مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السِّتَّة من طرق، وَقد رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن زِيَاد وَمُحَمّد بن سِيرِين والأعرج وَهَمَّام وَأَبُو صَالح ومُوسَى بن يسَار وثابت مولى عبد الرَّحْمَن بن زيد وَمُجاهد والوليد بن رَبَاح. أما رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد فَانْفَرد بهَا التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ) . يَعْنِي: إِذا حلبها إِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا من رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة. وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين فأخرجها مُسلم عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حبلة عَن أبي عَامر الْعَقدي. وأخرجها مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين. وَأما رِوَايَة الْأَعْرَج فأخرجها الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج. وَأما رِوَايَة همام فَانْفَرد بهَا مُسلم من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام. وَأما رِوَايَة أبي صَالح فَانْفَرد بهَا مُسلم أَيْضا من رِوَايَة يَعْقُوب ابْن عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه. وَأما رِوَايَة مُوسَى بن يسَار فأخرجها مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة دَاوُد بن قيس عَنهُ. وَأما رِوَايَة ثَابت وَهُوَ ابْن عِيَاض، فأخرجها البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة زِيَاد بن سعد عَنهُ. وَأما رِوَايَة مُجَاهِد والوليد بن رَبَاح فذكرهما البُخَارِيّ تَعْلِيقا على مَا يَأْتِي وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَمَان طرق عَن ابْن سِيرِين بطريقين أَحدهمَا مَعَه خلاس بن عَمْرو وَمُحَمّد بن زِيَاد ومُوسَى بن يسَار والأعرج وَعِكْرِمَة وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وَعبد الرَّحْمَن بن سعد مَعَ عِكْرِمَة. .
قَوْله: (لَا تصروا الْإِبِل) ، بِفَتْح التَّاء وَضم الصَّاد، وَهُوَ نهي للْجَمَاعَة، وَالْإِبِل، مَنْصُوب ويروى: (لَا تصر) ، بِضَم التَّاء وَفتح الصَّاد بِصِيغَة الْإِفْرَاد على بِنَاء الْمَجْهُول، الْإِبِل مَرْفُوع بِهِ، وَالْغنم عطف على الْإِبِل بِالْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (فَمن ابتاعها) أَي: فَمن اشْترى الْمُصراة. قَوْله: (بعد) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي بعد هَذَا النَّهْي، أَو: بعد صر البَائِع. قلت: الْوَجْه الثَّانِي هُوَ الْأَوْجه، وَالْأول فِيهِ الْبعد. قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الَّذِي ابتاعها. قَوْله: (بِخَير النظرين) ، أَي: بِخَير الرأيين. قَوْله: (أَن يحتلبها) ، بِكَسْر: إِن، كَذَا فِي الأَصْل على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، ويحتلبها بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ فعل الشَّرْط، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة والإسماعيلي من طَرِيق أَسد بن مُوسَى عَن اللَّيْث: بعد أَن يحلبها، بِفَتْح: أَن، وَنصب: يحلبها، وَظَاهر الحَدِيث أَن الْخِيَار لَا يثبت إلاَّ بعد الْحَلب، وَالْجُمْهُور على أَنه إِذا علم بالتصرية ثَبت لَهُ الْخِيَار، وَلَو لم يحلب. لَكِن لما كَانَت التصرية لَا تعرف غَالِبا إلاَّ بعد الْحَلب ذكر قيدا فِي ثُبُوت الْخِيَار، فَلَو ظَهرت التصرية بعد الْحَلب فَالْخِيَار ثَابت. قَوْله: (وَإِن شَاءَ ردهَا) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (وَإِن سخطها ردهَا) . قَوْله: (وَصَاع تمر) ، مَنْصُوب بِشَيْء مُقَدّر، وَالتَّقْدِير: ورد مَعهَا صَاع تمر، قيل: يجوز أَن يكون مَفْعُولا مَعَه، وَأجِيب: بِأَن جُمْهُور النُّحَاة على أَن شَرط الْمَفْعُول مَعَه أَن يكون فَاعِلا نَحْو: جِئْت أَنا وزيدا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث ابْن أبي ليلى وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَأَبُو سُلَيْمَان وَزفر وَأَبُو يُوسُف فِي بعض الرِّوَايَات، فَقَالُوا: من اشْترى مصراة فحلبها فَلم يرض بهَا فَإِنَّهُ يردهَا إِن شَاءَ، وَيرد مَعهَا صَاعا من تمر، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يُؤَدِّي أهل كل بلد صَاعا من أغلب عيشهم، وَابْن أبي ليلى قَالَ: يرد مَعهَا قيمَة صَاع من تمر، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف، وَلكنه غير مَشْهُور عَنهُ، وَقَالَ زفر: يرد مَعهَا صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير، أَو نصف صَاع من تمر. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) للأشبيلي: قَالَ مَالك: إِذا احتلبها ثَلَاثًا وسخطها لاخْتِلَاف لَبنهَا ردهَا وَمَعَهَا صَاعا من قوت ذَلِك الْبَلَد، تَمرا كَانَ أَو برا أَو غَيره. وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ وَأَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَعَن مَالك: يرد مكيلة مَا حلب من اللَّبن تَمرا أَو قِيمَته. وَقَالَ أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي: لَا يكون إلاَّ من التَّمْر، وَإِذا لم يجد المُشْتَرِي التَّمْر فَهَل ينْتَقل إِلَى غَيره؟ حكى الْمَاوَرْدِيّ فِيهِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يرد قِيمَته بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: قِيمَته بأقرب بِلَاد التَّمْر إِلَيْهِ. وَاقْتصر الرَّافِعِيّ على نقل الْوَجْه الأول عَن الْمَاوَرْدِيّ، والوجهان مَعًا فِي (الْحَاوِي) . فَإِن اتّفق الْمُتَبَايعَانِ على غير التَّمْر فِي رد بدل لبن الْمُصراة، فقد حكى الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج وَجْهَيْن فِي إِجْزَاء الْبر عَن التَّمْر إِذا اتفقَا عَلَيْهِ، فَكَانَ كالاستبدال عَمَّا فِي ذمَّته، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَمَالك فِي رِوَايَة وَأَشْهَب من الْمَالِكِيَّة وَابْن أبي ليلى فِي رِوَايَة وَطَائِفَة من أهل الْعرَاق: لَيْسَ للْمُشْتَرِي رد الْمُصراة بِخِيَار الْعَيْب، وَلكنه يرجع بِالنُّقْصَانِ، لِأَنَّهُ وجد مَا يمْنَع الرَّد وَهُوَ الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة عَنْهَا، وَفِي الرُّجُوع بِالنُّقْصَانِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة فِي رِوَايَة (شرح الطَّحَاوِيّ) : يرجع(11/270)
على البَائِع بِالنُّقْصَانِ من الثّمن لتعذر الرَّد، وَفِي رِوَايَة (الْأَسْرَار) : لَا يرجع، لِأَن اجْتِمَاع اللَّبن وَجمعه لَا يكون عَيْبا.
وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بأجوبة.
الأول: مَا قَالَه مُحَمَّد بن شُجَاع: إِن هَذَا الحَدِيث نسخه حَدِيث: البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَلَمَّا قطع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالفرقة الْخِيَار ثَبت بذلك أَن لَا خِيَار لأحد بعد ذَلِك إلاَّ لمن اسْتَثْنَاهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا، وَهُوَ قَوْله: (إلاَّ بيع الْخِيَار الْمَجْهُول) ورده الطَّحَاوِيّ بِأَن الْخِيَار الْمَجْهُول فِي الْمُصراة إِنَّمَا هُوَ خِيَار عيب، وَخيَار الْعَيْب لَا تقطعه الْفرْقَة.
الثَّانِي: مَا قَالَه عِيسَى بن أبان، كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام حَيْثُ كَانَت الْعُقُوبَات فِي الدُّيُون حَتَّى نسخ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرِّبَا، فَردَّتْ الْأَشْيَاء الْمَأْخُوذَة إِلَى أَمْثَالهَا.
الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن التِّين، وَمن جملَة مَا رووا بِهِ حَدِيث الْمُصراة بِالِاضْطِرَابِ، قَالَ مرّة: صَاعا من تمر، وَمرَّة: صَاعا من طَعَام، وَمرَّة مثل أَو مثلي لَبنهَا.
الرَّابِع: أَن الحَدِيث، وَإِن وَقع بِنَقْل الْعدْل الضَّابِط عَن مثله إِلَى قَائِله، لَا بُد فِي اعْتِبَاره أَن يكون غير شَاذ وَلَا مَعْلُول، وَهَذَا مَعْلُول لِأَنَّهُ يُخَالف عُمُوم الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة، فَيتَوَقَّف بهَا عَن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ. أما عُمُوم الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} (الْبَقَرَة: 491) . وَقَوله: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ} (النَّحْل: 621) . وَأما الحَدِيث فَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْخراج بِالضَّمَانِ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَصَححهُ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عَائِشَة، ويروى: (الْغلَّة بِالضَّمَانِ) ، وَالْمرَاد بالخراج مَا يحصل من غلَّة الْعين المبتاعة، عبدا كَانَ أَو أمة أَو ملكا، وَذَلِكَ أَن يَشْتَرِيهِ فيستعمله زَمَانا ثمَّ يعثر مِنْهُ على عيب قديم لم يطلعه البَائِع عَلَيْهِ، أَو لم يعرفهُ، فَلهُ رد الْعين الْمَبِيعَة وَأخذ الثّمن، وَيكون للْمُشْتَرِي مَا اسْتَعْملهُ، لِأَن الْمَبِيع لَو كَانَ تلف فِي يَده لَكَانَ من ضَمَانه، وَلم يكن لَهُ على البَائِع شَيْء.
ثمَّ أَن هَؤُلَاءِ قد زَعَمُوا أَن رجلا لَو اشْترى شَاة فحلبها ثمَّ أصَاب عَيْبا غير التحفيل والتصرية أَنه يردهَا وَيكون اللَّبن لَهُ، وَكَذَلِكَ لَو اشْترى جَارِيَة مثلا فَولدت عِنْده ثمَّ ردهَا على البَائِع لعيب وجد بهَا، يكون الْوَلَد لَهُ، قَالُوا: لِأَن ذَلِك من الْخراج الَّذِي جعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فالصاع من التَّمْر الَّذِي يُوجِبهُ هَؤُلَاءِ على مُشْتَرِي الْمُصراة إِذا ردهَا على بَايَعَهَا بِسَبَب التصرية والتحفيل، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون عوضا من جَمِيع اللَّبن الَّذِي احتلبه مِنْهَا، كَانَ بعضه فِي ضرْعهَا وَقت وُقُوع البيع، وَحدث بعضه فِي ضرْعهَا بعد البيع. وَأما أَن يكون عوضا عَن اللَّبن الَّذِي فِي ضرْعهَا وَقت وُقُوع البيع خَاصَّة، فَإِن أَرَادوا الْوَجْه الأول فقد ناقضوا أصلهم الَّذِي جعلُوا بِهِ اللَّبن وَالْولد للْمُشْتَرِي بعد الرَّد بِالْعَيْبِ فِي الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرناهما، وَذَلِكَ لأَنهم جعلُوا حكمهمَا كَحكم الْخراج الَّذِي فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، وَإِن أَرَادوا بِهِ الْوَجْه الثَّانِي فقد جعلُوا للْبَائِع صَاعا دينا بدين، وَهَذَا غير جَائِز لَا فِي قَوْلهم وَلَا فِي قَول غَيرهم، وَأي الْمَعْنيين أَرَادوا فهم فِيهِ تاركون أصلا من أصولهم، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ أولى بالْقَوْل بنسح الحكم فِي الْمُصراة لكَوْنهم يجْعَلُونَ اللَّبن فِي حكم الْخراج، وَغَيرهم لَا يجْعَلُونَ كَذَلِك، فَظهر من ذَلِك فَسَاد كَلَامهم وَفَسَاد مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. فَإِن قلت: لَا نسلم أَن يكون اللَّبن فِي حكم الْخراج، لِأَن اللَّبن لَيْسَ بغلة وَإِنَّمَا كَانَ محفلاً فِيهَا، فَيلْزم رده. قلت: هَذَا مَمْنُوع، لِأَن الْغلَّة هِيَ الدخل الَّذِي يحصل، وَهِي أَعم من أَن يكون لَبَنًا أَو غَيره، وَأَيْضًا يلْزمهُم على هَذَا أَن يردوا عوض اللَّبن إِذا ردَّتْ الْمُصراة بِعَيْب آخر غير التصرية، وَلم يَقُولُوا بِهِ. فَإِن قلت: هَذَا حكم خَاص فِي نَفسه، وَحَدِيث: الْخراج بِالضَّمَانِ، عَام، وَالْخَاص يقْضِي على الْعَام. قلت: هَذَا زعمك، وَإِنَّمَا الأَصْل تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ، وَلِهَذَا رجحنا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الأَرْض: (مَا أخرجت فَفِيهِ الْعشْر) ، على الْخَاص الْوَارِد، بقوله: (لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، وأمثال ذَلِك كَثِيرَة.
