يَكْفِي عَن الْجَواب عَن الحَدِيث. وَفِيه: بسط عذر الْمَرْأَة فِي حَالَة الْغيرَة، لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاتب عَائِشَة على ذَلِك، فَإِنَّمَا قَالَ: (غارت أمكُم) ، وَيُقَال: إِنَّمَا لم يؤدبها، وَلَو بالْكلَام، لِأَنَّهُ فهم أَن المهدية كَانَت(13/37)
أَرَادَت بإرسالها ذَلِك إِلَى بَيت عَائِشَة أذاها، والمظاهرة عَلَيْهَا، فَلَمَّا كسرتها لم يزدْ على أَن قَالَ: (غارت أمكُم وَجمع الطَّعَام بِيَدِهِ وَقَالَ: قَصْعَة بقصعة وَأما طَعَام بِطَعَام) ، لِأَنَّهُ كَانَ يعلم بإتلافه قبُول لَهُ أَو فِي حكمه، وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: وَلم يغرم الطَّعَام لِأَنَّهُ كَانَ مهْدي، فإتلافه قبُوله لَهُ، أَو فِي حكم الْقبُول، قيل: فِيهِ نظر لِأَن الطَّعَام لم يتْلف فَإِنَّهُ دعى بقصعة فَوَضعه فِيهَا، وَقَالَ: (كلوا غارت أمكُم) . وَأجِيب: بِأَن هَذَا الطَّعَام إِن كَانَ هَدِيَّة فيستدعى أَن يكون ملكا للمهدي فَلَا غَرَامَة، وَإِن كَانَ ملكا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاعْتِبَار أَن مَا كَانَ فِي بيُوت أَزوَاجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهُوَ ملك لَهُ فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ الغرامة. وَقَالَ ابنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ أخبَرَنَا يَحْيَى بنُ أيُّوبَ قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ابْن أبي مَرْيَم اسْمه سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام بَيَان التَّصْرِيح بتحديث أنس لحميد.
53 - (بابٌ إذَا هَدَمَ حائِطاً فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا هدم شخص حَائِط شخص فليبن مثله وَهَذَا بِعَيْنِه، مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، فَإِنَّهُم قَالُوا: إِذا هدم رجل حَائِطا لآخر فَإِنَّهُ يَبْنِي لَهُ مثله، فَإِن تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثلَة رَجَعَ إِلَى الْقيمَة، وَفِي فَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة ذكر الإِمَام مُحَمَّد بن الْفضل: إِذا هدم رجل حَائِط إِنْسَان إِن كَانَ من خشب ضمن الْقيمَة، وَإِن كَانَ من طين وَكَانَ عتيقاً قَدِيما فَكَذَلِك، وَإِن كَانَ حَدِيثا جَدِيدا أَمر بإعادته.
2842 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ هُوَ بنُ حازِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ رجُلٌ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ يُقالُ لَهُ جُرَيْجٍ يُصَلِّي فَجاءَتْهُ أُمُّهُ فدَعَتْهُ فَأبى أنْ يُجِيبَهَا فَقَالَ أُجِيبُها أوْ أُصَلِّي ثُمَّ أتَتْهُ فقالَتْ أللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حتَّى تُرِيهِ الْمُومِساتِ وكانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فقالَتْ امْرَأةٌ لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجاً فتَعَرَّضَتْ لَهُ فكَلَّمَتْهُ فأبَى فأتَتْ راعِياً فأمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِها فوَلَدَتْ غُلاماً فقالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فأتَوْهُ وكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فأنْزَلُوهُ وسَبُّوهُ فتَوَضَّأَ وصَلَّى ثُمَّ أتَى الغُلاَمَ فقالَ مَنْ أبُوكَ يَا غُلامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لاَ إلاَّ مِنْ طِينٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا، إلاَّ من طين) . لِأَنَّهُ كَانَ من طين، وَلم يرض إلاَّ أَن يكون مثله.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، مطولا. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن يزِيد بن هَارُون عَن جرير بن حَازِم.
قَوْله: (جريج) ، بِضَم الْجِيم الأولى: الراهب. قَوْله: (يُصَلِّي) ، خبر: كَانَ. قَوْله: (أَو أُصَلِّي؟) كلمة: أَو، هُنَا للتَّخْيِير. قَوْله: (لَا تمته) بِضَم التَّاء: من الإماتة. قَوْله: (حَتَّى تريه) ، بِضَم التَّاء: من الإراءة. قَوْله: (المومسات) ، أَي: الزواني، وَهُوَ جمع مومسة، وَهِي الْفَاجِرَة وَيجمع على: مياميس أَيْضا وموامس، وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: مياميس، وَلَا يَصح إلاَّ على إشباع الكسرة لتصير: يَاء، كمطفل ومطافل ومطافيل، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث أبي وَائِل: أَكثر تبع الدَّجَّال أَوْلَاد المياميس، وَفِي رِوَايَة: أَوْلَاد الموامس، وَقد اخْتلف فِي أصل هَذِه اللَّفْظَة، فبعضهم يَجعله من الْهمزَة، وَبَعْضهمْ يَجعله من الْوَاو، وكل مِنْهُمَا تكلّف لَهُ اشتقاقاً فِيهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المومسة الْفَاجِرَة وَلم يذكر شَيْئا غير ذَلِك، وَفِي الْمطَالع المياميس والمومسات: المجاهرات بِالْفُجُورِ، الْوَاحِدَة: مومسة، وبالياء الْمَفْتُوحَة روينَاهُ عَن جَمِيعهم، وَكَذَلِكَ ذكره أَصْحَاب الْعَرَبيَّة فِي(13/38)
الْوَاو وَالْمِيم وَالسِّين، وَرَوَاهُ ابْن الْوَلِيد عَن ابْن السماك: المآميس، بِالْهَمْز، فَإِن صَحَّ الْهَمْز فَهُوَ من: مَاس الرجل، إِذا لم يلْتَفت إِلَى موعظة، ومأس مَا بَين يَدي الْقَوْم: أفسد، وَهَذَا بِمَعْنى المجاهرة والاستهتار، وَيكون وَزنه على هَذَا: فعاليل. قَوْله: (فِي صومعته)
. قَوْله: (فكلمته) ، أَي: فِي ترغيبه فِي مباشرتها. قَوْله: (فَولدت) ، فِيهِ حذف كثير تَقْدِيره: فأمكنته من نَفسهَا، يَعْنِي: زنى بهَا فحبلت ثمَّ ولدت غُلَاما، فَقَالَت: أَي الْمَرْأَة، هُوَ، أَي: الْغُلَام، من جريج. قَوْله: (ثمَّ أَتَى الْغُلَام) ، بِالنّصب أَي: الطِّفْل الَّذِي فِي المهد قبل زمَان تكَلمه. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ جريج: لَا تبنوها إلاَّ من طين، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ شَاهد على حذف المجزوم: بِلَا، كَمَا قدرناه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الِاحْتِجَاج بِأَن شرع من قبلنَا شرع لنا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاحْتج البُخَارِيّ بِهِ على التَّرْجَمَة بِنَاء على أَن شرع من قبلنَا شرع لنا، وَفِيه نظر، لِأَن شرعنا أوجب الْمثل فِي الْمِثْلِيَّات، والحائط مُتَقَوّم لَا مثلي. انْتهى. قلت: شرع من قبلنَا يلْزمنَا مَا لم يقص الله علينا بالإنكار، وَقد قُلْنَا: إِن الْحَائِط إِذا كَانَ من خشب يكون من ذَوَات الْقيم، وَإِن كَانَ من الطين وَالْحجر يبْنى بِأَن يُعَاد مثله. وَفِيه: أَن الطِّفْل يدعى غُلَاما وَفِيه: أَنه أحد من تكلم فِي المهد، وَقَالَ الضَّحَّاك: تكلم فِي المهد سِتَّة: شَاهد يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَابْن ماشطة فِرْعَوْن، وَعِيسَى، وَيحيى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصَاحب جريج، وَصَاحب الْأُخْدُود. وَفِيه: الْمُطَالبَة، كَمَا طالبت بَنو إِسْرَائِيل جريجاً بِمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَة عَلَيْهِ، وأصل هَذِه الْمُطَالبَة أَن أهل تِلْكَ الْبَلدة كَانُوا يعظمون أَمر الزِّنَا، فَظهر أَمر تِلْكَ الْمَرْأَة فِي الْبَلَد، فَلَمَّا وضعت حملهَا أخبر الْملك أَن امْرَأَة قد ولدت من الزِّنَا، فَدَعَاهَا فَقَالَ لَهَا: من أَيْن لَك هَذَا الْوَلَد؟ قَالَت: من جريج الراهب، قد واقعني. فَبعث الْملك أعوانه إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَنَادَوْهُ فَلم يجبهم حَتَّى جاؤا إِلَيْهِ بالمرو والمساحي وهدموا صومعته وَجعلُوا فِي عُنُقه حبلاً وجاؤا بِهِ إِلَى الْملك، فَقَالَ لَهُ الْملك: إِنَّك قد جعلت نَفسك عابداً ثمَّ تهتك حَرِيم النَّاس وتتعاطى مَا لَا يحل لَهُ؟ قَالَ: أَي شَيْء فعلت؟ قَالَ: إِنَّك زَنَيْت بِامْرَأَة كَذَا. فَقَالَ: لم أفعل، فَلم يصدقوه وَحلف على ذَلِك فَلم يصدقوه، فَقَالَ: فردوني إِلَى أُمِّي، فَردُّوهُ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ إِنَّك دَعَوْت الله عَليّ فَاسْتَجَاب الله دعاءك، فَادّعى الله أَن يكْشف عني بدعائك. فَقَالَت: أللهم إِن كَانَ جريج إِنَّمَا أَخَذته بدعوتي فاكشف عَنهُ، فَرجع جريج إِلَى الْملك، فَقَالَ: أَيْن هَذِه الْمَرْأَة؟ وَأَيْنَ هَذَا الصَّبِي؟ فجاؤا بهما، فسألوهما، فَقَالَت الْمَرْأَة: بلَى هَذَا الَّذِي فعل بِي، فَوضع جريج يَدَيْهِ على رَأس الصَّبِي، وَقَالَ: بِحَق الَّذِي خلقك أَن تُخبرنِي من أَبوك؟ فَتكلم الصَّبِي بِإِذن الله تَعَالَى، وَقَالَ: إِن أبي فلَان الرَّاعِي، فَلَمَّا سَمِعت الْمَرْأَة بذلك اعْترفت، وَقَالَت: كنت كَاذِبَة، وَإِنَّمَا فعل بِي فلَان الرَّاعِي. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن الْمَرْأَة كَانَت حَامِلا لم تضع بعد، فَقَالَ لَهَا: أَيْن أصبتك؟ قَالَت: تَحت شَجَرَة، وَكَانَت الشَّجَرَة بِجنب صومعته، قَالَ جريج: أخرجُوا إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَة، ثمَّ قَالَ: يَا شَجَرَة {أَسأَلك بِالَّذِي خلقكك أَن تخبريني من زنى بِهَذِهِ الْمَرْأَة؟ فَقَالَ كل غُصْن مِنْهَا: راعي الْغنم، ثمَّ طعن بإصبعه فِي بَطنهَا، وَقَالَ: يَا غُلَام} من أَبوك؟ فَنَادَى من بَطنهَا: أبي راعي الْغنم، فَعِنْدَ ذَلِك اعتذر الْملك إِلَى جريج، وَقَالَ: إئذن لي أَن أبني صومعتك بِالذَّهَب؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فبالفضة؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن بالطين كَمَا كَانَ، فبنوه بالطين كَمَا كَانَ، هَكَذَا سَاق هَذِه الْقِصَّة الإِمَام أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي كتاب (تَنْبِيه الغافلين) ، وَذكر أَبُو اللَّيْث عَن يزِيد بن حَوْشَب الفِهري عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أفضل من عبَادَة ربه) . وَفِيه: إِثْبَات الْكَرَامَة للأولياء. وَقَالَ ابْن بطال: يُمكن أَن يكون جريج نَبيا، لِأَن النُّبُوَّة كَانَت مُمكنَة فِي بني إِسْرَائِيل غير ممتنعة عَلَيْهِم، وَلَا نَبِي بعد نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَيْسَ يجْرِي من الْآيَات بعده مَا يكون خرقاً للْعَادَة وَلَا قلب الْعين، وَإِنَّمَا يكون كَرَامَة لأوليائه، مثل: دعز مجابة ورؤيا صَالِحَة وبركة ظَاهِرَة وَفضل بَين وتوفيق من الله تَعَالَى إِلَى الْإِبْرَاء مِمَّا اتهمَ بِهِ الصالحون وامتحن بِهِ المتقون. وَفِيه: أَن دُعَاء الْأُم أَو الْأَب على وَلَده، إِذا كَانَ بنية خَالِصَة، قد يُجَاب، وَإِن كَانَ فِي حَال الضجر. وَفِيه: أَيْضا خلاص الْوَلَد من بلية باتلي بهَا ببركة دُعَاء وَالِديهِ. وَفِيه: دَلِيل أَن الْوضُوء كَانَ لغير هَذِه الْأمة أَيْضا إلاَّ أَن هَذِه الْأمة قد خصت بالغرة والتحجيل خلافًا لمن خصها بِأَصْل الْوضُوء.
بِسْمِ الله الرحْمانِ الرَّحِيم(13/39)
74 - (كِتابُ الشَّرِكَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الشّركَة، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَابْن شبويه، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب الشّركَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: فِي الشّركَة، بِدُونِ لفظ: كتاب، وَلَا لفظ: بَاب، وَالشَّرِكَة، بِفَتْح الشين وَكسر الرَّاء، وَكسر الشين وَإِسْكَان الرَّاء، وَفتح الشين وَإِسْكَان الرَّاء. وَفِيه لُغَة رَابِعَة: شرك، بِغَيْر تَاء التَّأْنِيث. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَهُم فِيهَا من شرك} (سبأ: 22) . أَي: من نصيب، وَجمع الشّركَة: شرك، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الشين، يُقَال: شركته فِي الْأَمر أشركه شركَة، وَالِاسْم الشّرك وَهُوَ: النَّصِيب. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أعتق شركا لَهُ) ، أَي: نَصِيبا وَشريك الرجل ومشاركه سَوَاء، وَهِي فِي اللُّغَة الِاخْتِلَاط على الشُّيُوع أَو على الْمُجَاورَة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كثيرا من الخلطاء ليبغي} (ص: 42) وَفِي الشَّرْع ثُبُوت الْحق لاثْنَيْنِ فَصَاعِدا فِي الشَّيْء الْوَاحِد كَيفَ كَانَ.
ثمَّ هِيَ تَارَة تحصل بالخلط، وَتارَة بالشيوع الْحكمِي كَالْإِرْثِ، وَقَالَ أَصْحَابنَا: الشّركَة فِي الشَّرْع عبارَة عَن العقد على الِاشْتِرَاك واختلاط النَّصِيبَيْنِ، وَهِي على نَوْعَيْنِ: شركَة الْملك، وَهِي أَن يملك إثنان عينا أَو إِرْثا أَو شِرَاء أَو هبة أَو ملكا بِالِاسْتِيلَاءِ، أَو اخْتَلَط مَالهمَا بِغَيْر صنع أَو خلطاه، خلطاً بِحَيْثُ يعسر التَّمْيِيز أَو يتَعَذَّر، فَكل هَذَا شركَة ملك وكل وَاحِد مِنْهُمَا: أَجْنَبِي فِي قسط صَاحبه. وَالنَّوْع الثَّانِي: شركَة العقد، وَهِي أَن يَقُول أَحدهمَا: شاركتك فِي كَذَا، وَيقبل الآخر، وَهِي على أَرْبَعَة أَنْوَاع: مُفَاوَضَة، وعنان، وَتقبل، وَشركَة وُجُوه، وبيانها فِي الْفُرُوع.
1 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الطَّعامِ والنِّهْدِ والْعُرُوضِ وكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ ويوزَنُ مُجَازَفَةً أوْ قَبْضَةً قَبْضَةً لما لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي النِّهْدِ بَأْساً أنْ يِأْكُلَ هَذا بَعْضاً وهذَا بعْضاً وكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ والفضَّةِ والقِرَانِ فِي التَّمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الطَّعَام، وَقد عقد لهَذَا بَاب مُفردا مُسْتقِلّا يَأْتِي بعد أَبْوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (والنهد) ، بِفَتْح النُّون وَكسرهَا وَسُكُون الْهَاء وبدال مُهْملَة، قَالَ الْأَزْهَرِي فِي (التَّهْذِيب) : النهد إِخْرَاج الْقَوْم نفقاتهم على قدر عدد الرّفْقَة، يُقَال: تناهدوا، وَقد ناهد بَعضهم بَعْضًا. وَفِي (الْمُحكم) : النهد العون، وَطرح نهده مَعَ الْقَوْم أعانهم وخارجهم، وَقد تناهدوا أَي: تخارجوا، يكون ذَلِك فِي الطَّعَام وَالشرَاب، وَقيل: النهد إِخْرَاج الرفقاء النَّفَقَة فِي السّفر وخلطها، وَيُسمى بالمخارجة، وَذَلِكَ جَائِز فِي جنس وَاحِد وَفِي الْأَجْنَاس، وَإِن تفاوتوا فِي الْأكل، وَلَيْسَ هَذَا من الرِّبَا فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب الْإِبَاحَة، وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ النهد، بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَالْعرب تَقول: هَات نهدك، مَكْسُورَة النُّون. وَحكى عَن عَمْرو بن عبيد عَن الْحسن أَنه قَالَ: أخرجُوا نهدكم فَإِنَّهُ أعظم للبركة وأحس لأخلاقكم وَأطيب لنفوسكن. وَفِي (الْمطَالع) : أَن الْقَابِسِيّ فسره بِطَعَام الصُّلْح بَين الْقَبَائِل، وَعَن قَتَادَة: مَا أفلس المتلازمان يَعْنِي: المتناهدان، وَذكر مُحَمَّد بن عبد الْملك التاريخي فِي كتاب (النهد) : عَن الْمَدَائِنِي وَابْن الْكَلْبِيّ وَغَيرهمَا: أَن أول من وضع النهد الحضين بن الْمُنْذر الرقاشِي. قلت: الحضين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون: ابْن الْمُنْذر بن الْحَارِث بن وَعلة بن مجَالد بن يثربي بن رَيَّان بن الْحَارِث بن مَالك بن شَيبَان بن ذهل، أحد بني رقاش، شَاعِر فَارسي يكنى أَبَا ساسان، روى عَن عُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن الداناج وَعلي بن سُوَيْد وَابْنه يحيى بن حضين، وَكَانَ أَسِيرًا عِنْد بني أُميَّة فَقتله أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي. قَوْله: (وَالْعرُوض) ، بِضَم الْعين: جمع عرض بِسُكُون الرَّاء وَهُوَ الْمَتَاع، ويقابل النَّقْد، وَأَرَادَ بِهِ: الشّركَة فِي الْعرُوض، وَفِيه خلاف. فَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يَصح شركَة مُفَاوَضَة وَلَا شركَة عنان إلاَّ بالنقدين وهما: الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير والتبر. وَقَالَ مَالك: يجوز فِي الْعرُوض إِذا اتَّحد الْجِنْس، وَعند بعض الشَّافِعِيَّة: يجوز إِذا كَانَ عرضا مثلِيا. وَقَالَ مُحَمَّد: يَصح أَيْضا بالفلوس الرائجة. لِأَنَّهَا برواجها يأحذ حكم النَّقْدَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: لَا يَصح، لِأَن رواجها عَارض. قَوْله: (وَكَيف قسْمَة مَا يُكَال) أَي: وَفِي بَيَان قسْمَة مَا يدْخل تَحت الْكَيْل وَالْوَزْن، هَل يجوز مجازفة أَو يجوز قَبْضَة قَبْضَة، يَعْنِي: مُتَسَاوِيَة، وَقيل: المُرَاد بهَا مجازفة الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَالْعَكْس، لجَوَاز(13/40)
التَّفَاضُل فِيهِ، وَكَذَا كل مَا جَازَ بالتفاضل مِمَّا يُكَال أَو يُوزن من المطعومات وَنَحْوهَا، هَذَا إِذا كَانَت المجازفة فِي الْقِسْمَة. وَقُلْنَا: الْقِسْمَة بيع، وَقَالَ ابْن بطال: قسْمَة الذَّهَب بِالذَّهَب مجازفة وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ مِمَّا لَا يجوز بِالْإِجْمَاع. وَأما قسْمَة الذَّهَب مَعَ الْفضة مجازفة، فكرهه مَالك وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ: لَا يجوز قسْمَة الْبر مجازفة، وكل مَا حرم فِيهِ التَّفَاضُل. قَوْله: (لما لم ير الْمُسلمُونَ) اللَّام فِيهِ مَكْسُورَة وَالْمِيم مُخَفّفَة، هَذَا تَعْلِيل لعدم جَوَاز قسْمَة الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ مجازفة، أَي: لأجل عدم رُؤْيَة الْمُسلمين بالنهد بَأْسا، جوزوا مجازفة الذَّهَب بِالْفِضَّةِ لاخْتِلَاف الْجِنْس، بِخِلَاف مجازفة الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ لجَرَيَان الرِّبَا فِيهِ، فَكَمَا أَن مَبْنِيّ النهد على الْإِبَاحَة، وَإِن حصل التَّفَاوُت فِي الْأكل، فكذل مجازفة الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَإِن كَانَ فِيهِ التَّفَاوُت بِخِلَاف الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، لما ذكرنَا. قَوْله: (أَن يَأْكُل هَذَا بَعْضًا) تَقْدِيره: بِأَن يَأْكُل، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنهم كَمَا جوزوا النهد الَّذِي فِيهِ التَّفَاوُت، فَكَذَلِك جوزوا مجازفة الذَّهَب وَالْفِضَّة مَعَ التَّفَاوُت، لما ذكرنَا. قَوْله: (والقِران فِي التَّمْر) ، بِالْجَرِّ، ويروى: والإقران، عطف على قَوْله: أَن يَأْكُل هَذَا بَعْضًا، أَي: بِأَن يَأْكُل هَذَا تمرتين تمرتيين، وَهَذَا تَمْرَة تَمْرَة.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث ابْن عمر فِي كتاب الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا أذن إِنْسَان لآخر شَيْئا جَازَ.
3842 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ وهْبِ بنِ كَيْسانَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْثاً قِبَلَ السَّاحِلِ فأمَّرَ عَلَيْهِمْ أبَا عُبَيْدَةَ ابنَ الجَرَّاحِ وهُمْ ثَلاَثُمائَةٍ وَأَنا فِيهِمْ فخَرَجْنا حتَّى إِذا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فأمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بأزْوادِ ذالِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذالِكَ كُلُّهُ فكانَ مِزْوَدَيْ تَمرٍ فكانَ يُقَوِّتُنا كلَّ يَوْمٍ قَليلاً قَليلاً حتَّى فَنِيَ فَلَمْ يكُنْ يُصِيبُنَا إلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فقُلْتُ وَمَا تُغْنِي تَمْرةٌ فَقَالَ لَقَدْ وجَدْنَا فَقْدَها حينَ فَنيَتْ قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إلاى الْبَحْرِ فإذَا حُوتٌ مثْلُ الظَّرِبِ فأكَلَ منْهُ ذالِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أضْلاعِهِ فَنُصِبا ثمَّ أمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرَحُلَتْ ثمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فلَمْ تُصِبْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَأمر أَبُو عُبَيْدَة بأزواد ذَلِك الْجَيْش فَجمع ذَلِك ذَلِك كُله) وَلما كَانَ يفرق عَلَيْهِم كل يَوْم قَلِيلا قَلِيلا صَار فِي معنى النهد، وَاعْترض بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر المجازفة، لأَنهم لم يُرِيدُوا الْمُبَايعَة وَلَا الْبَدَل. وَأجِيب: بِأَن حُقُوقهم تَسَاوَت فِيهِ بعد جمعه، فتناولوه مجازفة كَمَا جرت الْعَادة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك، وَفِي الْجِهَاد عَن صَدَقَة بن الْفضل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّيْد عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد ابْن عَبدة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن ابْن مهْدي عَن مَالك بِهِ وَعَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن هناد بن السّري، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد وَفِي السّير عَن مُحَمَّد بن آدم وَعَن الْحَارِث ب مِسْكين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعثاً) كَانَ هَذَا الْبَعْث فِي رَجَب سنة ثَمَان لِلْهِجْرَةِ، والبعث، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة: وَهُوَ بِمَعْنى الْمَبْعُوث، من بَاب تَسْمِيَة الْمَفْعُول بِالْمَصْدَرِ. قَوْله: (قبل السَّاحِل) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: جِهَة السَّاحِل، والساحل شاطىء الْبَحْر. قَوْله: (فأمَّر) ، بتَشْديد الْمِيم: من التأمير، أَي: جعل أَبَا عُبَيْدَة أَمِيرا عَلَيْهِم، وَاسم أبي عُبَيْدَة: عَامر بن عبد الله بن الْجراح، بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الفِهري الْقرشِي أَمِين الْأمة، أحد الْعشْرَة المبشرة، شهد الْمشَاهد كلهَا، وَثَبت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم أحد وَنزع الحلقتين اللَّتَيْنِ دخلتا فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلق المنفر بِفِيهِ، فَوَقَعت ثنيتاه، مَاتَ سنة ثَمَانِي عشرَة فِي طاعون عمواس، وقبره بغور نيسان عِنْد قَرْيَة تسمى عمتا، وَصلى عَلَيْهِ معَاذ بن جبل(13/41)
وَكَانَ سنه يَوْم مَاتَ ثمانياً وَخمسين سنة. قَوْله: (وهم) ، أَي: الْبَعْث الَّذِي هُوَ الْجَيْش ثَلَاثمِائَة أنفس. قَوْله: (فني الزَّاد) ، قَالَ الْكرْمَانِي: إِذا فني فَكيف أَمر بِجمع الأزواد؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ إِمَّا أَن يُرِيد بِهِ فنَاء زَاده خَاصَّة، أَو يُرِيد بالفناء الْقلَّة. قلت: يجوز أَن يُقَال معنى: فنى: أشرف على الفناء. قَوْله: (فَكَانَ مزودي تمر) ، المزود، بِكَسْر الْمِيم: مَا يَجْعَل فِيهِ الزَّاد، كالجراب. وَفِي رِوَايَة مُسلم: بعثنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غَيره، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطِينَا تَمْرَة تَمْرَة. قَوْله: (لقد وجدنَا فقدها حِين فنيت) ، أَي: وجدنَا فقدها مؤثراً شاقاً علينا، وَلَقَد حزنَّا لفقدها. قَوْله: (ثمَّ انتهينا إِلَى الْبَحْر فَإِذا حوت) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، والحوت يَقع على الْوَاحِد وَالْجمع، وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) : وَالْجمع حيتان، وَهِي الْعِظَام مِنْهَا. وَقَالَ ابْن سيدة: الْحُوت السّمك اسْم جنس، وَقيل: هُوَ مَا عظم مِنْهُ، وَالْجمع أحوات. وَفِي كتاب الْفراء: جمعه أحوته وأحوات فِي الْقَلِيل، فَإِذا كثرت فَهِيَ الْحيتَان. قَوْله: (مثل الظرب) ، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: مُفْرد الظراب، وَهِي الروابي الصغار. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الظراب الْجبَال الصغار وَاحِدهَا ظرب، بِوَزْن كتف، وَقد يجمع فِي الْقلَّة على: أظراب. قَوْله: (ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة) ، كَذَا هُوَ فِي نُسْخَة الْأصيلِيّ، وَرُوِيَ: ثَمَانِيَة عشر لَيْلَة، وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّوَاب هُوَ الأول. وَرُوِيَ: فأكلنا مِنْهُ شهرا. وَرُوِيَ: نصف شهر، وَقَالَ عِيَاض: يَعْنِي: أكلُوا مِنْهُ نصف شهر طرياً، وَبَقِيَّة ذَلِك قديداً. وَقَالَ النَّوَوِيّ: من قَالَ شهرا هُوَ الأَصْل وَمَعَهُ زِيَادَة علم، وَمن روى دونه لم ينف الزِّيَادَة، وَلَو نفاها قدم الْمُثبت، وَالْمَشْهُور عِنْد الْأُصُولِيِّينَ أَن مَفْهُوم الْعدَد لَا حكم لَهُ فَلَا يلْزم مِنْهُ نفي الزِّيَادَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شهرا، وَلَقَد رَأَيْتنَا تغترق من وَقب عينه قلال الدّهن، ونقتطع مِنْهُ الفدر، كالثور، وَلَقَد أَخذ منا أَبُو عُبَيْدَة ثَلَاثَة عشر رجلا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقب عينه وتزودنا من لَحْمه وشائق، فَلَمَّا قدمنَا الْمَدِينَة أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكرنَا ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: هُوَ رزق أخرجه الله لكم، فَهَل مَعكُمْ من لَحْمه شيى فتطعمونا؟ قَالَ: فَأَرْسَلنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فَأَكله) . قَوْله: (بضلعين) ، ضبط بِكَسْر الضَّاد وَفتح اللَّام، وَقَالَ فِي (أدب الْكَاتِب) : ضلع وضلع. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: هما لُغَتَانِ، والضلع مُؤَنّثَة، والوقب، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْقَاف وبالباء الْمُوَحدَة: هُوَ النقرة الَّتِي يكون فِيهَا الْعين. قَوْله: (الفدر) ، بِكَسْر الْفَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: جمع فدرة، وَهِي الْقطعَة من اللَّحْم، (والوشائق) ، بالشين الْمُعْجَمَة: جمع وشيقة، وَهِي اللَّحْم القديد. وَقيل: الوشيقة أَن يُؤْخَذ اللَّحْم فيغلى قَلِيلا وَلَا ينضج، فَيحمل فِي الْأَسْفَار. وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (نرصد عيرًا لقريش، فَأَقَمْنَا بالسَّاحل نصف شهر فأصابنا جوع شَدِيد حَتَّى أكلنَا الْخبط، فَسُمي ذَلِك الْجَيْش بِجَيْش الْخبط، فَألْقى لنا الْبَحْر دَابَّة يُقَال لَهَا: العنبر، فأكلنا مِنْهَا نصف شهر وادَّهنَّا من ودكه حَتَّى ثَابت إِلَيْنَا أجسامنا) . وَفِي مُسلم: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَعْنِي بالعنبر ميتَة، ثمَّ قَالَ: لَا بل نَحن رسل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي سَبِيل الله عز وَجل، وَقد اضطررتم فَكُلُوا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: جمعُ أبي عُبيدة الأزواد وقسمتها بِالسَّوِيَّةِ إِمَّا إِن يكون حكما حكم بِهِ لِما شَاهد من الضَّرُورَة وخوفه من تلف من لم يبْق مَعَه زَاد، فَظهر لَهُ أَنه وَجب على من مَعَه أَن يواسي من لَيْسَ لَهُ زَاد، أَو يكون عَن رضَا مِنْهُم، وَقد فعل مثل ذَلِك غير مرّة سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلذَلِك قَالَ بعض الْعلمَاء هُوَ سنَّة. وَقَالَ ابْن بطال: إستدل بعض الْعلمَاء بِهَذَا الحَدِيث بِأَنَّهُ لَا يقطع سَارِق فِي مجاعَة، لِأَن الْمُوَاسَاة وَاجِبَة للمحتاجين وَخَصه أَبُو عمر بِسَرِقَة المأكل. وَفِيه: أَن للْإِمَام أَن يواسي بَين النَّاس فِي الأقوات فِي الْحَضَر بِثمن وَغَيره، كَمَا فعل ذَلِك فِي السّفر. وَفِيه: قُوَّة إِيمَان هَؤُلَاءِ الْبَعْث، إِذْ لَو ضعف، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، لما خَرجُوا وهم ثَلَاثمِائَة وَلَيْسَ مَعَهم سوى جراب تمر أَو مزودي تمر، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن يكون، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زودهم الجراب زَائِدا عَمَّا كَانَ مَعَهم من الزَّاد من أَمْوَالهم، وَيحْتَمل أَنه لم يكن فِي أَزْوَادهم تمر غير هَذَا الجراب، وَكَانَ مَعَهم غَيره من الزَّاد. وَقيل: يحْتَمل أَن الجراب الَّذِي زودهم الشَّارِع كَانَ على سَبِيل الْبركَة، فَلِذَا كَانُوا يأخذونه تَمْرَة تَمْرَة. وَفِيه: فضل أبي عُبَيْدَة، وَلِهَذَا سَمَّاهُ الشَّارِع: أَمِين هَذِه الْأمة. وَفِيه: النّظر فِي الْقَوْم وَالتَّدْبِير فِيهِ وَفضل الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على مَا كَانَ فيهم من الْبُؤْس وَقد اسْتَجَابُوا لله وَلِلرَّسُولِ من بَعْدَمَا أَصَابَهُم الْقرح. وَفِيه: رضاهم بِالْقضَاءِ وطاعتهم للأمير. وَفِيه: جَوَاز الشّركَة فِي الطَّعَام خلط الأزواد فِي السّفر إِذا كَانَ ذَلِك أرْفق بهم.(13/42)
4842 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مَرْحُومٍ قَالَ حدَّثنا حاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ خَفَّتْ أزْوَادُ الْقَوْمِ وأمْلَقُوا فأتَوُا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَحْرِ إبِلِهِمْ فأذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فأخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا بَقاؤُكُمْ بَعْدَ إبِلِكُمْ فدَخَلَ عَليّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله مَا بَقَاؤُهُمْ بعْدَ إبِلِهِمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أزْوَادِهِمْ فَبُسِطَ لِذالِكَ نِطْعٌ وجَعَلُوهُ علَي النِّطْعِ فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدَعا وبَرَّكَ علَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأوْعِيَتِهِمْ فاحْتَثاى النَّاسُ حتَّى فرَغُوا ثمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشْهَدْ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وأنِّي رسولُ الله.
(الحَدِيث 4842 طرفه فِي: 2892) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَيَأْتُونَ بِفضل أَزْوَادهم) وَمن قَوْله: (فَدَعَا وبرَّك عَلَيْهِ) فَإِن فِيهِ جمع أَزْوَادهم وَهُوَ فِي معنى النهد، ودعا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهَا بِالْبركَةِ.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مَرْحُوم هُوَ بشر بن عُبَيْس بن مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز الْعَطَّار. الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل أَبُو إِسْمَاعِيل. الثَّالِث: يزِيد بن أبي عبيد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سِتّ أَو سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: سَلمَة بن الْأَكْوَع، واسْمه سِنَان بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ، وكنيته: أَبُو مُسلم، وَقيل: أَبُو عَامر، وَقيل: أَبُو إِيَاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَأَن حاتماً كُوفِي سكن الْمَدِينَة وَأَن يزِيد مدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن بشر بن مَرْحُوم أَيْضا وَهُوَ من أَفْرَاده، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْعَبَّاس حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس حَدثنَا النَّضر ابْن مُحَمَّد حَدثنَا عِكْرِمَة بن عمار عَن إِيَاس بن سَلمَة عَن أَبِيه بِمَعْنى هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: عِكْرِمَة عَن إِيَاس صَحِيح، أَو مَحْفُوظ أَو كلَاما نَحْو هَذَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يُرِيد الْإِسْمَاعِيلِيّ: بِنَحْوِهِ، مَا روينَاهُ من عِنْد الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا أَبُو حُذَيْفَة حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن كيسَان حَدثنَا عِكْرِمَة بن عمار عَن إِيَاس بن سَلمَة عَن أَبِيه، قَالَ: غزونا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هوَازن فأصابنا جهد شَدِيد حَتَّى هممنا بنحر بعض ظهرنا، وَفِيه: فتطاولت لَهُ، يَعْنِي للأزواد، أنظر كم هُوَ؟ فَإِذا هُوَ كربض الشَّاة، قَالَ: فحشونا جربنَا، ثمَّ دَعَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنطفة من مَاء فِي أَدَاة فَأمر بهَا فصبت فِي قدح، فَجعلنَا نتطهر بِهِ حَتَّى تطهرنا جَمِيعًا. قَوْله: (كربض الشَّاة) بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالضاد الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَوضِع الْغنم الَّذِي تربض فِيهِ، أَي: تمكث فِيهِ، من ربض فِي الْمَكَان يربض إِذا لصق بِهِ وَأقَام ملازماً لَهُ. قَوْله جربنَا بِضَم الْجِيم وَسُكُون الرَّاء جمع جراب. قَوْله: (بنطفة من مَاء) النُّطْفَة، يُقَال للْمَاء الْكثير والقليل، وَهُوَ بِالْقَلِيلِ أخص.
قَوْله: (خفت أزواد الْقَوْم) أَي: قلَّت، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: أزودة الْقَوْم. قَوْله: (وأملقوا) أَي: افتقروا، يُقَال: أملق إِذا افْتقر. قَوْله: (نطع) ، فِيهِ أَربع لُغَات. قَوْله: (وبرَّك) ، بتَشْديد الرَّاء أَي دَعَا بِالْبركَةِ عَلَيْهِ. قَوْله: (بِأَوْعِيَتِهِمْ) ، جمع وعَاء. قَوْله: (فأحتثى النَّاس) ، بِسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة بعْدهَا تَاء مثناة من فَوق ثمَّ ثاء مثبتة: من الاحتثاء من حثا يحثو حثوا، وحثى يحثي حثياً إِذا حفن حفْنَة. قَوْله: (ثمَّ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن هَذَا كَانَ معْجزَة لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (دلائله) من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه، وَفِيه: فَمَا بَقِي فِي الْجَيْش وعَاء إلاَّ ملؤه وَبَقِي مثله، فَضَحِك حَتَّى بَدَت نواجده وَقَالَ: أشهد أَن لَا إلاه إلاَّ الله، وَأَنِّي رَسُول الله، لَا يلقى الله عبد مأمن بهما إلاَّ حُجِبَ من النَّار.
5842 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسفَ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ سَمِعْتُ(13/43)
رافِعَ بنَ خَدِيجٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنَنْحَرُ جَزُوراً فيُقْسَمُ عَشْرَ قِسْمٍ فَنَأْكُلُ لَحْمَاً نَضِيحاً قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَيقسم عشر قسم) فَإِن فِيهِ جمع الْأَنْصِبَاء مِمَّا يُوزن مجازفة. وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، قَالَه الْحَافِظ أَبُو نعيم، وَالْأَوْزَاعِيّ هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عمر، وَأَبُو النَّجَاشِيّ، بِفَتْح النُّون وَالْجِيم المخففة وبالشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء وتخفيفها: واسْمه عَطاء بن صُهَيْب، وَرَافِع، بِالْفَاءِ: ابْن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالجيم.
والْحَدِيث مضى من هَذَا الْوَجْه فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب وَقت الْمغرب، والمتن غير الْمَتْن.
قَوْله: (عشر قسم) بِكَسْر الْقَاف وَفتح السِّين: جمع قسْمَة. قَوْله: (لَحْمًا نضيجاً) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره جِيم أَي: مستوياً. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النضيج الْمَطْبُوخ، فعيل بِمَعْنى مفعول.
وَفِيه: قسْمَة اللَّحْم من غير ميزَان لِأَنَّهُ من بَاب الْمَعْرُوف، وَهُوَ مَوْضُوع للْأَكْل. وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ: الْحجَّة على من زعم أَن أول وَقت الْعَصْر مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِن وَقت الْعَصْر عِنْد مصير الظل مثلَيْهِ ليسع هَذَا الْمِقْدَار. قلت: هَذَا مُخَالف لما قَالَه ابْن التِّين على مَا لَا يخفى.
6842 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ أُسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوساى قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذَا أرْمَلُوا فِي الغَزْوِ أوْ قَلَّ طَعامُ عِيَالِهِمْ بالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَموهُ بَيْنَهُمْ فِي إنَاءٍ واحدٍ بالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وأنَا مِنْهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (جمعُوا مَا كَانَ عِنْدهم فِي ثوب وَاحِد ثمَّ اقتسموه بَينهم) وَلَا يخفى على المتأمل ذَلِك، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مضى فِي: بَاب فضل من علم.
وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الله بن أبي بردة يروي عَن جده أبي بردة واسْمه الْحَارِث، وَقيل: عَامر، وَقيل: اسْمه كنيته، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُوسَى بن هَارُون.
قَوْله: (إِن الْأَشْعَرِيين) جمع أشعري، بتَشْديد الْيَاء نِسْبَة إِلَى الإشعر، قَبيلَة من الْيمن، ويروى: إِن الأشعرين، بِدُونِ يَاء النِّسْبَة، وَتقول الْعَرَب: جَاءَك الأشعرون بِحَذْف الْيَاء. قَوْله: (إِذا أرملوا) ، أَي: إِذا فني زادهم، من الإرمال، بِكَسْر الْهمزَة وَهُوَ فنَاء الزَّاد وإعواز الطَّعَام، وَأَصله من الرمل، كَأَنَّهُمْ لصقوا بالرمل من الْقلَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَا مَتْرَبَة} (الْبَلَد: 61) . قَوْله: (فهم مني) أَي: متصلون بِي، وَكلمَة: من، هَذِه تسمى اتصالية، نَحْو: لَا أَنا من الدَّد وَلَا الدَّد مني. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ الْمُبَالغَة فِي اتِّحَاد طريقهما واتفاقهما فِي طَاعَة الله تَعَالَى. وَقيل: المُرَاد فعلوا فعلي فِي الْمُوَاسَاة.
وَفِيه: منقبة عَظِيمَة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بِشَهَادَة سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأعظم مَا شرفوا بِهِ كَونه أضافهم إِلَيْهِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب خلط الزَّاد فِي السّفر والحضر أَيْضا، وَلَيْسَ المُرَاد بِالْقِسْمَةِ هُنَا الْقِسْمَة الْمَعْرُوفَة عِنْد الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا المُرَاد هُنَا إِبَاحَة بَعضهم بَعْضًا بموجوده. وَفِيه: فَضِيلَة الإيثار والمواساة. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز هبة الْمَجْهُول. قلت: لَيْسَ شَيْء فِي الحَدِيث يدل على هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ مواساة بَعضهم بَعْضًا وَالْإِبَاحَة، وَهَذَا لَا يُسمى هبة، لِأَن الْهِبَة تمْلِيك المَال، وَالتَّمْلِيك غير الْإِبَاحَة، وَأَيْضًا: الْهِبَة لَا تكون إلاَّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُول لقِيَام العقد بهما، وَلَا بُد فِيهَا من الْقَبْض عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَغَيرهم، وَلَا يجوز فِيمَا يقسم إلاَّ محوزة مقسومة كَمَا عرف فِي موضعهَا.
2 - (بابُ مَا كانَ مِنْ خَلِيَطَيْنِ فإنَّهُمَا يتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ من خليطين، أَي: مخالطين، وهما الشريكان إِذا كَانَ من أَحدهمَا تصرف من إِنْفَاق مَال الشّركَة أَكثر مِمَّا أنْفق صَاحبه، فَإِنَّهُمَا يتراجعان عِنْد الرِّبْح بِقدر مَا أنْفق كل وَاحِد مِنْهُمَا، فَمن أنْفق قَلِيلا يرجع على من أنْفق أَكثر مِنْهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أَمر الخليطين فِي الْغنم بالتراجع بَينهمَا(13/44)
بِالسَّوِيَّةِ، وهما شريكان، دلّ على أَن كل شريك فِي مَعْنَاهُمَا. قَوْله: (فِي الصَّدَقَة) ، قيد بهَا لوُرُود الحَدِيث فِي الصَّدَقَة، لِأَن التراجع لَا يَصح بَين الشَّرِيكَيْنِ فِي الرّقاب.
7842 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عبْدِ الله بنِ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ بنُ عبْدِ الله بنِ أنَسٍ أَن أنَساً حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتَبَ لَهُ فرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَمَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَمَا كَانَ من خليطين) إِلَى آخِره، وَهَذَا الْإِسْنَاد كُله بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ غَرِيب، والْحَدِيث بِعَين هَذِه التَّرْجَمَة وَعين هَؤُلَاءِ الروَاة مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب مَا كَانَ من خليطين، فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ.
3 - (بابُ قِسْمَةِ الغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قسْمَة الْغنم بِالْعَدْلِ، وَفِي بعض النّسخ: بَاب قسم الْغنم.
8842 - حدَّثنا علِيُّ بنُ الْحَكَمِ الأنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوانَةَ عنْ سعِيدٍ بنِ مَسْرُوقٍ عنْ عَبابَةَ بنِ رَفاعَةَ بنِ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ عنْ جَدِّهِ قَالَ كُنَّا معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذِي الْحُلَيْفَةِ فأصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فأصابُوا إبِلا وَغنما قَالَ وكانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أخرَيَاتِ الْقَوْمِ فعَجِلُوا وذبَحُوا ونصَبُوا الْقُدُورَ فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقدُورِ فأُكْفِئَتْ ثُمَّ قسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ فنَدَّ مِنْها بعيرٌ فطَلبُوهُ فأعْياهُمْ وكانَ فِي القَوْمِ خَيْل يَسِيرَةٌ فأهْواى رجُلٌ مِنْهُم بِسَهْمٍ فحَبَسَهُ الله ثمَّ قَالَ إنَّ لِهاذِهِ الْبَهَائِم أوابِدَ كأوابِدِ الوَحْشِ فَمَا غلبَكُمْ منْها فاصْنَعُوا بِهِ هاكذا فَقَالَ جدِّي إنَّا نَرْجُو أوْ نخافُ العدُوَّ غَدا وليْستْ مَعَنا مُدًى أفَنَذْبَحُ بالْقصبِ قَالَ مَا أنْهرَ الدَّمَ وذُكرَ اسمُ الله عَلَيْهِ فَكُلُوهُ ليْسَ السِّنَّ والظُّفْرَ فسأُحَدِّثُكُمْ عنْ ذالِكَ أمَّا السِّنَّ فَعَظْمٌ وأمَّا الظُّفْرَ فَمُدَي الحَبْشَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ قسم فَعدل عشرَة من الْغنم بِبَعِير) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: الْأنْصَارِيّ. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف نون: واسْمه الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي. الثَّالِث: سعيد بن مَسْرُوق بن عدي الثَّوْريّ وَالِد سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: عَبَايَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة: ابْن رِفَاعَة بن رَافع بن خديج. الْخَامِس: رَافع بن خديج بن رَافع بن عدي الأوسي الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ مروزي من قَرْيَة تدعى غزا. وَأَن أَبَا عوَانَة واسطي وَأَن سعيد بن مَسْرُوق كُوفِي وَأَن عَبَايَة مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة عَبَايَة عَن جده، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَرَوَاهُ أَبُو الْأَحْوَص عَن سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة عَن أَبِيه عَن جده، وَتَابعه عبد الْوَارِث بن سعيد عَن لَيْث بن أبي سليم ومبارك بن سعيد بن مَسْرُوق، فَقَالَا: عَن عَبَايَة عَن أَبِيه عَن جده، وَسَيَجِيءُ فِي الذَّبَائِح رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة عَن أَبِيه عَن جده. قلت: رَافع بن خديج روى عَنهُ ابْنه رِفَاعَة بن رَافع وَابْن ابْنه عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع بن خديج، على خلاف فِيهِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشّركَة عَن مُحَمَّد بن وَكِيع وَفِي الْجِهَاد والذبائح عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الذَّبَائِح أَيْضا عَن مُسَدّد وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن عَبْدَانِ وَعَن مُحَمَّد بن سَلام بالقصة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة،(13/45)
وَعَن قبيصَة بِبَعْض الْقِصَّة الثَّالِثَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَضَاحِي عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّاء وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الذَّبَائِح عَن مُسَدّد بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّيْد عَن هناد عَن بنْدَار بالقصة الثَّالِثَة وَعَن مَحْمُود بن غيلَان بالقصة الأولى وَالثَّانيَِة، وَأَعَادَهُ فِي السّير عَن هناد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مَحْمُود بن غيلَان بهما وَعَن هناد بهما، وَفِي الصَّيْد عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَفِي الذَّبَائِح عَن هناد بالقصة الثَّالِثَة وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور بالقصة الثَّالِثَة وَعَن عَمْرو بن عَليّ بالقصة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بهما، وَفِي الْأَضَاحِي عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم بِبَعْض الْقِصَّة الثَّانِيَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَضَاحِي عَن أبي كريب بالقصة الأولى وَفِي الذَّبَائِح عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير مقطعاً فِي موضِعين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِذِي الحليفة) ، قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) ، رَحمَه الله: وَذُو الحليفة هَذِه لَيست الْمِيقَات إِنَّمَا هِيَ الَّتِي من تهَامَة عِنْد ذَات عرق، ذكره ياقوت وَغَيره. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم هَكَذَا عَن رَافع بن خديج، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِذِي الحليفة من تهَامَة. وَذكر الْقَابِسِيّ أَنَّهَا المهلَّ الَّتِي بِقرب الْمَدِينَة، وَقَالَهُ أَيْضا النَّوَوِيّ، وَفِيه نظر من حَيْثُ أَن فِي الحَدِيث ردا لقولهما، وَقَالَ ابْن التِّين: وَكَانَت سنة ثَمَان من الْهِجْرَة فِي قَضِيَّة حنين. قَوْله: (فِي أخريات الْقَوْم) ، أَي: فِي أواخرهم وَأَعْقَابهمْ، وَهِي جمع أُخْرَى، وَكَانَ يفعل ذَلِك رفقا لمن مَعَه ولحمل الْمُنْقَطع. قَوْله: (فعجلوا) ، بِكَسْر الْجِيم. قَوْله: (فأكفئت) ، أَي: قلبت وأميلت وأريق مَا فِيهَا، وَهُوَ من الإكفاء، قَالَ ثَعْلَب: كفأت الْقدر إِذا كببته، وَكَذَلِكَ قَالَه الْكسَائي وَأَبُو عَليّ القالي وَابْن الْقُوطِيَّة فِي آخَرين، فعلى هَذَا إِنَّمَا يُقَال: فكفئت وأكفئت إِنَّمَا قَالَ على قَول ابْن السّكيت فِي (الْإِصْلَاح) : لِأَنَّهُ نقل عَن ابْن الْأَعرَابِي وَأبي عبيد وَآخَرين، يُقَال: أكفئت وَقَالَ ابْن التِّين: صَوَابه كفئت بِغَيْر ألف من كفأت الْإِنَاء مهموزاً، وَاخْتلف فِي إمالة الْإِنَاء، فَيُقَال فِيهَا: كفأت وَأَكْفَأت، وَكَذَلِكَ اخْتلف فِي أكفأت الشَّيْء لوجهه.
وَقد اخْتلف فِي سَبَب أمره بإكفاء الْقُدُور، فَقيل: إِنَّهُم انتهبوها مالكين لَهَا من غير غنيمَة، وَلَا على وَجه الْحَاجة إِلَى أكلهَا، يشْهد لَهُ قَوْله فِي رِوَايَة: فانتهبناها. قلت: وَلَا على وَجه الْحَاجة إِلَى أكلهَا، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ ذكر فِي بَاب النهبة: فأصابتنا مجاعَة، فَهُوَ بَيَان لوجه الْحَاجة. وَقيل: إِنَّمَا كَانَ لتركهم الشَّارِع فِي أخريات الْقَوْم واستعجالهم وَلم يخَافُوا من مكيدة الْغدر فحرمهم الشَّارِع مَا استعجلوه عُقُوبَة لَهُم بنقيضي قصدهم، كَمَا منع الْقَاتِل من الْمِيرَاث. قَالَه الْقُرْطُبِيّ: وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي دَاوُد: وَتقدم سرعَان النَّاس فتعجلوا فَأَصَابُوا الْغَنَائِم وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي آخر النَّاس. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّمَا أَمرهم بذلك لأَنهم كَانُوا قد انْتَهوا إِلَى دَار الْإِسْلَام، وَالْمحل الَّذِي لَا يجوز الْأكل فِيهِ من مَال الْغَنِيمَة الْمُشْتَركَة، فَإِن الْأكل مِنْهَا قبل الْقسم إِنَّمَا يُبَاح فِي دَار الْحَرْب، والمأمور بِهِ من الإراقة إِنَّمَا هُوَ إِتْلَاف المرق عُقُوبَة لَهُم، وَأما اللَّحْم فَلم يتلفوه، بل يحمل على أَنه جُمع ورُد إِلَى الْمغنم، وَلَا يظنّ أَنه أَمر بإتلافه لِأَنَّهُ مَال الْغَانِمين، وَلِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن إِضَاعَة المَال. فَإِن قلت: لم ينْقل أَنهم حملوه إِلَى الْغَنِيمَة؟ قلت: وَلَا نقل أَيْضا أَنهم أحرقوه وَلَا أتلفوه، فَوَجَبَ تَأْوِيله على وفْق الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، بِخِلَاف لحم الْحمر الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر لِأَنَّهَا صَارَت نَجِسَة.
قَوْله: (فَعدل) هَذَا مَحْمُول على أَنه كَانَ يحْسب قيمتهَا يَوْمئِذٍ، وَلَا يُخَالف قَاعِدَة الْأُضْحِية من إِقَامَة بعير مقَام سبع شِيَاه، لِأَن هَذَا هُوَ الْغَالِب فِي قيمَة الشَّاة وَالْإِبِل المعتدلة. قَوْله: (فندَّ) ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة، أَي: نفر، وَذهب على وَجهه شارداً، يُقَال: ندَّ يندُّ ندا وندوداً. قَوْله: (فأعياهم) ، أَي: أعجزهم، يُقَال: أعيى إِذا أعجز، وعيى بأَمْره إِذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هُوَ، قَوْله: (يسيرَة) ، أَي: قَليلَة. قَوْله: (فَأَهوى) ، أَي: قصد، قَالَ الْأَصْمَعِي: أهويت بالشَّيْء إِذا أَوْمَأت إِلَيْهِ. قَوْله: (أوابد) ، جمع آبدة، بِالْمدِّ وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة، يُقَال مِنْهُ: أبدت تأبُد، بِضَم الْبَاء وتأبِد بِكَسْرِهَا، وَهِي الَّتِي نفرت من الْإِنْس وتوحشت. وَقَالَ الْقَزاز: مَأْخُوذَة من الْأَبَد، وَهِي الدَّهْر لطول مقَامهَا. وَقَالَ أَبُو عبيد: أخذت من تأبدت الدَّار تأبداً، وأبدت تأبد أبوداً: إِذا خلا مِنْهَا أَهلهَا. قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي: من الأوابد. قَوْله: (فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) أَي: إرموه بِالسَّهْمِ. قَوْله: (قَالَ جدي إِنَّا نرجو أَو نَخَاف) ، قَالَ الْكرْمَانِي: نرجو بِمَعْنى نَخَاف، وَلَفظ: أَو نَخَاف، شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ ابْن التِّين: هما سَوَاء. قَالَ تَعَالَى: {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه} (الْكَهْف: 11) .(13/46)
أَي: يخافه. وَقَوله: (جدي) هُوَ جد عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع بن خديج، وعباية الَّذِي هُوَ أحد الروَاة يَحْكِي عَن جده رَافع بن خديج أَنه قَالَ: نرجو، أَو قَالَ: إِنَّا نَخَاف، والرجاء هُنَا بِمَعْنى الْخَوْف. قَوْله: (مدي) ، بِضَم الْمِيم، جمع مدية وَهِي السكين. قَوْله: (أفنذبح بالقصب؟) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فنذكي بالليط، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالطاء الْمُهْملَة: هِيَ قطع الْقصب، قَالَه الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قشوره، الْوَاحِد ليطة. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : أنذكي بالمروة. فَإِن قلت: مَا معنى هَذَا السُّؤَال عِنْد لِقَاء الْعَدو؟ قلت: لأَنهم كَانُوا عازمين على قتال الْعَدو وصانوا سيوفهم وأسنتهم وَغَيرهَا عَن اسْتِعْمَالهَا، لِأَن ذَلِك يفْسد الْآلَة، وَلم يكن لَهُم سكاكين صغَار معدة للذبح. قَوْله: (مَا أنهر الدَّم) ، أَي: مَا أسَال وأجرى الدَّم، وَكلمَة: مَا، شَرْطِيَّة وموصولة، وَالْحكمَة فِي اشْتِرَاط الإنهار التَّنْبِيه على أَن تَحْرِيم الْميتَة لبَقَاء دَمهَا، وَيُقَال: معنى أنهر الدَّم أساله وصبه بِكَثْرَة، وَهُوَ مشبه بجري المَاء فِي النَّهر، وَعند الْخُشَنِي: مَا انهز، بالزاي، من النهز، وَهُوَ الدّفع وَهُوَ غَرِيب. قَوْله: (فكلوه) الْفَاء جَوَاب الشَّرْط أَو لتَضَمّنه مَعْنَاهُ. قَوْله: (لَيْسَ السن وَالظفر) ، كلمة: لَيْسَ، بِمَعْنى إلاَّ، وإعراب مَا بعده النصب. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هما منصوبان على الِاسْتِثْنَاء: بليس، وَفِيه مَا فِيهِ. قَوْله: (فسأحدثكم) ، أَي: سأبين لكم الْعلَّة فِي ذَلِك، وَلَيْسَت السِّين هُنَا للاستقبال بل للاستمرار، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سَتَجِدُونَ آخَرين} (النِّسَاء: 19) . وَزعم الزَّمَخْشَرِيّ أَن السِّين إِذا دخلت على فعل مَحْبُوب أَو مَكْرُوه أفادت أَنه وَاقع لَا محَالة. قَوْله: (أما السن فَعظم) ، قَالَ التَّيْمِيّ: الْعظم غَالِبا لَا يقطع إِنَّمَا يجرح ويدمي فتزهق النَّفس من غير أَن يتَيَقَّن وُقُوع الذَّكَاة، فَلهَذَا نهى عَنهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يجوز بالعظم لِأَنَّهُ يَتَنَجَّس بِالدَّمِ، وَهُوَ زَاد إِخْوَاننَا من الْجِنّ، وَلِهَذَا نهى عَن الِاسْتِنْجَاء بِهِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: هُوَ قِيَاس حذف عَنهُ فقدمه الثَّانِيَة لظهورها عِنْدهم وَهِي أَن كل عظم لَا يحل الذّبْح بِهِ قَوْله (وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة) الْمَعْنى فِيهِ أَن لَا يتشبه بهم لأَنهم كفار، وَهُوَ شعار لَهُم. وَفِي الحَدِيث: من تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ الْخطابِيّ: ظَاهره يُوهم أَن مدى الْحَبَشَة لَا تقع بهَا الذَّكَاة، وَلَا خلاف أَن مُسلما لَو ذكى بمدية حبشِي كَافِر جَازَ، فَمَعْنَى الْكَلَام: أَن أهل الْحَبَشَة يدمون مذابح الشَّاة بأظفارهم حَتَّى تزهق النَّفس خنقاً وتعذيباً ويحلونها مَحل الذَّكَاة، فَلذَلِك ضرب الْمثل بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على أَنْوَاع:
الأول: عدم جَوَاز الْأكل من الْغَنِيمَة قبل الْقِسْمَة عِنْد الِانْتِهَاء إِلَى دَار الْإِسْلَام.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز قسم الْغنم وَالْبَقر وَالْإِبِل بِغَيْر تَقْوِيم، وَبِه قَالَ مَالك والكوفيون، وَأَبُو ثَوْر إِذا كَانَ ذَلِك على التَّرَاضِي. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز قسم شَيْء من الْحَيَوَان بِغَيْر تَقْوِيم، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك على طَرِيق الْقيمَة، أَلاَ ترى أَنه عدل عشرَة من الْغنم بِبَعِير، وَهَذَا معنى التَّقْوِيم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذِه الْغَنِيمَة لم يكن فِيهَا غير الْإِبِل وَالْغنم، وَلَو كَانَ فِيهَا غير ذَلِك لقوم جَمِيعًا وقسمه على الْقيمَة.
الثَّالِث: فِيهِ أَن مَا ند من الْحَيَوَان الْإِنْسِي لم يقدر عَلَيْهِ جَازَ أَن يذكي بِمَا يذكى بِهِ الصَّيْد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وطاووس وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَالْأسود بن يزِيد وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد وَالثَّوْري وَأحمد والمزني وَدَاوُد، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْجُمْهُور ذَهَبُوا إِلَى حَدِيث أبي العشراء عَن أَبِيه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أما تكون الذَّكَاة إلاَّ فِي اللبة وَالْحلق؟ قَالَ: لَو طعنت فِي فَخذهَا لأجزأ عَنْك. قلت: حَدِيث أبي العشراء رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، فَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي العشراء، وَالتِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع عَن يزِيد بن هَارُون عَن حَمَّاد بن سَلمَة، وَالنَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن رَوَاهُ: قَالَ أَحْمد بن منيع: قَالَ يزِيد هَذَا فِي الضَّرُورَة، وَقَالَ أَيْضا: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، وَلَا نَعْرِف لأبي العشراء عَن أَبِيه غير هَذَا الحَدِيث، وَاخْتلفُوا فِي اسْم أبي العشراء، فَقَالَ بَعضهم: اسْمه أُسَامَة بن قهطم، وَيُقَال: يسَار بن برز، وَيُقَال: ابْن بلز، وَيُقَال: اسْمه عُطَارِد، وَقَالَ أَبُو عَليّ الْمَدِينِيّ: الْمَشْهُور أَن اسْمه أُسَامَة بن مَالك بن قطهم، فنسب إِلَى جده، وقهطم بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْهَاء والطاء الْمُهْملَة، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِيمَا نَقله من خطّ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره بِكَسْر الْقَاف، وَقيل: قحطم بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقَالَ مَالك وَرَبِيعَة وَاللَّيْث: لَا يُؤْكَل إلاَّ بِذَكَاة الْإِنْسِي بالنحر أَو الذّبْح، استصحاباً لمشروعية أصل ذَكَاته، لِأَنَّهُ، وَإِن كَانَ قد لحق بالوحش فِي الِامْتِنَاع(13/47)
فَلم يلْتَحق بهَا لَا فِي النَّوْع وَلَا فِي الحكم، أَلا يرى أَن مملك مَالِكه باقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب أَيْضا، وَقَالَ مَالك: لَيْسَ فِي الحَدِيث أَن السهْم قَتله، وَإِنَّمَا قَالَ: حَبسه، ثمَّ بعد أَن حَبسه صَار مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْكَل إلاَّ بِالذبْحِ، وَلَا فرق بَين أَن يكون وحشياً أَو إنسياً. وَقَوله: (فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) ، قَالَ مَالك: نقُول بِمُوجبِه، أَي: نرميه ونحبسه فَإِن أدركناه حَيا ذكيناه، وَإِن تلف بِالرَّمْي فَهَل نأكله أَو لَا؟ وَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعْيين أَحدهمَا، فلحق بالمجملات، فَلَا ينْهض حجَّة. وَقَالُوا: فِي حَدِيث أبي العشراء لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن التِّرْمِذِيّ قَالَ فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا يصلح هَذَا إلاَّ فِي المتردية والمستوحشة، قَالُوا: وَلَئِن سلمنَا صِحَّته لما كَانَ فِيهِ حجَّة، إِذْ مقتضاة جَوَاز الذَّكَاة فِي أَي عُضْو كَانَ مُطلقًا فِي الْمَقْدُور على تذكيته وَغَيره، وَلَا قَائِل بِهِ فِي الْمَقْدُور عَلَيْهِ، فَظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد قطعا، وَقَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: لَيْسَ الْعَمَل على عُمُوم هَذَا الحَدِيث. وَلَعَلَّه خرج جَوَابا بالسؤال عَن المتوحش والمتردي الَّذِي لَا يقدر على ذبحه، وَقد روى أَبُو الْحسن الْمَيْمُونِيّ أَنه سَأَلَ أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي غلط. قلت: فَمَا تَقول؟ قَالَ: أما أَنا فَلَا يُعجبنِي وَلَا أذهب إِلَيْهِ إلاَّ فِي مَوضِع ضَرُورَة، كَيفَ مَا أمكنتك الذَّكَاة لَا يكون إلاَّ فِي الْحلق أَو اللبة، قَالَ: فَيَنْبَغِي للَّذي يذبح أَن يقطع الْحلق أَو اللبة. قلت: روى مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة عَن سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع عَن ابْن عمر: أَن بَعِيرًا تردى فِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ، فَلم يقدر على منحره، فوجىء بسكين من قبل خاصرته، فَأخذ مِنْهُ ابْن عمر عشيراً بِدِرْهَمَيْنِ. العشير: لُغَة فِي الْعشْر: كالنصيف وَالنّصف. وَقيل: العشير الإمعاء، وَمَعَ هَذَا قَول الْجَمَاعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِيهِ الْكِفَايَة فِي الِاحْتِجَاج بِهِ.
الرَّابِع: فِيهِ: من شَرط الذَّكَاة إنهار الدَّم، وَلم يخص بِشَيْء من الْعُرُوق فِي شَيْء من الْكتب السِّتَّة إلاَّ فِي رِوَايَة رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة من لم يسم عَن رَافع بن خديج، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الذَّبِيحَة بالليطة، فَقَالَ: كل مَا فرى الْأَوْدَاج إلاَّ السن أَو الظفر، وَلَا شكّ أَن ذَلِك مَخْصُوص بمَكَان الذّبْح والنحر لغَلَبَة الدَّم فِيهِ، ولكونه أسْرع إِلَى إزهاق نفس الْحَيَوَان وإراحته من التعذيب. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا يجب قطعه فِي الذّبْح، وَهُوَ أَرْبَعَة: الْحُلْقُوم والمرىء والودجان فَاشْترط قطع الْأَرْبَعَة: اللَّيْث وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَلَو اكْتفى الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ بِقطع الْحُلْقُوم والمريء فَقَط، وَاكْتفى مَالك بالحلقوم والودجين، وَاكْتفى أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة بِقطع ثَلَاثَة من الْأَرْبَعَة، وَعَن أبي يُوسُف: اشْتِرَاط الْحُلْقُوم واثنين من الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة، وَعنهُ أَيْضا اشْتِرَاط الْحُلْقُوم والمري وَأحد الودجين، وَاشْترط مُحَمَّد بن الْحسن أَكثر كل وَاحِد من الْأَرْبَعَة.
الْخَامِس: فِيهِ اشْتِرَاط التَّسْمِيَة لِأَنَّهُ قرنها بالذكاة وعلق الْإِبَاحَة عَلَيْهَا، فقد صَار كل وَاحِد مِنْهُمَا شرطا وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي فِي عدم اشْتِرَاط التَّسْمِيَة، فَقَالَ: لَو ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا، تُؤْكَل ذَبِيحَته، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : قَالَ مَالك: لَا يُؤْكَل فِي الْوَجْهَيْنِ. قلت: لَيْسَ كَذَلِك مذْهبه، بل مذْهبه مَا ذكره ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : أَن عِنْد مَالك يحل إِذا تَركهَا نَاسِيا، وَلَا يحل إِذا تَركهَا عَامِدًا. قلت: هَذَا هُوَ مثل مَذْهَبنَا، فَإِن عندنَا إِذا تَركهَا عَامِدًا فالذبيحة ميتَة لَا تُؤْكَل، وَإِن تَركهَا نَاسِيا أكل مَا ذبحه، وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد مثل قَوْلنَا، ومذهبنا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وطاووس وَابْن الْمسيب وَالْحسن وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَفِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْأَنْعَام وَدَاوُد بن عَليّ يحرم مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا، وَقَالَ فِي (النَّوَازِل) : وَفِي قَول بشر لَا يُؤْكَل إِذا ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا. وَقَالَ الْقَدُورِيّ فِي (شَرحه لمختصر الْكَرْخِي) : وَقد اخْتلف الصَّحَابَة فِي النسْيَان، فَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: إِذا ترك التَّسْمِيَة أكل، وَقَالَ ابْن عمر: لَا يُؤْكَل، وَالْخلاف فِي النسْيَان يدل على اتِّفَاقهم فِي الْعمد. فَإِن قلت: كَيفَ صُورَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا؟ قلت: أَن يعلم أَن التَّسْمِيَة شَرط وَتركهَا مَعَ ذكرهَا، أما لَو تَركهَا من لم يعلم باشتراطها فَهُوَ فِي حكم النَّاسِي، ذكره فِي (الْحَقَائِق) وَكَذَلِكَ الحكم على الْخلاف إِذا تَركهَا عمدا عِنْد إرْسَال الْبَازِي وَالْكَلب وَالرَّمْي، قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَهَذَا القَوْل من الشَّافِعِي مُخَالف للْإِجْمَاع، لِأَنَّهُ لَا خلاف فِيمَن كَانَ قبله فِي حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا. والْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمُسلم يَكْفِيهِ اسْمه، فَإِن نسي أَن يُسَمِّي حِين يذبح فليسم وليذكر اسْم الله ثمَّ ليَأْكُل) . حَدِيث ضَعِيف لِأَن فِي سَنَده مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان، قَالُوا: كَانَ صَدُوقًا، وَلَكِن كَانَ شَدِيد الْغَفْلَة. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَفِي سَنَده معقل بن عبد الله وَهُوَ وَإِن كَانَ من رجال مُسلم لكنه أَخطَأ فِي رفع هَذَا الحَدِيث، وَقد رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وَعبد الله(13/48)
بن الزبير الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: وَكَذَلِكَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الرجل منا يذبح وينسى أَن يُسَمِّي الله؟ قَالَ: (اسْم الله على كل مُسلم) ، وَفِي لفظ: (على فَم كل مُسلم) ، ضَعِيف لِأَن فِي سَنَده مَرْوَان بن سَالم، ضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد عَن ثَوْر بن يزِيد عَن الصَّلْت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ذَبِيحَة الْمُسلم حَلَال، ذكر اسْم الله أَو لم يذكر) قلت: هَذَا مُرْسل، وَهُوَ لَيْسَ بِحجَّة عِنْده، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَفِيه مَعَ الْإِرْسَال أَن الصَّلْت السدُوسِي لَا يعرف لَهُ حَال، وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا، وَلَا روى عَنهُ غير ثَوْر بن يزِيد.
السَّادِس: فِيهِ: عدم جَوَاز الذّبْح بِالسِّنِّ وَالظفر، وَيدخل فِيهِ ظفر الْآدَمِيّ وَغَيره من كل الْحَيَوَانَات، وَسَوَاء الْمُتَّصِل والمنفصل بِحَسب ظَاهر الحَدِيث، وَسَوَاء الطَّاهِر وَالنَّجس. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ويلتحق بِهِ سَائِر الْعِظَام من كل حَيَوَان الْمُتَّصِل والمنفصل. وَقيل: كل مَا صدق عَلَيْهِ اسْم الْعظم فَلَا تجوز الذَّكَاة بِشَيْء مِنْهُ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن بن صَالح وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وصاحباه: لَا يجوز بِالسِّنِّ والعظم المتصلين، وَيجوز بالمنفصلين، وَعَن مَالك رِوَايَات أشهرها: جَوَازه بالعظم دون السن كَيفَ كَانَا، وَالثَّانيَِة كمذهب الشَّافِعِي، وَالثَّالِثَة كمذهب أبي حنيفَة، وَالرَّابِعَة: يجوز بِكُل شَيْء بِالسِّنِّ وَالظفر. وَعَن ابْن جريج جَوَاز التذكية بِعظم الْحمار دون القرد، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَيجوز الذّبْح بالظفر والقرن وَالسّن إِذا كَانَ منزوعاً وينهر الدَّم ويفري الْأَوْدَاج، وَذكر فِي (الْجَامِع الصَّغِير) : مُحَمَّد عَن يَعْقُوب عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: أكره هَذَا الذّبْح وَإِن فعل فَلَا بَأْس بِأَكْلِهِ، وَاحْتج أَصْحَابنَا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن سماك بن حَرْب عَن مري ابْن قطري عَن عدي بن حَاتِم، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت أَحَدنَا أصَاب صيدا وَلَيْسَ مَعَه سكين، أيذبح بالمروة وشقة الْعَصَا؟ فَقَالَ: (أمرر الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله) . وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: أنهر الدَّم. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ الْخطابِيّ: ويروى: أمره، قَالَ: وَالصَّوَاب: أمرر، بِسُكُون الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء. قلت: وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَقَالَ السُّهيْلي فِي (الرَّوْض الْأنف) : أَمر الدَّم، بِكَسْر الْمِيم، أَي: أسله، يُقَال: دم مائر أَي: سَائل، قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ النقاش وَفَسرهُ، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد بِسُكُون الْمِيم، وَجعله من: مريت الضَّرع وَالْأول أشبه بالمعني، وَجمع الطَّبَرَانِيّ بَين الرِّوَايَات الثَّلَاث، وَفِيه رِوَايَة رَابِعَة عِنْد النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) : أهرق، فَيكون الْجَمِيع بِرِوَايَة أبي عبيد خمس رِوَايَات. بَيَان ذَلِك: أَن الأولى: أمرر من الإمرار، وَالثَّانيَِة: أَمر من المير، أجوف يائي، وَالثَّالِثَة: أنهر، من الإنهار، وَالرَّابِعَة: أهرق، من الإهراق. وَأَصله: أرق من الإراقة، وَالْهَاء زَائِدَة. وَالْخَامِسَة: من المري، نَاقص يائي، وَالْجَوَاب عَن قَوْله: لَيْسَ السن وَالظفر، أَنه مَحْمُول على غير المنزوع، فَإِن الْحَبَشَة كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَلِك إِظْهَارًا للجلادة، فَإِنَّهُم لَا يقلمون ظفراً ويحدون الْأَسْنَان بالمبرد ويقاتلون بالخدش والعض، وَلِأَنَّهُمَا إِذا ذكرا مطلقين يُرَاد فيهمَا غير المنزوع، أما المنزوع فيذكر مُقَيّدا، يُقَال: سنّ منزوع وظفر منزوع، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: شكّ فِي موضِعين: فِي اتِّصَاله، وَفِي قَوْله: أما السن فَعظم، هَل هُوَ من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لَا؟ ثمَّ روى عَن أبي دَاوُد هَذَا الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ رَافع: وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِك، أما السن فَعظم، وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة، وَلم يكن أَيْضا فِي حَدِيث مُسلم. أما السن من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا.
السَّابِع: أَن حكم الصيال حكم الندود، وَفِي (الْمُنْتَقى) : فِي الْبَعِير إِذا صال على إِنْسَان فَقتله وَهُوَ يُرِيد الذَّكَاة حل أكله.
الثَّامِن: أَن الذَّكَاة لَا بُد فِيهَا من آلَة حادة تجْرِي الدَّم، وَأَنه لَا يَكْفِي فِي ذَلِك الرض وَالدَّفْع بالشَّيْء الثقيل الَّذِي لَا حد لَهُ، وَإِن أَزَال الْحَيَاة، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ، وَسَوَاء فِي ذَلِك الْحَدِيد والنحاس والزجاج والقصب وَالْحجر، وكل مَا لَهُ حد إلاَّ مَا يسْتَثْنى مِنْهُ فِي الحَدِيث وَالله أعلم. التَّاسِع: اسْتدلَّ بقوله مَا أنهر الدَّم على أَنه يجزىء فِيمَا شرع ذبحه النَّحْر، وَفِيمَا شرع نَحره الذّبْح، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ دَاوُد ومالكاً فِي إِحْدَى الرِّوَايَات عَنهُ، وَعَن مَالك: الْكَرَاهَة فِي رِوَايَة، وَعنهُ فِي رِوَايَة: التَّفْرِقَة، فيجزىء ذبح المنحور وَلَا يجزىء نحر الْمَذْبُوح.