ويُذْكَرُ عنْ أبِي صَالِحٍ ومُجاهِدٍ والوَلِيدِ بنِ رَباحٍ ومُوسَى بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاعَ تَمْرٍ
التَّعْلِيق عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات، رَوَاهُ مُسلم، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الْقَارِي عَن سُهَيْل عَن أَبِيه أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ابْتَاعَ شَاة مصراة فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث أَيَّام، إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر) . انْتهى. وَأَحَادِيث الْمُصراة على نَوْعَيْنِ. أَحدهمَا: مُطلق عَن ذكر مُدَّة الْخِيَار، وَبِه أخذت الْمَالِكِيَّة وحكموا فِيهَا بِالرَّدِّ مُطلقًا. وَالْآخر: مِنْهَا: مُقَيّد ذكر مُدَّة الْخِيَار كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم(11/271)
هَذِه، وَبِه أخذت الشَّافِعِيَّة، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن المُشْتَرِي لَو لم يطلع على التصرية إلاَّ بعد الثَّلَاث أَنه لَا يثبت لَهُ خِيَار الرَّد لظَاهِر الحَدِيث. وَقَالَ شَيخنَا: وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي ثُبُوته كَسَائِر الْعُيُوب، وَلكنه على الْفَوْر عِنْدهم بِلَا خلاف لَا يَمْتَد بعد الِاطِّلَاع عَلَيْهِ.
وَأما التَّعْلِيق عَن مُجَاهِد فوصله الْبَزَّار، حَدثنَا مُحَمَّد بن مُوسَى الْقطَّان حَدثنَا عَمْرو بن أبان حَدثنَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة وَفِيه: من ابْتَاعَ مصراة فَلهُ أَن يردهَا وصاعا من طَعَام، وَمُحَمّد بن مُسلم فِيهِ مقَال، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي علقه عَن مُجَاهِد لم أره إلاَّ مَا فِي مُسْند الْبَزَّار. قلت: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي الْأَوْسَط وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه.
وَأما التَّعْلِيق عَن الْوَلِيد بن رَبَاح، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة، فوصله أَحْمد بن منيع بِلَفْظ: (من اشْترى مصراة فليرد مَعهَا صَاعا من تمر) .
وَأما التَّعْلِيق عَن مُوسَى بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة فوصله مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حَدثنَا دَاوُد بن قيس عَن مُوسَى بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة مصراة فلينقلب بهَا فليحلبها، فَإِن رَضِي حلابها أمْسكهَا وإلاَّ ردهَا وَمَعَهَا صَاع تمر) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عنِ ابنِ سِيرِينَ صَاعا منْ طَعَامٍ وهْوَ بِالخَيَارِ ثَلاَثا
التَّعْلِيق عَن مُحَمَّد بن سِيرِين رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة بن أبي رواد حَدثنَا أَبُو عَامر يَعْنِي: الْعَقدي حَدثنَا قُرَّة عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا لَا سمراء) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ: معنى من طَعَام: لَا سمراء، لَا بر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: المُرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا التَّمْر، لقَوْله: لَا سمراء قلت: لَا يعلم أَن المُرَاد من الطَّعَام هَهُنَا التَّمْر، وَلَا قَوْله: لَا سمراء، يدل عَلَيْهِ لِأَن الَّذِي يفهم مِنْهُ أَن لَا يكون قمحا وَغَيره أَعم من أَن يكون تَمرا أَو غَيره. وَقَالَ بَعضهم: وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن عون عَن ابْن سِيرِين أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: لَا سمراء، تمر لَيْسَ ببر، فَهَذِهِ الرِّوَايَة تبين أَن المُرَاد بِالطَّعَامِ التَّمْر، وَلما كَانَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن أَن المُرَاد بِالطَّعَامِ الْقَمْح نَفَاهُ بقوله: لَا سمراء، ورد هَذَا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّار من طَرِيق أَشْعَث بن عبد الْملك عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: إِن ردهَا ردهَا وَمَعَهَا صَاع من بر لَا سمراء. قلت: الظَّاهِر من قَوْله: (لَا سمراء) نفي لقمح مَخْصُوص، وَهِي الْحِنْطَة الشامية، وَقد روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: أَن المُرَاد بالسمراء الْحِنْطَة الشامية، وَهِي كَانَت أغْلى ثمنا من الْبر الْحِجَازِي فَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر برد الصَّاع من الْبر الْحِجَازِي لِأَن الْبر الشَّامي لكَونه أغْلى ثمنا قصد التَّخْفِيف عَلَيْهِم، وَجَاء فِي الحَدِيث أَيْضا: أَن الطَّعَام غير التَّمْر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن رجل من الصَّحَابَة نَحْو حَدِيث الْبَاب، وَفِيه: وَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من تمر، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين التَّمْر وَالطَّعَام، وَأَن الطَّعَام غير التَّمْر.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عنِ ابنِ سِيرِينَ صَاعا مِنْ تَمْرٍ ولَمْ يَذْكُرْ ثَلاثا والتَّمْرُ أكْثَرُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مُسلم حَدثنَا ابْن أبي عمر، حَدثنَا سُفْيَان عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِخَير النظرين: إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا وصاعا من تمر لَا سمراء) . قَوْله: (وَالتَّمْر أَكثر) من كَلَام البُخَارِيّ. أَي: أَكثر من الطَّعَام، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقيل: أَكثر عددا من الرِّوَايَات الَّتِي لم ينص عَلَيْهِ، أَو أبدلته بِذكر الطَّعَام. وَقَالَ بَعضهم: قد أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث جُمْهُور أهل الْعلم، وَأفْتى بِهِ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، وَقَالَ بِهِ من التَّابِعين وَمن بعدهمْ من لَا يُحْصى عدده، وَلم يفرقُوا بَين أَن يكون اللَّبن الَّذِي احتلب قَلِيلا أَو كثيرا، وَلَا بَين أَن يكون تمر تِلْكَ الْبَلَد أم لَا. انْتهى.
قلت: أَبُو حنيفَة غير مُنْفَرد بترك الْعَمَل بِحَدِيث الْمُصراة، بل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَابْن أبي ليلى وَمَالك فِي رِوَايَة مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التصرية، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أشهد على الصَّادِق المصدوق أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بيع المحفلات خلابة وَلَا تحل الخلابة لمُسلم) . انْتهى. قلت: وَالْكل مجمعون على أَن التصرية حرَام وغش وخداع، وَلأَجل كَون بيعهَا صَحِيحا مَعَ كَونهَا حَرَامًا أجَاب(11/272)
عَنْهَا بِمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب. وَأقوى الْوُجُوه فِي ترك الْعَمَل بهَا مخالفتها لِلْأُصُولِ من ثَمَانِيَة أوجه.
أَحدهَا: أَنه أوجب من الرَّد من غير عيب وَلَا شَرط. الثَّانِي: أَنه قدر الْخِيَار بِثَلَاثَة أَيَّام، وَإِنَّمَا يتَقَيَّد بِالثلَاثِ خِيَار الشَّرْط. الثَّالِث: أَنه أوجب الرَّد بعد ذهَاب جُزْء من الْمَبِيع. الرَّابِع: أَنه أوجب الْبَدَل مَعَ قيام الْمُبدل. الْخَامِس: أَنه قدره بِالتَّمْرِ أَو بِالطَّعَامِ والمتلفات إِنَّمَا تضمن بأمثالها أَو قيمتهَا بِالنَّقْدِ. السَّادِس: أَن البن من ذَوَات الْأَمْثَال، فَجعل ضَمَانه فِي هَذَا الْخَبَر بِالْقيمَةِ. السَّابِع: أَنه يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا فِيمَا إِذا بَاعهَا بِصَاع تمر. الثَّامِن: أَنه يُؤَدِّي إِلَى الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لم ينْفَرد أَبُو هُرَيْرَة بِرِوَايَة هَذَا الأَصْل، فقد أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمر، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَنهُ، وإبو يعلى من حَدِيث أنس. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) من طَرِيق عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ. وَأخرجه أَحْمد من رِوَايَة رجل من الصَّحَابَة لم يسم، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا الحَدِيث مجمع على صِحَّته وثبوته من جِهَة النَّقْل.
قلت: أما حديثابن عمر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة صَدَقَة بن سعيد الْجعْفِيّ عَن جَمِيع بن عُمَيْر التَّيْمِيّ،، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ابْتَاعَ محفلة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن رد مَعهَا مثل أَو مثلي لَبنهَا قمحا) ، قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بذلك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ جَمِيع بن عُمَيْر، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر، وَذكره ابْن حبَان فِي الضُّعَفَاء، وَقَالَ: كَانَ رَافِضِيًّا يضع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن نمير: كَانَ من أكذب النَّاس، وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: كُوفِي صَالح الحَدِيث من عنق الشِّيعَة. وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ أَبُو يعلى وَفِي سَنَده إِسْمَاعِيل ابْن مُسلم الْمَكِّيّ وَهُوَ ضَعِيف. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن مُسلم عَن الْحسن عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة محفلة فَإِن لصَاحِبهَا أَن يحتلبها، فَإِن رضيها فليمسكها، وإلاَّ فليردها وصاعا من تمر) . وَالْمَحْفُوظ أَنه مُرْسل. وَأما حَدِيث رجل من الصَّحَابَة، فَأخْرجهُ أَحْمد عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يتلَقَّى الجلب وَلَا يَبِيع حَاضر لباد، وَمن اشْترى شَاة مصراة أَو نَاقَة) . قَالَ شُعْبَة: إِنَّمَا قَالَ: نَاقَة مرّة وَاحِدَة. (فَهُوَ مِنْهَا بِأحد النظرين، إِذا هُوَ حلب، إِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من طَعَام) . قَالَ الحكم: أَو صَاعا من تمر، ثمَّ إِن بَعضهم قد تصدى للجواب عَمَّا قَالَت الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا الْموضع، فَمَا قَالُوا: إِن هَذَا يَعْنِي: حَدِيث الْمُصراة خبر وَاحِد لَا يُفِيد إلاَّ الظَّن، وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول الْمَقْطُوع بِهِ، فَلَا يلْزم الْعَمَل بِهِ.
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَتعقب: بِأَن التَّوَقُّف فِي خبر الْوَاحِد إِنَّمَا هُوَ فِي مُخَالفَة الْأُصُول لَا فِي مُخَالفَة قِيَاس الْأُصُول، وَهَذَا الْخَبَر إِنَّمَا خَالف قِيَاس الْأُصُول بِدَلِيل أَن الْأُصُول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، وَالْكتاب وَالسّنة فِي الْحَقِيقَة هما الأَصْل والآخران مردودان اليهما، فَالسنة أصل وَالْقِيَاس فرع، فَكيف يرد الأَصْل بالفرع؟ بل الحَدِيث الصَّحِيح أصل بِنَفسِهِ فَكيف يُقَال: إِن الأَصْل يُخَالف نَفسه؟ انْتهى. قلت: قَوْله: وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول، لم يقل بِهِ الْحَنَفِيَّة، كَذَا، وَكَيف ينْقل عَنْهُم مَا لم يَقُولُوا أَو قَالُوا؟ فينقل عَنْهُم بِخِلَاف مَا أَرَادوا مِنْهُ لعدم التروي وَعدم إِدْرَاك التَّحْقِيق فِيهِ؟ فَكيف يُقَال: وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول، وَالْحَال أَن الْقيَاس أصل من الْأُصُول، لِأَن الْحَنَفِيَّة عدوا الْقيَاس أصلا رَابِعا، على مَا فِي كتبهمْ الْمَشْهُورَة، فَيكون معنى مَا نقلوا من هَذَا، وَهُوَ مُخَالف لأصل الْأُصُول، وَهُوَ كَلَام فَاسد، وَقَوله: وَالْقِيَاس فرع، كَلَام فَاسد أَيْضا لِأَنَّهُ عد أصلا رَابِعا، فَكيف يَقُول: إِنَّه فرع، حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ قَوْله؟ فَكيف يرد الأَصْل بالفرع؟ ثمَّ إِنَّه نقل عَن ابْن السَّمْعَانِيّ من قَوْله: مَتى ثَبت الْخَبَر صَار أصلا من الْأُصُول، وَلَا يحْتَاج إِلَى عرضه على أصل آخر، لِأَنَّهُ إِن وَافقه فَذَاك، وَإِن خَالفه لم يجز رد أَحدهمَا لِأَنَّهُ رد للْخَبَر، وَهُوَ مَرْدُود بِاتِّفَاق؟ انْتهى.