الْعَاشِر: أَجمعُوا على أَفضَلِيَّة نحر الْإِبِل وَذبح الْغنم، وَاخْتلفُوا فِي الْبَقر، وَالصَّحِيح إلحاقها بالغنم وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَقيل: يتَخَيَّر فِيهَا بَين الْأَمريْنِ.(13/49)
4 - (بابُ القِرَآنِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حتَّى يَسْتَأْذِنَ أصْحَابَهُ)
هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا مَوْجُودَة فِي النّسخ المتداولة بَين النَّاس، قيل: لَعَلَّ، حَتَّى، بِمَعْنى: حِين، فتحرفت أَو سقط من التَّرْجَمَة شَيْء، أما لفظ النَّهْي من أَولهَا أَو: لَا يجوز، قبل: حَتَّى. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى ظن التحريف فِيهِ، بلَى فِيهِ حذف، وَبَاب الْحَذف شَائِع ذائع تَقْدِيره: هَذَا فِي بَيَان حكم القِران الْكَائِن فِي التَّمْر الْكَائِن بَين الشُّرَكَاء، لَا يَنْبَغِي لأحد مِنْهُم
أَن يقرن حَتَّى يسْتَأْذن أَصْحَابه، وَذَلِكَ من بَاب حسن الْأَدَب فِي الْأكل، لِأَن الْقَوْم الَّذين وضع بَين أَيْديهم التَّمْر كالمتساوين فِي أكله، فَإِن اسْتَأْثر أحدهم بِأَكْثَرَ من صَاحبه لم يجز لَهُ ذَلِك، وَمن هَذَا الْبَاب جعل الْعلمَاء النَّهْي عَن النهبة فِي طَعَام الأعراس وَغَيرهَا، لما فِيهِ من سوء الْأَدَب والاستئثار بِمَا لَا يطيب عَلَيْهِ نفس صَاحب الطَّعَام، وَقَالَ أهل الظَّاهِر: إِن النَّهْي عَنهُ على الْوُجُوب، وفاعله عَاص إِذا كَانَ عَالما بِالنَّهْي، وَلَا نقُول: إِنَّه أكل حَرَامًا، لِأَن أَصله الْإِبَاحَة، وَدَلِيل الْجُمْهُور أَنه إِنَّمَا وضع بَين أَيدي النَّاس للْأَكْل، فَإِنَّمَا سَبيله سَبِيل المكارمة لَا على التشاح، لاخْتِلَاف النَّاس فِي الْأكل، فبعضهم يَكْفِيهِ الْيَسِير، وَبَعْضهمْ لَا يَكْفِيهِ أضعافه، وَلَو كَانَت سُهْمَانهمْ سَوَاء لما سَاغَ لمن لَا يشبعه الْيَسِير أَن أكل أَكثر من مثل نصيب من يشبعه الْيَسِير، وَلما لم يتشاح النَّاس فِي هَذَا الْمِقْدَار علم أَن سَبِيل هَذِه المكارمة، لَا على معنى الْوُجُوب.
9842 - حدَّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا جَبَلَةُ بنُ سُحَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ نهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعاً حتَّى يَسْتَأْذِنَ أصْحابَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخلاد بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: ابْن يحيى بن صَفْوَان أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي، سكن مَكَّة. وَهُوَ من أَفْرَاده، وَقد مر فِي الْغسْل، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وجبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام المفتوحات: ابْن سحيم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: التَّيْمِيّ، وَيُقَال: الشَّيْبَانِيّ، مر فِي كتاب الصَّوْم فِي بَاب: إِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال. وَهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده عَن جبلة عَن ابْن عمر، فَالْأول: عَن سُفْيَان عَن جبلة، وَالثَّانِي: عَن شُعْبَة عَن جبلة، وَقد ذكره فِي الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا أذن إِنْسَان لآخر شَيْئا جَازَ، عَن شُعْبَة أَيْضا عَن جبلة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
0942 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ جَبَلَةَ قَالَ كُنَّا بالْمَدِينَةِ فأصابَتْنَا سَنَةٌ فَكانَ ابنُ الزُّبَيْر يَرْزُقنا التَّمْرَ وكانَ ابنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فيَقُولُ لَا تَقْرُنُوا فإنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ الإقْرَانِ إلاَّ أَن يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُم أخاهُ.
أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. قَوْله: (سنَة) ، أَي جَدب وَغَلَاء. (وَابْن الزبير) هُوَ عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (يرزقنا التَّمْر) ، أَي: يقوتنا بِهِ يُقَال: رزقته رزقا فارتزق، كَمَا يُقَال: قته فاقتات، والرزق اسْم لكل مَا ينْتَفع بِهِ حَتَّى الدَّار وَالْعَبْد، وَأَصله فِي اللُّغَة: الْحَظ والنصيب، وكل حَيَوَان يَسْتَوْفِي رزقه حَلَالا أَو حَرَامًا. قَوْله: (لَا تقرنوا) ، من قرن يقرن من بَاب ضرب يضْرب، ويروى عَن جبلة قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بعث الْعرَاق، فَكَانَ ابْن الزبير يرزقنا التَّمْر، وَكَانَ ابْن عمر يمر وَيَقُول: لَا تقارنوا إلاَّ أَن يسْتَأْذن الرجل أَخَاهُ، هَذَا لأجل مَا فِيهِ من الْغبن، وَلِأَن ملكهم فِيهِ سَوَاء، ويروى نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة فِي أَصْحَاب الصّفة. قَوْله: (نهى عَن الإقران) ، ويروى: (عَن القِران) ، وَالنَّهْي فِيهِ للتنزيه، وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: للتَّحْرِيم.
5 - (بابُ تَقْوِيمِ الأشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقيمَةِ عَدْلٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَقْوِيم الْأَشْيَاء نَحْو: الْأَمْتِعَة وَالْعرُوض بَين الشُّرَكَاء حَال كَون التَّقْوِيم بِقِيمَة عدل، وَحكمه أَنه: يجوز بِلَا خلاف، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي قسمتهَا بِغَيْر تَقْوِيم، فَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ إِذا كَانَ على سَبِيل التَّرَاضِي، وَمنعه الشَّافِعِي.
1942 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنَا عبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ(13/50)
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعْتَقَ شِقْصاً لَهُ مِنْ عَبْدٍ أوْ شِرْكَاً أوْ قَالَ نَصِيباً وكانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهْوَ عَتِيقٌ وإلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عتَقَ قَالَ لاَ أدْرِي قَوْلَهُ عتَقَ مِنْهُ مَا عتَقَ قَوْلٌ مِنْ نافِعٍ أوْ فِي الْحَدِيثِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بِقِيمَة الْعدْل) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة مر فِي الْعلم. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التَّمِيمِي الْعَنْبَري. الثَّالِث: أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَن عبد الْوَارِث وَأَيوب بصريان وَأَن نَافِعًا مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعتْق عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد. وَأخرجه مُسلم فِي النذور عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَفِيه وَفِي الْعتْق عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأبي كَامِل الجحدري. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن أبي الرّبيع بِهِ وَعَن مُؤَمل بن هِشَام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن أَحْمد بن منيع عَن إِسْمَاعِيل بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن عَمْرو بن عَليّ وَفِي الْعتْق عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو بن زُرَارَة وَعَن مُحَمَّد بن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شِقْصا) بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْقَاف وبالصاد الْمُهْملَة: وَهُوَ النَّصِيب قَلِيلا أَو كثيرا. وَيُقَال لَهُ: الشقيص أَيْضا، بِزِيَادَة الْيَاء، مثل: نصف ونصيف، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الشّرك بِكَسْر الشين أَيْضا، وَقَالَ ابْن دُرَيْد، الشّقص هُوَ الْقَلِيل من كل شَيْء، وَقَالَ الْقَزاز: لَا يكون إلاَّ الْقَلِيل من الْكثير، وَقَالَ فِي (الْجَامِع) : الشّقص النَّصِيب والسهم، تَقول لي فِي هَذَا المَال شقص، أَي: نصيب قَلِيل، وَالْجمع أشقاص، وَقد شقصت الشَّيْء إِذا جزأته، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَقيل: هُوَ الْحَظ وَجمعه شقاص، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الشّقص والسهم والنصيب والحظ كُله وَاحِد. قلت: وَفِيه تحرز الرَّاوِي عَن مُخَالفَة لفظ الحَدِيث وَإِن أصَاب الْمَعْنى، لِأَن النَّصِيب والشرك والشقص بِمَعْنى وَاحِد، وَلما شكّ فِيهِ الرَّاوِي أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ تحرياً وتحرزاً عَن الْمُخَالفَة، وَقد اخْتلف فِي وجوب ذَلِك واستحبابه، وَلَا خلاف فِي الِاسْتِحْبَاب، وَذهب غير وَاحِد إِلَى جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للْعَالم بِمَا يحِيل الْأَلْفَاظ دون غَيره. قَوْله: (من عبد) ، يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى، فَأَما الذّكر فبالنص، وَأما الْأُنْثَى، فَقيل: إِن اللَّفْظ يَتَنَاوَلهَا أَيْضا بِالنَّصِّ، فَإِن إِطْلَاق لفظ: العَبْد، يتَنَاوَل كلا مِنْهُمَا، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَذَلِكَ لِأَنَّهَا صفة، فَيُقَال: عبد وَعَبدَة، فَإِذا أطلقت القَوْل يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى وَقيل: إِنَّمَا يثبت ذَلِك فِي الْأُنْثَى بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ، إِذْ الْمَعْنى الْمَوْجُود فِي الذّكر مَوْجُود فِي الْأُنْثَى، لِأَن وصف الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْوَصْف الْمُقْتَضِي للْحكم، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أَدْرَاك كَون الْأمة فِيهِ كَالْعَبْدِ حَاصِل للسامع قبل التفطن لوجه الْجمع. قلت: فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) التَّصْرِيح بالأمة من رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُفْتِي فِي العَبْد أَو الْأمة، يكون بَين الشُّرَكَاء فَيعتق أحدهم نصِيبه مِنْهُ، وَفِي آخِره: يخبر ذَلِك عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَيَأْتِي فِي الحَدِيث الثَّانِي فِي الْبَاب: من أعتق شقيصاً من مَمْلُوك، وَهَذَا شَامِل للْعَبد وَالْأمة أَيْضا، وَحكى عَن ابْن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه تَخْصِيص هَذَا الحكم بالعبيد دون الْإِمَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا القَوْل شَاذ مُخَالف للْعُلَمَاء كَافَّة. قَوْله: (وَكَانَ لَهُ) ، أَي: للْمُعْتق. قَوْله: (ثمنه) ، أَي: ثمن العَبْد بِتَمَامِهِ. قَوْله: (بِقِيمَة الْعدْل) ، وَهُوَ أَن يقوّم على أَن كُله عبد، وَلَا يقوّم بِعَيْب الْعتْق. قَالَه أصبغ وَغَيره، وَقيل: يقوم على أَنه مَسّه الْعتْق، وَفِي لفظ: قوم عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقيمَة، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَلَا وكس وَلَا شطط. قَوْله: (فَهُوَ عَتيق) ، أَي: العَبْد كُله عَتيق، أَي: معتوق بعضه بِالْإِعْتَاقِ وَبَعضه بِالسّرَايَةِ. قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يكن لَهُ مَا يبلغ ثمنه فقد عتق مِنْهُ مَا عتق، أَي: مَا عتقه، يَعْنِي: الْمِقْدَار الَّذِي عتقه، وَالْعين مَفْتُوحَة فِي: عتق الأول، وَعتق، الثَّانِي. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يجوز ضم الْعين فِي الثَّانِي، وَتعقبه ابْن التِّين. فَقَالَ: هَذَا لم يقلهُ غَيره وَلَا يعرف عتق بِالضَّمِّ، لِأَن الْفِعْل لَازم صَحِيح، لِأَنَّهُ يُقَال: عتق العَبْد عتقا وعتاقة وعتاقاً فَهُوَ عَتيق، وهم عُتَقَاء، وَأعْتقهُ مَوْلَاهُ. وَفِي (الْمغرب) : وَقد يُقَام الْعتْق مقَام الْإِعْتَاق، وَقَالَ ابْن الْأَثِير؛ يُقَال: أعتقت العَبْد أعْتقهُ عتقا وعتاقة، فَهُوَ مُعتق وَأَنا معتِق، وَعتق فَهُوَ عَتيق أَي: حررته(13/51)
وَصَارَ حرا. قَوْله: (قَالَ: لَا أَدْرِي) أَي: قَالَ أَيُّوب، قَالَه الطرقي، وَكَذَا فِي (صَحِيح الْإِسْمَاعِيلِيّ) : قَالَ أَيُّوب، فَذكره، قَالَ: وَفِي رِوَايَة الْمُعَلَّى عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب، قَالَه نَافِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على أَنْوَاع:
الأول: فِي بَيَان مَسْأَلَة التَّرْجَمَة، وَهُوَ التَّقْوِيم فِي قسْمَة الرَّقِيق، فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا تجوز قسمته إلاَّ بعد التَّقْوِيم، واحتجا بِهَذَا الحَدِيث وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي بعده، قَالَا: أجَاز صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقويمه فِي البيع لِلْعِتْقِ، فَكَذَلِك تقويمه فِي الْقِسْمَة، وَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: يجوز قسمته بِغَيْر تَقْوِيم إِذا تراضوا على ذَلِك، وحجتهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم غَنَائِم حنين وَكَانَ أَكْثَرهَا السَّبي والماشية، وَلَا فرق بَين الرَّقِيق وَسَائِر الْحَيَوَانَات، وَلم يذكر فِي شَيْء من السَّبي تَقْوِيم. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: أَن الرَّقِيق لَا يقسم إلاَّ إِذا كَانَ مَعَه شَيْء آخر للتفاوت فِيهِ، والتفاوت فِي الْآدَمِيّ فَاحش لتَفَاوت الْمعَانِي الْبَاطِنَة كالذهن والكياسة وَالْأَمَانَة والفروسية وَالْكِتَابَة، فيعتذر التَّعْدِيل إلاَّ إِذا كَانَ مَعَه شَيْء آخر، فَحِينَئِذٍ يقسم قسْمَة الْجَمِيع من غير رضَا الشُّرَكَاء، فَيجْعَل الرَّقِيق تبعا كَبيع الشّرْب وَالطَّرِيق، وَنَحْوهمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: يقسم الرَّقِيق جبرا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد لِاتِّحَاد الْجِنْس، وَإِنَّمَا التَّفَاوُت فِي الْقيمَة وَذَا لَا يمْنَع صِحَة الْقِسْمَة كَمَا فِي الْإِبِل وَالْبَقر ورقيق الْغنم، وَالْجَوَاب من جِهَة أبي حنيفَة: أَن التَّفَاوُت فِي الْحَيَوَانَات يقل عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس، أَلا يرى أَن الذّكر وَالْأُنْثَى من بني آدم جِنْسَانِ، وَمن الْحَيَوَانَات جنس وَاحِد؟ أَلا يرى أَنه إِذا اشْترى شخصا على أَنه عبد فَإِذا هُوَ جَارِيَة لَا ينْعَقد العقد، وَلَو اشْترى غنما أَو إبِلا على أَنه ذكر، فَإِذا هُوَ انثى ينْعَقد العقد، بِخِلَاف الْمَغَانِم، لِأَن حق المغانمين فِي الْمَالِيَّة حَتَّى كَانَ للْإِمَام بيعهَا وَقِسْمَة ثمنهَا بَينهم، وَفِي الرَّقِيق شركَة الْملك يتَعَلَّق بِالْعينِ والمالية، فافترق حكمهمَا، فَلَا يجوز قِيَاس أَحدهمَا على الآخر.
الثَّانِي: احْتج مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور: أَنه إِذا كَانَ عبد بَين اثْنَيْنِ فَأعتق أَحدهمَا نصِيبه، فَإِن كَانَ لَهُ مَال غرم نصيب صَاحبه وَعتق العَبْد من مَاله، وَإِن لم يكن لَهُ مَال عتق من العَبْد مَا عتق وَلَا يستسعى. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا قَول أهل الْمَدِينَة، وَعند أبي حنيفَة أَن شَرِيكه مُخَيّر، إِمَّا أَنه يعْتق نصِيبه أَو يستسعى العَبْد وَالْوَلَاء فِي الْوَجْهَيْنِ لَهما، أَو يضمن الْمُعْتق قيمَة نصِيبه لَو كَانَ مُوسِرًا، أَو يرجع بِالَّذِي ضمن على العَبْد، وَيكون الْوَلَاء للْمُعْتق، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ لَهُ إلاَّ الضَّمَان مَعَ الْيَسَار، أَو السّعَايَة مَعَ الْإِعْسَار، وَلَا يرجع الْمُعْتق على العَبْد بِشَيْء، وَالْوَلَاء للْمُعْتق فِي الْوَجْهَيْنِ وَاحْتج أَبُو حنيفَة بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا: من أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوك فخلاصه عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال، وإلاَّ قوم عَلَيْهِ واستسعى بِهِ غير مشقوق، أَي لَا يشدد عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا فَثَبت السّعَايَة بذلك، وَقَالَ ابْن حزم: على ثُبُوت الِاسْتِسْعَاء ثَلَاثُونَ صحابياً. وَقَوله: وإلاَّ فقد عتق مِنْهُ مَا عتق، لم تصح هَذِه الزِّيَادَة عَن الثِّقَة أَنه من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قَالَ أَيُّوب وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ: أهوَ شَيْء فِي الحَدِيث أَو قَالَه نَافِع من قبله؟ وهما الراويان لهَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : هِيَ مكذوبة.
وَاعْلَم أَن هَهُنَا أَرْبَعَة عشر مذهبا. الأول: مَذْهَب عُرْوَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْأسود بن يزِيد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَزفر: أَن من أعتق شركا لَهُ فِي عبد ضمن قيمَة حِصَّة شَرِيكه مُوسِرًا كَانَ أَو مُعسرا، وَرووا ذَلِك عَن عبد الله بن مَسْعُود وَعمر بن الْخطاب. الثَّانِي: مَذْهَب ربيع: أَن من أعتق حِصَّة لَهُ من عبد بَينه وَبَين آخر لم ينفذ عتقه، نَقله أَبُو يُوسُف عَنهُ. الثَّالِث: مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَعَمْرو بن دِينَار: أَنه ينفذ عتق من أعتق وَيبقى من لم يعْتق على نصِيبه يفعل فِيهِ مَا شَاءَ. الرَّابِع: مَذْهَب عُثْمَان اللَّيْثِيّ، فَإِنَّهُ ينفذ عتقِ الَّذِي أعتق فِي نصِيبه وَلَا يلْزمه شَيْء لشَرِيكه إلاَّ أَن تكون جَارِيَة رائعة. إِنَّمَا تلتمس للْوَطْء، فَإِنَّهُ يضمن للضَّرَر الَّذِي أَدخل على شَرِيكه. الْخَامِس: مَذْهَب الثَّوْريّ وَاللَّيْث وَالنَّخَعِيّ فِي قَول، فَإِنَّهُم قَالُوا: إِن شَرِيكه بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أعتق وَإِن شَاءَ ضمن الْمُعْتق. السَّادِس: مَذْهَب ابْن جريج وَعَطَاء بن أبي رَبَاح فِي قَول: إِنَّه إِن أعتق أحد الشَّرِيكَيْنِ نَصبه استسقى العَبْد سَوَاء كَانَ الْمُعْتق مُعسرا أَو مُوسِرًا السَّابِع مَذْهَب عبد الله بن أبي يزِيد أَنه أَن أعتق مُشْركًا لَهُ فِي عبد وَهُوَ مُفلس، فَأَرَادَ العَبْد أَخذ نصِيبه بِقِيمَتِه فَهُوَ أولى بذلك إِن نقد. الثَّامِن: مَذْهَب ابْن سِيرِين أَنه: إِذا أعتق نصِيبه فِي عبد فباقيه يعْتق من بَيت مَال الْمُسلمين. التَّاسِع: مَذْهَب مَالك: أَن الْمُعْتق إِن كَانَ مُوسِرًا قوم عَلَيْهِ حصص شركائه، وأغرمها لَهُم. وَأعْتق كُله بعد التَّقْوِيم لَا قبله، وَإِن شَاءَ الشَّرِيك أَن يعْتق حِصَّته فَلهُ ذَلِك، وَلَيْسَ لَهُ أَن يمسِكهُ رَقِيقا، وَلَا أَن يكاتبه، وَلَا أَن يَبِيعهُ، وَلَا أَن يدبره وَإِن كَانَ مُعسرا، فقد عتق مَا أعتق وَالْبَاقِي رَقِيق يَبِيعهُ الَّذِي هُوَ لَهُ إِن شَاءَ أَو(13/52)
يمسِكهُ رَقِيقا أَو يكاتبه أَو يَهبهُ أَو يدبره، وَسَوَاء أيسر الْمُعْتق بعد عتقه أَو لم يوسر. الْعَاشِر: مَذْهَب الشَّافِعِي فِي قَول، وَأحمد وَإِسْحَاق: أَن الَّذِي أعتق إِن كَانَ مُوسِرًا قوم عَلَيْهِ حِصَّة من شركه، وَهُوَ حر كُله حِين أعتق الَّذِي أعتق نصِيبه، وَلَيْسَ لمن يشركهُ أَن يعتقهُ، وَلَا أَن يمسِكهُ وَإِن كَانَ مُعسرا. فقد عتق مَا عتق وَبَقِي سائره مَمْلُوكا يتَصَرَّف فِيهِ مَالِكه كَيفَ شَاءَ. الْحَادِي عشر: مَذْهَب عبد الله بن شبْرمَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حَيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَسليمَان بن يسَار وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَقَتَادَة كمذهب أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّانِي عشر: مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث عشر: مَذْهَب بكير بن الْأَشَج فَإِنَّهُ قَالَ فِي رجلَيْنِ بَينهمَا عبد فَأَرَادَ أَحدهمَا أَن يعْتق أَو يُكَاتب: فَإِنَّهُمَا يتقاومانه. الرَّابِع عشر: مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، أَنه إِذا أعتق أحد نصِيبه من العَبْد الْمُشْتَرك يعْتق كُله حِين تلفظ بذلك، فَإِن كَانَ لَهُ مَال يَفِي بِقِيمَة حِصَّة شَرِيكه على حسب طاقته، لَيْسَ للشَّرِيك غير ذَلِك، وَلَا لَهُ أَن يعْتق، وَالْوَلَاء للَّذي أعتق أَولا، وَلَا يرجع العَبْد على من أعْتقهُ بِشَيْء مِمَّا سعى فِيهِ، حدث لَهُ مَال أَو لم يحدث.
النَّوْع الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على صِحَة عتق الْمُوسر وتبرعاته من الصَّدَقَة وَنَحْوهَا، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه إِذا كَانَ مُعسرا لَا يَصح عتق نصِيبه وَيبقى العَبْد جَمِيعه فِي الرّقّ، وَحَكَاهُ القَاضِي عِيَاض، وَقد ادّعى ابْن عبد الْبر الإتفاق على خِلَافه، فَقَالَ: وَقد أجمع الْعلمَاء على القَوْل بنفوذ الْعتْق من الشَّخْص، سَوَاء كَانَ الْمُعْتق مُعسرا أَو مُوسِرًا.
النَّوْع الرَّابِع: يسْتَدلّ بِعُمُوم قَوْله: من أعتق، على أَن الحكم فِيهِ عَام فِي جَمِيع من يَصح مِنْهُ الْعتْق، سَوَاء كَانَ الْمُعْتق أَو الشَّرِيك أَو العَبْد الْمُعْتق مُسلما أَو كَافِرًا.
النَّوْع الْخَامِس: فِيهِ أَن المَال الْغَائِب كالحاضر، لِأَنَّهُ مَالك عَلَيْهِ، فَيعتق عَلَيْهِ حِصَّة شَرِيكه بِالسّرَايَةِ ويطالبه بِقِيمَة حِصَّته، وَفِيه خلاف للمالكية.
النَّوْع السَّادِس: قَالَ شَيخنَا: فِي قَوْله: مَا يبلغ ثمنه، حجَّة لأحد الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه إِذا ملك مَا يبلغ بعض ثمن حِصَّة شَرِيكه أَنه لَا يعْتق عَلَيْهِ.
النَّوْع السَّابِع: فِي أَن المُرَاد بقوله: فَكَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ ثمنه، وَهُوَ مَا يفضل عَن قوت يَوْمه وقوت من يلْزمه نَفَقَته، وسكنى يَوْمه، ودست ثوب كَمَا هُوَ الْمُعْتَبر فِي الدُّيُون، وَهُوَ قَول الجماهير من الْعلمَاء، وَبِه جزم الرَّافِعِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَيْسَ الْيَسَار الْمُعْتَبر فِي هَذَا الْبَاب كاليسار الْمُعْتَبر فِي الْكَفَّارَة الْمرتبَة، وَكَذَا قَالَ ابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ أَشهب: يُبَاع عَلَيْهِ ثِيَاب ظَهره وَلَا يتْرك لَهُ إلاَّ مَا يُصَلِّي فِيهِ، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يُبَاع عَلَيْهِ منزله الَّذِي يسكنهُ وشوار بَيته، وَلَا يتْرك لَهُ إلاَّ كسْوَة ظَهره، وعيشة الْأَيَّام.
النَّوْع الثَّامِن: فِي قَوْله: من أعتق، دَلِيل على أَنه لَا فرق بَين أَن يكون من أعتق نصِيبه وَاحِدًا أَو أَكثر.
النَّوْع التَّاسِع: قَالَ شَيخنَا: إِذا وَقع الْعتْق من وَاحِد فَأكْثر مَعًا وَكَانُوا موسرين فَيقوم عَلَيْهِم على قدر الحصص أَو على عدد الرؤوس، فِيهِ خلاف عِنْد الشَّافِعِيَّة والمالكية، وَالأَصَح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه: على عدد الرؤوس كالشفعة، وَصحح ابْن الْعَرَبِيّ أَن هَذَا على قدر الحصص.
النَّوْع الْعَاشِر: قَالَ شَيخنَا أَيْضا إِن فِي قَوْله: (من أعتق شِقْصا لَهُ) دَلِيل أَن تقدم كِتَابَة شَرِيكه لعَبْدِهِ فِي حِصَّته لَا يمْنَع من سرَايَة الْعتْق فِي نصيب شَرِيكه، لِأَن الْمكَاتب عبد، وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ. . وَعَن صَاحب (التَّقْرِيب) رِوَايَة وَجه أَو قَول: أَنه لَا يسري إِذْ لَا سَبِيل إِلَى إبِْطَال الْكِتَابَة.
النَّوْع الْحَادِي عشر: قَالَ شَيخنَا أَيْضا: وَفِيه أَيْضا أَن تعلق الرَّهْن بِحِصَّة الشَّرِيك لَا يمْنَع من السَّرَايَة، وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ.
النَّوْع الثَّانِي عشر: قَالَ شَيخنَا أَيْضا: فِيهِ أَن تقدم تَدْبِير الشَّرِيك بِحِصَّتِهِ على إِعْتَاق الشَّرِيك الْمُوسر بِحِصَّتِهِ، لَا يمْنَع السَّرَايَة أَيْضا، وَفِيه قَولَانِ للشَّافِعِيّ، والأقوى كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ: أَنه لَا يمْنَع، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يمْنَع.
النَّوْع الثَّالِث عشر: فِيهِ: أَيْضا أَن تقدم اسْتِيلَاء الشَّرِيك وَهُوَ مُعسر لَا يمْنَع سرَايَة إِعْتَاق شَرِيكه.
النَّوْع الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ ابْن عبد الْبر لقَوْل مَالك وَأَصْحَابه: إِن من أفسد شَيْئا من الْعرُوض الَّتِي لَا تكال وَلَا توزن فَإِنَّمَا عَلَيْهِ قيمَة مَا اسْتهْلك من ذَلِك لَا مثله، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُوجب على من أعتق نصِيبه نصف عبد مثله لشَرِيكه، قَالَ مَالك: الْقِسْمَة أعدل فِي ذَلِك، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة أَيْضا.(13/53)
النَّوْع الْخَامِس عشر: قَالَ شَيخنَا: الحَدِيث مَحْمُول على مَا إِذا أعتق نصِيبه فِي حَالَة الصِّحَّة، فَإِذا أعتق حِصَّته فِي الْمَرَض وَمَات فَإِنَّهُ لَا ينفذ وَلَا يسري على الْمُوسر إلاَّ مَا احتمله ثلث مَاله، وَكَذَلِكَ لَو أوصى بِعِتْق نصِيبه أَو بِبَعْض حِصَّته فَإِنَّهُ لَا يسري عَلَيْهِ شَيْء زَائِد على ذَلِك، لَا فِي حِصَّته وَلَا فِي حِصَّة شَرِيكه، لِأَنَّهُ قد انْقَطع ملكه بِالْمَوْتِ.
النَّوْع السَّادِس عشر: شَرط السَّرَايَة الَّتِي هِيَ من خَواص الْعتْق أَن يحصل الْعتْق فِي حِصَّته بِاخْتِيَارِهِ حَتَّى لَو ورت سقطا من قَرِيبه الَّذِي يعْتق عَلَيْهِ لم يسر وَلم يقوم عَلَيْهِ نصيب شَرِيكه، بِخِلَاف مَا إِذا اشْتَرَاهُ أَو اتهبه، قَالَه الرَّافِعِيّ.
2942 - حدَّثنا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخْبرنا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا سَعيدُ بنُ أبِي عُرُوبَةَ عنْ قَتادَةَ عنِ النَّضْرِ بنِ أنَسٍ عنْ بَشيرِ بنِ نَهِيكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شَقِيصاً مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مالِه فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ علَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قوم الْمَمْلُوك قيمَة عدل) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد، مر فِي الْوَحْي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: سعيد بن أبي عرُوبَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَضم الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة: واسْمه مهْرَان الْيَشْكُرِي. الرَّابِع: قَتَادَة بن دعامة. الْخَامِس: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن أنس بن مَالك النجاري الْأنْصَارِيّ. السَّادِس: بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن نهيك، بِفَتْح النُّون وَكسرهَا وبالكاف: السَّلُولي، وَيُقَال: السدُوسِي. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ وَشَيْخه مروزيان والبقية بصريون، وَقَالَ الْخَطِيب: رَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس بِلَفْظ: من أعتق نَصِيبا لَهُ من عبد وَلم يكن لَهُ مَال استسعى العَبْد فِي ثمن رقبته غير مشقوق عَلَيْهِ، هَكَذَا رَوَاهُ يزِيد، قصر عَن بعض الْأَلْفَاظ الَّتِي ذكرهَا عبد الله بن بكر عَن ابْن أبي عرُوبَة، وَقد رَوَاهُ سعيد بن الْمُبَارك وَيزِيد بن زُرَيْع وَمُحَمّد بن بشر الْعَبْدي وَيحيى الْقطَّان وَمُحَمّد ب أبي عدي فَأحْسنُوا سِيَاقه، واستوفوا أَلْفَاظه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أبان بن يزِيد وَجَرِير بن حَازِم ومُوسَى بن خلف عَن قَتَادَة، وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن قَتَادَة فَلم يذكر استسعاء العَبْد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ روح بن عبَادَة ومعاذ بن هِشَام كِلَاهُمَا عَن هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة، إلاَّ أَن معَاذًا لم يذكر فِي إِسْنَاده النَّضر، إِنَّمَا قَالَ: عَن قَتَادَة عَن بشير بن نهيك، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن كثير الْعَبْدي عَن همام عَن قَتَادَة. وروى أَبُو عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن يزِيد الْمصْرِيّ عَن همام معنى ذَلِك إلاَّ أَنه زَاد فِيهِ ذكر الِاسْتِسْعَاء وَجعله من قَول قَتَادَة، وميزه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَكَانَ قَتَادَة يَقُول: إِن لم يكن لَهُ مَال استسعى. وَفِي لفظ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَن رجلا أعتق شِقْصا من مَمْلُوكه فغرمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَقِيَّة ثمنه، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن كَانَ الِاسْتِسْعَاء على مَا يذهب إِلَيْهِ الْكُوفِي مِنْهُ فقد جمع بَين حَدِيثي ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة، وهما متدافعان وجعلهما صَحِيحَيْنِ، وَهَذَا بعيد جدا، وَالْقَوْل فِي ذَلِك أحد قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: إِن قَوْله: استسعى العَبْد، لَيْسَ فِي الْخَبَر الْمسند، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَتَادَة، فدرج فِي الْخَبَر على مَا رَوَاهُ همام عَن قَتَادَة، وَأما أَن يكون استسعاء العَبْد السَّيِّد يستسعيه فِي قومه غير مشقوق عله أَن الْعتْق لم يكمل فِيهِ فَإِنَّهُ لم يبين فِي الْخَبَر من يستسعيه، وَتبين أَن الْعتْق لم ينفذ فِيهِ فَصَارَ سَيّده هُوَ الَّذِي يستسعيه. قلت: أَبُو هُرَيْرَة روى هَذَا الحَدِيث كَمَا رَوَاهُ ابْن عمر وَزَاد عَلَيْهِ شَيْئا بيَّن بِهِ كَيفَ حكم مَا بَقِي من العَبْد بعد نصيب الْمُعْتق، كَمَا هُوَ مشروح فِيهِ، فَكَانَ هَذَا الحَدِيث فِيهِ مَا فِي حَدِيث ابْن عمر. وَفِيه: وجوب السّعَايَة على العَبْد إِذا كَانَ مُعْتقه مُعسرا، وسنزيد فِيهِ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعتْق عَن مُسَدّد وَعَن أَحْمد بن أبي رَجَاء وَفِي الشّركَة أَيْضا عَن أبي النُّعْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق وَفِي النذور عَن مُحَمَّد بن مُوسَى وَمُحَمّد بن بشار، وَفِي النذور أَيْضا عَن عبيد الله بن(13/54)
معَاذ وَفِي الْعتْق أَيْضا عَن عَليّ بن خشرم وَفِي النذور أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن خشرم وَفِيهِمَا أَيْضا عَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَفِي الْعتْق أَيْضا عَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن كثير وَعَن أَحْمد بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن معَاذ وَلم يذكر النَّضر بن أنس فِي إِسْنَاده، وَعَن نصر بن عَليّ وَعَن عَليّ بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَفِي حَدِيث أبان وَابْن أبي عرُوبَة ذكر الِاسْتِسْعَاء. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن خشرم بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَفِيه ذكر الِاسْتِسْعَاء، قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن قَتَادَة وَلم يذكر فِيهِ أَمر السّعَايَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن هناد وَعَن نصر بن عَليّ وَعَن المؤمل بن هِشَام وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَفِيه ذكر السّعَايَة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل وَلم يذكر النَّضر بن أنس فِي إِسْنَاده وَلَا قصَّة الِاسْتِسْعَاء وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر بَيَان مَا فِي حَدِيثي أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر الْمَذْكُورين: قد ذكرنَا عَن قريب أَن فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة زِيَادَة وَهِي: وجوب السّعَايَة على العَبْد إِذا كَانَ الْمُعْتق مُعسرا. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: قَوْله: استسعى غير مشقوق عَلَيْهِ لَا يُثبتهُ أهل النَّقْل مُسْندًا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويزعمون أَنه من قَول قَتَادَة، وَقد تَأَوَّلَه بعض النَّاس فَقَالَ: معنى السّعَايَة أَن يستسعي العَبْد لسَيِّده أَي: يستخدم، وَكَذَلِكَ معنى قَوْله: غير مشقوق عَلَيْهِ، أَي: لَا يحمل فَوق مَا يلْزمه من الْخدمَة إلاَّ بِقدر مَا فِيهِ من الرّقّ، وَلَا يُطَالب بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَيْضًا لم يذكر ابْن أبي عرُوبَة بالسعاية فِي رِوَايَته عَن قَتَادَة، وَفِيه اضْطِرَاب، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ من متن الحَدِيث عِنْده، وَإِنَّمَا هُوَ من كَلَام قَتَادَة، وَيدل على صِحَة ذَلِك حَدِيث ابْن عمر، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: روى أَبُو هُرَيْرَة هَذَا الحَدِيث على خلاف مَا رَوَاهُ ابْن عمر، وَاخْتلف فِي حَدِيثه، وَهُوَ حَدِيث يَدُور على قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير ابْن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة، وَاخْتلف أَصْحَاب قَتَادَة عَلَيْهِ فِي الِاسْتِسْعَاء، وَهُوَ الْموضع الْمُخَالف لحَدِيث ابْن عمر من رِوَايَة مَالك وَغَيره، وَاتفقَ شُعْبَة وَهَمَّام على ترك ذكر السّعَايَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَالْقَوْل قَوْلهم فِي قَتَادَة عِنْد جَمِيع أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ إِذا خالفهم فِي قَتَادَة غَيرهم، وَأَصْحَاب قَتَادَة الَّذين هم حجَّة فِيهِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، فَإِن اتّفق هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لم يعرج على من خالفهم فِي قَتَادَة، وَإِن اخْتلفُوا نظر، فَإِن اتّفق مِنْهُم اثْنَان وَانْفَرَدَ وَاحِد فَالْقَوْل قَول الْإِثْنَيْنِ، لَا سِيمَا إِذا كَانَ أَحدهمَا شُعْبَة، وَلَيْسَ أحد بِالْجُمْلَةِ فِي قَتَادَة مثل شُعْبَة لِأَنَّهُ كَانَ يوقفه على الْإِسْنَاد وَالسَّمَاع، وَقد اتّفق شُعْبَة وَهِشَام فِي هَذَا الحَدِيث على سُقُوط ذكر الِاسْتِسْعَاء فِيهِ، وتابعهما همام، وَفِي هَذَا تَقْوِيَة لحَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ حَدِيث مدنِي صَحِيح لَا يُقَاس بِهِ غَيره، وَهُوَ أولى مَا قيل بِهِ فِي هَذَا الْبَاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضعف الشَّافِعِي السّعَايَة بِوُجُوه: مِنْهَا: أَن شُعْبَة وهشاماً رواياه عَن قَتَادَة وَلَيْسَ فِيهِ استسعاء وهما أحفظ. وَمِنْهَا: أَنه سمع بعض أهل الْعلم يَقُول: لَو كَانَ حَدِيث سعيد مُنْفَردا لَا يُخَالِفهُ غَيره مَا كَانَ ثَابتا. قلت: تَابع ابْن أبي عرُوبَة على رِوَايَته عَن قَتَادَة يحيى بن أبي صبيح، رَوَاهُ الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي عرُوبَة وَيحيى بن صبيح عَن قَتَادَة على مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان عَن الْحميدِي، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة شيخ الشَّافِعِي عَن سعيد بن أبي عرُوبَة وَيحيى بن صبيح، بِفَتْح الصَّاد: الْخُرَاسَانِي الْمقري، كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة كَذَلِك، وَقد ذكر الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي (سنَنه) : أَن الْحجَّاج وَأَبَان ومُوسَى بن خلف وَجَرِير بن حَازِم رَوَوْهُ عَن قَتَادَة كَذَلِك، يَعْنِي: ذكرُوا فِيهِ الِاسْتِسْعَاء، وَإِذا سكت شُعْبَة وَهِشَام عَن الِاسْتِسْعَاء لم يكن ذَلِك حجَّة على ابْن أبي عرُوبَة، لِأَنَّهُ ثِقَة قد زَاد عَلَيْهِمَا شَيْئا، فَالْقَوْل قَوْله، كَيفَ وَقد وَافقه على ذَلِك جمَاعَة؟ وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا خبر فِي غَايَة الصِّحَّة، فَلَا يجوز الْخُرُوج عَن الزِّيَادَة الَّتِي فِيهِ، وَقد رَوَاهُ عَنهُ يزِيد ابْن هَارُون وَعِيسَى بن يُونُس وَجَمَاعَة كَثِيرَة، ذكرهم صَاحب (التَّمْهِيد) وَلم يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فِي أَمر السّعَايَة، مِنْهُم: عَبدة بن سُلَيْمَان وَهُوَ أثبت النَّاس سَمَاعا من ابْن أبي عرُوبَة، وَقَالَ صَاحب (الاستذكار) ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنهُ كَذَلِك روح بن عبَادَة وَيزِيد بن زُرَيْع وَعلي بن مسْهر وَيحيى بن سعيد وَمُحَمّد بن بكر وَيحيى بن أبي عدي، وَلَو كَانَ هَذَا الحَدِيث غير ثَابت كَمَا زَعمه الشَّافِعِي لما أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) وَقَالَ شَارِح (الْعُمْدَة) : الَّذين لم يَقُولُوا بالاستسعاء تعللوا فِي تَضْعِيفه بتعللات على الْبعد، وَلَا يُمكنهُم الْوَفَاء بِمِثْلِهَا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَال فِيهَا بِأَحَادِيث يرد عَلَيْهِم فِيهَا مثل تِلْكَ التعللات.(13/55)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شقيصاً) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْقَاف: بِمَعْنى الشّقص، وَهُوَ النَّصِيب، وَقد ذكرنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد كالنصيف وَالنّصف. قَوْله: (فَعَلَيهِ خلاصه) ، أَي: فَعَلَيهِ أَدَاء قيمَة الْبَاقِي من مَاله ليتخلص من الرّقّ. قَوْله: (قيمَة عدل) ، قد مضى تَفْسِيره. قَوْله: (غير مشقوق) ، أَي: غير مُكَلّف عَلَيْهِ فِي الِاكْتِسَاب، حَاصله: يُكَلف العَبْد بالاستسعاء قدر نصيب الشَّرِيك الآخر بِلَا تَشْدِيد، فَإِذا دَفعه إِلَيْهِ عتق، وَمعنى هَذَا الحَدِيث مثل معنى حَدِيث ابْن عمر، غير أَن فِيهِ زِيَادَة هِيَ: الِاسْتِسْعَاء، وَثَبت هَذَا عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا، وروى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من أعتق شِقْصا من رَقِيق كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْتق نَفسه، فَإِن لم يكن لَهُ مَال يستسعى العَبْد) وَالله أعلم.
6 - (بابٌ هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ والاسْتِهامِ فِيه)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يقرع من الْقرعَة بِضَم الْقَاف، وَهِي مَعْرُوفَة. قَوْله: (والاستهام) أَي: أَخذ السهْم، أَي: النَّصِيب، وَلَيْسَ المُرَاد من الاستهام هُنَا الإقراع، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُمَا فِي الأَصْل وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا معنى أَن يُقَال: هَل يقرع فِي الإقراع؟ قَوْله: (فِيهِ) قَالَ الْكرْمَانِي: الضَّمِير عَائِد إِلَى الْقسم أَو المَال الَّذِي يدل عَلَيْهَا الْقِسْمَة، وَقَالَ بَعضهم: الضَّمِير يعود إِلَى الْقسم بِدلَالَة الْقِسْمَة. قلت: كِلَاهُمَا بمعزل عَن نهج الصَّوَاب، وَلم يذكر هُنَا قسم وَلَا مَال حَتَّى يعود الضَّمِير إِلَيْهِ، بل الضَّمِير يعود إِلَى الْقِسْمَة والتذكير بِاعْتِبَار أَن الْقِسْمَة هُنَا بِمَعْنى الْقسم، وَفِي (الْمغرب) : الْقِسْمَة اسْم من الاقتسام، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: نعم يقرع، قَالَ ابْن بطال: الْقرعَة سنة لكل من أَرَادَ الْعدْل فِي الْقِسْمَة بَين الشُّرَكَاء، وَالْفُقَهَاء متفقون على القَوْل بهَا، وَخَالفهُم بعض الْكُوفِيّين، وَقَالُوا: لَا معنى لَهَا لِأَنَّهَا تشبه الأزلام الَّتِي نهى الله عَنْهَا، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة أَنه جوزها. وَقَالَ: هِيَ فِي الْقيَاس لَا تسقيم، وَلَكنَّا نَتْرُك الْقيَاس فِي ذَلِك للآثار وَالسّنة، وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي الْإِفْك: كَانَ إِذا خرج أَقرع بَين نِسَائِهِ، وَفِي حَدِيث أم الْعَلَاء: أَن عُثْمَان بن مَظْعُون طاولهم سَهْمه فِي السُّكْنَى، حِين أقرعت الْأَنْصَار سُكْنى الْمُهَاجِرين، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول لاستهموا عَلَيْهِ) . وَقَالَ تَعَالَى: {فساهم فَكَانَ من المدحضين} (الصافات: 141) . وَقَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: لَيْسَ فِي الْقرعَة إبِْطَال شَيْء من الْحق، وَإِذا وَجَبت الْقِسْمَة بَين الشُّرَكَاء فِي أَرض أَو دَار فَعَلَيْهِم أَن يعدلُوا ذَلِك بِالْقيمَةِ ويستهموا، وَيصير لكل وَاحِد مِنْهُم مَا وَقع لَهُ بِالْقُرْعَةِ مجتمعاً مِمَّا كَانَ لَهُ فِي الْملك مشَاعا، فَيصير فِي مَوضِع بِعَيْنِه، وَيكون ذَلِك بِالْعِوَضِ الَّذِي صَار لشَرِيكه. وَإِنَّمَا منعت الْقرعَة أَن يخْتَار كل وَاحِد مِنْهُم موضعا بِعَيْنِه.
3942 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثني زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عامِراً يقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَثَلُ القائِمِ عَلَى حُدُودِ الله والْوَاقِعِ فِيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفينَةٍ فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاهَا وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها فكانَ الَّذِينَ فِي أسْفَلِها إذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا علَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنا فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هلَكُوا جَميعاً وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً.
(الحَدِيث 3942 طرفه فِي: 6862) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استهموا على سفينة) . وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن الْأَحول الْكُوفِي، وزكرياء هُوَ ابْن زَائِدَة الْهَمدَانِي الْكُوفِي الْأَعْمَى، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، والنعمان بن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْأنْصَارِيّ، مر فِي كتاب الْإِيمَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن الشّعبِيّ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن منيع عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى) أَي: الْمُسْتَقيم على مَا منع الله تَعَالَى من مجاوزتها، وَيُقَال: الْقَائِم بِأَمْر الله مَعْنَاهُ: الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ والناهي عَن الْمُنكر. وَقَالَ الزّجاج: أصل الْحَد فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه حد الدَّار، وَهُوَ مَا يمْنَع غَيرهَا من الدُّخُول فِيهَا، والحداد الْحَاجِب والبواب، وَلَفظ(13/56)
التِّرْمِذِيّ: مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى والمدهن فِيهَا أَي: الغاش فِيهَا، ذكره ابْن فَارس، وَقيل: هُوَ كالمصانعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} (الْقَلَم: 9) . وَقيل: المدهن المتلين لمن لَا يَنْبَغِي التلين لَهُ. قَوْله: (وَالْوَاقِع فِيهَا) أَي: فِي الْحُدُود، أَي: التارك للمعروف المرتكب للْمُنكر. قَوْله: (استهموا) أَي: اتخذ كل وَاحِد مِنْهُم سَهْما، أَي: نَصِيبا من السَّفِينَة بِالْقُرْعَةِ. قَوْله: (على من فَوْقهم) ، أَي: على الَّذين فَوْقهم. قَوْله: (وَلم نؤذ) ، من الْأَذَى، وَهُوَ الضَّرَر. قَوْله: (من فَوْقنَا) أَي: الَّذين سكنوا فَوْقنَا. قَوْله: (فَإِن يتركوهم وَمَا أَرَادوا) . أَي: فَإِن يتْرك الَّذين سكنوا فَوْقهم إِرَادَة الَّذين سكنوا تَحْتهم من الْخرق، وَالْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (هَلَكُوا) ، جَوَاب الشَّرْط وَهُوَ قَوْله: فَإِن ... قَوْله: (هَلَكُوا جَمِيعًا) أَي: كلهم الَّذين سكنوا فَوق وَالَّذين سكنوا أَسْفَل، لِأَن بخرق السَّفِينَة تغرق السَّفِينَة وَيهْلك أَهلهَا. قَوْله: (وَإِن أخذُوا على أَيْديهم) أَي: وَإِن منعوهم من الْخرق نَجوا أَي: الآخذون (ونجوا جَمِيعًا) يَعْنِي: جَمِيع من فِي السَّفِينَة، وَلَو لم يذكر قَوْله: (ونجوا جَمِيعًا) ، لكَانَتْ النجَاة اخْتصّت بالآخذين فَقَط، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل كلهم نَجوا لعدم الْخرق، وَهَكَذَا إِذا أُقِيمَت الْحُدُود وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر تحصل النجَاة للْكُلّ وإلاَّ هلك العَاصِي بالمعصية وَغَيرهم بترك الْإِقَامَة.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام فِيهِ: جَوَاز الضَّرْب بِالْمثلِ وَجَوَاز الْقرعَة، فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضرب الْمثل هُنَا بالقوم الَّذين ركبُوا السَّفِينَة، وَلم يذم المستهمين فِي السفية وَلَا أبطل فعلهم، بل وضيه وَضرب بِهِ مثلا لمن نجى من الهلكة فِي دينه. وَفِيه: تَعْذِيب الْعَامَّة بذنوب الْخَاصَّة وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة بترك النَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة. وَفِيه: أَنه يجب على الْجَار أَن يصبر على شَيْء من أَذَى جَاره خوف مَا هُوَ أَشد. وَفِيه: إِثْبَات الْقرعَة فِي سُكْنى السفية إِذا تشاحوا، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا نزلُوا مَعًا. فَأَما من سبق مِنْهُم فَهُوَ أَحَق. وَذكر ابْن بطال هُنَا مَسْأَلَة الدَّار الَّتِي لَهَا علوا وسفل لمناسبة بَينهَا وَبَين أهل السَّفِينَة، فَقَالَ: وَأما حكم الْعُلُوّ والسفل يكون بَين رجلَيْنِ، فيعتل السّفل وَيُرِيد صَاحبه هَدمه فَلَيْسَ لَهُ هَدمه إلاَّ من ضَرُورَة، وَلَيْسَ لرب الْعُلُوّ أَن يَبْنِي على سفله شَيْئا لم يكن قبل إلاَّ الشَّيْء الْخَفِيف الَّذِي لَا يضر صَاحب السّفل، فَلَو انْكَسَرت خَشَبَة من سفل الْعُلُوّ فَلَا يدْخل مَكَانهَا أَسْفَل مِنْهَا، قَالَ أَشهب: وَبَاب الدَّار على صَاحب السّفل، فَلَو انْهَدم السّفل أجبر صَاحبه على بنائِهِ وَلَيْسَ على صَاحب الْعُلُوّ أَن يَبْنِي السّفل، فَإِن أَبى صَاحب السّفل أَن يَبْنِي قيل لَهُ: بِعْ مِمَّن يَبْنِي. انْتهى. قلت: الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا أَنه لَيْسَ لصَاحب الْعُلُوّ إِذا انْهَدم السّفل أَن يَأْخُذ صَاحب السّفل بِالْبِنَاءِ، لَكِن يُقَال لصَاحب الْعُلُوّ: ابْن السّفل إِن شِئْت حَتَّى يبلغ مَوْضِعه علوك ثمَّ ابْن علوك، وَلَيْسَ لصَاحب السّفل أَن يسكن حَتَّى يُعْطي قيمَة بِنَاء السّفل، وَذُو الْعُلُوّ يسكن علوه، والسفل كَالرَّهْنِ فِي يَده وسقف السّفل بِكُل آلاته لصَاحب السّفل وَلِصَاحِب الْعُلُوّ سكناهُ، وَصَاحب الْعُلُوّ إِذا بنى السّفل فَلهُ أَن يرجع بِمَا أنْفق على صَاحب السّفل، وَإِن كَانَ صَاحب السّفل يَقُول: لَا حَاجَة لي إِلَى السّفل.
7 - (بابُ شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وأهْلِ الْمِيرَاثِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شركَة الْيَتِيم وَأهل الْمِيرَاث، وَحكمه مَا قَالَه ابْن بطال: شركَة الْيَتِيم ومخالطته فِي مَاله لَا يجوز عِنْد الْعلمَاء، إلاَّ أَن يكون للْيَتِيم فِي ذَلِك رُجْحَان. قَالَ تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْيَتَامَى قل: إصْلَاح لَهُم خير وَإِن تخالطوهم فإخوانكم وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح} (الْبَقَرَة: 022) .
4942 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله الْعامِرِيُّ الأُوَيْسيُّ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَني عُرْوةُ أنَّهُ سألَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَألَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وإنْ خِفْتُمْ} إِلَى {ورُباع} (النِّسَاء: 3) . فقالتْ يَا ابنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ ولِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مالِهِ فيُعْجِبُهُ مالُها وجَمالُها فيُرِيدُ ولِيُّها أَن يَتَزوَّجَهَا بغَيْرِ أنْ يُقْسطَ فِي صَداقِهَا فيُعْطِيهَا مثْلَ مَا يُعْطِيها غَيْرُهُ فَنُهوا(13/57)
أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ ويَبْلُغُوا بِهِنَّ أعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَّاقِ وأُمِرُوا أنْ يَنْكِحُوا مَا طابَ لَهمْ مِنَ النِّسَاءِ سِواهُنَّ. قَالَ عُرْوةُ قالتْ عائِشَةُ ثمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعْدَ هاذِهِ الآيَةِ فأنْزَلَ الله {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ} والَّذِي ذَكَرَ الله أنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتي قَالَ فِيها وإنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ قالَتْ عائِشَةُ وقَوْل الله فِي الآيةِ الأخْرَى وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ يَعْني هِيَ رَغْبَة أحَدِكُمْ بَيَتيمَتِه الَّتي فِي حَجْرِه حِينَ تَكُونُ قَليلَةَ الْمَالِ والْجَمَالِ فَنهوا أنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مالِها وجَمالِها مِنْ يَتامَى النِّساءِ إلاَّ بالْقِسْطِ مِنْ أجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ (النِّسَاء: 721) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (الْيَتِيمَة تكون فِي حجر وَليهَا تشاركه فِي مَاله) .
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن يحيى بن عَمْرو بن أويس الْقرشِي العامري الأويسي، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى جده أويس. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الْقرشِي الزُّهْرِيّ، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: اللَّيْث بن سعد. السَّابِع: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الثَّامِن: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الطَّرِيق الأول مَوْصُول وَالطَّرِيق الثَّانِي وَهُوَ قَوْله. وَقَالَ اللَّيْث مُعَلّق. وَفِيه: أَن رُوَاة الطَّرِيق الأول كلهم مدنيون ورواة الطَّرِيق الثَّانِي من نسب شَتَّى، فالليث مصري وَيُونُس أيلي وَابْن شهَاب مدنِي، وَكَذَلِكَ عُرْوَة. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ من طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ فِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الشّركَة وَقَالَ اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَسليمَان بن دَاوُد، أربعتهم عَن وهب عَن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ الطَّرِيق الأول عَن سُلَيْمَان بن سيف عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث) ، مُعَلّق وَصله الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره من طَرِيق عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث مَقْرُونا بطرِيق ابْن وهب عَن يُونُس. قَوْله: (وَإِن خِفْتُمْ إِلَى ... وَربَاع) ، يَعْنِي: سَأَلَ عُرْوَة عَائِشَة عَن تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . وَمعنى قَوْله: وَإِن خِفْتُمْ، يَعْنِي: إِذا كَانَت تَحت حجر أحدكُم يتيمة وَخَافَ أَن لَا يُعْطِيهَا مهر مثلهَا، فليعدل إِلَى مَا سواهَا من النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كَثِيرَة، وَلم يضيق الله عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أخبرنَا هِشَام عَن ابْن جريج أَخْبرنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَن رجلا كَانَت لَهُ يتيمة فنكحها، وَكَانَ لَهَا عذق، وَكَانَ يمْسِكهَا عَلَيْهِ وَلم يكن لَهَا من نَفسه شَيْء، فَنزلت فِيهِ: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) . أَحْسبهُ قَالَ: كَانَت شريكته فِي ذَلِك العذق وَفِي مَاله، ثمَّ ذكر البُخَارِيّ عقيب هَذَا الحَدِيث حَدِيث الْبَاب الَّذِي أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله الأويسي إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ ألاَّ تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) . قَالَت: أنزلت فِي الرجل يكون لَهُ الْيَتِيمَة وَهُوَ وَليهَا ووارثها وَلها مَال وَلَيْسَ لَهَا أحد يُخَاصم دونهَا وَلَا ينْكِحهَا لمالها فيضربها ويسيء صحبتهَا. فَقَالَ: {وَإِن خِفْتُمْ ألاَّ تقسطوا فِي الْيَتَامَى فأنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 721) . يَقُول: مَا أحللت لكم، ودع هَذِه الَّتِي تضربها. انْتهى. قَوْله: {مَا طَابَ لكم} (النِّسَاء: 3) . قَرَأَ ابْن أبي عبلة: من طَابَ لكم، وَمعنى: طَابَ حل. قَوْله: {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . معدولات عَن: اثْنَيْنِ وَثَلَاث وَأَرْبع، وَهِي نكرَة ومنعها(13/58)
عَن الصّرْف للعدل وَالْوَصْف، وَقيل: للعدل والتأنيث لِأَن الْعدَد كُله مؤنث، وَالْوَاو جَاءَت على طَرِيق الْبَدَل كَأَنَّهُ قَالَ: وَثَلَاث بدل من ثِنْتَيْنِ وَربَاع بدل من ثَلَاث، وَلَو جَاءَت: أَو، لجَاز أَن لَا يكون لصَاحب الْمثنى ثَلَاث وَلَا لصَاحب الثَّلَاث رباع، وَالْمقَام مقَام امتنان وَإِبَاحَة، فَلَو كَانَ يجوز الْجمع بَين أَكثر من أَربع لذكره. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَقد دلّت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبينة عَن الله أَنه: لَا يجوز لأحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجمع بَين أَكثر من أَربع، وَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّافِعِي مجمع عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء إِلَّا مَا حكى عَن طَائِفَة من الشِّيعَة فِي الْجمع بَين أَكثر من أَربع إِلَى تسع، وَقَالَ بَعضهم: لَا حصر، وَقد يتَمَسَّك بَعضهم بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمعه بَين أَكثر من أَربع، أما تسع كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأما إِحْدَى عشرَة كَمَا جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ البُخَارِيّ، وَهَذَا عِنْد الْعلمَاء من خَصَائِص رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيره من الْأمة. قَوْله: (فَقَالَت: يَا ابْن أُخْتِي) ، وَذَلِكَ لِأَن عُرْوَة ابْن أَسمَاء أُخْت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (فِي حجر وَليهَا) ، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يجوز أَن يكون من حجر الثَّوْب وَهُوَ طرفه الْمُقدم، لِأَن الْإِنْسَان يُربي وَلَده فِي حجره، وَالْحجر، بِالْفَتْح وَالْكَسْر: الثَّوْب والحضن، والمصدر بِالْفَتْح لَا غير، ووليها: هُوَ الْقَائِم بأمرها. قَوْله: (بِغَيْر أَن يقسط) ، بِضَم الْيَاء، من: الإقساط، وَهُوَ الْعدْل يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط إِذا عدل، وقسط يقسط من بَاب ضرب يضْرب فَهُوَ قاسط إِذا جَار، فَكَأَن الْهمزَة فِي أقسط للسلب، كَمَا يُقَال شكى إِلَيْهِ فأشكاه. قَوْله: (فنهوا) ، بِضَم النُّون وَالْهَاء، لِأَنَّهُ صِيغَة الْمَجْهُول، وَأَصله نهيوا، فنقلت ضمة الْيَاء إِلَى الْهَاء فَالتقى ساكنان، فحذفت الْيَاء فَصَارَ: نهوا، على وزن: فعوا، لِأَن الْمَحْذُوف لَام الْفِعْل. قَوْله: (ثمَّ إِن النَّاس استفتوا) ، أَي: طلبُوا مِنْهُ الْفَتْوَى فِي أَمر النِّسَاء. الْفَتْوَى والفتيا بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الإسم، والمفتي من يبين الْمُشكل من الْكَلَام، وَأَصله من الفتي وَهُوَ الشَّاب الْقوي، فالمفتي يقوى ببيانه مَا أشكل. قَوْله: (بعد هَذِه الْآيَة) ، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ} إِلَى {وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . قَوْله: فَأنْزل الله تَعَالَى: {ويستفتونك فِي النِّسَاء} (النِّسَاء: 721) . أَي: يطْلبُونَ مِنْك الْفَتْوَى فِي أَمر النِّسَاء. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: قَرَأت على مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير، قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: ثمَّ إِن النَّاس استفتوا رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد هَذِه الْآيَة فِيهِنَّ، فَأنْزل الله {ويستفتونك فِي النِّسَاء قل الله يفتيكم فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب} (النِّسَاء: 721) . الْآيَة، قَالَت: وَالَّذِي ذكر الله أَن يُتْلَى عَلَيْهِم فِي الْكتاب الْآيَة الأولى الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فأنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 3) . وَبِهَذَا الْإِسْنَاد عَن عَائِشَة قَالَت: وَقَول الله: {وترغبون أَن تنكحوهن} (النِّسَاء: 721) . رَغْبَة أحدكُم عَن يتيمته الَّتِي تكون فِي حجره حِين تكون قَليلَة المَال ... إِلَى آخر مَا سَاقه البُخَارِيّ وَالْمَقْصُود أَن الرجل إِذا كَانَ فِي حجره يتيمة يحل لَهُ تَزْوِيجهَا، فَتَارَة يرغب فِي أَن يَتَزَوَّجهَا، فَأمره الله تَعَالَى أَن يمهرها أُسْوَة أَمْثَالهَا من النِّسَاء، فَإِن لم يفعل فليعدل إِلَى غَيرهَا من النِّسَاء، فقد وسع الله عز وَجل، وَهَذَا الْمَعْنى فِي الْآيَة الأولى الَّتِي فِي أول السُّورَة، وَتارَة لَا يكون للرجل فِيهَا رَغْبَة لدمامتها عِنْده أَو فِي نفس الإمر، فَنَهَاهُ الله، عز وَجل، أَن يعضلها عَن الْأزْوَاج خشيَة أَن يشركوه فِي مَاله الَّذِي بَينه وَبَينهَا، كَمَا قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: {فِي يتامى النِّسَاء اللَّاتِي لَا تؤتوهن مَا كتب لَهُنَّ وترغبون أَن تنكحوهن} (النِّسَاء:؟ ؟) . فَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يكون عِنْده الْيَتِيمَة فيلقي عَلَيْهَا ثَوْبه، فَإِذا فعل ذَلِك بهَا لم يقدر أحد أَن يَتَزَوَّجهَا أبدا، فَإِن كَانَت جميلَة فَهُوَ بهَا تزَوجهَا وَأكل مَالهَا، وَإِن كَانَت دَمِيمَة منعهَا من الرِّجَال حَتَّى تَمُوت، فَإِذا مَاتَت ورثهَا فَحرم ذَلِك وَنهى عَنهُ. قَوْله: (رَغْبَة أحدكُم بيتيمته) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: عَن يتيمته، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَضَبطه الْحَافِظ الدمياطي هَكَذَا.
8 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الأرَضينَ وغَيْرِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الْأَرْضين وَغَيرهَا، أَي: وَغير الْأَرْضين كَالدَّارِ والبساتين، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن للشركاء فِي الأَرْض وَغَيرهَا الْقِسْمَة مُطلقًا، خلافًا لمن خصها بِالَّتِي ينْتَفع بهَا إِذا قسمت على مَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
5942 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ قَالَ أخْبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ أبي(13/59)
سلَمَةَ عنْ جابِرِ بنِ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ إنَّما جعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (مَا لم يقسم) ، لِأَن هَذَا يشْعر بِأَن مَا لم يقسم يكون بَين الشُّرَكَاء، وَالْقِسْمَة لَا تكون إلاَّ بَينهم، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب شُفْعَة مَا لم يقسم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَهنا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (كل مَا لم يقسم) ، أَي: كل مُشْتَرك لم يقسم من الْأَرَاضِي وَنَحْوهَا.
9 - (بابٌ إِذا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ أوْ غَيْرَها فلَيْسَ لَهُمْ رجوَعٌ وَلَا شُفْعَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اقتسم الشُّرَكَاء الدّور وَغَيرهَا، أَي: غير الدّور، نَحْو: الْبَسَاتِين وَسَائِر العقارات، وَفِي بعض النّسخ: إِذا اقتسموا، نَحْو: أكلوني البراغيث. قَوْله: (فَلَيْسَ لَهُم رُجُوع) جَوَاب: إِذا، لِأَن الْقِسْمَة عقد لَازم فَلَا رُجُوع فِيهَا. قَوْله: (وَلَا شُفْعَة) أَي: وَلَا شُفْعَة فِي الْقِسْمَة، لِأَن الشُّفْعَة فِي الشّركَة لَا فِي الْقِسْمَة لِأَن الشُّفْعَة لَا تكون فِي شَيْء مقسوم عِنْد الْعلمَاء كَافَّة، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمشَاع لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا وَقعت الْحُدُود فَلَا شُفْعَة.
6942 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا معْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيَّ عنْ أبِي سلَمَةَ ابنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَضَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشُّفّعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ..
قيل لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة لِأَن فِي التَّرْجَمَة لُزُوم الْقِسْمَة وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ نفي الشُّفْعَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يلْزم من نفي الشُّفْعَة نفي الرُّجُوع إِذْ لَو كَانَ للشَّرِيك الرُّجُوع لعاد مَا يشفع فِيهِ مشَاعا، فَحِينَئِذٍ تعود الشُّفْعَة. والْحَدِيث مضى الْآن وَفِي: بَاب شُفْعَة مَا لم يقسم، كم ذَكرْنَاهُ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ.
01 - (بابُ الاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ والْفِضَّةِ وَمَا يَكونُ فِيهِ منَ الصَّرْفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاشْتِرَاك فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَهُوَ جَائِز إِذا كَانَ من كل وَاحِد من الْإِثْنَيْنِ دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَالشَّرْط أَن يخلطا المَال حَتَّى يتَمَيَّز ثمَّ يتصرفان جَمِيعًا، وَيُقِيم كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر مقَام نَفسه، وَهَذَا صَحِيح بِلَا خلاف. وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا كَانَ من أَحدهمَا دَنَانِير وَمن الآخر دَرَاهِم، فَقَالَ مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يجوز، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَنَّهُ صرف وَشركَة، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك، وَحكى ابْن أبي زيد خلاف مَالك فِيهِ، وَأَجَازَهُ سَحْنُون، وَأكْثر قَول مَالك: إِنَّه لَا يجوز، وَقَالَ الثَّوْريّ: يجوز أَن يَجْعَل أَحدهمَا دَنَانِير وَالْآخر دَرَاهِم فيخلطانها، وَذَلِكَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد بَاعَ بِنصْف نصِيبه نصف نصيب صَاحبه. قَوْله: (وَمَا يكون فِيهِ من الصّرْف) وَفِي بعض النّسخ: وَمَا يكون فِي الصّرْف بِدُونِ كلمة: من، وَهَذَا مثل التبر وَالدَّرَاهِم المغشوشة، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَصح فِي كل مثلي، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة. وَقيل: يخْتَص بِالنَّقْدِ الْمَضْرُوب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَمَا يكون فِيهِ الصّرْف هُوَ بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَبِالْعَكْسِ، وَسمي بِهِ لصرفه عَن مُقْتَضى الْبياعَات من جَوَاز التَّفَاضُل فِيهِ، وَقيل: من صريفهما، وَهُوَ تصويتهما فِي الْمِيزَان.
8942 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنْ عُثْمَانَ يَعْنِي ابنَ الأسْوَدِ قَالَ أخْبَرني سُلَيْمَانُ بنُ أبِي مُسْلِمٍ قَالَ سألْتُ أبَا الْمِنْهَالِ عنِ الصَّرْفِ يدَاً بِيَدٍ فَقَالَ اشْتَرَيْتُ أَنا وشَريكٌ لي(13/60)
شَيْئاً يدَاً بِيَدٍ ونَسِيئَةٍ فجاءَنا البُراءُ بنُ عازِبٍ فَسَألْناهُ فَقَالَ فَعلْتُ أَنا وشَرِيكي زَيْدُ بن أرْقَمَ فسألْنَا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذالِكَ فَقَالَ مَا كانَ يَداً بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كانَ نَسيئَةً فَذَرُوهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (اشْتريت أَنا وَشريك لي شَيْئا) ، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا الْمنْهَال وشريكه كَانَا يشتريان شَيْئا من الذَّهَب وَالْفِضَّة يدا بيد ونسيئة، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فيهمَا، فسألا عَن حكم ذَلِك لِأَنَّهُ صرف، ثمَّ عملا بِمَا بلغهما من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن مَا كَانَ يدا بيد فَهُوَ جَائِز، وَمَا كَانَ نَسِيئَة فَلَا يجوز.
والْحَدِيث مر فِي أَوَائِل الْبيُوع فِي: بَاب التِّجَارَة فِي الْبر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: الأول: عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن المنهار، وَالْآخر: عَن الْفضل بن يَعْقُوب عَن الْحجَّاج بن مُحَمَّد ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ بن بَحر أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي عَن أبي عَاصِم النَّبِيل، واسْمه: الضَّحَّاك بن مخلد، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا، وروى عَنهُ هُنَا بِوَاسِطَة، وَكَذَلِكَ فِي عدَّة مَوَاضِع يروي عَنهُ بِوَاسِطَة، وَفِي مَوَاضِع يروي عَنهُ بِلَا وَاسِطَة، وَعُثْمَان هُوَ ابْن الْأسود ابْن مُوسَى بن باذان الْمَكِّيّ. وَقَوله: (يَعْنِي: ابْن الْأسود) إِشْعَار مِنْهُ بِأَن شَيْخه لم يقل إلاَّ عُثْمَان فَقَط، وَأما ذكر نسبه فَهُوَ مِنْهُ، وَهَذَا من جملَة الاحتياطات،. وَسليمَان بن أبي مُسلم هُوَ الْأَحول، مر فِي التَّهَجُّد، وَأَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وباللام: عبد الرَّحْمَن.
قَوْله: (شَيْئا يدا بيد ونسيئة) وَلَفظه فِي كتاب الْبيُوع: كنت أتجر فِي الصّرْف. قَوْله: (فَخُذُوهُ) ، بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ: فذروه، بِالْفَاءِ، ويروى: ذروه، بِدُونِ الْفَاء، وَذَلِكَ لِأَن الِاسْم الْمَوْصُول بِالْفِعْلِ المتضمن للشّرط يجوز فِيهِ دُخُول الْفَاء فِي خَبره وَيجوز تَركه. قَوْله: (فذروه) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء، أَي: اتركوه، وَهُوَ من الْأَفْعَال الَّتِي أمات الْعَرَب ماضيها، وَهَذِه هِيَ رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: فَردُّوهُ، بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الدَّال من الرَّد.
وَفِيه: رد مَا لَا يجوز وَهُوَ النَّسِيئَة وَهُوَ التَّأْخِير، فَلَا يجوز شَيْء من الصّرْف نَسِيئَة، وَإِنَّمَا يجوز يدا بيد، وَقد مر.
11 - (بابُ مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ والْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مُشَاركَة الذِّمِّيّ وَالْمُشْرِكين الْمُسلم فِي الْمُزَارعَة. قَوْله: (وَالْمُشْرِكين) من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، على أَن المُرَاد من الْمُشْركين هم المستأمنون، فيكونون فِي معنى أهل الذِّمَّة، وَأما الْمُشرك الْحَرْبِيّ فَلَا تتَصَوَّر الشّركَة بَينه وَبَين الْمُسلم فِي دَار الْإِسْلَام، على مَا لَا يخفى، وَحكمهَا أَنَّهَا تجوز، لِأَن هَذِه الْمُشَاركَة فِي معنى الْإِجَارَة واستئجار أهل الذِّمَّة جَائِز، وَأما مُشَاركَة الذِّمِّيّ مَعَ الْمُسلم فِي غير الْمُزَارعَة فَعِنْدَ مَالك: لَا يجوز إلاَّ أَن يتَصَرَّف الذِّمِّيّ بِحَضْرَة الْمُسلم، أَو يكون الْمُسلم هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى البيع وَالشِّرَاء، لِأَن الذِّمِّيّ قد يتجر فِي الرِّبَا وَالْخمر وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يحل للْمُسلمِ، وَأما أَخذ أَمْوَالهم فِي الْجِزْيَة فللضرورة، إِذْ لَا مَال لَهُم غَيره، وروى مَا قَالَه مَالك عَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَعند أَصْحَابنَا: مُشَاركَة الْمُسلم مَعَ أهل الذِّمَّة فِي شركَة الْمُفَاوضَة لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد. خلافًا لأبي يُوسُف، وَقد عرف فِي مَوْضِعه.
9942 - حدَّثنا موساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أعْطاى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيْبَرَ الْيَهُودَ أنْ يَعْمَلُوها ويَزْرَعُوها ولَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ أَن فِيهِ مُشَاركَة الْيَهُود فِي مُزَارعَة خَيْبَر من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل لَهُم شطر مَا يخرج من الزِّرَاعَة من خَيْبَر، والشطر الْبَاقِي يصرف للْمُسلمين، وَهَؤُلَاء الْيَهُود كَانُوا أهل ذمَّة وأُلحق الْمُشْركُونَ بهم لأَنهم فِي حكم أهل الذِّمَّة لكَوْنهم مستأمنين، كَمَا ذكرنَا. والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَائِل كتاب الْمُزَارعَة فِي مَوَاضِع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَنَذْكُر بعض شَيْء من ذَلِك.
قَوْله: (أَن يعملوها) ، أَي: يزرعوا بَيَاض أرْضهَا، وَلذَلِك سموا الْمُسَاقَاة. وَفِيه: إِثْبَات الْمُسَاقَاة والمزارعة، وَمَالك لَا يُجِيزهُ. قَوْله: (وَلَهُم شطر مَا يخرج مِنْهَا) أَي: من أَرض خَيْبَر الَّتِي يزرعونها.
وَفِيه: دَلِيل على أَن رب الأَرْض وَالشَّجر إِذا بَين حِصَّة نَفسه جَازَ، وَكَانَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ كَمَا لَو بيَّن حِصَّة(13/61)
الْعَامِل، وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء: إِذا سمى حِصَّة نَفسه لم يكن الْبَاقِي لِلْعَامِلِ حَتَّى يُسَمِّي لَهُ حِصَّته، وَاحْتج بِهِ أَحْمد: أَنه إِذا كَانَ الْبذر من عِنْد الْعَامِل جَازَ، وَذهب ابْن أبي ليلى وَأَبُو يُوسُف إِلَى أَنَّهَا جَائِزَة، سَوَاء كَانَ الْبذر من عِنْد الأكار أَو رب الأَرْض. وَقَالَ ابْن التِّين: اسْتدلَّ بِهِ من أجَاز قرض النَّصْرَانِي، وَلَا دَلِيل فِيهِ لِأَنَّهُ قد يعْمل بالربا وَنَحْوه، بِخِلَاف الْمُسلم، وَالْعَمَل فِي النّخل وَالزَّرْع لَا يخْتَلف فِيهِ عمل يَهُودِيّ من نَصْرَانِيّ، وَلَو كَانَ الْمُسلم فَاسِقًا يخْشَى أَن يعْمل بِهِ ذَلِك، كره أَيْضا كالنصراني بل أَشد، وَقَالَ الْمُهلب: وكل مَا لَا يدْخلهُ رَبًّا وَلَا ينْفَرد بِهِ الذِّمِّيّ فَلَا بَأْس بشركة الْمُسلم لَهُ فِيهِ.
21 - (بابُ قِسْمَةِ الْغَنَمِ والْعَدْلِ فِيها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قسْمَة الْغنم وَالْعدْل فِيهَا، أَي: فِي قسْمَة الْغنم.
0052 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يَزيدَ بنِ أبِي حَبِيبٍ عنْ أبِي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَاهُ غنَماً يَقْسِمُها علَى صَحَابَتِهِ وضَحايا فبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكرَهُ لرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ضَحِّ بِهِ أنْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْمَتْن وبعين هَذَا الْإِسْنَاد فِي أول كتاب الْوكَالَة، غير أَن شَيْخه هُنَاكَ عَمْرو بن خَالِد عَن اللَّيْث، وَهنا قُتَيْبَة عَنهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عتود) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: وَهُوَ مَا بلغ الرَّعْي وَقَوي وَبلغ حولا، وَهَذِه الْقِسْمَة يجوز فِيهَا من الْمُسَامحَة والمساهلة مَا لَا يجوز فِي الْقِسْمَة الَّتِي هِيَ تَمْيِيز الْحُقُوق، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا وكل عقبَة على تَفْرِيق الضَّحَايَا على أَصْحَابه، وَلم يعين لأحد مِنْهُم شَيْئا بِعَيْنِه، فَكَانَ تفريقاً موكولاً إِلَى اجْتِهَاد عقبَة، وَكَانَ ذَلِك على سَبِيل التَّطَوُّع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أَنَّهَا كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ لأَصْحَابه، فَلم يكن على عقبَة حرج فِي قسمتهَا وَلَا لزمَه من أحد مِنْهُم ملامة إِن أعطَاهُ دون مَا أعْطى صَاحبه، وَلَيْسَ كَذَلِك الْقِسْمَة بَين حُقُوقهم الْوَاجِبَة، فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَة فِي الْمَقْسُوم، فَهَذِهِ لَا يكون فِيهَا تغابن وَلَا ظلم على أحد مِنْهُم.
وَفِيه: استيمار الْوَكِيل مَا يصنع بِمَا فضل. وَفِيه: التَّفْوِيض إِلَى الْوَكِيل. وَفِيه: قبُول الْعَطِيَّة والتضحية بهَا.
31 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الطَّعامِ وغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الطَّعَام وَغَيره، هُوَ كل مَا يجوز تملكه، وَقَالَ بَعضهم: وَغَيره، أَي: من الْمِثْلِيَّات، وَالَّذِي قُلْنَا هُوَ أَعم وَأحسن، وَجَوَاب التَّرْجَمَة: يجوز ذَلِك، لِأَن الشّركَة بيع من الْبيُوع فَيجوز فِي الطَّعَام وَغَيره، وَكره مَالك الشّركَة فِي الطَّعَام بالتساوي أَيْضا فِي الْكَيْل والجودة، لِأَنَّهُ يخْتَلف فِي الصّفة وَالْقيمَة، وَلَا تجوز الشّركَة إلاَّ على الاسْتوَاء فِي ذَلِك، وَلَا يكَاد أَن يجمع فِيهِ ذَلِك فكرهه، وَلَيْسَ الطَّعَام مثل الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم الَّتِي هِيَ على الاسْتوَاء عِنْد النَّاس. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: تجوز الشّركَة بِالْحِنْطَةِ إِذا اشْتَركَا على الْكَيْل وَلم يشتركا على الْقيمَة، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر الشّركَة بِالطَّعَامِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: تجوز الشّركَة بالقمح وَالزَّيْت لِأَنَّهُمَا يختلطان جَمِيعًا، وَلَا يتَمَيَّز أَحدهمَا من الآخر. وَاخْتلفُوا فِي الشّركَة بالعروض، فجوزها مَالك وَابْن أبي ليلى، ومنعها الثَّوْريّ والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا تجوز الشّركَة فِي كل مَا يرجع فِي حَال المفاضلة إِلَى الْقيمَة إلاَّ أَن يَبِيع نصف عرضه بِنصْف عرض الآخر ويتقابضان.
ويُذْكَرُ أنَّ رَجُلاً ساوَمَ شَيْئاً فغَمَزَهُ آخَرُ فَرَأى عُمَرُ أنَّ لَهُ شَرِكَةً
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، فَرَأى عمر، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: فَرَأى ابْن عمر، وَالْأول أصح، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَن عمر أبْصر رجلا يساوم سلْعَة وَعِنْده رجل، فغمزه حَتَّى اشْتَرَاهَا، فَرَأى عمر أَنَّهَا شركَة، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ لَا يشْتَرط للشَّرِكَة صِيغَة ويكتفي فِيهَا بِالْإِشَارَةِ إِذا ظَهرت الْقَرِينَة، وَهُوَ قَول مَالك، وَعَن(13/62)
مَالك أَيْضا فِي السّلْعَة تعرض للْبيع فيقف من يَشْتَرِيهَا للتِّجَارَة، فَإِذا اشْتَرَاهَا وَاحِد مِنْهُم واستشركه الآخر لزمَه أَن يشركهُ لِأَنَّهُ انْتفع بترك الزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذا غمزه أَو سكت فسكوته رضَا بِالشّركَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُ أَن يَقُول: لَا أشركك، فيزيد عَلَيْهِ، فَلَمَّا سكت كَانَ ذَلِك رضَا، وَقَالَ ابْن حبيب: ذَلِك لتجار تِلْكَ السّلْعَة خَاصَّة، كَأَن يَشْتَرِيهَا فِي الأول من أهل تِلْكَ التِّجَارَة أَو غَيرهم. قَالَ: وَرُوِيَ أَن عمر قضى بِمثل ذَلِك. قَالَ: وكل مَا اشْتَرَاهُ لغير تِجَارَة، فَسَأَلَهُ رجل أَن يشركهُ وَهُوَ يَشْتَرِي، فَلَا تلْزمهُ الشّركَة، وَإِن كَانَ الَّذِي استشركه من أهل التِّجَارَة، وَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي مَعَ يَمِينه إِن شراه ذَلِك لغير التِّجَارَة. قَالَ: وَمَا اشْتَرَاهُ الرجل من تِجَارَته فِي حانوته أَو بَيته فَوقف بِهِ نَاس من أهل تِجَارَته فاستشركوه، فَإِن الشّركَة لَا تلْزمهُ. وَنقل ابْن التِّين عَن مَالك فِي رِوَايَة أَشهب فِيمَن يبْتَاع سلْعَة وَقوم وقُوف، فَإِذا تمّ البيع سَأَلُوهُ الشّركَة، فَقَالَ: أما الطَّعَام فَنعم، وَأما الْحَيَوَان فَمَا علمت ذَلِك فِيهِ، زَاد فِي (الْوَاضِحَة) : وَإِنَّمَا رَأَيْت ذَلِك خوفًا أَن يفْسد بَعضهم على بعض إِذا لم يقْض لَهُم بذلك، وَقَالَ أصبغ: الشّركَة بَينهم فِي جَمِيع السّلع من الْأَطْعِمَة وَالْعرُوض والدقيق وَالْحَيَوَان وَالثيَاب، وَاخْتلف فِيمَن حضرها من لَيْسَ من أهل سوقها وَلَا من يتجر بهَا، فَقَالَ مَالك وَأصبغ: لَا شركَة لَهُم، وَقَالَ أَشهب: نعم.
2052 - حدَّثنا أصْبَغُ بنُ الْفَرَجِ قَالَ أخْبَرَني عبْدُ الله بنُ وهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي سعيدٌ عنْ زُهْرَةٍ ابنِ مَعْبَدٍ عنْ جَدِّهِ عبْدِ الله بنِ هِشامٍ وكانَ قدْ أدْرَكَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسولَ الله بايِعْهُ فَقَالَ هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ ودَعا لَهُ. وعنْ زُهْرَةَ بنِ مَعْبَدٍ أنَّهُ كانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عبْدُ الله بنُ هِشَامً إلَى السُّوقِ فيَشْتَرِي الطَّعامَ فَيلْقَاهُ ابنُ عُمَرَ وابنُ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ فَيَقُولانِ لَهُ أشْرِكْنا فإنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدْ دَعا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيُشْرِكُهُمْ فَرُبَّما أصابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ فيَبْعَثُ بِها إِلَى المَنْزِلِ.
(الحَدِيث 1052 طرفه فِي: 0127) . (الحَدِيث 2052 طرفه فِي: 3536) .
هَذَا الحَدِيث إِلَى آخر الْبَاب حَدِيث وَاحِد غير أَنه ذكر بعد قَوْله: (وَعَن زهرَة بن معبد) وَهُوَ أَيْضا مَوْصُول بالسند الأول، والمطابقة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَيَقُولَانِ لَهُ: أشركنا) إِلَى آخِره
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أصبغ بن الْفرج، بِالْجِيم، أَبُو عبد الله، مر فِي الْوضُوء. الثَّانِي: عبد الله بن وهب بن مُسلم أَبُو مُحَمَّد. الثَّالِث: سعيد هُوَ ابْن أبي أَيُّوب الْخُزَاعِيّ، واسْمه أَبُو أَيُّوب مِقْلَاص. الرَّابِع: زهرَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث ابْن معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن هِشَام أَو عقيل، بِفَتْح الْعين. الْخَامِس: جده عبد الله بن هِشَام بن زهرَة التَّيْمِيّ، من بني عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة رَهْط أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِشَام مَاتَ قبل الْفَتْح كَافِرًا، وَقد شهد عبد الله بن هِشَام فتح مصر فاختط بهَا، ذكره ابْن يُونُس وَغَيره، وعاش إِلَى خلَافَة مُعَاوِيَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مصريون. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن عبد الله بن هِشَام أَيْضا من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده. وَفِيه: سعيد ذكر مُجَردا عَن نسبه، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: سعيد هُوَ ابْن أبي أَيُّوب. وَفِيه: عَن زهرَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من رِوَايَة الْمقري: حَدثنِي سعيد حَدثنِي أَبُو عقيل زهرَة بن معبد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عبد الله عَن ابْن وهب وَفِي الشّركَة أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله عَن عبد الله بن يزِيد عَن سعيد بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي (الْخراج) عَن عبيد الله بن عمر القواريري عَن عبد الله بن يزِيد الْمقري عَن سعيد بِهِ، وَلم يقل: ودعا لَهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَكَانَ قد أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ذكر ابْن مَنْدَه أَنه أدْرك(13/63)
من حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سِتّ سِنِين. قَوْله: (وَذَهَبت بِهِ أمه زَيْنَب بنت حميد) ، بِضَم الْحَاء: ابْن زُهَيْر بن الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، وَهِي من الصحابيات. قَوْله: (بَايعه) أَمر من الْمُبَايعَة، وَهِي المعاقدة على الْإِسْلَام، كَأَن كل وَاحِد من الْمُبَايِعين بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره، وَعلل، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لترك الْمُبَايعَة بقوله: هُوَ صَغِير، وَلكنه مسح رَأسه ودعا لَهُ. قَوْله: (وَعَن زهرَة) ، قد ذكرنَا أَنه مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَيَقُولَانِ لَهُ) ، أَي: يَقُول ابْن عمر وَابْن الزبير لعبد الله بن هِشَام: أشركنا، بِفَتْح الْهمزَة يَعْنِي: إجعلنا شَرِيكَيْنِ لَك فِي الطَّعَام الَّذِي اشْتَرَيْته. قَوْله: (فيشركهم) ، بِضَم الْيَاء، أَي: فيجعلهم شُرَكَاء مَعَه فِيمَا اشْتَرَاهُ. قَوْله: (فَرُبمَا أصَاب الرَّاحِلَة) ، أَي: من الرِّبْح. قَوْله: (كَمَا هِيَ) ، أَي: بِتَمَامِهَا.
وَفِيه من الْفَوَائِد: مسح رَأس الصَّغِير. وَفِيه: ترك مبايعة من لم يبلغ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَكَانَ يُبَايع الْمُرَاهق الَّذِي يُطيق الْقِتَال. وَفِيه: الدُّخُول فِي السُّوق لطلب المعاش وَطلب الْبركَة حَيْثُ كَانَت. وَفِيه: الرَّد على جهلة المتزهدة فِي اعْتِقَادهم أَن السعَة من الْحَلَال مذمومة، نبه عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ. وَفِيه: أَن الصَّغِير إِذا عقل شَيْئا من الشَّارِع كَانَ ذَلِك صُحْبَة، قَالَه الدَّاودِيّ. وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ نظر. وَفِيه: أَن النِّسَاء كن يذْهبن بالأطفال إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: طلب التِّجَارَة وسؤال الشّركَة. وَفِيه: معْجزَة من معجزات النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي: إِجَابَة دُعَائِهِ فِي عبد الله بن هِشَام. وَفِيه: أَن لفظ: أَشْرَكتك، إِذا أطلق يكون تشريكاً فِي النّصْف، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَه الْفُقَهَاء.
قالَ أبُو عَبْدِ الله إِذا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أشْرِكْنِي فإذَا سَكَتَ فَهْوَ شَرِيكُهُ بالْنِّصْفِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه أَرَادَ أَنه إِذا رأى رجل رجلا يَشْتَرِي شَيْئا فَقَالَ لَهُ: أشركني فِيمَا اشْتَرَيْته، فَسكت الرجل وَلم يرد عَلَيْهِ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، يكون شَرِيكا لَهُ بِالنِّصْفِ، لِأَن سُكُوته يدل على الرِّضَا.
41 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الرَّقِيق، قَالَ ابْن الْأَثِير: الرَّقِيق الْمَمْلُوك فعيل بِمَعْنى مفعول، وَقد يُطلق على الْجَمَاعَة، تَقول: رق العَبْد وأرقه واسترقه. وَفِي (الْمغرب) : الرَّقِيق العَبْد، وَقد يُقَال للعبيد وَمِنْه هَؤُلَاءِ: رقيقي، ورق العَبْد رقا: صَار رَقِيقا، واسترقه اتَّخذهُ رَقِيقا.
3052 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنُ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وجَبَ علَيْهِ أنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إنْ كانَ لَهُ مالٌ قدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ ويُعْطاى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ ويُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من أعتق شركا لَهُ) لِأَن الاعتاق يبْنى على صِحَة الْملك، فَلَو لم تكن الشّركَة فِي الرَّقِيق صَحِيحَة لما ترَتّب عَلَيْهَا صِحَة الْعتْق، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء بِقِيمَة عدل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عمرَان بن ميسرَة عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب عَن نَافِع، وَقد ذكر هُنَاكَ من أخرجه غَيره، وَالْبُخَارِيّ أخرج حَدِيث ابْن عمر فِي الْعتْق من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة. قَوْله: (وَجب عَلَيْهِ أَن يعْتق كُله إِن كَانَ لَهُ مَال) ، بِهِ تعلق الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق: أَن الضَّمَان لَا يجب على أحد الشَّرِيكَيْنِ للْآخر لقيمة نصِيبه إِلَّا إِذا كَانَ مُوسِرًا. قَوْله: (سَبِيل الْمُعْتق) ، بِفَتْح التَّاء وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
4052 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حازِمٍ عنْ قَتادَةَ عنِ النَّضْرِ بنِ أنَسٍ عنْ بَشيرِ ابنِ نَهِيكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شِقْصاً لَهُ فِي عَبْدٍ(13/64)
أُعْتِقَ كلُّهُ إنْ كانَ لَهُ مَالٌ وإلاَّ يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ علَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مقل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء، عَن قريب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَمَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثين الْمَذْكُورين. قَوْله: (يستسع) ، وَفِي رِوَايَة: يستسعى، بإشباع الْعين بِالْألف، وَفِي أُخْرَى استسعى على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَالله أعلم.
51 - (بابُ الإشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ والْبُدْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي، بِسُكُون الدَّال وَهُوَ مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم. قَوْله: (وَالْبدن) ، من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَهُوَ بِضَم الْبَاء وَسُكُون الدَّال: جمع بَدَنَة.
وإذَا أشْرَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي هَدْيِهِ بعْدَ مَا أهْدَى
جَوَاب إِذا مُقَدّر تَقْدِيره: هَل يجوز ذَلِك؟ وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام يعلم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: وأشركه فِي الْهَدْي، وَفِي بعض النّسخ: وَإِذا أشرك الرجل رجلا، وَهَذَا أوجه.
حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ أخبرَنا عبْدُ المَلِكِ بنُ جُرَيْجٍ عنْ عطاءٍ عنْ جابرٍ وعنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُبْحَ رابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهلِّينَ بالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُمْ شَيْءٌ فلَمَّا قَدِمْنا أمَرَنا فجَعَلْناها عُمْرَةً وأنْ نَحِلَّ إلَى نِسَائِنا فَفَشَتْ فِي ذالِكَ الْقالَةُ قَالَ عَطاءٌ فَقَالَ جابِرٌ فَيرُوحُ أحَدُنا إِلَى مِنًى وذكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيّاً فَقَالَ جابِرٌ يَكُفُّهُ فبَلَغَ ذَلِك النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقامَ خَطِيباً فقالَ بلَغَنِي أنَّ أقْوامَاً يَقولونَ كذَا وكذَا وَالله لأَنا أبَرُّ وأتْقاى لله مِنْهُمْ ولَوْ أنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْري مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ ولَوْلا أنَّ مَعي الْهَدْيَ لأحْلَلْتُ فقامَ سُراقَةُ بنُ مالِكِ بنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رسولَ الله هِيَ لَنا أوْ لِلَأَبَدِ فَقَالَ لَا بَلْ لِلْأَبَدِ قَالَ وجاءَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ فَقَالَ أحَدُهُما يقولُ لَبَّيْكَ بمَا أهَلَّ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الآخَرُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقِيمَ عَلَى إحْرَامِهِ وأشْرَكَهُ فِي الْهَدْيِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأشركه فِي الْهَدْي) ، وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَحَدِيث جَابر مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب تقضي الْحَائِض الْمَنَاسِك، وَبَينهمَا اخْتِلَاف فِي الروَاة وَزِيَادَة ونقصان فِي الْمَتْن، وَمضى أَكثر الْكَلَام فِي هَذَا هُنَاكَ.
قَوْله: (وَعَن طَاوُوس) عطف على قَوْله: عَطاء، لِأَن ابْن جريرج سمع مِنْهُمَا. قَوْله: (قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَكَّة. قَوْله: (صبح رَابِعَة) أَي: فِي صَبِيحَة لَيْلَة رَابِعَة، قَالَ الدَّاودِيّ: اخْتلف فِيهِ، وَكَانَ خُرُوجه من الْمَدِينَة لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة. قَوْله: (مهلين) أَي: محرمين، وانتصابه على الْحَال، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار أَن قدوم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُسْتَلْزم لقدوم أَصْحَابه مَعَه، ويروى: محرمون، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم محرمون. قَوْله: (لَا يخلطهم شَيْء) أَي: من الْعمرَة، ويروى: لَا يخلطه، فَفِي الأول الضَّمِير يرجع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه الَّذين مَعَه، وَفِي الثَّانِي: يرجع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَفِيه: دلَالَة وَاضِحَة على الْإِفْرَاد. قلت: لَا يدل على ذَلِك، لِأَن معنى: لَا يخلطه شَيْء، يَعْنِي وَقت الْإِحْرَام، وَكَذَلِكَ معنى قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وأهلَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحَجِّ مُفردا أَنه لم يعْتَمر فِي وَقت إِحْرَامه بِالْحَجِّ، لكنه اعْتَمر بعد ذَلِك. قَوْله: (فَلَمَّا قدمنَا)(13/65)
أَي: مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى. قَوْله: (أمرنَا) ، أَي: أمرنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فجعلناها عمْرَة) ، أَي: فَجعلنَا تِلْكَ الفعلة من الْحَج عمْرَة، أَي: صرنا متمتعين. قَوْله: (ففشت) أَي: فشاعت وانتشرت، من الفشو: بِالْفَاءِ والشين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (فِي ذَلِك) ، أَي: فِي فعلهم الْعمرَة بعد الْحَج. قَوْله: (القالة) ، بِالْقَافِ وَاللَّام ويروى: الْمقَالة بِالْمِيم قبل الْقَاف، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَأَرَادَ بِهِ مقَالَة النَّاس، وَذَلِكَ لما كَانَ فِي اعْتِقَادهم أَن الْعمرَة لَا تصح فِي أشهر الْحَج، وَكَانُوا يرَوْنَ الْعمرَة فِيهَا فجوراً. قَوْله: (قَالَ عَطاء) ، هُوَ الرَّاوِي عَن جَابر، وَهُوَ عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: (وَذكره يقطر منياً) هَذَا كِنَايَة عَن قرب الْعَهْد بِالْوَطْءِ، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (قَالَ جَابر: يكفه) أَرَادَ أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى التقطر، أَي: قَالَ جَابر: قَوْله: (ذَلِك) وَالْحَال أَنه يكفه من كف يكف أَي: منع، ويروى: بكفه، بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة، دخلت على الْكَفّ الَّذِي هُوَ الْعُضْو الْمَعْرُوف. قَوْله: (فَبلغ ذَلِك) أَي: مَا صدر مِنْهُم من القَوْل. قَوْله: (خَطِيبًا) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (لأَنا) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة وَهِي لَام التوكيد دخلت على الْمُبْتَدَأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (أبر) ، وَهُوَ أفعل التَّفْضِيل من الْبر وَهُوَ الْخَيْر وَالْإِحْسَان (وَاتَّقَى) كَذَلِك أفعل التَّفْضِيل من التَّقْوَى. قَوْله: (وَلَو أَنِّي اسْتقْبلت من أَمْرِي) أَي: لَو عرفت فِي أول الْحَال مَا عرفت آخرا من جَوَاز الْعمرَة فِي أشهر الْحَج (لما أهديت) أَي: لَكُنْت مُتَمَتِّعا إِرَادَة لمُخَالفَة أهل الْجَاهِلِيَّة، وَلَوْلَا أَنِّي معي الْهَدْي لأحللت من الْإِحْرَام، وَلَكِن امْتنع الْإِحْلَال لصَاحب الْهَدْي وَهُوَ الْمُفْرد أَو الْقَارِن حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، وَذَلِكَ فِي أَيَّام النَّحْر لَا قبلهَا، وَقد احْتج بِهِ من يَقُول: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مُفردا وَأَنه أفضل، وَهَذَا الِاحْتِجَاج غير صَحِيح لِأَن الْهَدْي لَا يمْنَع الْمُفْرد من الْإِحْلَال وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَحَلَّل، فَدلَّ على أَنه كَانَ مُتَمَتِّعا وَفِي (الاستذكار) : لَا يَصح عندنَا أَن يكون مُتَمَتِّعا إِلَّا تمتّع قرَان، لِأَنَّهُ لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحل من عمرته، وَأقَام محرما من أجل هَدْيه إِلَى النَّحْر، وَهَذَا حكم الْقَارِن لَا الْمُتَمَتّع. قَوْله: (فَقَامَ سراقَة) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَالْقَاف: ابْن مَالك بن جعْشم، بِضَم الْجِيم والشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة بَينهمَا وَفِي آخِره مِيم: المدلجي من مُدْلِج بن مرّة بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، يكنى أَبَا سُفْيَان من مشاهير الصَّحَابَة، كَانَ ينزل قديداً وَقيل: إِنَّه سكن مَكَّة. قَوْله: (هِيَ) ، أَي: الْعمرَة فِي أشهر الْحَج أَو الْمُتْعَة. قَوْله: (لَا بل لِلْأَبَد) أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تَقول، بل هِيَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة مَا دَامَ الْإِسْلَام. قَوْله: (وَجَاء عَليّ بن أبي طَالب) ، أَي: من الْيمن، قَالَ ابْن بطال فِي (الْمَغَازِي) للْبُخَارِيّ: عَن بُرَيْدَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بعث عليا إِلَى الْيمن قبل حجَّة الْوَدَاع ليقْبض الْخمس، فَقدم من سعايته، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بِمَا أَهلَلْت يَا عَليّ؟) قَالَ: بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (فاهدِ وامكث حَرَامًا كَمَا كنت) ، قَالَ: فأهدى لَهُ عَليّ هَديا، قَالَ: فَهَذَا تَفْسِير قَوْله: (وأشركه فِي الْهَدْي) أَن الْهَدْي الَّذِي أهداه عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجعل لَهُ ثَوَابه فَيحْتَمل أَن يفرده بِثَوَاب ذَلِك الْهَدْي، كُله فَهُوَ شريك لَهُ فِي هَدْيه لِأَنَّهُ أهداه عَنهُ تَطَوّعا من مَاله، وَيحْتَمل أَن يشركهُ فِي ثَوَاب هدي وَاحِد يكون بَينهمَا، كَمَا ضحى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَعَن أهل بَيته بكبش، وَعَمن لم يضح من أمته وأشركهم فِي ثَوَابه، وَيجوز الِاشْتِرَاك فِي هدي التَّطَوُّع. وَقَالَ القَاضِي: عِنْدِي أَنه لم يكن شَرِيكا حَقِيقَة بل أعطَاهُ نذرا يذبحه، وَالظَّاهِر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر الْبدن الَّتِي جَاءَت مَعَه من الْمَدِينَة وَأعْطى عليا من الْبدن الَّتِي جَاءَ بهَا من الْيمن. قَوْله: (فَقَالَ أَحدهمَا) ، أَي: أحد الراويين من عَطاء وطاووس وَقَالَ بِلَفْظ: أَحدهمَا، لِأَن الرَّاوِي لم يكن عَالما بِالتَّعْيِينِ، لَكِن روى عَطاء عَن جَابر فِي: بَاب تقضي الْحَائِض الْمَنَاسِك، أَنه قَالَ: أَهلَلْت بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فامر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي أَمر عليا رَضِي الله عَنهُ أَن يُقيم أَي يثبت على إِحْرَامه قَوْله (وأشركه) أَي: أشرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا فِي الْهَدْي، وَقد ذكرنَا وَجهه الْآن.
51 - (بابُ الإشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ والْبُدْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي، بِسُكُون الدَّال وَهُوَ مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم. قَوْله: (وَالْبدن) ، من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَهُوَ بِضَم الْبَاء وَسُكُون الدَّال: جمع بَدَنَة.
وإذَا أشْرَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي هَدْيِهِ بعْدَ مَا أهْدَى
جَوَاب إِذا مُقَدّر تَقْدِيره: هَل يجوز ذَلِك؟ وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام يعلم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: وأشركه فِي الْهَدْي، وَفِي بعض النّسخ: وَإِذا أشرك الرجل رجلا، وَهَذَا أوجه.
حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ أخبرَنا عبْدُ المَلِكِ بنُ جُرَيْجٍ عنْ عطاءٍ عنْ جابرٍ وعنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُبْحَ رابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهلِّينَ بالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُمْ شَيْءٌ فلَمَّا قَدِمْنا أمَرَنا فجَعَلْناها عُمْرَةً وأنْ نَحِلَّ إلَى نِسَائِنا فَفَشَتْ فِي ذالِكَ الْقالَةُ قَالَ عَطاءٌ فَقَالَ جابِرٌ فَيرُوحُ أحَدُنا إِلَى مِنًى وذكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيّاً فَقَالَ جابِرٌ يَكُفُّهُ فبَلَغَ ذَلِك النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقامَ خَطِيباً فقالَ بلَغَنِي أنَّ أقْوامَاً يَقولونَ كذَا وكذَا وَالله لأَنا أبَرُّ وأتْقاى لله مِنْهُمْ ولَوْ أنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْري مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ ولَوْلا أنَّ مَعي الْهَدْيَ لأحْلَلْتُ فقامَ سُراقَةُ بنُ مالِكِ بنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رسولَ الله هِيَ لَنا أوْ لِلَأَبَدِ فَقَالَ لَا بَلْ لِلْأَبَدِ قَالَ وجاءَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ فَقَالَ أحَدُهُما يقولُ لَبَّيْكَ بمَا أهَلَّ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الآخَرُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقِيمَ عَلَى إحْرَامِهِ وأشْرَكَهُ فِي الْهَدْيِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأشركه فِي الْهَدْي) ، وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَحَدِيث جَابر مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب تقضي الْحَائِض الْمَنَاسِك، وَبَينهمَا اخْتِلَاف فِي الروَاة وَزِيَادَة ونقصان فِي الْمَتْن، وَمضى أَكثر الْكَلَام فِي هَذَا هُنَاكَ.
قَوْله: (وَعَن طَاوُوس) عطف على قَوْله: عَطاء، لِأَن ابْن جريرج سمع مِنْهُمَا. قَوْله: (قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَكَّة. قَوْله: (صبح رَابِعَة) أَي: فِي صَبِيحَة لَيْلَة رَابِعَة، قَالَ الدَّاودِيّ: اخْتلف فِيهِ، وَكَانَ خُرُوجه من الْمَدِينَة لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة. قَوْله: (مهلين) أَي: محرمين، وانتصابه على الْحَال، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار أَن قدوم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُسْتَلْزم لقدوم أَصْحَابه مَعَه، ويروى: محرمون، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم محرمون. قَوْله: (لَا يخلطهم شَيْء) أَي: من الْعمرَة، ويروى: لَا يخلطه، فَفِي الأول الضَّمِير يرجع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه الَّذين مَعَه، وَفِي الثَّانِي: يرجع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَفِيه: دلَالَة وَاضِحَة على الْإِفْرَاد. قلت: لَا يدل على ذَلِك، لِأَن معنى: لَا يخلطه شَيْء، يَعْنِي وَقت الْإِحْرَام، وَكَذَلِكَ معنى قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وأهلَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحَجِّ مُفردا أَنه لم يعْتَمر فِي وَقت إِحْرَامه بِالْحَجِّ، لكنه اعْتَمر بعد ذَلِك. قَوْله: (فَلَمَّا قدمنَا) أَي: مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى. قَوْله: (أمرنَا) ، أَي: أمرنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فجعلناها عمْرَة) ، أَي: فَجعلنَا تِلْكَ الفعلة من الْحَج عمْرَة، أَي: صرنا متمتعين. قَوْله: (ففشت) أَي: فشاعت وانتشرت، من الفشو: بِالْفَاءِ والشين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (فِي ذَلِك) ، أَي: فِي فعلهم الْعمرَة بعد الْحَج. قَوْله: (القالة) ، بِالْقَافِ وَاللَّام ويروى: الْمقَالة بِالْمِيم قبل الْقَاف، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَأَرَادَ بِهِ مقَالَة النَّاس، وَذَلِكَ لما كَانَ فِي اعْتِقَادهم أَن الْعمرَة لَا تصح فِي أشهر الْحَج، وَكَانُوا يرَوْنَ الْعمرَة فِيهَا فجوراً. قَوْله: (قَالَ عَطاء) ، هُوَ الرَّاوِي عَن جَابر، وَهُوَ عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: (وَذكره يقطر منياً) هَذَا كِنَايَة عَن قرب الْعَهْد بِالْوَطْءِ، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (قَالَ جَابر: يكفه) أَرَادَ أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى التقطر، أَي: قَالَ جَابر: قَوْله: (ذَلِك) وَالْحَال أَنه يكفه من كف يكف أَي: منع، ويروى: بكفه، بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة، دخلت على الْكَفّ الَّذِي هُوَ الْعُضْو الْمَعْرُوف. قَوْله: (فَبلغ ذَلِك) أَي: مَا صدر مِنْهُم من القَوْل. قَوْله: (خَطِيبًا) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (لأَنا) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة وَهِي لَام التوكيد دخلت على الْمُبْتَدَأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (أبر) ، وَهُوَ أفعل التَّفْضِيل من الْبر وَهُوَ الْخَيْر وَالْإِحْسَان (وَاتَّقَى) كَذَلِك أفعل التَّفْضِيل من التَّقْوَى. قَوْله: (وَلَو أَنِّي اسْتقْبلت من أَمْرِي) أَي: لَو عرفت فِي أول الْحَال مَا عرفت آخرا من جَوَاز الْعمرَة فِي أشهر الْحَج (لما أهديت) أَي: لَكُنْت مُتَمَتِّعا إِرَادَة لمُخَالفَة أهل الْجَاهِلِيَّة، وَلَوْلَا أَنِّي معي الْهَدْي لأحللت من الْإِحْرَام، وَلَكِن امْتنع الْإِحْلَال لصَاحب الْهَدْي وَهُوَ الْمُفْرد أَو الْقَارِن حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، وَذَلِكَ فِي أَيَّام النَّحْر لَا قبلهَا، وَقد احْتج بِهِ من يَقُول: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مُفردا وَأَنه أفضل، وَهَذَا الِاحْتِجَاج غير صَحِيح لِأَن الْهَدْي لَا يمْنَع الْمُفْرد من الْإِحْلَال وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَحَلَّل، فَدلَّ على أَنه كَانَ مُتَمَتِّعا وَفِي (الاستذكار) : لَا يَصح عندنَا أَن يكون مُتَمَتِّعا إِلَّا تمتّع قرَان، لِأَنَّهُ لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحل من عمرته، وَأقَام محرما من أجل هَدْيه إِلَى النَّحْر، وَهَذَا حكم الْقَارِن لَا الْمُتَمَتّع. قَوْله: (فَقَامَ سراقَة) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَالْقَاف: ابْن مَالك بن جعْشم، بِضَم الْجِيم والشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة بَينهمَا وَفِي آخِره مِيم: المدلجي من مُدْلِج بن مرّة بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، يكنى أَبَا سُفْيَان من مشاهير الصَّحَابَة، كَانَ ينزل قديداً وَقيل: إِنَّه سكن مَكَّة. قَوْله: (هِيَ) ، أَي: الْعمرَة فِي أشهر الْحَج أَو الْمُتْعَة. قَوْله: (لَا بل لِلْأَبَد) أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تَقول، بل هِيَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة مَا دَامَ الْإِسْلَام. قَوْله: (وَجَاء عَليّ بن أبي طَالب) ، أَي: من الْيمن، قَالَ ابْن بطال فِي (الْمَغَازِي) للْبُخَارِيّ: عَن بُرَيْدَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بعث عليا إِلَى الْيمن قبل حجَّة الْوَدَاع ليقْبض الْخمس، فَقدم من سعايته، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بِمَا أَهلَلْت يَا عَليّ؟) قَالَ: بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (فاهدِ وامكث حَرَامًا كَمَا كنت) ، قَالَ: فأهدى لَهُ عَليّ هَديا، قَالَ: فَهَذَا تَفْسِير قَوْله: (وأشركه فِي الْهَدْي) أَن الْهَدْي الَّذِي أهداه عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجعل لَهُ ثَوَابه فَيحْتَمل أَن يفرده بِثَوَاب ذَلِك الْهَدْي، كُله فَهُوَ شريك لَهُ فِي هَدْيه لِأَنَّهُ أهداه عَنهُ تَطَوّعا من مَاله، وَيحْتَمل أَن يشركهُ فِي ثَوَاب هدي وَاحِد يكون بَينهمَا، كَمَا ضحى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَعَن أهل بَيته بكبش، وَعَمن لم يضح من أمته وأشركهم فِي ثَوَابه، وَيجوز الِاشْتِرَاك فِي هدي التَّطَوُّع. وَقَالَ القَاضِي: عِنْدِي أَنه لم يكن شَرِيكا حَقِيقَة بل أعطَاهُ نذرا يذبحه، وَالظَّاهِر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر الْبدن الَّتِي جَاءَت مَعَه من الْمَدِينَة وَأعْطى عليا من الْبدن الَّتِي جَاءَ بهَا من الْيمن. قَوْله: (فَقَالَ أَحدهمَا) ، أَي: أحد الراويين من عَطاء وطاووس وَقَالَ بِلَفْظ: أَحدهمَا، لِأَن الرَّاوِي لم يكن عَالما بِالتَّعْيِينِ، لَكِن روى عَطاء عَن جَابر فِي: بَاب تقضي الْحَائِض الْمَنَاسِك، أَنه قَالَ: أَهلَلْت بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فامر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي أَمر عليا رَضِي الله عَنهُ أَن يُقيم أَي يثبت على إِحْرَامه قَوْله (وأشركه) أَي: أشرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا فِي الْهَدْي، وَقد ذكرنَا وَجهه الْآن.
61 - (بابُ منْ عَدَلَ عَشْرَاً مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي الْقَسْمَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من عدل من الْغنم بجزور، بِفَتْح الْجِيم وَضم الزَّاي، أَي: بعير، فِي الْقسم، بِفَتْح الْقَاف قيد بِهِ احْتِرَازًا عَن الْأُضْحِية فَإِن فِيهَا يعدل سَبْعَة بجزور نظرا إِلَى الْغَالِب، وَأما يَوْم الْقسم فَكَانَ النّظر فِيهِ إِلَى الْقيمَة الْحَاضِرَة فِي ذَلِك الزَّمَان وَذَلِكَ الْمَكَان.(13/66)
7052 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا وَكِيعٌ عنْ سُفْيان عنْ أبِيهِ عنْ عَبَايَةَ بنِ رِفاعَةَ عنْ جَدِّهِ رَافع بنِ خَدِيجٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فأصَبْنَا غَنَماً وإبِلاً فَعَجِلَ الْقَوْمُ فأغلَوْا بِها القُدُورَ فَجاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ بِها فاكْفِئَتْ ثُمَّ عدَلَ عَشْرَاً مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ ثمَّ إنَّ بَعِيرًا مِنْهَا نَدَّ ولَيْسَ فِي الْقَوْمِ إلاَّ خَيْلٌ يَسيرَةٌ فرَماهُ رَجلٌ فَحَبَسَهُ بِسَهْمٍ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ لِهاذِهِ الْبَهَائِمِ أوَابِدَ كأوَابِدِ الْوَحْشِ فَما غَلَبَكُمْ مِنْها فاصْنَعِوا بِهِ هاكَذًّ قَالَ قَالَ جَدِّي يَا رسولَ الله إنَّا نَرْجُو أوْ نَخافُ أنْ نَلْقَى العَدُوَّ ولَيْسَ مَعَنا مُدًى أفَنَذْبَحُ بالْقصَبِ فَقَالَ اعْجَلْ أوْ أرْنِي مَا أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله علَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ والظُّفْرَ وسَأُحَدِّثُكُمْ عنْ ذالِكَ أمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وأمًّا الظُّفْرُ فَمُداى الحَبَشَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ عدل عشرا من الْغنم بجزور) ، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب قسْمَة الْغنم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن الحكم الْأنْصَارِيّ عَن أبي عوَانَة عَن سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد وَلم ينْسب هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن شبويه: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام عَن وَكِيع عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أَبِيه سعيد ابْن مَسْرُوق عَن عَبَايَة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (أَو أَرَانِي) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر النُّون بِزِيَادَة الْيَاء الْحَاصِلَة من إشباع كسرة النُّون، ويروى: أرن، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء وَسُكُون النُّون. قَالَ الْخطابِيّ: صَوَابه: أرن، على وزن: اعجل، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ من أرن يأرن: إِذا نشط وخف، أَي: أعجل ذَبحهَا لِئَلَّا تَمُوت خنقاً، فَإِن الذّبْح إِذا كَانَ بِغَيْر حَدِيد احْتَاجَ صَاحبه إِلَى خفَّة يَد وَسُرْعَة. قَالَ: وَقد يكون على وزن: أعطِ، يَعْنِي: أَدَم الْقطع وَلَا تفتر، من قَوْلهم: رنوت إِذا أدمت النّظر، وَالصَّحِيح أَنه بِمَعْنى أعجل، وَأَنه شكّ من الرَّاوِي هَل قَالَ: أعجل أَو أرنِ. وَقَالَ التوربشتي: هِيَ كلمة تسْتَعْمل فِي الاستعجال وَطلب الخفة، وأصل الْكَلِمَة كسر الرَّاء وَمِنْهُم من يسكنهَا وَمِنْهُم من يحذف يَاء الْإِضَافَة مِنْهَا لِأَن كسرة النُّون تدل عَلَيْهَا. قَالَ الْكرْمَانِي: بَيَان كَونه يَاء الْإِضَافَة مُشكل إِذْ الظَّاهِر أَنه يَاء الإشباع. قلت: الَّذِي قَالَه هُوَ الصَّحِيح، لِأَن يَاء الْإِضَافَة لَا وَجه لَهَا هُنَا على مَا لَا يخفى، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم
61 - (بابُ منْ عَدَلَ عَشْرَاً مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي الْقَسْمَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من عدل من الْغنم بجزور، بِفَتْح الْجِيم وَضم الزَّاي، أَي: بعير، فِي الْقسم، بِفَتْح الْقَاف قيد بِهِ احْتِرَازًا عَن الْأُضْحِية فَإِن فِيهَا يعدل سَبْعَة بجزور نظرا إِلَى الْغَالِب، وَأما يَوْم الْقسم فَكَانَ النّظر فِيهِ إِلَى الْقيمَة الْحَاضِرَة فِي ذَلِك الزَّمَان وَذَلِكَ الْمَكَان.
7052 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا وَكِيعٌ عنْ سُفْيان عنْ أبِيهِ عنْ عَبَايَةَ بنِ رِفاعَةَ عنْ جَدِّهِ رَافع بنِ خَدِيجٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فأصَبْنَا غَنَماً وإبِلاً فَعَجِلَ الْقَوْمُ فأغلَوْا بِها القُدُورَ فَجاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ بِها فاكْفِئَتْ ثُمَّ عدَلَ عَشْرَاً مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ ثمَّ إنَّ بَعِيرًا مِنْهَا نَدَّ ولَيْسَ فِي الْقَوْمِ إلاَّ خَيْلٌ يَسيرَةٌ فرَماهُ رَجلٌ فَحَبَسَهُ بِسَهْمٍ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ لِهاذِهِ الْبَهَائِمِ أوَابِدَ كأوَابِدِ الْوَحْشِ فَما غَلَبَكُمْ مِنْها فاصْنَعِوا بِهِ هاكَذًّ قَالَ قَالَ جَدِّي يَا رسولَ الله إنَّا نَرْجُو أوْ نَخافُ أنْ نَلْقَى العَدُوَّ ولَيْسَ مَعَنا مُدًى أفَنَذْبَحُ بالْقصَبِ فَقَالَ اعْجَلْ أوْ أرْنِي مَا أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله علَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ والظُّفْرَ وسَأُحَدِّثُكُمْ عنْ ذالِكَ أمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وأمًّا الظُّفْرُ فَمُداى الحَبَشَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ عدل عشرا من الْغنم بجزور) ، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب قسْمَة الْغنم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن الحكم الْأنْصَارِيّ عَن أبي عوَانَة عَن سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد وَلم ينْسب هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن شبويه: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام عَن وَكِيع عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أَبِيه سعيد ابْن مَسْرُوق عَن عَبَايَة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (أَو أَرَانِي) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر النُّون بِزِيَادَة الْيَاء الْحَاصِلَة من إشباع كسرة النُّون، ويروى: أرن، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء وَسُكُون النُّون. قَالَ الْخطابِيّ: صَوَابه: أرن، على وزن: اعجل، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ من أرن يأرن: إِذا نشط وخف، أَي: أعجل ذَبحهَا لِئَلَّا تَمُوت خنقاً، فَإِن الذّبْح إِذا كَانَ بِغَيْر حَدِيد احْتَاجَ صَاحبه إِلَى خفَّة يَد وَسُرْعَة. قَالَ: وَقد يكون على وزن: أعطِ، يَعْنِي: أَدَم الْقطع وَلَا تفتر، من قَوْلهم: رنوت إِذا أدمت النّظر، وَالصَّحِيح أَنه بِمَعْنى أعجل، وَأَنه شكّ من الرَّاوِي هَل قَالَ: أعجل أَو أرنِ. وَقَالَ التوربشتي: هِيَ كلمة تسْتَعْمل فِي الاستعجال وَطلب الخفة، وأصل الْكَلِمَة كسر الرَّاء وَمِنْهُم من يسكنهَا وَمِنْهُم من يحذف يَاء الْإِضَافَة مِنْهَا لِأَن كسرة النُّون تدل عَلَيْهَا. قَالَ الْكرْمَانِي: بَيَان كَونه يَاء الْإِضَافَة مُشكل إِذْ الظَّاهِر أَنه يَاء الإشباع. قلت: الَّذِي قَالَه هُوَ الصَّحِيح، لِأَن يَاء الْإِضَافَة لَا وَجه لَهَا هُنَا على مَا لَا يخفى، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم
84 - (كتابُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الرَّهْن، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب الرَّهْن فِي الْحَضَر، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: بَاب مَا جَاءَ فِي الرَّهْن، وَفِي رِوَايَة الْكل الْآيَة مَذْكُورَة فِي الأول. قَوْله: (فِي الْحَضَر) لَيْسَ بِقَيْد، وَلكنه ذكره بِنَاء على الْغَالِب، لِأَن الرَّهْن فِي السّفر نَادِر، وَقَالَ ابْن بطال: الرَّهْن جَائِز فِي الْحَضَر خلافًا للظاهرية، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا فرهان مَقْبُوضَة} (الْبَقَرَة: 382) . وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا ذكر السّفر لِأَن الْغَالِب فِيهِ عدم الْكَاتِب فِي السّفر، وَقد يُوجد الْكَاتِب فِي السّفر وَيجوز فِيهِ الرَّهْن، وَكَذَا يجوز فِي الْحَضَر، وَلِأَن الرَّهْن للاستيثاق فيستوثق فِي الْحَضَر أَيْضا كالكفيل، وَأَيْضًا رهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، درعه بِالْمَدِينَةِ، وَالرَّهْن فِي اللُّغَة مُطلق الْحَبْس، قَالَ الله تَعَالَى: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} (المدثر: 83) . أَي: محبوسة، وَفِي الشَّرْع: هُوَ حبس شَيْء يُمكن اسْتِيفَاؤهُ مِنْهُ الدّين: تَقول: رهنت الشَّيْء عِنْد فلَان وَرَهنه الشَّيْء وأرهنته الشَّيْء بمعني، قَالَ ثَعْلَب: يجوز رهنته وأرهنته. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: لَا يُقَال: أرهنت الشَّيْء وَإِنَّمَا يُقَال: رهنته، وَيجمع الرَّهْن على رهان وَرهن بِضَمَّتَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَش: رهن بِضَمَّتَيْنِ قبيحة لِأَنَّهُ لَا يجمع فعل على فعل إلاَّ قَلِيلا شاذاً، نَحْو: سقف وسقف، قَالَ: وَقد يكون رهن جمعا للرهان، كَأَنَّهُ يجمع رهن على رهان، ثمَّ يجمع رهان على رهن، مثل فرَاش وفرش والراهن الَّذِي يرْهن، وَالْمُرْتَهن الَّذِي يَأْخُذ الرَّهْن، وَالشَّيْء مَرْهُون ورهين وَالْأُنْثَى رهينة.
1
- (بابٌ فِي الرَّهْن فِي الْحَضَر(13/67)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا فرهان مَقْبُوضَة} (الْبَقَرَة: 382) .)
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله أَي فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم على سفر} (الْبَقَرَة: 382) . قَوْله: {وَإِن كُنْتُم على سفر} (الْبَقَرَة: 382) . أَي: مسافرين، وتداينتم إِلَى أجل مُسَمّى: {وَلم تَجدوا كَاتبا} (الْبَقَرَة: 382) . يكْتب لكم، قَالَ ابْن عَبَّاس: أَو وجدوه وَلم يَجدوا قرطاساً أَو دَوَاة أَو قَلما {فرهان مَقْبُوضَة} (الْبَقَرَة: 382) . أَي: فَلْيَكُن بدل الْكِتَابَة رهان مَقْبُوضَة فِي يَد صَاحب الْحق. وَقد اسْتدلَّ بقوله: {فرهان مَقْبُوضَة} (الْبَقَرَة: 382) . أَن الرَّهْن لَا يلْزم إلاَّ بِالْقَبْضِ، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ ابْن بطال: جَمِيع الْفُقَهَاء يجوزون الرَّهْن فِي الْحَضَر وَالسّفر، وَمنعه مُجَاهِد وَدَاوُد فِي الْحَضَر، وَنقل الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يشرع الرَّهْن إلاَّ فِي السّفر حَيْثُ لَا يُوجد الْكَاتِب، وَبِه قَالَ دَاوُد.
8052 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَس رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ ولَقدْ رَهَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم درْعَهُ بِشَعِيرٍ ومَشَيْتُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وإهَالَة سِنْخَةٍ ولَقَدْ سَمِعْتُهُ يقولُ مَا أصْبَحَ لِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ صاعٌ وَلَا أمْسَى وإنَّهُم لَتِسْعَةُ أبْياتٍ.
(انْظُر الحَدِيث 9602) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَقَد رهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم درعه بشعير) ، وَقد مضى الحَدِيث فِي أَوَائِل كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّسِيئَةِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسلم عَن هِشَام عَن قَتَادَة عَن أنس وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب عَن أَسْبَاط عَن هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة عَن أنس، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (وَلَقَد رَهنه) ، مَعْطُوف على شيى مَحْذُوف بيَّنه مَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق أبان الْعَطَّار عَن قَتَادَة عَن أنس: أَن يَهُودِيّا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَجَابَهُ، وَلَقَد رهن ... إِلَى آخِره، وَهَذَا الْيَهُودِيّ هُوَ أَبُو الشَّحْم واسْمه كنيته، وَهُوَ من بني ظفر، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَالْفَاء: وَهُوَ بطن من الْأَوْس وَكَانَ حليفاً لَهُم وَكَانَ قدر الشّعير ثَلَاثِينَ صَاعا كَمَا سَيَأْتِي فِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة فِي الْجِهَاد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: (بِعشْرين صَاعا) ، وَوَقع لِابْنِ حبَان من طَرِيق شَيبَان عَن قَتَادَة عَن أنس: أَن قيمَة الطَّعَام كَانَت دِينَارا، وَزَاد أَحْمد من طَرِيق شَيبَان: (فَمَا وجد مَا يَفْتكهَا بِهِ حَتَّى مَاتَ) . قَوْله: (درعه) ، بِكَسْر الدَّال يذكر وَيُؤَنث. قَوْله: (بشعير) ، الْبَاء فِيهِ للمقابلة، أَي: رهن درعه فِي مُقَابلَة شعير. قَوْله: (ومشيت) ، أَي: قَالَ أنس: مشيت إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِخَبَر شعير) ، بِالْإِضَافَة وَالْبَاء فِيهِ تتَعَلَّق: بمشيت. قَوْله: (وإهالة) ، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْهَاء: مَا أذيب من الشَّحْم والألية، وَقيل: هُوَ كل دسم جامد، وَقيل: مَا يؤتدم بِهِ من الأدهان. قَوْله: (سنخة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر النُّون وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة: أَي متغيرة الرّيح، وَيُقَال: زنخة أَيْضا بالزاي، مَوضِع السِّين. قَوْله: (وَلَقَد سمعته) ، أَي: قَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لقد سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول) وَقد مر مَا قَالَ الْكرْمَانِي فِيهِ وَمَا رد عَلَيْهِ وَمَا أجبْت عَنهُ فِي الْبَاب الْمَذْكُور. قَوْله: (مَا أصبح لآل مُحَمَّد إلاَّ صَاع وَلَا أَمْسَى) . كَذَا بِهَذِهِ الْعبارَة وَقع لجَمِيع الروَاة، وَكَذَا ذكره الْحميدِي فِي الْجمع، وَوَقع لأبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق الْكَجِّي عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، بِلَفْظ: (مَا أصبح لآل مُحَمَّد وَلَا أَمْسَى إلاَّ صَاع) وَهَذَا أحسن وَفِيه تنَازع الفعلان فِي ارْتِفَاع صَاع وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ. قَوْله: (أصبح) ، فعل وفاعله: صَاع، ويقد صَاع آخر فِي قَوْله: وَلَا أَمْسَى، أَي: وَلَا أَمْسَى صَاع، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد عَن أبي عَامر والإسماعيلي من طَرِيقه، وللترمذي من طَرِيق ابْن أبي عدي ومعاذ بن هِشَام، وللنسائي من طَرِيق هِشَام بِلَفْظ: (مَا أَمْسَى فِي آل مُحَمَّد صَاع تمر وَلَا صَاع حب) ، وَالْمرَاد بالآل: أهل بَيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،، وَقد بيَّنه بقوله: (وَإِنَّهُم) ، أَي: وَإِن آله لتسعة أَبْيَات، وَأَرَادَ بِهِ بطرِيق الْكِنَايَة تسع نسْوَة، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، وَلم يقل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذِه الْمقَالة بطرِيق التضجر، حاشا وكلاَّ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان الْوَاقِع.
وَفِيه من الْفَوَائِد: جَوَاز مُعَاملَة الْكفَّار فِيمَا لم يتَحَقَّق تَحْرِيم عين المتعامل فِيهِ، وَعدم الِاعْتِبَار بِفساد معتقدهم ومعاملاتهم فِيمَا بَينهم. وَفِيه: جَوَاز بيع السِّلَاح وَرَهنه وإجارته وَغير ذَلِك من الْكَافِر مَا لم يكن حَرْبِيّا. وَفِيه: ثُبُوت أَمْلَاك أهل الذِّمَّة فِي أَيْديهم. وَفِيه:(13/68)
جَوَاز الشِّرَاء بِالثّمن الْمُؤَجل. وَفِيه: جَوَاز اتِّخَاذ الدروع وَغَيرهَا من آلَات الْحَرْب، وَأَنه غير قَادِح فِي الت كل. وَفِيه: أَن قنية آلَة الْحَرْب لَا تدل عَليّ تحبيسها. وَفِيه: أَن أَكثر قوت ذَلِك الْعَصْر الشّعير، قَالَه الدَّاودِيّ. وَفِيه: مَا كَانَ فِيهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من التَّوَاضُع والزهد فِي الدُّنْيَا والتقلل مِنْهَا مَعَ قدرته عَلَيْهَا، وَالْكَرم الَّذِي أفْضى بِهِ إِلَى عدم الإدخار حَتَّى احْتَاجَ إِلَى رهن درعه وَالصَّبْر على ضيق الْعَيْش والقناعة باليسير. وَفِيه: فَضِيلَة أَزوَاجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لصبرهن مَعَه على ذَلِك. وَفِيه: فَوَائِد أُخْرَى ذَكرنَاهَا هُنَاكَ.
2 - (بابُ مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من رهن درعه وَإِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ أَنه ذكر حَدِيث الْبَاب فِي بَاب شِرَاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالنَّسِيئَةِ لتَعَدد شَيْخه فِيهِ مَعَ زِيَادَة فِيهِ هُنَا على مَا نذكرهُ.
9052 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ تَذَاكَرْنا عنْدَ إبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ والْقَبِيلَ فِي السلَفِ فَقَالَ إبراهيمُ حَدثنَا الأسْوَدُ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرى مِنْ يَهُوديٍ طَعَاما إِلَى أجَلٍ ورَهَنَهُ دِرْعَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرَهنه درعه) ، وَذكر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب شِرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّسِيئَةِ، كَمَا ذكرنَا الْآن عَن مُعلى بن أَسد عَن عبد الْوَاحِد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَالزِّيَادَة فِيهِ هُنَا قَوْله: (والقبيل) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ الْكَفِيل، وزنا وَمعنى. قَوْله: (فِي السّلف) وَهُنَاكَ: (فِي السّلم) . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَفِي الْبَاب السَّابِق أَيْضا، وَالله أعلم.
3 - (بابُ رَهْنِ السِّلاَحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم رهن السِّلَاح، قيل: وَإِنَّمَا ترْجم لرهن السِّلَاح بعد رهن الدرْع، لِأَن الدرْع لَيست بسلاح حَقِيقَة، وَإِنَّمَا هِيَ آلَة يتقى بهَا السِّلَاح. انْتهى. قلت: الدرْع يتقى بهَا النَّفس وَإِن لم يكن عَلَيْهِ سلَاح، وَالْمرَاد بِالسِّلَاحِ الْآلَة الَّتِي يدْفع بهَا الشَّخْص عَن نَفسه، والدرع أعظم وَأَشد فِي هَذَا الْبَاب على مَا لَا يخفى.
0152 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ عَمْرٌ وسَمعْتُ جابِرَ بنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأشْرَفِ فإنَّهُ آذاى الله ورسولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ أنَا فأتاهُ فَقَالَ أرَدْنا أنْ تُسْلِفَنا وِسْقاً أوْ وِسْقعَيْنِ فَقَالَ ارْهَنوني نِساءَكُمْ قالُوا كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِساءَنا وأنْتَ أجْمَلُ الْعرَبِ قَالَ فارْهنوني أبْنَاءَكُمْ قَالُوا كَيْفَ نَرْهَنُ أبْنَاءَنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقالُ رُهِنَ بِوَسْقٍ أوْ وَسْقَيْنِ هَذَا عارٌ علَيْنا ولاكِنَّا نَرْهنُكَ الَّلأْمَةَ قالَ سُفْيَانُ يَعْنِي السِّلاحَ فوَعَدَهُ أنْ يَأْتِيهُ فقَتَلُوهُ ثُمَّ أتَوْا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبروه..
قيل: لَيْسَ فِيهِ مَا بوب عَلَيْهِ لأَنهم لم يقصدوا إِلَّا الحديقة، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ جَوَاز رهن السِّلَاح من الحَدِيث الَّذِي قبله. انْتهى. قلت: لَيْسَ فِي لفظ التَّرْجَمَة مَا يدل على جَوَاز رهن السِّلَاح وَلَا على عدم جَوَازه، لِأَنَّهُ أطلق، فَتكون الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكنَّا نرهنك اللأمة) ، أَي: السِّلَاح بِحَسب ظَاهر الْكَلَام، وَإِن لم يكن فِي نفس الْأَمر حَقِيقَة الرَّهْن، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي وَجه الْمُطَابقَة.
وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَمُحَمّد بن مسلمة، بِفَتْح الميمين وَاللَّام أَيْضا: ابْن خَالِد بن عدي بن مجدعة بن حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج ابْن عمر وَهُوَ النبيت بن مَالك بن أَوْس الْحَارِثِيّ الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا عبد الله، وَقيل: أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال: أَبُو سعيد حَلِيف بني عبد الْأَشْهَل(13/69)
شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: إِنَّه اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة عَام تَبُوك، روى عَنهُ جَابر وَآخَرُونَ، اعتزل الْفِتْنَة وَأقَام بالربذة وَمَات بِالْمَدِينَةِ فِي صفر سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين، وَقيل: سنة سبع وَأَرْبَعين وَهُوَ ابْن سبع وَسبعين سنة، وَصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَمِير الْمَدِينَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي المغاوي عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة وَعبد الله بن مُحَمَّد فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن صَالح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن عبد الله ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من لكعب بن الْأَشْرَف) أَي: من يتَصَدَّى لقَتله، وَقَالَ ابْن اسحاق كَانَ كَعْب بن الْأَشْرَف من طي ثمَّ أحد بني نَبهَان حَلِيف بني النَّضر، وَكَانَت أمه من بني النَّضر، وَاسْمهَا عقيلة بنت أبي الْحقيق، وَكَانَ أَبوهُ قد أصَاب دَمًا فِي قومه، فَأتى الْمَدِينَة فنزلها، وَلما جرى ببدر مَا جرى قَالَ: وَيحكم {أَحَق هَذَا؟ وَأَن مُحَمَّدًا قتل أَشْرَاف الْعَرَب وملوكها، وَالله إِن كَانَ هَذَا حَقًا فبطن الأَرْض خير من ظهرهَا، ثمَّ خرج حَتَّى قدم مَكَّة فَنزل على الْمطلب بن أبي ودَاعَة السَّهْمِي، وَعِنْده عَاتِكَة بنت أَسد بن أبي الْعيص بن أُميَّة بن عبد شمس، فَأكْرمه الْمطلب فَجعل ينوح ويبكي على قَتْلَى بدر، ويحرض النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وينشد الْأَشْعَار، فَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ من قصيدة عَيْنِيَّة طَوِيلَة من الوافر أَولهَا:
(طحنت رحى بدر بمهلك أَهله ... ولمثل بدر تستهل وتدمع)
(قتلت سراة النَّاس حول خيامهم ... لَا تبعدوا أَن الْمُلُوك تصرع)
فَأَجَابَهُ حسان بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ:
(أبكاه كَعْب ثمَّ عل بعبرة ... مِنْهُ وعاش مجدعاً لَا تسمع)
(وَلَقَد رَأَيْت بِبَطن بدر مِنْهُم ... قَتْلَى تسح لَهَا الْعُيُون وتدمع)
إِلَى آخرهَا ... وَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (من لكعب بن الْأَشْرَف؟) . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ كَعْب شَاعِرًا يهجو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُسْلِمين ويظاهر عَلَيْهِم الْكفَّار، وَلما أصَاب الْمُشْركين يَوْم بدر مَا أَصَابَهُم اشْتَدَّ عَلَيْهِ. قَوْله: (فَقَالَ مُحَمَّد بن مُسلم: أَنا) ، أَي: أَنا لَهُ، أَي: لقَتله يَا رَسُول الله. وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة قَتله على وَجْهَيْن: أَحدهمَا لما ذكره البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا فِي: بَاب قتل كَعْب بن الْأَشْرَف، فِي كتاب الْمَغَازِي، وَهُوَ قَوْله: قَالَ: يَا رَسُول الله} أَتُحِبُّ أَن أَقتلهُ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إئذن لي أَن أَقُول شَيْئا، قَالَ: قل ... إِلَى آخر الحَدِيث، ينظر هُنَاكَ. وَالْوَجْه الثَّانِي: مَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَغَيره: لما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من لكعب؟) قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: أَنا، فَرجع مُحَمَّد بن مسلمة فَأَقَامَ ثَلَاثًا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب، وَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَا الَّذِي مَنعك من الطَّعَام وَالشرَاب؟ فَقَالَ: لِأَنِّي قلت قولا وَلَا أَدْرِي أَفِي بِهِ أم لَا. فَقَالَ: (إِنَّمَا عَلَيْك الْجهد) ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! لَا بُد لنا أَن نقُول قولا، فَقَالَ: (قُولُوا مَا بدا لكم فَأنْتم فِي حل من ذَلِك) . وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: فَاجْتمع فِي قَتله مُحَمَّد بن مسلمة وسلكان بن سَلامَة بن وقش وَهُوَ أَبُو نائلة الأشْهَلِي، وَكَانَ أَخا لكعب من الرضَاعَة وَعباد بن بشر بن وقش الأشْهَلِي وَأَبُو عبس بن حبر أَخُو بني حَارِثَة والْحَارث بن أَوْس، وَقدمُوا إِلَى ابْن الْأَشْرَف قبل أَن يَأْتُوا سلكان بن سَلامَة أَبَا نائلة، فجَاء مُحَمَّد بن مسلمة إِلَى كَعْب فَتحدث مَعَه سَاعَة وتناشدا شعرًا، ثمَّ قَالَ: وَيحك يَا ابْن الْأَشْرَف؟ إِنِّي قد جئْتُك لحَاجَة أُرِيد ذكرهَا لَك، فاكتم عَليّ. قَالَ: أفعل. قَالَ: كَانَ قدوم هَذَا الرجل علينا بلَاء من الْبلَاء، عادتنا الْعَرَب ورمونا عَن قَوس وَاحِدَة، وَقطعت عَنَّا السبل حَتَّى جَاع الْعِيَال وجهدت الْأَنْفس، وأصبحنا قد جهدنا وَجهد عيالنا، فَقَالَ: أَنا وَالله قد أَخْبَرتكُم أَن الْأَمر سيصير إِلَى هَذَا، ثمَّ جَاءَهُ من ذَكَرْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُ سلكان: إِنِّي أردْت أَن تبيعنا طَعَاما ونرهنك ونوثقك ونحسن فِي ذَلِك، فَقَالَ: أترهنوا فِي أَبْنَائِكُم؟ قَالَ: لقد أردْت أَن تفضحنا، أَن معنى أصحاباً على مثل رَأْيِي، وَقد أردْت أَن آتِيك بهم فتبيعهم ونحسن فِي ذَلِك، ونرهنك من الْحلقَة، يَعْنِي: السِّلَاح، مَا فِيهِ وَفَاء. فَقَالَ كَعْب: إِن فِي الْحلقَة لوفاء، فَرجع أَبُو نائلة إِلَى أَصْحَابه فَأخْبرهُم، فَأخذُوا السِّلَاح وَخَرجُوا يَمْشُونَ، وَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَهم إِلَى البقيع يَدْعُو لَهُم، وَقَالَ: انْطَلقُوا(13/70)
على اسْم الله وبركته) ، وَكَانَت لَيْلَة مُقْمِرَة، وَرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى حجرته وَسَارُوا حَتَّى انْتَهوا إِلَى حصنه، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نائلة، وَكَانَ حَدِيث عهد بعرس، فَوَثَبَ فِي محلفة لَهُ فَأخذت امْرَأَته بناحيتها، وَقَالَت: إِلَى أَيْن فِي هَذِه السَّاعَة؟ فَقَالَ: إِنَّه أَبُو نائلة، لَو وجدني نَائِما أيقظني، فَقَالَت: وَالله إِنِّي لأعرف فِي صَوته الشَّرّ، فَقَالَ لَهَا كَعْب: لَو دعى الْفَتى إِلَى طعنة لَيْلًا لأجاب، ثمَّ نزل فَتحدث مَعَهم سَاعَة وتحدثوا مَعَه، ثمَّ قَالُوا: هَل لَك يَا ابْن الْأَشْرَف أَن نتماشى إِلَى شعب الْعَجُوز فنتحدث بِهِ بَقِيَّة ليلتنا هَذِه، قَالَ: نعم، إِن شِئْتُم، فَخَرجُوا يتماشون فَأخر الْأَمر أَخذ أَبُو نائلة بفود رَأسه، فَقَالَ: اضربوا عَدو الله، فضربوه فاختلفت عَلَيْهِ أسيافهم، فَلم تغن شَيْئا، قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: فَذكرت مغولاً لي فِي سَيفي، والمغول السَّيْف الصَّغِير، فَوَضَعته فِي ثنته وتحاملت عَلَيْهِ حَتَّى بلغ عانته، وَصَاح عَدو الله صَيْحَة لم يبْق حولنا حصن إلاَّ وَقد أوقد عَلَيْهِ نَار، وَوَقع عَدو الله، وَجِئْنَا آخر اللَّيْل إِلَى رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فَأَخْبَرنَاهُ بقتْله ففرح، ودعا لنا. وَحكى الطَّبَرِيّ عَن الْوَاقِدِيّ، قَالَ: جاؤوا بِرَأْس كَعْب ابْن الْأَشْرَف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) : أَن الَّذين قتلوا كَعْبًا حملُوا رَأسه فِي المخلاة إِلَى الْمَدِينَة، فَقيل: إِنَّه أول رَأس حمل فِي الْإِسْلَام، وَقيل: بل رَأس أبي عزو الجُمَحِي الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ، فَقتل وجمل رَأسه إِلَى الْمَدِينَة فِي رمح، وَأما أول مُسلم حمل رَأسه فِي الْإِسْلَام فعمر بن الخمق، وَله صُحْبَة. فَإِن قلت: كَيفَ قتلوا كَعْبًا على وَجه الْغرَّة وَالْخداع؟ قلت: لما قدم مَكَّة وحرض الْكفَّار على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشبب بنساء الْمُسلمين فقد نقض الْعَهْد، وَإِذا نقض الْعَهْد فقد وَجب قَتله بِأَيّ طَرِيق كَانَ، وَكَذَا من يجْرِي مجْرَاه كَأبي رَافع وَغَيره، وَقَالَ الْمُهلب: لم يكن فِي عهد من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل كَانَ مُمْتَنعا بقَوْمه فِي حصنه، وَقَالَ الْمَازرِيّ: نقض الْعَهْد وَجَاء مَعَ أهل الْحَرْب معينا عَلَيْهِم، ثمَّ إِن ابْن مسلمة لم يُؤمنهُ لكنه كَلمه فِي البيع وَالشِّرَاء فاستأنس بِهِ، فَتمكن مِنْهُ من غير عهد وَلَا أَمَان. وَقد قَالَ رجل فِي مجْلِس عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن قَتله كَانَ غدراً، فَأمر بقتْله فَضربت عُنُقه، لِأَن الْغدر إِنَّمَا يتَصَوَّر بعد أَمَان صَحِيح، وَقد كَانَ كَعْب مناقضاً للْعهد. قَوْله: (وسْقا) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا: وَهُوَ سِتُّونَ صَاعا. قَوْله: (أَو وسقين) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (ارهنوني) ، فِيهِ لُغَتَانِ رهن وأرهن، فالفصيحة: رهن، والقليلة: أرهن. فَقَوله: ارهنوا على اللُّغَة الفصيحة بِكَسْر الْهمزَة، وعَلى اللُّغَة القليلة بِفَتْحِهَا. قَوْله: (فيُسب) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَا قَوْله: رهن بوسق. قَوْله: (اللأمة) ، مَهْمُوزَة: الدرْع وَقد فسره سُفْيَان الرَّاوِي بِالسِّلَاحِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: اللأمة الدرْع، وَقيل: السِّلَاح، وَلأمة الْحَرْب أداته، وَقد ترك الْهمزَة تَخْفِيفًا، وَقَالَ ابْن بطال: لَيْسَ فِي قَوْلهم: نرهنك اللأمة، دلَالَة على جَوَاز رهن السِّلَاح عِنْد الْحَرْبِيّ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك من معاريض الْكَلَام الْمُبَاحَة فِي الْحَرْب وَغَيره، وَقَالَ السُّهيْلي: فِي قَوْله: من لكعب ابْن الْأَشْرَف، فَإِنَّهُ آذَى الله وَرَسُوله؟ جَوَاز قتل من سبّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ذَا عهد، خلافًا لأبي حنيفَة فَإِنَّهُ لَا يرى بقتل الذِّمِّيّ فِي مثل هَذَا. قلت: من أَيْن يفهم من الحَدِيث جَوَاز قتل الذِّمِّيّ بالسب؟ أَقُول: هَذَا بحثا، وَلَكِن أَنا مَعَه فِي جَوَاز قتل الساب مُطلقًا.
4 - (بابٌ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ ومَحْلُوبٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الرَّهْن مركوب، يَعْنِي: إِذا كَانَ ظهرا يركب، وَإِذا كَانَ من ذَوَات الدّرّ يحلب، وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث أخرجه الْحَاكِم من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الرَّهْن مركوب ومحلوب، وَقَالَ: إِسْنَاده على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَأخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) من رِوَايَة أبراهيم بن محشر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الرَّهْن محلوب ومركوب) ، قَالَ ابْن عدي: لَا أعلم رَفعه عَن أبي مُعَاوِيَة غير إِبْرَاهِيم بن محشر هَذَا، وَله مُنكرَات من جِهَة الْإِسْنَاد غير مَحْفُوظَة.
وَقَالَ مُغِيرَةُ عنْ إبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا وتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا والرَّهْنُ مِثْلُهُ(13/71)
مُغيرَة بِضَم الْمِيم وَكسرهَا بلام التَّعْرِيف وبدونها: هُوَ ابْن مقسم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف، مر فِي الصَّوْم، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، والضالة مَا ضل من الْبَهِيمَة ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى. قَوْله: (بِقدر عَلفهَا) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: بِقدر عَملهَا، وَالْأول أوجه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُغيرَة بِهِ. قَوْله: (وَالرَّهْن) ، أَي: الْمَرْهُون مثله فِي الحكم الْمَذْكُور، يَعْنِي: يركب ويحلب بِقدر الْعلف، وَهَذَا أَيْضا وَصله سعيد بن مَنْصُور بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَفظه: الدَّابَّة إِذا كَانَت مَرْهُونَة تركب بِقدر عَلفهَا، وَإِذا كَانَ لَهَا لبن يشرب مِنْهُ بِقدر عَلفهَا.
1152 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ عنْ عامِرٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ يَقُولُ الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ ويُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إذَا كانَ مَرْهُوناً.
(الحَدِيث 1152 طرفه فِي: 2152) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وزكرياء هُوَ ابْن أبي زَائِدَة، وعامر هُوَ الشّعبِيّ وَلَيْسَ لِلشَّعْبِيِّ عَن أبي هُرَيْرَة فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي تَفْسِير الزمر، وعلق لَهُ ثَالِثا فِي النِّكَاح.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل فِي الرَّهْن. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن هناد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي كريب ويوسف ابْن عِيسَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر طرق هَذَا الحَدِيث: وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَقد روى غير وَاحِد هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ كَذَلِك: سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَشعْبَة ووكيع. فَأَما حَدِيث ابْن عُيَيْنَة فَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَنهُ، وَمن طَرِيق الْبَيْهَقِيّ. وَأما حَدِيث شُعْبَة فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَنهُ. وَأما حَدِيث وَكِيع فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْعَبْسِي عَنهُ، وَورد مَرْفُوعا من طرق أُخْرَى. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة يحيى بن حَمَّاد وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة شَيبَان بن فروخ، كِلَاهُمَا عَن أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَرِجَاله كلهم ثِقَات. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة يزِيد بن عَطاء عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وَيزِيد ضَعِيف. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا من رِوَايَة الْحسن بن عُثْمَان بن زِيَاد التسترِي عَن خَليفَة بن خياط وَحَفْص بن عمر الرَّازِيّ عَن عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَقَالَ: هَذَا عَن الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مُسْندًا مُنكر جدا. وَالْبَلَاء من الْحسن بن عُثْمَان فَإِنَّهُ كَذَّاب. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا من رِوَايَة أبي الْحَارِث الْوراق عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَقَالَ: أَبُو الْحَارِث هَذَا بَصرِي، وَقَالَ ابْن طَاهِر: روى عَن أبي عوَانَة وَعِيسَى بن يُونُس وَأبي مُعَاوِيَة وَشعْبَة وَالثَّوْري مَرْفُوعا وموقوفاً، وَالأَصَح الْمَوْقُوف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَفعه أَبُو الْحَارِث نصر بن حَمَّاد الْوراق عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش، وروى عَن وهب بن جرير أَيْضا مَرْفُوعا، وَغَيرهمَا يرويهِ عَن شُعْبَة مَوْقُوفا، وَهُوَ الصَّوَاب. قَالَ: وَرَفعه أَيْضا لوين عَن عِيسَى بن يُونُس عَن الْأَعْمَش، وَالْمَحْفُوظ عَن الْأَعْمَش وَقفه على أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ أصح، وَرَوَاهُ خَلاد الصفار عَن مَنْصُور عَن أبي صَالح مَرْفُوعا، وَغَيره يقفه، وَهُوَ أصح، وَعند ابْن حزم من حَدِيث زَكَرِيَّاء عَن الشّعبِيّ عَنهُ مَرْفُوعا: إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلى الْمُرْتَهن عَلفهَا وَلبن الدّرّ يشرب، وعَلى الَّذِي يشرب نَفَقَته ويركب. وَقَالَ: هَذِه الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن الصَّائِغ مولى بني هَاشم عَن هشيم، فالتخليط من قبله لَا من قبل هشيم، قلت: إِسْمَاعِيل هَذَا احْتج بِهِ مُسلم، وَتَابعه زِيَاد بن أَيُّوب عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَيَعْقُوب الدوري عِنْد الْبَيْهَقِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الرَّهْن يركب) ، أَي: الْمَرْهُون يركب، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمرَاد الظّهْر، وبيَّنه فِي الطَّرِيق الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: الظّهْر يركب. قَوْله: (بِنَفَقَتِهِ) ، أَي: بِمُقَابلَة نَفَقَته، يَعْنِي يركب وَينْفق عَلَيْهِ. قَوْله: (وَيشْرب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (لبن الدّرّ) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهُوَ مصدر بِمَعْنى: الدارة، أَي: ذَات الضَّرع، وَقَالَ بَعضهم: وَقَوله: لبن الدّرّ، من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {حب الحصيد} (ق: 9) . قلت: إِضَافَة الشيى إِلَى نَفسه لَا تصح(13/72)
إلاَّ إِذا وَقع فِي الظَّاهِر فيؤول، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد بالدر: الدارة، فَلَا يكون إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه، لِأَن اللَّبن غير الدارة، وَكَذَلِكَ يؤول فِي {حب الحصيد} (ق: 9) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة الظَّاهِرِيَّة على: أَن الرَّاهِن يركب الْمَرْهُون بِحَق نَفَقَته عَلَيْهِ. وَيشْرب لبنه، كَذَلِك، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَمَنَافع الرَّهْن كلهَا لَا تحاشى مِنْهَا شَيْئا لصَاحب الرَّهْن لَهُ كَمَا كَانَت قبل الرَّهْن، وَلَا فرق حاشى ركُوب الدَّابَّة الْمَرْهُونَة وحاشى لبن الْحَيَوَان الْمَرْهُون. فَإِنَّهُ لصَاحب الرَّهْن إلاَّ أَن يضيعهما فَلَا ينْفق عَلَيْهِمَا وَينْفق على كل ذَلِك الْمُرْتَهن، فَيكون لَهُ حِينَئِذٍ الرّكُوب وَاللَّبن بِمَا أنْفق لَا يُحَاسب بِهِ من دينه، كثر ذَلِك أَو قل، وَذَلِكَ لِأَن ملك الرَّاهِن باقٍ فِي الرَّهْن لم يخرج عَن ملكه، لَكِن الرّكُوب والاحتلاب خَاصَّة لمن أنْفق على المركوب والمحلوب، لحَدِيث أبي هُرَيْرَة انْتهى. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة: لَيْسَ للرَّاهِن ذَلِك لِأَنَّهُ يُنَافِي حكم الرَّهْن، وَهُوَ الْحَبْس الدَّائِم، فَلَا يملكهُ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ لَهُ أَن ينْتَفع بالمرهون استخداماً وركوباً ولبناً وسكنى وَغير ذَلِك، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ من غير الْمُرْتَهن بِغَيْر إِذْنه، وَلَو بَاعه توقف على إِجَازَته، فَإِن أجَازه وَيكون الثّمن رهنا، سَوَاء شَرط الْمُرْتَهن عِنْد الْإِجَازَة أَن يكون مَرْهُونا عِنْده أَو لَا. وَعَن أبي يُوسُف: لَا يكون رهنا إلاَّ بِشَرْط، وَكَذَا: لَيْسَ للْمُرْتَهن أَن ينْتَفع بالمرهون حَتَّى لَو كَانَ عبدا لَا يستخدمه أَو دَابَّة لَا يركبهَا أَو ثوبا لَا يلْبسهُ أَو دَارا لَا يسكنهَا أَو مُصحفا لَيْسَ لَهُ أَن يقْرَأ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ إلاَّ بِإِذن الرَّاهِن. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي الِاحْتِجَاج لِأَصْحَابِنَا: أجمع الْعلمَاء على أَن نَفَقَة الرَّهْن على الرَّاهِن لَا على الْمُرْتَهن، وَأَنه لَيْسَ على الْمُرْتَهن اسْتِعْمَال الرَّهْن. قَالَ: والْحَدِيث يَعْنِي: الحَدِيث الَّذِي احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَمن مَعَه مُجمل فِيهِ لم يبين فِيهِ الَّذِي يركب وَيشْرب، فَمن أَيْن جَازَ للمخالف أَن يَجعله للرَّاهِن دون الْمُرْتَهن؟ وَلَا يجوز حمله على أَحدهمَا إلاَّ بِدَلِيل، قَالَ: وَقد روى هشيم عَن زَكَرِيَّاء عَن الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، ذكر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا كَانَت الدَّابَّة مَرْهُونَة فعلى الْمُرْتَهن عَلفهَا وَلبن الدّرّ يشرب وعَلى الَّذِي يشرب نَفَقَتهَا ويركب، فَدلَّ هَذَا الحَدِيث أَن الْمَعْنى بالركوب وَشرب اللَّبن فِي الحَدِيث الأول هُوَ الْمُرْتَهن لَا الرَّاهِن، فَجعل ذَلِك لَهُ وَجعلت النَّفَقَة عَلَيْهِ بَدَلا مِمَّا يتعوض مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا عندنَا وَالله أعلم فِي وَقت مَا كَانَ الرِّبَا مُبَاحا، وَلم ينْه حِينَئِذٍ عَن الْقَرْض الَّذِي يجر مَنْفَعَة، وَلَا عَن أَخذ الشَّيْء لشَيْء وَإِن كَانَا غير متساويين، ثمَّ حرم الرِّبَا بعد ذَلِك وَحرم كل قرض جر مَنْفَعَة.