قلت: ثمَّ نقل عَن ابْن السَّمْعَانِيّ من قَوْله: وَالْأولَى عِنْدِي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تَسْلِيم الأقيسة، لَكِنَّهَا لَيست لَازِمَة، لِأَن السّنة الثَّابِتَة مُقَدّمَة عَلَيْهَا وعَلى تَقْدِير التنزل فَلَا نسلم أَنه مُخَالف لقياس الْأُصُول، لِأَن الَّذِي ادعوهُ عَلَيْهِ من الْمُخَالفَة بينوها بأوجه: أَحدهَا: أَن الْمَعْلُوم من الْأُصُول أَن ضَمَان الْمِثْلِيَّات بِالْمثلِ والمتقومات بِالْقيمَةِ، وَهَهُنَا إِن كَانَ اللَّبن مثلِيا فليضمن بِاللَّبنِ، وَإِن كَانَ مُتَقَوّما فليضمن بِأحد النَّقْدَيْنِ، وَقد وَقع هُنَا مَضْمُونا بِالتَّمْرِ فَخَالف الأَصْل، وَالْجَوَاب منع الْحصْر، فَإِن الْحر يضمن فِي دِيَته بِالْإِبِلِ، وَلَيْسَت مثلا لَهُ، وَلَا قيمَة، وَأَيْضًا فضمان الْمثل بِالْمثلِ لَيْسَ مطردا، فقد يضمن الْمثل بِالْقيمَةِ إِذا تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثلَة، كمن أتلف شَاة لبونا كَانَ عَلَيْهِ قيمتهَا، وَلَا يَجْعَل بِإِزَاءِ لَبنهَا لَبَنًا آخر، لتعذر الْمُمَاثلَة. انْتهى. قلت:(11/273)
قَوْله: فَلَا نسلم أَنه مُخَالف لقياس الْأُصُول ... إِلَى آخِره، غير مُسلم لِأَن مُخَالفَته للقاعدة الْأَصْلِيَّة ظَاهِرَة، وَهِي أَن ضَمَان الْمثل بِالْمثلِ وَضَمان الْمُتَقَوم بِالْقيمَةِ، وَهَذِه الْقَاعِدَة مطردَة فِي بَابهَا، وَضَمان الْمثل بِالْقيمَةِ عِنْد التَّعَذُّر خَارج عَن بَاب الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة، فَلَا يرد عَلَيْهَا الِاعْتِرَاض بذلك، لِأَن بَاب التَّعَذُّر مُسْتَثْنى عَنْهَا، والتعذر تَارَة يكون بالاستحالة كَمَا فِي ضَمَان الْحر بِالْإِبِلِ، وَتارَة يكون بِالْعدمِ، كتعذر الْمُمَاثلَة فِي ضَمَان لبن الشَّاة واللبون، وَأَيْضًا فِي مَسْأَلَة الشَّاة اللَّبُون: اللَّبن جُزْء من أَجْزَائِهَا، فَيدْخل فِي ضَمَان الْكل، وَدفع الصَّاع من التَّمْر أَو غَيره مَعَ اللَّبن فِي الْمُصراة إِنَّمَا كَانَ فِي وَقت الْعقُوبَة فِي الْأَمْوَال بِالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على أَن بيع المحفلات خلابة، والخلابة حرَام، فَكَانَ من فعل هَذَا وَبَاعَ صَار مُخَالفا لما أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وداخلاً فِيمَا نهى عَنهُ، فَكَانَت عُقُوبَته فِي ذَلِك أَن يَجْعَل اللَّبن المحلوب فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة للْمُشْتَرِي بِصَاع من تمر، وَلَعَلَّه يُسَاوِي آصعا كَثِيرَة، ثمَّ نسخت الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال بِالْمَعَاصِي، وَردت الْأَشْيَاء إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من الْقَاعِدَة الْأَصْلِيَّة.
ثمَّ ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم قَالُوا: إِن الْقَوَاعِد تَقْتَضِي أَن يكون الْمَضْمُون مُقَدّر الضَّمَان بِقدر التَّالِف، وَذَلِكَ مُخْتَلف، وَقد قدر هَهُنَا بِمِقْدَار وَاحِد وَهُوَ الصَّاع، فَخرج عَن الْقيَاس. وَالْجَوَاب: منع التَّعْمِيم فِي المضمونات كالموضحة، فأرشها مُقَدّر مَعَ اختلافها بِالْكبرِ والصغر، والغرة مقدرَة فِي الْجَنِين مَعَ اختلافه. انْتهى. قلت: لَا نسلم منع التَّعْمِيم فِي بَابه كَمَا ذكرنَا، وَمَا مثل بِهِ على وَجه الْإِيرَاد على الْقَاعِدَة غير وَارِد لأَنا قُلْنَا: إِن الَّذِي يفعل من ذَلِك عِنْد التَّعَذُّر خَارج من بَاب الْقَاعِدَة، غير دَاخل فِيهَا، حَتَّى يمْنَع اطراد الْقَاعِدَة، ثمَّ ذكر عَنْهُم أَيْضا أَن اللَّبن التَّالِف إِن كَانَ مَوْجُودا عِنْد العقد فقد ذهب جُزْء من الْمَعْقُود عَلَيْهِ من أصل الْخلقَة، وَذَلِكَ مَانع من الرَّد، فقد حدث على ملك المُشْتَرِي فَلَا يضمنهُ، وَإِن كَانَ مختلطا، فَمَا كَانَ مِنْهُ مَوْجُودا عِنْد العقد، وَمَا كَانَ حَادِثا لم يحب ضَمَانه. وَالْجَوَاب: أَن يُقَال: إِنَّمَا يمْتَنع الرَّد بِالنَّقْصِ إِذا لم يكن لاستعلام الْعَيْب، وإلاَّ فَلَا يمْتَنع، وَهنا كَذَلِك. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالُوهُ كَلَام وَاضح صَحِيح، وَالْجَوَاب الَّذِي أَجَابَهُ لَيْسَ بِشَيْء، فَهَل يرضى أحد أَن يرد هَذَا الْكَلَام بِمثل هَذَا الْجَواب؟ وَلَيْسَ الْعجب مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْعجب من الَّذِي يَنْقُلهُ فِي تأليفه ويرضى بِهِ.
ثمَّ ذكر عَنْهُم فِيمَا قَالُوا: بِأَنَّهُ خَالف الْأُصُول فِي جعل الْخِيَار فِيهِ ثَلَاثًا، مَعَ أَن خِيَار الْعَيْب لَا يقدر بِالثلَاثِ، وَكَذَا خِيَار الْمجْلس عِنْد من يَقُول بِهِ، وَخيَار الرُّؤْيَة عِنْد من يُثبتهُ. ثمَّ أجَاب: بِأَن حكم الْمُصراة انْفَرد بِأَصْلِهِ عَن مماثله، فَلَا تستغرب أَن ينْفَرد بِوَصْف زَائِد على غَيره، انْتهى. قلت: لانفراده بِأَصْلِهِ عَن مماثله قُلْنَا: إِنَّه مَنْسُوخ، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى.
ثمَّ ذكر عَنْهُم أَنهم قَالُوا: يلْزم من الْأَخْذ بِهِ الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض، ثمَّ أجَاب: بِأَن التَّمْر عوض عَن اللَّبن لَا عَن الشَّاة. قلت: لَيْسَ دفع التَّمْر الْإِجْزَاء لما ارْتكب من الْعِصْيَان حِين كَانَت الْعقُوبَة بالأموال فِي الْمعاصِي.
ثمَّ ذكر عَنْهُم بِأَنَّهُ مُخَالف لقاعدة الرِّبَا فِيمَا إِذا اشْترى شَاة بِصَاع، فَإِذا اسْتردَّ مَعهَا صَاعا فقد اسْترْجع الصَّاع الَّذِي هُوَ الثّمن، فَيكون قد بَاعَ شَاة وصاعا بِصَاع. الْجَواب: أَن الرِّبَا إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْعُقُود لَا فِي الفسوخ، بِدَلِيل أَنَّهُمَا لَو تبَايعا ذَهَبا بِفِضَّة لم يجز أَن يَتَفَرَّقَا قبل الْقَبْض، فَلَو تقابلا فِي هَذَا العقد بِعَيْنِه جَازَ التَّفَرُّق قبل الْقَبْض. انْتهى. قلت: ذكره هَذِه الْمَسْأَلَة تَأْكِيدًا لما قَالَه من الْجَواب لَا يفِيدهُ، لِأَن بالإقالة صَار العقد كَأَنَّهُ لم يكن، وَعَاد كل شَيْء إِلَى أَصله فَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال: جَازَ التَّفَرُّق قبل الْقَبْض.
ثمَّ ذكر عَنْهُم بِأَنَّهُم قَالُوا: يلْزم مِنْهُ ضَمَان الْأَعْيَان مَعَ بَقَائِهَا فِيمَا إِذا كَانَ اللَّبن مَوْجُودا والأعيان لَا تضمن بِالْبَدَلِ إلاَّ مَعَ فَوَاتهَا كالمغصوب، وَالْجَوَاب: أَن اللَّبن وَإِن كَانَ مَوْجُودا لكنه تعذر رده لاختلاطه بِاللَّبنِ الْحَادِث بعد العقد، وَتعذر تَمْيِيزه، فَأشبه الْآبِق بعد الْغَصْب، فَإِنَّهُ يضمن قِيمَته مَعَ بَقَاء عينه لتعذر الرَّد انْتهى. قلت: لما تعذر رد اللَّبن لاختلاطه بِاللَّبنِ الْحَادِث صَار حكمه حكم الْعَدَم فَيضمن بِالْبَدَلِ، كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَة إِذا هَلَكت عِنْد الْغَاصِب، وتشبيهه بِالْعَبدِ الْآبِق غير صَحِيح، لِأَنَّهُ إِذا تعذر رده صَار فِي حكم الْهَالِك، فَيتَعَيَّن الْقيمَة.
ثمَّ نقل عَنْهُم بِأَنَّهُ: يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الرَّد بِغَيْر عيب وَلَا شَرط، ثمَّ أجَاب: بِأَنَّهُ لما رأى ضرعا مملوءا لَبَنًا ظن أَنه عَادَة لَهَا، فَكَانَ البايع شَرط لَهُ ذَلِك، فَتبين لَهُ الْأَمر بِخِلَافِهِ، فَثَبت لَهُ الرَّد لفقد الشَّرْط الْمَعْنَوِيّ. انْتهى. قلت: البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد إِن كَانَ لفظيا، فبالمعنوي بِالْأولَى، وَلَا يَصح من الشُّرُوط إلاَّ شَرط الْخِيَار بِالنَّصِّ الْوَارِد فِيهِ، وَأما الْعَيْب فَإِذا ظهر فَإِنَّهُ يردهُ وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الشَّرْط.(11/274)
9412 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ حدَّثنا أبُو عُثْمَانَ عنْ عَبْدِ الله ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ مَنِ اشْتَرَى شَاة محَفَّلَةً فرَدَّهَا فلْيَرُدَّ معَهَا صَاعا ونَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ. (الحَدِيث 9412 طرفه فِي: 4612) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه دَاخل فِي الحَدِيث السَّابِق المطابق للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: مُعْتَمر، بِضَم الْمِيم الأولى وَكسر الثَّانِيَة: ابْن سُلَيْمَان. الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان. الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون أسلم فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدّى إِلَيْهِ الصَّدقَات وغزا غزوات فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ فِي سنة خمس وَتِسْعين وعمره مائَة وَثَلَاثُونَ سنة. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون غير ابْن مَسْعُود. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ مفرقا عَن مُسَدّد وَيزِيد بن زُرَيْع، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن يحيى بن حَكِيم، ثمَّ إِن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مَوْقُوفا. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبيد الله بن معَاذ عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مَرْفُوعا، وَذكر أَن رَفعه غلط، وَرَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب سُلَيْمَان عَنهُ كَمَا هُنَا مَوْقُوفا حَدِيث المحفلة من كَلَام ابْن مَسْعُود، وَحَدِيث النَّهْي عَن التلقي مَرْفُوع، وَخَالفهُم أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، فَرَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد مَرْفُوعا. أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَشَارَ إِلَى وهمه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَردهَا فليرد مَعهَا صَاعا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من قبيل:
(علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا)
بِأَن يُقَال: إِن ثمَّة إضمارا أَي: وسقيتها مَاء، أَو يَجْعَل: علفتها، مجَازًا عَن فعل شَامِل للتعليف والسقي، نَحْو: أعطيتهَا. وَقيل: فَردهَا أَي أَرَادَ ردهَا فليرد مَعهَا، وَقَالَ بَعضهم: يجوز أَن تكون مَعَ بِمَعْنى بعد، فَيكون الْمَعْنى فليرد بعْدهَا صَاعا. وَاسْتشْهدَ لقَوْله هَذَا بقوله تَعَالَى: {وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان} (النَّمْل: 44) . قلت: لم يذكر النُّحَاة لمع إلاَّ ثَلَاث معَان: أَحدهَا: مَوضِع الِاجْتِمَاع، وَلِهَذَا يخبر بهَا عَن الذوات نَحْو: {وَالله مَعكُمْ} (مُحَمَّد: 53) . الثَّانِي: زَمَانه، نَحْو جئْتُك مَعَ الْعَصْر. وَالثَّالِث: مرادفة: عِنْد، وَمَا رَأَيْت فِي كتب الْقَوْم مَا يدل على مَا ذكره. قَوْله: (تلقى) ، أَي: يسْتَقْبل، والتلقي الِاسْتِقْبَال، وَهُوَ بِضَم التَّاء وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْقَاف، ويروى بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (الْبيُوع) ، أَي: أَصْحَاب الْبيُوع، أَو المُرَاد من الْبيُوع: المبيعات.