وَأجْمع أهل الْعلم أَن نَفَقَة الرَّهْن على الرَّاهِن لَا على الْمُرْتَهن، وَأَنه لَيْسَ للْمُرْتَهن اسْتِعْمَال الرَّهْن، قَالَ: وَيُقَال لمن صرف ذَلِك إِلَى الرَّاهِن فَجعل لَهُ اسْتِعْمَال الرَّهْن: أَيجوزُ للرَّاهِن أَن يرْهن رجلا دَابَّة هُوَ راكبها؟ فَلَا يجد بدّاً من أَن يَقُول: لَا، فَيُقَال لَهُ: فَإِذا كَانَ الرَّهْن لَا يجوز إلاَّ أَن يكون مخلى بَينه وَبَين الْمُرْتَهن فيقبضه وَيصير فِي يَده دون يَد الرَّاهِن، كَمَا وصف الله تَعَالَى بقوله: {فرهان مَقْبُوضَة} (الْبَقَرَة: 382) . فَيَقُول: نعم، فَيُقَال لَهُ: فَلَمَّا لم يجز أَن يسْتَقْبل الرَّهْن على مَا الرَّاهِن رَاكِبه لم يجز ثُبُوته فِي يَده بعد ذَلِك رهنا بِحقِّهِ إلاَّ كَذَلِك أَيْضا، لِأَن دوَام الْقَبْض لَا بُد مِنْهُ فِي الرَّهْن إِذا كَانَ الرَّهْن إِنَّمَا هُوَ إحباس الْمُرْتَهن للشَّيْء الْمَرْهُون بِالدّينِ، وَفِي ذَلِك أَيْضا مَا يمْنَع اسْتِخْدَام الْأمة الرَّهْن لِأَنَّهَا ترجع بذلك إِلَى حَال لَا يجوز عَلَيْهَا اسْتِقْبَال الرَّهْن.
وَحجَّة أُخْرَى: أَنهم قد أَجمعُوا أَن الْأمة الرَّهْن لَيْسَ للرَّاهِن أَن يَطَأهَا، وللمرتهن مَنعه من ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ الْمُرْتَهن يمْنَع الرَّاهِن من وَطئهَا، كَانَ لَهُ أَيْضا أَن يمنعهُ بِحَق الرَّهْن من استخدامها. انْتهى. قلت: الطَّحَاوِيّ أطلق قَوْله: قد أَجمعُوا ... إِلَى آخِره، وَقد قَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: للرَّاهِن أَن يطَأ الآيسة وَالصَّغِيرَة، لِأَنَّهُ لَا ضَرَر فِيهِ، فَإِن عِلّة الْمَنْع الْخَوْف من أَن تَلد مِنْهُ، فَتخرج بذلك من الرَّهْن، وَهَذَا مَعْدُوم فِي حَقّهمَا، وَالْجُمْهُور على خلاف ذَلِك، ثمَّ إِن خَالف فوطىء فَلَا حد عَلَيْهِ لِأَنَّهَا ملكه، وَلَا مهر عَلَيْهِ، فَإِذا ولدت صَارَت أم ولد لَهُ وَخرجت من الرَّهْن وَعَلِيهِ قيمتهَا حِين أحبلها، وَلَا فرق بَين الْمُوسر والمعسر، إِلَّا أَن الْمُوسر تُؤْخَذ قيمتهَا مِنْهُ، والمعسر يكون فِي ذمَّته قيمتهَا، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. وَقَالَ ابْن حزم: قَالَ الشَّافِعِي: إِن رهن أمة فَوَطِئَهَا فَحملت، فَإِن كَانَ مُوسِرًا خرجت من الرَّهْن ويكلف رهنا آخر مَكَانهَا، وَإِن كَانَ مُعسرا، فَمرَّة قَالَ: يخرج من الرَّهْن وَلَا يُكَلف رهنا مَكَانهَا وَلَا تكلّف هِيَ شَيْئا، وَمرَّة(13/73)
قَالَ: تبَاع إِذا وضعت وَلَا يُبَاع الْوَلَد ويكلف رهن آخر. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: هِيَ خَارِجَة من الرَّهْن وَلَا يُكَلف لَا هُوَ وَلَا هِيَ شَيْئا، سَوَاء كَانَ مُوسِرًا أَو مُعسرا. وَعَن قَتَادَة: أَنَّهَا تبَاع ويكلف سَيِّدهَا أَن يفتكَّ وَلَده مِنْهَا. وَعَن ابْن سِيرِين: أَنَّهَا استسعيت، وَكَذَلِكَ العَبْد الْمَرْهُون إِذا أعتق. وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ مُوسِرًا كلف أَن يَأْتِي بِقِيمَتِهَا فَتكون الْقيمَة رهنا وَتخرج هِيَ من الرَّهْن، وَإِن كَانَ مُعسرا، فَإِن كَانَت تخرج إِلَيْهِ وتأتيه فَهِيَ خَارِجَة من الرَّهْن وَلَا يتبع بغرامة وَلَا يُكَلف هُوَ رهنا مَكَانهَا، لَكِن يتبع بِالدّينِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ تسور عَلَيْهَا بِيعَتْ هِيَ وَأعْطِي هُوَ وَلَده مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِن حملت وَأقر بحملها، فَإِن كَانَ مُوسِرًا خرجت من الرَّهْن وكلف قَضَاء الدّين إِن كَانَ حَالا، أَو كلف رهنا بِقِيمَتِهَا إِن كَانَ إِلَى أجل، وَإِن كَانَ مُعسرا كلفت أَن تستسعى فِي الدّين الْحَال بَالغا مَا بلغ، وَلَا ترجع بِهِ على سَيِّدهَا، وَلَا يُكَلف وَلَدهَا سِعَايَة، وَإِن كَانَ الدّين إِلَى أجل كلفت أَن تستسعى فِي قيمتهَا فَقَط، فَجعلت رهنا مَكَانهَا، فَإِذا حل أجل الدّين كلفت من قبل أَن تستسعي فِي بَاقِي الدّين إِن كَانَت أَكثر من قيمتهَا، وَإِن كَانَ السَّيِّد استلحق وَلَدهَا بعد وَضعهَا لَهُ وَهُوَ مُعسر، قسم الدّين على قيمتهَا يَوْم ارتهنها، وعَلى قيمَة وَلَدهَا يَوْم اسْتَلْحقهُ، فَمَا أصَاب للْأُم سعت فِيهِ بَالغا مَا بلغ للْمُرْتَهن، وَلم ترجع بِهِ على سَيِّدهَا، وَمَا أصَاب الْوَلَد سعي فِي الْأَقَل من الدّين أَو من قِيمَته وَلَا رُجُوع بِهِ على أَبِيه، وَيَأْخُذ الْمُرْتَهن كل ذَلِك. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة قلت: سُبْحَانَ الله! هَذَا تحكم، وَكَيف يكون حجَّة عَلَيْهِ وَقد ذكرنَا وَجهه؟ على أَن الشّعبِيّ، هُوَ الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث، قد روى عَنهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا، فَهَذَا قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن صَالح عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ، قَالَ: لَا ينْتَفع فِي الرَّهْن بِشَيْء، فَهَذَا الشّعبِيّ يَقُول هَذَا، وَقد روى عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث الْمَذْكُور أفيجوز عَلَيْهِ أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة يحدثه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك ثمَّ يَقُول هُوَ بِخِلَافِهِ؟ وَلَيْسَ ذَلِك إلاَّ وَقد ثَبت نسخ هَذَا الحَدِيث عِنْده. وَالله أعلم.
2152 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ قَالَ أخْبَرَنا عبدُ الله بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أخْبرنا زَكَرِيَّاءُ عَن الشَّعْبِيِّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّهنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كانَ مَرْهُونَاً ولَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كانَ مَرْهُوناً وعلَى الَّذِي يَرْكَبُ ويَشْرَبُ النَّفَقَةُ.
(انْظُر الحَدِيث 1152) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه مُحَمَّد بن مقَاتل الرَّازِيّ عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة عَن عَامر الشّعبِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (الظّهْر يركب) ، ويروى: (الرَّهْن يركب) ، وَمرَاده بِالرَّهْنِ أَيْضا: الظّهْر، بِقَرِينَة: يركب.
5 - (بابُ الرَّهْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ وغَيْرِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الرَّهْن عِنْد الْيَهُود وَغَيرهم مثل النَّصَارَى وَالْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن.
3152 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَريرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتِ اشْتَرَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ يَهُودِيٍّ طَعاماً ورهَنَهُ دِرْعَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد تكَرر ذكره، لَا سِيمَا عَن قريب.
6 - (بابٌ إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ والْمُرْتَهِنُ ونَحْوُهُ فالْبَيِّنَةُ عَلى الْمُدَّعِي والْيَمِينُ علَى الْمُدَّعَى عليْهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اخْتلف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن، مثل مَا إِذا اخْتلفَا فِي مِقْدَار الدّين وَالرَّهْن قَائِم، فَقَالَ الرَّاهِن: رهنتك بِعشْرَة دَنَانِير، وَقَالَ الْمُرْتَهن: بِعشْرين دِينَارا. فَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: القَوْل قَول الرَّاهِن مَعَ يَمِينه، لِأَنَّهُ يُنكر الزِّيَادَة، وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَهُوَ الْمُرْتَهن. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: القَوْل قَول الْمُرْتَهن مَا لم يُجَاوز دينه قيمَة رَهنه. قَوْله: (وَنَحْوه) أَي: وَنَحْو اخْتِلَاف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن، مثل اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين، وَغَيره، ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير(13/74)
الْمُدَّعِي، فَقيل: المدع من لَا يسْتَحق إلاَّ بِحجَّة كالخارج، وَقيل: الْمُدَّعِي من يتَمَسَّك بِغَيْر الظَّاهِر، وَقيل: الْمُدَّعِي من يذكر أمرا خفِيا خلاف الظَّاهِر. وَقيل: الْمُدَّعِي من إِذا ترك ترك، وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَن لكَونه جَامعا ومانعاً. وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ من يسْتَحق بقوله من غير حجَّة كصاحب الْيَد، وَقيل: من يتَمَسَّك بِالظَّاهِرِ، وَقيل: من إِذا ترك لَا يتْرك بل يجْبر، وَهَذَا أَيْضا أحسن مَا قيل فِيهِ.
4152 - حدَّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا نافِعُ بنُ عُمرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَتَبْتُ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ فكَتَبَ إلَيَّ أنَّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى أنَّ الْيَمِينَ علَى الْمُدَّعَى عليْهِ.
مطابقته لجزء التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ) . وخلاد، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: ابْن يحيى بن صَفْوَان أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَنَافِع بن عمر بن عبد الله الجُمَحِي من أهل مَكَّة، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، واسْمه: زُهَيْر بن عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ الْأَحول، كَانَ قَاضِيا لِابْنِ الزبير ومؤذناً لَهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن أبي نعيم، وَفِي التَّفْسِير عَن نصر بن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَحْكَام عَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن القعْنبِي عَن نَافِع بن عمر مُخْتَصرا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن سُهَيْل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن عَليّ بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب فِي مَعْنَاهُ.
قَوْله: (كتبت إِلَى ابْن عَبَّاس) يَعْنِي: كتبت إِلَيْهِ أسأله فِي قَضِيَّة امْرَأتَيْنِ ادَّعَت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى، على مَا يَجِيء فِي تَفْسِير سُورَة آل عمرَان. قَوْله: (فَكتب إِلَى) إِلَى آخِره: الْكِتَابَة حكمهَا حكم الِاتِّصَال لَا الِانْقِطَاع، وَالْخلاف فِيهَا مَعْرُوف فِي عُلُوم الحَدِيث، وَقد قَالَ بِصِحَّتِهِ أَيُّوب وَمَنْصُور وَآخَرُونَ، وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح، وَهُوَ الصَّحِيح أَيْضا عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا ذكره فِي الْمَحْصُول، وَفِي الصَّحِيح عدَّة أَحَادِيث، من ذَلِك: قَالَ البُخَارِيّ فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور: كتب إِلَى مُحَمَّد بن بشار، وَعند مُسلم: أَن جَابر بن سَمُرَة كتب إِلَى عَامر بن سعد بن أبي وَقاص بِحَدِيث رجم الْأَسْلَمِيّ، وَذهب أَبُو الْحسن بن الْقطَّان إِلَى انْقِطَاع الرِّوَايَة بِالْكِتَابَةِ، وَأنكر عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى عدم صِحَة الْكِتَابَة: الْمَاوَرْدِيّ، كَمَا ذهب إِلَيْهِ فِي الْإِجَارَة. قَوْله: (قضى أَن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ) ، قيل: إِن البُخَارِيّ حمله على عُمُومه، خلافًا لمن قَالَ: إِن القَوْل فِي الرَّهْن قَول الْمُرْتَهن مَا لم يُجَاوز قدر الرَّهْن، لِأَن الرَّهْن كالشاهد للْمُرْتَهن. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الحَدِيث خرج مخرج الْعُمُوم وَأُرِيد بِهِ الْخُصُوص، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّهَا نازلة فِي عين وَالْأَفْعَال لَا عُمُوم لَهَا كالأقوال فِي الْأَصَح، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث: إلاَّ فِي الْقسَامَة، أَي: فَإِنَّهَا على الْمُدعى إِذا قَالَ: دمي عِنْد فلَان، وَادّعى ابْن التِّين أَن الشَّافِعِي وَأَبا حنيفَة وَجَمَاعَة من متأخري الْمَالِكِيَّة أَبَوا ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَقيل: يحلف الْمُدَّعِي وَإِن لم يقل الْمَيِّت: دمي عِنْد فلَان، وَهُوَ قَول شَاذ لم يقلهُ أحد من فُقَهَاء الْأَمْصَار. وَقَالَت فرقة: لَا يجب الْقَتْل إلاَّ بِبَيِّنَة واعتراف الْقَاتِل. قلت: قَوْله: وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث (إلاَّ فِي الْقسَامَة) هُوَ حَدِيث رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر، إلاَّ فِي الْقسَامَة.
6152 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ قَالَ حدَّثنا جَريرٌ عنْ مَنْصُور عنْ أبِي وائِلٍ قَالَ قَالَ عبدُ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ يَسْتَحِقُّ بِها مَالا وهْوَ فِيها فاجِرٌ لَقِيَ الله وهُوَ علَيْهِ غَضْبانٌ فأنْزَلَ الله تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فقَرَأَ إلَى {عَذَابٌ ألِيمٌ} (آل عمرَان: 77) . ثُمَّ إنَّ الأشْعَثَ ابنَ قَيْسٍ خَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمح أبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ فَحَدَّثناهُ قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ وَالله أُنْزِلَتْ كانَتْ بَيْنِي وبَيْنَ رَجُلٍ خُصومَةٌ فِي بِئرٍ فاخْتَصَمْنا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ(13/75)
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاهِدُكَ أوْ يَمينُهُ قُلْتُ إنَّهُ إذَاً يَحْلِفَ وَلَا يُبَالي فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ يَسْتَحِقُّ بِها مَالا وهْوَ فِيهَا فاجِرٌ لَقيَ الله وهْوَ علَيْهِ غَضْبان فأنْزَلَ الله تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هاذِهِ الْآيَة: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إِلَى {ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (شاهدك أَو يَمِينه) والْحَدِيث مضى فِي كتاب الشّرْب فِي: بَاب الْخُصُومَة فِي الْبِئْر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن عبد الله ... إِلَى آخِره. وَأخرجه هُنَا عَن قُتَيْبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبي وَائِل، هُوَ شَقِيق بن سَلمَة، قَوْله: (قَالَ: قَالَ عبد الله) ، هُوَ عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (وَهُوَ فِيهَا فَاجر) أَي: كَاذِب، وَهُوَ من بَاب الْكِنَايَة، إِذْ الْفُجُور لَازم الْكَذِب، وَالْوَاو فِي: وَهُوَ، للْحَال. قَوْله: (غَضْبَان) ، وَإِطْلَاق الْغَضَب على الله تَعَالَى من بَاب الْمجَاز، إِذْ المُرَاد لَازمه، وَهُوَ إِرَادَة إِيصَال الْعَذَاب. قَوْله: (ثمَّ إِن الْأَشْعَث) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (أَبُو عبد الرَّحْمَن) ، هُوَ كنية عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (فَحَدَّثنَاهُ) ، بِفَتْح الدَّال. قَوْله: (لفي) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (أنزلت) ، ويروى: نزلت. قَوْله: (شاهدك) ، ويروى: شَاهِدَاك. قَوْله: (إِذا يحلف) ، بِنصب الْفَاء، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
بِسم الله الرَّحمانِ الرَّحِيمِ
94 - (كتابُ العِتْقِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْعتْق، ذَا هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَلكنه ذكره قبل الْبَسْمَلَة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين هَكَذَا: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي الْعتْق وفضله، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، بَاب فِي الْعتْق، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: كتاب الْعتْق: بَاب مَا جَاءَ فِي الْعتْق وفضله. الْعتْق لُغَة: الْقُوَّة، من عتق الطَّائِر إِذا قوي على جناحيه، وَفِي الشَّرْع: عبارَة عَن قُوَّة شَرْعِيَّة فِي مَمْلُوك، وَهِي إِزَالَة الْملك عَنهُ، وَالرّق ضعف شَرْعِي يثبت فِي الْمحل فيعجزه عَن التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة، ويسلبه أَهْلِيَّة الْقَضَاء وَالشَّهَادَة والسلطنة والتزوج، وَغير ذَلِك، وَالْعتاق اسْم لِلْعِتْقِ، يُقَال: أعتقت العَبْد أعْتقهُ إعتاقا وعتاقة، وَالْإِعْتَاق إِثْبَات الْعتْق عِنْد أبي يُوسُف، وَمُحَمّد، وَعند أبي حنيفَة: إِثْبَات الْفِعْل المفضي إِلَى حُصُول الْعتْق.
1 - (بابُ مَا جاءَ فِي العتقِ وفَضْلِهِ وقَوْلِ الله عزَّ وَجلَّ {فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} (الْبَلَد: 31 51)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي أَمر الْعتْق، وَفِي بَيَان فَضله. قَوْله: (وَقَول الله عز وَجل) ، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: فِي الْعتْق. قَوْله: {فك رَقَبَة} (الْبَلَد: 31 51) . أَولهَا قَوْله: {فَلَا اقتحم الْعقبَة وَمَا ادراك مَا الْعقبَة فك رَقَبَة} (الْبَلَد: 11 31) . الضَّمِير فِي: فَلَا اقتحم، يرجع إِلَى الْإِنْسَان فِي قَوْله: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان} (الْبَلَد: 4) . المُرَاد مِنْهُ: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: أهلكت مَالا كثيرا فِي عَدَاوَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ الله عز وَجل: {أيحسب} أَي: أيظن هَذَا {أَن لم يره} أَي: أَن لم ير مَا أنفقهُ {أحد} (الْبَلَد: 7) . من النَّاس؟ ثمَّ ذكر الله النعم ليعتبر. فَقَالَ: {ألم نجْعَل لَهُ عينين وَلِسَانًا وشفتين وهديناه النجدين} (الْبَلَد: 8 01) . أَي: سَبِيل الْخَيْر وَالشَّر، قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَقيل: الْحق وَالْبَاطِل، وَقيل الْهدى والضلالة، وَقيل: الشقاوة والسعادة. والنجد: الْمُرْتَفع من الأَرْض. ثمَّ قَالَ: {فَلَا أقتحم الْعقبَة} (الْبَلَد: 7) . أَي: فَلَا دخل هَذَا الْإِنْسَان الْعقبَة، والاقتحام: الدُّخُول فِي الْأَمر الشَّديد، والعقبة: جبل فِي جَهَنَّم، وَقيل: هِيَ عقبَة دون الْحَشْر، وَقيل: سَبْعُونَ دركة من جَهَنَّم، وَقيل: الصِّرَاط، وَقيل: نَار دون الْحَشْر. وَقَالَ الْحسن: عقبَة وَالله شَدِيدَة. قَوْله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة} (الْبَلَد: 31 51) . أَي: مَا اقتحام الْعقبَة؟ قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كل شَيْء قَالَ: {وَمَا أَدْرَاك} فَإِنَّهُ أخبرهُ بِهِ، وَمَا قَالَ: {وَمَا يدْريك} فَإِنَّهُ لم يُخبرهُ بِهِ. قَوْله: {فك رَقَبَة} قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ: فك، بِفَتْح الْكَاف، وَأطْعم بِفَتْح الْمِيم على الْفِعْل، وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَة على الإسم، لِأَنَّهُ تَفْسِير. قَوْله: {وَمَا(13/76)
أَدْرَاك} مَعْنَاهُ: خلص رقبته من الْأسر على قِرَاءَة ابْن كثير، وعَلى قِرَاءَة غَيره: خلاص الرَّقَبَة، أَي: الفك هُوَ خلاص الرَّقَبَة، وَإِنَّمَا ذكر لفظ: الرَّقَبَة، دون سَائِر الْأَعْضَاء، مَعَ أَن الْعتْق يتَنَاوَل الْجَمِيع، لِأَن حكم السَّيِّد عَلَيْهِ كحبل فِي رَقَبَة العَبْد، وكالغل الْمَانِع لَهُ من الْخُرُوج، فَإِذا أعتق فَكَأَنَّهُ أطلقت رقبته من ذَلِك قَوْله: {أَو إطْعَام فِي يَوْم} (الْبَلَد: 41) . وَالْمرَاد من الْيَوْم هُنَا مُطلق الزَّمَان لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا. قَوْله: ذِي مسغبة} (الْبَلَد: 51) . أَي: مجاعَة، يُقَال: سغب يسغب سغوباً: إِذا جَاع. قَوْله: {يَتِيما} (الْبَلَد: 41) . مَنْصُوب بقوله: أطْعم، أَو بإطعام، والمصدر أَيْضا يعْمل عمل فعله. قَوْله: {ذَا مقربة} (الْبَلَد: 51) . صفة: ليتيماً، أَي: ذَا قرَابَة، يُقَال: زيد قَرَابَتي أَو ذُو مقربتي، وَزيد قَرَابَتي قَبِيح لِأَن الْقَرَابَة مصدر. قَوْله: {أَو مِسْكينا} (الْبَلَد: 61) . عطف على يَتِيما {وَذَا مَتْرَبَة} (الْبَلَد: 61) . صفته أَي: ذَا فقر، قد لصق بِالتُّرَابِ من الْفقر، وَقيل: المتربة من التربة هُنَا، وَهِي شدَّة الْحَال.
7152 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يونُسَ قَالَ حَدثنَا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثني واقِدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثني سعيدُ بنُ مَرْجانَةَ صاحِبُ عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ قَالَ قَالَ لي أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّما رَجُلٍ أعْتَقَ امْرَءًا مسْلِماً اسْتَنْقَذَ الله بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ قَالَ سَعِيدُ بنُ مَرْجَانَةَ فانْطَلَقْتُ بِهِ إلاى عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ فعَمَدَ عَلِيُّ بنُ حُسَيْنٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ الله بنُ جَعْفَرٍ عَشْرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ أوْ ألْفِ دِينَارٍ فأعْتَقَهُ.
(الحَدِيث 7152 طرفه فِي: 5176) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ يخبر عَن فضل عَظِيم فِي الْعتْق.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد ابْن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب الْعَدوي الْقرشِي. الثَّالِث: وَاقد، بِكَسْر الْقَاف: ابْن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، أَخُو عَاصِم الْمَذْكُور، الرَّابِع: سعيد ب مرْجَانَة وَهُوَ سعيد بن عبد الله مولى بني عَامر، ومرجانة أمه وَهِي أُخْت اللؤلؤة أم سعيد، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، أَي: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده وَأَنه كُوفِي وَأَن سعيداً حجازي وَعَاصِم وَأَخُوهُ مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ. وَفِيه: أَن سعيد بن مرْجَانَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَقد ذكره ابْن حبَان فِي التَّابِعين، وَأثبت رِوَايَته عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ ذهل فَذكره فِي اتِّبَاع التَّابِعين، وَقَالَ: لم يسمع عَن أبي هُرَيْرَة، وَيرد مَا ذكره رِوَايَة البُخَارِيّ، بقوله: قَالَ لي أَبُو هُرَيْرَة: وَوَقع التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ مِنْهُ عِنْد مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كَفَّارَات الْأَيْمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن دَاوُد بن رشيد وَعَن حميد بن مسْعدَة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن قُتَيْبَة عَن لَيْث. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَيْمَان عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعتْق عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُجَاهِد بن مُوسَى، وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وَابْن عَبَّاس وواثلة بن الْأَسْقَع وَأبي أُمَامَة وَعقبَة بن عَامر وَكَعب بن مرّة قلت. أما حَدِيث عَائِشَة فَأخْرجهُ ابْن زَنْجوَيْه بِإِسْنَادِهِ عَنْهَا مَرْفُوعا: من أعتق عضوا من مَمْلُوك أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا. وَأما حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث شُرَحْبِيل بن السمط أَنه قَالَ لعَمْرو بن عَنْبَسَة: حَدثنَا حَدِيثا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت فدَاه من النَّار. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب الثَّوَاب وفضائل الْأَعْمَال) عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا مُؤمن أعتق مُؤمنا فِي الدُّنْيَا أعْتقهُ الله عضوا بعضو من النَّار. وَأما حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة الغريف الديلمي، قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، فَقُلْنَا لَهُ: حَدثنَا حَدِيثا فَذكره، وَفِيه قَالَ: أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي صَاحب لنا أوجب يَعْنِي: النَّار بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: أعتقوا عَنهُ يعْتق الله بِكُل عُضْو مِنْهُ(13/77)
عضوا مِنْهُ من النَّار. وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: إِن غريف لقب عبد الله الديلمي. وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا امرىء مُسلم أعتق امْرأ مُسلما كَانَ فكاكه من النَّار، يجزى كل عُضْو مِنْهُ عضوا وَأَيّمَا امرىء مُسلم أعتق امْرَأتَيْنِ مسلمتين كَانَتَا فكاكه من النَّار، يجزى كل عُضْو مِنْهُمَا عضوا مِنْهُ، وَأَيّمَا امْرَأَة مسلمة أعتقت امْرَأَة مسلمة كَانَت فكاكها من النَّار يجزى كل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهَا) . وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب. وَأما حَدِيث عقبَة فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة قَتَادَة عَن قيس الجذامي عَن عقبَة بن عَامر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة فَهِيَ فكاكه من النَّار) . وَرَوَاهُ أَبُو يعلى وَالْحَاكِم، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَأما حَدِيث كَعْب بن مرّة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة شُرَحْبِيل بن السمط، قَالَ: قلت لكعب: يَا كَعْب بن مرّة أَو مرّة بن كَعْب حدِّثنا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحْذَرْ. قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من أعتق امْرأ مُسلما كَانَ فكاكه من النَّار يجزى بِكُل عظم مِنْهُ عظم مِنْهُ، وَمن أعتق امْرَأتَيْنِ مسلمتين كَانَتَا فكاكه من النَّار يجزى بِكُل عظمين مِنْهُمَا عظم مِنْهُ) . لفظ ابْن مَاجَه، وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) .
قلت: وَفِي الْبَاب عَن معَاذ بن جبل وَمَالك بن عَمْرو الْقشيرِي وَسَهل بن سعد وَأبي مَالك وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأبي ذَر. وَأما حَدِيث معَاذ فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة قَتَادَة عَن قيس عَن معَاذ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة فَهِيَ فداؤه من النَّار. وَأما حَدِيث مَالك بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة عَليّ ابْن زيد عَن زُرَارَة بن أبي أوفى عَن مَالك بن عَمْرو الْقشيرِي، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من أعتق رَقَبَة مسلمة فَهِيَ فداؤه من النَّار) . وَأما حَدِيث سهل بن سعد فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الصَّغِير) من رِوَايَة زَكَرِيَّاء بن مَنْظُور عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أعتق رَقَبَة مسلمة أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا من النَّار) ، وَأخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَضَعفه بزكرياء الْمَذْكُور. وَأما حَدِيث أبي مَالك فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم فِي حَدِيث مَالك بن عَمْرو. وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن شُعْبَة شيخ من أهل الْكُوفَة عَن أبي بردة عَن أَبِيه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من أعتق رَقَبَة أَو عبدا كَانَت فكاكه من النَّار) . وَأما حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من رِوَايَة أبي جرير عَن الْحسن عَن صعصعة عَن أبي ذَر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة فَإِنَّهُ يَجْزِي من كل عضوا، وَيجوز: من كل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صَاحب عَليّ بن حُسَيْن) ، وَهُوَ زين العابدين بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَكَانَ سعيد بن مرْجَانَة مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ فَعرف بِصُحْبَتِهِ. قَوْله: (أَيّمَا رجل) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَاصِم بن عَليّ عَن عَاصِم بن مُحَمَّد: أَيّمَا مُسلم، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم عَن سعيد بن مرْجَانَة، وَكلمَة: أَي، للشّرط دخلت عَلَيْهِ كلمة: مَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (أَيّمَا رجل) ، بِالْجَرِّ وبالرفع على الْبَدَلِيَّة. قَوْله: (استنقذ الله) أَي: نجى الله وخلص بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ من النَّار، وَسَيَأْتِي فِي كَفَّارَات الْأَيْمَان: أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا من أَعْضَائِهِ من النَّار، حَتَّى فرجه بفرجه، وَعند أبي الْفضل الْجُورِي: حَتَّى أَنه ليعتق الْيَد بِالْيَدِ وَالرجل بِالرجلِ والفم بالفم، فَقَالَ لَهُ عَليّ بن حُسَيْن أَنْت سَمِعت هَذَا من أبي هُرَيْرَة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ادعوا لي أفرد غلماني مطوفاً فَأعْتقهُ. قَوْله: (قَالَ: سعيد بن مرْجَانَة) هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَانْطَلَقت بِهِ) ، أَي: بِالْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَانْطَلَقت حَتَّى سَمِعت الحَدِيث من أبي هُرَيْرَة، فَذَكرته لعَلي، وَزَاد أَحْمد وَأَبُو عوَانَة فِي روايتيهما من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم عَن سعيد بن مرْجَانَة، فَقَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن: أَنْت سَمِعت هَذَا من أبي هُرَيْرَة، قَالَ: نعم قَوْله: (فَعمد عَليّ) أَي: عَليّ بن الْحُسَيْن، أَي: قصد إِلَى عبد لَهُ واسْمه مطرف ... كَمَا ذكر الْآن فِي حَدِيث الْجُورِي. قَوْله: (قد أعطَاهُ) أَي: قد أعْطى عَليّ بن الْحُسَيْن بِهِ أَي: بِمُقَابلَة عَبده (عبد الله بن جَعْفَر) وَهُوَ مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: أعطَاهُ، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ مَفْعُوله الأول، وَقَوله: (عشرَة آلَاف دِرْهَم) مَفْعُوله الثَّانِي، وَعبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب وَهُوَ ابْن عَم وَالِد عَليّ بن الْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ أول من ولد للمهاجرين(13/78)
بِالْحَبَشَةِ، وَكَانَ آيَة فِي الْكَرم وَيُسمى ببحر الْجُود وَله صُحْبَة، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة. قَوْله: (أَو ألف دِينَار) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (فَأعْتقهُ) ، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم، فَقَالَ: إذهب أَنْت حر لوجه الله تَعَالَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: يَنْبَغِي أَن يكون الْمُعْتق كَامِل الْأَعْضَاء، وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون نَاقص الْأَعْضَاء بعور أَو شلل وشبههما، وَلَا معيبا بِعَيْب يضر بِالْعَمَلِ ويخل بالسعي والاكتساب، وَرُبمَا كَانَ نقص الْأَعْضَاء زِيَادَة فِي الثّمن كالخصي إِذْ يصلح لما يصلح لَهُ غَيره من حفظ الْحَرِيم وَنَحْوه، فَلَا يكره على أَنه لَا يخل بِالْعَمَلِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف الْعلمَاء أَيّمَا أفضل: عتق الْإِنَاث أَو الذُّكُور؟ فَقَالَ بَعضهم: الْإِنَاث أفضل، وَقَالَ آخَرُونَ: الذُّكُور أفضل، لحَدِيث أبي أُمَامَة وَلما فِي الذّكر من الْمعَانِي الْعَامَّة الَّتِي لَا تُوجد فِي الْإِنَاث، وَلِأَن من الْإِمَاء من لَا ترغب فِي الْعتْق وتضيع بِهِ بِخِلَاف العَبْد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَاسْتحبَّ بعض الْعلمَاء أَن يعْتق الذّكر وَالْأُنْثَى، مثلهَا ذكره الفرغاني فِي (الْهِدَايَة) ليتَحَقَّق مُقَابلَة الْأَعْضَاء بالأعضاء، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الزِّنَا كَبِيرَة لَا يكفر إلاَّ بِالتَّوْبَةِ، فَيحمل هَذَا الحَدِيث على أَنه أَرَادَ مس الْأَعْضَاء بَعْضهَا بَعْضًا من غير إيلاج، وَيحْتَمل أَن يُرِيد: أَن لعتق الْفرج حظاً فِي الموازنة فيكفر. وَفِيه: فضل الْعتْق، وَأَنه من أرفع الْأَعْمَال وَرُبمَا يُنجي الله بِهِ من النَّار. وَفِيه: أَن المجازاة قد تكون من جنس الْأَعْمَال فجوزي الْمُعْتق للْعَبد بِالْعِتْقِ من النَّار. وَفِيه: أَن تَقْوِيم بَاقِي العَبْد لمن أعتق شِقْصا مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ لاستعمال عتق نَفسه بِتَمَامِهَا من النَّار، وَصَارَت حُرْمَة الْعتْق تتعدى إِلَى الْأَمْوَال لفضل النجَاة بِهِ من النَّار، قيل: وَهَذَا أولى من قَول من قَالَ: إِنَّمَا ألزم عتق بَاقِيه لتكميل حريَّة العَبْد. وَفِيه: أَن عتق الْمُسلم أفضل من عتق الْكَافِر، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء، وَحكي عَن مَالك وَبَعض أَصْحَابه أَن الْأَفْضَل عتق الرَّقَبَة النفيسة وَإِن كَانَ كَافِرًا.
2 - (بابٌ أيُّ الرِّقابِ أفْضَلُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: أَي الرّقاب أفضل لِلْعِتْقِ؟ وَكلمَة: أَي: هُنَا للاستفهام.
8152 - حدَّثنا عُبَيْدُ لله بنُ مُوساى عنْ هِشَامِ بنِ عُروة عنْ أبِيهِ عنْ أبِي مُرَاوِحٍ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سألْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي الْعَمَلِ أفْضَلُ قَالَ إيمانٌ بِاللَّه وجِهادٌ فِي سَبِيلِهِ قُلْتُ فأيُّ الرِّقابِ أفْضَلُ قَالَ أغْلاهَا ثَمَنَاً وأنْفَسُها عِنْدَ أهْلِها قُلْتُ فإنْ لَمْ أفْعَلْ قَالَ تُعينُ ضايِعاً أوْ تَصْنَعُ لَأَخْرَقَ قَالَ فإنْ لَمْ أفْعَلْ قَالَ تدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فإنَّها صَدَقةٌ تصَدَّقُ بِها عَلى نفْسِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فإي الرّقاب أفضل؟) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي. الثَّانِي: هِشَام بن عُرْوَة. الثَّالِث: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الرَّابِع: أَبُو مراوح، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء وَكسر الْوَاو وَفِي آخِره حاء مُهْملَة على وزن مقَاتل، وَفِي رِوَايَة مُسلم اللَّيْثِيّ: وَيُقَال لَهُ الْغِفَارِيّ، قيل: اسْمه سعد، وَالأَصَح أَنه لَا يعرف لَهُ اسْم، وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد: أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره. الْخَامِس: أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ، واسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون إلاَّ شَيْخه فَإِنَّهُ كُوفِي. وَفِيه: أَن هَذَا الْإِسْنَاد فِي حكم الثلاثيات لِأَن هِشَام بن عُرْوَة الَّذِي هُوَ شيخ شَيْخه من التَّابِعين، وَإِن كَانَ روى هُنَا عَن تَابِعِيّ آخر، وَهُوَ أَبوهُ عُرْوَة. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وهم: هِشَام وَأَبوهُ وَأَبُو مراوح، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن الزُّهْرِيّ عَن حبيب مولى عُرْوَة عَن عُرْوَة فَصَارَ فِيهِ أَرْبَعَة من التَّابِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن لَيْسَ لأبي مراوح فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: عَن هِشَام بن عُرْوَة وَفِي رِوَايَة الْحَارِث بن أبي أُسَامَة عَن عبيد الله ابْن مُوسَى: أخبرنَا هِشَام بن عُرْوَة. وَفِيه: هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي أبي أَن أَبَا مراوح أخبرهُ. وَفِيه: عَن أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة يحيى بن سعيد: أَن أَبَا ذَر أخبرهُ، وَذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ جمَاعَة أَكثر من عشْرين نفسا رووا هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَخَالفهُم مَالك فَأرْسلهُ فِي الْمَشْهُور عَنهُ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ يحيى بن يحيى(13/79)
اللَّيْثِيّ وَطَائِفَة عَنهُ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَرَوَاهُ سعيد بن دَاوُد عَنهُ عَن هِشَام كَرِوَايَة الْجَمَاعَة، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الرِّوَايَة الْمُرْسلَة عَن مَالك أصح، وَالْمَحْفُوظ عَن هِشَام كَمَا قَالَ الْجَمَاعَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَخلف بن هِشَام وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعتْق عَن عبيد الله بن سعيد بِقصَّة الْجِهَاد وقصة الرّقاب وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم بهما وَفِي الْجِهَاد عَن مُحَمَّد بن عبد الله بالقصة الأولى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أَحْمد ابْن سيار بِقصَّة الرّقاب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَجِهَاد فِي سَبيله) ، إِنَّمَا قرن الْجِهَاد بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِم أَن يجاهدوا فِي سَبِيل الله حَتَّى تكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَكَانَ الْجِهَاد فِي ذَلِك الْوَقْت أفضل الْأَعْمَال. قَوْله: (أغلاها ثمنا) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أَعْلَاهَا، بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَهِي رِوَايَة النَّسَائِيّ أَيْضا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بالغين الْمُعْجَمَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي (الْمطَالع) : مَعْنَاهُمَا مُتَقَارب، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: أَكْثَرهَا ثمنا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَحَله، وَالله أعلم، فِيمَن أَرَادَ أَن يعْتق رَقَبَة وَاحِدَة، أما لَو كَانَ مَعَ شخص ألف دِرْهَم مثلا فَأَرَادَ أَن يَشْتَرِي بهَا رَقَبَة يعتقها فَوجدَ رَقَبَة نفيسة ورقبتين مفضولتين، فالرقبتان أفضل. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَاف الْأُضْحِية، فَإِن الْوَاحِدَة السمينة فِيهَا أفضل لِأَن الْمَطْلُوب هُنَالك الرَّقَبَة وهنالك طيب اللَّحْم، وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: إِذا كَانَا فِي ذَوي الدّين أفضلهما أغلاهما ثمنا. وَقد اخْتلف فِيمَا إِذا كَانَ النَّصْرَانِي أَو الْيَهُودِيّ أَو غَيرهمَا أَكثر ثمنا من الْمُسلم، قَالَ مَالك: عتق الأغلى أفضل وَإِن كَانَ غير مُسلم. وَقَالَ أصبغ: عتق الْمُسلم أفضل. قَوْله: (وأنفسها) ، أَي: أَكْثَرهَا رَغْبَة عِنْد أَهلهَا لمحبتهم فِيهَا، لِأَن عتق مثل ذَلِك لَا يَقع غَالِبا إلاَّ خَالِصا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} (آل عمرَان: 29) . وَكَانَ لِابْنِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، جَارِيَة يُحِبهَا فَأعْتقهَا لهَذِهِ الْآيَة. قَوْله: (قلت: فَإِن لم أفعل؟) ويروى: قَالَ: فَإِن لم أفعل؟ أَي: إِن لم أقدر على ذَلِك؟ فَأطلق الْفِعْل وَأَرَادَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَرَأَيْت إِن لم أفعل؟ وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) : فَإِن لم أستطع؟ قَوْله: (تعين ضايعاً) بالضاد الْمُعْجَمَة وبالياء آخر الْحُرُوف بعد الْألف، كَذَا وَقع لجَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ، وَجزم بِهِ القَاضِي عِيَاض وَغَيره، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مُسلم إلاَّ فِي رِوَايَة السَّمرقَنْدِي، وَجزم الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره بِأَن هشاماً رَوَاهُ هَكَذَا دون من رَوَاهُ عَن أَبِيه، فَعلم من ذَلِك أَن الَّذِي رَوَاهُ: صانعاً، بالصَّاد الْمُهْملَة وبالنون بعد الْألف غير صَحِيح، لِأَن هَذِه الرِّوَايَة لم تقع فِي شَيْء من طرقه. وروى الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق معمر عَن هِشَام هَذَا الحَدِيث بالضاد الْمُعْجَمَة، قَالَ معمر: وَكَانَ الزُّهْرِيّ يَقُول: صحف هِشَام، وَإِنَّمَا هُوَ بالصَّاد الْمُهْملَة وَالنُّون. قلت: كَأَن ابْن الْمُنِير اعْتمد على أَنه بالصَّاد الْمُهْملَة وَالنُّون حَيْثُ قَالَ: وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن إِعَانَة الصَّانِع أفضل من إِعَانَة غير الصَّانِع، لِأَن غير الصَّانِع مَظَنَّة الْإِعَانَة، فَكل أحد يُعينهُ غَالِبا بِخِلَاف الصَّانِع، فَإِنَّهُ لشهرته بصنعته يغْفل عَن إعانته فَهُوَ من جنس الصَّدَقَة على المستور. انْتهى. قلت: هَذَا لَا بَأْس بِهِ إِذا صحت الرِّوَايَة بالصَّاد وَالنُّون، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَصَوَابه بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّون، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَكْثَر فِي الرِّوَايَة الْمُعْجَمَة. وَقَالَ عِيَاض: روايتنا فِي هَذَا من طَرِيق هِشَام بِالْمُعْجَمَةِ، وَعَن أبي بَحر بِالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ صَوَاب الْكَلَام لمقابلته بالأخرق، وَإِن كَانَ الْمَعْنى من جِهَة مَعُونَة الضائع أَيْضا صَحِيحا، لَكِن صحت الرِّوَايَة عَن هِشَام بِالْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: الزُّهْرِيّ، يَقُول بِالْمُهْمَلَةِ، ويرون أَن هشاماً صحفه بِالْمُعْجَمَةِ، وَالصَّوَاب قَول الزُّهْرِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وضايعاً، بِالْمُعْجَمَةِ. بِالْمُعْجَمَةِ ثمَّ بِالْمُهْمَلَةِ وَفِي بَعْضهَا بالمهملتين وبالنون ثو قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن معمر كَانَ الزُّهْرِيّ يَقُول صحف هِشَام حَيْثُ روى ضايعاً بِالْمُعْجَمَةِ انْتهى قلت انْتهى. قلت: لم يحرر الْكرْمَانِي هَذَا الْموضع، والتحرير مَا ذَكرْنَاهُ، وَمعنى الضايع، بِالْمُعْجَمَةِ: الْفَقِير لِأَنَّهُ ذُو ضيَاع من فقر وعيال. قَوْله: (أَو تصنع لأخرق) ، الأخرق، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالراء وَالْقَاف: هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِي يَده صَنْعَة وَلَا يحسن الصِّنَاعَة، قَالَ ابْن سَيّده: خرق بالشَّيْء جَهله وَلم يحسن عمله، وَهُوَ أخرق وَفِي (المثلث) لِابْنِ عديس: والخرق جمع الأخرق من الرِّجَال والخرقاء من النِّسَاء، وهما ضد الصناع والصنع. قَوْله: (تدع النَّاس) ، أَي: تتركهم من الشَّرّ، و: تدع، من الْأَفْعَال الَّتِي أمات الْعَرَب ماضيها، كَذَا قالته النُّحَاة، وَيرد عَلَيْهِم قِرَاءَة من قَرَأَ {مَا وَدعك(13/80)
رَبك وَمَا قلى} (الضُّحَى: 3) . بتَخْفِيف الدَّال. قَوْله: (فَإِنَّهَا صَدَقَة) أَي: فَإِن الْمَذْكُور من الْجُمْلَة صَدَقَة. قَوْله: (تصدق بهَا) ، بِفَتْح الصَّاد وَتَشْديد الدَّال، أَصله تَتَصَدَّق فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَيجوز تَشْدِيد الصَّاد على الْإِدْغَام، وَيجوز تخفيفها. وَفِي الحَدِيث أَن الْجِهَاد أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان، وَلما اخْتلفت الرِّوَايَات فِي أفضل الْأَعْمَال أجابوا بِأَن الِاخْتِلَاف بِحَسب اخْتِلَاف السَّائِلين، وَالْجَوَاب لَهُم بِحَسب مَا يَلِيق بالْمقَام.
وَفِيه: حسن الْمُرَاجَعَة فِي السُّؤَال وصبر الْمُفْتِي والمعلم على المستفتي والتلميذ والرفق بهم.
3 - (بابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ العَتَاقَةِ فِي الْكُسُوفِ أوِ الآياتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب الْعتَاقَة فِي كسوف الشَّمْس، والعتاقة بِفَتْح الْعين مصدر: أعتقت العَبْد، قَالَ الْكرْمَانِي: بالعتاقة أَي: بِالْإِعْتَاقِ، وَهُوَ على سَبِيل الْكِنَايَة إِذْ الْإِعْتَاق يلْزم الْعتَاقَة. قلت: كل مِنْهُمَا مصدر: أعتقت، فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف. قَوْله: (أَو الْآيَات) جمع: آيَة، وَهِي الْعَلامَة، وَكلمَة: أَو، هُنَا للتنويع لَا للشَّكّ هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عطف بِأَو، لَا: بِالْوَاو، قلت: أَو، بِمَعْنى: الْوَاو أَو بِمَعْنى: بل؟ قلت: كَون: أَو، بِمَعْنى: الْوَاو، لَهُ وَجه، وَأما كَونه بِمَعْنى: بل، فَلَا وَجه لَهُ على مَا لَا يخفى، وَأَرَادَ بِالْآيَاتِ نَحْو الخسوف فِي الْقَمَر والظلمة الشَّدِيدَة والرياح المحرقة والزلازل وَنَحْو ذَلِك. قَالَ الْكرْمَانِي: حَدِيث الْبَاب فِي كسوف الشَّمْس، وَيسْتَحب الْعتَاقَة فِيهَا وَلَا دلَالَة على اسْتِحْبَاب الْعتَاقَة فِي الْآيَات، وَأجَاب بِالْقِيَاسِ على الْكُسُوف لِأَن الْكُسُوف أَيْضا آيَة.
9152 - حدَّثنا موساى بنُ مَسْعُودٍ قَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ بنُ قُدَامَةَ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ فاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قالَتْ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ومُوسَى بن مَسْعُود أَبُو حُذَيْفَة النَّهْدِيّ، بالنُّون: الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَفَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير تروي عَن جدَّتهَا أَسمَاء، وَقد مضى الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْكُسُوف فِي: بَاب من أحب الْعتَاقَة فِي كسوف الشَّمْس، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن ربيع بن يحيى عَن زَائِدَة ... إِلَى آخِره نَحوه، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
تابَعَهُ عَلِيٌّ عنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عنْ هِشَامٍ
أَي: تَابع عَليّ مُوسَى بن مَسْعُود فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث فَرَوَاهُ عَن الدَّرَاورْدِي عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر ... إِلَى آخِره. قَالَ الْكرْمَانِي: عَليّ هُوَ ابْن حجر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وبالراء: أَبُو الْحسن السَّعْدِيّ الْمروزِي، مَاتَ سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وَوهم من قَالَ: المُرَاد بِهِ ابْن حجر. قلت: كلٌّ من عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَعلي بن حجر من مَشَايِخ البُخَارِيّ، وكل مِنْهُمَا روى عَن الدَّرَاورْدِي، فَمَا الدَّلِيل على صِحَة كَلَامه وَنسبَة الْوَهم إِلَى غَيره؟ والدراوردي، بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء الْخَفِيفَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء: نِسْبَة إِلَى دراورد، قَرْيَة من قرى خُرَاسَان، وَهُوَ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد.
0252 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكْر قَالَ حدَّثنا عَثَّامٌ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ عنْ فاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الكسوفِ بالْعَتاقَةِ..
هَذَا طَرِيق أخرجه عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن عثام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عَليّ بن الْوَلِيد العامري الْكُوفِي، مَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، يروي عَن هِشَام بن عُرْوَة وَفَاطِمَة زَوجته، وَرِوَايَة زَائِدَة فِي هَذَا الحَدِيث السَّابِق تبين أَن الْآمِر بالعتاقة فِي الْكُسُوف فِي رِوَايَة عثام هَذِه هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مِمَّا يُقَوي أَن قَول الصَّحَابِيّ: (كُنَّا نؤمر) بِكَذَا: فِي حكم الْمَرْفُوع.(13/81)
4 - (بابٌ إذَا أعتَقَ عَبْداً بَيْنَ اثْنَيْنِ أوْ أمَةً بَيْنَ الشُّرَكاءِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أعتق شخص عبدا كَائِنا بَين شَخْصَيْنِ أَو أمة، أَي: أَو أعتق شخص أمة كائنة بَين الشُّرَكَاء، وَإِنَّمَا خصص العَبْد بالإثنين وَالْأمة بالشركاء مَعَ أَن هَذَا الحكم فِيمَا إِذا كَانَت الْأمة بَين اثْنَيْنِ وَالْعَبْد بَين الشُّرَكَاء، مَعَ عدم التَّفَاوُت بَينهمَا، لأجل الْمُحَافظَة على لفظ الحَدِيث. قَوْله: (بَين اثْنَيْنِ) لَيْسَ إلاَّ على سَبِيل التَّمْثِيل، إِذْ الحكم كَذَلِك فِيمَا يكون بَين الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة وهلم جرّاً، وَقَالَ ابْن التِّين: أَرَادَ أَن العَبْد كالأمة لاشْتِرَاكهمَا فِي الرّقّ، قَالَ: وَقد بَين فِي حَدِيث ابْن عمر فِي آخر الْبَاب أَنه كَانَ يُفْتِي فيهمَا بذلك، قيل: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رد قَول إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: أَن هَذَا الحكم مُخْتَصّ بالذكور وخطئه، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: العَبْد اسْم للمملوك الذّكر بِأَصْل وَضعه، وَالْأمة اسْم لمؤنثه بِغَيْر لغظه، وَمن ثمَّ قَالَ إِسْحَاق: إِن هَذَا الحكم لَا يتَنَاوَل الْأُنْثَى، وَخَالفهُ الْجُمْهُور فَلم يفرقُوا فِي الحكم بَين الذّكر وَالْأُنْثَى، إِمَّا لِأَن لفظ العَبْد يُرَاد بِهِ الْجِنْس، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَلا آتى الرَّحْمَن عبدا} (مَرْيَم: 39) . فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى قطعا، وَإِمَّا على طَرِيق الْإِلْحَاق لعدم الْفَارِق.
1252 - عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفيانُ عنْ عَمْرو عنْ سالِمٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ عَبْداً بَيْنَ اثْنَيْنِ فإنْ كانَ مُوسِراً قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ..
أخرج البُخَارِيّ حَدِيث ابْن عَمْرو فِي هَذَا الْبَاب من سِتَّة طرق تشْتَمل على فُصُول من أَحْكَام عتق العَبْد الْمُشْتَرك، وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بأبحاث هَذِه الْأَحَادِيث مستوفاة فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء بِقِيمَة عدل، فَإِنَّهُ أخرج فِيهِ حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَأخرج أَيْضا حَدِيث جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن نَافِع عَن ابْن عمر فِي: بَاب الشّركَة فِي الرَّقِيق، ولنذكر فِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب مَا لَا بُد مِنْهُ، وَمن أَرَادَ الإمعان فِيهِ فَليرْجع إِلَى: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار. وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فرقهما، الْكل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو.
قَوْله: (سُفْيَان عَن عَمْرو) ، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: عَن سُفْيَان حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار عَن سَالم عَن أَبِيه، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: عَن سُفْيَان عَن عَمْرو أَنه سمع سَالم بن عبد الله بن عمر. قَوْله: (من أعتق) ظَاهره الْعُمُوم وَلكنه مَخْصُوص بالِاتِّفَاقِ، فَلَا يَصح من الْمَجْنُون وَلَا من الصَّبِي وَلَا من الْمَحْجُور عَلَيْهِ بِسَفَه عِنْد الشَّافِعِي، وَأَبُو حنيفَة لَا يرى الْحجر بِسَفَه فَتَصِح تَصَرُّفَاته، وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يريان الْحجر على السَّفِيه فِي تَصَرُّفَات لَا تصح مَعَ الْهزْل: كَالْبيع وَالْهِبَة وَالْإِجَارَة وَالصَّدَََقَة، وَلَا يحْجر عَلَيْهِ فِي غَيرهَا: كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق، وَلَا يَصح أَيْضا من الْمَحْجُور عَلَيْهِ بِسَبَب إفلاث عِنْد الشَّافِعِي. قَوْله: (بَين اثْنَيْنِ) ، كالمثال لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أَن يكون بَين اثْنَيْنِ أَو أَكثر. قَوْله: (فَإِن كَانَ) ، أَي: الْمُعْتق (مُوسِرًا) يَعْنِي: صَاحب يسَار. قَوْله: (قُوّم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَالنَّسَائِيّ: قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل لَا وكس وَلَا شطط، والوكس، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْكَاف وبالسين الْمُهْملَة: النَّقْص، والشطط: الْجور. قَوْله: (ثمَّ يعْتق) ، أَي: العَبْد.
وَبِهَذَا الحَدِيث احْتج الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَقَالُوا: إِذا كَانَ العَبْد بَين اثْنَيْنِ فَأعْتقهُ أَحدهمَا قوم عَلَيْهِ حِصَّة شَرِيكه، وَيعتق العَبْد كُله وَلَا يجب الضَّمَان عَلَيْهِ إلاَّ إِذا كَانَ مُوسِرًا، وَتَقْرِير مَذْهَب الشَّافِعِي مَا قَالَه فِي الْجَدِيد: إِنَّه إِذا كَانَ الْمُعْتق لحصته من العَبْد مُوسِرًا عتق جَمِيعه حِين أعْتقهُ، وَهُوَ حر من يَوْمئِذٍ يَرث وَيُورث عَنهُ، وَله وَلَاؤُه وَلَا سَبِيل للشَّرِيك على العَبْد، وَعَلِيهِ قيمَة نصيب شَرِيكه، كَمَا لَو قَتله، وَإِن كَانَ مُعسرا فالشريك على ملكه يقاسمه كَسبه أَو يَخْدمه يَوْمًا ويخلي لنَفسِهِ يَوْمًا، وَلَا سِعَايَة عَلَيْهِ لظَاهِر الحَدِيث. وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يسْعَى العَبْد فِي نصيب شَرِيكه الَّذِي لم يعْتق إِذا كَانَ الْمُعْتق مُعسرا، وَلَا يرجع على العَبْد بِشَيْء، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْكتاب، فَإِنَّهُ رَوَاهُ كَمَا رَوَاهُ ابْن عمر، وَزَاد عَلَيْهِ حكم السّعَايَة على مَا سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما أَبُو حنيفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: إِذا كَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا فالشريك بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ أعتق وَالْوَلَاء بَينهمَا نِصْفَانِ، وَإِن شَاءَ استسعى العَبْد فِي نصف الْقيمَة، فَإِذا أَدَّاهَا عتق وَالْوَلَاء بَينهمَا نِصْفَانِ، وَإِن شَاءَ ضمن الْمُعْتق نصف الْقيمَة(13/82)
فَإِذا أَدَّاهَا عتق وَرجع بهَا المضمن على العَبْد فاستسعاه فِيهَا، وَكَانَ الْوَلَاء للْمُعْتق، وَإِن كَانَ الْمُعْتق مُعسرا فالشريك بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أعتق وَإِن شَاءَ استسعى العَبْد فِي نصف قِيمَته، فإيهما فعل فَالْولَاء بَينهمَا نِصْفَانِ. وَحَاصِل مَذْهَب أبي حنيفَة: أَنه يرى بتجزىء الْعتْق، وَأَن يسَار الْمُعْتق لَا يمْنَع السّعَايَة، وَاحْتج أَبُو حنيفَة فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على مَا يَجِيء عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة على مَا يَجِيء بعد هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُمَا يدلان على تجزىء الْإِعْتَاق وعَلى ثُبُوت السّعَايَة أَيْضا، على مَا سنبينه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2252 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ فكانَ لَهُ مالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ قيمَةَ عَدْلٍ فأعْطَى شُرَكَاءَهُ حصَصَهُمْ وعَتَقَ عَلَيْهِ وإلاَّ فَقدْ عَتَقَ منْهُ مَا عتَقَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْعتْق عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عُثْمَان بن عمر، الْكل عَن مَالك عَن نَافِع.
قَوْله: (شركا) ، بِكَسْر الشين، أَي: نَصِيبا. قَوْله: (فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ) ، هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: كَانَ لَهُ مَا يبلغ أَي شَيْء يبلغ، وَإِنَّمَا قيد بقوله: يبلغ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ مَال لَا يبلغ ثمن العَبْد لَا يقوم عَلَيْهِ مُطلقًا، لَكِن الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه يسرى إِلَى الْقدر الَّذِي هُوَ مُوسر بِهِ تنفيذاً لِلْعِتْقِ بِحَسب الْإِمْكَان، وَبِه قَالَ مَالك. قَوْله: (ثمن العَبْد) أَي: ثمن بَقِيَّة العَبْد، لِأَنَّهُ مُوسر بِحِصَّتِهِ، وَقد أوضح ذَلِك النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق زيد بن أبي أنيسَة عَن عبيد الله بن عمر وَعمر بن نَافِع وَمُحَمّد بن عجلَان عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِلَفْظ: وَله مَال يبلغ قيمَة أنصباء شركائه، فَإِنَّهُ يضمن لشركائه أنصباءهم وَيعتق العَبْد، وَالْمرَاد بِالثّمن هُنَا الْقيمَة، لِأَن الثّمن مَا اشْتريت بِهِ الْعين، وَاللَّازِم هُنَا الْقيمَة لَا الثّمن. قَوْله: (قوم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (قيمَة عدل) ، وَهُوَ أَن لَا يُزَاد من قِيمَته وَلَا ينقص. قَوْله: (فَأعْطى شركاءه) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: إِن أعْطى، على بِنَاء الْفَاعِل وشركاءه بِالنّصب على المفعولية، وَرُوِيَ: (فَأعْطِي) على صِيغَة الْمَجْهُول، و: شركاؤه، بِالرَّفْع على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (حصصهم) أَي: قيمَة حصصهم. قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يكن مُوسِرًا فقد عتق مِنْهُ حِصَّته، وَهِي مَا عتق. وَبِهَذَا الحَدِيث احْتج ابْن أبي ليلى وَمَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي: أَن وجوب الضَّمَان على الْمُوسر خَاصَّة دون الْمُعسر، يدل عَلَيْهِ قَوْله: (وإلاَّ فقد عتق مِنْهُ مَا عتق) . وَقَالَ زفر: يضمن قيمَة نصيب شَرِيكه، مُوسِرًا كَانَ أَو مُعسرا. وَيخرج العَبْد كُله حرا لِأَنَّهُ جنى على مَال رجل، فَيجب عَلَيْهِ ضَمَان مَا أتلف بِجِنَايَتِهِ، وَلَا يفْتَرق الحكم فِيهِ، سَوَاء كَانَ مُوسِرًا أَو مُعسرا، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
3252 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعيلَ عنْ أبِي أُسَامَةَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أَعْتَقَ شِرْكا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ إنْ كانَ لَهُ مَالٌ يَبْلغُ ثَمَنُهُ فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قيمَةَ عَدْلٍ عَلى الْمُعْتِقِ فأُعْتِقَ مِنْهُ مَا أعْتَقَ..
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله، يكنى: أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، يروي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أبي أُسَامَة عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع إِلَى آخِره. قَوْله: (فَعَلَيهِ) أَي: فعلى من أعتق شركا، أَي: نَصِيبا لَهُ. قَوْله: (كُله) ، بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ تَأْكِيد لقَوْله فِي: مَمْلُوك، وَقَالَ بَعضهم: كُله، بجر اللَّام تَأْكِيدًا للضمير الْمُضَاف، أَي: عتق العَبْد كُله. قلت: لَيْسَ هُنَا ضمير مُضَاف حَتَّى يكون تَأْكِيدًا لَهُ، وَفِيه مساهلة جدا. قَوْله: (فَأعتق مِنْهُ مَا أعتق) ، على صِيغَة الْمَجْهُول كِلَاهُمَا، وَهَذَا جَزَاء الشَّرْط، لِأَن قَوْله: يقوم عَلَيْهِ، صفة مَال وَلَيْسَ بجزاء، فَافْهَم.
حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثنا بِشْرٌ عنْ عُبَيْدِ الله اخْتَصَرَهُ(13/83)
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن مُسَدّد عَن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ، قَوْله: (اخْتَصَرَهُ) أَي: اخْتَصَرَهُ مُسَدّد أَي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، يَعْنِي ذكر الْمَقْصُود مِنْهُ، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن بشر عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فقد أعتق كُله إِن كَانَ للَّذي أعتق نصِيبه من المَال مَا يبلغ ثمنه، يُقَام عَلَيْهِ قيمَة عدل فَيدْفَع إِلَى شركائه أنصباءهم ويخلي سَبيله) .
4252 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أعْتَقَ نَصِيباً لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أوْ شَرْكا لَهُ فِي عَبْدٍ وكانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقيمَةِ الْعَدْلِ فَهْوَ عَتيقٌ قَالَ نافِعٌ وإلاَّ فقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ قَالَ أيُّوبُ لَا أدرِي أشَيْءٌ قالَهُ نافِعٌ أوْ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشّركَة عَن عمرَان بن ميسرَة عَن عبد الْوَارِث، وَقد مر فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء بِقِيمَة عدل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف أَن التَّقْوِيم لَا يكون إلاَّ على الْمُوسر، ثمَّ اخْتلفُوا فِي وَقت الْعتْق، فَقَالَ الْجُمْهُور وَالشَّافِعِيّ فِي الْأَصَح وَبَعض الْمَالِكِيَّة: إِنَّه يعْتق فِي الْحَال، وحجتهم رِوَايَة أَيُّوب الْمَذْكُورَة حَيْثُ قَالَ: فَهُوَ عَتيق، وأوضح من ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا من طَرِيق سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِلَفْظ: (من أعتق عبدا وَله فِيهِ شُرَكَاء، وَله وَفَاء فَهُوَ حر) . وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع: (فَكَانَ للَّذي يعْتق نصِيبه مَا يبلغ ثمنه، فَهُوَ عَتيق كُله) . وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة: أَنه لَا يعْتق إلاَّ بِدفع الْقيمَة، فَلَو أعتق الشَّرِيك قبل أَخذ الْقيمَة نفذ عتقه، وَهُوَ أحد أَقْوَال الشَّافِعِي، رَحمَه الله.
5252 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مِقْدَامٍ قَالَ حدَّثنا الْفُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّهُ كانَ يُفْتِي فِي العَبْدِ أوِ الأمَةِ يَكونُ بَيْنَ شُرَكاءَ فَيُعْتِقُ أحَدُهُمْ نِصِيبَهُ مِنْهُ يَقُولُ قدْ وجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ إذَا كانَ لِلَّذِي أعْتَقَ مِنَ الْمَالِ مَا يبْلُغُ يُقَوَّمُ مِنْ مالِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ ويُدْفَعُ إِلَى الشُّرَكَاءِ أنْصِباؤُهُمْ ويُخلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ يُخْبِرُ ذلِكَ ابنُ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
هَذَا طَرِيق آخر فِيمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه روى الحَدِيث الْمَذْكُور وَأفْتى بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهره فِي حق الْمُوسر، ليرد بذلك على من لم يقل لَهُ. قَوْله: (مَا يبلغ) ، مَفْعُوله مَحْذُوف، وَتَقْدِيره: مَا يبلغ ثمنه. قَوْله: (سَبِيل الْمُعْتق) ، بِفَتْح التَّاء أَي: الْعَتِيق، وَلم ينْفَرد مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع بِهَذَا السِّيَاق، بل وَافقه صَخْر بن جوَيْرِية. أخرجه الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكرَة، قَالَ: حَدثنَا روح بن عبَادَة، قَالَ: حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية عَن نَافِع عَن ابْن عمر، كَانَ يُفْتِي فِي العَبْد أَو الْأمة يكون أَحدهمَا بَين شركائه فَيعتق أحدهم نصِيبه مِنْهُ، فَإِنَّهُ يجب عتقه على الَّذِي أعْتقهُ، إِذا كَانَ لَهُ من المَال مَا يبلغ ثمنه يقوم فِي مَاله قيمَة عدل، فَيدْفَع إِلَى شركائه أنصباءهم ويخلي سَبِيل العَبْد، يخبر بذلك عبد الله بن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه أَبُو عوَانَة وَالدَّارَقُطْنِيّ.
ورَواهُ اللَّيْثُ وابنُ ذِئْبٍ وابْنُ إسْحَاقَ وجُوَيْرِيَةُ ويحْيى بنُ سعِيدٍ وإسْماعِيلُ بنُ أُمَيَّةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخْتَصَراً
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور اللَّيْث بن سعد، وَوصل رِوَايَته النَّسَائِيّ، قَالَ: أخبرنَا قُتَيْبَة، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن نَافِع(13/84)
عَن ابْن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (أَيّمَا مَمْلُوك كَانَ بَين شُرَكَاء، وَأعْتق أحدهم نصِيبه، فَإِنَّهُ يُقَام فِي مَال الَّذِي أعتق قيمَة عدل، فَيعتق إِن بلغ ذَلِك مَاله) . قَوْله: (وَابْن أبي ذِئْب) ، هُوَ مُحَمَّد بن أبي ذِئْب، بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور، وَوصل رِوَايَته أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) وَلَفظه: (من أعتق شركا فِي مَمْلُوك، وَكَانَ للَّذي يعْتق مَا يبلغ ثمنه، فقد عتق كُله) قَوْله: (وَابْن إِسْحَاق) ، هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب المغاوي، وَوصل رِوَايَته أَبُو عوَانَة، وَلَفظه: من أعتق شركا لَهُ فِي عبد مَمْلُوك، فَعَلَيهِ نفاذه مِنْهُ. قَوْله: (وَجُوَيْرِية) ، مصغر الْجَارِيَة: ابْن أَسمَاء، وَوصل رِوَايَته الطَّحَاوِيّ، وَقد مر عَن قريب. قَوْله: (وَيحيى بن سعيد) ، هُوَ الْأنْصَارِيّ، وَوصل رِوَايَته مُسلم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن يحيى بن سعيد عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مثل حَدِيث مَالك عَن نَافِع، وَقد ذكر فِيمَا مضى. قَوْله: (وَإِسْمَاعِيل) ، ابْن أُميَّة، وَوصل رِوَايَته عبد الرَّزَّاق نَحْو رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب. قَوْله: (مُخْتَصرا) يَعْنِي: لم يذكرُوا الْجُمْلَة الْأَخِيرَة فِي حق الْمُعسر، وَهِي قَوْله: فقد عتق مِنْهُ مَا عتق.
5 - (بابٌ إذَا أعْتَقَ نَصِيباً لَهُ فِي عَبْدٍ ولَيْسَ لَهُ مالٌ اسْتسعَى العَبْدُ غَيرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ علَى نَحْوِ الْكِتَابَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أعتق شخص نَصِيبا لَهُ فِي عبد، وَالْحَال أَنه لَيْسَ لَهُ مَال استسعى العَبْد، هَذَا جَوَاب: إِذا، والاستسعاء أَن يُكَلف العَبْد الإكتساب حَتَّى يحصل قيمَة نصيب الشَّرِيك. قَوْله: (غير مشقوق عَلَيْهِ) ، حَال من العَبْد، أَي: لَا يُكَلف مَا يشق عَلَيْهِ. قَوْله: (على نَحْو الْكِتَابَة) أَي: يكون العَبْد فِي زمَان الِاسْتِسْعَاء كَالْمكَاتبِ، يُؤَدِّي أَولا فأولاً، وَهَذِه التَّرْجَمَة تدل على أَن البُخَارِيّ يرى بِصِحَّة حَدِيثي ابْن عمر الْمَذْكُور، وَأبي هُرَيْرَة الَّذِي يذكرهُ، وَقد استبعد الْإِسْمَاعِيلِيّ إِمْكَان الْجمع بَين حديثيهما، وَمنع الحكم بصحتهما مَعًا، وَجزم بِأَنَّهُمَا متدافعان، وَغَيره قد جمع بَينهمَا، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء، فَليرْجع إِلَيْهِ، فَمن وقف عَلَيْهِ هُنَاكَ فقد عرف مَا علمنَا فِيهِ من الْفَيْض الإلهي، والنور الرباني.
6252 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ أبِي رَجاءٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ قَتادَةَ قَالَ حدَّثني النَّضْرُ بْنُ أنَسِ بْنِ مالِكٍ عنْ بَشِيرِ بنِ نَهيكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعْتَقَ شَقِيصاً مِنْ عَبْد.
7252 - وحدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزيِدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا سعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ عنِ النَّضْرِ بنِ أنَسٍ عنْ بَشِيرِ بنِ نَهيكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أعْتَقَ نِصيباً أَو شَقِيصاً فِي مَمْلُوكٍ فخَلاَصُهُ علَيْهِ فِي مالِهِ إنْ كانَ لَهُ مالٌ وإلاَّ قُوِّمَ عَلَيْهِ فاسْتَسْعَى بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيق وَاحِد فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء. وَأخرجه هُنَا من طَرِيقين. أَحدهمَا: عَن أَحْمد بن أبي رَجَاء، واسْمه عبد الله بن أَيُّوب، يكنى بِأبي الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن يحيى بن آدم بن سُلَيْمَان الْقرشِي الْكُوفِي، صَاحب الثَّوْريّ عَن جرير بن حَازِم بن زيد الْبَصْرِيّ عَن قَتَادَة عَن النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن أنس بن مَالك عَن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن نهيك، بِفَتْح النُّون وَكسر الْهَاء، وَالطَّرِيق الآخر: عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، أَعنِي: فِي بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء.
قَوْله: (شقيصاً) ، بِفَتْح الشين وَكسر الْقَاف أَي: نَصِيبا. قَوْله فِي الطَّرِيق الثَّانِي: (أَو شقيصاً) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يكن لَهُ مَال قوم، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (غير مشقوق عَلَيْهِ) حَال أَي على العَبْد.(13/85)
تابَعَهُ حَجَّاجُ بنُ حَجَّاجٍ وأبانُ ومُوسى بنُ خَلَفٍ عنْ قَتادَةَ اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ
أَي: تَابع سعيد بن أبي عرُوبَة فِي رِوَايَته عَن قَتَادَة حجاج بن حجاج، على وزن فعال، بِالتَّشْدِيدِ فيهمَا: الْأَسْلَمِيّ الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الْأَحول، أَرَادَ البُخَارِيّ بِذكر مُتَابعَة هَؤُلَاءِ الرَّد على من زعم أَن الِاسْتِسْعَاء فِي هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ، وَأَن سعيد بن أبي عرُوبَة تفرد بِهِ، فاستظهر لَهُ بمتابعة هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين.