0512 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِك عنْ أبِي الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ ولاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ ولاَ تَنَاجَشُوا ولاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبادٍ ولاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ ومَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا وإنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وصاعا مِنْ تَمْرٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة أوضح مَا يكون. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، الْكل عَن مَالك.
قَوْله: (لَا تلقوا الركْبَان) ، بِفَتْح الْقَاف، وَأَصله: لَا تتلقوا، بتاءين، فحذفت إِحْدَاهمَا أَي: لَا تستقبلوا الَّذين يحملون الْمَتَاع إِلَى الْبَلَد للاشتراء مِنْهُم، قبل قدوم الْبَلَد وَمَعْرِفَة السّعر. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَأما قَوْله: (لَا تلقوا الركْبَان) ، فقد رُوِيَ هَذَا الْمَعْنى بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، فَرَوَاهُ الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (لَا تلقوا الركْبَان) وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين: (لَا تلقوا الجلب) وَلَا رِوَايَة أبي صَالح وَغَيره: نهى أَن يتلَقَّى السّلع حَتَّى يدْخل الْأَسْوَاق، وروى(11/275)
ابْن عَبَّاس: لَا تستقبلوا السُّوق وَلَا يتلَقَّى بَعْضكُم لبَعض، وَالْمعْنَى وَاحِد، فَحَمله مَالك على أَنه: لَا يجوز أَن يَشْتَرِي أحد من الجلب السّلع الهابطة إِلَى الْأَسْوَاق، سَوَاء هَبَطت من أَطْرَاف الْمصر أَو من الْبَوَادِي، حَتَّى يبلغ بالسلعة سوقها. وَقيل لمَالِك: أَرَأَيْت إِن كَانَ تِلْكَ على رَأس سِتَّة أَمْيَال؟ فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، وَالْحَيَوَان وَغَيره فِي ذَلِك سَوَاء، وَعَن ابْن الْقَاسِم: إِذا تلقاها متلق واشتراها قبل أَن يهْبط بهَا إِلَى السُّوق، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يفْرض، فَإِن نقصت عَن ذَلِك الثّمن لَزِمت المُشْتَرِي. قَالَ سَحْنُون، وَقَالَ لي غير ابْن الْقَاسِم: يفْسخ البيع، وَقَالَ اللَّيْث: أكره تلقي السّلع وشراءها فِي الطَّرِيق أَو على بابك حَتَّى تقف السّلْعَة فِي سوقها، وَسبب ذَلِك الرِّفْق بِأَهْل الْأَسْوَاق لِئَلَّا ينقطعوا بهم عَمَّا لَهُ جَلَسُوا يَبْتَغُونَ من فضل الله تَعَالَى، فنهوا عَن ذَلِك، لِأَن فِي ذَلِك إفسادا عَلَيْهِم. وَقَالَ الشَّافِعِي: رفقا بِصَاحِب السّلْعَة لِئَلَّا يبخس فِي ثمن سلْعَته، وَعند أبي حنيفَة: من أجل الضَّرَر، فَإِن لم يضر بِالنَّاسِ تلقي ذَلِك لضيق الْمَعيشَة، وحاجتهم إِلَى تِلْكَ السّلْعَة، فَلَا بَأْس بذلك، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يحل لأحد أَن يتلَقَّى الجلب، سَوَاء خرج لذَلِك أَو كَانَ سائرا على طَرِيق الْجلاب، وَسَوَاء بَعُدَ مَوضِع تلقيه أَو قرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع فَصَاعِدا، لَا لأَصْحَابه وَلَا لغير ذَلِك، أضرّ ذَلِك بِالنَّاسِ أَو لم يضر، فَمن تلقى جلبا أَي شَيْء كَانَ فَإِن الجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق مَتى مَا دخله، وَلَو بعد أَعْوَام فِي إِمْضَاء البيع أَو رده. قَوْله: (وَلَا يَبِيع بَعْضكُم على بيع بعض. .) إِلَى آخِره، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى مُسْتَوفى، وَالله تَعَالَى أَعلم.
56 - (بابٌ إِن شاءَ رَدَّ المُصَرَّاةَ وفِي حَلُبتِهَا صاعٌ مِنْ تَمْرٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِن شَاءَ المُشْتَرِي ترك بَيْعه رد الْمُصراة، وَالْحَال أَن الْوَاجِب فِي حلبتها صَاع من تمر، الحلبة بِسُكُون اللَّام اسْم الْفِعْل، وَيجوز الْفَتْح على أَنه بِمَعْنى المحلوب، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْوَاجِب رد صَاع من تمر، سَوَاء كَانَ اللَّبن قَلِيلا أَو كثيرا. قَوْله: (رد) ، فعل مَاض، والمصراة مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة جَوَاب الشَّرْط.
1512 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حَدثنَا المَكِّيُّ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْج قَالَ أخبرَني زِياد أنَّ ثَابتا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ زَيْدٍ أخبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منِ اشْتَرَى غنَمَا مُصَرَّاةً فاحْتَلَبَهَا فإنْ رَضِيَهَا أمْسَكَها وإنْ سَخِطَهَا فَفي حَلْبَتِهَا صاعٌ مِنْ تَمْرٍ. .
مطابقتها للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عَمْرو، بِفَتْح الْعين، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِغَيْر ذكر جده، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن الْهَمدَانِي عَن الْمُسْتَمْلِي: مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة، وَكَذَا قَالَ أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ فِي رِوَايَته عَن الْفربرِي، وَفِي رِوَايَة أبي عَليّ بن شبويه عَن الْفربرِي: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو يَعْنِي: ابْن جبلة وأهمل الْبَاقُونَ ذكر جده، وَجزم الدَّارَقُطْنِيّ بِأَنَّهُ: مُحَمَّد بن عَمْرو أَبُو غَسَّان الْمَعْرُوف بزنيج، بِضَم الزَّاي وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم، وَجزم الْحَاكِم والكلاباذي بِأَنَّهُ: مُحَمَّد بن عَمْرو السواق، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالقاف: الْبَلْخِي، وَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ: مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: الْمَكِّيّ، على صُورَة النِّسْبَة إِلَى مَكَّة، وَهُوَ اسْمه الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم، وَقد مر فِي: بَاب إِثْم من كذب فِي كتاب الْعلم. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن سعد بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: ثَابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عِيَاض بن الْأَحْنَف. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْمَكِّيّ هُوَ شَيْخه وَلكنه روى عَنهُ هَهُنَا بِوَاسِطَة. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ الْبَلْخِي على رِوَايَة الْحَاكِم والرازي على رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَن شيخ شَيْخه زيادا بلخيان، وَلَكِن زِيَاد أسكن خُرَاسَان ثمَّ مَكَّة، وَكَانَ شريك ابْن جريج، وَأَن ثَابتا مدنِي.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن مخلد التَّمِيمِي عَن الْمَكِّيّ.
قَوْله: (غنما) هُوَ اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور وعَلى الْإِنَاث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا الصَّاع إِنَّمَا يجب فِي الْغنم وَمَا فِي حكمهَا من مَأْكُول اللَّحْم، بِخِلَاف النَّهْي عَن التصرية وَثُبُوت الْخِيَار فَإِنَّهُمَا عامان لجَمِيع(11/276)
الْحَيَوَانَات. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) بردهَا بِدُونِ الصَّاع، لِأَن الأَصْل أَنه إِذا أتلف شَيْئا لغيره رد مثله إِن كَانَ مثلِيا وإلاَّ فَقيمته، وَأما جنس آخر من الْعرُوض فخلاف الْأُصُول. قلت: هَذَا بِعَيْنِه مَذْهَب الْحَنَفِيَّة. قَوْله: (فَفِي حلبتها صَاع من تمر) ظَاهره أَن صَاع التَّمْر فِي مُقَابل الْمُصراة، سَوَاء كَانَت وَاحِدَة أَو أَكثر، لقَوْله: من اشْترى غنما، لأَنا قد ذكرنَا أَنه اسْم جنس. ثمَّ قَالَ: (وَفِي حلبتها صَاع من تمر) وَنقل ابْن عبد الْبر عَمَّن اسْتعْمل الحَدِيث، وَابْن بطال عَن أَكثر الْعلمَاء، وَابْن قدامَة عَن الشَّافِعِيَّة والحنابلة وَعَن أَكثر الْمَالِكِيَّة: يرد عَن كل وَاحِدَة صَاعا. وَقَالَ الْمَازرِيّ: من المستبشع أَن يغرم متْلف لبن ألف شَاة كَمَا يغرم متْلف لبن شَاة وَاحِدَة، قلت: استغنت الْحَنَفِيَّة عَن مثل هَذِه التعسفات، ومذهبهم كَمَا مر أَن الْمُصراة لَا ترد، وَلكنه يرجع بِنُقْصَان الْعَيْب، على أَن فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَن أبي حنيفَة.
66 - (بابُ بَيْع الْعَبْدِ الزَّانِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي جَوَاز بيع العَبْد الزَّانِي مَعَ بَيَان عَيبه.
وَقَالَ شُرَيْحٌ إنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا
شُرَيْح هُوَ ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ القَاضِي، وَقد مر غير مرّة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق ابْن سِيرِين: أَن رجلا اشْترى من رجل جَارِيَة كَانَت فجرت وَلم يعلم بذلك المُشْتَرِي فخاصمه إِلَى شُرَيْح، فَقَالَ: إِن شَاءَ رد من الزِّنَا. قلت: وَعند الْحَنَفِيَّة الزِّنَا عيب فِي الْأمة دون الْغُلَام، لِأَنَّهُ يخل بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الاستفراش وَطلب الْوَلَد، وَالْمَقْصُود من الْغُلَام الِاسْتِخْدَام، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت بنت الزِّنَا فَهُوَ عيب، وَعند مُحَمَّد فِي (الأمالي) لَو اشْترى جَارِيَة بَالِغَة وَكَانَت قد زنت عِنْد البَائِع فَلِلْمُشْتَرِي أَن يردهَا، وَإِن لم تزن عِنْده للحوق الْعَار بالأولاد، وَلَكِن الْمَذْهَب أَن الْعُيُوب كلهَا لَا بُد لَهَا من المعاودة عِنْد المُشْتَرِي حَتَّى يرد إلاَّ الزِّنَا فِي الْجَارِيَة، كَمَا ذكره مُحَمَّد.
2512 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا زَنَتِ الأمَةُ فتَبَيَّنَ زِناهَا فَلْيَجْلِدْهَا ولاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا ولَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعر. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليبعها) ، فَإِنَّهُ يدل على جَوَاز بيع الزَّانِي، وَفِيه الْإِشْعَار بِأَن الزِّنَا عيب.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَاسم أبي سعيد: كيسَان الْمَدِينِيّ مولى بني لَيْث، وَكَانَ سعيد يسكن الْمقْبرَة فنسب إِلَيْهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عِيسَى بن حَمَّاد، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ ابْن جريج وَإِسْمَاعِيل ابْن أُميَّة وَأُسَامَة بن زيد وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَأَيوب بن مُوسَى وَمُحَمّد بن عجلَان وَابْن أبي ذِئْب وَعبيد الله بن عمر، فَقَالُوا: عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، لم يذكرُوا أَبَا سعيد، وَفِي مُسلم كَذَلِك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَتبين زنَاهَا) ، أَي: بِالْبَيِّنَةِ أَو بالحبل أَو بِالْإِقْرَارِ. قَوْله: (فليجلدها) ، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب بن مُوسَى: فليجلدها الْحَد، قَالَ أَبُو عمر: لَا نعلم أحدا ذكر فِيهِ الْحَد غَيره. قَوْله: (وَلَا يثرب) من التثريب، بالثاء الْمُثَلَّثَة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ التعيير وَالِاسْتِقْصَاء فِي اللوم، أَي: لَا يزِيد فِي الْحَد، وَلَا يؤذيها بالْكلَام، وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَن لَا يقْتَصر على التثريب، بل يُقَام عَلَيْهَا الْحَد. قَوْله: (وَلَو بِحَبل) أَي: وَلَو كَانَ البيع بِحَبل من شعر، وَهَذَا مُبَالغَة فِي التحريض بِبَيْعِهَا، وَذكر الْحَبل بِمَعْنى التقليل والتزهيد عَن الزَّانِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز بيع الزَّانِي، وَقَالَ أهل الظَّاهِر: البيع وَاجِب. وَفِيه: أَن الزِّنَا عيب فِي الْجَارِيَة، وَقد ذكرنَا أَنه لَيْسَ بِعَيْب فِي الْغُلَام إلاَّ إِذا كَانَ مُعْتَادا بِهِ. وَفِيه: أَن الزَّانِيَة تجلد، وَمِمَّنْ كَانَ يجلدها إِذا زنت أَو يَأْمر برجمها ابْن مَسْعُود وَأَبُو بَرزَة وَفَاطِمَة وَابْن عمر وَزيد بن ثَابت وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وأشياخ الْأَنْصَار وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى(11/277)
وعلقمة وَالْأسود وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو ميسرَة.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي العَبْد إِذا زنى: هَل الزِّنَا عيب فِيهِ يجب رده بِهِ أم لَا؟ فَقَالَ مَالك: هُوَ عيب فِي العَبْد وَالْأمة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَقَول الشَّافِعِي: كل مَا ينقص من الثّمن فَهُوَ عيب. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: هُوَ عيب فِي الْجَارِيَة دون الْغُلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ هَل يجلدها السَّيِّد أم لَا؟ فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: نعم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُقيم الْجلد أَو الْحَد إلاَّ الإِمَام، بِخِلَاف التَّعْزِير، وَاحْتج بِحَدِيث: أَربع إِلَى الْوَالِي ... فَذكر مِنْهَا الْحُدُود.