أما رِوَايَة حجاج بن حجاج فَهِيَ فِي نُسْخَة رَوَاهَا أَحْمد بن حَفْص أحد شُيُوخ البُخَارِيّ عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَنهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حجاج بن أَرْطَأَة عَن قَتَادَة فقد أخرجهَا الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا روح بن الْفرج، قَالَ: حَدثنَا يُوسُف بن عدي، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان الرَّازِيّ عَن حجاج بن أَرْطَأَة عَن قَتَادَة، فَذكر مثله، أَي: مثل رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، وَقد ذكر آنِفا.
وَأما رِوَايَة أبان، فقد أخرجهَا أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدثنَا أبان، قَالَ: حَدثنَا قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير ابْن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أعتق شقيصاً فِي مَمْلُوكه فَعَلَيهِ أَن يعتقهُ كُله إِن كَانَ لَهُ مَال، وإلاَّ استسعى العَبْد غير مشقوق عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا والطَّحَاوِي.
وَأما رِوَايَة مُوسَى بن خلف فقد أخرجهَا الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَصْل للوصل) من طَرِيق أبي ظفر عبد السَّلَام بن مطهر عَنهُ عَن قَتَادَة عَن النَّضر، وَلَفظه: (من أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوك فَعَلَيهِ خلاصه إِن كَانَ لَهُ مَال، فَإِن لم يكن لَهُ مَال استسعى غير مشقوق عَلَيْهِ) . ومُوسَى بن خلف، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَاللَّام المفتوحتين: الْعمي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم: كَانَ يعد البدلاء.
وَأما من رِوَايَة شُعْبَة فأخرجها مُسلم وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق غنْدر عَن قَتَادَة بِإِسْنَادِهِ وَلَفظه عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْمَمْلُوك بَين الرجلَيْن فَيعتق أَحدهمَا نصِيبه، قَالَ: يضمن.
6 - (بابُ الخَطَإ والنِّسْيانِ فِي العَتَاقَةِ والطَّلاقِ ونَحْوِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي الْعتْق وَالطَّلَاق، وَالْخَطَأ ضد الْعمد، فَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْخَطَأ نقيض الصَّوَاب، وَقد يمد، وقرىء بهما فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن قتل مُؤمنا خطأ} (النِّسَاء: 29) . تَقول: أَخْطَأت وتخطأت، بِمَعْنى وَاحِد، وَلَا يُقَال: أخطيت، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَأَخْطَأ يخطىء: إِذا سلك سَبِيل الْخَطَأ عمدا أَو سَهوا، وَيُقَال: خطىء بِمَعْنى أَخطَأ أَيْضا، وَقيل: خطىء إِذا تعمد، وَأَخْطَأ إِذا لم يتَعَمَّد، وَيُقَال لمن أَرَادَ شَيْئا فَفعل غَيره أَو فعل غير الصَّوَاب: أَخطَأ. وَالنِّسْيَان خلاف الذّكر وَالْحِفْظ، وَرجل نِسْيَان، بِفَتْح النُّون: كثير النسْيَان للشَّيْء، وَقد نسيت الشَّيْء نِسْيَانا، وَعَن أبي عُبَيْدَة: النسْيَان التّرْك، قَالَ تَعَالَى: {نسوا الله فنسيهم} (التَّوْبَة: 76) . وَقد ذكرت فِي (شرح مَعَاني الْآثَار) الَّذِي ألفته: أَن الْخَطَأ فِي الإصطلاح هُوَ الْفِعْل فِي غير قصد تَامّ، وَالنِّسْيَان معنى يَزُول بِهِ الْعلم من الشَّيْء مَعَ كَونه ذَاكِرًا لأمورٍ كَثِيرَة، وَإِنَّمَا قيل ذَلِك احْتِرَازًا عَن النّوم وَالْجُنُون وَالْإِغْمَاء، وَقيل: النسْيَان عبارَة عَن الْجَهْل الطارىء، وَيُقَال؛ المأتى بِهِ إِن كَانَ على جِهَة مَا يَنْبَغِي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ لَا على مَا يَنْبَغِي نظر، فَإِن كَانَ مَعَ قصد من الْآتِي بِهِ يُسمى الْغَلَط، وَإِن كَانَ من غير قصد مِنْهُ، فَإِن كَانَ يتَنَبَّه بإيسر تَنْبِيه يُسمى السَّهْو، وإلاَّ يُسمى الْخَطَأ. قَوْله: (وَنَحْوه) ، أَي: نَحْو مَا ذكر من الْعتَاقَة وَالطَّلَاق من الْأَشْيَاء الَّتِي يُرِيد الرجل أَن يتَلَفَّظ بِشَيْء مِنْهَا. فَيَسْبق لِسَانه إِلَى غَيره، وَقَالَ بَعضهم: (وَنَحْوه) ، أَي: من التعليقات. قلت: هَذَا التَّفْسِير لَيْسَ بِظَاهِر وَلَا لَهُ معنى يُفِيد صُورَة الْخَطَأ فِي الْعتاق إِن أَرَادَ التَّلَفُّظ بِشَيْء فَسبق لِسَانه، فَقَالَ لعَبْدِهِ: أَنْت حر، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاق، قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق، بعد أَن أَرَادَ التَّلَفُّظ بِشَيْء، وَقَالَ أَصْحَابنَا: طَلَاق الخاطىء وَالنَّاسِي والهازل واللاعب وَالَّذِي يكلم بِهِ من غير قصد وَاقع، وَصُورَة النَّاسِي فِيمَا إِذا حلف وَنسي، وَقَالَ الدَّاودِيّ: النسْيَان لَا يكون فِي الطَّلَاق وَلَا الْعتاق إلاَّ أَن يُرِيد أَنه حلف بهما على فعل شَيْء ثمَّ نسي يَمِينه وَفعله، فَهَذَا إِنَّمَا يوضع فِيهِ النسْيَان إِذا لم يذكر فِيهِ يَمِينه، كَمَا تُوضَع الصَّلَاة عَمَّن نَسِيَهَا إِذا لم يذكرهَا حَتَّى يَمُوت، وَكَذَلِكَ دُيُون النَّاس وَغَيرهَا لَا يَأْثَم بِتَرْكِهَا نَاسِيا. قَالَ ابْن التِّين: هَذَا من الدَّاودِيّ على مَذْهَب مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي النَّاسِي فِي يَمِينه: هَل يلْزمه حنث أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: لَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي الْبَاب. وَثَانِيهمَا: وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وطاووس: من أَخطَأ فِي الطَّلَاق فَلهُ نِيَّته، وَفِيه قَول ثَالِث: يَحْنَث فِي الطَّلَاق خَاصَّة، قَالَه أَحْمد، وَذهب مَالك والكوفيون إِلَى أَنه يَحْنَث فِي الْخَطَأ أَيْضا، وَادّعى ابْن بطال أَنه الْأَشْهر(13/86)
عَن الشَّافِعِي، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أَصْحَاب ابْن مَسْعُود. وَاخْتلف ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب فِيمَا إِذا دَعَا رجل عبدا يُقَال لَهُ نَاصح، فَأَجَابَهُ عبد يُقَال لَهُ مَرْزُوق، فَقَالَ لَهُ: أَنْت حر، وَهُوَ يظنّ الأول، وَشهد عَلَيْهِ بذلك، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يعتقان جَمِيعًا: مَرْزُوق بمواجهته بِالْعِتْقِ، وناصح بِمَا نَوَاه، وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله فَلَا يعْتق إلاَّ نَاصح. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن لم يكن لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة لم يعْتق إلاَّ الَّذِي نوى، وَقَالَ أَشهب: يعْتق مَرْزُوق فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَفِيمَا بَينه وَبَين الله لَا يعْتق نَاصح، لِأَنَّهُ دَعَاهُ لِيعْتِقَهُ فَأعتق غَيره وَهُوَ يَظُنّهُ مرزوقاً.
ولاَ عَتَاقَةَ إلاَّ لِوَجْهِ الله تَعَالَى
روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: لَا طَلَاق إلاَّ لعدة، وَلَا عتاق إلاَّ لوجه الله، وَمعنى: لَا عتاقة إلاَّ لوجه الله، أَي: لذات الله أَو لجِهَة رِضَاء الله، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا الرَّد على الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم: إِذا قَالَ الرجل لعَبْدِهِ: أَنْت حر للشَّيْطَان أَو للصنم، فَإِنَّهُ يعْتق لصدوره من أَهله مُضَافا إِلَى مَحَله عَن ولَايَة فنفذ، ولغت تَسْمِيَة الْجِهَة وَكَانَ عَاصِيا بهَا. وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: تَصْحِيح الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالْآخر: بعد التَّسْلِيم أَن المُرَاد بِهِ أَن يكون نِيَّة الْمُعْتق الْإِخْلَاص فِيهَا، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، فَإِذا لم يكن خَالِصا فِي نِيَّته يكون عَاصِيا بِذكر غير الله، كَمَا ذكرنَا، وَترك هَذَا لَا يمْنَع وُقُوع الْعتْق لقضية: أَنْت حر، وَالْبَاقِي لَغْو.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد مر فِي أول الْكتاب بِلَفْظ: (وَإِنَّمَا لكل امرىء مَا نوى) . وَأوردهُ فِي أَوَاخِر كتاب الْإِيمَان: (وَلكُل امرىء مَا نوى) . فَإِن قلت: مَا مُرَاده من ذكر هَذِه الْقطعَة هَهُنَا؟ قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَأْكِيد مَا سبق من عدم وُقُوع الْعتاق إِذا كَانَ لغير وَجه الله، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَلكنه لَا يُفِيد شَيْئا، لِأَن النِّيَّة أَمر مبطن وَوُقُوع الْإِعْتَاق غير مُتَوَقف عَلَيْهِ، بل الْوُقُوع بِمُقْتَضى الْكَلَام الصَّحِيح، فَلَا يمنعهُ تَسْمِيَة الْجِهَة اللَّغْو.
ولاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِي والْمُخْطِىء
كَأَنَّهُ استنبط من قَوْله: (لكل امرىء مَا نوى) ، عدم وُقُوع الْعتاق من النَّاسِي والمخطىء لِأَنَّهُ لَا نِيَّة لَهما، وَفِيه نظر، لِأَن الْوُقُوع إِنَّمَا هُوَ بِمُقْتَضى كَلَام صَحِيح صادر من عَاقل بَالغ، والمخطىء من: أَخطَأ من أَرَادَ الصَّوَاب فَصَارَ إِلَى غَيره، وَوَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: الخاطىء من خطأ، وَهُوَ من تعمد لما لَا يَنْبَغِي. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون أَشَارَ بالترجمة إِلَى مَا ورد فِي بعض الطّرق، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ أهل الْفِقْه وَالْأُصُول كثيرا بِلَفْظ: (رفع الله عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس، إلاَّ أَنه بِلَفْظ: وضع، بدل: رفع. انْتهى. قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الحَدِيث الَّذِي أخبر بِأَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان رفعا عَن أمته، فَلَا يَتَرَتَّب على النَّاسِي والمخطىء حكم، وَذَلِكَ لعدم النِّيَّة فيهمَا، والأعمال بِالنِّيَّاتِ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يَقع الْعتاق من النَّاسِي والمخطىء، وَكَذَلِكَ الطَّلَاق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَار لَهُ فَصَارَ كالنائم والمغمى عَلَيْهِ، قُلْنَا: الِاخْتِيَار أَمر بَاطِن لَا يُوقف عَلَيْهِ إلاَّ بحرج فَلَا يَصح تَعْلِيق الحكم عَلَيْهِ، أما هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ صَحِيح، فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد رِجَاله رجال الصَّحِيح غير شَيْخه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا بشر بن بكر، قَالَ: أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن عبيد بن عُمَيْر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تجَاوز الله لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَالَّذِي أعله إِنَّمَا أعل إِسْنَاد ابْن مَاجَه الَّذِي أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمُصَفّى الْحِمصِي: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الله وضع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا كَمَا ترى أسقط: عبيد بن عُمَيْر، وَأَيْضًا أعله بِأَنَّهُ من رِوَايَة الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَالصَّحِيح طَرِيق الطَّحَاوِيّ، وَأخرج نَحوه الدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم، وَرَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق الرّبيع وَصَححهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْأَرْبَعين: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح. قَوْله: (تجَاوز الله) أَي: عَفا الله. قَوْله: (لي) ، أَي: لأجلي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يتَجَاوَز ذَلِك إلاَّ عَن هَذِه الْأمة(13/87)
لأجل سيدنَا مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (الْخَطَأ وَالنِّسْيَان) ، أَي: حكمهمَا فِي حق الله لَا فِي حُقُوق الْعباد، لِأَن فِي حَقه عذرا صَالحا لسقوطه، حَتَّى قيل إِن الخاطىء لَا يَأْثَم، فَلَا يُؤَاخذ بِحَدّ وَلَا قصاص. وَأما فِي حُقُوق الْعباد فَلم يَجْعَل عذرا حَتَّى وَجب ضَمَان الْعدوان على الخاطىء، لِأَنَّهُ ضَمَان مَال لَا جَزَاء فعل، وَوَجَب بِهِ الدِّيَة وَصَحَّ طَلَاقه وعتاقه.
8252 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا مِسْعَرٌ عنْ قَتادَةَ عنْ زُرَارَةَ بنِ أوْفَى عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله تَجَاوَزَ لِي عنْ أُمَّتِي مَا وسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُها مَا لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَكَلَّمْ..
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْء يُطَابق التَّرْجَمَة، لِأَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي وَسْوَسَة الصُّدُور، وَلَو ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور الْآن لَكَانَ أنسب، وَأجَاب الْكرْمَانِي بِشَيْء يقرب مِنْهُ أَخذ وَجه الْمُطَابقَة حَيْثُ قَالَ: أَولا: مَا وَجه تعلق الحَدِيث بالوسوسة؟ ثمَّ قَالَ: قلت: الْقيَاس على الوسوسة، فَكَمَا أَنَّهَا لَا اعْتِبَار لَهَا عِنْد عدم التوطين، فَكَذَلِك النَّاسِي والمخطىء، لَا توطين لَهما.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء نِسْبَة إِلَى حميد، أحد أجداد الرَّاوِي، وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبيد الله بن أُسَامَة بن عبد الله بن الزبير بن حميد أَبُو بكر. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين وَفتح الْعين الْمُهْملَة: ابْن كدام. الرَّابِع: قَتَادَة. الْخَامِس: زُرَارَة، بِضَم الزَّاي وَتَخْفِيف الرَّاء: ابْن أبي أوفى بِلَفْظ: أفعل التَّفْضِيل العامري، مَاتَ فجاءة سنة ثَلَاث وَتِسْعين، وَقيل: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الصُّبْح فَقَرَأَ {يَا أَيهَا المدثر} (المدثر: 1) . إِلَى أَن بلغ {فَإِذا نقر فِي الناقور} (المدثر: 8) . خر مَيتا. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مكيان، والْحميدِي قد مر فِي أول (الصَّحِيح) . وَفِيه: حَدثنَا الْحميدِي، ويروى: حَدثنِي بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن مسعراً وَقَتَادَة كوفيان، وَأَن زُرَارَة بَصرِي قَاضِي الْبَصْرَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ أَحَادِيث يسيرَة. وَفِيه: عَن زُرَارَة، وَفِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور: حَدثنَا زُرَارَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَفِي النذور عَن خَلاد بن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة وَسَعِيد بن مَنْصُور وَمُحَمّد بن عبيد وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن زُهَيْر بن حَرْب عَن وَكِيع وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق عَن عبيد الله بن سعيد وَعَن مُوسَى بن عبد الرحمان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ وَعَن حميد بن مسْعدَة وَعَن هِشَام بن عمار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي) وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (تجَاوز الله لأمتي) . قَوْله: (لي) أَي: لأجلي. قَوْله: (مَا وسوست بِهِ صدورها) ، جملَة فِي مَحل النصب على المفعولية، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، و: وسوست، صلتها و: بِهِ، عَائِد و: صدورها، بِالرَّفْع فَاعل وسوست، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِالنّصب على أَن: وسوست، تضمن معنى: حدثت، وَيَأْتِي فِي الطَّلَاق بِلَفْظ: مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا. وَفِي رِوَايَة للنسائي: (إِن الله تجَاوز لأمتي مَا وسوست بِهِ وَحدثت بِهِ أَنْفسهَا) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَأهل اللُّغَة يَقُولُونَ: أَنْفسهَا، بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه} (ق: 61) . وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن قَوْله: بِالضَّمِّ، لَيْسَ بجيد، بل الصَّوَاب: بِالرَّفْع، لِأَنَّهَا حَرَكَة إِعْرَاب. قلت: لَيْسَ هَذَا مَوضِع المناقشة بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِأَن الرّفْع هُوَ الضَّم فِي الأَصْل، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن النُّحَاة يستعملون فِي الْإِعْرَاب الرّفْع، وَفِي الْبناء الضَّم، بل يسْتَعْمل(13/88)
كل مِنْهُمَا مَوضِع الآخر، خُصُوصا عِنْد الْفُقَهَاء الوسوسة: حَدِيث النَّفس والأفكار، وَقد وسوست إِلَيْهِ نَفسه وَسْوَسَة ووسواساً بِالْكَسْرِ، وَهُوَ بِالْفَتْح الِاسْم، ووسوس إِذا تكلم بِكَلَام لم يُبينهُ، حَاصله أَن الوسوسة تردد الشَّيْء فِي النَّفس من غير أَن تطمئِن إِلَيْهِ وتستقر عِنْده. قَوْله: (مَا لم تعْمل) أَي: فِي العمليات (أَو تكلم) فِي القوليات. وَأما قَول ابْن الْعَرَبِيّ: إِن المُرَاد بقوله: مَا لم تكلم، الْكَلَام النَّفْسِيّ، إِذْ هُوَ الْكَلَام الْأَصْلِيّ وَأَن القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْوُجُود بِالْقَلْبِ المواقف للْعلم، فَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه تعصباً لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع الطَّلَاق بالعزم، وَإِن لم يتَلَفَّظ. وَحَكَاهُ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه وَقَوله وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ الْحَقِيقِيّ، وَنصر ذَلِك بِأَن اللِّسَان معبر عَمَّا فِي الْقلب، فَمَا كَانَ يملكهُ الْوَاحِد كالنذر وَالطَّلَاق وَالْعتاق كفى فِيهِ عزمه، وَمَا كَانَ من التَّصَرُّفَات بَين اثْنَيْنِ لم يكن بُد من ظُهُور القَوْل، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد، وَقد نقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار وَغَيره، فأنهم أَجمعُوا على أَنه: لَو عزم على الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يلفظ بِهِ، قَالَ: وَهُوَ فِي معنى الطَّلَاق، وَكَذَلِكَ لَو حدث نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قذفا، وَلَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة، وَقد حرم الله تَعَالَى الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل، وَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهر جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة وَمِمَّنْ قَالَ بِأَن: طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر، عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن هَذِه الْمُجَاوزَة من خَصَائِص هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة يؤاخذون بذلك، وَقد اخْتلف: هَل كَانَ ذَلِك يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك عَنْهُم، أَو تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} (الْبَقَرَة: 482) . فقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس: إِنَّهَا مَنْسُوخَة، بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) . فَإِن قيل: قَالُوا: من عزم على الْمعْصِيَة بِقَلْبِه، وَإِن لم يعملها، يُؤَاخذ عَلَيْهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا شكّ أَن الْعَزْم على الْمعْصِيَة وَسَائِر الْأَعْمَال القلبية كالحسد ومحبة إِشَاعَة الْفَاحِشَة يُؤَاخذ عَلَيْهِ، لَكِن إِذا وطَّن نَفسه عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي الحَدِيث هُوَ: مَا لم يوطن عَلَيْهِ نَفسه وَإِنَّمَا أَمر ذَلِك بفكره من غير اسْتِقْرَار، وَيُسمى هَذَا هما، وَيفرق بَين الْهم والعزم. فَإِن قيل: الْمَفْهُوم من لفظ: مَا لم تعْمل، مشْعر بِأَن مَا فِي الصُّدُور موطناً وَغير موطن لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجب الْحمل على غير الموطن جمعا بَينه وَبَين مَا يدل على الْمُؤَاخَذَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة} (النُّور: 91) . وَأَيْضًا: لفظ الوسوسة لَا يسْتَعْمل إلاَّ عِنْد التَّرَدُّد والتزلزل. وَقَالَ عِيَاض: الهمّ مَا يمر فِي الْفِكر من غير اسْتِقْرَار وَلَا توطن، فَإِن اسْتمرّ وتوطن عَلَيْهِ عزماً يُؤَاخذ بِهِ أَو يُثَاب عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي ذهب إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة السّلف وَأهل الْعلم وَالْفُقَهَاء والمحدثين والمتكلمين، وَلَا يلْتَفت إِلَى من خالفهم فِي ذَلِك. فَزعم أَن مَا يهم بِهِ الْإِنْسَان وَإِن وَطن بِهِ لَا يُؤَاخذ بِهِ متمسكاً فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا} (يُوسُف: 42) . وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا لم تعْمل أَو تكلم، وَمن لم يعْمل بِمَا عزم عَلَيْهِ وَلَا نطق بِهِ، فَلَا. الْجَواب عَن و: الْآيَة أَن من الهمّ مَا يُؤَاخذ بِهِ الْإِنْسَان، وَهُوَ مَا اسْتَقر واستوطن، وَمِنْه مَا يكون أَحَادِيث لَا تَسْتَقِر، فَلَا يُؤَاخذ بهَا كَمَا شهد بِهِ الحَدِيث، وَالَّذِي يرفع الْإِشْكَال وَيبين المُرَاد حَدِيث أبي كَبْشَة عَمْرو بن سعد: سمع سيدنَا رَسُول الله لله ... فَذكر حَدِيثا فِيهِ: قَالَت الْمَلَائِكَة: ذَاك عَبدك يُرِيد أَن يعْمل سَيِّئَة وَهُوَ أبْصر بِهِ. وَزعم الطَّبَرِيّ أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ أَعمال الْقُلُوب خلافًا لمن قَالَ: لَا يكتبونها وَلَا يَكْتُبُونَ إلاَّ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة، وَبِه اسْتدلَّ بَعضهم على أَنه إِذا كتب بِالطَّلَاق وَقع من قَوْله مَا لم يعْمل، وَالْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط مَالك فِيهِ الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي كِنَايَة إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع، وإلاَّ فَلَا، وَفرض بَعضهم بَين أَن يَكْتُبهُ فِي بَيَاض كالرق وَالْوَرق واللوح، وَبَين أَن يَكْتُبهُ على الأَرْض فأوقعه فِي الأول دون الثَّانِي، وَفِيه نظر.
9252 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثيرٍ عنْ سُفْيانَ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْكيِّ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِي قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبِيِّ(13/89)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ ولاِمْرِىءٍ مَا نَوَى فَمَنْ كانتُ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسولِهِ ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهجْرَتُه إِلَى مَا هاجَرَ إلَيْهِ..
قد مر هَذَا الحَدِيث فِي أول الْكتاب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَهنا: عَن مُحَمَّد بن كثير ضد قَلِيل عَن سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
قَوْله: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ ولامرىء مَا نوى) ، كَذَا أخرجه مُحَمَّد بن كثير بِخِلَاف: إِنَّمَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وٌ د أخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن كثير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامرىء مَا نوى) . قَوْله: (إِلَى دنيا) فِي رِوَايَة الْكشميهني: للدنيا، وَهِي رِوَايَة أبي دَاوُد أَيْضا، وَوجه إِعَادَة هَذَا الحَدِيث وَذكره هُنَا لأجل ذكر قِطْعَة مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لكل امرىء مَا نوى، وَقد ذكرنَا وَجه ذكر الْقطعَة، وللإشارة أَيْضا إِلَى أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث من شيخين وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
7 - (بابٌ إذَا قَالَ رجُلٌ لِعَبْدِهِ هُوَ لله ونَوَى الْعِتْقَ والإشْهَادُ فِي العِتْقِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ رجل لعَبْدِهِ هُوَ لله، هَذَا هَكَذَا روى الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: بَاب إِذا قَالَ لعَبْدِهِ، الْفَاعِل مُضْمر، وَهُوَ رجل أَو شخص. قَوْله: (وَنوى الْعتْق) ، أَي: وَالْحَال أَنه نوى عتق العَبْد بِهَذَا اللَّفْظ، وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: صَحَّ أَو عتق العَبْد. قَوْله: (وَالْإِشْهَاد) بِالرَّفْع، وَفِيه حذف تَقْدِيره: وَبَاب يذكر فِيهِ الْإِشْهَاد فِي الْعتْق، فَيكون ارتفاعه بِالْفِعْلِ الْمُقدر، وَتَكون هَذِه الْجُمْلَة أَعنِي: قَوْلنَا: وَبَاب يذكر فِيهِ الْإِشْهَاد على الْعتْق معطوفة على: بَاب إِذا قَالَ أَي بَاب يذكر فِيهِ، إِذا قَالَ، وَلَفظ: بَاب، منون فِي الظَّاهِر، وَفِي الْمُقدر، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه، وَمن جر الْإِشْهَاد فقد جر مَا لَا يُطيق حمله.
0352 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ نُمَيْرٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ بِشْرٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ لَمَّا أقْبَلَ يُرِيدُ الأسْلامَ ومَعَهُ غُلامُهُ ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما مِنْ صاحِبِهِ فأقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وأبُو هُرَيْرَةَ جالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أتَاكَ فَقَالَ أما أنِّي أُشْهِدُكَ أنَّهُ حُرٌّ فَهْوَ حينَ يَقُولُ:
(يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وعَنائِها ... علَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أما أَنِّي أشهدك أَنه حر) ، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ، وَاسم أبي خَالِد سعد، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه عَوْف، قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَؤُلَاء كلهم كوفيون
قَوْله: (يُرِيد الْإِسْلَام) جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَمَعَهُ غُلَامه) ، جملَة حَالية إسمية أَي: وَمَعَ أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (ضل) ، أَي: تاه كل وَاحِد مِنْهُمَا ذهب إِلَى نَاحيَة وَفَسرهُ الْكرْمَانِي بقوله: ضَاعَ، وَتَبعهُ بَعضهم على ذَلِك وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إلاَّ مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم وتستعمل هَذِه الْكَلِمَة على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن تكون حرف استفتاح بِمَنْزِلَة أَلا. وَالثَّانِي: أَن تكون بِمَعْنى حَقًا. وَأما، هُنَا على هَذَا الْمَعْنى. قَوْله: (أَنِّي) ، بِفَتْح الْهمزَة كَمَا تفتح الْهمزَة بعد قَوْلهم: حَقًا، لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهُ. قَوْله: (فَهُوَ حِين يَقُول) ، أَي: الْوَقْت الَّذِي وصل فِيهِ إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (يَا لَيْلَة) ، هَذَا من بَحر الطَّوِيل، وَقد دخله الخرم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الرَّاء، وَهُوَ حذف الْحَرْف من أول الْجُزْء، وللطويل ثَمَانِيَة أَجزَاء وَقد حذف الْحَرْف من أول جزئه وَهُوَ: يَا لَيْلَة، لِأَن تَقْدِيره: فيا لَيْلَة، لِأَن وَزنه فيالي: فعولن، لَهُ من طو: مفاعيلن، لَهَا و: فعول، عنائها: مفاعلن. وَفِيه الْقَبْض، وَقَول الْكرْمَانِي: وَلَا بُد من زِيَادَة وَلَو أوفاء فِي أول الْبَيْت ليَكُون مَوْزُونا، كَلَام من يقف على علم الْعرُوض، لِأَن مَا جَازَ حذفه كَيفَ يُقَال فِيهِ لَا بُد من إثْبَاته؟ قَوْله: (عنائها) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبتخفيف النُّون وبالمد: أَي تعبها ومشقتها. قَوْله: (دارة(13/90)
الْكفْر) ، هِيَ دَار الْحَرْب، والدارة أخص من الدَّار، ويروى: (دَاره) ، بِالْإِضَافَة إِلَى الضَّمِير، وَحِينَئِذٍ يكون الْكفْر بَدَلا مِنْهُ بدل الْكل من الْكل، وَكَثِيرًا مَا تسْتَعْمل الدارة فِي أشعار الْعَرَب، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(وَلَا سِيمَا يَوْم بدارة جلجل)
ودارات كَثِيرَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي: الدارة جوفة تحف الْجبَال، وَقَالَ عَنهُ فِي مَوضِع آخر: الدارة رمل مستدير قدر ميلين تحفه الْجبَال. وَقَالَ الهجري: الدارة النبكة السهلة حفتها جبال، وَمِقْدَار الدارة خَمْسَة أَمْيَال فِي مثلهَا. قلت: النبكة، بِفَتْح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْكَاف: وَهِي أكمة محددة الرَّأْس، وَيجمع على: نبك، بِالتَّحْرِيكِ. فَإِن قلت: الشّعْر لمن؟ قلت: ظَاهره أَنه لأبي هُرَيْرَة، وَلكنه غير مَشْهُور بالشعر. وَحكى ابْن التِّين: أَنه لغلامه، وَحكى الفاكهي فِي (كتاب مَكَّة) : عَن مقدم بن حجاج السوَائِي أَن الْبَيْت الْمَذْكُور لأبي مرْثَد الغنوي فِي قصَّة لَهُ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون أَبُو هُرَيْرَة قد تمثل بِهِ. وَالله أعلم.
وَقَالَ الْمُهلب: لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِيمَا علمت إِذا قَالَ رجل لعَبْدِهِ: هُوَ حر، أَو: هُوَ لله، وَنوى الْعتْق أَنه يلْزمه الْعتْق. وكل مَا يفهم بِهِ عَن الْمُتَكَلّم أَنه أَرَادَ بِهِ الْعتْق لزمَه وَنفذ عَلَيْهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مُغيرَة: أَن رجلا قَالَ لغلامه: أَنْت لله. فَسئلَ الشّعبِيّ وَالْمُسَيب بن رَافع وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، فَقَالُوا: هُوَ حر. وَعَن إِبْرَاهِيم كَذَلِك، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: وَإِن قَالَ: إِنَّك لحر النَّفس، فَهُوَ حر، وَعَن الْحسن: إِذا قَالَ: مَا أَنْت إلاَّ حر، نِيَّته. وَعَن الشّعبِيّ مثله.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الْعتْق عِنْد بُلُوغ الأمل والنجاة مِمَّا يخَاف، كَمَا فعل أَبُو هُرَيْرَة حِين أَنْجَاهُ الله من دَار الْكفْر وَمن ضلاله فِي اللَّيْل عَن الطَّرِيق، وَكَانَ إِسْلَام أبي هُرَيْرَة فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة.(13/91)
2352 - حدَّثنا شِهَابُ بنُ عَبَّادٍ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حُمَيْدٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ قَالَ لَ مَّا أقْبَلَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ ومَعَهُ غُلاَمَهُ وهْوَ يَطْلُبُ الإسْلامَ فَضَلَّ أحَدُهُمَا صاحِبَهُ بِهاذَا وَقَالَ أما أنِّي أشْهِدُكَ أنَّهُ لله.
هَذَا طَرِيق آخر عَن شهَاب بن عباد، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء: الْعَبْدي الْكُوفِي أَبُو عَمْرو عَن إِبْرَاهِيم بن حميد بن عبد الرَّحْمَن الرُّؤَاسِي من قيس غيلَان الْكُوفِي ... إِلَى آخِره. قَوْله: (وَهُوَ يطْلب الْإِسْلَام) جملَة حَالية، وَيحْتَمل أَن يكون حَقِيقَة، وَإِن لم يسلم وَأسلم بعد، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد يظْهر الْإِسْلَام. قَوْله: (فضل) ، أَصله التَّعْدِيَة بالحرف لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّرِيق الأول. فضل كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه، وَيكون نصب (صاحبَه) هُنَا بِنَزْع الْخَافِض، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومَه سبعين} (الْأَعْرَاف: 551) . أَي: من قومه، وَالتَّقْدِير هُنَا: فضل أَحدهمَا عَن صَاحبه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد جَاءَ مُتَعَدِّيا بِنَفسِهِ فِي الْأَشْيَاء الثَّابِتَة، كَمَا يُقَال: ضللت الْمَسْجِد وَالدَّار، إِذا لم يعرف موضعهما قلت: هَذَا من بَاب التَّوَسُّع، كَمَا يُقَال: دخلت الْمَسْجِد، حَتَّى قيل: إِن الصَّوَاب: فأضل أَحدهمَا صَاحبه.
8 - (بابُ أُمِّ الوَلَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أم الْوَلَد، وَلم يذكر الحكم مَا هُوَ، فَكَأَنَّهُ تَركه للْخلاف فِيهِ. قَالَ أَبُو عمر: اخْتلف السّلف وَالْخلف من الْعلمَاء فِي عتق أم الْوَلَد وَفِي جَوَاز بيعهَا، فالثابت عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عدم جَوَاز بيعهَا، وروى مثل ذَلِك عَن عُثْمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَهُوَ قَول أَكثر التَّابِعين مِنْهُم: الْحسن وَعَطَاء ومحاهد وَسَالم وَابْن شهَاب وَإِبْرَاهِيم، وَإِلَى ذَلِك ذهب مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، فِي أَكثر كتبه، وَقد أجَاز بيعهَا فِي بعض كتبه، وَقَالَ الْمُزنِيّ: قطع فِي أَرْبَعَة عشر موضعا من كتبه بِأَن لَا تبَاع، وَهُوَ الصَّحِيح من مذْهبه، وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابه، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر وَالْحسن بن صَالح وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي عبيد وَأبي ثَوْر، وَكَانَ أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَجَابِر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يجيزون بيع أم الْوَلَد، وَبِه قَالَ دَاوُد، وَقَالَ جَابر وَأَبُو سعيد: (كُنَّا نبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَذكر عبد الرَّزَّاق: أَنبأَنَا ابْن جريج أَخْبرنِي أَبُو الزبير سمع جَابِرا، يَقُول: (كُنَّا نبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِينَا لَا يرى بذلك بَأْسا) . وأنبأنا ابْن جريج أَنبأَنَا عبد الرَّحْمَن بن الْوَلِيد أَن أَبَا إِسْحَاق الْهَمدَانِي أخبرهُ أَن أَبَا بكر الصّديق (كَانَ يَبِيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي آمارته وَعمر فِي نصف إمارته) . وَقَالَ ابْن مَسْعُود: (تعْتق فِي نصيب وَلَدهَا) ، وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَارِيَة سريته: لما ولدت إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (أعْتقهَا وَلَدهَا) ، من وَجه لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَلَا يُثبتهُ أهل الحَدِيث، وَكَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (إيما أمة ولدت من سَيِّدهَا فَإِنَّهَا حرَّة إِذا مَاتَ سَيِّدهَا) ، فَقيل لَهُ: عَمَّن هَذَا؟ قَالَ: (عَن الْقُرْآن هَذَا) ، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} (النِّسَاء: 95) . وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من أولي الْأَمر، وَقد قَالَ: أعْتقهَا وَلَدهَا وَإِن كَانَ سِقطاً.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ تَلِدَ الأمَةِ رَبَّها
هَذَا التَّعْلِيق مر مَوْصُولا مطولا فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْإِيمَان، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَجه إِيرَاد هَذَا هُنَا هُوَ أَن مِنْهُم من اسْتدلَّ على جَوَاز بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَمِنْهُم من منع ذَلِك فَكَانَ البُخَارِيّ أَرَادَ بِذكرِهِ هَذَا الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه لَا يدل على الْجَوَاز وَلَا الْمَنْع. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) وَقد اسْتدلَّ إمامان من كبار الْعلمَاء على ذَلِك، اسْتدلَّ أَحدهمَا على الْإِبَاحَة، وَالْآخر على الْمَنْع، وَذَلِكَ عَجِيب مِنْهُمَا، وَقد أنكر عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كل مَا أخبر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِكَوْنِهِ من عَلَامَات السَّاعَة يكون محرما أَو مذموماً كتطاول الرعاء فِي الْبُنيان وفشو المَال وَكَون خمسين امْرَأَة لَهُنَّ قيم وَاحِد لَيْسَ بِحرَام بِلَا شكّ، وَإِنَّمَا هَذِه عَلَامَات، والعلامة لَا يشْتَرط فِيهَا شَيْء من ذَلِك، بل تكون بِالْخَيرِ وَالشَّر والمباح وَالْمحرم وَالْوَاجِب وَغَيره. انْتهى. قلت: وَجه اسْتِدْلَال الْمُجِيز أَن ظَاهر قَوْله:(13/92)
(رَبهَا) ، أَن المُرَاد بِهِ سَيِّدهَا لِأَن وَلَدهَا من سَيِّدهَا يتنزل منزلَة سَيِّدهَا لمصير مآل الْإِنْسَان إِلَى وَلَده غَالِبا، وَوجه اسْتِدْلَال الْمَانِع أَن هَذَا إِخْبَار عَن غَلَبَة الْجَهْل فِي آخر الزَّمَان حَتَّى تبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، فيكثر تردد الْأمة فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيهَا وَلَدهَا وَهُوَ لَا يدْرِي، فَيكون فِيهِ إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَلَا يخفى تعسف الْوَجْهَيْنِ.
3352 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عُرْوَةَ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنَّ عُتْبَةَ بنَ أبِي وقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أخِيهِ سَعْدِ بنِ أبِي وقَّاصٍ أنْ يَقْبِضَ إلَيْهِ ابنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ قَالَ عُتْبَةُ إنَّهُ ابْني فلَمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمَنَ الْفَتْحِ أخَذَ سَعْدٌ ابنُ ولِيدَةِ زَمْعَةَ فَأقْبَلَ بِهِ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقْبَلَ معَهُ بِعَبْدِ بنِ زَمْعَةَ فقالَ سَعْدٌ يَا رسُولَ الله هَذَا ابنُ أخِي عَهِدَ إلَيَّ أنَّهُ ابْنُهُ فَقَالَ عبدُ بنُ زَمْعَةَ يَا رسولَ الله هَذَا أخِي ابنُ ولِيدَةِ زَمعَة وُلدَ عَلى فِراشِهِ فنَظَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ابنُ وليدَةِ زَمْعَةَ فإذَا هُوَ أشْبَهُ النًّاسِ بهِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ مِنْ أجْلِ أنَّهُ وُلِدَ علَى فِرَاشِ أَبِيه وَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بنْتَ زَمْعَةَ مِمَّا رَأى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ وكانتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هَذَا أخي، ولد على فرَاش أبي) وَحكمه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَنَّهُ أَخُوهُ، فَإِن فِيهِ ثُبُوت أميَّة الْوَلَد. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ تعرض لحريتها وَلَا لرقيتها. قلت: التَّرْجَمَة فِي بَاب أم الْوَلَد مُطلقًا من غير تعرض للْحكم، كَمَا ذكرنَا فَتحصل الْمُطَابقَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَقيل: فِيهِ: إِشَارَة إِلَى حريَّة أم الْوَلَد لِأَنَّهُ جعلهَا فراشا، فسوى بَينهَا وَبَين الزَّوْجَة فِي ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: زَاد فِي بعض النّسخ بعد تَمام الحَدِيث، قَالَ أَبُو عبد الله: سمى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمة زَمعَة أمة ووليدة، فَدلَّ على أَنَّهَا لم تكن عتيقة بِهَذَا الحَدِيث. قلت: هَذَا يدل على أَن ميله إِلَى عدم عتق أم الْوَلَد بِمَوْت السَّيِّد، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يُقَال غَرَض البُخَارِيّ فِيهِ بَيَان أَن بعض الْحَنَفِيَّة لَا يَقُولُونَ بِأَن الْوَلَد للْفراش فِي الْأمة إِذْ لَا يلحقون الْوَلَد بالسيد إلاَّ بِإِقْرَارِهِ، بل يخصصونه بفراش الْحرَّة، فَإِذا أَرَادوا تَأْوِيل مَا فِي هَذَا الحَدِيث فِي بعض الرِّوَايَات من أَن الْوَلَد للْفراش يَقُولُونَ: إِن أم الْوَلَد الْمُتَنَازع فِيهَا كَانَت حرَّة لَا أمة، ثمَّ إِن هَذَا الحَدِيث مضى فِي أَوَائِل كتاب الْبيُوع فِي: بَاب تَفْسِير الشُّبُهَات، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَلَكِن نذْكر هُنَا بعض شيى لزِيَادَة الْفَائِدَة.
وَقَالَ ابْن بطال: الْقَضِيَّة مشكلة من جِهَة أَن عبدا ادّعى على أمة ولدا بقوله: أخي، وَلم يَأْتِ بِبَيِّنَة تشهد على إِقْرَار أَبِيه، فَكيف قبل دَعْوَاهُ؟ فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى: أَن الْأمة إِذا وَطئهَا مَوْلَاهَا فقد لزمَه كل ولد تَجِيء بِهِ بعد ذَلِك، إدعاه أم لَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يلْزم مَوْلَاهَا إلاَّ أَن يقرَّ بِهِ، وَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (هولك) ، وَلم يقل: هُوَ أَخُوك، فَيجوز أَن يُرِيد بِهِ: هُوَ مَمْلُوك لَك بِحَق مَا لَك عَلَيْهِ من الْيَد، وَلِهَذَا أَمر سَوْدَة بالاحتجاب مِنْهُ، فَلَو جعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ابْن زَمعَة لما حجب مِنْهُ أُخْته. وَقَالَت طَائِفَة: مَعْنَاهُ: هُوَ أَخُوك كَمَا ادعيت، قَضَاء مِنْهُ فِي ذَلِك بِعَمَلِهِ، لِأَن زَمعَة كَانَ صهره فَألْحق وَلَده بِهِ لما علمه من فراسته، لَا أَنه قضى بذلك لاستلحاق عبد لَهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: (هُوَ لَك) ، أَي: بِيَدِك عَلَيْهِ لَا إِنَّك تملكه، وَلَكِن يمنه مِنْهُ كل من سواك، كَمَا قَالَ فِي اللّقطَة: هِيَ لَك تدفع غَيْرك عَنْهَا حَتَّى يَجِيء صَاحبهَا، وَلما كَانَ لعبد شريك وَهُوَ أُخْته سَوْدَة، وَلم يعلم مِنْهَا تَصْدِيق فِي ذَلِك، ألزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عبدا مَا أقرَّ بِهِ على نَفسه، وَلم يَجْعَل ذَلِك حجَّة على أُخْته، فَأمرهَا بالاحتجاب. وَقَالَ الشَّافِعِي: رُؤْيَة ابْن زَمعَة لسودة مُبَاحَة، لكنه كرهه للشُّبْهَة، وأمرها بالتنزه عَنهُ اخْتِيَارا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ لَك ملك، يَعْنِي عبدا لِأَنَّهُ بَان وليدة أَبِيك، وكل أمة تَلد من غير سَيِّدهَا فولدها عبد، وَلم ينْقل فِي الحَدِيث اعْتِرَاف سَيِّدهَا بِوَطْئِهَا، وَلَا شهد بذلك عَلَيْهِ، فَلم يبْق إلاَّ الْقَضَاء بِأَنَّهُ عبد تبيع لأمه، لَا أَنه قضى لَهُ بِبَيِّنَة. وَأجَاب ابْن الْقصار بجوابين: أَحدهمَا: أَنه كَانَ يدعى: عبد بن زَمعَة، أَنه حر وَأَنه أَخُوهُ ولد على فرَاش أَبِيه،(13/93)
فَكيف يقْضِي لَهُ بِالْملكِ؟ وَلَو كَانَ مَمْلُوكا لعتق بِهَذَا القَوْل. وَالْآخر: أَنه لَو قضى لَهُ بِالْملكِ لم يقل الْوَلَد للْفراش، لِأَن الْمَمْلُوك لَا يلْحق بالفراش، ولكان يَقُول: هُوَ ملك لَك. وَقَالَ الْمُزنِيّ: يحْتَمل أَن يكون أجَاب فِيهِ على الْمَسْأَلَة. فأعلمهم بالحكم أَن هَذَا يكون إِذا ادّعى صَاحب فرَاش وَصَاحب زنا، لَا أَنه قَبِلَ قَول سعد على أَخِيه عتبَة، وَلَا على زَمعَة قَول ابْنه عبد بن زَمعَة أَنه أَخُوهُ، لِأَن كل اُحْدُ مِنْهُمَا أخبر عَن غَيره، وَقد قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه لَا يقبل إِقْرَار أحد على غَيره، فَحكم بذلك ليعرفهم الحكم فِي مثله إِذا نزل. قَوْله: (أَخذ سعد ابْن وليدة زَمعَة) أَي: أَخذ سعد بن أبي وَقاص، وَهُوَ مَرْفُوع منون. وَقَوله: (ابْن وليدة) ، مَنْصُوب على أَنه مفعول، وَيَنْبَغِي أَن يكْتب: ابْن، بِالْألف. قَوْله: (هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة) ، بِرَفْع عبد، وَيجوز نَصبه، وَكَذَا: ابْن، وَكَذَا قَوْله: يَا سَوْدَة بنت زَمعَة. قلت: أما وَجه الرّفْع وَالنّصب فَهُوَ أَن تَوَابِع الْمَبْنِيّ المفردة من التَّأْكِيد وَالصّفة وَعطف الْبَيَان ترفع على لَفظه، وتنصب على مَحَله بَيَانه: أَن لفظ عبد فِي: يَا عبد، منادى مَبْنِيّ على الضَّم، فَإِذا أكذ أَو اتّصف أَو عطف عَلَيْهِ يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. قَوْله: (احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة) ، أشكل مَعْنَاهُ قَدِيما على الْعلمَاء. فَذهب أَكثر الْقَائِلين بِأَن الْحَرَام لَا يحرم الْحَلَال، وَأَن الزِّنَا لَا تَأْثِير لَهُ فِي التَّحْرِيم، وَهُوَ قَول عبد الْملك بن الْمَاجشون، إلاَّ أَن قَوْله: كَانَ ذَلِك مِنْهُ على وَجه الِاحْتِيَاط والتنزه، وَأَن للرجل أَن يمْنَع امْرَأَته من رُؤْيَة أَخِيهَا، هَذَا قَول الشَّافِعِي. وَقَالَت طَائِفَة: كَانَ ذَلِك مِنْهُ لقطع الذريعة بعد حكمه بِالظَّاهِرِ، فَكَأَنَّهُ حكم بحكمين: حكم ظَاهر وَهُوَ: الْوَلَد للْفراش، وَحكم بَاطِن، وَهُوَ: الاحتجاب من أجل الشّبَه. كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِأَخ لَك يَا سَوْدَة إلاَّ فِي حكم الله تَعَالَى، فَأمرهَا بالاحتجاب مِنْهُ. قلت: وَمن هَذَا أَخذ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد: أَن وَطْء الزِّنَا محرم، وَمُوجب للْحكم وَأَنه يجْرِي مجْرى الْوَطْء الْحَلَال فِي التَّحْرِيم مِنْهُ، وحملوا أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لسودة بالاحتجاب على الْوُجُوب، وَهُوَ أحد قولي مَالك. وَفِي قَوْله الآخر: الْأَمر هَهُنَا للاستحباب، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَذَلِكَ لأَنهم يَقُولُونَ: إِن وَطْء الزِّنَا لَا يحرم شَيْئا وَلَا يُوجب حكما، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، وَذكر فِي حكم أم الْوَلَد سَبْعَة أَقْوَال: الأول: يجوز عتقهَا على مَال صرح بِهِ ابْن الْقصار فِي (فَتَاوِيهِ) الثَّانِي: يجوز بيعهَا مُطلقًا، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ. الثَّالِث: يجوز لسَيِّدهَا بيعهَا فِي حَيَاته، فَإِذا مَاتَ عتقت، وَحكي ذَلِك عَن الشَّافِعِي. الرَّابِع: أَنَّهَا تبَاع فِي الدّين، وَفِيه حَدِيث سَلامَة بن معقل فِي (سنَن أبي دَاوُد) . الْخَامِس: أَنَّهَا تبَاع، وَلَكِن إِن كَانَ وَلَدهَا مَوْجُودا عِنْد موت أَبِيه سَيِّدهَا حسب من نصِيبه إِن كَانَ ثمَّ مشارك لَهُ فِي التَّرِكَة، وَهُوَ مَذْهَب ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. السَّادِس: أَنه يجوز بيعهَا بِشَرْط الْعتْق، وَلَا يجوز بِغَيْرِهِ. السَّابِع: أَنَّهَا إِن عَقَّت وأبِقَتْ لم يجز بيعهَا، وَإِن فجرت أَو كفرت جَازَ بيعهَا. حُكيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَحكى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي التَّوَقُّف.
9 - (بابُ بَيْعِ المُدَبِّرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُدبر: هَل يجوز أم لَا؟ وَقد ذكر هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا فِي كتاب الْبيُوع.
4352 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَمْرُ ابنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ أعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْداً لَهُ عنْ دُبُرٍ فَدَعَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ فَباعَهُ قَالَ جابِرٌ ماتَ الغُلامُ عامَ أوَّلَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث يُوضح حكم التَّرْجَمَة أَيْضا أَنه أطلقها، فَدلَّ أَن مذْهبه جَوَاز بيع الْمُدبر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْبيُوع مُسْتَوفى.
قَوْله: (عَن دبر) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وسكونها، وَاسم العَبْد: يَعْقُوب، وَالْمُعتق: أَبُو مَذْكُور، وَالْمُشْتَرِي: نعيم النحام. وَالثمن ثَمَانمِائَة دِرْهَم. قَوْله: (عَام أول) ، بِالصرْفِ وَعدم الصّرْف، لِأَنَّهُ إِمَّا: أفعل أَو فوعل، وَيجوز بِنَاؤُه على الضَّم، وَهَذِه الْإِضَافَة من إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته، وَأَصله عَاما أول، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، فلنذكر هُنَا أَيْضا يعَض شَيْء. فَقَالَ قوم: يجوز بيع الْمُدبر وَيرجع فِيهِ مَتى شَاءَ، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وطاووس، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث، قَالُوا: وَهُوَ مَذْهَب عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا باعت مُدبرَة لَهَا سحرتها.(13/94)
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يجوز، روى ذَلِك عَن زيد بن ثَابت، وَابْن عمر، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ، وَبِه قَالَ مَالك وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيون: لَا يُبَاع فِي دين وَلَا فِي غَيره إلاَّ فِي دين قبل التَّدْبِير، وَيُبَاع بعد الْمَوْت إِذا أغرقه الدّين، وَكَانَ التَّدْبِير قبل الدّين أَو بعده، وَعَن أبي حنيفَة: لَا يُبَاع فِي الدّين، وَلَكِن يستسعى للْغُرَمَاء، فَإِذا أدّى مَا لَهُم عتق، وَقَالَ ابْن التِّين: وَلم يخْتَلف قَول مَالك وَأَصْحَابه: أَن من دبر عَبده وَلَا دين عَلَيْهِ أَنه لَا يجوز بَيْعه وَلَا هِبته وَلَا نقض تَدْبيره مَا دَامَ حَيا، خلافًا للشَّافِعِيّ. وَفِي (التَّوْضِيح) يخرج الْمُدبر بعد موت سَيّده من ثلثه. وَقَالَ دَاوُد: يخرج من جَمِيع المَال، فَإِن لم يحملهُ الثُّلُث رق مَا لم يحملهُ الثُّلُث مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يسْعَى فِي فكاك رقبته، فَإِن مَاتَ سَيّده وَعَلِيهِ دين سعى للْغُرَمَاء، وَيخرج حَيا.
01 - (بابُ بَيْعِ الوَلاءِ وَهِبَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْوَلَاء وهبته: هَل يجوز أم لَا؟ وَحَدِيث الْبَاب يدل على أَنه لَا يجوز، وَالْوَلَاء بِفَتْح الْوَاو، وبالمد هُوَ حق إِرْث الْمُعْتق من الْعَتِيق، وَهَذَا يُسمى: وَلَاء الْعتَاقَة، وَسَببه الْعتْق لَا الْإِعْتَاق، لِأَنَّهُ إِذا ورث قَرِيبه يعْتق عَلَيْهِ، وَيكون وَلَاؤُه لَهُ وَلَو كَانَ سَببه الْإِعْتَاق لما ثَبت لَهُ الْوَلَاء، لِأَنَّهُ لم يُوجد الْإِعْتَاق.
5352 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخْبرني عَبْدُ الله بنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقول نَهى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ الوَلاءِ وعنْ هِبَتِهِ.
(الحَدِيث 5352 طرفه فِي: 6576) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِبْهَام الَّذِي فِيهَا. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك قَوْله: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، إِلَى آخِره يَعْنِي وَلَاء الْعتْق وَهُوَ مَا إِذا مَاتَ الْمُعْتق وَرثهُ مُعْتقه أَو وَرَثَة مُعْتقه. وَكَانَت الْعَرَب تبيعه وتهبه، فَنهى عَنهُ الشَّارِع لِأَن الْوَلَاء كالنسب، فَلَا يَزُول بالإزالة. وفقهاء الْحجاز وَالْعراق مجمعون على أَنه: لَا يجوز بيع الْوَلَاء وَلَا هِبته، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر. وَفِيه قَول ثَان: روى أَن مَيْمُونَة بنت الْحَارِث وهبت وَلَاء مواليها من الْعَبَّاس، وَأَن عُرْوَة ابْتَاعَ وَلَاء طهْمَان لوَرَثَة مُصعب بن الزبير، وَذكر عبد الرَّزَّاق عَن عَطاء أَنه: يجوز للسَّيِّد أَن يَأْذَن لعَبْدِهِ أَن يوالي من شَاءَ، وَهَذَا هُوَ هبة الْوَلَاء، وَصَحَّ من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُورث، صَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَخَالفهُ الْبَيْهَقِيّ فأعله، وَذكره ابْن بطال من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: الْوَلَاء لحْمَة كالنسب، وَأوردهُ ابْن التِّين بِزِيَادَة، بِلَفْظ: لَا يحل بَيْعه وَلَا هِبته، ثمَّ قَالَ: وَعَلِيهِ جَمَاهِير أهل الْعلم، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَنه: لَا يجوز تَحْويل النّسَب، وَقد نسخ الله تَعَالَى الْمَوَارِيث بالتبني بقوله: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْله: {ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 5) . وَلعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من انتسب إِلَى غير أَبِيه، فَكَانَ حكم الْوَلَاء كَحكم النّسَب فِي ذَلِك، فَكَمَا لَا يجوز بيع النّسَب وَلَا هِبته، كَذَلِك الْوَلَاء، وَلَا نَقله وَلَا تحويله، وَإنَّهُ للْمُعْتق كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
6352 - حدَّثنا عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتِ اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فاشْتَرَطَ أهْلُهَا وَلاءَها فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أعْتِقِيها فإنَّ الوَلاءَ لِمَنْ أعْطَى الوَرِقَ فأعْتَقْتُها فَدَعاها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَيَّرَها منْ زَوْجِها فقالَتْ لَوْ أعْطَانِي كَذَا وكذَا مَا ثَبَتُّ عِنْدَهُ فاخْتارَتْ نَفْسَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن الْوَلَاء لمن أعْطى الْوَرق) فَهَذَا يدل على أَن الْوَلَاء لَا ينْقل، فَإِذا لم يجز نَقله لَا يجوز بَيْعه وَلَا هِبته.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب البيع وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء أخرجه من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَمن رِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر: أَن عَائِشَة ساومت، وَفِي: بَاب، إِذا اشْترط شُرُوطًا فِي البيع لَا يحل، من رِوَايَة(13/95)
مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. وَأخرجه هُنَا عَن عُثْمَان عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن جرير وَفِيه أَيْضا عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع وَفِي الْوَلَاء عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع وَفِي الطَّلَاق وَفِي الْفَرَائِض عَن قُتَيْبَة عَن جرير بِهِ، وَذكر قصَّة التَّخْيِير فِي الْبيُوع وَفِي الطَّلَاق دون الْفَرَائِض.
قَوْله: (بَرِيرَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى، وَكَانَت وليدة لبني هِلَال، كَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن عُرْوَة، قَوْله: (لم أعْطى الْوَرق) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء، وَهِي الدَّرَاهِم المضروبة، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: وَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعْطى الثّمن أَو لمن مَعَه النِّعْمَة. قَوْله: (فَخَيرهَا من زَوجهَا) لِأَن زَوجهَا كَانَ عبدا على الْأَصَح، وَإِذا كَانَ زوج الْأمة حرا خيرت عندنَا أَيْضا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا تخير، وروى مُسلم عَن عَائِشَة أَن زَوجهَا كَانَ عبدا فَخَيرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا عَنْهَا أَن زوج بَرِيرَة كَانَ حرا حِين أعتقت، وَالْعَمَل بِهَذَا أولى لثُبُوت الْحُرِّيَّة لاتفاقهم أَنه كَانَ قتل عبدا. ونقول بِمُوجب الْحَدِيثين جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ، وَلَا فرق فِي هَذَا بَين القنة وَأم الْوَلَد والمدبرة وَالْمُكَاتبَة، وَزفر يخالفنا فِي الْكِتَابَة.
11 - (بابٌ إذَا أُسِرَ أخُو الرَّجُلِ أوْ عَمُّهُ هَلْ يُفادَى إذَا كانَ مُشْرِكاً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أسر أَخُو الرجل أَو عَمه هَل يفادى؟ من فاداه يفاديه مفاداة: إِذا أعْطى فداءه، وأنقذه. وَقيل: المفاداة أَن يَفتكَّ الْأَسير بأسير مثله، وَفِي (الْمغرب) : فدَاه من الْأسر فدَاء: استنقذه مِنْهُ بِمَال، والفدية اسْم ذَلِك المَال، والمفاداة بَين اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْمبرد: المفاداة أَن تدفع رجلا وَتَأْخُذ رجلا وَالْفِدَاء أَن تشتريه. وَقيل: هما بِمَعْنى قلت: يفادى هُنَا بِمَعْنى: أَن يُعْطي مَالا ويستنقذ الْأَسير. قَوْله: (إِذا كَانَ) ، أَي: أَخُوهُ أَو عَمه مُشْركًا من أهل دَار الْحَرْب، وَإِنَّمَا قَالَ البُخَارِيّ: هَل يفادى؟ بالاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَلم يبين حكم الْمَسْأَلَة. وَاقْتصر على ذكر أخي الرجل وَعَمه من بَين سَائِر ذَوي رَحمَه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ترك بَيَان حكم الْمَسْأَلَة لأجل الْخلاف فِيهِ على مَا نبينه، وَأما اقْتِصَاره على الْأَخ وَالْعم فَلِأَنَّهُ استنبط من حَدِيث الْبَاب أَن الْأَخ وَالْعم لَا يعتقان على من ملكهمَا، وَكَذَلِكَ ابْن الْعم، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ملك من عَمه الْعَبَّاس وَمن ابْن عَمه عقيل بِالْغَنِيمَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا نصيب، وَكَذَلِكَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد ملك من أَخِيه عقيل وَعَمه الْعَبَّاس وَلم يعتقا عَلَيْهِ.
وَأما بَيَان الِاخْتِلَاف فِيمَن يعْتق على الرجل إِذا ملكه، فَذهب مَالك إِلَى أَنه لَا يعْتق عَلَيْهِ إلاَّ أهل الْفَرَائِض فِي كتاب الله تَعَالَى، وهم: الْوَلَد ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَولد الْوَلَد، وَإِن سفلوا، وَأَبوهُ وأجداده وجداته من قبل الْأَب وَالأُم وَإِن بعدوا، وَإِخْوَته لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب أَو لأم، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي إلاَّ فِي الْأُخوة: فَإِنَّهُم لَا يعتقون، وحجته فِيهِ: أَن عقيلاً كَانَ أَخا عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم يعْتق عَلَيْهِ بِمَا ملك من نَفسه من الْغَنِيمَة مِنْهُ. وَعند الْحَنَفِيَّة: كل من ملك ذَا رحم محرم مِنْهُ عتق عَلَيْهِ، وَذُو الرَّحِم الْمحرم كل شَخْصَيْنِ يدليان إِلَى أصل وَاحِد بِغَيْر وَاسِطَة: كالأخوين، أَو أَحدهمَا بِوَاسِطَة، وَالْآخر بواسطتين، كالعم وَابْن الْعم، وَلَا يعْتق ذُو رحم غير محرم كبني الْأَعْمَام والأخوال وَبني العمات والخالات، وَلَا محرم غير ذِي رحم كالمحرمات بالصهرية، أَو الرَّضَاع إِجْمَاعًا، وَيَقُول الْحَنَفِيَّة قَالَ أَحْمد وَعنهُ كَقَوْل الشَّافِعِي. وَفِي (حاوي) الْحَنَابِلَة: وَمن ملك ذَا رحم محرم عتق عَلَيْهِ، وَعنهُ: لَا يعْتق إلاَّ عَمُود النّسَب. وَحجَّة الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة من حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب، قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ مُوسَى فِي مَوضِع آخر: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب فِيمَا يحْسب حَمَّاد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عبد الله بن مُعَاوِيَة الجُمَحِي الْبَصْرِيّ حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا حجاج وَأَبُو دَاوُد، قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ملك ذَا محرم فَهُوَ حر) ، وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا عقبَة بن مكرم وَإِسْحَاق بن مَنْصُور، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة وَعَاصِم عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر) ، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ البُخَارِيّ بترجمة هَذَا الْبَاب(13/96)
إِلَى تَضْعِيف حَدِيث سَمُرَة هَذَا، واستنكره ابْن الْمَدِينِيّ، وَرجح التِّرْمِذِيّ إرْسَاله، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَتفرد بِهِ حَمَّاد، وَكَانَ يشك فِي وَصله، وَغَيره يرويهِ عَن قَتَادَة عَن الْحسن. قَوْله: وَعَن قَتَادَة عَن عمر قَوْله: مُنْقَطِعًا، أخرج ذَلِك النَّسَائِيّ. قلت: مَا وَجه دلَالَة هَذِه التَّرْجَمَة على ضعف هَذَا الحَدِيث؟ فَمَا هَذِه الدّلَالَة؟ هَل هِيَ لفظية أَو عقلية؟ والْحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم الْأَحول وَقَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا، وَسكت عَنهُ، ثمَّ أخرجه عَن ضَمرَة بن ربيعَة عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (من ملك ذَا رحم فَهُوَ حر) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، والمحفوط: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَصَححهُ أَيْضا ابْن حزم وَابْن الْقطَّان، وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا خبر صَحِيح تقوم بِهِ الْحجَّة كل من رُوَاته ثِقَات. انْتهى. وَلَئِن سلمنَا مَا قَالُوا، فَمَا يقلون فِي حَدِيث ضَمرَة ابْن ربيعَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَهَذَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي الِاحْتِجَاج؟ فَإِن قلت: قَالُوا: تفرد بِهِ ضَمرَة. قلت: لَيْسَ انْفِرَاده بِهِ دَلِيلا على أَنه غير مَحْفُوظ وَلَا يُوجب ذَلِك عِلّة فِيهِ، لِأَنَّهُ من الثِّقَات المأمونين لم يكن بِالشَّام رجل يُشبههُ، كَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة مَأْمُونا لم يكن هُنَاكَ أفضل مِنْهُ، وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ فَقِيه أهل فلسطين فِي زَمَانه. والْحَدِيث إِذا انْفَرد بِهِ مثل هَذَا كَانَ صَحِيحا، وَلَا يضرّهُ تفرده.
وقالَ أنَسٌ قَالَ العَبَّاسُ لِلْنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فأدَّيْتُ نَفْسِي وفاديْتُ عَقيلاً
هَذَا التَّعْلِيق جُزْء من حَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْقِسْمَة، وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد. أخرجه هُنَاكَ فَقَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، قَالَ: أُتِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَال من الْبَحْرين ... الحَدِيث، وَفِيه: جَاءَهُ الْعَبَّاس فَقَالَ: يَا رَسُول الله {أَعْطِنِي، فَإِنِّي فاديت نَفسِي وفاديت عقيلاً ... إِلَى آخِره. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ مَوْصُولا، فَقَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الطّيب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله، حَدثنَا مُحَمَّد بن عِصَام حَدثنَا حَفْص بن عبد الله حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان ... إِلَى آخِره وعباس عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أسر فِي وقْعَة بدر فَأدى نَفسه بِمِائَة أُوقِيَّة من ذهب، قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَهَذِه الْمِائَة عَن نَفسه وَعَن بني أَخِيه عقيل وَنَوْفَل، وروى هِشَام بن الْكَلْبِيّ عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ: فدى الْعَبَّاس نَفسه بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ من كل وَاحِد من الأسرى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أضعفوها على الْعَبَّاس، فَقَالَ: تَرَكتنِي فَقِيرا مَا عِشْت أسأَل الله. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَأَيْنَ المَال الَّذِي تركته عِنْد أم الْفضل) ، وَذكره فَقَالَ: يَا ابْن أخي من أعلمك؟ فوَاللَّه مَا كَانَ عندنَا ثَالِث. فَقَالَ: (أَخْبرنِي الله) ، فَقَالَ أشهد أَنَّك لصَادِق وَمَا علمت أَنَّك رَسُول الله قبل الْيَوْم، وَأسلم وَأمر إبني إخيه، فَأَسْلمَا. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَفِيه نزل: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الْأُسَارَى أَن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ} (الْأَنْفَال: 07) . الْآيَة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: عَن يزِيد بن رُومَان عَن عُرْوَة عَن الزُّهْرِيّ عَن جمَاعَة، سماهم. قَالُوا: بعثت قُرَيْش إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فدَاء أسرائهم، ففدى كل قوم أسيرهم بِمَا رَضوا، وَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله قد كنت مُسلما. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الله أعلم بِإِسْلَامِك، فَإِن يكن كَمَا تَقول فَالله يجْزِيك، وَأما ظاهرك فقد كَانَ علينا فافتدِ نَفسك وَابْني أَخِيك نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَعقيل بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب، وَحَلِيفك عتبَة بن عَمْرو أخي بني الْحَارِث بن فهر) قَالَ: مَا ذَاك عِنْدِي يَا رَسُول الله} قَالَ: (فإين المَال الَّذِي دَفَنته أَنْت وَأم الْفضل؟ قَالَ: فَقلت لَهَا: إِن أصبت فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا المَال الَّذِي دَفَنته لبني الْفضل وَعبد الله وَقثم) قَالَ: وَالله إِنِّي لأعْلم أَنَّك رَسُول الله إِن هَذَا شَيْء مَا علمه أحد غَيْرِي وَغير أم الْفضل، فَاحْسبْ لي يَا رَسُول الله مَا أصبْتُم مني عشْرين أُوقِيَّة من مَال كَانَ معي. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا، ذَاك شَيْء أَعْطَانَا الله مِنْك، ففدى نَفسه وَابْني أَخَوَيْهِ وَحَلِيفه، فَأنْزل الله عزوجل فِيهِ: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الْأُسَارَى ... } (الْأَنْفَال: 07) . الْآيَة قَالَ الْعَبَّاس: فَأَعْطَانِي الله مَكَان الْعشْرين أُوقِيَّة فِي الْإِسْلَام عشْرين عبدا، كلهم فِي يَده مَال يضْرب بِهِ مَعَ مَا أَرْجُو من مغْفرَة الله، عز وَجل.
وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي أسر الْعَبَّاس، فَقيل: ملك من الْمَلَائِكَة، وَقيل: أسره أَبُو الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو وأخو بني سَلمَة الْأنْصَارِيّ وَكَانَ الْعَبَّاس جسيماً وَأَبُو الْيُسْر مجموعاً، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَيفَ أسرت الْعَبَّاس؟) فَقَالَ: أعانني عَلَيْهِ رجل مَا رَأَيْته قطّ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أعانك عَلَيْهِ ملك كريم) . وَقيل(13/97)
أسره عبيد الله بن أَوْس الْأنْصَارِيّ من بني ظفر وَسمي: بمقرن، قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَإِنَّمَا سمي بِهِ لِأَنَّهُ قرن بَين الْعَبَّاس وَنَوْفَل وَعقيل بجبل، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لقد أعانك عَلَيْهِم ملك كريم) ، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق وَلما أسر الْعَبَّاس بَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساهراً تِلْكَ اللَّيْلَة، فَقيل لَهُ: مَالك لَا تنام؟ فَقَالَ: (يَمْنعنِي أَمر الْعَبَّاس) ، وَكَانَ موثقًا بالقيد، فأطلقوه فَنَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وكانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أصابَ مِنْ أخِيهِ عَقِيلٍ ومِنْ عَمِّهِ عَبَّاسٍ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ ذكره فِي معرض الِاسْتِدْلَال على أَنه لَا يعْتق الْأَخ وَلَا الْعم بِمُجَرَّد الْملك، إِذْ لَو عتقا لعتق الْعَبَّاس وَعقيل على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي حِصَّته من الْغَنِيمَة، وَأجِيب: بِأَن الْكَافِر لَا يملك بِالْغَنِيمَةِ ابْتِدَاء، بل يتَخَيَّر فِيهِ بَين الْقَتْل والاسترقاق وَالْفِدَاء، فَلَا يلْزم الْعتْق بِمُجَرَّد الْغَنِيمَة.(13/98)
21 - (بابُ عِتْق الْمُشرِكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم عتق الْمُشرك والمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَالْمَفْعُول مَتْرُوك، وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون مُضَافا إِلَى الْفَاعِل أَو إِلَى الْمَفْعُول، وعَلى الثَّانِي جرى ابْن بطال، فَقَالَ: لَا خلاف فِي جَوَاز عتق الْمُشرك تَطَوّعا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي عتقه عَن الْكَفَّارَة. انْتهى. قلت: الِاحْتِمَال الَّذِي ذكره مَوْجُود، وَلَكِن المُرَاد الْإِضَافَة إِلَى الْفَاعِل وإلاَّ لَا تقع الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. وَقَول ابْن بطال: لَا خلاف فِي جَوَاز عتق الْمُشرك تَطَوّعا، لَا يسْتَلْزم تعْيين كَون الْإِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول، وَلَو كَانَ قصد هَذَا يرد لِئَلَّا تنخرم الْمُطَابقَة.
8352 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أَبُو أُسَامةَ عنْ هِشَامٍ قَالَ أخْبَرَنِي أبي أنَّ حكِيمَ ابنَ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أعْتَقَ فِي الجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبةٍ وحَمَلَ عَلى بَعِيرٍ فلَمَّا أسْلَمَ حَمَلَ عَلى مائَةِ بَعِيرٍ وأعْتَقَ مِائَةَ رَقَبةٍ قَالَ فَسَألْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلْتُ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ أشْيَاءَ كُنْتُ أصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أتَحَنَّثُ بِها يَعْنِي أتَبَرَّرُ بِها قَالَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْلَمْتَ علَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة كَمَا نبهنا عَلَيْهِ الْآن. وَعبيد، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله يعْنى أَبَا مُحَمَّد الْقرشِي الْكُوفِي وَهُوَ من أَفْرَاده. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير يروي عَن أَبِيه عُرْوَة. وَحَكِيم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْكَاف: ابْن حزَام، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي المخففة: ابْن خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي الْأَسدي، وَهُوَ ابْن أخي خَدِيجَة بنت خويلد، وَابْن عَم الزبير بن الْعَوام، ولد فِي بطن الْكَعْبَة لِأَن أمه صَفِيَّة وَقيل: فَاخِتَة بنت زُهَيْر بن الْحَارِث دخلت الْكَعْبَة فِي نسْوَة من قُرَيْش وَهِي حَامِل، فَأَخذهَا الطلق فَولدت حكيماً بهَا، وَهُوَ من مُسلم الْفَتْح، وعاش مائَة وَعشْرين سنة، سِتُّونَ سنة فِي الْإِسْلَام وَسِتُّونَ سنة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَات سنة أَربع وَخمسين فِي أَيَّام مُعَاوِيَة، وَقد مضى بعض هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب من تصدق فِي الشّرك ثمَّ أسلم، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ تعدد مَوْضِعه وَأَن مُسلما أخرجه. قَوْله: (إِن حَكِيم بن حزَام) ، ظَاهره الْإِرْسَال، لِأَن عُرْوَة لم يدْرك زمن ذَلِك، لَكِن. قَوْله: (قَالَ: فَسَأَلت) يُوضح الْوَصْل، لِأَن فَاعل: قَالَ، هُوَ: حَكِيم، فَكَأَن عُرْوَة قَالَ: قَالَ حَكِيم، فَيكون بِمَنْزِلَة قَوْله عَن حَكِيم، وَالدَّلِيل على ذَلِك رِوَايَة مُسلم فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام، فَقَالَ عَن أَبِيه عَن حَكِيم بن حزَام. قَوْله: (حمل على مائَة بعير) ، أَي: فِي الْحَج، لما رُوِيَ: أَنه حج فِي الْإِسْلَام وَمَعَهُ مائَة بَدَنَة قد جللها بالحبرة، ووقف بِمِائَة عبد، وَفِي أَعْنَاقهم أطواق الْفضة فَنحر وَأعْتق الْجَمِيع. قَوْله: (أَرَأَيْت؟) مَعْنَاهُ: أَخْبرنِي. قَوْله: (أتحنث) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة. قَوْله: (يَعْنِي: أتبرَّر بهَا) ، هَذَا تَفْسِير الْحِنْث، وَهُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبراءين: أولاهما ثَقيلَة أَي: أطلب بهَا الْبر وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، والتقرب إِلَى الله تَعَالَى. وَالْبر، بِكَسْر الْبَاء: الطَّاعَة وَالْعِبَادَة، وَهَذَا التَّفْسِير من هِشَام بن عُرْوَة دلّ عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم حَيْثُ قَالَ: عَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أَشْيَاء كنت أَفعَلهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ هِشَام: يَعْنِي: أتبرر بهَا، وَهَذَا صَرِيح أَن الَّذِي فسر بقوله، يَعْنِي: أتبرر بهَا، هُوَ هِشَام بن عُرْوَة دون غَيره من الروَاة، وَلَا البُخَارِيّ نَفسه فَافْهَم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن عتق الْمُشرك على وَجه التَّطَوُّع جَائِز لهَذَا الحَدِيث حَيْثُ جعل عتق الْمِائَة رَقَبَة فِي الْجَاهِلِيَّة من فعال الْخَيْر المجازى بهَا عِنْد الله المتقرب بهَا إِلَيْهِ بعد الْإِسْلَام، وَهُوَ قَوْله: (أسلمت على مَا سلم لَك من خير) ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ صِحَة التَّقَرُّب فِي حَال الْكفْر، بل إِذا أسلم ينْتَفع بذلك الْخَيْر الَّذِي فعله فِي الْكفْر، وَدلّ ذَلِك على أَن مُسلما لَو أعتق كَافِرًا لَكَانَ مأجوراً على عتقه، لِأَن حكيماً لما جعل لَهُ الْأجر على مَا فعل فِي الْجَاهِلِيَّة بِالْإِسْلَامِ الَّذِي صَار إِلَيْهِ فَلم يكن الْمُسلم الَّذِي فعل مثل فعله فِي الْإِسْلَام بِدُونِ حَال حَكِيم، بل هُوَ أولى بِالْأَجْرِ، وَاخْتلف فِي عتق الْمُشرك فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَالظِّهَار، فعندنا يجوز،(13/99)
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجوز كَمَا فِي قتل الْخَطَأ، وَعَن أَحْمد كَقَوْلِنَا وَعنهُ: يجوز مُطلقًا، وَلنَا إِطْلَاق النُّصُوص وَآيَة الْقَتْل مُقَيّدَة بِالْإِيمَان، وَالْأَصْل فِي كل نَص أَن يعْمل بِمُقْتَضَاهُ إطلاقاً وتقييداً.
31 - (بابُ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقيقاً فوَهَبَ وباَعَ وجامعَ وفَداى وسَباى الذُّرِّيَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من ملك من الْعَرَب رَقِيقا، وَالْعرب الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن، والأعراب ساكنوا الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَ بهَا إلاَّ لحَاجَة، وَالنّسب إِلَيْهَا أَعْرَابِي وعربي. وَاخْتلف فِي نسبتهم، وَالأَصَح: أَنهم نسبوا إِلَى عربة، بِفتْحَتَيْنِ: وَهِي من تهَامَة، لِأَن أباهم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نَشأ بهَا. قَوْله: (فوهب) إِلَى آخِره، تَفْصِيل قَوْله: ملك، فَذكر خَمْسَة أَشْيَاء: الْهِبَة وَالْبيع وَالْجِمَاع والفدى والسبي، وَذكر فِي الْبَاب أَرْبَعَة أَحَادِيث وَبَين فِي كلِّ حديثٍ حُكْمَ كلِّ وَاحِد مِنْهَا غير البيع، وَهُوَ أَيْضا مَذْكُور فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي بعض طرقه، كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ومفعولات: وهب وَبَاعَ وجامع وفدى محذوفة. قَوْله: (وسبى) ، عطف على قَوْله: ملك (والذرية) نسل الثقلَيْن، يُقَال: ذرا الله الْخلق، أَي: خلقهمْ وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِعقد هَذِه التَّرْجَمَة بَيَان الْخلاف فِي استرقاق الْعَرَب، وَالْجُمْهُور على أَن الْعَرَبِيّ إِذا سبي جَازَ أَن يسترق، وَإِذا تزوج أمة بِشَرْطِهِ كَانَ وَلَدهَا رَقِيقا تبعا لَهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ، وحجتهم أَحَادِيث الْبَاب، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يلْزم سيد الْأمة أَن يقومه على أَبِيه ويلتزم أَبوهُ بأَدَاء الْقيمَة، وَلَا يسترق، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: لَا يسترق ولد عَرَبِيّ من أَبِيه، وَقَالَ اللَّيْث: أما مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من فدَاء ولد الْعَرَب من الولائد، إِنَّمَا كَانَ من أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة، وَفِيمَا أقرّ بِهِ الرجل من نِكَاح الْإِمَاء فَأَما الْيَوْم فَمن تزوج أمة وَهُوَ يعلم أَنَّهَا أمة، فولده عبد لسَيِّدهَا عَرَبيا كَانَ أَو قريشياً أَو غَيره.
وقوْلِهِ تَعَالَى: {ضرَبَ الله مَثَلاً عبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ومَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وجَهْرَاً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله بَلْ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (النَّحْل: 57) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (من ملك) ، لِأَنَّهُ فِي مَحل الْجَرّ بِالْإِضَافَة، وَفِيه التَّقْدِير الْمَذْكُور، وَهُوَ: بَاب فِي بَيَان من ملك الْعَرَب، وَفِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا} (النَّحْل: 57) . وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله تَعَالَى.
قيل: وَجه مُنَاسبَة الْآيَة للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن الله تَعَالَى أطلق العَبْد الْمَمْلُوك وَلم يُقَيِّدهُ بِكَوْنِهِ عجمياً، فَدلَّ على أَن لَا فرق فِي ذَلِك بَين الْعَرَبِيّ والعجمي.
قَوْله: {ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا} (النَّحْل: 47) . لما نهى الله تَعَالَى الْمُشْركين عَن ضرب الْأَمْثَال بقوله: قبل هَذِه الْآيَة: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} (النَّحْل: 47) . أَي: الْأَشْبَاه والأشكال، إِن الله يعلم مَا يكون قبل أَن يكون وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، علمهمْ كَيفَ يضْرب الْأَمْثَال، فَقَالَ: مثلكُمْ فِي إشراككم بِاللَّه الْأَوْثَان من سوَّى بَين عبد مَمْلُوك عَاجز عَن التَّصَرُّف، وَبَين حر مَالك قد يرزقه الله مَالا، ويتصرف فِيهِ وَينْفق كَيفَ يَشَاء. قَوْله: (عبدا مَمْلُوكا) إِنَّمَا ذكر الْمَمْلُوك ليمين بَينه وَبَين الْحر، لِأَن اسْم العَبْد يَقع عَلَيْهِمَا إِذْ هما من عباد الله تَعَالَى. قَوْله: (لَا يقدر على شَيْء) أَي: لَا يملك مَا بِيَدِهِ وَإِن كَانَ بَاقِيا مَعَه، لِأَن للسَّيِّد انْتِزَاعه مِنْهُ وَيخرج مِنْهُ الْمكَاتب والمأذون لَهُ، لِأَنَّهُمَا يقدران على التَّصَرُّف. فَإِن قلت: من، فِي {وَمن رزقناه} (النَّحْل: 57) . مَا هِيَ؟ قلت: الظَّاهِر أَنَّهَا مَوْصُوفَة كَأَنَّهُ قيل: وحراً رزقناه ليطابق عبدا، وَلَا يمْتَنع أَن تكون مَوْصُولَة، وَإِنَّمَا قَالَ: هَل يستوون، بِالْجمعِ، لِأَن الْمَعْنى: هَل يَسْتَوِي الْأَحْرَار وَالْعَبِيد، فَالْمُرَاد الشُّيُوع فِي الْجِنْس لَا التَّخْصِيص، ثمَّ قَالَ: {الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} (النَّحْل: 57) . أَن الْحَمد لي وَجَمِيع النعم مني. ثمَّ اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: هَذَا الْمثل لله تَعَالَى وَمن عبد دونه، وَقَالَ قَتَادَة: هَذَا الْمثل لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر، فَذهب إِلَى أَن العَبْد الْمَمْلُوك هُوَ الْكَافِر، لِأَنَّهُ لَا ينْتَفع فِي الْآخِرَة بِشَيْء من عمله. قَوْله: {وَمن رزقناه منَّا رزقا حسنا} (النَّحْل: 57) . هُوَ الْمُؤمن.(13/100)
0452 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخْبَرني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ ذكَرَ عُرْزَةُ أأ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ قَالَ أخبراهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ حِينَ جاءَهُ وفْدُ هَوازِنَ فَسألُوهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ فَقَالَ إنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وأحَبُّ الحَدِيثِ إليَّ أصْدَقُهُ فاخْتاروا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا المَالَ وإمَّا السَّبْيَ وقدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ بِهِمْ وكانَ النبيُّصلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتظرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ فلَمَّا تبَيَّنَ لهمْ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غيرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا إنَّا نَخْتارُ سَبْيَنا فقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّاسِ فأثْناى علَى الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ جاؤنا تائِبينَ وإنِّي رأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ ذالِكَ فلْيَفْعَلْ ومنْ أحَبَّ أنْ يَكُونَ على حظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ منْ أوَّلِ مَا يفيءُ الله علَيْنا فلْيَفْعَلْ فقالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا ذالِكَ قَالَ إنَّا لاَ نَدْرِي منْ أذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فارْجِعُوا حتَّى يَرْفعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أمْرَكُمْ فرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُم ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبروهُ أنَّهُمْ طَيَّبُوا وأذِنُوا فهاذا الَّذِي بلَغَنا عَنْ سَبْيِ هَوازنَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من ملك رَقِيقا من الْعَرَب فوهب) وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْوكَالَة فِي: بَاب إِذا وهب شَيْئا لوكيل أَو شَفِيع قومٍ جَازَ إِلَى قَوْله: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نَصِيبي لكم. وَأخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن اللَّيْث ... إِلَى آخِره. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (ذكر عُرْوَة) ، هُوَ ابْن الزبير، وَسَيَأْتِي فِي الشُّرُوط من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي عُرْوَة. قَوْله: (أَن مَرْوَان والمسور بن مخرمَة) مَرْوَان هُوَ ابْن الحكم، قَالَ الْكرْمَانِي: صَحَّ سَماع مسور من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما مَرْوَان فقد قَالَ الْوَاقِدِيّ: رأى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه لم يحفظ عَنهُ شَيْئا، وَقَالَ ابْن بطال: الحَدِيث مُرْسل، لم يسمع الْمسور من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، ومروان لم يره قطّ. قَوْله: (اسْتَأْنَيْت) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْهمزَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَي انتظرت. قَوْله: (حِين قفل) ، أَي: حِين رَحل. قَوْله: (حَتَّى يفِيء الله) ، بِفَتْح الْيَاء، أَي: حَتَّى يرجع الله إِلَيْنَا من مَال الْكفَّار وَيُعْطِينَا خراجاً أَو غنيمَة أَو غير ذَلِك، وَلَيْسَ المُرَاد الْفَيْء الاصطلاحي مَخْصُوصًا. قَوْله: (عُرَفَاؤُكُمْ) جمع عريف، وَهُوَ النَّقِيب وَهُوَ دون الرئيس. قَوْله: (فَهَذَا الَّذِي بلغنَا عَن سبي هوَازن) ، هُوَ قَول ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة فِي سنة ثَمَان.
1452 - حدَّثنا علِيُّ بنُ الحَسَنِ قَالَ أخْبرنا عبْدُ الله قَالَ أخْبرنا ابنُ عَوْنٍ قَالَ كتَبْتُ إِلَى نافِعٍ فكتَبَ إلَيَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أغارَ على بَنِي الْمُصْطَلِقِ وهُمْ غارُّونَ وأنْعامُهُمْ تُسْقى على الماءِ فقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وسباى ذَرَارِيَّهُمْ وأصابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ قَالَ حدَّثني بِهِ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ وكانَ فِي ذالِكَ الْجَيْشِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وسبى ذَرَارِيهمْ) وَفِي التَّرْجَمَة: وسبى الذُّرِّيَّة.
وَعلي بن الْحسن بن شَقِيق، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْقَاف الأولى: الْمروزِي، مَاتَ سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَابْن عون، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: هُوَ عبد الله بن عون، مر فِي الْعلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن سعيد بن مَنْصُور عَن إِسْمَاعِيل بن علية. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيع.(13/101)
قَوْله: (قَالَ كتبت) أَي: قَالَ ابْن عون: كتبت إِلَى نَافِع فِي أَمر بني المصطلق، فَكتب. . إِلَى آخِره، قد ذكرنَا فِي: بَاب إِذا اخْتلف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن أَن الْكِتَابَة حكمهَا حكم الِاتِّصَال لَا الِانْقِطَاع. قَوْله: (أغار) بالغين الْمُعْجَمَة، يُقَال: أغار على عدوه إِذا هجم عَلَيْهِ ونهبه، ومصدره الإغارة، والغارة اسْم من الإغارة. ومادته: غين وواو وَرَاء. قَوْله: (بني المصطلق) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالقاف: وَهِي بطن من خُزَاعَة، والمصطلق هُوَ ابْن سعد بن عَمْرو بن ربيعَة ابْن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر، وَيُقَال: إِن المصطلق لقب واسْمه جذيمة، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: ابْن سعد بن عَمْرو. وَعَمْرو هُوَ أَبُو خُزَاعَة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمي المصطلق لحسن صَوته، مفتعل من الصلق، والصلق شدَّة الصَّوْت وحدته، من قَوْله عز وَجل: {سلقوكم بألسنة حداد} (الْأَحْزَاب: 91) . وَيُقَال: صلق بَنو فلَان بني فلَان، إِذا وَقَعُوا بهم وقتلوهم قتلا ذريعاً، قَوْله: (وهم غَارونَ) ، جملَة إسمية حَالية بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء، والغارون جمع غَار، أَي: غافل أَي أَخذهم على غرَّة وبغتة. قَوْله: (وأنعامهم تَسْقِي) أَيْضا جملَة إسمية حَالية، والأنعام، بِفَتْح الْهمزَة جمع: نعم، قَالَ الْجَوْهَرِي: النعم وَاحِد الْأَنْعَام، وَهل المَال الراعية، وَأكْثر مَا يَقع هَذَا الإسم على الْإِبِل، قَالَ الْفراء: هُوَ ذكر لَا يؤنث، يَقُولُونَ: هَذَا نعم وَارِد وَيجمع على نعْمَان، والأنعام تذكر وتؤنث قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع: {مِمَّا فِي بطونه} (النَّحْل: 66) . وَفِي مَوضِع {مِمَّا فِي بطونها} وَجمع الْجمع: أناعيم. قَوْله: (تسقى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَقتل مُقَاتلَتهمْ) أَي: الطَّائِفَة الْبَالِغين الَّذين هم على صدد الْقِتَال. قَوْله: (ذَرَارِيهمْ) ، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها وَهُوَ جمع ذُرِّيَّة. قَوْله: (يَوْمئِذٍ) ، أَي: يَوْم الإغارة على بني المصطلق. قَوْله: (جوَيْرِية) ، مصغر جَارِيَة.
وَمن حَدِيثهَا مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: لما قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَبَايَا بني المصطلق وَقعت جوَيْرِية بنت الْحَارِث فِي السهْم لِثَابِت بن قيس بن شماس أَو لِابْنِ عَم لَهُ، فكاتبته على نَفسهَا وَكَانَت امْرَأَة حلوة ملاحة لَا يَرَاهَا إحد إلاَّ أخذت بِنَفسِهِ، فَأَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تستعينه فِي كتَابَتهَا، قَالَت: فوَاللَّه مَا هُوَ إلاَّ أَن رَأَيْتهَا على بَاب حُجْرَتي، فكرهتها وَعرفت أَنه سيرى مِنْهَا مَا رَأَيْت، فَدخلت عَلَيْهِ فَقَالَت: يَا رَسُول الله {أَنا جوَيْرِية بنت الْحَارِث بن أبي ضرار سيد قومه، وَقد أصابني من البلايا مَا لم يخف عَلَيْك، فَوَقَعت فِي السهْم لِثَابِت بن قيس بن شماس أَو لِابْنِ عَم لَهُ، فكاتبته فجئتك استعينك على كتابتي. قَالَ: فَهَل لَك من خير فِي ذَلِك؟ قَالَت: وَمَا هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أَقْْضِي كتابك وأتزوجك؟ قَالَت: نعم يَا رَسُول الله} قد فعلت. قَالَت: وَخرج الْخَبَر إِلَى النَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تزوج جوَيْرِية بنت الْحَارِث، فَقَالَ النَّاس: أصها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرسلوا مَا بِأَيْدِيهِم. قَالَت: فَلَقَد اعْتِقْ بتزويجه إِيَّاهَا مائَة أهل بَيت من بني المصطلق، فَمَا أعلم امْرَأَة كَانَت أعظم بركَة على قَومهَا مِنْهَا.
وروى مُوسَى بن عقبَة عَن بعض بني المصطلق: أَن أَبَاهَا طلبَهَا وافتداها ثمَّ خطبهَا مِنْهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَزَوجهُ إِيَّاهَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وَيُقَال: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل صَدَاقهَا عتق كل أَسِير من بني المصطلق، وَيُقَال: جعل صَدَاقهَا عتق أَرْبَعِينَ من بني المصطلق، وَكَانَت جوَيْرِية تَحت مسافع بن صَفْوَان المصطلقي، وَقيل: صَفْوَان بن مَالك، وَكَانَ اسْمهَا: برة، فغيرها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فسماها جوَيْرِية، وَمَاتَتْ فِي ربيع الأول سنة سِتّ وَخمسين وَلها خمس وَسِتُّونَ سنة.
وَأما غَزْوَة بني المصطلق، فَقَالَ البُخَارِيّ: وَهِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَذَلِكَ سنة سِتّ. وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: سنة أَربع. انْتهى. وَقَالَ الصغاني: غَزْوَة الْمُريْسِيع من غزوات رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سنة خمس من مهاجره، قَالُوا: إِن بني المصطلق من خُزَاعَة يُرِيدُونَ محاربة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانُوا ينزلون على بئرٍ لَهُم يُقَال لَهَا: الْمُريْسِيع، بَينهَا وَبَين الْفَرْع مسيرَة يَوْم، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت غَزْوَة بني المصطلق لليلتين من شعْبَان سنة خمس فِي سَبْعمِائة من أَصْحَابه، وَقَالَ ابْن هِشَام: اسْتعْمل على الْمَدِينَة أَبَا ذَر الْغِفَارِيّ، وَيُقَال: نميلَة بن عبد الله اللَّيْثِيّ، وَذكر ابْن سعد ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس إِلَيْهِم، فَأَسْرعُوا الْخُرُوج وقادوا الْخَيل، وَهِي ثَلَاثُونَ فرسا فِي الْمُهَاجِرين مِنْهَا عشرَة، وَفِي الْأَنْصَار عشرُون، واستخلف على الْمَدِينَة زيد بن حَارِثَة وَكَانَ مَعَه فرسَان لزار والظرب، وَيُقَال: كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَامِل راية الْمُهَاجِرين، وَسعد بن عبَادَة حَامِل راية الْأَنْصَار، فَقتلُوا مِنْهُم عشرَة وأسروا سَائِرهمْ، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن بني المصطلق يجمعُونَ لَهُ وَقَائِدهمْ الْحَارِث بن أبي ضرار، أَبُو جوَيْرِية بنت الْحَارِث الَّتِي تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا سمع بهم خرج إِلَيْهِم حَتَّى لَقِيَهُمْ على مَاء من مِيَاههمْ يُقَال لَهُ: الْمُريْسِيع، من نَاحيَة قديد إِلَى السَّاحِل، فتزاحف(13/102)
النَّاس فَاقْتَتلُوا، فَهزمَ الله بني المصطلق وَقتل من قتل، وَنفل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبْنَاءَهُم ونساءهم وَأَمْوَالهمْ، فأفاءهم عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن سعد: وَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأسارى فكتفوا، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم بُرَيْدَة بن الخصيب، وَأمر بالغلام فَجمعت وَاسْتعْمل عَلَيْهِم شقران مَوْلَاهُ، وَجمع الذُّرِّيَّة نَاحيَة وَاسْتعْمل على سهم الْخمس وسهمان الْمُسلمين محيمة بن جُزْء الزبيدِيّ، وَكَانَت الْإِبِل ألفي بعير، والشياه خَمْسَة آلَاف، وَكَانَ السَّبي مِائَتي بنت، وَغَابَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَمَانِيَة وَعشْرين وَقدم الْمَدِينَة هِلَال رَمَضَان، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَأُصِيب بني المصطلق نَاس، وَقتل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم رجلَيْنِ مَالِكًا وَابْنه، وَكَانَ شعار الْمُسلمين يَوْمئِذٍ: يَا مَنْصُور أمت أمت.
2452 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مَال عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن مُحَمَّدِ بنِ يَحْياى بنِ حَبَّانَ عنِ ابنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ رأيْتُ أَبَا سعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَسألْتُهُ فَقَالَ خرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فأصَبْنَا سبْياٍ مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فاشْتَهَيْنَا النِّساءَ فاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا العُزْبَةُ وأحْبَبْنا العَزْلَ فسَألْنا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أنْ لاَ تَفْعَلُوا مَا منْ نَسَمةٍ كائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إلأ وهْيَ كائِنَةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فِيهَا: وجامع، يَعْنِي: بعد أَن ملك من الْعَرَب سبياً وَرَبِيعَة، بِفَتْح الرَّاء: الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي شيخ مَالك، وَمُحَمّد بن يحيى بن حبَان، بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون: مر فِي الْوضُوء، وَابْن محيريز هُوَ عبد الله بن محيريز، بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وَكسر الرَّاء وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة أَيْضا وَفِي آخِره زَاي. وَمر الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع الرَّقِيق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي محيريز: أَن أَبَا سعيد ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الْعَزْل) ، هُوَ نزع الذّكر من الْفرج عِنْد الْإِنْزَال. قَوْله: (مَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا) يَعْنِي: لَا بَأْس عَلَيْكُم أذا تركْتُم الْعَزْل. قَوْله: (نسمَة) ، بِفَتْح السِّين، وَهِي: الأنسان، أَي: مَا من نفس كائنة فِي علم الله إلاَّ وَهِي كائنة فِي الْخَارِج، لَا بُد من مجيئها من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود، أَي: مَا قدر الله أَن يكون الْبَتَّةَ. وَفِي الحَدِيث دَلِيل على أَن الصَّحَابَة أطبقوا على وَطْء مَا وَقع فِي سُهْمَانهمْ من السَّبي، وَهَذَا لَا يكون إلاَّ بعد الِاسْتِبْرَاء بِإِجْمَاع الْعلمَاء، من وَهَذَا يدل أَن السباء يقطع الْعِصْمَة بَين الزَّوْجَيْنِ الْكَافرين.
وَاخْتلف السّلف فِي حكم وَطْء الوثنيات والمجوسيات إِذا سبين، فَأَجَازَهُ سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد، وَهَذَا قَول شَاذ لم يلْتَفت إِلَيْهِ أحد من الْعلمَاء، وَاتفقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى على أَنه: لَا يجوز وَطْء الوثنيات بقوله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) . وَإِنَّمَا أَبَاحَ الله تَعَالَى وَطْء نسَاء أهل الْكتاب خَاصَّة. بقوله: وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} (الْمَائِدَة: 5) . وَإِنَّمَا أطبق الصَّحَابَة على وَطْء سَبَايَا الْعَرَب بعد إسلامهن، لِأَن سبي هوَازن كَانَ سنة ثَمَان، وَسبي بني المصطلق سنة سِتّ، وَسورَة الْبَقَرَة من أول مَا نزل بِالْمَدِينَةِ، فقد علمُوا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يؤمنَّ} (الْبَقَرَة: 122) . وتقرر عِنْدهم أَنه لَا يجوز وَطْء الوثنيات الْبَتَّةَ حَتَّى يسلمن، وروى عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا جَعْفَر بن سُلَيْمَان حَدثنَا يُونُس ابْن عبيد أَنه سمع الْحسن يَقُول: كُنَّا نغزو مَعَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا أصَاب أحدهم جَارِيَة من الفىء فَأَرَادَ أَن يُصِيبهَا أمرهَا فاغتسلت ثمَّ علمهَا الْإِسْلَام وأمرها بِالصَّلَاةِ واستبرأها بِحَيْضَة، ثمَّ أَصَابَهَا. وَعُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) . يَقْتَضِي تَحْرِيم وَطْء المجوسيات بِالتَّزْوِيجِ وبملك الْيَمين، وعَلى هَذَا أَئِمَّة الْفَتْوَى وَعَامة الْعلمَاء.
وَأما الْعَزْل فقد اخْتلف فِيهِ قَدِيما وإباحته أظهر فِي الحَدِيث عِنْد الشَّافِعِي، سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة مَعَ الْإِذْن وبدونه، وروى مَالك عَن سعيد بن أبي وَقاص وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس: أَنهم كَانُوا يعزلون، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود وَجَابِر، وَذكر مَالك أَيْضا عَن ابْن عمر أَنه: كره الْعَزْل، وَقيل: رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، وَاحْتج من كره الْعَزْل بِأَنَّهُ: الوأد الْخَفي، كَمَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَاتفقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى على جَوَاز الْعَزْل عَن الْحرَّة إِذا أَذِنت فِيهِ لزَوجهَا.
وَاخْتلفُوا فِي الْأمة الْمُزَوجَة، فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: الْأذن فِي ذَلِك لمولاها، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: الْإِذْن إِلَيْهَا،(13/103)
وَقَالَ الشَّافِعِي: يعْزل عَنْهَا بِدُونِ إِذْنهَا وَبِدُون إِذن مَوْلَاهَا.
3452 - حدَّثنا زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ عُمَارَةَ بنِ الْقَعْقَاعِ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَا أزَالُ أُحِبُّ بني تَمِيم ح وحدَّثني ابنُ سَلاَمٍ قَالَ أخبرنَا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنِ الْمُغِيرَةِ عنِ الحَارِثِ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وعنْ عُمَارَةَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عَن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ فِيهِمْ سَمِعْتُهُ يَقولُ هُمْ أشَدُّ أُمَّتِي على الدَّجَّالِ قَالَ وجاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنا وكانَتْ سَبِيَّةٌ منْهُمْ عِنْدَ عائِشَةَ فَقَالَ أعْتِقِيها فإنَّها منْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عليهِ السَّلامُ.
(الحَدِيث 3452 طرفه فِي: 6634) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَبَاعَ، وَلَكِن فِي بعض طرقه عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق معمر عَن جرير: كَانَت على عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، نسمَة من بني إِسْمَاعِيل، فَقدم سبي خولان، فَقَالَت عَائِشَة: يَا رَسُول الله! أبتاع مِنْهُم. قَالَ: لَا، فَلَمَّا قدم سبي بني العنبر قَالَ: ابتاعي مِنْهُم فَإِنَّهُم ولد إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. وَوَقع عِنْد أبي عوَانَة من طَرِيق الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا:. وجىء بسبي بني العنبر. انْتهى. وَبَنُو العنبر بطن من بني تَمِيم، وَقَالَ الرشاطي: الْعَنْبَري فِي تَمِيم ينْسب إِلَى العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم، وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ: أَن العنبر هَذَا هُوَ ولد عَامر بن عَمْرو، وَفِي تَمِيم أَيْضا: العنبر بن يَرْبُوع بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ عَن شيخين لَهُ أَحدهمَا: عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن جرير، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء الأولى: ابْن عبد الحميد عَن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع عَن أبي زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْعين الْمُهْملَة: واسْمه هرم، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عَمْرو بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْآخر: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن جرير عَن الْمُغيرَة بن مقسم عَن الْحَارِث بن يزِيد من الزِّيَادَة العكلي، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف: التَّمِيمِي الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِيهِ عمَارَة مَقْرُونا بِالْحَارِثِ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا زلت أحب بني تَمِيم) ، هِيَ قَبيلَة كَبِيرَة فِي مُضر تنْسب إِلَى تَمِيم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مُضر. قَوْله: (مُنْذُ ثَلَاث) ، أَي: من حِين سَمِعت الْخِصَال الثَّلَاث، وَهِي الَّتِي أَولهَا: هُوَ قَوْله: (هم أَشد أمتِي على الدَّجَّال) . وَثَانِيها: هُوَ قَوْله: (هَذِه صدقَات قَومنَا) وَثَالِثهَا: أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعَائِشَة بِعِتْق السبية الْمَذْكُورَة. لكَونهَا من ولد إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَزَاد فِيهِ أَحْمد من وَجه آخر عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَمَا كَانَ قوم من الْأَحْيَاء أبْغض إِلَيّ مِنْهُم فأحببتهم. انْتهى. وَكَانَ ذَلِك لما كَانَ بَينهم وَبَين قومه فِي الْجَاهِلِيَّة من الْعَدَاوَة. قَوْله: (يَقُول فيهم) أَي: فِي بني تَمِيم. قَوْله: (سمعته يَقُول) ، أَي: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (هم أَشد أمتِي على الدَّجَّال) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: (هم أَشد النَّاس قتالاً فِي الْمَلَاحِم) ، وَرِوَايَة الشّعبِيّ أَعم من رِوَايَة أبي زرْعَة، على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَجَاءَت صَدَقَاتهمْ) ، أَي: صدقَات بني تَمِيم، فَقَالَ: (هَذِه صدقَات قَومنَا) ، إِنَّمَا نسبهم إِلَيْهِ لِاجْتِمَاع نسبهم بنسبه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي إلْيَاس بن مُضر، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من طَرِيق الشّعبِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث: وأُتي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنعم من صَدَقَة بني سعد، فَلَمَّا راعه حسنها، قَالَ: (هَذِه صَدَقَة قومِي) . انْتهى. وَبَنُو سعد بطن كَبِير من تَمِيم، ينتسبون إِلَى سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. قَوْله: (سبية مِنْهُم) ، أَي: من بني تَمِيم، وسبية على وزن: فعيلة، بِفَتْح السِّين من السَّبي أَو من السباء، فَإِن كَانَ من الأول يكون بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَإِن كَانَ من الثَّانِي يكون بِالْهَمْزَةِ بعد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَلم يدر اسْمهَا، وَوَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق هَارُون بن مَعْرُوف عَن جرير: نسمَة، بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: وَهِي الْإِنْسَان، وَله(13/104)
من رِوَايَة أبي معمر: (وَكَانَت على عَائِشَة نسمَة من بني إِسْمَاعِيل) وَفِي رِوَايَة الشّعبِيّ عِنْد أبي عوَانَة: (وَكَانَ على عَائِشَة مُحَرر) وبيَّن الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) فِي رِوَايَة الشّعبِيّ: أَن المُرَاد بِالَّذِي كَانَ عَلَيْهَا أَنه كَانَ (نذرا) . وَلَفظه: نذرت عَائِشَة أَن تعْتق محرراً من بني إِسْمَاعِيل، وللطبراني فِي (الْكَبِير) من حَدِيث رديح، بِضَم الرَّاء وَفتح الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن ذُؤَيْب بن شعثم، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره مِيم: الْعَنْبَري: أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: يَا نَبِي الله {إِنِّي نذرت عتيقاً من ولد إِسْمَاعِيل. فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إصبري حَتَّى يَجِيء فَيْء بني العنبر غَدا، فجَاء فَيْء فَبنِي العنبر، فَقَالَ لَهَا: خذي مِنْهُم أَرْبَعَة، فَأخذت رديحاً وزبيباً وزخيا وَسمرَة، فَمسح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رؤوسهم وبرك عَلَيْهِم، ثمَّ قَالَ: يَا عَائِشَة} هَؤُلَاءِ من بني إِسْمَاعِيل قصدا، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي تعين لعتق عَائِشَة من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة، أما رديح وَأما زخى. قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : رديح بن ذُؤَيْب بن شعثم التَّمِيمِي الْعَنْبَري مولى عَائِشَة روى عَنهُ ابْنه عبد الله وَهَذَا يدل على أَن الَّذِي اعتقته هُوَ رديح بِلَا ترديد، وزبيب، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء أَيْضا، وَضَبطه العسكري: بنُون فِي أَوله، و: هُوَ زنيب بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو التَّمِيمِي الْعَنْبَري وروى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْقَضَاء: حَدثنَا أَحْمد بن عَبدة حَدثنَا عمار بن شُعَيْب بن عبيد الله بن الزَّبِيب الْعَنْبَري، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: سَمِعت جدي الزَّبِيب يَقُول: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَيْشًا إِلَى بني العنبر، فَأخذُوا بركبة من نَاحيَة الطَّائِف واستاقوهم إِلَى نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فركبت فسبقتهم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته! أَتَانَا جندك فأخذونا، وَقد كُنَّا أسلمنَا ... الحَدِيث بِطُولِهِ. قَوْله: (بركبة) بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ اسْم مَوضِع مَعْرُوف، وَهِي غير ركبة الَّتِي بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. وَأما زخي، فبضم الزَّاي وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء، ومصغر، وَضَبطه ابْن عون بالراء، وَذكره الذَّهَبِيّ فِي حرف الزَّاي، وَقَالَ: زخي الْعَنْبَري، وَغلط من قَالَ: رخي بالراء. وَسمرَة: هُوَ ابْن عَمْرو بن قرط، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء. وَقَالَ الذهبيِّ سَمُرَة بن عَمْرو الْعَنْبَري، أجَاز النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة لَهُ لزبيب الْعَنْبَري ثمَّ قَالَ سَمُرَة من بلعنبر أَعتَقته عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قلت: قَضِيَّة الشَّهَادَة فِي حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي ذكرنَا مِنْهُ بعضه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز استرقاق الْعَرَب، وتملكهم كَسَائِر فرق الْعَجم إلاَّ أَن عِتقهم أفضل. قَالَ ابْن بطال: وَتَمِيم كَانُوا يختارون مَا يخرجُون فِي الصَّدقَات من أفضل مَا عِنْدهم، فأعجبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك قَالَ: هَذَا القَوْل على معنى الْمُبَالغَة فِي نصحهمْ لله وَلِرَسُولِهِ فِي جودة الِاخْتِيَار للصدقة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لبني تَمِيم، وَكَانَ فيهم فِي الْجَاهِلِيَّة وَصدر الْإِسْلَام جمَاعَة من الْأَشْرَاف والرؤساء. وَفِيه: الْإِخْبَار عَمَّا سَيَأْتِي من الْأَحْوَال الكائنة فِي آخر الزَّمَان.
41 - (بابُ فَضْلِ مَنْ أدَّبَ جارِيَتَهُ وعَلَّمَهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من أدب جَارِيَته، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي لفظ: فضل، بل هُوَ: بَاب من أدَّب جَارِيَته، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: وأعتقها أَيْضا.
4452 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بنَ فضَيْلٍ عنْ مُطَرِّفِ عنِ الشُّعْبِيِّ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ كانَتْ لَهُ جارِيَةٌ فعلَّمَهَا فأحْسَنَ إلَيْهَا ثُمَّ أعْتَقَهَا وتَزَوَّجَها كانَ لَهُ أجْرَانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ لَهُ أَجْرَانِ) ، وهما: أجر التَّعْلِيم وَأجر الْعتْق.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إسحاف بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه. الثَّانِي: مُحَمَّد بن فُضَيْل بن غَزوَان. الثَّالِث: مطرف بن طريف الْحَارِثِيّ، وَيُقَال الحارفي. الرَّابِع: عَامر الشّعبِيّ. الْخَامِس: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه الْحَارِث بن أبي مُوسَى، وَيُقَال: عَامر، وَيُقَال إسمه كنيته. السَّادِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.(13/105)
وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي سكن نيسابور والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا بأتم مِنْهُ فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم الرجل أمته وَأَهله عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن الْمحَاربي عَن صَالح بن حَيَّان عَن عَامر الشّعبِيّ ... الحَدِيث. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فعلمها) فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والسرخسي، فعالها، أَي: أنْفق عَلَيْهَا، من: عَال الرجل عِيَاله يعولهم: إِذا أَقَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من قوت وَكِسْوَة وَغَيرهمَا. وَقَالَ الْكسَائي: يُقَال: عَال الرجل يعول إِذا كثر عِيَاله، واللغة الجيدة: أعال يعيل. قَالَ الْمُهلب فِيهِ: أَن الله تَعَالَى قد ضاعف لَهُ أجره بِالنِّكَاحِ والتعليم، فَجعله كَمثل أجر الْعتْق.
وَفِيه: الحض على نِكَاح العتيقة وعَلى ترك الْعُلُوّ فِي الدُّنْيَا، وَأَن من تواضع لله فِي منكحه، وَهُوَ يقدر على نِكَاح أهل الشّرف، فَإِن ذَلِك مِمَّا يُرْجَى عَلَيْهِ جزيل الثَّوَاب. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار فِي (مُسْنده) عَن ابْن عمر: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر} (آل عمرَان: 29) . ذكرت مَا أَعْطَانِي الله فَلم أجد شَيْئا أحب أَلِي من جَارِيَة رُومِية، فأعتقتها، فَلَو أَنِّي أَعُود فِي شَيْء جعلته لله لنكحتها. قلت: هَذَا مَحْمُول على من لَا يرغب نِكَاحهَا، لِأَن عَادَة الْعَرَب الرَّغْبَة عَن تَزْوِيج الْمُعتقَة، وَالْمُعتق إِذا رغب يكون لغيره فَلَا يكره لَهُ النِّكَاح حِينَئِذٍ، وَأَيْضًا النِّكَاح لَيْسَ براجع فِي عتقه، لِأَنَّهُ لَا يملك الْآن إلاَّ مَنْفَعَة الْوَطْء. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد أجَاز مَالك وَأكْثر أَصْحَابنَا الرُّجُوع فِي الْمَنَافِع إِذا تصدق بهَا وشرى بهَا، وَالْحجّة لَهُم حَدِيث الْعَرَايَا، فَكيف إِذا تصدق بِالرَّقَبَةِ؟ فَإِنَّهُ يجوز شِرَاء مَنْفَعَتهَا، بل هُوَ أولى من الصَّدَقَة بِالْمَنْفَعَةِ، وَالَّذِي منع من الرُّجُوع فِي الْمَنَافِع إِذا تصدق بهَا ابْن الْمَاجشون.
51 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَبِيدَ إخْوانُكُمْ فأطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: العبيد ... إِلَى آخِره، وَلَفظ هَذِه التَّرْجَمَة معنى حَدِيث أبي ذَر، رَوَاهُ ابْن مَنْدَه بِلَفْظ: إِنَّهُم إخْوَانكُمْ فَمن لاءمكم مِنْهُم فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تلبسُونَ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الرَّازِيّ، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن مُورق عَن أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مِمَّا تَأْكُلُونَ واكسوه مِمَّا تكسون، وَمن لَا يلائمكم مِنْهُم فبيعوه وَلَا تعذبوا خلق الله، عز وَجل. وَأخرج مُسلم فِي آخر (صَحِيحه) حَدِيثا طَويلا عَن أبي الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو فِي: بَاب ستْرَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: وَهُوَ يَقُول، أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أطعموهم مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تلبسُونَ.
وقَوْلِهِ تعَالَى: {واعبُدُوا الله ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وبالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً وبِذِي القُرْبَى واليَتَامَى والْمَسَاكِين والجارِ وذِي القُرْبى والجارِ الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بالجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ إنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتَالاَ فَخُوراً} (النِّسَاء: 63) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَول، فِي قَوْله: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذِه الْآيَة فِي سُورَة النِّسَاء، كَذَا هِيَ إِلَى آخرهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَقَول الله: {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحساناً وبذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين} إِلَى قَوْله: {مختالاً فخوراً} (النِّسَاء: 63) . فَفِيهَا يَأْمر الله تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحده لَا شريك لَهُ، فَإِنَّهُ الخالف الرازق الْمُنعم المتفضل على خلقه فِي جَمِيع الْأَحْوَال، ثمَّ أوصى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدين بقوله: {وبالوالدين إحسانا} (النِّسَاء: 63) . لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعلهمَا سَببا لخروجك من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود، ثمَّ عطف على الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدين الْإِحْسَان إِلَى الْقرَابَات من الرِّجَال وَالنِّسَاء، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: الصَّدَقَة على الْمِسْكِين صَدَقَة، وعَلى ذِي الرَّحِم صَدَقَة، وَصله. ثمَّ قَالَ: واليتامى، لأَنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، وَمن ينْفق عَلَيْهِم؟ ثمَّ قَالَ: وَالْمَسَاكِين: وهم المحاويج من ذَوي الْحَاجَات الَّذين لَا يَجدونَ مَا يقوم بكفايتهم، فَأمر الله تَعَالَى بمساعدتهم بِمَا تتمّ بِهِ كفايتهم:(13/106)
وتزول بِهِ ضرورتهم، ثمَّ قَالَ: {وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجنب} (النِّسَاء: 63) . قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَالْجَار ذِي القربي، يَعْنِي: الَّذِي بَيْنك وَبَينه قرَابَة، وَالْجَار الْجنب: الَّذِي لَيْسَ بَيْنك وَبَينه قرَابَة، وَكَذَا رُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَمُجاهد وَمَيْمُون بن مهْرَان وَالضَّحَّاك وَزيد بن أسلم وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَقَتَادَة، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق عَن نوف الْبكالِي {وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى} (النِّسَاء: 63) . يَعْنِي: الْمُسلم. {وَالْجَار الْجنب} (النِّسَاء: 63) . يَعْنِي: الْيَهُودِيّ والنصاري، رَوَاهُ ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم. وَقَالَ جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود: {الْجَار ذِي الْقُرْبَى} (النِّسَاء: 63) . الْمَرْأَة، وَقَالَ مُجَاهِد: {وَالْجَار الْجنب} (النِّسَاء: 63) . يَعْنِي: الرفيق فِي السّفر. ثمَّ قَالَ: والصاحب بالجنب، قَالَ الثَّوْريّ عَن جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، قَالَا: هِيَ الْمَرْأَة، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: كَذَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير فِي إِحْدَى الرِّوَايَات. وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة: هُوَ الرفيق فِي السّفر، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الرفيق الصَّالح، وَقَالَ زيد بن أسلم: هُوَ جليسك فِي الْحَضَر ورفيقك فِي السّفر، ثمَّ قَالَ: {وَابْن السَّبِيل} (النِّسَاء: 63) . وَعَن ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة: هُوَ الضَّيْف، وَقَالَ مُجَاهِد وَأَبُو جَعْفَر الباقر وَالْحسن وَالضَّحَّاك: هُوَ الَّذِي يمر عَلَيْك مجتازاً فِي السّفر. ثمَّ قَالَ: {وَمَا ملكت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 63) . هَذَا وَصِيَّة بالأرقاء، لِأَن الرَّقِيق ضَعِيف الجثة أَسِير فِي أَيدي النَّاس، وَلِهَذَا ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل يُوصي أمته فِي مرض الْمَوْت يَقُول: الصَّلَاة الصَّلَاة وَمَا ملكت إيمَانكُمْ، فَجعل يُرَدِّدهَا حَتَّى مَا يفِيض بهَا لِسَانه، وَهَذَا كَانَ مُرَاد البُخَارِيّ بِذكرِهِ هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وروى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو أَنه قَالَ لقهرمان لَهُ: هَل أَعْطَيْت الرَّقِيق قوتهم؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَانْطَلق فأعطهم، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يحبس عَمَّن يملك قوتهم. قَوْله: {إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالاً} (النِّسَاء: 63) . أَي: فِي نَفسه معجباً متكبراً {فخوراً} (النِّسَاء: 63) . على النَّاس، يرى أَنه خير مِنْهُم، فَهُوَ فِي نَفسه كَبِير، وَهُوَ عِنْد الله حقير وَعند النَّاس بغيض.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: ذِي الْقُرْبى القَرِيبُ، والْجُنُبُ الغَريبُ الجارُ الْجُنُبُ يَعْنِي الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، هَذَا الَّذِي فسره هُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة فِي كتاب (الْمجَاز) .
5452 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا واصِلٌ الأحْدَبُ قَالَ سَمِعْتُ المَعْرورَ بنَ سُوَيْدٍ قَالَ رأيْتُ أبَا ذَرٍّ الغِفَّاريَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وعلَيْهِ حُلَّةٌ وعَلى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عنْ ذالِكَ فَقَالَ إنِّي سابَبْتُ رَجُلاً فَشكانِي إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ليَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ثمَّ قَالَ إنَّ إخْوَانَكُمْ خَوَلُكمْ جعَلَهُمُ الله تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمنْ كانَ أخوهُ تحْتَ يَدهِ فلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكُلُ ولْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهمْ مَا يَغْلِبُهم فإنْ كلَّفْتُموهُمْ مَا يَغْلِبُهُم فأعِينُوهُمْ.
(انْظُر الحَدِيث 03 طرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وواصل هُوَ ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، والمعرور، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الرَّاء الأولى: وَهُوَ من كبار التَّابِعين، يُقَال: عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن وَاصل ... إِلَى آخِره وَفِيه زِيَادَة، وَهِي قَوْله: إِنَّك امْرُؤ فِيك جَاهِلِيَّة. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.، ولنذكر بعض شَيْء.
قَوْله: (حلَّة) ، هِيَ وَاحِدَة الْحلَل، وَهِي برود، الْيمن، وَلَا تسمى حلَّة إلاَّ أَن تكون ثَوْبَيْنِ من جنس وَاحِد. قَوْله: (ساببت رجلا) قيل: هُوَ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (أعيرته؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (إِن إخْوَانكُمْ) ، المُرَاد إخْوَة الْإِسْلَام وَالنّسب، لِأَن النَّاس كلهم بَنو آدم، عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (خولكم) ، أَي: حشمكم وخدمكم، وَوَاحِد الخول: خائل، وَقد يكون وَاحِدًا، وَيَقَع على العَبْد وَالْأمة وَهُوَ مَأْخُوذ من التخويل، وَهُوَ التَّمْلِيك، وَقيل: من الرِّعَايَة. قَوْله: (تَحت يَده) ، أَي: ملكه، وَإِن كَانَ العَبْد محترفاً فَلَا وجوب على السَّيِّد. قَوْله: (فليطعمه) ، أَمر ندب، وَكَذَلِكَ (وليلبسه) وَقيل: لمَالِك، رَحمَه الله: أيأكل من طَعَام لَا يَأْكُل مِنْهُ عِيَاله ورقيقه، ويلبس ثيابًا لَا يلبسُونَ؟ قَالَ: أرَاهُ من ذَلِك فِي سَعَة. قيل لَهُ: فَحَدِيث أبي ذَر؟ قَالَ: كَانُوا يَوْمئِذٍ لَيْسَ لَهُم هَذَا الْقُوت. قَوْله: (وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ) ، أَي: لَا تُكَلِّفُوهُمْ على عمل يَغْلِبهُمْ عَن إِقَامَته، وَهَذَا وَاجِب، وَكَانَ عمر بن الْخطاب(13/107)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَأْتِي الحوائط، فَمن رَآهُ من العبيد كلف مَا لَا يُطيق وضع عَنهُ، وَمن أقل رزقه زَاده فِيهِ. قَالَ مَالك: وَكَذَلِكَ يفعل فِيمَن يفعل من الأجراء وَلَا يطيقه، وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أوصيكم بالضعيفين: الْمَرْأَة والمملوك، وَأمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موَالِي أبي طيبَة أَن يخففوا عَنهُ من خراجه. وَفِي (التَّوْضِيح) : التَّسْوِيَة فِي الْمطعم والملبس اسْتِحْبَاب، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْعلمَاء، فَلَو كَانَ سَيّده يَأْكُل الْفَائِق ويلبس العالي فَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يُسَاوِي مَمْلُوكه فِيهِ، وَمَا أحسن تَعْلِيل مَالك، وَهُوَ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن من قَوْله: لَيْسَ لَهُم هَذَا الْقُوت، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَالِب من قوتهم التَّمْر وَالشعِير، وَقد صَحَّ أَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: للمملوك طَعَامه وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق، فَإِن زَاد على مَا فرض عَلَيْهِ من قوته وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ كَانَ متفضلاً مُتَطَوعا. وَقَالَ ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن: لَو أَن رجلا عمل لنَفسِهِ خبيصاً فَأَكله دون خادمه، مَا كَانَ بذلك بَأْس، وَكَانَ يُفْتِي أَنه: إِذا أطْعم خادمه من الْخبز الَّذِي يَأْكُل مِنْهُ فقد أطْعمهُ مِمَّا يَأْكُل مِنْهُ، لِأَن: من، عِنْد الْعَرَب للتَّبْعِيض. وَلَو قَالَ: أطعموهم من كل مَا تَأْكُلُونَ، لعم الخبيص وَغَيره، وَكَذَا فِي اللبَاس. قَوْله: (فَإِن كلفْتُمُوهُمْ) فَإِن قلت: إِذا نهى عَن التَّكْلِيف فَكيف عقبه بقوله: فَإِن كلفْتُمُوهُمْ؟ قلت: النَّهْي للتنزيه قَالَه الْكرْمَانِي، وَفِيه نظر، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لَا يُكَلف الله نفسا إلاَّ وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) . وَلما لم يُكَلف الله فَوق طاقتنا، وَنحن عبيده، وَجب علينا أَن نمتثل لحكمه وطريقته فِي عبيدنا، وروى هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، مَرْفُوعا: لَا تستخدموا رقيقكم بِاللَّيْلِ، فَإِن النَّهَار لكم وَاللَّيْل لَهُم. وروى معمى عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة يرفعهُ إِلَى سلمَان: أَن رجلأ أَتَاهُ وَهُوَ يعجن، فَقَالَ: أَيْن الْخَادِم؟ قَالَ: أَرْسلتهُ لحَاجَة، فَلم نَكُنْ لنجمع عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ: أَن نرسله وَلَا نكفيه عمله، ووقف عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على تَاجر لَا يعرفهُ، فَاشْترى مِنْهُ قميصين بِعشْرَة دَرَاهِم، فَقَالَ لعَبْدِهِ: إختر أَيهمَا شِئْت.
وَفِيه من الْفَوَائِد: النَّهْي عَن سبّ الرَّقِيق وتعييرهم بِمن ولدهم. وَفِيه: الْحَث على الْإِحْسَان إِلَيْهِم والرفق بهم، وَيلْحق بالرقيق من كَانَ فِي مَعْنَاهُ من أجِير ومستخدم فِي أَمر وَنَحْوهمَا، وَفِيه عدم الترفع على الْمُسلم والإحتقار. وَفِيه: الْمُحَافظَة على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. وَفِيه: إِطْلَاق الْأَخ على الرَّقِيق.
61 - (بابُ العَبْدِ إذَا أحْسنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل العَبْد أَو فِي بَيَان ثَوَابه إِذا أحسن عبَادَة ربه، بِأَن أَقَامَهَا بشروطها. قَوْله: (ونصح) ، من النَّصِيحَة، وَهِي كلمة جَامِعَة مَعْنَاهَا: حِيَازَة الْحَظ للمنصوح لَهُ، وَهُوَ إِرَادَة صَلَاح حَاله وتخليصه من الْخلَل وتصفيته من الْغِشّ.
6452 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ العَبْدُ إذَا نصَحَ سَيِّدَهُ وأحْسَنَ عِبادَةَ رَبِّهِ كانَ لَهُ أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ.
(الحَدِيث 6452 طرفه فِي: 0552) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي وَهُوَ عبد الله بن مسلمة شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: حض الْمَمْلُوك على نصح سَيّده، لِأَنَّهُ راعٍ فِي مَاله، وَهُوَ مسؤول عَمَّا استرعى. قَوْله: (كَانَ لَهُ أجره مرَّتَيْنِ) ، مرّة لنصح سَيّده وَمرَّة لإحسان عبَادَة ربه.
7452 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثيرٍ قَالَ أخبرنَا سفْيانُ عنْ صالِحٍ عنِ الشَّعْبِيِّ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي موساى الأشْعَرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قالَ قالَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّمَا رَجلٍ كانَتْ لَهُ جارِيَةٌ فَأدَّبَهَا فأحْسَنَ تَأدِيبَهَا وأعْتَقَهَا وتَزَوَّجَهَا فلَهُ أجْرَانِ وأيُّما عَبْدٍ أدَّى حَقَّ الله وحقَّ مَوالِيهِ فلَهُ أجْرَانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَيّمَا عبد) إِلَى آخِره لِأَن أَدَاء حق الله هُوَ معنى: أحسن عبَادَة ربه، وَأَدَاء حق موَالِيه هُوَ معنى نصح سَيّده. وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَصَالح هُوَ ابْن صَالح أَبُو حَيّ الْهَمدَانِي الْكُوفِي، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر، وَأَبُو بردة اسْمه الْحَارِث أَو عَامر، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس. وَالنّصف الأول من الحَدِيث وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْجَارِيَة قد مر عَن قريب فِي: بَاب فضل من أدب جَارِيَته، وَالنّصف الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي فِيهِ أَمر العَبْد قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم الرجل أمته وَأَهله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن الْمحَاربي عَن صَالح بن حَيَّان عَن الشّعبِيّ، وَقد مر(13/108)
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَصَالح بن حَيَّان هَذَا هُوَ صَالح بن صَالح أَبُو حَيّ الْمَذْكُور، غير أَن البُخَارِيّ ذكره هُنَاكَ بنسبته إِلَى جده، فَإِنَّهُ صَالح بن صَالح بن مُسلم بن حَيَّان، وَلَيْسَ بِصَالح بن حَيَّان الْقرشِي الْكُوفِي الَّذِي يروي عَن أبي وَائِل، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
8452 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يونسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ الْمُسَيَّبِ يَقولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للعبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أجْرَانِ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله والحَجُّ وبِرُّ أُمِّي لأحْبَبْتُ أنْ أموتَ وأنَا مَمْلُوكٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَوَقع فِي كتاب ابْن بطال عزو حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَهُوَ غلط، فَإِنَّهُ أسقط حَدِيث أبي مُوسَى وَركبهُ على حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد السجسْتانِي الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَفِي الْأَيْمَان عَن زُهَيْر بن حَرْب.
قَوْله: (للْعَبد الْمَمْلُوك) إِنَّمَا وصف العَبْد بالمملوك، لِأَن العَبْد أَعم من أَن يكون مَمْلُوكا وَغير مَمْلُوك، فَإِن النَّاس كلهم عبيد الله. قَوْله: (الصَّالح) ، أَي: فِي عبَادَة الرب ونصح السَّيِّد. قَوْله: (أَجْرَانِ) ، قَالَ ابْن بطال: لما كَانَ للْعَبد فِي عبَادَة ربه أجر، كَذَلِك لَهُ فِي نصح السَّيِّد أجر، وَلَا يُقَال: الأجران متساويان، لِأَن طَاعَة الله تَعَالَى أوجب من طَاعَته. قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) ، قَالَ ابْن بطال: لفظ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ. .) إِلَى آخِره هُوَ من قَول أبي هُرَيْرَة، وَكَذَا قَالَه الدَّاودِيّ وَغَيره، وَقَالُوا: يدل على أَنه مدرج يَعْنِي: الحَدِيث لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: (وبرُّ أُمِّي) ، وَلم يكن للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَئِذٍ أم يبرها، وجنح الْكرْمَانِي إِلَى أَنه من كَلَام الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: مَاتَ أم الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ طِفْل، فَمَا معمى بره أمه؟ قلت: لتعليم الْأمة، أَو على سَبِيل فرض الْحَيَاة، أَو المُرَاد بِهِ أمه الَّتِي أَرْضَعَتْه، وَهِي حليمة السعدية. انْتهى. قلت: لَو اطلع الْكرْمَانِي على مَا اطلع عَلَيْهِ من يَدعِي الإدراج لما تكلّف هَذَا التَّأْوِيل المتعسف، وَقد صرح بالإدراج الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق آخر عَن عبد الله بن الْمُبَارك بِلَفْظ: وَالَّذِي نفس أبي هُرَيْرَة بِيَدِهِ ... إِلَى آخِره، وَكَذَلِكَ أخرجه الْحُسَيْن بن الْحسن الْمروزِي فِي كتاب (الْبر والصلة) عَن ابْن الْمُبَارك، وَصرح مُسلم أَيْضا بذلك، فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر وحرملة بن يحيى، قَالَا: أخبرنَا ابْن وهب، قَالَ: أخبرنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب، سَمِعت سعيد بن الْمسيب يَقُول: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (للْعَبد الْمَمْلُوك الصَّالح أَجْرَانِ، وَالَّذِي نفس أبي هُرَيْرَة بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَالْحج وبر أُمِّي لأحببت أَن أَمُوت وَأَنا مَمْلُوك) . قَالَ: وبلغنا أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يكن يحجّ حَتَّى مَاتَت أمه لصحبتها، قَالَ أَبُو الطَّاهِر: فِي حَدِيثه (للْعَبد المصلح) وَلم يذكر الْمَمْلُوك. انْتهى. وَاسم أم أبي هُرَيْرَة: أُمَيْمَة، بِالتَّصْغِيرِ، وَقيل: مَيْمُونَة، وَهِي صحابية ثَبت ذكر إسْلَامهَا فِي (صَحِيح مُسلم) وَبَين أَبُو مُوسَى اسْمهَا فِي ذيل (الْمعرفَة) ، وإنمااستثنى أَبُو هُرَيْرَة هَذِه الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لِأَن الْجِهَاد وَالْحج يشْتَرط فيهمَا إِذن السَّيِّد، وَكَذَلِكَ بر الْأُم، قد يحْتَاج إِلَى إِذن السَّيِّد فِي بعض وجوهه، بِخِلَاف بَقِيَّة الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة، وَلم يتَعَرَّض للعبادات الْمَالِيَّة إِمَّا لكَونه كَانَ إِذْ ذَاك لم يكن لَهُ مَال يزِيد على قدر حَاجته فيمكنه صرفه فِي القربات بِدُونِ إِذن السَّيِّد، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَن للْعَبد أَن يتَصَرَّف فِي مَاله بِغَيْر إِذْنه. فَإِن قيل: فِي قَوْله: أَجْرَانِ، يلْزم كَون أجر المماليك ضعف أجر السادات؟ قلت: أجَاب الْكرْمَانِي: بِأَن لَا مَحْذُور فِي ذَلِك، أَو يكون أجر المماليك مضاعفاً من هَذِه الْجِهَة، وَقد يكون للسادات جِهَات أُخْرَى يسْتَحق بهَا أجر العَبْد، أَو يكون المُرَاد تَرْجِيح العَبْد الْمُؤَدِّي للحقين على العَبْد الْمُؤَدِّي لأَحَدهمَا. وَالله أعلم. قَوْله: (لأحببت أَن أَمُوت وَأَنا مَمْلُوك) ، الْوَاو، فِيهِ للْحَال. قَالَ الْخطابِيّ: وَلِهَذَا الْمَعْنى امتحن الله، عز وَجل، أنبياءه، عَلَيْهِم السَّلَام، ابتلى يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالرّقِّ(13/109)
ودانيال حِين سباه بخْتنصر، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَن خضر، عَلَيْهِ السَّلَام، حِين سُئِلَ لوجه الله فَلم يكن عِنْده مَا يُعْطِيهِ، فَقَالَ لَا أملك إلاَّ نَفسِي، فبعني واستنفق ثمني، وَنَحْو ذَلِك.
9452 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْر قَالَ حدَّثنا أَبُو أُسامَةَ عنِ الأعْمَشِ قَالَ حدَّثنا أبُو صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعِمَّا مَا لِأَحَدِكُمْ يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ ويَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ لِأَن مَعْنَاهُ: نعمَّا للمملوك يحسن عبَادَة ربه، على مَا نبينه عَن قريب. وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر فَذكره بنسبته إِلَى جده السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، كَانَ ينزل بِالْمَدِينَةِ بِبَاب بني سعد وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان.
قَوْله: (نعمَّا مَا لأَحَدهم) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين وإدغام الْمِيم فِي الْأُخْرَى، وَيجوز كسر النُّون وَفتحهَا أَيْضا مَعَ إسكان الْعين وتحريك الْمِيم، فالجملة أَربع لُغَات. قَالَ الزّجاج: مَا، بِمَعْنى الشَّيْء، فالتقدير: نعم الشَّيْء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقع فِي نُسْخَة الشَّيْخ أبي الْحسن الْقَابِسِيّ: نعم مَا، بتَشْديد الْمِيم الأولى وَفتحهَا، وَلَا وَجه لَهُ، وَالصَّوَاب إدغامها فِي: مَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الله نعمَّا يعظكم بِهِ} (النِّسَاء: 85) . والمخصوص بالمدح مَحْذُوف. قَوْله: (يحسن) مُبين لَهُ تَقْدِيره: نعمَّا لمملوك لأَحَدهم يحسن عبَادَة ربه وَينْصَح لسَيِّده.
71 - (بابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ علَى الرَّقِيقِ وقَوْلِهِ عَبْدِي أوْ أمَتِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التطاول أَي الترفع والتجاوز عَن الْحَد فِيهِ. قيل: المُرَاد بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَذَلِكَ لِأَن الْكل عبيد الله،، وَالله لطيف بعباده رَفِيق بهم، فَيَنْبَغِي للسادة امْتِثَال ذَلِك فِي عبيدهم، وَمن ملكهم الله إيَّاهُم، وَيجب عَلَيْهِم حسن الْملك ولين الْجَانِب، كَمَا يجب على العبيد حسن الطَّاعَة والنصح لسادتهم والانقياد لَهُم وَترك مخالفتهم. قَوْله: (وَقَوله) ، بِالْجَرِّ، عطف على: كَرَاهِيَة التطاول، وَالتَّقْدِير: وكراهية قَول الشَّخْص لمن يملكهُ من العبيد: عَبِيدِي، وَلمن يملك من الْجَوَارِي: أمتِي، وَالْكَرَاهَة فِيهِ أَيْضا للتنزيه من غير تَحْرِيم.
وَجه الْكَرَاهَة: أَن هَذَا الأسم من بَاب الْمُضَاف وَمُقْتَضَاهُ إِثْبَات الْعُبُودِيَّة لَهُ، وَصَاحبه الَّذِي هُوَ الْمَالِك عبد لله تَعَالَى متعبد بأَمْره وَنَهْيه، فإدخال مَمْلُوك الله تَعَالَى تَحت هَذَا الأسم يُوجب الشّرك، وَمعنى المضاهاة، فَلذَلِك اسْتحبَّ لَهُ أَن يَقُول: فَتَاي وَفَتَاتِي، وَالْمعْنَى فِي ذَلِك كُله يرجع إِلَى الْبَرَاءَة من الْكبر، والأليق بالشخص الَّذِي هُوَ عبد الله ومملوك لَهُ أَن لَا يَقُول: عَبدِي، وَإِن كَانَ قد ملك قياده فِي الِاسْتِخْدَام ابتلاء فِيهِ من الله بخلقه، قَالَ الله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ} (الْفرْقَان: 02) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن قَالَ عَبدِي أَو أمتِي وَلم يرد التكبر فأرجو أَن لَا إِثْم عَلَيْهِ.
وقالَ الله تَعَالَى {والصَّالِحِينَ مِنْ عَبَادِكُمْ وإمَائِكُمْ} (النُّور: 23) . وَقَالَ: {عَبْداً مَمْلُوكاً} (النَّحْل: 57) . {وألْفَيا سَيِّدَهَا لَدَى الْبابِ} (يُوسُف: 52) . وَقَالَ {مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِناتِ} (النِّسَاء: 52) . وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ {واذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (يُوسُف: 24) . أيْ سَيَّدِكَ ومَنْ سَيِّدِكُمْ
ذكر هَذَا كُله دَلِيلا لجَوَاز أَن يَقُول: عَبدِي وَأمتِي، وَأَن النَّهْي الَّذِي ورد فِي الحَدِيث عَن قَول الرجل: عَبدِي وَأمتِي. وَعَن قَوْله: إسق ربَّكَ، وَنَحْوه للتنزيه لَا للتَّحْرِيم. قَوْله: {وَالصَّالِحِينَ من بادكم وَإِمَائِكُمْ} هُوَ فِي سُورَة النُّور، وأوله: {وَانْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله وَالله وَاسع عليم} (النُّور: 23) . وَلما أَمر الله تَعَالَى قبل هَذِه الْآيَة بغض الْأَبْصَار وَحفظ الْفروج، بقوله: {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم} (النِّسَاء: 52) . الْآيَة، بَين بعده أَن الَّذِي أَمر بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يحل، فَبين بعد ذَلِك طَرِيق الْحل، فَقَالَ: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى} (النُّور: 23) . أَصْلهَا: أيائم، فَقلب، والأيم للرجل وَالْمَرْأَة، فالأيامي: هم الَّذين لَا أَزوَاج لَهُم من الرِّجَال وَالنِّسَاء، يُقَال: رجل أيم وَامْرَأَة إيم وأيمة. وآم الرجل وآمت الْمَرْأَة بأيم أيمة، وأيوماً إِذا لم يتزوجا بكرين كَانَا أَو ثيبين، وَقَالَ ابْن بطال: جَازَ أَن يَقُول الرجل: عَبدِي وَأمتِي، لقَوْله تَعَالَى: {وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النُّور: 23) . وَإِنَّمَا نهى عَنهُ على سَبِيل الغلظة لَا على سَبِيل التَّحْرِيم، وَكره ذَلِك لاشْتِرَاط اللَّفْظ، إِذْ يُقَال: عبد الله(13/110)
وَأمة الله. قَوْله: (وَقَالَ {عبدا مَمْلُوكا} (النَّحْل: 57)) هُوَ فِي سُورَة النَّحْل، وأوله: {وَضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء ... } (النَّحْل: 57) . الْآيَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول: بَاب من ملك الْعَرَب رَقِيقا. قَوْله: {وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} (يُوسُف: 52) هُوَ فِي سُورَة يُوسُف، وَقَبله: {واستبقا الْبَاب وقدت قَمِيصه من دبر وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} (يُوسُف: 52) . الْآيَة، والقصة مَشْهُورَة، وَالْمعْنَى: تسابقا إِلَى الْبَاب يَعْنِي: يُوسُف وزليخا فنفر يُوسُف عَنْهَا فأسرع يُرِيد الْبَاب ليخرج، وأسرعت زليخا وَرَاءه لتمنعه من الْخُرُوج، وقدت قَمِيصه من دُبُرٍ لِأَنَّهَا جبذته من خَلفه فشقت قَمِيصه، وألفيا سَيِّدهَا أَي: صادفا ولَقِيا بَعْلهَا، وَهُوَ قطفير، وَإِنَّمَا قَالَ: سَيِّدهَا، وَلم يقل: سيدهما، لِأَن ملك يُوسُف لم يَصح، فَلم يكن سيداً لَهُ على الْحَقِيقَة. قَوْله: (وَقَالَ: {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} (النِّسَاء: 52)) هُوَ فِي سُورَة النِّسَاء، وأوله: {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات ... } (النِّسَاء: 52) . الْآيَة، يَعْنِي: مِنْهُ لم يجد مِنْكُم طولا أَي: سَعَة وقدرة أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات من الْحَرَائِر العفائف وَالْمُؤْمِنَات، فتزوجوا من الْإِمَاء الْمُؤْمِنَات اللَّاتِي يملكهن الْمُؤْمِنُونَ، والفتيات جمع فتاة وَهِي: الآمة. قَوْله: (وَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قومُوا إِلَى سيدكم) ، هُوَ قِطْعَة من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي على مَا يَأْتِي، فَقَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا غنْدر حَدثنَا شُعْبَة عَن سعد، قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يَقُول: نزل أهل قُرَيْظَة على حكم سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأرْسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سعد، فَأتى على حمَار، فَلَمَّا دنا من الْمَسْجِد قَالَ للْأَنْصَار: (قومُوا إِلَى سيدكم) الحَدِيث، وخاطب الْأَنْصَار بقوله: (قومُوا إِلَى سيدكم) يُرِيد بِهِ سعد بن معَاذ، فَمن هَذَا أَخذ أَن لَا يمْنَع العَبْد أَن يَقُول: سَيِّدي ومولاء، لِأَن مرجع السِّيَادَة إِلَى معنى الرياسة على من تَحت يَده والسياسة لَهُ وَحسن التَّدْبِير، وَلذَلِك سمى الزَّوْج سيداً، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} (يُوسُف: 52) . وَقد قيل لمَالِك: هَل كره أحد بِالْمَدِينَةِ قَوْله لسَيِّده: يَا سَيِّدي؟ قَالَ: لَا. وَاحْتج بِهَذِهِ الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 93) . قيل لَهُ: يَقُولُونَ: السَّيِّد هُوَ الله؟ قَالَ: أَيْن هُوَ فِي كتاب الله تَعَالَى؟ وَإِنَّمَا فِي الْقُرْآن: {ربِّ اغْفِر لي ولوالدي} (نوح: 82) . قيل: أنكر أَن يَدْعُو يَا سَيِّدي. قَالَ: مَا فِي الْقُرْآن أحب إِلَيّ، وَدُعَاء الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد قَالَ بعض أهل اللُّغَة: إِنَّمَا سمى السَّيِّد لِأَنَّهُ يملك السوَاد الْأَعْظَم، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحسن: إِن ابْني هَذَا سيد. قَوْله: ( {واذكرني عِنْد رَبك} (يُوسُف: 24)) هُوَ فِي سُورَة يُوسُف وأوله: {وَقَالَ للَّذي ظن أَنه ناجٍ مِنْهُمَا: أذكرني عِنْد رَبك ... } (يُوسُف: 24) الْآيَة، وقصته مَشْهُورَة، مَعْنَاهُ: صفني عِنْد الْملك بصفتي، وقص عَلَيْهِ بقصتي لَعَلَّه يرحمني ويخرجني من السجْن، فَلَمَّا وكل أمره إِلَى غير الله أمكثه فِي السجْن سبع سِنِين. وَقَالَ الْخطابِيّ: لَا يُقَال أطْعم رَبك، لِأَن الْإِنْسَان مربوب مَأْمُور بإخلاص التَّوْحِيد وَترك الْإِشْرَاك مَعَه، فكره لَهُ المضاهاة بالإسم. وَأما غَيره من سَائِر الْحَيَوَان والجماد فَلَا بَأْس بِإِطْلَاق هَذَا الإسم عَلَيْهِ عِنْد الْإِضَافَة، كَقَوْلِهِم: رب الدَّار، وَرب الدَّابَّة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد ورد فِي الْقُرْآن مثل قَوْله: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} (يُوسُف: 32) . {واذكرني عِنْد رَبك} (يُوسُف: 24) . قلت: ذَاك شرع من قبلنَا. فَإِن قلت: كَمَا أَنه لَا رب حَقِيقَة غير الله، كَذَا لَا سيد وَلَا مولى حَقِيقَة أَيْضا إلاَّ الله تَعَالَى، فَلِمَ جَازَ هَذَا وَامْتنع هَذَا؟ قلت: التربية الْحَقِيقِيَّة مُخْتَصَّة بِاللَّه تَعَالَى، بِخِلَاف السِّيَادَة فَإِنَّهَا ظَاهِرَة، بعض النَّاس سَادَات على الآخرين، وَأما الْمولى فقد جَاءَ بمعاني بَعْضهَا لَا يَصح إلاَّ على الْمَخْلُوق. قَوْله: (وَمن سيدكم؟) هَذِه اللَّفْظَة سَقَطت من رِوَايَة النَّسَفِيّ وَأبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَثبتت فِي رِوَايَة البَاقِينَ، وَهِي قِطْعَة من حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي (الْأَدَب الْمُفْرد) من طَرِيق حجاج الصَّواف عَن أبي الزبير، قَالَ: حَدثنَا جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سيدكم يَا بني سَلمَة؟) قُلْنَا: الْجد بن قيس على أَنا نبخله. قَالَ وَأي داى أدوى من الْبُخْل؟ بل سيدكم عَمْرو بن الجموح، وَكَانَ عَمْرو على أصنامهم فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ يُولِمُ عَن رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تزوج. وَأخرجه الْحَاكِم من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه. وَالْحَد، بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الدَّال: هُوَ ابْن قيس بن صَخْر بن خنساء بن سِنَان بن عبيد بن عدي بن غنم، بِسُكُون النُّون: ابْن كَعْب بن سَلمَة، بِكَسْر اللَّام، يكنى أَبَا عبد الله، وَقَالَ أَبُو عمر: كَانَ يرْمى بالنفاق، وَيُقَال: إِنَّه تَابَ وَحسنت تَوْبَته وعاش إِلَى أَن مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأما عَمْرو بن الجموح، بِفَتْح الْجِيم وَضم الْمِيم المخففة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: فَهُوَ ابْن زيد بن حرَام، بمهملتين: ابْن كَعْب بن غنم بن سَلمَة، قَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ مَا سَادَات بني سَلمَة، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عَقبي، وَفِي قَول: بَدْرِي، اسْتشْهد يَوْم أحد، هُوَ وَابْنه خَلاد. فَإِن قلت: ذكر ابْن مَنْدَه من حَدِيث كَعْب بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من سيدكم يَا بني سَلمَة؟) قَالُوا: جد بن قيس، فَذكر الحَدِيث، فَقَالَ: سيدكم(13/111)
بشر بن الْبَراء بن معْرور) ، بِسُكُون الْعين الْمُهْملَة: ابْن صَخْر، يجْتَمع مَعَ عَمْرو بن الجموح فِي صَخْر؟ قلت: اخْتلف فِي وَصله وإرساله على الزُّهْرِيّ، على أَنه يُمكن التَّوْفِيق بِأَن تحمل قصَّة بشر على أَنَّهَا كَانَت بعد قتل عَمْرو بن الجموح، وَمَات بشر الْمَذْكُور بعد خَيْبَر، أكل مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الشَّاة المسمومة، وَكَانَ قد شهد الْعقبَة وبدراً، ذكره إِبْنِ إِسْحَاق.
0552 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ أخبرنَا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافعٌ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ وأحْسنَ عِبادَةَ رَبِّهِ كانَ لَهُ أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ.
(انْظُر الحَدِيث 6452) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن العَبْد إِذا نصح سَيّده وَأحسن عبَادَة ربه، يكره تطاول مَوْلَاهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي أول: بَاب العَبْد إِذا أحسن عبَادَة ربه، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق وَفِي النذور عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى.
1552 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوساى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمَمْلُوكُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ ويُؤَدِّي إلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ والنَّصِيحَةِ والطَّاعَةِ لَهُ أجْرَانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَيُؤَدِّي إِلَى سَيّده) إِلَى آخِره، لِأَنَّهُ إِذا قَامَ بِمَا ذكر فِيهِ يكره التطاول عَلَيْهِ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم الرجل أمته، وَعَن قريب فِي: بَاب العَبْد إِذا أحسن عبَادَة ربه، مَعَ زِيَادَة ونقصان، يظْهر ذَلِك عِنْد النّظر بِالتَّأَمُّلِ. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة، واسْمه الْحَارِث أَو عَامر بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس. قَوْله: (الْمَمْلُوك) مُبْتَدأ وَخَبره الْجُمْلَة، وَهِي قَوْله: (لَهُ أَجْرَانِ) ، ويروى: للمملوك، فَإِن صحت هَذِه الرِّوَايَة يكون قَوْله: أَجْرَانِ مُبْتَدأ، وَقَوله: للمملوك، مقدما خَبره. وَلَا يكون فِي هَذِه الرِّوَايَة لَفْظَة: لَهُ.
2552 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يُحَدِّثُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ لَا يَقُلْ أحَدُكُمْ أطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّىءْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ ولْيَقُلْ سَيِّدي ومَوْلا وَلَا يَقُلْ أحَدُكُم عَبْدِي أمَتي ولْيَقُلْ فَتايَ وفَتَاتِي وغُلامِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يقل أحدكُم عَبدِي أمتِي) فَإِن من جملَة التَّرْجَمَة قَوْله: عَبدِي وَأمتِي.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، لم يذكر مُحَمَّد هَذَا مَنْسُوبا فِي أَكثر الرِّوَايَات إلاَّ فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن شبويه، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام، وَكَذَا حَكَاهُ الجياني عَن رِوَايَة ابْن السكن، وَحكى عَن الْحَاكِم أَنه الذهلي. وَقد أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد ابْن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق. وَلَا يبعد أَن يكون مُحَمَّد هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن رَافع، لِأَنَّهُ روى عَنهُ أَيْضا فِي (الصَّحِيح) . الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام. الثَّالِث: معمر بن رَاشد. الرَّابِع: همام بن مُنَبّه. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: تحديث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّيغَة نَادِر.