وَهل يَكْتَفِي السَّيِّد يعلم الزِّنَا أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْد الْمَالِكِيَّة، وَلم يذكر فِي الحَدِيث عدد الْجلد، وروى النَّسَائِيّ: أَن رجلا أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِن جاريتي زنت وَتبين زنَاهَا، قَالَ: إجلدها خمسين، ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: عَادَتْ، وَتبين زنَاهَا. قَالَ: إجلدها خمسين، ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: عَادَتْ. قَالَ: بعها وَلَو بِحَبل من شعر، وَالْأمة لَا ترْجم، سَوَاء كَانَت متزوجة أم لَا.
وَالزَّانِي إِذا حد ثمَّ زنى ثَانِيًا لزمَه حد آخر، على ذَلِك الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، والإحصان فِي الرَّجْم شَرط، والشروط سَبْعَة: الْحُرِّيَّة وَالْعقل وَالْبُلُوغ وَالْإِسْلَام، وَعَن أبي يُوسُف أَنه لَيْسَ بِشَرْط، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم يهوديين، قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الْمُحصن. وَالشّرط الْخَامِس: الْوَطْء. وَالسَّادِس: أَن يكون الْوَطْء بِنِكَاح صَحِيح. وَالشّرط السَّابِع: كَونهمَا محصنين حَالَة الدُّخُول، حَتَّى لَو دخل بالمنكوحة الْكَافِرَة أَو الْمَمْلُوكَة أَو الْمَجْنُونَة أَو الصبية لم يكن مُحصنا، وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الزَّوْج عبدا أَو صَبيا أَو مَجْنُونا أَو كَافِرًا وَهِي مسلمة عَاقِلَة بَالِغَة. فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر أَن يكون الزَّوْج كَافِرًا وَالْمَرْأَة مسلمة؟ قلت: صورته أَن يَكُونَا كَافِرين فَأسْلمت الْمَرْأَة وَدخل بهَا الزَّوْج قبل عرض الْإِسْلَام عَلَيْهِ.
وَمِنْه: استنبط قوم جَوَاز البيع بِالْغبنِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ بيع خطير بِثمن يسير، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن الْغبن الْمُخْتَلف فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْجَهَالَة من المغبون، وَأما مَعَ علم البَائِع بِقدر مَا بَاعَ وَمَا قبض فَلَا يخْتَلف فِيهِ، لِأَنَّهُ عَن علم مِنْهُ ورضىً، فَهُوَ إِسْقَاط لبَعض الثّمن، لَا سِيمَا أَن الحَدِيث خرج على جِهَة التزهيد وَترك الْغِبْطَة. وَفِيه: ترك اخْتِلَاط الْفُسَّاق وفراقهم. فَإِن قلت: فَمَا معنى أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِبيع الْأمة الزَّانِيَة؟ وَالَّذِي يَشْتَرِيهَا يلْزمه من اجتنابها ومباعدتها مَا يلْزم البَائِع، وَكَيف يكره شَيْئا ويرتضيه لِأَخِيهِ الْمُسلم قلت: لَعَلَّ الثَّانِي يصونها بهيبته، أَو بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، أَو لَعَلَّهَا تستعف عِنْد الثَّانِي بِأَن يُزَوّجهَا أَو يعفها بِنَفسِهِ، وَنَحْو ذَلِك.
4512 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وزَيْدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عنِ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ ولَمْ تُحْصِنْ قَالَ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا ولَوْ بِنَفِيرٍ: قَالَ ابنُ شِهَابٍ لاَ أدْرِي أبَعْدَ الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وإسْمَاعِيل هُوَ ابنُ أبي أويس، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله بن عبد الله بِالتَّصْغِيرِ فِي الإبن وَالتَّكْبِير فِي الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الْمدنِي: مر فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَفِي الْعتْق عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن أبي الطَّاهِر، وَعَن مُحَمَّد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَعَن مُحَمَّد بن بكير وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح، وَلم يذكر أَبَا هُرَيْرَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحُدُود عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن الصَّباح.
وَقَالَ أَبُو عمر: تَابع مَالِكًا على سَنَد هَذَا الحَدِيث: يُونُس بن يزِيد وَيحيى بن سعيد وَرَوَاهُ عقيل والزبيدي وَابْن أخي الزُّهْرِيّ(11/278)
عَن عبيد الله عَن شبْل بن خَالِد الْمُزنِيّ: أَن عبد الله بن مَالك الأوسي أخبرهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْأمة ... الحَدِيث إلاَّ أَن عقيلاً وَحده قَالَ: مَالك بن عبد الله. وَقَالَ الْآخرَانِ: عبد الله بن مَالك، وَكَذَا قَالَ يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب عَن شبْل ابْن خَالِد عَن عبد الله بن مَالك الأوسي، فَجمع يُونُس الإسنادين جَمِيعًا فِي هَذَا الحَدِيث، وَانْفَرَدَ مَالك بِإِسْنَاد وَاحِد. وَعند عقيل والزبيدي وَابْن أخي الزُّهْرِيّ فِيهِ أَيْضا بِإِسْنَاد آخر: عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله عَن أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد وشبل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْأمة إِذا زنت ... الحَدِيث، هَكَذَا قَالَ ابْن عُيَيْنَة فِي هَذَا الحَدِيث، جعل شبلاً مَعَ أبي هُرَيْرَة وَزيد، فَأَخْطَأَ وَأدْخل إِسْنَاد حَدِيث فِي آخر، وَلم يتم حَدِيث شبْل. قَالَ أَحْمد بن زُهَيْر: سَمِعت يحيى يَقُول: شبْل لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا. وَفِي رِوَايَة: لَيست لَهُ صُحْبَة، يُقَال: شبْل بن معبد، وشبل بن حَامِد، روى عَن عبد الله بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ يحيى: وَهَذَا عِنْدِي أشبه. قلت: ذكر الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : شبْل بن معبد. وَقيل: ابْن حَامِد، وَقيل: ابْن خُلَيْد الْمُزنِيّ أَو البَجلِيّ، روى عَنهُ عبيد الله بن عبد الله، وَذكر أَيْضا مَالك بن عبد الله الأوسي، وَقَالَ المستغفري: لَهُ صُحْبَة، وَيُقَال: الأويسي، وَصَوَابه: عبد الله بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَلم تحصن) ، بِضَم التَّاء وَسُكُون الْحَاء من الْإِحْصَان، ويروى بِضَم التَّاء وَفتح الْحَاء وَتَشْديد الصَّاد من التحصن من بَاب التفعل: الْإِحْصَان: الْمَنْع، وَالْمَرْأَة تكون مُحصنَة بِالْإِسْلَامِ والعفاف وَالْحريَّة والتزوج، يُقَال: أحصنت الْمَرْأَة فَهِيَ مُحصنَة، وَكَذَا الرجل، والمحصن بِالْفَتْح يكون بِمَعْنى الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول، وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّتِي جئن نَوَادِر. يُقَال: أحصن فَهُوَ مُحصن، وأسهب فَهُوَ مسهب، وأفلج فَهُوَ مفلج، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يقل هَذِه اللَّفْظَة غير مَالك بن أنس عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة وَيحيى بن سعيد عَن ابْن شهَاب، كَمَا رَوَاهُ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، وَمَفْهُومه أَنَّهَا: إِذا أحصنت لَا تجلد بل ترْجم كَالْحرَّةِ، لَكِن الْأمة تجلد مُحصنَة كَانَت أَو غير مُحصنَة، وَلَكِن لَا اعْتِبَار للمفهوم حَيْثُ نطق الْقُرْآن صَرِيحًا بِخِلَافِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أحصنَّ فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} (النِّسَاء: 52) . فَالْحَدِيث دلّ على جلد غير الْمُحصن، وَالْآيَة على جلد الْمُحصن، لِأَن الرَّجْم لَا ينصف فيجلدان عملا بالدليلين، أَو يكون الْإِحْصَان بِمَعْنى الْعِفَّة عَن الزِّنَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} (النُّور: 4) . أَي: العفيفات. وَقَالَ الْخطابِيّ: ذكر الْإِحْصَان فِي الحَدِيث غَرِيب مُشكل جدا إلاَّ أَن يُقَال: مَعْنَاهُ الْعتْق، وَقيل: مَعْنَاهُ مَا لم تتَزَوَّج، وَقد اخْتلف فِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أحصن} (النِّسَاء: 52) . هَل هُوَ الْإِسْلَام أَو التَّزَوُّج؟ فتحد المتزوجة وَإِن كَانَت كَافِرَة؟ قَالَه الشَّافِعِي، أَو الْحُرِّيَّة؟ وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أقِيمُوا على أرقائكم الْحَد، من أحصن مِنْهُم وَمن لم يحصن) . أخرجه مُسلم مَوْقُوفا، وَالنَّسَائِيّ مَرْفُوعا، فتحد الْأمة على كل حَال، أَي على أَي حَالَة كَانَت، وَيعْتَذر عَن الْإِحْصَان فِي الْآيَة لِأَنَّهُ أغلب حَال الْإِمَاء، وإحصان الْأمة عِنْد مَالك والكوفيين إسْلَامهَا، قَالَه ابْن بطال. قَوْله: (ثمَّ إِن زنت فاجلدوها) ، أَي: بعد الْجلد، أَي: إِذا جلدت ثمَّ زنت تجلد مرّة أُخْرَى، بِخِلَاف مَا لَو زنت مرَّات وَلم تجلد لوَاحِدَة مِنْهُنَّ، فَيَكْفِي حد وَاحِد للْجَمِيع. قَوْله: (بضفير) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء، هُوَ: الْحَبل المنسوج أَو المفتول، يُقَال: أضفر نسج الشّعْر وفتله، وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول، وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ الضفر حَبل الشّعْر وَغَيره، عريضا وَهُوَ مثل تضربه الْعَرَب للتقليل، مثل: لَو مَنَعُونِي عقَالًا وَلَو فرسن شَاة. قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) ، هُوَ الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، وَقد تردد ابْن شهَاب بقوله: لَا أَدْرِي، أبعد الثَّلَاثَة؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، هَل أَرَادَ أَن بيعهَا يكون بعد الزنية الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة، وَقد جزم أَبُو سعيد المَقْبُري أَنه فِي الثَّالِثَة، كَمَا ذكره البُخَارِيّ أَولا.
76 - (بابُ الْبَيْعِ والشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم البيع وَالشِّرَاء بِالنسَاء.
5512 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا دخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِي وأعْتِقي فإنَّ الوَلاَءَ لِمَنْ أعْتَقَ ثُمَّ قامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الْعَشِيِّ فأثْنَى على(11/279)
الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثمَّ قَالَ مَا بالُ أنَاسٍ يشْتَرِطُونَ شُروطا لَيْسَ فِي كِتَابِ الله منِ اشْتَرَطَ شرْطا لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهْوَ بَاطِلٌ وإنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شرْطٍ شَرْطُ الله أحَقُّ وأوْثَقُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اشْترى) ، يُخَاطب بِهِ عَائِشَة، وَالْبيع وَالشِّرَاء كَانَ فِي بَرِيرَة حَيْثُ اشترتها عَائِشَة من أَهلهَا وَصدق البيع وَالشِّرَاء هُنَا من النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، وَقَالَ بَعضهم: شَاهد التَّرْجَمَة مِنْهُ قَوْله: (مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله؟) لإشعاره بِأَن قصَّة الْمُبَايعَة كَانَت مَعَ رجال، وَكَانَ الْكَلَام فِي ذَلِك مَعَ عَائِشَة زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: فِيمَا ذكره بُعد، وَالْأَقْرَب الْأَوْجه مَا ذَكرْنَاهُ. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع عديدة بيناها فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد. واستقصينا الْكَلَام فِيهِ من سَائِر الْوُجُوه.
وَقد أَكثر النَّاس فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة من الإمعان فِي بَيَانه على اخْتِلَاف أَلْفَاظه وَاخْتِلَاف رُوَاته، وَقد ألف مُحَمَّد بن جرير فِيهِ كتابا، وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَبْوَاب أَكْثَرهَا تكلّف وتأويلات مُمكنَة لَا يقطع بِصِحَّتِهَا.