قَوْله: (أطْعم) بِفَتْح الْهمزَة أَمر من الْإِطْعَام، (وَرَبك) مَنْصُوب مَفْعُوله. قَوْله: (وضىء) ، أَمر بِمن: وضأه يوضئه. قَوْله: (إسق) ،، بِكَسْر الْهمزَة: أَمر من سقَاهُ يسْقِيه، تثبت فِي الِابْتِدَاء وَتسقط فِي الدرج. قَوْله: (وَليقل سَيِّدي ومولاي) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يُقَال: سيدك ومولاك، لتناسب: رَبك. قلت: الأول خطاب للسادات. وَالثَّانِي: للمماليك. أَي: لَا يَقُول السَّيِّد الْمَمْلُوك: أطْعم رَبك، إِذْ فِيهِ نوع من التكبر، وَلَا يَقُول العَبْد أَيْضا لفظا(13/112)
يكون فِيهِ نوع تَعْظِيم لَهُ، بل يَقُول: أطعمت سَيِّدي ومولاي وَنَحْوه. قلت: روى مُسلم وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة فِي ذَا الحَدِيث نَحوه، وَزَاد: وَلَا يقل أحدكُم مولَايَ، فَإِن مولاكم الله. قلت: اخْتلفُوا فِي هَذِه الزِّيَادَة على الْأَعْمَش، مِنْهُم من ذكرهَا، وَمِنْهُم من حذفهَا، وَقَالَ عِيَاض: حذفهَا أصح، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمَشْهُور حذفهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا صرنا إِلَى التَّرْجِيح للتعارض مَعَ تعذر الْجمع وَعدم الْعلم بالتاريخ. وَسبب النَّهْي عَن قَول: أطْعم رَبك، وَنَحْوه مَا ذَكرْنَاهُ فِي أَوَائِل الْكتاب. وَقَالَ ابْن بطال: لَا يجوز أَن يُقَال لأحد غير الله: رب، كَمَا لَا يجوز أَن يُقَال: إِلَه. قلت: النَّهْي عِنْد الْإِطْلَاق، وَأما الْإِضَافَة فَيجوز، كَمَا فِي {أذكرني عِنْد رَبك} (يُوسُف: 24) . وَنَحْو ذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي للتنزيه، وَمَا ورد من ذَلِك فلبيان الْجَوَاز، وَقيل: هُوَ مَخْصُوص بِغَيْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يرد مَا فِي الْقُرْآن، إِذْ المُرَاد النَّهْي عَن الْإِكْثَار من ذَلِك واتخاذ اسْتِعْمَال هَذِه اللَّفْظَة عَادَة، وَلَيْسَ المُرَاد النَّهْي عَن ذكرهَا فِي الْجُمْلَة. فَإِن قلت: ذكر قَوْله: (أطْعم رَبك، وضىء رَبك، إسق رَبك) ، أَمْثِلَة تدل على التَّخْصِيص أم لَا؟ قلت: لَا، وَإِنَّمَا ذكرت دون غَيرهَا لغَلَبَة اسْتِعْمَالهَا فِي المخاطبات. قَوْله: (وَلَا يقل أحدكُم: عَبدِي أمتِي) ، زَاد مُسلم فِي رِوَايَته، من طَرِيق الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة: (كلكُمْ عبيد الله وكل نِسَائِكُم إِمَاء الله) ، فأرشد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْعلَّة، لِأَن حَقِيقَة الْعُبُودِيَّة إِنَّمَا يَسْتَحِقهَا الله، عز وَجل، وَلِأَن فِيهَا تَعْظِيمًا لَا يَلِيق بالمخلوق اسْتِعْمَاله لنَفسِهِ. قَوْله: (وَليقل: فَتَاي وَفَتَاتِي) ، زَاد مُسلم: وجاريتي، فأرشد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى مَا يُؤَدِّي المعني مَعَ السَّلامَة من التعاظم، لِأَن لفظ: الْفَتى والغلام، لَا يدل على مَحْض الْملك كدلالة العَبْد، فقد كثر اسْتِعْمَال الْفَتى فِي الْحر، وَكَذَلِكَ الْغُلَام وَالْجَارِيَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالنَّهْي من اسْتَعْملهُ على جِهَة التعاظم لَا من أَرَادَ التَّعْرِيف.
3552 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا جريرُ بنُ حازِمٍ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أعْتَقَ نَصيباً لَهُ مِنَ العَبْدِ فَكانَ لَهُ مِنَ المَالِ مَا يبْلُغُ قيمَتَهُ يُقَوَّمُ علَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ وأُعْتِقَ مِنْ مالِهِ وإلاَّ فَقدْ عَتَقَ منْهُ مَا عَتَقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لَو لم يحكم عَلَيْهِ بِعِتْق كُله عِنْد الْيَسَار لَكَانَ بذلك متطاولاً عَلَيْهِ، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعتْق فِي: بَاب إِذا أعتق عبدا بَين اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن حداد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر ... إِلَى آخِره.
4552 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحيى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ فالأميرُ الَّذِي علَى النَّاسِ راعٍ وهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتهِ وهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ والمَرْأةُ راعِيَةٌ على بَيْتِ بَعْلِهَا وَولَدِهِ وهْيَ مَسْئولَةٌ عَنْهُم والْعَبْدُ راعٍ على مالِ سَيِّدِهِ وهْوَ مَسئُولٌ عنْهُ ألاَّ فكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَالْعَبْد رَاع على مَال سَيّده) فَإِنَّهُ إِذا كَانَ ناصحاً لَهُ فِي خدمته مُؤديا الْأَمَانَة يَنْبَغِي أَن يُعينهُ وَلَا يَتَطَاوَل عَلَيْهِ. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب الْعمريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن عبيد الله بن سعيد. والْحَدِيث مضى أَيْضا فِي آخر كتاب الاستقراض فِي: بَاب العَبْد رَاع فِي مَال سَيّده، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن: عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم ... إِلَى آخِره.(13/113)
6552 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْماعيلَ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وزَيْدَ بنَ خالِدٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا زَنَتِ الأمَةُ فاجْلِدُوهِا ثمَّ إذَا زَنتْ فاجْلِدُوها ثُمَّ إذَا زَنَتْ فاجْلِدُوها فِي الثَّالِثَة أوِ الرَّابِعَةِ يبِيعُوهَ ولَوْ بِضَفَيرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من حَيْثُ إِن الْأمة إِذا زنت لَا يكره التطاول عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يكره التطاول إِذا نصحت سَيِّدهَا وَأَدت حق الله فَإِذا زنت أخلت بالإثنين، فتؤدب، فَإِن لم ينجع تبَاع، وَلَو بِيعَتْ بضفير، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء: وَهُوَ الْحَبل المفتول، والْحَدِيث مضى فقي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع العَبْد الزَّانِي، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَمَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد بن دِرْهَم أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ الْكُوفِي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله هُوَ ابْن عبد الله ابْن عتبَة بن مَسْعُود.
81 - (بابٌ إذَا أتاهُ خادِمُهُ بِطَعَامِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أَتَى الشَّخْص خادمه، وَهُوَ الَّذِي يَخْدمه، سَوَاء كَانَ عبدا أَو حرا، ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: فليجلسه مَعَه فَإِن لم يجلسه فليناوله لقْمَة أَو لقمتين، وَإِنَّمَا طوى ذكره اكْتِفَاء بِمَا ذكر فِي الحَدِيث.
7552 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدثنَا شُعبَةُ قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّدُ بنُ زِيادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أتاى أحدَكُمْ خادِمُهُ بِطَعَامِهِ فإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ معَهُ فَلْيُناوِلُهُ لُقْمَةً أوْ لُقْمَتَيْنِ أوْ أُكْلَةً أوْ أُكْلَتَيْنِ فإنَّهُ وَلِيَ عِلاجَهُ.
(الحَدِيث 7552 طرفه فِي: 0645) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، مر فِي: بَاب غسل الأعقاب، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة.
قَوْله: (فَإِن لم يجلسه مَعَه) ، مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره: فليجلسه مَعَه. قَوْله: (أَو أُكلة) ، شكّ من الرَّاوِي، والأكلة، بِضَم الْهمزَة: اللُّقْمَة. قَوْله: (علاجه) مصدر عالج يعالج، وَالْمعْنَى هُنَا: ولي عمله. وَقَوله: ولي، إِمَّا من الْولَايَة، أَي: تولى ذَلِك، وَإِمَّا من الْوَلِيّ، وَهُوَ الْقرب أَي: قاسى كلفة اتِّخَاذه.
وَفِيه: الْحَث على مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَهُوَ الْمُوَاسَاة فِي الطَّعَام لَا سِيمَا فِي حق من صنعه وَحمله، لِأَنَّهُ تحمل حره ودخانه وتعلقت بِهِ نَفسه وشم رَائِحَته، قَالَ الْمُهلب: هَذَا الحَدِيث يُفَسر حَدِيث أبي ذَر فِي التَّسْوِيَة بَين العَبْد وَالسَّيِّد، أَنه على سَبِيل النّدب، لِأَنَّهُ لم يوسه فِي هَذَا الحَدِيث فِي المواكلة، وَالله أعلم.
91 - (بابٌ العَبْدُ راعٍ فِي مَال سيِّدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ العَبْد رَاع فِي مَال سَيّده، فَإِذا كَانَ رَاعيا يلْزمه حفظه، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا مَضَت فِي آخر كتاب الاستقراض.
ونَسبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المالَ إِلَى السَّيدِ
كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث ابْن عمر: من بَاعَ عبدا وَله مَال، فَمَاله للسَّيِّد إلاَّ أَن يَشْتَرِطه الْمُبْتَاع، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة، وَالْعَبْد لَا يملك شَيْئا، لِأَن الرّقّ منافٍ للْملك، وَمَاله لسَيِّده عِنْد بَيْعه وَعند عتقه، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَت طَائِفَة: مَاله دون سَيّده فِي الْعتْق، وَالْبيع، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْنه وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وَالْحسن.
8552 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخْبَرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالمُ بنُ عبْدِ الله عنْ(13/114)
عبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّهُ سَمِعَ رسولَ لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقولُ كلُّكم راعٍ وَمَسْئُول عنْ رَعِيَّتِهِ فالإمَامُ راعٍ ومسْئولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ والرَّجُلُ فِي أهْلِهِ راعٍ وهْوَ مَسْئولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ والْمَرْأةُ فِي بيْتِ زَوْجهَا راعِيَةٌ وهْيَ مَسْئُولَةٌ عنْ رَعِيَّتِها والخَادِمُ فِي مالِ سَيِّدِهِ راعٍ وهْوَ مَسْئولٌ عَن رَعِيَّتِهِ قَالَ فسَمِعْتُ هؤلاَءِ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ والرَّجُلُ فِي مالِ أبِيهِ راعٍ ومسئولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ فكُلُّكُمْ رَاعٍ وكلُّكُمْ مسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَالْخَادِم فِي مَال سَيّده رَاع، وَالْمرَاد من الْخَادِم هُنَا العَبْد، وَإِن كَانَ يتَنَاوَل غَيره مِمَّن يخْدم غَيره، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، والْحَدِيث قد مر فِي الْبَاب السَّابِق، وَفِي غَيره فِيمَا مضى، وَقد بَيناهُ فِي الْبَاب السَّابِق.
02 - (بابٌ إذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا ضرب الرجل عَبده لأجل التَّأْدِيب، فليجتنب وَجهه إِكْرَاما لَهُ، قَالَ الْمُهلب: لِأَن الله خلقه بِيَدِهِ. قلت: يَعْنِي: بقدرته الْبَالِغَة الْكَامِلَة، وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِيهِ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
9552 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثنا ابنُ وهْبٍ قَالَ حدَّثني مالكُ بنُ أنَسٍ قَالَ وأخبرَنِي ابنُ فُلانٍ عنْ سَعِيدٍ الْمقْبُريِّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قاتَلَ أحَدُكُمْ فلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه إِذا وَجب احتناب الْوَجْه عِنْد الْقِتَال مَعَ الْكَافِر، فاجتناب وَجه العَبْد الْمُؤمن أوجب.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن عبيد الله أبي ثَابت الْمدنِي، مولى عُثْمَان بن عَفَّان، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب. قَوْله: (قَالَ وَأَخْبرنِي ابْن فلَان) ، أَي: قَالَ ابْن وهب: حَدثنِي مَالك وَابْن فلَان، كِلَاهُمَا عَن سعيد المَقْبُري، قيل: لم يُصَرح باسم ابْن وهب لضَعْفه، قَالَ الْمزي: يُقَال: هُوَ ابْن سمْعَان، يَعْنِي: عبد الله بن زِيَاد بن سُلَيْمَان بن سمْعَان الْمدنِي، وَكَذَا قَالَ أَبُو نصر الكلاباذي وَغَيره، وروى عَن أبي ذَر الْهَرَوِيّ فِي رِوَايَته عَن الْمُسْتَمْلِي، كَذَلِك، وَقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب مَالك) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن خرَاش، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، عَن البُخَارِيّ قَالَ: حَدثنَا أَبُو ثَابت مُحَمَّد بن عبيد الله الْمدنِي، فَذكر الحَدِيث، لَكِن قَالَ بدل قَوْله ابْن فلَان ابْن سمْعَان، فَكَأَنَّهُ لم يُصَرح باسمه فِي الصَّحِيح، بل كنى بِهِ لأجل ضعفه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيُقَال: إِن مَالِكًا كذبه، وَهُوَ أحد المتروكين. قلت: كذبه أَحْمد وَغَيره أَيْضا وَمَاله فِي البُخَارِيّ شيىء إلاَّ هَذَا الْموضع.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْجعْفِيّ البُخَارِيّ، الْمَعْرُوف بالمسندي عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن همام بن مُنَبّه الْأَنْبَارِي، وَلم يسق الحَدِيث على لفظ هَذَا الطَّرِيق. وَأخرجه مُسلم من طَرِيق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: فليتق، بدل: فليتجنب، وَله من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: إِذا ضرب، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عجلَان، وَلأبي دَاوُد من طَرِيق أبي سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا يُفِيد على أَن لفظ: قَاتل، بِمَعْنى: قتل، وَأَن المفاعلة لَيست على ظَاهرهَا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل بَاب المفاعلة على حَالهَا ليتناول مَا يَقع عِنْد أهل الْعدْل مَعَ الْبُغَاة، وَعند دفع الصَّائِل، فيجتنبون عِنْد ذَلِك عَن الضَّرْب على الْوَجْه، فَإِذا وَجب الاجتناب فِي مثل هَذَا الْموضع، فَفِي بَاب التَّعْزِير والتأديب وَالْحُدُود بطرِيق الأولى فِي الْوُجُوب، وَقد روى أَبُو دَاوُد وَغَيره فِي حَدِيث أبي بكرَة فِي قصَّة الَّتِي زنت فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، برجمها، وَقَالَ: إرموا وَاتَّقوا الْوَجْه، فَإِذا كَانَ ذَلِك فِي حق من تعين إهلاكه، فَمن دونه أولى.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء، إِنَّمَا نهى عَن ضرب الْوَجْه لِأَنَّهُ لطيف(13/115)
يجمع المحاسن، وَأكْثر مَا يَقع الْإِدْرَاك بأعضائه فيخشى من ضربه أَن يبطل أَو يتشوه كلهَا أَو بَعْضهَا، والشين فِيهِ فَاحش لبروزه وظهوره، بل لَا يسلم إِذا ضرب غَالِبا من شين. انْتهى. وَهَذَا تَعْلِيل حسن، وَلَكِن روى مُسلم، وَفِي رِوَايَته تَعْلِيل آخر، فَإِنَّهُ روى الحَدِيث من طَرِيق أبي أَيُّوب المراعي عَن أبي هُرَيْرَة، وَزَاد: فَإِن الله خلق آدم على صورته. وَاخْتلف فِي مرجع هَذَا الضَّمِير، فَعِنْدَ الْأَكْثَرين: يرجع إِلَى الْمَضْرُوب، وَهَذَا حسن، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أعَاد بَعضهم الضَّمِير على الله، متمسكاً بِمَا ورد من ذَلِك فِي بعض طرقه أَن الله تَعَالَى خلق آدم على صُورَة الرَّحْمَن، وَأنكر الْمَازرِيّ وَغَيره صِحَة هَذِه الزِّيَادَة ثمَّ قَالَ: وعَلى تَقْدِير صِحَّتهَا يحمل على مَا يَلِيق بالباري سُبْحَانَهُ، عز وَجل. قيل: كَيفَ يُنكر هَذِه الزِّيَادَة وَقد أخرجهَا ابْن أبي عَاصِم فِي السّنة، وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عمر بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات، وأخرجها أَيْضا ابْن أبي عَاصِم من طَرِيق أبي يُوسُف عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ يرد التَّأْوِيل الأول؟ قَالَ: من قَاتل فليجتنب الْوَجْه فَإِن صُورَة وَجه الْإِنْسَان على صُورَة وَجه الرَّحْمَن، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك تعين إجراؤه على مَا تقرر بَين أهل السّنة من إمراره، كَمَا جَاءَ من غير اعْتِقَاد تَشْبِيه أَو يؤول على مَا يَلِيق بالرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِن قلت: مَا حكم هَذَا النَّهْي؟ قلت: ظَاهره التَّحْرِيم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سُوَيْد بن مقرن أَنه رأى رجلا لطم غُلَامه، فَقَالَ: أما علمت أَن الصُّورَة مُحرمَة؟ .
بسمِ الله الرحْمانِ الرَّحِيم
05 - (كتابُ الْمُكَاتَبِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمكَاتب، وَوَقع هَكَذَا: فِي الْمكَاتب، من غير ذكر لفظ: كتاب، وَلَا لفظ: بَاب، والبسملة مَوْجُودَة عِنْد الْكل. وَالْمكَاتب، بِفَتْح التَّاء: هُوَ الرَّقِيق الَّذِي يكاتبه مَوْلَاهُ على مَال يُؤَدِّيه إِلَيْهِ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا أَدَّاهُ عتق، وَإِن عجز رد إِلَى الرّقّ، وبكسر التَّاء: هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي بَينهمَا عقد الْكِتَابَة، وَالْكِتَابَة أَن يَقُول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف دِرْهَم مثلا، وَمَعْنَاهُ: كتبت لَك على نَفسِي أَن تعْتق مني إِذا وفيت المَال، وكتبت لي على نَفسك أَن تفي بذلك، أَو كتبت عَلَيْك وَفَاء المَال، وكتبت على الْعتْق. واشتقاقها من: الْكتب، وَهُوَ الْجمع، يُقَال: كتبت الْكتاب إِذا جمعت بَين الْكَلِمَات والحروف، وسمى هَذَا العقد كِتَابَة لما يكْتب فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ. فَإِن قلت: سَائِر الْعُقُود يُوجد فِيهَا معنى الْكِتَابَة، فَلِمَ لَا تسمى بِهَذَا الإسم؟ قلت: لِئَلَّا تبطل التَّسْمِيَة كالقارورة، سميت بِهَذَا الإسم لقرار الْمَائِع فِيهَا، وَلم يسم الْكوز وَنَحْوه قَارُورَة، وَإِن كَانَ يقر الْمَائِع فِيهِ، لِئَلَّا تبطل الْأَعْلَام وَالْكِتَابَة شرعا عقد بَين الْمولى وَعَبده، بِلَفْظ الْكِتَابَة أَو مَا يُؤدى مَعْنَاهُ من كل وَجه يُوجب التَّحْرِير يدا فِي الْحَال ورقبة فِي المَال، وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ: الْكِتَابَة إسلامية وَلم تكن تعرف فِي الْجَاهِلِيَّة، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهَا كَانَت متعارفة قبل الْإِسْلَام فأقرها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي كَلَامه على حَدِيث بَرِيرَة: قيل: إِن بَرِيرَة أول مُكَاتبَة فِي الْإِسْلَام، وَقد كَانُوا يتكاتبون فِي الْجَاهِلِيَّة بِالْمَدِينَةِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف فِي أول من كُوتِبَ فِي الْإِسْلَام فَقيل: سلمَان الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَاتب أَهله على مائَة ودية نجمها لَهُم، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا غرستها فاذنِّي. قَالَ: فَلَمَّا غرستها آذنته فَدَعَا فِيهَا بِالْبركَةِ، فَلم تفت مِنْهَا ودية وَاحِدَة. وَقيل: أول من كُوتِبَ أَبُو المؤمل، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أعينوه) ، فَقضى كِتَابَته وفضلت عِنْده، فاستفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام: (انفقها فِي سَبِيل الله) . وَأول من كُوتِبَ من النِّسَاء: بَرِيرَة، وَأول من كُوتِبَ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو أُميَّة، مولى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ سِيرِين مولى أنس.
(بابُ إثْم منْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ الْمُكَاتَبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من قذف مَمْلُوكه الَّذِي كَاتبه، كَذَا وَقع فِي هَذَا الْبَاب هُنَا فِي بعض النّسخ، وَلم يذكر فِيهِ حَدِيث أصلا وَلَا لَهُ وَجه فِي دُخُوله أَبْوَاب الْمكَاتب، وَقد ترْجم فِي كتاب الْحُدُود: بَاب قذف الْمَمْلُوك، وَأورد فِيهِ حَدِيثه، على مَا يَجِيء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قيل: كَانَ البُخَارِيّ ترْجم بِهَذَا الْبَاب وأخلى بَيَاضًا ليكتب فِيهِ الحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لما لم يظفر بِهِ تَركه هَكَذَا.(13/116)
1 - (بابُ المُكَاتَبِ ونُجومِهِ فِي كلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر الْمكَاتب، وَأمر نجومه، وَهُوَ جمع نجم، وَهُوَ فِي الأَصْل: الطالع، ثمَّ سمي بِهِ الْوَقْت، وَمِنْه قَول الشَّافِعِي: أقل التَّأْجِيل نجمان، أَي: شَهْرَان، ثمَّ سمي بِهِ مَا يُؤدى بِهِ من الْوَظِيفَة، يُقَال: دين منجم، جعل نجوماً، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: النَّجْم فِي الأَصْل الْوَقْت، وَكَانَت الْعَرَب يبنون أُمُورهم على طُلُوع النَّجْم لأَنهم لَا يعْرفُونَ الْحساب، فَيَقُول أحدهم: إِذا طلع نجم الثريا أدّيت حَقك، فسميت الْأَوْقَات نجوماً، ثمَّ سمى الْمُؤَدى فِي الْوَقْت نجماً، وَقيل: أصل هَذَا من نُجُوم الأنواء، لأَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ الْحساب، وَإِنَّمَا يحفظون أَوْقَات السّنة بالأنواء. قَوْله: (فِي كل سنة نجم) ، يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون: نجم، مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله مقدما: فِي كل سنة، وَتَكون الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية. وَالْوَجْه الثَّانِي: يَأْتِي على رِوَايَة النَّسَفِيّ أَن لَفْظَة نجم سَاقِطَة، وَهُوَ أَن يكون قَوْله: فِي كل سنة، نصبا على الْحَال من: نجومه، وَقَالَ بَعضهم: عرف من التَّرْجَمَة اشْتِرَاط التَّأْجِيل فِي الْكِتَابَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، بِنَاء على أَن الْكِتَابَة مُشْتَقَّة من الضَّم، وَهُوَ ضم بعض النُّجُوم إِلَى بعض، وَأَقل مَا يحصل بِهِ الضَّم نجمان، ثمَّ ذكر بعد أسطر: وَلم يرد المُصَنّف أَي: البُخَارِيّ بقوله: فِي كل سنة نجم، أَن ذَلِك شَرط فِيهِ، فَإِن الْعلمَاء اتَّفقُوا على أَنه لَو وَقع النَّجْم بِالْأَشْهرِ جَازَ، وَفِيه مَا فِيهِ.
وقَوْلِهِ {والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وآتُوهُمْ مِنْ مالِ الله الَّذِي آتاكُمْ} (النُّور: 33) .
هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة النُّور. وَقيل قَوْله: {وَالَّذين يَبْتَغُونَ وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا حَتَّى يغنيهم الله من فَضله وَالَّذين يَبْتَغُونَ} (النُّور: 23) . وَبعده: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} إِلَى قَوْله: {غَفُور رَحِيم} (النُّور: 43) . وَلما ذكر الله تَعَالَى تَزْوِيج الْحَرَائِر وَالْإِمَاء والأحرار وَالْعَبِيد ذكر حَال من يعجز عَن ذَلِك، ثمَّ قَالَ: {وَالَّذين يَبْتَغُونَ} (النُّور: 33) . أَي: يطْلبُونَ، من: البغية، وَهُوَ الطّلب. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَالَّذين يَبْتَغُونَ، مَرْفُوع على الإبتداء أَو مَنْصُوب بِفعل مُضْمر يفسره: فكاتبوهم، كَقَوْلِك: زيدا فَاضْرِبْهُ، وَدخلت الْفَاء لتضمن معنى الشَّرْط. قَوْله: {الْكتاب} (النُّور: 33) . مَنْصُوب، وَأَنه مفعول: يَبْتَغُونَ. الْكتاب وَالْمُكَاتبَة، كالعتاب والمعاتبة، وَهِي مفاعلة بَين اثْنَيْنِ، وهما: السَّيِّد وَعَبده، فَيُقَال: كَاتب يُكَاتب مُكَاتبَة وكتاباً، كَمَا يُقَال: قَاتل يُقَاتل مقاتلة وقتالاً، وَمعنى: يَبْتَغُونَ الْكتاب، أَي: الْمُكَاتبَة. قَوْله: (فكاتبوهم) خبر الْمُبْتَدَأ: الَّذين يَبْتَغُونَ. ثمَّ إِن هَذَا الْأَمر عِنْد الْجُمْهُور على النّدب، وَقَالَ دَاوُد: على الْوُجُوب إِذا سَأَلَهُ العَبْد أَن يكاتبه، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عِكْرِمَة أَيْضا. وَقَالَ عَطاء: يجب عَلَيْهِ، إِن علم أَن لَهُ مَالا، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل: هُوَ أَمر إِيجَاب فرض على الرجل أَن يُكَاتب عَبده الَّذِي قد علم مِنْهُ خيرا إِذا سَأَلَهُ ذَلِك بِقِيمَتِه وَأكْثر، وَهُوَ قَول دَاوُد وَمُحَمّد بن جرير من الْفُقَهَاء، وَهِي رِوَايَة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَاحْتج من نصر هَذَا القَوْل بِمَا روى قَتَادَة: أَن سِيرِين سَأَلَ أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يكاتبه، فلكأ عَلَيْهِ فَشَكَاهُ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فعلاه بِالدرةِ وَأمره بِالْكِتَابَةِ على مَا يَجِيء وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي غُلَام لحويطب بن عبد الْعُزَّى يُقَال لَهُ: صبيح، سَأَلَ مَوْلَاهُ أَن يكاتبه فَأبى عَلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فكاتبه حويطب على مائَة دِينَار ووهب لَهُ مِنْهَا عشْرين دِينَارا فأداها، وَقتل يَوْم حنين فِي الْحَرْب. انْتهى. قلت: سِيرِين، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة مولى أنس بن مَالك، وَهُوَ من سبي عين التَّمْر الَّذين أسرهم خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: فلكأ عَلَيْهِ، أَي: توقف وتباطىء، وَكَذَلِكَ تلكأ. قَوْله: فعلاه بِالدرةِ، وَهِي بِكَسْر الدَّال وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي الْآلَة الَّتِي يضْرب بهَا. وقصة سِيرِين رَوَاهَا ابْن سعد، فَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن حميد الْعَبْدي عَن معمر عَن قَتَادَة، قَالَ: سَأَلَ سِيرِين أَبُو مُحَمَّد أنس بن مَالك الْكِتَابَة فَأبى أنس، فَرفع عمر بن الْخطاب عَلَيْهِ الدرة، وَقَالَ: كَاتبه، فكاتبه، وَقَالَ: أخبرنَا معمر بن عِيسَى حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر وَسمعت مُحَمَّد بن سِيرِين: كَاتب أنس أبي على أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم. وَحُوَيْطِب بن عبد الْعُزَّى الْقرشِي العامري أَبُو مُحَمَّد، وَقيل: أَبُو الْأصْبع من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم شهد حنيناً ثمَّ حمد إِسْلَامه وعمَّر مائَة وَعشْرين سنة وَله رِوَايَة. وصبيح غُلَامه، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وقصته رَوَاهَا سَلمَة ابْن الْفضل عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن خَالِد عبد الله بن صبيح عَن أَبِيه، قَالَ: كنت مَمْلُوكا لحويطب، فَسَأَلته فَنزلت: {وَالَّذين(13/117)
يَبْتَغُونَ} (النُّور: 33) . الْآيَة. وَحجَّة الْجُمْهُور فِي هَذَا أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن السَّيِّد لَا يجْبر على بيع عَبده وَإِن ضوعف لَهُ فِي الثّمن، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالأحرى وَالْأولَى أَن لَا يخرج عَن ملكه بِغَيْر عوض، لَا يُقَال: إِنَّهَا طَرِيق الْعتْق والشارع متشوف إِلَيْهِ فحالف البيع، لأَنا نقُول: التشوف إِنَّمَا هُوَ فِي مَحل مَخْصُوص، وَأَيْضًا الْكسْب لَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أعتقني مجَّانا. وَأما الْآثَار الَّتِي دلّت على الْوُجُوب فَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهَا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} (النُّور: 33) . اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْخَيرِ، فَقَالَ الثَّوْريّ: هُوَ الْقُوَّة على الاحتراف وَالْكَسْب لأَدَاء مَا كوتبوا عَلَيْهِ، وَعَن اللَّيْث مثله، وَكره ابْن عمر كِتَابَة من لَا حِرْفَة لَهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَن سلمَان، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الصدْق والأمان وَالْوَفَاء، وَقَالَ بَعضهم: الصّلاح وَإِقَامَة الصَّلَاة، وَقَالَ مُجَاهِد: المَال، وَكَذَا نقل عَن عَطاء وَأبي رزين، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (المُصَنّف) : وَكتب عمر إِلَى عُمَيْر بن سعد أَنه: من قبل من الْمُسلمين أَن يكاتبوا أرقَّاءهم على مَسْأَلَة النَّاس، وَقَالَ ابْن حزم: قَالَت طَائِفَة: المَال، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا مَوْضُوع كَلَام الْعَرَب الَّذِي نزله بِهِ الْقُرْآن أَنه: لَو أَرَادَ، عز وَجل، المَال لقَالَ: إِن علمْتُم لَهُم خيرا، أَو عِنْدهم، أَو مَعَهم خيرا، لِأَن بِهَذِهِ الْحُرُوف يُضَاف المَال إِلَى من هُوَ لَهُ فِي لُغَة الْعَرَب، وَلَا يُقَال أصلا: فِي فلَان مَال، فَعلمنَا أَنه تَعَالَى لم يرد بِهِ المَال، فصح أَنه الدّين. وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ، أَنه سُئِلَ: أاكاتب وَلَيْسَ لي مَال؟ فَقَالَ: نعم، فصح عِنْده أَن الْخَيْر عِنْده لم يكن المَال. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: من قَالَ: إِنَّه المَال، لَا يَصح عندنَا، لِأَن العَبْد نَفسه مَال لمَوْلَاهُ، فَكيف يكون لَهُ مَال؟ وَالْمعْنَى عندنَا: إِن علمْتُم فيهم الدّين والصدق وعلمتم أَنهم يعاملونكم على أَنهم متعبدون بِالْوَفَاءِ لكم بِمَا عَلَيْهِم من الْكتاب والصدق فِي الْمُعَامَلَة، فكاتبوهم. قَوْله: {وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} (النُّور: 33) . أَي: أعطوهم من المَال الَّذِي أَعْطَاكُم الله تَعَالَى. اخْتلف فِي المخاطبين من هم؟ فَقيل: الْأَغْنِيَاء الَّذين يجب عَلَيْهِم الزَّكَاة، أمروا أَن يُعْطوا المكاتبين، وَقيل: السَّادة أمروا بإعانتهم، وَهُوَ أَن يحط عَنْهُم من مَال الْكِتَابَة شَيْئا. وَاخْتلف فِي الإيتاء: هَل هُوَ وَاجِب؟ فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه وَاجِب، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَيْسَ بِوَاجِب، وَالْأَمر فِيهِ على النّدب والحض أَن يضع الرجل عَن عَبده من مَال كِتَابَته شَيْئا مُسَمّى بِهِ يَسْتَعِين على الْخَلَاص، وَاخْتلفُوا فِيهِ أَيْضا: هَل هُوَ مِقْدَار معِين؟ فَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ غير مُقَدّر وَلكنه وَاجِب، كَمَا ذكرنَا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن سعيد بن جُبَير، وَقَالَ أَحْمد: هُوَ ربع المَال، وَهُوَ الْمَرْوِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن ابْن مَسْعُود: الثُّلُث، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَآتُوهُمْ، أَمر للْمُسلمين على وَجه الْوُجُوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الَّذِي جعل الله لَهُم من بَيت المَال، كَقَوْلِه: وَفِي الرّقاب، عِنْد أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَقيل: معنى: آتوهم، أسلفوهم. وَقيل: أَنْفقُوا عَلَيْهِم بعد أَن يؤدوا أَو يعتقوا، وَهَذَا كُله مُسْتَحبّ، وَقَالَ ابْن بطال: قَول الْجُمْهُور أولى، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يَأْمر موَالِي بَرِيرَة بإعطائها شَيْئا، وَقد كوتبت وبيعت بعد الْكِتَابَة، وَلَو كَانَ الإيتاء وَاجِبا لَكَانَ مُقَدرا كَسَائِر الْوَاجِبَات، حَتَّى إِذا امْتنع السَّيِّد من جعله ادَّعَاهُ عِنْد الْحَاكِم، فَأَما دَعْوَى المجهور فَلَا يحكم بهَا، وَلَو كَانَ الإيتاء وَاجِبا وَهُوَ غير مُقَدّر لَكَانَ الْوَاجِب للْمولى على الْمكَاتب هُوَ الْبَاقِي بعد الْحَط، فَأدى ذَلِك إِلَى جهل مبلغ الْكِتَابَة، وَذَلِكَ لَا يجوز.
وَقَالَ رَوْحٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أوَاجِبٌ عَلَيَّ إذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالا أنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أرَاهُ إلاَّ واجِباً
روح هُوَ ابْن عبَادَة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، حَدثنَا عَليّ بن عبد الله، قَالَ: حَدثنَا روح بن عبَادَة حَدثنَا ابْن جريج بِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قُلْتُ لِعَطاءٍ تأثِرُهُ عنْ أحَدٍ قَالَ لَا ثُمَّ أخْبرني أنَّ مُوسَى بنَ أنَسٍ أخْبرَهُ أنَّ سِيرينَ سألَ أنَساً الْمُكَاتَبَةَ وكانَ كَثيرَ المالِ فأباى فانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ كاتِبْهُ فَأبى فضَرَبَهُ بالدِّرَّةِ ويَتْلُو عُمَرٌ {فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} (النُّور: 33) فكَاتَبَهُ(13/118)
هَكَذَا وَقع: قَالَ عَمْرو، بِدُونِ الضَّمِير الْمَنْصُوب بعد قَالَ فِي النّسخ المروية عَن الْفربرِي، وَظَاهره يدل على أَن هَذَا الْأَثر من عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء، قيل: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن النُّسْخَة الْمُعْتَمد عَلَيْهَا من رِوَايَة النَّسَفِيّ عَن البُخَارِيّ هَكَذَا، وَقَالَهُ عَمْرو بن دِينَار، بالضمير الْمَنْصُوب بعد: قَالَ، أَي: قَالَ القَوْل الْمَذْكُور عَمْرو بن دِينَار، وفاعل: قلت، هُوَ ابْن جريج لَا عَمْرو بن دِينَار، حَاصله أَن عَمْرو ببن دِينَار قَالَ مثل مَا قَالَ عَطاء فِي سُؤال ابْن جريج عَنهُ، لَا أَن عمرا سَأَلَ ذَلِك عَن عَطاء مثل مَا سَأَلَ ابْن جريج. قَوْله: (تأثره) أَي: ترويه عَن أحد من: أثر يأثر أثرا، يُقَال: أثرت الحَدِيث أَثَره إِذا ذكرت عَن غَيْرك، وَمِنْه قيل: حَدِيث مأثور، أَي: يَنْقُلهُ خلف عَن سلف. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: لَا آثره عَن أحد. قَوْله: (ثمَّ أَخْبرنِي) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ ابْن جريج، والمخبر هُوَ عَطاء، كَذَا وَقع مُصَرحًا فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) وَلَفظه: قَالَ ابْن جريج: وَأَخْبرنِي عَطاء أَن مُوسَى بن أنس أخبرهُ. . ابْن سِيرِين وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد بن سِيرِين، وَقد ذكرنَا عَن قريب. وَظَاهره الْإِرْسَال، لِأَن مُوسَى لم يدْرك وَقت سُؤال سِيرِين من أنس الْكِتَابَة، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق والطبري من وَجه آخر مُتَّصِل من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أرادني سِيرِين على الْمُكَاتبَة فأبيت، فَأتى عمر بن الْخطاب فَذكر نَحوه. قَوْله: (فَأبى) أَي: امْتنع من فعل الْكِتَابَة. قَوْله: (فَانْطَلق إِلَى عمر) ، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فاستعداه عَلَيْهِ، وَزَاد فِي آخر الْقِصَّة: فكاتبه أنس، وَقد ذكرنَا عَن ابْن سعد أَنه: كَاتبه على أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم.
فَإِن قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أنس بن سِيرِين عَن أَبِيه قَالَ: كاتبني أنس على عشْرين ألف دِرْهَم. قلت: أُجِيب بِأَنَّهُمَا إِن كَانَا محفوظين يحمل أَحدهمَا على الْوَزْن وَالْآخر على الْعدَد. فَإِن قلت: ضربُ عمر أنسا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يدل على أَن عمر كَانَ يرى بِوُجُوب الْكِتَابَة. قلت: قَالَ ابْن الْقصار: إِنَّمَا علا عمر أنسا بِالدرةِ على وَجه النصح لأنس، وَلَو كَانَت الْكِتَابَة لَزِمت أنسا مَا أَبى، وَإِنَّمَا نَدبه عمر إِلَى الْأَفْضَل. انْتهى. وَفِيه نظر لَا يخفى، لِأَن الضَّرْب غير موجه على ترك الْمَنْدُوب، خُصُوصا من مثل عمر لمثل أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا سِيمَا تَلا عمر قَوْله تَعَالَى {فكاتبوهم} (النُّور: 33) . الْآيَة عِنْد ضربه إيَّاه.
0652 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن بَريرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْها تَسْتَعِينُها فِي كِتَابَتِها وعلَيْها خَمْسَةُ أوَاقِي نُجِّمَتْ عَلَيْها فِي خَمْسِ سِنينَ فقالَتْ لَهَا عائِشَةُ ونَفِسَتْ فِيها أرَأيْتِ إنْ عَدَدْتُ لَهُمْ عَدَّةً واحِدَةً أيَبِيعُكِ أهْلُكِ فأُعْتِقَكِ فَيكونَ وَلاَؤُكِ لِي فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِها فعَرَضَتْ ذَلِكَ علَيْهِمْ فَقَالُوا لاَ إلاَّ أنْ يَكُونَ لَنا الوَلاَءُ قالَتْ عائِشَةُ فدَخَلْتُ علَى رسولِ لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فقالَ لَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِيهَا فأعْتِقِيها فإنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ ثُمَّ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ مَا بالُ رِجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتابِ الله مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتابِ الله فَهْوَ باطِلٌ شَرْطُ الله أحَقُّ وأوْثَقُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نجمت عَلَيْهَا فِي خمس سِنِين) ، وَهَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي كِتَابه فِي عدَّة مَوَاضِع: أَولهَا: فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن يحيى عَن عمْرَة عَن عَائِشَة ... الحَدِيث، وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد فِي مَوْضِعه، وَذكره هُنَا مُعَلّقا، وَوَصله الذهلي فِي الزهريات عَن أبي صَالح كَاتب اللَّيْث عَن اللَّيْث، وَفِيه مقَال من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمَحْفُوظ رِوَايَة اللَّيْث لَهُ عَن ابْن شهَاب نَفسه بِغَيْر وَاسِطَة، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ أَنه رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب، وَكَذَلِكَ أخرجه الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي رجال من أهل الْعلم مِنْهُم يُونُس بن يزِيد وَاللَّيْث بن سعد، عَن ابْن شهَاب حَدثهمْ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة زوج النَّبِي،(13/119)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (جَاءَت بَرِيرَة) الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يُونُس عَن يزِيد عَن ابْن وهب إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة الطَّحَاوِيّ، فاشترك النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي هُنَا فِي يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، وَقد علم من هَذَا أَن يُونُس بن يزِيد رَفِيق اللَّيْث فِيهِ لَا شَيْخه. وَالْوَجْه الآخر: أَنه وَقع فِيهِ مُخَالفَة للروايات الْمَشْهُورَة، وَهُوَ قَوْله: (وَعَلَيْهَا خَمْسَة أَوَاقٍ نجمت عَلَيْهَا فِي خمس سِنِين) ، وَالْمَشْهُور مَا فِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة الَّتِي تَأتي بعد بَابَيْنِ عَن أَبِيه: (أَنَّهَا كاتبت على تسع أَوَاقٍ كل عَام أُوقِيَّة) ، وَقد جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن هَذِه الرِّوَايَة الْمُعَلقَة غلط. قلت: أُجِيب عَنهُ: بِأَن التسع أصل، وَالْخمس كَانَت بقيت عَلَيْهَا، وَبِهَذَا جزم الْقُرْطُبِيّ والمحب الطَّبَرِيّ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة قُتَيْبَة: (وَلم تكن أدَّت من كتَابَتهَا شَيْئا؟ قلت: أُجِيب: بِأَنَّهَا كَانَت حصلت الْأَرْبَع أَوَاقٍ قبل أَن تستعين بعائشة، ثمَّ جاءتها وَقد بَقِي عَلَيْهَا خمس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُجَاب بِأَن الْخمس هِيَ الَّتِي كَانَت اسْتحقَّت عَلَيْهَا لحلول نجومها من جملَة التسع الأواقي الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث هِشَام، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة الَّتِي مَضَت فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ أَهلهَا: إِن شِئْت أَعْطَيْت مَا بَقِي. قَوْله: (دخلت عَلَيْهَا) ، أَي: على عَائِشَة. قَوْله: (تستعينها) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فِي كتَابَتهَا) أَي: فِي مَال كتَابَتهَا. قَوْله: (أواقي) ، جمع أُوقِيَّة، وَهِي أَرْبَعُونَ درهما، وَيجوز فِي الْجمع تَشْدِيد الْيَاء وتخفيفها. قَوْله: (نجمت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، صفة للأواقي. قَوْله: (ونفست فِيهَا) ، جملَة حَالية مُعْتَرضَة بَين القَوْل ومقوله، وَهُوَ بِكَسْر الْفَاء أَي: رغبت، وَمِنْه {فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} (المطففين: 62) . وَإِذا قيل: نفست بِهِ، يكون مَعْنَاهُ: نحلت، ونفست عَلَيْهِ الشَّيْء نفاسة إِذا لم تره لَهُ أَهلا، ونفست الْمَرْأَة تنفس، من بَاب علم يعلم: إِذا حَاضَت. قَوْله: (أَرَأَيْت إِن عددت لَهُم عدَّة وَاحِدَة) ، معنى: أَرَأَيْت: أَخْبِرِينِي، وَمعنى: عددت لَهُم: عددت الْخمس أواقي، وَفِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة: (إِن أحل أهلك أَن أصب لَهُم ثمنك صبة وَاحِدَة وأعتقك؟) كَذَا فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ. قَوْله: (شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله تَعَالَى) ، أَي: لَيْسَ فِي حكم الله تَعَالَى وقضائه فِي كِتَابه أَو سنة رَسُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (شَرط الله أَحَق) ، قَالَ الدَّاودِيّ: شَرط الله هَهُنَا أرَاهُ، وَالله أعلم، هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فإخوانكم فِي الدّين ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 33) . وَقَوله: {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب: 73) . وَقَالَ فِي مَوضِع: هُوَ قَوْله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} (الْبَقَرَة: 881 وَالنِّسَاء: 92) . وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . الْآيَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَعِنْدِي أَن الْأَظْهر هُوَ مَا أعلم بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله: (إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق) ، (وَمولى الْقَوْم مِنْهُم) ، وَالْوَلَاء لحْمَة كالنسب) ، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (كتاب الله أَحَق) ، يحْتَمل أَن يُرِيد: حكمه، وَيحْتَمل أَن يُرِيد الْقرَان.
وَفِيه فَوَائِد كصيرة: تكلم الْعلمَاء فِيهِ كثيرا جدا لِأَنَّهُ رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة وطرق مُتَغَايِرَة، حَتَّى أَن مُحَمَّد بن جرير صنف فِي فَوَائده مجلداً، وَقد ذكرنَا أَكْثَرهَا فِيمَا مضى فِي كتاب الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهَا، وَمن أعظم فَوَائده مَا احْتج بِهِ قوم على فَسَاد البيع بِالشّرطِ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَذهب قوم إِلَى أَن البيع صَحِيح وَالشّرط بَاطِل، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى مفصلا.
2 - (بابُ مَا يَجوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتِبِ ومنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كتابِ الله تَعَالَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يجوز من شُرُوط الْمكَاتب، وَمن جملَة شُرُوط الْمكَاتب قبُوله العقد وَذكر مَال الْكِتَابَة، سَوَاء كَانَ حَالا أَو مُؤَجّلا أَو منجماً. وَعند الشَّافِعِي: إِذا شَرط حَالا لَا يكون كِتَابَة، بل يكون عتقا، وَمن شُرُوطه: أَن يكون عَاقِلا بَالغا، وَيجوز عندنَا أَيْضا إِذا كَانَ صَغِيرا مُمَيّزا بِأَن يعرف أَن البيع سالب وَالشِّرَاء جالب. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) وَإِذا كَانَ لَا يعقل لَا يجوز إلاَّ إِذا قبل عَنهُ إِنْسَان فَإِنَّهُ يجوز ويتوقف على إِدْرَاكه، فَإِن أدّى هَذَا الْقَابِل عتق، وَعند زفر: لَهُ اسْتِرْدَاده وَهُوَ الْقيَاس، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب إلاَّ ذكر شَرط الْوَلَاء. قَوْله: (وَمن اشْترط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى) وَهُوَ الشَّرْط الَّذِي خَالف كتاب الله أَو سنة رَسُوله أَو إِجْمَاع الْأمة، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: معنى (لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى) لَيْسَ فِي حكم الله جَوَازه أَو وُجُوبه، لَا أَن كل من شَرط شرطا لم ينْطق بِهِ الْكتاب يبطل، لِأَنَّهُ قد يشْتَرط فِي البيع الْكَفِيل فَلَا يبطل الشَّرْط، وَيشْتَرط فِي الثّمن شُرُوطًا من أَوْصَافه أَو من نجومه وَنَحْو ذَلِك فَلَا يبطل.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: الشَّرْط فِي البيع أَقسَام: أَحدهَا: يَقْتَضِيهِ إِطْلَاق العقد، كَشَرط تَسْلِيمه. الثَّانِي: شَرط فِيهِ مصلحَة كَالرَّهْنِ وهما جائزان اتِّفَاقًا. الثَّالِث:(13/120)
اشْتِرَاط الْعتْق فِي العَبْد، وَهُوَ جَائِز عِنْد الْجُمْهُور لحَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة. الرَّابِع: مَا يزِيد على مُقْتَضى العقد وَلَا مصلحَة فِيهِ للْمُشْتَرِي كاستثناء منفعَته فَهُوَ بَاطِل.
فِيه ابنُ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَعْنِي فِي هَذَا الْبَاب عبد الله بن عمر يروي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر فِيهِ عَن ابْن عمر أَي: رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث ابْن عمر الَّذِي يَأْتِي فِي آخر الْبَاب.
1652 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخبرَتْهُ أنَّ بَرِيرَةَ جاءَتْ تَسْتَعِينُها فِي كِتابَتِها ولَمْ تَكُنْ قَضتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئاً قالَتْ لَهَا عائِشَةُ ارْجِعِي إلَى أهْلِك فإنْ أحَبُّوا أنْ أقْضِي عَنْكِ كِتَابَتَكِ ويكُونُ وَلاؤكِ لِي فعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذالِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فأبَوْا وَقَالُوا إنْ شَاءَتْ أنْ تَحْتَسِبَ علَيْكِ فَلْتَفْعَلْ ويكُونَ وَلاَؤُكِ لَنا فَذَكَرَتْ ذالِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعِي فأعْتِقي فإنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أعْتقَ قَالَ ثُمَ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا بالُ أُناسٍ يَشْتَرِطُونَ شُروطاً لَيْسَتْ فِي كِتابِ الله مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وإنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ الله أحقُّ وأوْثَقُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: من اشْترط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الله. قَوْله: (إِلَى أهلك) المُرَاد بِهِ هُنَا: السَّادة. قَوْله: (فعلت) جَوَاب. قَوْله: (فَإِن أَحبُّوا) . قَوْله: (فَأَبَوا) ، أَي: امْتَنعُوا عَن كَون الْوَلَاء لعَائِشَة. قَوْله: (أَن تحتسب) ، أَي: إِذا أَرَادَت الثَّوْب عِنْد الله وَأَن لَا يكون لَهَا الْوَلَاء. قَوْله: (مَا بَال أنَاس؟) ، أَي: مَا شَأْنهمْ؟ قَوْله: (وَإِن شَرط مائَة مرّة) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: مائَة شَرط، قَالَ النَّوَوِيّ: معنى: مائَة شَرط، أَنه لَو: شَرط مائَة مرّة توكيداً فَهُوَ بَاطِل. قلت: مثل هَذَا يذكر للْمُبَالَغَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْله: وَلَو كَانَ مائَة شَرط، خرج مخرج التكثير، يَعْنِي: أَن الشُّرُوط الْغَيْر الْمَشْرُوعَة بَاطِلَة وَلَو كثرت.
3652 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالكٌ عَن نافِعٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أرادَت عائشَةُ أُمُّ المُؤْمِنينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنْ تَشْتَرِيَ جارِيَةً لِتُعْتِقَها فَقَالَ أهْلُها على أنَّ ولاءَهَا لَنا قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَمْنعُ ذالِك فإنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (على أَن ولاءها لنا) ، لِأَن هَذَا شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله عز وَجل، وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي الْفَرَائِض عَن إِسْمَاعِيل وقتيبة فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيُوع جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة. قَوْله: (لَا يمنعك) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: لَا نَمْنَعك بنُون، وَرِوَايَة مُسلم مثل الأول، وَالله أعلم.
3 - (بابُ اسْتِعانَةِ المُكَاتِبَ وسؤالِهِ النَّاسَ)
هَذَا بَاب فِي بَيَان استعانة الْمكَاتب، أَي: طلبه العون من غَيره ليعينه بِشَيْء يضمه إِلَى مَال الْكِتَابَة، يَعْنِي: يجوز لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أقرّ بَرِيرَة على سؤالها من عَائِشَة واستعانتها مِنْهَا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن الِاسْتِعَانَة تقع بالسؤال وَبِغَيْرِهِ. انْتهى. قلت: هَذَا كَأَنَّهُ مَا الْتفت إِلَى سين الِاسْتِعَانَة، فَإِنَّهَا للطلب، والطلب لَا يكون إلاَّ من غَيره.
45 - (حَدثنَا عبيد بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة(13/121)
رَضِي الله عَنْهَا قَالَت جَاءَت بَرِيرَة فَقَالَت إِنِّي كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ فِي كل عَام أُوقِيَّة فأعينيني فَقَالَت عَائِشَة إِن أحب أهلك أَن أعدهَا لَهُم عدَّة وَاحِدَة وأعتقك فعلت وَيكون ولاؤك لي فَذَهَبت إِلَى أهليها فَأَبَوا ذَلِك عَلَيْهَا فَقَالَت إِنِّي قد عرضت ذَلِك عَلَيْهِم فَأَبَوا إِلَّا أَن يكون الْوَلَاء لَهُم فَسمع بذلك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرته فَقَالَ خذيها فأعتقيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق قَالَت عَائِشَة فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّاس فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد فَمَا بَال رجال مِنْكُم يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله فأيما شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة شَرط فقضاء الله أَحَق وَشرط الله أوثق مَا بَال رجال مِنْكُم يَقُول أحدهم أعتق يَا فلَان ولي الْوَلَاء إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فأعينيني. وَعبيد بن إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أُسَامَة وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام رَضِي الله عَنْهُم قَوْله " فأعينيني " كَذَا هُوَ بِصِيغَة الْأَمر للمؤنث فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فأعيتني بِصِيغَة الْمَاضِي من الإعياء وَهُوَ الْعَجز وَالْمعْنَى فأعيتني تسع أَوَاقٍ لعجزي عَن تَحْصِيلهَا وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَغَيره من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام فأعتقيني بِصِيغَة الْأَمر من الْإِعْتَاق وَالثَّابِت فِي طَرِيق مَالك وَغَيره عَن هِشَام هُوَ الأول قَوْله " واشترطي " قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت هَذَا مُشكل من حَيْثُ أَن هَذَا الشَّرْط يفْسد العقد وَمن حَيْثُ أَنَّهَا خدعت البائعين حَيْثُ شرطت لَهُم مَا لَا يحصل لَهُم وَكَيف أذن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعَائِشَة فِي ذَلِك (قلت) أول بِأَن مَعْنَاهُ اشترطي عَلَيْهِم كَقَوْلِه تَعَالَى وَإِن أسأتم فلهَا أَو أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء وَبِأَن المُرَاد التوبيخ لَهُم لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد بَين لَهُم أَن هَذَا الشَّرْط لَا يَصح فَلَمَّا لجوا فِي اشْتِرَاطه قَالَ ذَلِك أَي لَا تبالي بِهِ سَوَاء شرطتيه أم لَا وَالأَصَح أَنه من خَصَائِص عَائِشَة لَا عُمُوم لَهُ وَالْحكمَة فِي إِذْنه ثمَّ إِبْطَاله أَن يكون ألمغ فِي قطع عَادَتهم وزجرهم عَن مثله انْتهى قلت اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَمنهمْ من أنكر الشَّرْط فِي الحَدِيث فروى الْخطابِيّ فِي المعالم بِسَنَدِهِ إِلَى يحيى بن أكتم أَنه أنكر وَعَن الشَّافِعِي فِي الْأُم الْإِشَارَة إِلَى تَضْعِيف رِوَايَة هِشَام المصرحة بالاشتراط لكَونه انْفَرد بهَا دون أَصْحَاب أَبِيه ورد مَا نقل عَن يحيى بِمَا حكى الْخطابِيّ عَن ابْن خُزَيْمَة أَن قَول يحيى بن أكتم غلط وَكَذَلِكَ رد مَا نقل عَن الشَّافِعِي بِأَن الَّذِي فِي الْأُم ومختصر الْمُزنِيّ وَغَيرهمَا عَن الشَّافِعِي كَرِوَايَة الْجُمْهُور واشترطي بِصِيغَة الْأَمر للمؤنث من الشَّرْط وَقَالَ الطَّحَاوِيّ حَدثنِي الْمُزنِيّ بِهِ عَن الشَّافِعِي بِلَفْظ واشرطي بِهَمْزَة قطع بِغَيْر تَاء مثناة من فَوق ثمَّ وَجهه بِأَن مَعْنَاهُ أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء والإشراط بِكَسْر الْهمزَة الْإِظْهَار قَالَ بَعضهم وَأنكر غَيره هَذِه الرِّوَايَة قلت لَا مجَال لإنكارها لِأَن كل وَاحِد من الطَّحَاوِيّ والمزني ثِقَة ثَبت لَا يشك فِيمَا روياه وَلَا يلْزم أَن يكون هَذَا الَّذِي نَقله الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ أَن يكون الشَّافِعِي ذكره فِي الْأُم والمزني أعرف بِحَالهِ قَوْله " فقضاء الله أَحَق " أَي حكم الله أَحَق بالاتباع من الشُّرُوط الْمُخَالفَة لَهُ قَوْله " وَشرط الله أوثق " أَي بِاتِّبَاع حُدُوده الَّتِي حَدهَا وَهنا أفعل التَّفْضِيل لَيْسَ على بَابه لِأَنَّهُ لَا مُشَاركَة بَين الْحق وَالْبَاطِل وَقد يرد أفعل لغير التَّفْضِيل كثيرا -
4 - (بابُ بَيْعِ المُكَاتِبِ إذَا رَضِيَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز بيع الْمكَاتب، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: بَاب بيع الْمُكَاتبَة، وَالْأول أصح لقَوْله: إِذا رَضِي بِالْبيعِ، وَلَو لم يعجز نَفسه، وَهُوَ قَول أَحْمد وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأبي ثَوْر وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أصح الْقَوْلَيْنِ، وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لَا يجوز. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : قَالَ مَالك: لَا يجوز بيع الْمكَاتب إلاَّ أَن يعجز عَن الْأَدَاء فَإِن لم يعجز عَن الْأَدَاء فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لسَيِّده بَيْعه، وَقَالَ ابْن شهَاب(13/122)
وَأَبُو الزِّنَاد وَرَبِيعَة: لَا يجوز بَيْعه إلاَّ بِرِضَاهُ، فَإِن رَضِي بِالْبيعِ فَهُوَ عجز مِنْهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعَطَاء وَاللَّيْث وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: يجوز بَيْعه على أَن يمْضِي فِي كِتَابَته، فَإِن أدّى عتق وَكَانَ وَلَاؤُه للَّذي ابتاعه، وَإِن عجز فَهُوَ عبد لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز بيع الْمكَاتب مَا دَامَ مكَاتبا حَتَّى يعجز، وَلَا يجوز بيع كِتَابَته، قَالَ: وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بِمصْر، وَكَانَ بالعراق يَقُول: يجوز بَيْعه، وَأما بيع كِتَابَته فَغير جَائِز بِحَال.
وقالتْ عائِشَةُ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِي علَيْهِ شَيْءٌ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن عمرَان ابْن بشير عَن سَالم عَن عَائِشَة، قَالَت: إِنَّك عبد مَا بَقِي عَلَيْك شَيْء. قَالَ: وَحدثنَا أَبُو بشر حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة وشجاع ابْن الْوَلِيد عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ: اسْتَأْذَنت على عَائِشَة، فَقَالَت: كم بَقِي عَلَيْك من كتابتك؟ قلت: عشر أَوَاقٍ. قَالَت: أَدخل فَإنَّك عبد مَا بَقِي عَلَيْك شَيْء، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: مَا بَقِي عَلَيْك دِرْهَم. قلت: سُلَيْمَان بن يسَار أَبُو أَيُّوب الْهِلَالِي الْمدنِي مولى مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن سعد: وَيُقَال: إِن سُلَيْمَان بن يسَار نَفسه كَانَ مكَاتبا لأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأما سَالم الَّذِي فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا فَهُوَ سَالم بن عبد الله النصري، بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة: أَبُو عبد الله الْمدنِي، وَهُوَ سَالم مولى شَدَّاد بن الْهَاد، وَهُوَ سَالم مولى مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، مولى النصريين، وَهُوَ سَالم سبلان، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: أَن زيد بن ثَابت قَالَ فِي الْمكَاتب: هُوَ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أَنبأَنَا سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: كَانَ زيد بن ثَابت يَقُول: الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من كِتَابَته.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ هُوَ عبْدٌ إنْ عاشَ وإنْ ماتَ وإنْ جَنى مَا بَقِيَ عليْهِ شَيْءٌ
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر: هُوَ عبد أَي: الْمكَاتب عبد ... إِلَى آخِره، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ عَن يُونُس: أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي أُسَامَة بن زيد وَمَالك بن أنس عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من كِتَابَته شَيْء، ذكر فِي أثر ابْن عمر ثَلَاثَة أَشْيَاء: حَيَاة الْمكَاتب، وَمَوته، وجنايته.
أما فِي حَيَاته فَإِنَّهُ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من مَال الْكِتَابَة، وَلَا يعْتق إلاَّ بأَدَاء كل الْبَدَل عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، إلاَّ عِنْد ابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُ يعْتق بِنَفس العقد، وَهُوَ غَرِيم الْمولى بِمَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة، وَعند عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يعْتق بِقدر مَا أدّى، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة، وَيعتق بِأَدَائِهِ جَمِيع الْكِتَابَة عندنَا، وَإِن لم يقل الْمولى: إِذا أديتها فَأَنت حر، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يعْتق مَا لم يقل كاتبتك على كَذَا إِن أديته فَأَنت حر.
وَأما فِي مَوته فَإِنَّهُ إِذا مَاتَ وَله مَال لم تَنْفَسِخ الْكِتَابَة، وَقضى مَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة وَحكم بِعِتْقِهِ فِي آخر جُزْء من أَجزَاء حَيَاته، وَمَا بَقِي من ذَلِك فَهُوَ لوَرثَته، وَيعتق أَوْلَاده المولودون فِي الْكِتَابَة، وَكَذَا المشترون فِيهَا، وَهَذَا عندنَا، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وَالثَّوْري. وَقَالَ الشَّافِعِي: تبطل الْكِتَابَة بِمَوْت الْمكَاتب عبدا وَمَا ترك لمَوْلَاهُ، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَهُوَ قَول قَتَادَة وَأبي سُلَيْمَان، وَإِذا مَاتَ الْمولى لَا تبطل الْكِتَابَة، وَيُقَال: للْمكَاتب أد المَال إِلَى وَرَثَة الْمولى على نجومه.
وَأما فِي جِنَايَته، فَإِن الْمولى يدْفع قيمَة وَاحِدَة وَلَا يُزَاد عَلَيْهَا وَإِن تَكَرَّرت الْجِنَايَة، وَكَذَا فِي أم الْوَلَد والمدير، بِخِلَاف الْقِنّ فَإِن الدّفع يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْجِنَايَة.
4652 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن يَحْياى بنِ سَعيدٍ عنْ عَمْرَةَ بنْتِ عَبْدِ الرحْمانِ أنَّ بَرِيرَةَ تَسْتَعِينُ عائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا فقالَتْ لَها إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أصُبَّ لَهُمْ(13/123)
ثَمَنَكِ صَبَّةً واحِدَةً فعَلْتُ فَذَكَرَتْ بَرِيرَةَ ذالِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا لاَ إلاَّ أنْ يَكُونَ الوَلاَءُ لَنا قَالَ مالِكٌ قَالَ يَحْياى فَزَعَمَتْ عَمْرَةَ أنَّ عائِشَةَ ذَكَرَتْ ذالِكَ لِرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اشْتَرِيهَا وأعْتِقِيهَا فإنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اشتريها، لِأَن أمره بِالشِّرَاءِ يدل على جَوَاز البيع، وَهُوَ حجَّة الشَّافِعِي فِي جَوَاز بيع الْمكَاتب، وَهُوَ قَوْله الْمصْرِيّ، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (إلاَّ أَن يكون الْوَلَاء) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ أَن يكون ولاؤك. قَوْله: (قَالَ يحيى) ، هُوَ ابْن سعيد، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (فَزَعَمت عمْرَة) أَي: قَالَت، والزعم يسْتَعْمل بِمَعْنى القَوْل الْمُحَقق. قَوْله: (فَإِنَّمَا الْوَلَاء) ، أَشَارَ بِكَلِمَة: إِنَّمَا، الَّتِي هِيَ للحصر: أَن الْوَلَاء لمن أعتق لَا غير.
5 - (بابٌ إِذا قَالَ المُكاتِبُ اشْتَرِني وأعْتِقْنِي فاشْتَرَاهُ لِذالِكَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ الْمكَاتب لأحد: اشترني من مولَايَ وأعتقني، فَاشْتَرَاهُ لتِلْك أَي: لِلْعِتْقِ وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، تَقْدِيره: جَازَ.
5652 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قَالَ حدَّثني أبي أيْمَنُ قَالَ دخلْتُ علَى عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فقُلْتُ كُنْتُ لِعُتْبَةَ بنِ أبِي لَهَبٍ وماتَ ووَرِثَنِي بَنُوهُ وإنَّهُمْ باعُونِي مِنْ ابنِ أبِي عَمْرٍ وفأعْتَقَنِي ابنُ أبي عَمْرٍ وواشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ الوَلاءَ فقالَتْ دَخَلَتْ بَريرَةُ وهْيَ مُكاتَبَةٌ فقالتْ اشْتَرِيني وأعْتِقِيني قالَتْ نَعَمْ قالَتْ لَا يَبِيعُونِي حتَّى يَشْتَرِطُوا ولائِي فقالَتْ لاَ حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ فَسَمِعَ بِذالِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ بَلَغَهُ فذَكَرَ لِعائِشَةَ فَذَكَرَتْ عائِشَةُ مَا قالَتْ لَها فَقَالَ اشْتَرِيها وأعْتِقِيهَا ودَعِيهِمْ يَشْترِطُونَ مَا شَاؤُا فاشْتَرَتْها عائِشَةُ فأعْتَقَتْها واشْتَرَطَ أهلُها الوَلاءَ فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ وإنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اشتريني وأعتقيني) ، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره، وَعبد الْوَاحِد ابْن أَيمن ضد الْأَيْسَر المَخْزُومِي الْمَكِّيّ وأيمن الحبشي مولى ابْن أبي عَمْرو المَخْزُومِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى خَمْسَة أَحَادِيث، هَذَا وآخران عَن عَائِشَة، وحديثان عَن جَابر، وَكلهَا مُتَابعَة. وَلم يروِ عَنهُ غير وَلَده عبد الْوَاحِد، وإيمن الحبشي هَذَا، غير أَيمن بن نائل الحبشي، وَكِلَاهُمَا مكيان، غير أَن أَيمن وَالِد عبد الْوَاحِد نزيل الْمَدِينَة، وأيمن بن نائل نزيل عسقلان، وَكِلَاهُمَا من التَّابِعين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط عَن خَلاد بن يحيى.
قَوْله: (كنت لعتبة) ، ويروى: (كنت غُلَاما لعتبة) ، وَلَفظ الْغُلَام مُقَدّر فِي الرِّوَايَة الَّتِي لم يذكر فِيهَا. وَعتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن أبي لَهب عبد الْعُزَّى بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي، أسلم يَوْم الْفَتْح هُوَ وَأَخُوهُ معتب، وَلم يهاجرا من مَكَّة، وأخوهما عتيبة بِالتَّصْغِيرِ مَاتَ كَافِرًا. قَوْله: (بنوه) ، أَي: بَنو عتبَة، وهم: الْعَبَّاس وَأَبُو خرَاش وَهِشَام وَيزِيد. قَوْله: (من ابْن أبي عَمْرو) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي: من عبد الله بن أبي عَمْرو، وَزَاد الْكشميهني من عبد الله بن أبي عَمْرو بن عبد الله المَخْزُومِي. قَوْله: (أَو بلغه؟) ، شكّ من الرَّاوِي أَي: أَو بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله: (فَذكر) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك لعَائِشَة. قَوْله: (ودعيهم) ، أَي: اتركيهم وَلَا تتعرضي لَهُم فِيمَا يشترطون مَا شاؤا من الْوَلَاء. قَوْله: (مائَة شَرط) ، هُوَ بِمَعْنى الْمصدر ليُوَافق الرِّوَايَة الْأُخْرَى: مائَة مرّة، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.(13/124)
بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ
15 - (كتابُ الهِبَةِ وفَضْلِها والتَّحْرِيضِ عَلَيْها)
1 - (بابُ الْهِبَة وفضلها والتحريض عَلَيْهَا)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْهِبَة وَبَيَان فَضلهَا وَبَيَان التحريض عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَابْن شبويه: والتحريض فِيهَا، واستعماله: بعلى، أَكثر. والتحريض على الشَّيْء: الْحَث والإغراء عَلَيْهِ، والبسملة مُقَدّمَة على قَوْله: كتاب الْهِبَة، عِنْد الْكل إلاَّ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، فَإِنَّهَا مَذْكُورَة بعده، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أصل الْهِبَة من هبوب الرّيح أَي: مروره. قلت: هَذَا غلط صَرِيح بل الْهِبَة مصدر من: وهب يهب، وَأَصلهَا: وهب، لِأَنَّهُ معتل الْفَاء كالعدة أَصْلهَا: وعد، فَلَمَّا حذفت الْوَاو تبعا لفعله عوضت عَنْهَا الْهَاء، فَقيل: هبة وعدة، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَة: إِيصَال الشَّيْء للْغَيْر بِمَا يَنْفَعهُ، سَوَاء كَانَ مَالا أَو غير مَال: يُقَال: وهبت لَهُ مَالا، ووهب الله فلَانا ولدا صَالحا، وَيُقَال: وهبه مَالا أَيْضا، وَلَا يُقَال: وهب مِنْهُ، وَيُسمى الْمَوْهُوب: هبة وموهبة، وَالْجمع: هبات ومواهب، واتهبه مِنْهُ: إِذا قبله، واستوهبه إِيَّاه: إِذا طلب الْهِبَة وَفِي الشَّرْع: الْهِبَة تمْلِيك المَال بِلَا عوض، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْهِبَة تمْلِيك بِلَا عوض، وتحتها أَنْوَاع: كالإبراء: وَهِي هبة الدّين مِمَّن عَلَيْهِ، وَالصَّدَََقَة: وَهِي الْهِبَة لثواب الْآخِرَة، والهدية: وَهِي مَا ينْقل إِلَى الْمَوْهُوب مِنْهُ إِكْرَاما لَهُ. وَأخذ بَعضهم كَلَام الْكرْمَانِي هَذَا، وَذكر التَّقْسِيم الْمَذْكُور بعد أَن قَالَ: الْهِبَة تطلق بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ على أَنْوَاع، ثمَّ قَالَ: وَتطلق الْهِبَة بِالْمَعْنَى الْأَخَص على مَا لَا يقْصد لَهُ بدل، وَعَلِيهِ ينطبق قَول من عرف الْهِبَة بِأَنَّهَا: تمْلِيك بِلَا عوض. انْتهى. قلت: تَقْسِيم الْهِبَة إِلَى الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة لَيْسَ بِالنّظرِ إِلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، لِأَن الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تنطبق على الْمَعْنى اللّغَوِيّ لَا الشَّرْعِيّ، فَافْهَم.