قَوْله: (فَذكرت لَهُ) ، أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي ذكرت لَهُ عَائِشَة مطويٌّ هُنَا، يُوضحهُ رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: أتتها بَرِيرَة تسألها فِي كتَابَتهَا، فَقَالَت: إِن شِئْت أَعْطَيْت أهلك وَيكون الْوَلَاء لي. وَقَالَ أَهلهَا: إِن شِئْت أعطيتهَا مَا بَقِي. وَقَالَ سُفْيَان مرّة: إِن شِئْت أعتقيها وَيكون الْوَلَاء لنا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكرته ذَلِك، فَقَالَ: (إبتعيها وأعتقيها فَإِن الْوَلَاء لمن أعتق) . الحَدِيث. . فَهَذَا كُله مطويٌّ هَهُنَا من أول الْكَلَام إِلَى قَوْله: فَذكرت لَهُ، فَإِن أردْت التَّحْقِيق فَارْجِع إِلَى الْبَاب الْمَذْكُور فِي كتاب الصَّلَاة، قَوْله: (وأوثق) ، أَي: أحكم وَأقوى.
6512 - حدَّثنا حسَّانُ بنُ أبي عَبَّادٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ سَمِعْتُ نافِعا يحَدِّثُ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ساوَمَتْ بَرِيرَةَ فَخرَجَ إلَى الصَّلاةِ فلَمَّا جاءَ قالَتْ إنَّهُمْ أبَوْا أنْ يَبِيعُوهَا إلاَّ أنْ يَشْتَرِطُوا الوَلاءَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ قُلْتُ لِنافِعٍ حُرّا كانَ زَوْجُهَا أوْ عَبْدا قَالَ مَا يُدْرِينِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ساومت) ، فَإِنَّهَا مَا ساومت إلاَّ أهل بَرِيرَة، وَهُوَ البيع وَالشِّرَاء بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، و: حسان، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ: ابْن أبي عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه أَيْضا حسان، مر فِي الْعمرَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. قَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث، وَهُوَ بَصرِي سكن مَكَّة، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَهَمَّام بن يحيى، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن حَفْص بن عمر.
قَوْله: (ساومت بَرِيرَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبراءين أولاهما مَكْسُورَة: بنت صَفْوَان: كَانَت لقوم من الْأَنْصَار وَكَانَت قبطية، ذكرهَا الذَّهَبِيّ فِي الصحابيات، وَاخْتلف فِي اسْم زَوجهَا، وَالأَصَح أَن أُسَمِّهِ مغيث، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَآخره ثاء مُثَلّثَة، وَقيل: مقسم، وَقيل: معتب اسْم فَاعل من التعتيب. قَوْله: (فَخرج) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّلَاة، وَقَبله كَلَام مُقَدّر بعد قَوْله: (ساومت) بَرِيرَة، وَالتَّقْدِير: طلبت عَائِشَة من أهل بَرِيرَة أَن يبيعوها لَهَا، فَقَالُوا: نبيعها لَك على أَن ولاءها لنا، وأرادت أَن تخبر بذلك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخرج إِلَى الصَّلَاة فَلَمَّا جَاءَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الصَّلَاة، قَالَت: إِنَّهُم ... إِلَى آخِره. قَوْله: (مَا يدريني؟) كلمة مَا استفهامية أَي أَي شَيْء يدريني أَي: يعلمني؟ وَفِيه: خلاف ذَكرْنَاهُ فِي: بَاب البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر.
86 - (بابٌ هَلْ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أجْرٍ وهَلْ يُعِينُهُ أوْ يَنْصَحُهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يَبِيع حَاضر لبادٍ؟ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي من الْبَادِيَة وَمَعَهُ شَيْء يُرِيد بَيْعه، وَقد مر تَفْسِيره غير مرّة، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن النَّهْي الْوَارِد عَن بيع الْحَاضِر للبادي إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَ بِأَجْر، لِأَن الَّذِي يَبِيع بِأُجْرَة لَا يكون غَرَضه نصح البَائِع، وَإِنَّمَا غَرَضه تَحْصِيل الْأُجْرَة، وَأما إِذا كَانَ بِغَيْر أجر يكون ذَلِك من بَاب النَّصِيحَة(11/280)
والإعانة، فَيَقْتَضِي ذَلِك جَوَاز بيع الْحَاضِر للبادي من غير كَرَاهَة، فَعلم من ذَلِك أَن النَّهْي الْوَارِد فِيهِ مَحْمُول على معنى خَاص وَهُوَ البيع بِأَجْر، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ جَوَاز ذَلِك بِغَيْر أجر، وَمنعه إِذا كَانَ بِأَجْر، كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا؛ لَا يكون لَهُ سمسارا، فَكَأَنَّهُ أجَاز ذَلِك لغير السمسار إِذا كَانَ من طَرِيق النصح، وَجَوَاب الاستفهامين يعلم من الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَاكْتفى بِهِ على جاري عَادَته بذلك فِي بعض التراجم.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَنْصَحَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق تأييدا لجَوَاز بيع الْحَاضِر للبادي إِذا كَانَ بِغَيْر أجر، لِأَنَّهُ يكون من بَاب النَّصِيحَة الَّتِي أَمر بهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَحْمد من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب عَن حَكِيم بن أبي يزِيد عَن أَبِيه: حَدثنِي، أبي، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض، فَإِذا استنصح الرجلُ الرجلَ فلينصح لَهُ) . انْتهى. والنصح إخلاص الْعَمَل من شوائب الْفساد، وَمَعْنَاهُ: حِيَازَة الْحَظ للمنصوح لَهُ، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق سَالم الْمَكِّيّ أَن أَعْرَابِيًا حَدثهُ أَنه قدم بحلوبة لَهُ على طَلْحَة بن عبيد الله، فَقَالَ لَهُ: (إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى أَن يَبِيع حَاضر لبادٍ، وَلَكِن إذهب إِلَى السُّوق وَانْظُر من يُبَايِعك. فشاورني حَتَّى آمُرك وأنهاك) .
ورَخَّصَ فِيهِ عَطاءٌ
أَي: وَرخّص عَطاء بن أبي رَبَاح فِي بيع الْحَاضِر للبادي، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: سَأَلته عَن أَعْرَابِي أبيع لَهُ؟ فَرخص لي. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. قَالَ: إِنَّمَا نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يَبِيع حَاضر لبادٍ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يُصِيب الْمُسلمُونَ غرتهم، فَأَما الْيَوْم فَلَا بَأْس. فَقَالَ عَطاء: لَا يصلح الْيَوْم. قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَن يحمل قَول عَطاء هَذَا على كَرَاهَة التَّنْزِيه؟ قلت: الْأَوْجه أَن يحمل ترخيصه فِيمَا إِذا كَانَ بِلَا أجر، وَمنعه فِيمَا إِذا كَانَ بِأَجْر، وَقَالَ بَعضهم: أَخذ بقول مُجَاهِد أَبُو حنيفَة وتمسكوا بِعُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة) ، وَزَعَمُوا أَنه نَاسخ لحَدِيث النَّهْي، وَحمل الْجُمْهُور حَدِيث: (الدّين النَّصِيحَة) ، على عُمُومه إلاَّ فِي بيع الْحَاضِر للبادي فَهُوَ خَاص، فَيَقْضِي على الْعَام، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ تنَاقض، وَقَضَاء الْخَاص على الْعَام لَيْسَ بِمُطلق على زعمكم أَيْضا لاحْتِمَال أَن يكون الْخَاص ظنيا وَالْعَام قَطْعِيا، أَو يكون الْخَاص مَنْسُوخا وَأَيْضًا يحْتَمل أَن يكون الْخَاص مُقَارنًا أَو مُتَأَخِّرًا أَو مُتَقَدما، وَقَوله: والنسخ لَا يثبت فِي الِاحْتِمَال مُسلم، وَلَكِن من قَالَ: إِن قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة) ، نَاسخ لحَدِيث النَّهْي بِالِاحْتِمَالِ، بل الْأَصْلِيّ عندنَا فِي مثل هَذَا بالتراجيح: مِنْهَا أَن أحد الْخَبَرَيْنِ عمل بِهِ الْأمة، فههنا كَذَلِك، فَإِن قَوْله: (الدّين النَّصِيحَة) عمل بِهِ جَمِيع الْأمة وَلم يكن خلاف فِيهِ لأحد، بِخِلَاف حَدِيث النَّهْي، فَإِن الْكل لم يعْمل بِهِ، فَهَذَا الْوَجْه من جملَة مَا يدل على النّسخ، وَمِنْهَا أَن يكون أحد الْخَبَرَيْنِ أشهر من الآخر، وَهَهُنَا كَذَلِك بِلَا خلاف.
7531 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ بايَعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى شَهادةِ أَن لَا إلاه إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّدا رسُولُ الله وإقَامِ الصَّلاةِ وإيْتَاءِ الزَّكَاةِ والسَّمْعِ والطَّاعَةِ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: أَو ينصحه، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد وَاسم أبي خَالِد سعد، وَقيل: هُرْمُز، وَقيل: كثير، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم واسْمه عَوْف، سمع من الْعشْرَة المبشرة، وَالثَّلَاثَة أَعنِي: اسماعيل وقيسا وجريرا: بجليون كوفيون مكتنون بِأبي عبد الله، وَهَذَا من النَّوَادِر، والْحَدِيث مضى فِي آخر كتاب الْإِيمَان من: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ) ، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
8512 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ محَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا طاووُسٍ(11/281)
عَن أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ ولاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ قَالَ فَقُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ قَالَ لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسارا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله: (لَا يَبِيع حَاضر لباد) يُوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة بالاستفهام، وَأَن جَوَابه: لَا يَبِيع.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الصَّلْت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الخاركي، مر فِي الصَّلَاة. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد. الرَّابِع: عبد الله بن طَاوُوس. الْخَامِس: أَبوهُ طَاوُوس بن كيسَان. السَّادِس: عبد الله بن الْعَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَعبد الْوَاحِد وَمعمر بصريون وَعبد الله وَأَبوهُ يمانيان. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِجَارَة عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن عَبَّاس بن عبد الْعَظِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا تلقوا الركْبَان) ، أَصله: لَا تتلقوا بتاءين فحذفت إِحْدَاهمَا كَمَا فِي نَارا تلظى، أَصله: تتلظى، والركبان، بِضَم الرَّاء جمع رَاكب، وَلَا يَبِيع بِصُورَة النَّفْي، ويروى: وَلَا يبع، بِصُورَة النَّهْي وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا تلقوا الركْبَان للْبيع. قَوْله: (سمسارا) أَي: دلاَّلاً، والسمسار فِي الأَصْل هُوَ الْقيم بِالْأَمر والحافظ لَهُ، ثمَّ اسْتعْمل فِي مُتَوَلِّي البيع وَالشِّرَاء لغيره، وَمَعْنَاهُ: أَن يَبِيع لَهُ بِالْأُجْرَةِ، وَقد مر الْكَلَام فِيمَا مضى من الَّذِي ذكر فِي هَذَا الْبَاب وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَو خَالف النَّهْي وَبَاعَ الْحَاضِر للبادي صَحَّ البيع مَعَ التَّحْرِيم، قلت: هَذَا عَجِيب مِنْهُم، لِأَن النَّهْي عِنْدهم يرفع الحكم مُطلقًا. فَكيف يَقُولُونَ صَحَّ البيع مَعَ التَّحْرِيم؟ وَهَذَا لَا يمشي إلاَّ على أصل الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ أَيْضا: قَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز بيع الْحَاضِر للبادي مُطلقًا لحَدِيث: (الدّين النَّصِيحَة) ، قلت: لَيْسَ على الْإِطْلَاق، بل إِنَّمَا يجوز إِذا لم يكن فِيهِ ضَرَر لأحد الْمُتَعَاقدين.
96 - (بابُ مَنْ كَرِهَ أنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ بأجْرٍ)(11/282)
07 - (بابٌ لَا يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ بالسَّمْسَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يَبِيع حَاضر لبادٍ بالسمسرة. قَالَ صَاحب (الْمغرب) : السمسرة مصدر، وَهِي أَن يتوكل الرجل من الْحَاضِرَة للقادمة فيبيع لَهُم مَا يجلبونه، وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا هَذَا الْبَاب فِي البُخَارِيّ، وَذكر ابْن بطال أَن فِي نسخته: لَا يَشْتَرِي حَاضر لبادٍ بالسمسرة، وَكَذَا ترْجم لَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَهَذَا يكون بِالْقِيَاسِ على البيع، حَاصله أَن الْحَاضِر كَمَا لَا يَبِيع للبادي فَكَذَلِك لَا يَشْتَرِي لَهُ، وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي: الشِّرَاء للبادي مثل البيع لَهُ، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي شِرَاء الْحَاضِر للبادي، فَكرِهت طَائِفَة كَمَا كَرهُوا البيع لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَن البيع فِي اللُّغَة يَقع على الشِّرَاء كَمَا يَقع الشِّرَاء على البيع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وشروه بِثمن بخس} (يُوسُف: 02) . أَي: باعوه، وَهُوَ من الأضداد، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أنس، وأجازت طَائِفَة الشِّرَاء لَهُم، وَقَالُوا: إِن النَّهْي إِنَّمَا جَاءَ فِي البيع خَاصَّة وَلم يعدوا ظَاهر اللَّفْظ، رُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، رَحمَه الله، وَاخْتلف قَول مَالك فِي ذَلِك، فَمرَّة قَالَ: لَا يَشْتَرِي لَهُ، وَلَا يَشْتَرِي عَلَيْهِ، وَمرَّة أجَاز الشِّرَاء لَهُ، وَبِهَذَا قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ إِبْرَاهِيم: وَالْعرب تطلق البيع على الشِّرَاء، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا صَحِيح على مَذْهَب من جوز اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه، أللهم إلاَّ أَن يُقَال: البيع وَالشِّرَاء ضدان فَلَا يَصح إرادتهما مَعًا. فَإِن قلت: فَمَا تَوْجِيهه؟ قلت: وَجهه أَن يحمل على عُمُوم الْمجَاز. انْتهى. قلت: قَول إِبْرَاهِيم: الْعَرَب تطلق البيع على الشِّرَاء، لَيْسَ مُبينًا أَنه مُشْتَرك، وَاسْتعْمل فِي معنييه، بل هما من الأضداد، كَمَا مر.
وكَرِهَهُ ابنُ سِيرينَ وإبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ ولِلْمُشْتَرِي
أَي: كره مُحَمَّد بن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ شِرَاء الْحَاضِر للبادي كَمَا يكرهان بَيْعه لَهُ، وَوصل تَعْلِيق ابْن سِيرِين أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق سَلمَة بن عَلْقَمَة عَن ابْن سِيرِين، قَالَ: لقِيت أنس بن مَالك، فَقلت: لَا يَبِيع حَاضر لباد ونهيتم أَن تَبِيعُوا وتبتاعوا لَهُم؟ قَالَ: نعم. قَالَ مُحَمَّد: وَصدق، إِنَّهَا كلمة جَامِعَة، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق أبي بِلَال عَن ابْن سِيرِين عَن أنس بِلَفْظ: كَانَ يُقَال: لَا يَبِيع حَاضر لباد، وَهِي كلمة جَامِعَة: لَا يَبِيع لَهُ شَيْئا وَلَا يبْتَاع لَهُ شَيْئا. انْتهى.
قَوْله: وَهِي كلمة جَامِعَة، أَرَادَ بِهِ أَن لفظ: لَا يَبِيع، كَمَا يسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ يسْتَعْمل فِي معنى الشِّرَاء أَيْضا، وَقَالَ ابْن حزم: وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: كَانَ يعجبهم أَن يُصِيبُوا من الْأَعْرَاب شَيْئا، وَقَالَ أَيْضا: بيع الْحَاضِر للبادي بَاطِل، فَإِن فعل فسخ البيع وَالشِّرَاء أبدا، وَحكم فِيهِ بِحكم الْغَصْب، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رخص بَعضهم فِي أَن يَشْتَرِي حَاضر لباد، وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره أَن يَبِيع حَاضر لباد، فَإِن بَاعَ فَالْبيع جَائِز.
وَقَالَ إبراهِيمُ إنَّ العَرَبَ تَقولُ بِعْ لِي ثَوبا وهْيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ
إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ هَذَا الْكَلَام فِي معرض الِاحْتِجَاج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من التَّسْوِيَة فِي الْكَرَاهَة بَين بيع الْحَاضِر للبادي وَبَين شِرَائِهِ لَهُ، قَوْله: (تَعْنِي) يَعْنِي: تقصد وتريد.
0612 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنِي ابنُ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ شِهاب عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُول قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَبْتَاعُ المَرْءُ علَى بَيْعِ أخِيهِ ولاَ تَناجَشُوا ولاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يَبِيع حَاضر لباد) وَلَفظ السمسرة، وَإِن لم يكن مَذْكُورا فِي الحَدِيث، فمتبادر إِلَى الذَّهَب من اللَّام فِي قَوْله: لبادٍ، فَافْهَم. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك. قَوْله: (عَن ابْن شهَاب) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي عَاصِم عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي ابْن شهَاب. قَوْله: (لَا يبْتَاع الْمَرْء) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَا يَبِيع. وَقد مضى الْكَلَام فِي أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث فِي الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة.
1612 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا مُعاذُ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أنَسُ(11/283)
ابنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ نُهِينَا أنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَالْكَلَام فِي لفظ السمسرة مَا ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق، ومعاذ بِضَم الْمِيم وبالذال الْمُعْجَمَة: ابْن معَاذ الْبَصْرِيّ قاضيها، مر فِي الْحَج، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي مُوسَى عَن معَاذ بن معَاذ وَعَن أبي مُوسَى عَن ابْن أبي عدي، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أبي مُوسَى.
قَوْله: (نهينَا) ، يدل على الرّفْع كَمَا فِي قَوْله: أمرنَا. قَوْله: (أَن يَبِيع حَاضر لباد) ، وَزَاد مُسلم من طَرِيق يُونُس بن عبيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أنس، وَإِن كَانَ أَخَاهُ أَو أَبَاهُ، وَهَذِه ثَلَاثَة أَبْوَاب مُتَوَالِيَة فِي كلهَا: بيع حَاضر لباد، لَكِن فِي الأول اسْتِفْهَام بهل، وَفِي الثَّانِي نَص على الْكَرَاهَة بِأَجْر، وَفِي الثَّالِث نهي فِي صُورَة النَّفْي مُقَيّد بالسمسرة، وَهُوَ تَرْتِيب حسن فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة فِيهَا، وَإِلَى تَكْثِير الطّرق للتقوية والتأكيد، وَإِلَى إِسْنَاد كل حكم إِلَى رِوَايَة الشَّيْخ الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ عَلَيْهِ.
17 - (بابُ النَّهْيِ عنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن تلقي الركْبَان، أَي: عَن استقبالهم لابتياع مَا يحملونه إِلَى الْبَلَد قبل أَن يقدموا الْأَسْوَاق.
وأنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودُ لأِنَّ صاحِبَهُ عاصٍ آثِمٌ إذَا كانَ بهِ عالِما وهوَ خِدَاعٌ فِي البَيْعِ والخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ
وَأَن بَيْعه، بِفَتْح الْهمزَة أَي: وَأَن بيع متلقي الركْبَان مَرْدُود، وَالضَّمِير يرجع إِلَى المتلقي الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: عَن تلقي الركْبَان، كَمَا فِي قَوْله: {إعدلوا هُوَ أقرب} (الْمَائِدَة: 8) . أَي: الْعدْل الَّذِي هُوَ الْمصدر يدل عَلَيْهِ إعدلوا، وَالْمرَاد بِالْبيعِ العقد. وَقَوله: مَرْدُود، أَي: بَاطِل، يرد إِذا وَقع، وَقد ذهب البُخَارِيّ فِي هَذَا إِلَى مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: جزم البُخَارِيّ بِأَن البيع مَرْدُود بِنَاء على أَن النَّهْي يقتض الْفساد لَكِن مَحل ذَلِك عِنْد الْمُحَقِّقين فِيمَا يرجع الى ذَات النَّهْي لَا فِيمَا إِذا كَانَ يرجع إِلَى أَمر خَارج عَنهُ، فَيصح البيع وَيثبت الْخِيَار بِشَرْطِهِ. انْتهى. قلت: هَؤُلَاءِ الْمُحَقِّقُونَ هم الْحَنَفِيَّة، فَإِن مَذْهَبهم فِي بَاب النَّهْي هَذَا، وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل مسَائِل كَثِيرَة محلهَا كتب الْفُرُوع. وَقَالَ ابْن حزم: وَهُوَ حرَام سَوَاء خرج للتلقي أم لَا، بَعُدَ مَوضِع تلقيه أم قَرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع، والجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق فِي إِمْضَاء البيع أَو رده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كره تلقي السّلع بِالشِّرَاءِ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، فَذهب مَالك إِلَى أَنه: لَا يجوز تلقي السّلع حَتَّى تصل إِلَى السُّوق، وَمن تلقاها فاشتراها مِنْهُم يشْتَرك فِيهَا أهل السُّوق، إِن شَاءُوا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُم. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَإِن لم يكن للسلعة سوق عرضت على النَّاس فِي الْمصر فيشتركون فِيهَا إِن أَحبُّوا، فَإِن أخذوها وإلاَّ ردوهَا عَلَيْهِ، وَلَا يرد على بَائِعهَا، وَقَالَ غَيره: يفْسخ البيع فِي ذَلِك. وَقَالَ الشَّافِعِي: من تلقاها فقد أَسَاءَ، وَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ إِذا قدم بِهِ السُّوق فِي إِنْفَاذ البيع أوردهُ، لأَنهم يتلقونهم فَيُخْبِرُونَهُمْ بكساد السّلع وَكَثْرَتهَا. وهم أهل غرَّة ومكر وخديعة، وحجته حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَإِذا أَتَى سَيّده السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ. وَذهب مَالك أَن نَهْيه عَن التلقي إِنَّمَا يُرِيد بِهِ نفع أهل السُّوق لَا نفع رب السّلْعَة، وعَلى ذَلِك يدل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: مَعْنَاهُ: لِئَلَّا يَسْتَفِيد الْأَغْنِيَاء وَأَصْحَاب الْأَمْوَال بِالشِّرَاءِ دون أهل الضعْف، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الضَّرَر بهم فِي مَعَايشهمْ، وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ مَالك: إِنَّه يشْتَرك مَعَهم إِذا تلقوا السّلع، وَلَا ينْفَرد بهَا الْأَغْنِيَاء.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِذا كَانَ التلقي فِي أَرض لَا يضر بِأَهْلِهَا فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَ يضرهم فَهُوَ مَكْرُوه، وَاحْتج الْكُوفِيُّونَ بِحَدِيث ابْن عمر، قَالَ: كُنَّا نتلقى الركْبَان فنشتري مِنْهُم الطَّعَام، فنهانا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نبيعه حَتَّى نبلغ بِهِ سوق الطَّعَام. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة التلقي، وَفِي أَحَادِيث غَيره النَّهْي عَنهُ، وَأولى بِنَا أَن نجْعَل ذَلِك على غير التضاد فَيكون مَا نهى عَنهُ من التلقي لما فِي ذَلِك من الضَّرَر على غير المتلقين المقيمين فِي السُّوق، وَمَا أُبِيح من التلقي هُوَ مَا لَا ضَرَر فِيهِ عَلَيْهِم. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَالْحجّة فِي إجَازَة الشِّرَاء مَعَ التلقي الْمنْهِي عَنهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَا تلقوا الجلب، فَمن تَلقاهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا أَتَى السُّوق) . فِيهِ جعل الْخِيَار مَعَ النَّهْي، وَهُوَ دَال على الصِّحَّة، إِذْ لَا يكون الْخِيَار إلاَّ فِيهَا، إِذْ لَو كَانَ فَاسِدا لأجبر بَائِعه ومشتريه على فَسخه. قلت: حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد والطَّحَاوِي أَيْضا، وَحَدِيث ابْن(11/284)
عمر الْمَذْكُور الْآن أخرجه مُسلم والطَّحَاوِي. قَوْله: (لِأَن صَاحبه) أَي: صَاحب التلقي (عاصٍ آثم) أَي: مرتكب الْإِثْم (إِذا كَانَ بِهِ) ، أَي: بِالنَّهْي عَن تلقي الركْبَان عَالما، لِأَنَّهُ ارْتكب الْمعْصِيَة مَعَ علمه بورود النَّهْي عَن ذَلِك، وَالْعلم شَرط لكل مَا نهى عَنهُ. قَوْله: (وَهُوَ خداع) ، أَي: تلقي الركْبَان خداع للمقيمين فِي الْأَسْوَاق أَو لغير المتلقين، وَالْخداع حرَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الخديعة فِي النَّار) ، أَي: صَاحب الخديعة، وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من ذَلِك. . أَي: من كَونه خداعا أَن يكون البيع مردودا، لِأَن النَّهْي لَا يرجع إِلَى نفس العقد وَلَا يخل بِشَيْء من أَرْكَانه وشرائطه، بل لدفع الضَّرَر بالركبان. قلت: هَذَا التَّعْلِيل هُوَ الَّذِي يَقُول بِهِ الْحَنَفِيَّة فِي أَبْوَاب النَّهْي، وَالْعجب من الشَّافِعِيَّة أَنهم يَقُولُونَ: إِن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد، ثمَّ مُطلقًا فِي بعض الْمَوَاضِع، يذهبون إِلَى مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يحمل قَول البُخَارِيّ: إِن البيع مَرْدُود، على مَا إِذا اخْتَار البَائِع رده، فَلَا يُخَالف الرَّاجِح. قلت: هَذَا الْحمل الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل يردهُ هَذِه التأكيدات الَّتِي ذكرهَا. وَهِي قَوْله: (لِأَن صَاحبه عَاص) إِلَى آخِره، وَلم يبْق بعد هَذِه إلاَّ أَن يُقَال: كَاد أَن يخرج من الْإِيمَان، أَلا تَرى إِلَى الْإِسْمَاعِيلِيّ كَيفَ اعْترض عَلَيْهِ وألزمه هَذَا التَّنَاقُض بِبيع الْمُصراة، فَإِن فِيهِ خداعا، وَمَعَ ذَلِك لم يبطل البيع، وبكونه فصل فِي بيع الْحَاضِر للبادي بَين أَن يَبِيع لَهُ بِأَجْر أَو بِغَيْر أجر، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ أَيْضا بِحَدِيث حَكِيم بن حزَام الْمَاضِي فِي بيع الْخِيَار، فَفِيهِ: (فَإِن كذبا وكتما محقت بركَة بيعهمَا) ، قَالَ: فَلم يبطل بيعهَا بِالْكَذِبِ والكتمان للعيب، وَقد ورد بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن صَاحب السّلْعَة إِذا بَاعهَا لمن تَلقاهُ يصير بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق، ثمَّ سَاقه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. انْتهى. وَلَو كَانَ للْحَمْل الَّذِي ذكر الْقَائِل الْمَذْكُور وَجه لذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ وَلَا أطنب فِي هَذَا الِاعْتِرَاض. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجَاز أَبُو حنيفَة التلقي وَكَرِهَهُ الْجُمْهُور. قلت: لَيْسَ مَذْهَب أبي حنيفَة كَمَا ذكره على الْإِطْلَاق، وَلَكِن على التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَالْعجب من ابْن الْمُنْذر وَأَمْثَاله كَيفَ ينقلون عَن أبي حنيفَة شَيْئا لم يقل بِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِك مِنْهُم من أريحية العصبية على مَا لَا يخفى.