1 - (حَدثنَا عَاصِم بن عَليّ قَالَ حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَا نسَاء المسلمات لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ تحريضا على الْخَيْر إِلَى أحد وَلَو كَانَ بِشَيْء حقير وَهُوَ دَاخل فِي معنى الْهِبَة من حَيْثُ اللُّغَة. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة على رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين خَمْسَة الأول عَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب أَبُو الْحُسَيْن مولى قريبَة بنت مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ الثَّانِي مُحَمَّد بن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب واسْمه هِشَام الثَّالِث سعيد المَقْبُري الرَّابِع أَبوهُ كيسَان الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة وكيسان سقط فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَالصَّوَاب إثْبَاته وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ عَن ابْن أبي ذِئْب يحيى الْقطَّان وَأَبُو معشر عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة من غير ذكر أَبِيه وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي معشر عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة لم يقل عَن أَبِيه وَزَاد فِي أَوله " تهادوا فَإِن الْهَدِيَّة تذْهب وحر الصَّدْر " وَقَالَ غَرِيب وَأَبُو معشر يضعف وَقَالَ الطرقي أَنه أَخطَأ فِيهِ حَيْثُ لم يقل عَن أَبِيه (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه من أهل وَاسِط وَأَنه من أَفْرَاده وَبَقِيَّة الروَاة مدنيون وَفِيه أَن أحدهم مَذْكُور بنسبته إِلَى أحد أجداده كَمَا ذكرنَا وَالْآخر مَذْكُور بنسبته إِلَى مَقْبرَة الْمَدِينَة لأجل سكناهُ فِيهَا والْحَدِيث أخرجه مُسلم قَالَ حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ أخبرنَا اللَّيْث بن سعيد وَحدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا لَيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُول " يَا نسَاء المسلمات لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة " (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يَا نسَاء المسلمات " ذكر عِيَاض فِي إعرابه ثَلَاثَة أوجه. أَصَحهَا وأشهرها نصب النِّسَاء وجر المسلمات على الْإِضَافَة قَالَ الْبَاجِيّ وَبِهَذَا روينَاهُ عَن جَمِيع شُيُوخنَا بالمشرق وَهُوَ من بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه والموصوف إِلَى صفته والأعم إِلَى الْأَخَص كمسجد الْجَامِع وجانب الغربي وَهُوَ عِنْد الْكُوفِيّين جَائِز على ظَاهره وَعند الْبَصرِيين(13/125)
يقدرُونَ فِيهِ محذوفا أَي مَسْجِد الْمَكَان الْجَامِع وجانب الْمَكَان الغربي وَيقدر هُنَا يَا نسَاء الْأَنْفس المسلمات أَو الْجَمَاعَات الْمُؤْمِنَات وَقيل تَقْدِيره يَا فاضلات المسلمات كَمَا يُقَال هَؤُلَاءِ رجال الْقَوْم أَي ساداتهم وأفاضلهم. الْوَجْه الثَّانِي رفع النِّسَاء وَرفع المسلمات على معنى النداء وَالصّفة أَي يَا أيتها النِّسَاء المسلمات قَالَ الْبَاجِيّ كَذَا يرويهِ أهل بلدنا. الْوَجْه الثَّالِث رفع النِّسَاء وَكسر التَّاء من المسلمات على أَنه مَنْصُوب على الصّفة على الْموضع كَمَا يُقَال يَا زيد الْعَاقِل بِرَفْع زيد وَنصب الْعَاقِل قَوْله " جَارة " الجارة مؤنث الْجَار وَيُقَال للزَّوْجَة جَار لِأَنَّهَا تجاور زَوجهَا فِي مَحل وَاحِد وَقيل الْعَرَب تكني عَن الضرة بالجارة تطيرا من الضَّرَر وَمِنْه كَانَ ابْن عَبَّاس ينَام بَين جَارِيَته قَوْله " لجارتها " ظَاهره الْمَرْأَة الَّتِي تجاور الْمَرْأَة الَّتِي تسمى جَارة مؤنث الْجَار وَقَالَ الْكرْمَانِي لجارتها مُتَعَلق بِمَحْذُوف أَي لَا تحقرن جَارة هَدِيَّة مهداة لجارتها بَالغ فِيهِ حَتَّى ذكر أَحْقَر الْأَشْيَاء من أبْغض البغيضين إِذا حمل لفظ الجارة على الضرة وجارتها بالضمير فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر لَا تحقرن جَارة لجارة بِلَا ضمير قَوْله " وَلَو فرسن شَاة " يَعْنِي وَلَو أَنَّهَا تهدي فرسن شَاة وَالْمرَاد مِنْهُ الْمُبَالغَة فِي إهداء الشَّيْء الْيَسِير لَا حَقِيقَة الفرسن لِأَنَّهُ لم تجر الْعَادة فِي المهاداة بِهِ وَالْمَقْصُود أَنَّهَا تهدي بِحَسب الْمَوْجُود عِنْدهَا وَلَا يستحقر لقلته لِأَن الْجُود بِحَسب الْمَوْجُود والوجود خير من الْعَدَم هَذَا ظَاهر الْكَلَام وَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي وَاقعا للمهدى إِلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تحتقر مَا يهدى إِلَيْهَا وَلَو كَانَ حَقِيرًا والفرسن بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَكسر السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون قَالَ ابْن دُرَيْد هُوَ ظَاهر الْخُف وَالْجمع فراسن وَفِي الْمُحكم هِيَ طرف خف الْبَعِير انْتهى حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي الثلاثي وَلَا يُقَال فِي جمعه فرسنات كَمَا قَالُوا خناصر وَلم يَقُولُوا خنصرات وَفِي الْمُخَصّص هُوَ عِنْد سِيبَوَيْهٍ فعلن وَلم يحك فِي الْأَسْمَاء غَيره وَقَالَ أَبُو عبيد السلَامِي عِظَام الْفرس كلهَا وَفِي الْجَامِع هُوَ من الْبَعِير بِمَنْزِلَة الظفر من الْإِنْسَان وَفِي المغيث هُوَ عظم قَلِيل اللَّحْم وَهُوَ للشاة وَالْبَعِير بِمَنْزِلَة الْحَافِر للدابة وَقيل هُوَ خف الْبَعِير وَفِي الصِّحَاح رُبمَا استعير للشاة وَقَالَ ابْن السراج النُّون زَائِدَة وَقَالَ الْأَصْمَعِي الفرسن مَا دون الرسغ من يَد الْبَعِير وَهِي مُؤَنّثَة. وَفِي الحَدِيث الحض على التهادي وَلَو باليسير لما فِيهِ من استجلاب الْمَوَدَّة وإذهاب الشحناء وَلما فِيهِ من التعاون على أَمر الْمَعيشَة والهدية إِذا كَانَت يسيرَة فَهِيَ أدل على الْمَوَدَّة وَأسْقط للمؤنة وأسهل على الْمهْدي لإطراح التَّكْلِيف وَالْكثير قد لَا يَتَيَسَّر كل وَقت والمواصلة باليسير تكون كالكثير
2 - (حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عبد الله الأويسي قَالَ حَدثنَا ابْن أبي حَازِم عَن أَبِيه عَن يزِيد بن رُومَان عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لعروة ابْن أُخْتِي إِن كُنَّا لنَنْظُر إِلَى الْهلَال ثمَّ الْهلَال ثمَّ الْهلَال ثَلَاثَة أهلة فِي شَهْرَيْن وَمَا أوقدت فِي أَبْيَات رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَار فَقلت يَا خَالَة مَا كَانَ يعيشكم قَالَت الأسودان التَّمْر وَالْمَاء إِلَّا أَنه قد كَانَ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جيران من الْأَنْصَار كَانَت لَهُم منائح وَكَانُوا يمنحون رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ألبانهم فيسقينا) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله وَكَانُوا يمنحون رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ألبانهم وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا يهْدُونَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ألبان منايحهم. وَفِي الْهَدِيَّة معنى الْهِبَة على مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عَمْرو بن أويس بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة ونسبته إِلَيْهِ. الثَّانِي عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم واسْمه سَلمَة بن دِينَار. الثَّالِث أَبوهُ سَلمَة بن دِينَار. الرَّابِع يزِيد من الزِّيَادَة ابْن رُومَان بِضَم الرَّاء أَبُو روح مولى آل الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده. وَفِيه أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَالَته. وَفِيه ثَلَاثَة(13/126)
من التَّابِعين على نسق وَاحِد. الأول أَبُو حَازِم سَلمَة. وَالثَّانِي يزِيد بن رُومَان. وَالثَّالِث عُرْوَة. وَفِيه رِوَايَة الرَّاوِي عَن أَبِيه والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن يحيى بن يحيى. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " ابْن أُخْتِي " يَعْنِي يَا ابْن أُخْتِي وحرف النداء مَحْذُوف وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالله يَا ابْن أُخْتِي وَأم عُرْوَة أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق وَهِي أُخْت عَائِشَة بنت أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَوْله " إِن كُنَّا " إِن هَذِه مُخَفّفَة من أَن المثقلة فَتدخل على الجملتين فَإِن دخلت على الاسمية جَازَ إعمالها خلافًا للكوفيين وَإِن دخلت على الفعلية وَجب إهمالها وَالْأَكْثَر أَن يكون الْفِعْل مَاضِيا نَاسِخا وَهَهُنَا كَذَلِك لِأَنَّهَا دخلت على الْمَاضِي النَّاسِخ لِأَن كَانَ من النواسخ وَاللَّام فِي لنَنْظُر عِنْد سِيبَوَيْهٍ والأكثرين لَام الِابْتِدَاء دخلت لتوكيد النِّسْبَة وتخليص الْمُضَارع للْحَال وللفرق بَين أَن المخففة من المثقلة وَأَن النافية وَلِهَذَا صَارَت لَازِمَة بعد أَن كَانَت جَائِزَة وَزعم أَبُو عَليّ وَأَبُو الْفَتْح وَجَمَاعَة أَنَّهَا لَام غير لَام الِابْتِدَاء اجتلب للْفرق قَوْله " ثَلَاثَة أهلة " بِالنّصب تَقْدِيره نرى ثَلَاثَة أهلة ونكملها فِي شَهْرَيْن بِاعْتِبَار رُؤْيَة الْهلَال فِي أول الشَّهْر الأول ثمَّ بِرُؤْيَتِهِ فِي أول الشَّهْر الثَّانِي ثمَّ بِرُؤْيَتِهِ فِي أول الشَّهْر الثَّالِث فَيصدق عَلَيْهِ ثَلَاثَة أهلة وَلَكِن الْمدَّة سِتُّونَ يَوْمًا وَفِي الرقَاق من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه بِلَفْظ كَانَ يَأْتِي علينا الشَّهْر مَا نوقد فِيهِ نَارا وَفِي رِوَايَة ابْن ماجة من طَرِيق أبي سَلمَة عَن عَائِشَة بِلَفْظ لقد كَانَ يَأْتِي على آل مُحَمَّد الشَّهْر مَا يرى فِي بَيت من بيوته الدُّخان قَوْله " وَمَا أوقدت " على صِيغَة الْمَجْهُول من الإيقاد قَوْله " يَا خَالَة " بِضَم التَّاء لِأَنَّهُ منادى مُفْرد قَوْله " مَا كَانَ يعيشكم " بِضَم الْيَاء من أعاشه الله تَعَالَى عيشة وَقَالَ النَّوَوِيّ بِفَتْح الْعين وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة قَالَ وَفِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة يَعْنِي فِي نسخ مُسلم فَمَا كَانَ يقيتكم من الْقُوت صرح بذلك القونوي فِي مُخْتَصر شرح مُسلم وَقَالَ بَعضهم وَفِي بعض النّسخ مَا يغنيكم بِسُكُون الْمُعْجَمَة بعْدهَا نون مَكْسُورَة ثمَّ تَحْتَانِيَّة سَاكِنة انْتهى (قلت) كَأَنَّهُ صحف عَلَيْهِ فَجعله من الاغناء وَلَيْسَ هُوَ الْأَمْن الْقُوت فعلى قَوْله تكون هَذِه رِوَايَة رَابِعَة فتحتاج إِلَى الْبَيَان قَوْله " الأسودان المَاء وَالتَّمْر " وَهُوَ من بَاب التغليب إِذْ المَاء لَيْسَ أسود وأطلقت عَائِشَة على التَّمْر أسود لِأَنَّهُ غَالب تمر الْمَدِينَة وَقَالَ ابْن سيدة فسر أهل اللُّغَة الأسودين بِالْمَاءِ وَالتَّمْر وَعِنْدِي أَنَّهَا إِنَّمَا أَرَادَت الْحرَّة وَاللَّيْل قيل لَهما الأسودان لاسودادهما وَذَلِكَ أَن وجود التَّمْر وَالْمَاء عِنْدهم شبع ورى وخصب وَإِنَّمَا أَرَادَت عَائِشَة أَن تبالغ فِي شدَّة الْحَال بِأَن لَا يكون مَعهَا إِلَّا اللَّيْل والحرة وَهَذَا أذهب فِي سوء الْحَال من وجود التَّمْر وَالْمَاء وَقيل الأسودان المَاء وَاللَّبن وضاف مرْثَد الْمدنِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قوم فَقَالَ لَهُم مالكم عندنَا إِلَّا الأسودان قَالُوا إِن فِي ذَلِك لمقنعا المَاء وَالتَّمْر فَقَالَ مَا ذَلِك أردْت وَالله إِنَّمَا أردْت الْحرَّة وَاللَّيْل (قلت) الْحرَّة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء البقل الَّذِي يُؤْكَل غير مطبوخ قَوْله " منائح " جمع منيحة بِفَتْح الْمِيم وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهِي نَاقَة أَو شَاة تعطيها غَيْرك ليحتلبها ثمَّ يردهَا عَلَيْك وَقد تكون المنيحة عَطِيَّة للرقبة بمنافعها مُؤَبّدَة مثل الْهِبَة وَقَالَ الْفراء منحته منيحة وَهِي النَّاقة وَالشَّاة يُعْطِيهَا الرجل لآخر يحلبها ثمَّ يردهَا وَزعم بَعضهم أَن المنيحة لَا تكون إِلَّا نَاقَة وَقَالَ أَبُو عبيد المنيحة عِنْد الْعَرَب على وَجْهَيْن أَن يُعْطي الرجل صَاحب صلَة فَيكون لَهُ وَأَن يمنحه نَاقَة أَو شَاة ينْتَفع بحلبها ووبرها وصوفها زَمنا ثمَّ يردهَا وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ الْعَرَب تَقول منحتك النَّاقة وأنحلتك الْوَبر وأعريتك النَّخْلَة وأعمرتك الدَّار وَهَذِه كلهَا هبة مَنَافِع يعود بعْدهَا مثلهَا قَوْله " يمنحون " من الْمنح وَهُوَ الْعَطاء يُقَال منحه يمنحه من بَاب فَتحه يَفْتَحهُ ومنحه يمنحه من بَاب ضربه يضْربهُ وَالِاسْم المنحة بِالْكَسْرِ وَهِي الْعَطِيَّة. وَفِي الحَدِيث زهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الدُّنْيَا وَالصَّبْر على التقلل وَأخذ الْبلْغَة من الْعَيْش وإيثار الْآخِرَة على الدُّنْيَا. وَفِيه حجَّة لمن آثر الْفقر على الْغنى. وَفِيه أَن السّنة مُشَاركَة الْوَاجِد المعدم
2 - (بابُ القَلِيلِ مِنَ الهِبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقَلِيل من الْهِبَة، وَأَرَادَ بِهِ أَن المهدى إِلَيْهِ بِشَيْء قَلِيل لَا يستقله وَلَا يردهُ لقلته.(13/127)
8652 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي عَدِيٍّ عنْ شُعْبَةَ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لوْ دُعِيتُ إلَى ذِرَاعٍ أوْ كُرَاعٍ لأجَبْتُ ولوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِراعٌ أوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ.
(الحَدِيث 8652 طرفه فِي: 8715) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَلَو أهدي إِلَيّ ذِرَاع أَو كرَاع لقبلت) وَذَلِكَ يدل على أَن الْقَلِيل من الْهَدِيَّة جَائِز وَلَا يرد، والهدية فِي معنى الْهِبَة من حَيْثُ اللُّغَة كَمَا ذكرنَا. وَابْن أبي عدي هُوَ مُحَمَّد بن أبي عدي واسْمه إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ. وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش. وَأَبُو حَازِم هُوَ سُلَيْمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه فِي الْأَنْكِحَة بِلَفْظ: لَأَجَبْت، وَلَو أهْدى إِلَيّ ذِرَاع لقبلت، والكراع من حد الرسغ، وَهُوَ فِي الْبَقر وَالْغنم بِمَنْزِلَة الوظيف فِي الْفرس وَالْبَعِير، وَهُوَ مستدق السَّاق، يذكر وَيُؤَنث، وَادّعى ابْن التِّين أَن الكراع من الدَّوَابّ مَا دون الكعب من غير الْإِنْسَان، وَمن الْإِنْسَان مَا دون الرّكْبَة، وَعَن ابْن فَارس: كرَاع كل شَيْء طرفه. وَقَالَ أَبُو عبيد: الأكارع قَوَائِم الشَّاة، وأكارع الأَرْض أطرافها القاصية، شبه بأكارع الشَّاة أَي: قَوَائِمهَا، وَقَالَ بَعضهم: قيل: الكراع اسْم مَكَان. قلت: الَّذِي قَالَه هُوَ الْغَزالِيّ، ذكره فِي (الْإِحْيَاء) بِلَفْظ: كرَاع الغميم، وَترد ذَلِك رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: لَو أهدي إِلَيّ كرَاع لقبلته، ثمَّ صَححهُ وَادّعى صَاحب (التنقيب على التَّهْذِيب) أَن سَبَب هَذَا الحَدِيث أَن أم حَكِيم الْخُزَاعِيَّة قَالَت: يَا رَسُول الله! أتكره الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أقبح رد الْهَدِيَّة، لَو دعيت إِلَى كرَاع لَأَجَبْت، وَلَو أهدي إِلَيّ ذِرَاع لقبلت. قلت: الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ رَحمَه الله. وَقَالَ ابْن بطال: أَشَارَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْكُرَاعِ والفرسن إِلَى الحض على قبُول الْهَدِيَّة، وَلَو قلَّت لِئَلَّا يمْتَنع الْبَاعِث من المهاداة، لاحتقار المهدى إِلَيْهِ. انْتهى. والذراع أفضل من الكراع، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يحب أكله، وَلِهَذَا سمَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحِبهُ لِأَنَّهُ مبادي الشَّاة وَأبْعد من الْأَذَى.
3 - (بابُ مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أصْحَابِهِ شَيْئاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من استوهب من أَصْحَابه شَيْئا، سَوَاء كَانَ عينا أَو مَنْفَعَة. وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: جَازَ، بِغَيْر كَرَاهَة إِذا كَانَ يعلم طيب خاطرهم.
وَقَالَ أَبُو سَعيدٍ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْماً
هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي الرّقية، أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْإِجَارَة فِي: بَاب مَا يعْطى فِي الرّقية، بِفَاتِحَة الْكتاب.
9652 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حدَّثني أَبُو حازِمٍ عنْ سَهْلٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَ إِلَى امْرَأةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وكانَ لَهَا غُلامٌ نَجَّارٌ قَالَ لَهَا مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنا أعْوَادَ المِنْبَرِ فأمَرَتْ عَبْدَهَا فذَهَبَ فَقَطَعَ مِنَ الطَّرْفَاءِ فصَنَعَ لَهُ مِنْبَراً فلَمَّا قَضاهُ أرْسَلَتْ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَدْ قَضَاهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسِلِي بِهِ إلَيَّ فَجاؤا بِهِ فاحْتَمَلَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَضَعَهُ حيْثُ تَرَوْنَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَى امْرَأَة) إِلَى آخِره فَإِن إرْسَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا وَقَوله لَهَا بِأَن تَأمر غلامها يعْمل أَعْوَاد الْمِنْبَر استيهاب فِيهِ من الْمَرْأَة.
وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: واسْمه مُحَمَّد بن مطرف اللَّيْثِيّ، وَأَبُو حَازِم سَلمَة ابْن دِينَار وَسَهل بن سعد الْأنْصَارِيّ السَّاعِدِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجُمُعَة فِي بَاب الْخطْبَة على الْمِنْبَر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (أرسل إِلَى امْرَأَة من الْأَنْصَار) ، وَفِي كثير من النّسخ: إِلَى امْرَأَة من الْمُهَاجِرين، وَقَالَ(13/128)
ابْن التِّين: أَكثر الرِّوَايَات أَنَّهَا من الْأَنْصَار، ولعلها كَانَت هَاجَرت وَهِي مَعَ ذَلِك أنصارية الأَصْل، وَفِي أصل ابْن بطال أَيْضا من الْأَنْصَار. قَوْله: (فليعمل أَعْوَاد) أَي: ليفعل لنا فعلا فِي أَعْوَاد من نجر وتسوية وخرط يكون مِنْهَا مِنْبَر. قَوْله: (فَلَمَّا قَضَاهُ) ، أَي: صنعه وأحكمه، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْعبارَة عَمَّا يعالج من الْأَشْيَاء ويعتمل تقع بِثَلَاثَة أَلْفَاظ هِيَ: الْفِعْل والصنع والجعل، وأجمعها فِي الْمَعْنى: الْفِعْل، وأوسعها فِي الِاسْتِعْمَال: الْجعل، وأخصها فِي التَّرْتِيب: الصنع. تَقول: فعل فلَان خيرا، وَفعل شرا، وَلَفظ الْجعل يسترسل على الْأَعْيَان وَالصِّفَات، وَلَفظ الصنع يسْتَعْمل غَالِبا فِيمَا يدْخلهُ التَّدْبِير.
0752 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كُنْتُ يَوْماً جالِساً مَعَ رِجالٍ منْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَريقِ مَكَّةَ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نازِلٌ أمامَنا والقَوْمُ مُحْرِمُونَ وأنَا غَيرْرُ مُحْرِمٍ فأبْصَرُوا حِمَاراً وحْشياً وَأَنا مَشْغُولٌ أخْصِفُ نعلِي فَلَمْ يُؤْذُونِي بِهِ وأحَبُّو لوْ أنِّي أبْصَرْتُهُ فالْتَفَتُّ فأبْصَرْتُهُ فقُمْتُ إلاى الفَرَسِ فأسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ ونَسِيتُ السَّوْطَ والرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ ناوِلُونِي السَّوْطَ والرُّمْحَ فَقَالُوا لَا وَالله لَا نُعِينُكَ علَيْهِ بِشَيْءٍ فغَضِبْتُ فنَزَلْتُ فأخَذْتُهُما ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ علَى الحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وقدْ ماتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يأكُلُونَهُ ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أكْلِهِمْ إيَّاهُ وهُمْ حُرُمٌ فرُحْنَا وخَبَاتُ العَضُدَ مَعي فأدْرَكْنا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَألْناهُ عنْ ذالِكَ فَقال معَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ فقُلْتُ نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ فأكَلَهَا حتَّى نَفَّدَهَا وهْوَ مُحْرِمٌ فحدَّثنِي بِهِ زيْدُ بنُ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي قَتادَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ: مَعكُمْ شَيْء؟) فَإِنَّهُ فِي معنى الاستيهاب من الْأَصْحَاب، قَالَ ابْن بطال: استيهاب الصَّيْد حسن إِذا علم أَن نَفسه تطيب بِهِ، وَإِنَّمَا طلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أبي سعيد، وَكَذَا من أبي قَتَادَة وَغَيرهم ليؤنسهم بِهِ وَيرْفَع عَنْهُم اللّبْس فِي توقفهم فِي جَوَاز ذَلِك، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَأَبُو حَازِم هُوَ سَلمَة بن دِينَار وَأَبُو قَتَادَة اسْمه الْحَارِث السّلمِيّ، بِفَتْح السِّين وَاللَّام الْأنْصَارِيّ الخزرجي.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب إِذا صَاد الْحَلَال فأهدى للْمحرمِ الصَّيْد فَأَكله، وَمضى أَيْضا فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب عَقِيبه، كلهَا مُتَوَالِيَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (وَرَسُول الله) ، الْوَاو، فِيهِ وَالْوَاو فِي: وَالْقَوْم، وَالْوَاو فِي: أَنا غير محرم، كلهَا للْحَال. قَوْله: (وَأَنا مَشْغُول أخصف نَعْلي) جملَة حَالية أَيْضا، وَمعنى: أخصف؛ أخرز. قَالَ تَعَالَى: {وطفقا يخصفان} (الْأَعْرَاف: 22، وطه: 121) . أَي: يلزقا الْبَعْض بِالْبَعْضِ. قَوْله: (فعقرته) من الْعقر وَهُوَ الْجرْح، وَلَكِن المُرَاد هَهُنَا عقره عقراً شَدِيدا حَتَّى مَاتَ مِنْهُ. قَوْله: (ثمَّ جِئْت بِهِ) ، أَي: بالحمار الْمَذْكُور. قَوْله: (وهم حرم) ، جملَة حَالية. قَوْله: (حَتَّى نفدها) ، بتَشْديد الْفَاء وبإهمال الدَّال: يُرِيد أكلهَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا، يُقَال: نفد الشَّيْء إِذا فني، وَرُوِيَ بِكَسْر الْفَاء المخففة، ورده ابْن التِّين. قَوْله: (فَحَدثني بِهِ) ، قَائِل هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الرَّاوِي عَن أبي حَازِم، أَي: حَدثنِي بِهَذَا الحَدِيث زيد ابْن أسلم أَبُو أُسَامَة أَيْضا عَن عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين أبي مُحَمَّد الْهِلَالِي مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي قَتَادَة الْمَذْكُور عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
4 - (بابُ مَنِ اسْتَسْقى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من استسقى ماءاً ولبناً وَغَيرهمَا، وَجَوَابه مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا حكمه؟ وَحكمه: يجوز لَهُ ذَلِك مِمَّا تطيب بِهِ نفس الْمَطْلُوب مِنْهُ.(13/129)
وَقَالَ سَهْلٌ قالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْقِني
سهل هُوَ ابْن سعد الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أَوله: ذكر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة من الْعَرَب، فَأمر أسيد أَن يُرْسل إِلَيْهَا ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إسقنا يَا سهل.
5 - (بابُ قُبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز قبُول هَدِيَّة الصَّيْد، أَي: هَدِيَّة صائد الصَّيْد، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يهدي، وَالصَّيْد نَفسه لَا يَهْدِي، بِكَسْر الدَّال، بل يُهدَى، بِفَتْحِهَا.
وقَبِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أبِي قَتادَةَ عضُدَ الصَّيْدِ
هَذَا التَّعْلِيق ذكره مَوْصُولا فِي: بَاب من استوهب من أَصْحَابه شَيْئا، قبل الْبَاب السَّابِق.
2752 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ هِشامِ بنِ زَيْدِ بنِ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ أنَس رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أنْفجْنا أرْنَباً بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعى القَوْمُ فلَغَبُوا فأدْرَكْتُها فأخَذْتُهَا فأتَيْتُ بِهَا(13/130)
أبَا طَلْحةَ فَذَبَحَها وبَعَثَ بِهَا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَرِكِها أوْ فَخِذَيهَا قَالَ فَخِذَيْها لَا شَكَّ فيهِ فقَبِلَهُ قُلْتُ وأكَلَ مِنْهُ قَالَ وأكلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ قَبِلَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقبله) وَهُوَ ظَاهر.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن أبي الْوَلِيد وَعَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان. وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن أبي مُوسَى وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وأوله: كنت غُلَاما حزوراً قصدت أرنباً. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (انفجنا) ، بالنُّون وَالْفَاء وَالْجِيم، أَي: أثرناه من مَكَانَهُ، قَالَ الْجَوْهَرِي: نفج الأرنب إِذا ثار، وأنفجته أَنا، والإنفاج الإثارة، يُقَال: أنفجت الأرنب فِي جُحْره أَي: أثرته فثار، وَأَصله من: أنفجت الأرنب إِذا وَثَبت فوسعت الخطوة. قَالَ الْخَلِيل: نفج اليربوع ينفج وينفج نفوجاً، وينتفج، وَهُوَ أَرْجَى عدوه، والأرنب حَيَوَان مَعْرُوف، وَكَلَام الْجَوْهَرِي يَقْتَضِي أَنه مُذَكّر، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا ثار، وَلم يقل: ثارت. وَكَذَا قَالَ فِي بَاب الْبَاء: الأرنب، وَاحِد الأرانب، وَلم يقل: وَاحِدَة الأرانب. وَالَّذِي فِي حَدِيث الْبَاب يَقْتَضِي تأنيثه، وَهِي الضمائر الَّتِي فِي (أدركتها) إِلَى آخِره، وَهَكَذَا ذكره بعض أهل اللُّغَة بِأَنَّهُ مُؤَنّثَة، وَالصَّحِيح أَنه يكون للمذكر وَالْأُنْثَى، وَبِه صدر كَلَامه صَاحب (الْمُحكم) . ثمَّ قَالَ: والأرنب الْأُنْثَى والخزر الذّكر. وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي بَاب الزَّاي: الخزز ذكر الأرانب، وَالْجمع: خزان، مثل صرد وصردان. قَوْله: (بمر الظهْرَان) ، الْبَاء فِيهِ تتَعَلَّق: بأنفجنا، وَمر الظهْرَان، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء وَفتح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَوضِع قريب من مَكَّة. انْتهى. وَهُوَ الَّذِي يعرف الْيَوْم: بِبَطن مر، قَالَ الْجَوْهَرِي: وبطن مر، مَوضِع، وَهُوَ من مَكَّة على مرحلة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَمر، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: قَرْيَة ذَات نخل وَزرع، والظهران، بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهَاء وبالراء وَالنُّون: اسْم للوادي، وَهُوَ على خَمْسَة أَمْيَال من مَكَّة إِلَى جِهَة الْمَدِينَة. وَقَالَ الْبكْرِيّ: مر مُضَاف إِلَى: الظهْرَان، وَبَينه وَبَين الْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا. وَقَالَ سعيد ابْن الْمسيب: كَانَت منَازِل عك مر الظهْرَان، وببطن مر تخزعت خُزَاعَة عَن أخواتها فَبَقيت بِمَكَّة، وسارت أخوتها إِلَى الشَّام أَيَّام سيل العرم. وَقَالَ كثير عزة: سميت مر لمرارة مَائِهَا. قَوْله: (فلغبوا) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسرهَا وبالفتح أشهر، وَمَعْنَاهُ: تعبوا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة: فتعبوا، من التَّعَب وَهُوَ الإعياء. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: تَقول الْعَرَب: لغبت ألغب لغوباً: أعييت. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لغبوا عطشوا، وَقَالَ ابْن التِّين: وَلم يذكرهُ غَيره. قَوْله: (أَبَا طَلْحَة) ، هُوَ زوج أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسْمهَا: أم سليم. قَوْله: (بوركها) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء، وبكسر الْوَاو وَإِسْكَان الرَّاء: هُوَ مَا فَوق الْفَخْذ، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء وسكونها. قَوْله: (أَو فخذيها) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (قَالَ فخذيها لَا شكّ فِيهِ) ، وفاعل: قَالَ، هُوَ: شُعْبَة، لِأَن ابْن بطال قَالَ: شُعْبَة فخذيها لَا شكّ فِيهِ، ثمَّ قَالَ: فِيهِ دَلِيل على أَن شُعْبَة شكّ فِي الفخذين أَولا ثمَّ استيقن، وَكَذَلِكَ شكّ أخيراً فِي الْأكل فَأوقف حَدِيثه على الْقبُول. قلت: يُشِير بِهَذَا إِلَى أَنه لَا يشك فِي فخذيها، وَإِنَّمَا الشَّك بَين الْوَرِكَيْنِ والفخذين. قَوْله: (ثمَّ قَالَ بعد قبله) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه شكّ فِي أكله وَلم يشك فِي قبُوله، وَفِي (التَّوْضِيح) : شُعْبَة شكّ فِي الفخذين أَولا ثمَّ استيقن، وَكَذَلِكَ شكّ أخيراً فِي الْأكل. قلت: وَلم يشك فِي الْقبُول.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِبَاحَة السَّعْي لطلب الصَّيْد. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (من تبع الصَّيْد غفل) . قلت: المُرَاد بِهِ: من تَمَادى بِهِ طلب الصَّيْد إِلَى أَن فَاتَتْهُ الصَّلَاة أَو غَيرهَا من مصَالح دينه ودنياه. وَفِيه: أَنه إِذا طلب جمَاعَة الصَّيْد فأدركه بَعضهم وَأَخذه يكون ملكا لَهُ، وَلَا يُشَارِكهُ فِيهِ من شَاركهُ فِي طلبه، وَفِيه فِي لفظ التِّرْمِذِيّ وَغَيره: (فذبحها بمروة) ، صِحَة الذّبْح بالمروة وَنَحْوهَا إِذا كَانَ لَهَا حد يذكى بِهِ الصَّيْد، فَإِن قَتله بثقله لم يحل. وَفِيه: أَنه لَا بَأْس بإهداء الصاحب لصَاحبه الشَّيْء الْيَسِير، وَإِن كَانَ المهدى إِلَيْهِ عَظِيما، إِذا علم من حَاله محبَّة ذَلِك مِنْهُ. وَفِيه: الْأَخْبَار عَمَّن أهْدى إِلَيْهِ شَيْء مِمَّا يُؤْكَل فَقبله، أَنه أكله، كَمَا فعل أنس. وَفِيه: إِبَاحَة أكل الأرنب، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وكافة الْعلمَاء إلاَّ مَا حُكيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَعِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: أَنهم كَرهُوا(13/131)
أكلهَا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد كره بعض أهل الْعلم أكل الأرنب، وَقَالُوا: إِنَّهَا تدمى. انْتهى. قلت: رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا كَرَاهَة إكله، وَالأَصَح قَول الْعَامَّة. وَورد فِي إِبَاحَته أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ: (أَن غُلَاما من قومه صَار أرنباً فذبحها بمروة، فعلقها، فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أكلهَا، فَأمره بأكلها. وَمِنْهَا: حَدِيث عمار بن يَاسر، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة ابْن الحوتكية: أَن رجلا سَأَلَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الأرنب؟ فَأرْسل إِلَى عمار، فَقَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزلنا فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا، فأهدى لَهُ رجل من الْأَعْرَاب أرنباً فأكلناها، فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنِّي رَأَيْت دَمًا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا بَأْس) . وَحَدِيث مُحَمَّد بن صَفْوَان رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ: أَنه مر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأرنبين فعلقهما، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِنِّي أصبت هذَيْن الأرنبين فَلم أجد حَدِيدَة أذكيهما بهَا، فذكيتهما بمروة، أَفَآكُل؟ قَالَ: (كُلْ) ، لفظ ابْن مَاجَه رَحمَه الله. وَحَدِيث مُحَمَّد بن صَيْفِي، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأرنبين فذبحتهما بمروة، فَأمرنِي بأكلهما) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) من رِوَايَة أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس: يَقُول: (أهديت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرنباً وَعَائِشَة نَائِمَة، فَرفع لَهَا مِنْهَا الْفَخْذ فَلَمَّا انْتَبَهت أَعْطَاهَا إِيَّاه فأكلته. وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد عَن خَالِد عَن أَبِيه خَالِد بن الْحُوَيْرِث: (أَن عبد الله بن عَمْرو كَانَ بالصفاح قَالَ مُحَمَّد: مَكَان بِمَكَّة وَأَن رجلا جَاءَ بأرنب قد صادها، فَقَالَ: يَا عبد الله بن عَمْرو} مَا تَقول؟ قَالَ: قد جِيءَ بهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جَالس، فَلم يأكلها وَلم ينْه عَن أكلهَا، وَزعم أَنَّهَا تحيض. وَحَدِيث عمر وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة حَكِيم بن جُبَير عَن مُوسَى بن طَلْحَة قَالَ عمر لأبي ذَر وعمار وَأبي الدَّرْدَاء: (أتذكرون يَوْم كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمَكَان كَذَا وَكَذَا فَأَتَاهُ أَعْرَابِي بأرنب؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِنِّي رَأَيْت بهَا دَمًا، فَأمرنَا بأكلها وَلم يَأْكُل، قَالُوا: نعم) الحَدِيث. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأرنب قد شواها، فَلم يَأْكُل، وَأمر الْقَوْم أَن يَأْكُلُوا) الحَدِيث. وَحَدِيث خُزَيْمَة ابْن جُزْء، رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله} جِئْت لأسألك عَن أَجنَاس الأَرْض، وَفِيه: قلت يَا رَسُول الله {مَا تَقول فِي الأرنب؟ قَالَ: لَا آكله وَلَا أحرمهُ. قلت: فَإِنِّي آكل مَا لم يحرم، ولِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: تبينت أَنَّهَا تدمي) . وَحَدِيث عبد الله ابْن معقل، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ أَنه: (سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر حَدِيثا، قلت: يَا رَسُول الله} مَا تَقول فِي الأرنب؟ قَالَ: لَا آكلها وَلَا أحرمهَا.
6 - (بَاب قبُول الهديَّة)
3752 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ ابنِ مَسْعُودٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ عنِ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُم أنَّهُ أهْداى لرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِمَاراً وحْشياً وهْوَ بالأبْواءِ أوْ بَودَّانَ فَردَّ عليْهِ فلَمَّا رأى مَا فِي وجْهِهِ قَالَ أمَا إنَّا لَمْ نرُدُّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أنَّا حُرُمٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَنه أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقَالَ بَعضهم: وَشَاهد التَّرْجَمَة مِنْهُ مَفْهُوم. قَوْله: (لم نرده عَلَيْك إلاَّ إِنَّا حرم) ، فَإِن مَفْهُومه أَنه لَو لم يكن محرما لقبله مِنْهُ. انْتهى. قلت: الَّذِي ذكرته أوجه، لِأَن التَّرْجَمَة فِي قبُول هَدِيَّة الصَّيْد، وَالْقَبُول لَا يكون إلاَّ بعد الإهداء، ورد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا لم يكن ... إلاَّ لأجل كَونه محرما، لَا لأجل أَنه لم يجوز قبُولهَا أصلا. نعم هَذَا الَّذِي ذكره رُبمَا يمشي على رِوَايَة أبي ذَر. فَأن عِنْده على رَأس هَذَا الحَدِيث: بَاب قبُول الْهَدِيَّة، وَلَيْسَ هَذَا فِي رِوَايَة البَاقِينَ وَهُوَ الصَّوَاب، وَهَذَا الحَدِيث مر فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب إِذا أهْدى للْمحرمِ حمارا وحشياً حَيا لم يقبل، بِعَين هَذَا الْمَتْن والإسناد، غير أَن هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف، وَهنا: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَالله أعلم.
قَوْله: (بالأبواء) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد: اسْم مَكَان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (أَو بودَّان) ، شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد(13/132)
الدَّال وبالنون: وَهُوَ أَيْضا اسْم مَكَان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (إِنَّا لم نرده) ، يجوز فِيهِ فك الْإِدْغَام والإدغام بِفَتْح الدَّال وَضمّهَا، وَإِنَّمَا قبل الصَّيْد من أبي قَتَادَة ورده على الصعب، مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي الْحَالين محرما، لِأَن الْمحرم لَا يملك الصَّيْد وَيملك مَذْبُوح الْحَلَال لِأَنَّهُ كقطعة لحم لم يبْق فِي حكم الصَّيْد.
7 - (بابُ قَبولِ الهَدِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قبُول الْهَدِيَّة، هَذَا هَكَذَا ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر، قَالَ بَعضهم: هُوَ تكْرَار بِغَيْر فَائِدَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الْبَاب الَّذِي ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر على رَأس حَدِيث الصعب بن جثامة، وَهُوَ هَدِيَّة الصَّيْد خَاصَّة، وَهَذَا الْبَاب أَعم من أَن تكون هَدِيَّة الصَّيْد أَو هَدِيَّة غَيره من الْأَشْيَاء الَّتِي تهدى، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب من قبل الْهَدِيَّة.
4752 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوساى قَالَ حَدثنَا عَبدَةُ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النَّاسَ كانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَداياهُمْ يَوْمَ عائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِها أوْ يَبْتَغُونَ بِذالِكَ مَرْضَاةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ وَاضح لمن لَهُ تَأمل وَحسن نظر.
وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء الرَّازِيّ، يعرف بالصغير وَعَبدَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان، مر فِي الصَّلَاة. وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة عَن عَائِشَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (كَانُوا يتحرون) ، من التَّحَرِّي وَهُوَ الْقَصْد وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب والعزم على تَخْصِيص الشَّيْء بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل. قَوْله: (يَوْم عَائِشَة) ، يَعْنِي: يَوْم نوبتها. قَوْله: (يَبْتَغُونَ) ، جملَة حَالية، أَي: يطْلبُونَ من: البغية، وَهُوَ الطّلب. ويروى: (يتبعُون) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق الْمُشَدّدَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة: من الإتباع. قَوْله: (بذلك) أَي: بتحرِّيهم بهداياهم يَوْم عَائِشَة، يَعْنِي: يَوْم يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عَائِشَة فِي يَوْم نوبتها. قَوْله: (مرضاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِفَتْح الْمِيم، مصدر ميمي بِمَعْنى: الرِّضَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: جَوَاز تحري الْهِدَايَة ابْتِغَاء مرضاة المهدى إِلَيْهِ. وَفِيه: الدّلَالَة على فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
5752 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا جعْفَرُ بنُ إيَاسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعيدَ بنَ جبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خالَةُ ابنِ عَبَّاسٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقِطاً وسَمْناً وأضُبّاً فَأكل النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الأقِطِ والسَّمْنِ وتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرَاً قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَوْ كانَ حَرَاماً مَا أُكِلَ عَلى مائِدَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأكل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الأقط وَالسمن) وَأكله دَلِيل على قبُول هَدِيَّة أم حفيد، وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس عبد الرَّحْمَن، أَصله من خُرَاسَان، سكن عسقلان، وَهُوَ من أَفْرَاده، وجعفر بن إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وتحفيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: الْمَشْهُور بِابْن أبي وحشية ضد الأنسية مر فِي الْعلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسلم، وَفِيه عَن أبي النُّعْمَان وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن بنْدَار وَأبي بكر ابْن نَافِع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن حَفْص بن عَمْرو. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد وَفِي الْوَلِيمَة عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أم حفيد) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَاسْمهَا هزيلة مصغر: هزلة، بالزاي وَهِي أُخْت مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ، وَكَانَت تسكن الْبَادِيَة. قَوْله: (أقطاً) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْقَاف بعْدهَا طاء مُهْملَة، وَهُوَ لبن يَابِس مجفف مستحجر يطْبخ بِهِ. قَوْله: (وأضباً) ، جمع: ضَب، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، مثل: فلس وأفلس. وَفِي (الْمُحكم) : الضَّب دويبة وَالْجمع: ضباب وأضب، ومضبة على وزن مفعلة كَمَا قَالُوا(13/133)
للشيوخ: مشيخة، وَفِي الْمثل: أعق من الضَّب، لِأَنَّهُ رُبمَا أكل حسو لَهُ، وَالْأُنْثَى ضبة، والضب لَا يشرب مَاء. قَوْله: (فَأكل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: فَأكل الضَّب. قَوْله: (على مائدة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي الْقَصعَة والمنديل وَنَحْوهمَا، لِأَن أنسا قَالَ: مَا أكل على خوان، وأصل الْمَائِدَة من الميد، وَهُوَ الْعَطاء، يُقَال: مادني يميدني، وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ فاعلة بِمَعْنى مفعولة من الْعَطاء، وَقَالَ الزّجاج، هُوَ عِنْدِي من: ماد يميد إِذا تحرّك. وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ من ماد يميد إِذا أطْعم، قَالَ: والخوان مِمَّا يُقَال: إِنَّه إسم أعجمي، غير أَنِّي سَمِعت إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْقطَّان يَقُول: سُئِلَ ثَعْلَب، وَأَنا أسمع: أَيجوزُ أَن يُقَال: إِن الخوان سمي بذلك لِأَنَّهُ يتخون مَا عَلَيْهِ أَي: ينتقص بِهِ؟ فَقَالَ: مَا يبعد ذَلِك. قَوْله: (تقذراً) ، نصب على التَّعْلِيل، أَي: لأجل التقذر، يُقَال: قذرت الشَّيْء وتقذرته واستقذرته: إِذا كرهته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الإهداء وَقبُول الْهَدِيَّة. وَفِيه: من احْتج بقول ابْن عَبَّاس على جَوَاز أكل الضَّب لِأَنَّهُ قَالَ: لَو كَانَ حَرَامًا مَا أكل على مائدة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! قَالَت الشَّافِعِيَّة: وَهُوَ احتجاج حسن، وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء كَافَّة، وَنَصّ عَلَيْهِ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وَعنهُ رِوَايَة بِالْمَنْعِ، وَقد روى مَالك فِي حَدِيث الضَّب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر ابْن عَبَّاس وخَالِد بن الْوَلِيد بِأَكْلِهِ فِي بَيت مَيْمُونَة، وَقَالا لَهُ: ولِمَ لَا تَأْكُل يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: (إِنِّي يحضرني من الله حَاضِرَة) ، يَعْنِي الْمَلَائِكَة الَّذين يُنَاجِيهِمْ، ورائحة الضَّب ثَقيلَة، فَلذَلِك تقذره خشيَة أَن تؤذي الْمَلَائِكَة بريحه. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّه يجوز للْإنْسَان أَن يتقذر مَا لَيْسَ بِحرَام عَلَيْهِ لقلَّة عَادَته بِأَكْلِهِ أَو لوهمه. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : يكره أكل الضَّب لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين سَأَلته عَن أكله. قلت: هَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن عَن الْأسود عَن عَائِشَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهدي لَهُ ضَب فَلم يَأْكُلهُ، فَسَأَلته عَن أكله فنهاني، فَجَاءَنِي سَائل على الْبَاب فَأَرَادَتْ عَائِشَة أَن تعطيه، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لَا تأكليه؟ وَالنَّهْي يدل على التَّحْرِيم، وَرُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل، أخرجه أَبُو دادو فِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ضَمْضَم بن زرْعَة عَن سريح بن عبيد عَن أبي رَاشد الحبراني عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن أكل لحم الضَّب. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد ابْن عَيَّاش وَلَيْسَ بِحجَّة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذِرِيّ: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وضمضم فيهمَا مقَال، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ. قلت: ضَمْضَم حمصي
وَابْن عَيَّاش إِذا روى عَن الشاميين كَانَ حَدِيثه صَحِيحا، كَذَا قَالَ البُخَارِيّ وَيحيى بن معِين وَغَيرهمَا، وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي: بَاب ترك الْوضُوء من الدَّم فِي (سنَنه) ، وَكَيف يَقُول هُنَا: وَلَيْسَ بِحجَّة؟ وَلما أخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث سكت عَنهُ، وَهُوَ حسن صَحِيح عِنْده، وَقد صحّح التِّرْمِذِيّ لِابْنِ عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم عَن أبي أُمَامَة، وشرحبيل شَامي، وروى الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) مُسْندًا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة، قَالَ: نزلنَا أَرضًا كَثِيرَة الضباب فأصابتنا مجاعَة، فطبخنا مِنْهَا وَإِن الْقُدُور لتغلي بهَا إِذْ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: ضباب أصبناها. وَقَالَ: إِن أمة من بني إِسْرَائِيل مسخت دَوَاب فِي الأَرْض إِنِّي أخْشَى أَن تكون هَذِه، فأكفؤها. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت بِإِبَاحَة أكل الضَّب مَنْسُوخَة بأحاديثنا، وَوجه هَذَا النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة مثل مَا نَحن فِيهِ، والتعارض ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر، ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى، وَلَا يُمكن جعل الْمُوجب للْإِبَاحَة مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِثْبَات النّسخ مرَّتَيْنِ، فَافْهَم.
6752 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا مَعْنٌ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانِ عنْ مُحَمَّدِ ابنِ زِيادٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أُتِيَ بِطَعامٍ سألَ عنُ أهَدِيَّةٌ أمْ صَدَقَةٌ فإنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ولَمْ يَأكُلْ وإنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكَلَ مَعَهُمْ.(13/134)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن قيل هَدِيَّة) إِلَى آخِره، لِأَن أكله مَعَهم يدل على قبُول الْهَدِيَّة، وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا، ومعن هُوَ ابْن عِيسَى بن يحيى الْقَزاز الْمدنِي. قَوْله: (إِذْ أُتِي بِطَعَام) ، زَاد أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق ابْن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد: من غير أَهله. قَوْله: (ضرب بِيَدِهِ) ، أَي: شرع فِي الْأكل مسرعاً، وَمثله ضرب فِي الأَرْض إِذا أسْرع السّير، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا لَا يَأْكُل الصَّدَقَة لِأَنَّهَا أوساخ النَّاس، وَلِأَن أَخذ الصَّدَقَة منزلَة دنية، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وَأَيْضًا لَا تحل الصَّدَقَة للأغنياء، وَقَالَ تَعَالَى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضُّحَى: 7) .
7752 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ تُصُدِّقَ علَى بَرِيرَةَ قالَ هُوَ لهَا صَدَقةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ.
(انْظُر الحَدِيث 5941) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلنَا هَدِيَّة) ، أَي: حَيْثُ أَهْدَت بَرِيرَة إِلَيْنَا فَهُوَ هَدِيَّة، وَذَلِكَ لِأَن الصَّدَقَة يجوز فِيهَا تصرف الْفَقِير بِالْبيعِ والهدية وَغير ذَلِك لصِحَّة ملكه لَهَا، كتصرفات سَائِر الْملاك فِي أملاكهم، وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون: هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزّهْد عَن وَكِيع. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عَمْرو بن مَرْزُوق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعمريّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
8752 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الْقَاسِمِ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عنِ القَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّها أرادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ وأنَّهُمْ اشْتَرَطُوا ولاءَها فَذُكِرَ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِيها فأعْتِقِيهَا فإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ وأُهْدِيَ لَها لَحْمٌ فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ هُوَ لَها صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّةٌ وخُيِّرَتْ قَالَ عبدُ الرَّحْمانِ زَوْجُها حُرٌّ أوْ عَبْدٌ قَالَ شُعْبَةُ ثُمَّ سَألْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ عنْ زَوْجِها قَالَ لاَ أدْرِي أحُرٌّ أمْ عَبْدٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلنَا هَدِيَّة) لِأَن التَّحْرِيم يتَعَلَّق بِالصّفةِ لَا بِالذَّاتِ، وَقد تغير مَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة بانتقاله إلاَّ إِلَى ملكهَا وَخُرُوجه عَن ملك الْمُتَصَدّق.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن أَحْمد بن عُثْمَان النَّوْفَلِي، وَفِي الزَّكَاة بِقصَّة الْهَدِيَّة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع وَفِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ، وَفِي الطَّلَاق والشروط عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، وَقد مر الْكَلَام فِي معنى صدر الحَدِيث فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة، هُوَ لَهَا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) ، هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر الْهَرَوِيّ، فَقيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هُوَ لنا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) . قَوْله: (وخيرت) أَي: بَرِيرَة صَارَت مخيرة بَين أَن تفارق زَوجهَا وَأَن تبقى تَحت نِكَاحهَا. قَوْله: (قَالَ عبد الرَّحْمَن) ، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم الرَّاوِي الْمَذْكُور. قَوْله: (لَا أَدْرِي أحرٌّ أم عبد؟) أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن: لَا أَدْرِي زوج بَرِيرَة هَل هُوَ حر أَو عبد، وَالْمَشْهُور أَنه عبد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَعَلِيهِ أهل الْحجاز، وَهُوَ مَا ذكره النَّسَائِيّ عَن ابْن عَبَّاس، واسْمه: مغيث، وَخَالف أهل الْعرَاق، فَقَالُوا: كَانَ حرا، وَالله تَعَالَى أعلم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
9752 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أبُو الحَسَنِ قَالَ أخْبَرنا خالِدُ بنُ عَبْدِ الله عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرينَ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قالَتْ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَقَالَ لَهًّ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قالَتْ لاَ إلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ إلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ قَالَ إنَّها قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّها.
(انْظُر الحَدِيث 6441 وطرفه) .(13/135)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى قَوْله: إِنَّهَا بلغت محلهَا، لِأَن مَعْنَاهُ قد زَالَ عَنْهَا حكم الصَّدَقَة وَصَارَت حَلَالا لنا، وخَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان الوَاسِطِيّ، يروي عَن خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا نسيبة، بِضَم النُّون، وَقيل: بِفَتْحِهَا، وَكَذَا وَقع بِالْفَتْح فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة وهب بن بَقِيَّة عَن خَالِد بن عبد الله. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب إِذا تحولت الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن خَالِد عَن حَفْصَة بنت سِيرِين عَن أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بعثت بِهِ أم عَطِيَّة) على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَقَوله: (بعثت إِلَيْهَا) على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (محلهَا) ، بِفَتْح الْحَاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِكَسْرِهَا، وَهُوَ يَقع على الزَّمَان وَالْمَكَان.
8 - (بابُ مَنْ أهْدَى إِلَى صاحِبِهِ وتَحَرَّى بعْضَ نِسائِهِ دُونَ بَعْضٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إهداء من أهْدى إِلَى أحد من أَصْحَابه، وتحرى أَي قصد بعض نِسَائِهِ، يَعْنِي: أَرَادَ أَن يكون إهداؤه إِلَى صَاحبه يَوْم يكون صَاحبه عِنْد وَاحِدَة مِنْهُنَّ.
0852 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ كانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِي وقالتْ أمُّ سَلَمَةَ إنَّ صَواحِبِي اجْتَمَعْنَ فذَكَرَتْ لَهُ فأعْرَضَ عَنْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى قَول عَائِشَة: (كَانَ النَّاس يتحرون بهداياهم يومي) وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة ابْن الزبير، وَفِي بعض النّسخ: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصرا. وَأخرجه فِي فضل عَائِشَة مطولا على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن يحيى بن درست.
قَوْله: (يومي) ، أَي: يَوْم نوبتي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأم سَلمَة هِيَ هِنْد إِحْدَى زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن صواحبي) أَرَادَت بِهِ بَقِيَّة أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ اجتماعهن عِنْد أم سَلمَة، وقلن لَهَا: خبِّري رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمر النَّاس بِأَن يهدوا لَهُ حَيْثُ كَانَ، فَذكرت ذَلِك أم سَلمَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَعْرض عَنْهَا، يَعْنِي: لم يلْتَفت إِلَى مَا قَالَت لَهُ، ويروى: فَأَعْرض عَنْهُن، أَي: عَن أَزوَاجه الْبَقِيَّة، وَذكر ابْن سعد فِي (طَبَقَات النِّسَاء) من حَدِيث أم سَلمَة، قَالَت: كَانَ الْأَنْصَار يكثرون إلطاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن عبَادَة وَسعد بن معَاذ وَعمارَة بن حزم وَأَبُو أَيُّوب، وَذَلِكَ لقرب جوارهم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
1852 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ نِسَاءَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ فَحزْبٌ فيهِ عائِشَةُ وحَفْصَةُ وصَفِيَّةُ وسَوْدَةُ والحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وسَائرُ نِساءِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكانَ المُسْلِمُونَ قدْ عَلِمُوا حُبَّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائِشَةَ فإذَا كانتْ عِنْدَ أحدهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أنْ يُهْدِيهَا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخَّرَهَا حتَّى إذَا كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بَعَثَ صاحِبُ الهَدِيَّةِ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا فَكلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ فيقُولُ مَنْ أَرَادَ أنْ يُهْدِيَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هدِيَّةً فلْيُهْدِها إليْهِ حَيْثُ كانَ مِنْ بُيُوتِ نِسائِهِ فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلمَة بِما قُلْنَ فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئاً فسَألْنَها فقالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئاً فقُلْنَ(13/136)
لَهَا فَكَلِّميهِ قالَتْ فكلَّمْتُهُ حِينَ دارَ إلَيْها أَيْضا فلَمْ يَقُلْ لَها شَيْئاً فسألْنَها فقالَتْ مَا قالَ لِي شَيئاً فقُلْنَ لَها كَلِّمِيهِ حتَّى يُكَلِّمَكِ فدَارَ إليْها فكلَّمَتْهُ فَقَالَ لَهَا لَا تُؤْذِيني فِي عائِشَةَ فإنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِني وَأَنا فِي ثوْبِ امْرَأةٍ إلاَّ عائِشَةَ قالتْ فقالتْ أتُوبُ إلاى الله مِنْ أذاكَ يَا رسوُلَ الله ثُمَّ إنَّهُنَّ دَعَوْنَ فاطِمَةَ بِنْتَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرسلَتْ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقُولُ إنَّ نِساءَكَ يَنْشُدْنَكَ الله العَدْلَ فِي بِنْتِ أبِي بَكْرٍ فكَلَّمَتْهُ فَقَالَ يَا بُنَيَّةَ ألاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ قالَتْ بَلاى فرَجَعَتْ إلَيْهِنَّ فأخْبَرَتْهُنَّ فقُلْنَ ارْجِعِي إلَيْهِ فأبَتْ أنْ تَرْجِعَ فأرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فأتَتْهُ فأغْلَظَتْ وقالتْ إنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الله العَدْلَ فِي بِنْتِ ابنِ أبِي قُحَافَةَ فرَفَعَتْ صَوْتَها حتَّى تَناوَلَتْ عائِشَةَ وهِيَ قاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا حتَّى أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عائِشَةَ هَلْ تَكلَّمُ قَالَ فتَكَلَّمَتْ عائِشَةُ تَرُدُّ علَى زَيْنَبَ حتَّى أسْكَتَتْهَا قالتْ فَنَظَرَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عائشةَ وَقَالَ إنَّها بِنْتُ أبِي بَكْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد علمُوا. .) إِلَى قَوْله: (إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. الثَّانِي: أَخُوهُ، هُوَ أَبُو بكر عبد الحميد ابْن أبي أويس، مر فِي الْعلم. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال، مر فِي الْإِيمَان. الرَّابِع: هِشَام بن عُرْوَة. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَقد تَابع البُخَارِيّ فِي السَّنَد الْمَذْكُور حميد بن زَنْجوَيْه فِي رِوَايَة أبي نعيم، وَإِسْمَاعِيل القَاضِي فِي رِوَايَة أبي عوَانَة فروياه عَن إِسْمَاعِيل كَمَا قَالَ، وَخَالفهُم مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل: حَدثنِي سُلَيْمَان، فَحذف الْوَاسِطَة بَين إِسْمَاعِيل وَسليمَان، وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيل: عبد الحميد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حزبين) ، تَثْنِيَة حزب، وَهُوَ الطَّائِفَة وَيجمع على أحزاب. قَوْله: (عَائِشَة) ، هِيَ بنت أبي بكر الصّديق، (وَحَفْصَة) هِيَ بنت عمر بن الْخطاب، (وَصفِيَّة) بنت حييّ الْخَيْبَرِية. (وَسَوْدَة) بنت زَمعَة العامرية. قَوْله: (أم سَلمَة) ، هِيَ بنت أبي أُميَّة. قَوْله: (وَسَائِر نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: وَبَقِيَّة نِسَائِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي الْأَرْبَع: زَيْنَب بنت جحش الأَسدِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَأم حَبِيبَة رَملَة بنت أبي سُفْيَان الأموية، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة. قَوْله: (يكلم النَّاس) ، يجوز بِالْجَزْمِ وبالرفع. قَوْله: (فَيَقُول) ، تَفْسِير لقَوْله: يكلم. قَوْله: (فليهدها إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فليهد، بِلَا ضمير. قَوْله: (بِمَا قُلْنَ) ، أَي: بِالَّذِي قلنه. قَوْله: (حِين دَار إِلَيْهَا) ، أَي: إِلَى عَائِشَة أَرَادَ يَوْم كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي نوبَة عَائِشَة فِي بَيتهَا. قَوْله: (فكلمته) ، أَي: فكلمت أم سَلمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تؤذيني فِي عَائِشَة) ، كلمة: فِي، هَهُنَا للتَّعْلِيل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} (يُوسُف: 23) . وَفِي الحَدِيث: أَن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها. قَوْله: (قَالَت: فَقَالَت) ، أَي: قَالَت عَائِشَة فَقَالَت أم سَلمَة: أَتُوب إِلَى الله. قَوْله: (ثمَّ إنَّهُنَّ) أَي: إِن نسَاء النَّبِي اللَّاتِي هن الحزب الآخر. قَوْله: (دعون) ، أَي: طلبن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: دعين قَوْله: (تَقول) ، أَي: فَاطِمَة تَقول لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن نِسَاءَك ينشدنك الله الْعدْل) أَي: يسألنك بِاللَّه الْعدْل، وَمَعْنَاهُ: التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فِي كل شَيْء من الْمحبَّة وَغَيرهَا، هَكَذَا قَالَه بَعضهم، وَلَكِن الْمَعْنى التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فِي الْمحبَّة الْمُتَعَلّقَة بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَينهُنَّ فِي الْأَفْعَال المقدورة. وَأَجْمعُوا على أَن محبتهن(13/137)
لَا تَكْلِيف فِيهَا وَلَا يلْزمه فِيهَا لِأَنَّهَا لَا قدرَة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُؤمر بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَال، حَتَّى اخْتلفُوا فِي أَنه: هَل يلْزمه الْقسم بَين الزَّوْجَات أم لَا؟ وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: يناشدنك الله الْعدْل، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن شهَاب: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث بن هِشَام، قَالَت: أرْسلت أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستأذنت عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجع معي فِي مِرْطِي فَأذن لَهَا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله {إِن أَزوَاجك أَرْسلنِي يسألنك الْعدْل فِي بنت أبي قُحَافَة، وَأَنا ساكتة. قَالَت: فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلَسْت تحبين مَا أحب؟) فَقَالَت: بلَى قَالَ: (فأحبي هَذِه) . قَالَت فَاطِمَة حِين سَمِعت ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَجَعت إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرتهن بِالَّذِي قَالَت وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقُلْنَ لَهَا: مَا نرَاك أغنيت عَنَّا من شَيْء، فارجعي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقولِي لَهُ: إِن أَزوَاجك ينشدنك الْعدْل فِي بنت أبي قُحَافَة، فَقَالَت فَاطِمَة: وَالله لَا ُأكَلِّمهُ فِيهَا أبدا. قَالَت عَائِشَة: فَأرْسل أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي الَّتِي كَانَت تساميني مِنْهُنَّ من الْمنزلَة عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم أرَ امْرَأَة قطّ خيرا فِي الدّين من زَيْنَب وَأتقى لله وأصدق حَدِيثا وأوصل للرحم وَأعظم صَدَقَة، وَأَشد ابتذالاً لنَفسهَا فِي الْعَمَل الَّذِي تصدق بِهِ، وتقرب إِلَى الله مَا عدا سُورَة من حِدة كَانَت فِيهَا تسرع الْفَيْئَة، قَالَت: فاستأذنت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عَائِشَة على الْحَال الَّذِي دخلت فَاطِمَة عَلَيْهَا وُجُوبهَا فَإِذن لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله} إِن أَزوَاجك أرسلنني يسألنك الْعدْل فِي بنت أبي قُحَافَة. قَالَت: ثمَّ وَقعت بِي فاستطالت عَليّ وَأَنا أرقب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأرقب طرفه: هَل يَأْذَن لي فِيهَا؟ قَالَت: فَلم تَبْرَح زَيْنَب حَتَّى عرفت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكره أَن أنتصر، قَالَت: فَلَمَّا وَقعت بهَا لم أنشبها حَتَّى انهيت عَلَيْهَا. قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَبَسم: إِنَّهَا بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا سقت حَدِيث مُسلم بِكَمَالِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لحَدِيث البُخَارِيّ مَعَ زيادات فِيهِ، وسأشرح بعض مَا فِيهِ. قَوْله: (يَا بنية) ، تَصْغِير إشفاق. قَوْله: (فَأَتَتْهُ) أَي: فَأَتَت زَيْنَب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فأغلظت) أَي: فِي كَلَامهَا. قَوْله: (فِي بنت أبي قُحَافَة) ، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء: هِيَ كنية وَالِد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد ابْن تَمِيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب، وَاسم أبي بكر: عبد الله، يلتقي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرّة بن كَعْب. قَوْله: (حَتَّى تناولت) ، أَي: تعرضت. قَوْله: (وَهِي قَاعِدَة) ، جملَة حَالية، أَي: عَائِشَة قَاعِدَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه مُخْتَصرا من طَرِيق عبد الله الْبَهِي: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: دخلت عَليّ زَيْنَب بنت جحش فسبتني فردعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَبت، فَقَالَ: سبيهَا، فسببتها حَتَّى جف رِيقهَا فِي فمها. انْتهى. يحْتَمل أَن تكون هَذِه قَضِيَّة أُخْرَى. قَوْله: (وَقَالَ: إِنَّهَا بنت أبي بكر) ، أَي: إِنَّهَا شريفة عَاقِلَة عارفة كأبيها وَقيل: مَعْنَاهُ هِيَ أَجود فهما وأدق نظرا مِنْهَا. وَفِيه: الِاعْتِبَار بِالْأَصْلِ فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء. وَفِيه: لَطِيفَة أُخْرَى، وَهِي، أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَسَبهَا إِلَى أَبِيهَا فِي معرض الْمَدْح، ونسبت فِيمَا تقدم إِلَى أبي قُحَافَة حَيْثُ لما أُرِيد النّيل مِنْهَا، ليخرج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من الْوسط إِذْ ذَاك، وَلِئَلَّا يهيج ذكره الْمحبَّة. قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم: تساميني، بِالسِّين الْمُهْملَة أَي: تضاهيني فِي الْمنزلَة من السمو وَهُوَ الِارْتفَاع. قَوْله؛ (مَا عدا سُورَة من حِدة) بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ العجلة بِالْغَضَبِ، ويروى: من حد، بِدُونِ الْهَاء، وَهُوَ شدَّة الْخلق، وصحف صَاحب (التَّحْرِير) فروى: سَوْدَة، بِالدَّال وَجعلهَا بنت زَمعَة، وَهُوَ ظَاهر الْغَلَط. قَوْله: (تسرع مِنْهَا الْفَيْئَة) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْهمزَة، وَهُوَ الرُّجُوع من: فَاء إِذا رَجَعَ، وَمعنى كَلَامهَا أَنَّهَا كَامِلَة الْأَوْصَاف إلاَّ فِي شدَّة خلق بِسُرْعَة غضب، وَمَعَ ذَلِك يسْرع زَوَالهَا عَنْهَا. قَوْله: لم أنشبها أَي: لم أهملها حَتَّى أنحيت، بالنُّون والحاء الْمُهْملَة، أَي قصدتها بالمعارضة، ويروى: حِين أنحيت، وَرجح القَاضِي هَذِه الرِّوَايَة وَمَا ثمَّ مَوضِع ترجح، ويروى: أثختها بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وبالنون، أَي: قطعتها وغلبتها. قَوْله: (وَتَبَسم) ، جملَة وَقعت حَالا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فَضِيلَة عَظِيمَة لعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: أَنه لَا حرج على الرجل فِي إِيثَار بعض نِسَائِهِ بالتحف، وَإِنَّمَا اللَّازِم الْعدْل فِي الْمبيت وَالنَّفقَة وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور اللَّازِمَة، كَذَا رُوِيَ عَن الْمُهلب، وَاعْترض على ذَلِك بِأَنَّهُ(13/138)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفعل ذَلِك، وَإِنَّمَا فعله الَّذين أهدوا لَهُ، وَإِنَّمَا لم يمنعهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَيْسَ من كَمَال الْأَخْلَاق التَّعَرُّض لمثل هَذَا، على أَن حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشْعر بِأَنَّهُ كَانَ يشركهن فِي ذَلِك، وَلم تقع المنافسة إلاَّ لكَون الْعَطِيَّة تصل إلَيْهِنَّ من بَيت عَائِشَة. وَفِيه: تجرى النَّاس بالهدايا فِي أَوْقَات المسرة ومواضعها من المهدى إِلَيْهِ ليزِيد بذلك فِي سرورة. وَفِيه: أَن الرجل يَسعهُ السُّكُوت بَين نِسَائِهِ إِذا تناظرن فِي ذَلِك وَلَا يمِيل مَعَ بَعضهنَّ على بعض، كَمَا سكت، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين تناظرت زَيْنَب وَعَائِشَة، وَلَكِن قَالَ فِي الْأَخير: إِنَّهَا بنت أبي بكر. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى التَّفْضِيل بالشرف والعز. وَفِيه: جَوَاز التشكي والترسل فِي ذَلِك. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مهابته وَالْحيَاء مِنْهُ، حَتَّى راسلنه بِأَعَز النَّاس عِنْده: فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: إدلال زَيْنَب بنت جحش على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لكَونهَا كَانَت بنت عمته، كَانَت أمهَا أُمَيْمَة بِالتَّصْغِيرِ بنت عبد الْمطلب. وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ: عذر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِزَيْنَب، قيل: لَا نَدْرِي هَذَا من أَيْن أَخذه؟ وَقيل: يُمكن أَنه أَخذه من مخاطبتها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لطلب الْعدْل مَعَ علمهَا بِأَنَّهُ أعدل النَّاس، لَكِن غلبت عَلَيْهَا الْغيرَة فَلم يؤاخذها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِطْلَاق ذَلِك، وَإِنَّمَا خص زَيْنَب بِالذكر لِأَن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت حاملة رِسَالَة خَاصَّة، بِخِلَاف زَيْنَب فَإِنَّهَا شريكتهن فِي ذَلِك، بل كَانَت رأسهن، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تولت إرْسَال فَاطِمَة أَولا ثمَّ سَارَتْ بِنَفسِهَا.
قَالَ البُخَارُيُّ الْكَلامُ الأخِيرُ قَصَّةُ فاطِمَةَ يُذْكَرُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ رَجُل عنِ الزُّهْرِيَّ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ
لما تصرف الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْص حَتَّى إِن مِنْهُم من جعله ثَلَاثَة أَحَادِيث. قَالَ البُخَارِيّ: الْكَلَام الْأَخير قصَّة فَاطِمَة ... إِلَى آخِره، يذكرهُ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن رجل، وَهُوَ مَجْهُول، عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن عَائِشَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرجل الْمَجْهُول مَذْكُور على طَرِيق الشَّهَادَة والمتابعة، وَاحْتمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْأُصُول.
وَقَالَ أبُو مَرْوَانَ عنْ هِشَامٍ عَن عُرْزَةَ كانَ النَّاسُ يَتَحرَّوْنَ يَوْمَ عائِشَةَ وعنْ هِشامٍ عنْ رَجُلٍ منْ قُرَيْشٍ ورَجُلٍ منَ المَوالِي عَن الزُهْرِي عنْ مُحَمَّدِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشامٍ قالَتْ عائِشَةُ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَأْذَنتْ فاطمَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
أَبُو مَرْوَان هُوَ يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الغساني، سكن واسطاً، مَاتَ سنة تسعين وَمِائَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: إِنَّه مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني، وَهُوَ وهم. قلت: هَذَا أَيْضا يكنى أَبَا مَرْوَان، لكنه لم يدْرك عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَإِنَّمَا يروي عَنهُ بِوَاسِطَة، وروى عَن هِشَام أَيْضا بطرِيق آخر، رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَنهُ عَن عَوْف بن الْحَارِث عَن أَخِيه رميثة
عَن أم سَلمَة: أَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَ لَهَا: إِن النَّاس يتحرون بهداياهم يَوْم عَائِشَة ... الحَدِيث. أخرجه أَحْمد.
9 - (بابُ مَا لَا يُرَدُّ مِنَ الهَدِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يرد من الْهَدِيَّة.
2852 - حدَّثنا أبُو مَعْمَر قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوارِثِ قَالَ حدَّثنا عَزْرةُ بنُ ثابِتٍ الأنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني ثُمامَةُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ دَخَلْتُ علَيْهِ فنَاوَلَنِي طِيباً قَالَ كانَ أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ قَالَ وزَعَمَ أنَسٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.
(الحَدِيث 2852 طرفه فِي: 9295) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه أوضح مَا فِي التَّرْجَمَة من الْإِبْهَام، لِأَن قَوْله: مَا لَا يرد من الْهَدِيَّة، غير مَعْلُوم، فَالْحَدِيث أوضحه(13/139)
وَهُوَ أَن المُرَاد مِنْهُ الطّيب. قَالَ الْجَوْهَرِي: الطّيب مَا يتطيب بِهِ. قلت: هَذَا بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء، وَأما: الطّيب، بِفَتْح الطَّاء وَتَشْديد الْيَاء الْمَكْسُورَة، فَهُوَ خلاف الْخَبيث. تَقول: طَابَ الشَّيْء يطيب طيبَة وتطياباً.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد. الثَّالِث: عزْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وبالراء: ابْن ثَابت الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن عبد الله بن أنس، قَاضِي الْبَصْرَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده، فَإِن ثُمَامَة روى عَن جده أنس بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَة رد الطّيب: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، قَالَ: حَدثنَا عزْرَة بن ثَابت عَن ثُمَامَة بن عبد الله، قَالَ: كَانَ أنس لَا يرد الطّيب. وَقَالَ أنس: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يرد الطّيب، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة وَفِي الزِّينَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن وَكِيع.
قَوْله: (قَالَ: دخلت عَلَيْهِ) ، أَي: قَالَ عزْرَة بن ثَابت: دخلت على ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس، وَقد وهم صَاحب (التَّوْضِيح) حَيْثُ قَالَ: الضَّمِير فِي: عَلَيْهِ، يرجع إِلَى أنس. قَوْله: (فناولني طيبا) أَي: فناولني ثُمَامَة طيبا، وَقد ذكرنَا أَن الطّيب فِي اللُّغَة مَا يتطيب بِهِ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاث لَا ترد: الوسائد والدهن وَاللَّبن) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَهَذَا الَّذِي ذكره أَيْضا مِمَّا لَا يرد وَإِنَّمَا لم يذكرهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه. قَوْله: (قَالَ وَزعم أنس) ، أَي: قَالَ: والزعم يسْتَعْمل لِلْقَوْلِ، قَالَ ابْن بطال، رَحمَه الله: إِنَّمَا كَانَ لَا يرد الطّيب من أجل أَنه ملازم لمناجاة الْمَلَائِكَة، وَلذَلِك كَانَ لَا يَأْكُل الثوم وَمَا يشاكله، قَالَ بَعضهم: لَو كَانَ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي ذَلِك لَكَانَ من خَصَائِصه، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أنسا اقْتدى بِهِ فِي ذَلِك، وَقد ورد النَّهْي عَن رده مَقْرُونا بِبَيَان الْحِكْمَة فِي ذَلِك فِي حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق عبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من عرض عَلَيْهِ طيب فَلَا يردهُ، فَإِنَّهُ خَفِيف الْمحمل طيب الرَّائِحَة) وَأخرجه مُسلم من هَذَا الْوَجْه لَكِن، قَالَ: ريحَان، بدل: طيب. انْتهى. قلت: إِذا انْتَفَت الخصوصية لَا يُنَافِي أَن يكون من جملَة السَّبَب فِي ترك رده اسْتِصْحَاب شَيْء طيب الرَّائِحَة للْملك وللخلق.
01 - (بابُ مَنْ رَأى الهِبَةَ الغائِبَةَ جائزَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من رأى الْهِبَة أَي: الَّتِي توهب، لِأَن نفس الْهِبَة مصدر، كَمَا ذكرنَا، فَلَا يُوصف بالغيبة. وَفِي بعض النّسخ: من رأى الْهَدِيَّة الغائبة جَائِزَة، وَالْأول أصوب على مَا لَا يخفى.
4852 - حدَّثنا سعيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهاب قَالَ ذَكَرَ عُرْوَةُ أنَّ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما ومَرْوانَ قَالَ أخْبِراهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَ جاءَهُ وفْدُ هَوازِنَ قامَ فِي النَّاسِ فأثناى علَى الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ جاؤنَا تائبِينَ وإنِّي رأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ ذالِكَ فَلْيَفْعَلْ ومَنْ أحَبَّ أنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أوَّلِ مَا يُفِىءُ الله عَلَيْنا فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا لَكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، فَإِن فِيهِ: أَنهم تركُوا مَا غنموه من السَّبي، من قبل أَن يقسم، وَذَلِكَ فِي معنى الْغَائِب، وتركهم إِيَّاه فِي معنى الْهِبَة، وَفِيه تعسف شَدِيد من وُجُوه: الأول: أَنهم مَا ملكوا شَيْئا قبل الْقِسْمَة، وَإِن كَانُوا استحقوه. وَالثَّانِي: إِطْلَاق الْهِبَة على التّرْك بعيد جدا. وَالثَّالِث: أَنه هبة شَيْء مَجْهُول، لِأَن مَا يسْتَحق كل وَاحِد مِنْهُم قبل الْقِسْمَة غير مَعْلُوم. وَالرَّابِع: توصيف الْهِبَة بالعيبة، وَفِيه مَا فِيهِ، وَهَذِه التعسفات كلهَا من وضع هَذِه التَّرْجَمَة على الْوَجْه الْمَذْكُور.
وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث الْمسور ومروان فِي قصَّة هوَازن، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْعتْق فِي: بَاب من ملك من الْعَرَب رَقِيقا فوهب(13/140)
وَبَاعَ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (وَمن أحب أَن يكون على حَظه) ، أَي: نصِيبه، وَجَوَاب: من، الَّتِي هِيَ للشّرط مَحْذُوف، يدل عَلَيْهِ السِّيَاق فِي جَوَاب الشَّرْط الأول، وَهُوَ قَوْله: فَلْيفْعَل، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن للسُّلْطَان أَن يرفع أَمْلَاك قوم إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة واستئلاف، ورد بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا ذكره، بل فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بعد تطييب نفوس الْغَانِمين.
11 - (بابُ الْمُكَافَأة فِي الهِبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمُكَافَأَة، وَهِي إِعْطَاء الْعِوَض فِي الْهِبَة، والمكافأة مفاعلة من: كافأ يكافيء، وَأَصلهَا بِالْهَمْزَةِ، وَقد يلين، وكل شَيْء سَاوَى شَيْئا حَتَّى يكون مثله فَهُوَ مكافىء لَهُ، وَمِنْه التكافؤ وَهُوَ الاسْتوَاء.
5852 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عيساى بنُ يُونُسَ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْبَلُ الهدِيَّةَ ويُثيبُ علَيْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة إِنَّمَا تتأتى إِذا أُرِيد بِلَفْظ الْهِبَة فِي التَّرْجَمَة مَعْنَاهَا الْأَعَمّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، يروي عَن أَبِيه عُرْوَة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن عَليّ بن بَحر وَعبد الرَّحِيم بن مطرف، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن يحيى بن أَكْثَم، وَعلي بن خشرم، وَفِي الشَّمَائِل عَن عَليّ بن خشرم وَغير وَاحِد كلهم عَن عِيسَى بن يُونُس بِهِ.
قَوْله: (عَن هِشَام) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا هِشَام. قَوْله: (ويثيب عَلَيْهَا) ، من أثاب يثيب أَي: يكافىء عَلَيْهَا بِأَن يُعْطي صَاحبهَا الْعِوَض، والمكافأة على الْهَدِيَّة مَطْلُوبَة اقْتِدَاء بالشارع. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا لَا يجب فِيهَا ثَوَاب مُطلقًا، سَوَاء وهب الْأَعْلَى للأدنى أَو عَكسه، أَو للمساوي. قَالَ الْمُهلب: والهدية ضَرْبَان: للمكافأة، فَهِيَ بيع وَيجْبر على دفع الْعِوَض، وَللَّه تَعَالَى. وللصلة، فَلَا يلْزم عَلَيْهِ مُكَافَأَة، وَإِن فعل فقد أحسن.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن وهب هبة ثمَّ طلب ثَوَابهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا أردْت الثَّوَاب، فَقَالَ مَالك: ينظر فِيهِ، فَإِن كَانَ مثله من يطْلب الثَّوَاب من الْمَوْهُوب لَهُ فَلهُ ذَلِك، مثل هبة الْفَقِير للغني والغلام لصَاحبه، وَالرجل لامْرَأَته وَمن فَوْقه، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يكون لَهُ إِذا لم يشرطه، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الثَّانِي، وَاحْتج مَالك بِحَدِيث الْبَاب، والاقتداء بِهِ وَاجِب، قَالَ الله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 12) . وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن أَعْرَابِيًا وهب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأثابه عَلَيْهَا. وَقَالَ: رضيت؟ فَقَالَ: لَا، فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا، فزاده. قَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَا أتهب هبة إلاَّ من قريشي أَو أَنْصَارِي أَو ثقفي، وَعَن أبي هُرَيْرَة نَحوه، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط مُسلم وَهُوَ دَال على الثَّوَاب فِيهَا، وَإِن لم يشرط، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثابه وزاده فِيهِ حَتَّى بلغ رِضَاهُ، وَاحْتج بِهِ من أوجبه، قَالَ: وَلَو لم يكن وَاجِبا لم يثبه وَلم يزده، وَلَو أثاب تَطَوّعا لم تلْزمهُ الزِّيَادَة، وَكَانَ يُنكر على الْأَعرَابِي طلبَهَا. قلت: طمع فِي مَكَارِم أخلافه وعادته فِي الإثابة. وَقَالَ ابْن التِّين: إِذا شَرط الثَّوَاب أجَازه الْجَمَاعَة إلاَّ عبد الْملك، وَله عِنْد الْجَمَاعَة أَن يردهَا مَا لم يتَغَيَّر إلاَّ عِنْد مَالك، فألزمه الثَّوَاب بِنَفس الْقبُول، وَعبارَة ابْن الْحَاجِب: وَإِذا صرح بالثواب فَإِن عيَّنه فَبيع، وَإِن لم يُعينهُ فصححه ابْن الْقَاسِم وَمنعه بَعضهم للْجَهْل بِالثّمن، قَالَ: وَلَا يلْزم الْمَوْهُوب لَهُ إلاَّ قيمتهَا قَائِمَة أَو فَائِتَة، وَقَالَ مطرف: للْوَاهِب أَن يَأْبَى إِن كَانَت قَائِمَة.
لمْ يَذْكُرْ وكِيعٌ ومحاضِرٌ عنْ هشامٍ عَن أبِيهِ عنْ عائِشَةَ
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى أَن عِيسَى بن يُونُس تفرد بوصل هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام، وَأَنه لم يذكر وَكِيع بن الْجراح، ومحاضر، بِضَم الْمِيم وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن الْمُوَرِّع، بتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة وبالعين الْمُهْملَة: الْكُوفِي، عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة يَعْنِي: لم يسندا إِلَى هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، بل أَرْسلَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا(13/141)