2612 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حَدثنَا عُبَيْدُ الله العُمَرِيُّ عنْ سَعِيِدِ بنِ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ التَّلَقِّي وأنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَن التلقي) ، وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَسَعِيد هُوَ المَقْبُري، وَهَذَا من أَفْرَاده مُشْتَمل على حكمين مضى الْبَحْث فيهمَا.
3612 - حدَّثني عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الأعْلَى قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ قَالَ سألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما مَا مَعْنَى قَوْلِهِ لاَ يَبِيعَنَّ حاضِرٌ لِبادٍ فَقَالَ لاَ يَكنْ لَهُ سِمْسارا. (انْظُر الحَدِيث 8512 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذَا الحَدِيث مُخْتَصر عَن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ فِي: بَاب هَل يَبِيع حَاضر لباد، فبالنظر إِلَى أصل الحَدِيث الْمُطَابقَة مَوْجُودَة، وَعَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف والشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْوَلِيد أَبُو الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ، وَعبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى، وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
4612 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثني التيْمِيُّ عنْ أبِي عُثْمَانَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ معَها صَاعا ونَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ تَلَقِّي البُيُوعِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَن تلقي الْبيُوع) ، التَّمِيمِي هُوَ سُلَيْمَان بن طرخان أَبُو الْمُعْتَمِر، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بالنُّون، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب النَّهْي للْبَائِع أَن لَا يحفل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن(11/285)
مُعْتَمر عَن أَبِيه سُلَيْمَان التَّمِيمِي عَن أبي عُثْمَان عبد الرَّحْمَن النَّهْدِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
27 - (بابُ مُنْتَهَى التَّلَقِّي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مُنْتَهى جَوَاز التلقي، وَهُوَ إِلَى أَعلَى سوق الْبَلَد، وَأما التلقي الْمحرم فَهُوَ مَا كَانَ إِلَى خَارج الْبَلَد. وَاعْلَم أَن التلقي لَهُ ابْتِدَاء وانتهاء. وَأما ابتداؤه فَهُوَ من الْخُرُوج من منزله إِلَى السُّوق، وَأما انتهاؤه فَهُوَ من جِهَة الْبَلَد لَا حد لَهُ. وَأما من جِهَة التلقي فَهُوَ أَن يخرج من أَعلَى السُّوق، وَأما التلقي فِي أَعلَى السُّوق فَهُوَ جَائِز لما فِي حَدِيث ابْن عمر: كَانُوا يتبايعون فِي أَعْلَاهُ، وَأما مَا كَانَ خَارِجا من السُّوق فِي الْحَاضِرَة أَو قَرِيبا مِنْهَا بِحَيْثُ يجد من يسْأَله عَن سعرها فَهَذَا يكره لَهُ أَن يَشْتَرِي هُنَاكَ، لِأَنَّهُ دَاخل فِي معنى التلقي، وَإِن خرج من السُّوق وَلم يخرج عَن الْبَلَد فقد صرح الشَّافِعِيَّة بِأَنَّهُ لَا يدْخل فِي النَّهْي. وَأما الْموضع الْبعيد الَّذِي لَا يقدر فِيهِ على ذَلِك فَيجوز فِيهِ البيع، وَلَيْسَ بتلق. قَالَ مَالك: وأكره أَن يَشْتَرِي فِي نواحي الْمصر حَتَّى يهْبط إِلَى السُّوق. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: بَلغنِي هَذَا القَوْل عَن أَحْمد وَإِسْحَاق: أَنَّهُمَا نهيا عَن التلقي خَارج السُّوق ورخصا فِي ذَلِك فِي أَعْلَاهُ، ومذاهب الْعلمَاء فِي حد التلقي مُتَقَارِبَة، وروى عَن يحيى بن سعيد أَنه قَالَ، فِي مِقْدَار الْميل من الْمَدِينَة أَو آخر منازلها: هُوَ من تلقي الْبيُوع الْمنْهِي عَنهُ، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَن الْميل من الْمَدِينَة لَيْسَ بتلقٍ. وَقيل لَهُ: فَإِن كَانَ على سِتَّة أَمْيَال؟ قَالَ: لَا بَأْس بِالشِّرَاءِ، وَلَيْسَ بتلقٍ، وَعلم من ذَلِك أَن التلقي الْمَمْنُوع عِنْده إِذا خرج من مِقْدَار سِتَّة أَمْيَال، وروى أَشهب عَنهُ فِي الَّذين يخرجُون ويشترون الْفَاكِهَة من موَاضعهَا: أَنه لَا بَأْس بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بتلقٍ، لأَنهم يشْتَرونَ من غير جالب. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا يجوز للرجل فِي الْحَضَر أَن يَشْتَرِي مَا مر بِهِ من السّلع، وَإِن كَانَ على بَابه إِذا كَانَ لَهَا مَوَاقِف فِي السُّوق يُبَاع فِيهَا، وَهُوَ متلق إِن فعل ذَلِك وَمَا لم يكن لَهَا موقف، وَإِنَّمَا يُطَاف بهَا، فأدخلت أَزِقَّة الْحَاضِرَة فَلَا بَأْس أَن يَشْتَرِي، وَإِن لم يبلغ السُّوق. وَقَالَ اللَّيْث: من كَانَ على بَابه أَو فِي طَرِيقه فمرت بِهِ سلْعَة فاشتراها فَلَا بَأْس بذلك، والمتلقي عِنْده الْخَارِج القاصد إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حبيب: وَمن كَانَ مَوْضِعه غير الْحَاضِرَة قَرِيبا مِنْهَا أَو بَعيدا لَا بَأْس أَن يَشْتَرِي مَا مر بِهِ للْأَكْل خَاصَّة لَا للْبيع، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، رَحمَه الله.
6612 - حدَّثنا مُوسَى بنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا نتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فنَشْتَرِي مِنهُمُ الطَّعَامَ فنَهَانَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نَبِيعَهُ حتَّى نَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لم يذكر منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم إلاَّ عَن بيعهم فِي مَكَانَهُ، فَعلم أَن مثل ذَلِك التلقي كَانَ غير مَنْهِيّ مقررا على حَاله. وَقَوله: (نبلغ بِهِ سوق الطَّعَام) يدل على أَن مُنْتَهى التلقي هُوَ أَن يخرج عَن أَعلَى السُّوق، وعَلى مَا يَجِيء الْآن مشروحا بأوضح مِنْهُ.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة: هُوَ ابْن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي، وَقَالَ(11/286)
الْمَازرِيّ: فَإِن قيل: الْمَنْع من بيع الْحَاضِر للبادي سَببه الرِّفْق لأهل الْبَلَد، وَاحْتمل فِيهِ غبن البادي، وَالْمَنْع من التلقي أَن لَا يغبن البادي؟ فَالْجَوَاب: أَن الشَّرْع ينظر فِي مثل هَذِه الْمسَائِل إِلَى مصلحَة النَّاس، والمصلحة تَقْتَضِي أَن ينظر للْجَمَاعَة على الْوَاحِد لَا للْوَاحِد على الْوَاحِد، فَلَمَّا كَانَ البادي إِذا بَاعَ بِنَفسِهِ انْتفع جَمِيع أهل السُّوق واشتروا رخيصا فَانْتَفع بِهِ جَمِيع سكان الْبَلَد نظر الشَّرْع لأهل الْبَلَد على البادي، وَلما كَانَ فِي التلقي إِنَّمَا ينفع المتلقي خَاصَّة، وَهُوَ وَاحِد فِي قبالة وَاحِد، لم يكن فِي إِبَاحَة التلقي مصلحَة، لَا سِيمَا وينضاف إِلَى ذَلِك عِلّة ثَانِيَة: وَهُوَ لُحُوق الضَّرَر بِأَهْل السُّوق فِي انْفِرَاد المتلقي عَنْهُم بالرخص وَقطع الْمَوَارِد عَنْهُم، وهم أَكثر من المتلقي، فَنظر الشَّرْع لَهُم عَلَيْهِ، فَلَا تنَاقض فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، بل هما متفقان فِي الْحِكْمَة والمصلحة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله هَذَا فِي أعلَى السُّوقِ يُبَيِّنهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ الله
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى حَدِيث جوَيْرِية الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ: أَن التلقي الْمَذْكُور فِيهِ كَانَ إِلَى أَعلَى السُّوق، بيَّنه حَدِيث عبيد الله الْعمريّ الَّذِي يَأْتِي بعده، حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يتبايعون الطَّعَام فِي أَعلَى السُّوق، ففهم مِنْهُ أَن التلقي إِلَى خَارج الْبَلَد هُوَ الْمنْهِي لَا غير، وَقَول البُخَارِيّ: هَذَا وَقع عقيب رِوَايَة عبد الله بن عمر فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي رِوَايَة غَيره عقيب حَدِيث جوَيْرِية.
7612 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عَن عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانُوا يتبَايَعُونَ الطَّعَامَ فِي أعْلَى السُّوقِ فيَبِيعُونَهُ فِي مكَانِهِمْ فنَهَاهُم رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَبِيعُوهُ فِي مكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. .
هَذَا لبَيَان الْمَوْعُود الَّذِي وعده بقوله؛ بيَّنه حَدِيث عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع الَّذِي روى عَنهُ يحيى الْقطَّان، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ بذلك الرَّد على من اسْتدلَّ بِهِ على جَوَاز تلقي الركْبَان، لإِطْلَاق قَول ابْن عمر: كُنَّا نتلقى الركْبَان، وَلَا دلَالَة فِيهِ، لِأَن مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يتلقونهم فِي أَعلَى السُّوق، كَمَا فِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، وَقد صرح مَالك فِي رِوَايَته عَن نَافِع بقوله: وَلَا تلقوا السّلع حَتَّى يهْبط بهَا إِلَى السُّوق، فَدلَّ على أَن التلقي الَّذِي لم ينْه عَنهُ إِنَّمَا هُوَ مَا بلغ السُّوق. انْتهى. قلت: البُخَارِيّ لم يُورد هَذَا الحَدِيث لما ذكره هَذَا الْقَائِل، لِأَنَّهُ صرح بِأَنَّهُ لبَيَان المُرَاد من حَدِيث جوَيْرِية عَن نَافِع، وَلَو أَرَادَ هَذَا الَّذِي ذكره لَكَانَ ترْجم لَهُ، وَوجه بَيَانه هُوَ: أَن التلقي الْمَذْكُور فِي حَدِيث جوَيْرِية كَانَ إِلَى أَعلَى السُّوق، بَينه حَدِيث عبيد الله حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يتبايعون الطَّعَام فِي أَعلَى السُّوق، ففهم مِنْهُ أَن التلقي إِلَى خَارج الْبَلَد هُوَ الْمنْهِي عَنهُ لَا غير. قَوْله: (حَتَّى ينقلوه) ، الْغَرَض مِنْهُ: حَتَّى يقبضوه، لِأَن الْعرف فِي قبض الْمَنْقُول أَن ينْقل عَن مَكَانَهُ.
37 - (بابٌ إذَا اشْتَرَطَ شُرُوطا فِي البَيْعِ لاَ تَحِلُّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اشْترط الشَّخْص فِي البيع شُرُوطًا لَا تحل. قَوْله: (لَا تحل) ، صفة: شُرُوطًا، وَلَيْسَ هُوَ جَوَاب: إِذا، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يفْسد البيع بذلك.
8612 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ جاءَتْنِي بَرِيرَةُ فقَالَتْ كاتَبْتُ أهْلِي عَلى تِسْعٍ أوَاقٍ فِي كُلِّ عامٍ وَقِيَّةٌ فأعِينِينِي فقُلْتُ إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أعُدَّهَا لَهُمْ ويَكُونَ ولاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِهِا فقَالَتْ لَهُم فأبَوْا عَلَيْهَا فجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسٌ فقالَتْ إنِّي قَدْ عَرَضتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فأبَوْا إلاَّ أنْ يَكُونَ لَهُمْ الوَلاَءُ فسَمِعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَتْ عائشَةُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ خُذِيهَا واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ فإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ فَفَعَلَتْ عائِشَةُ ثمَّ قامَ رسولُ الله(11/287)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّاسِ فحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ مَا بالُ رجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله مَا كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهْوَ باطِلٌ وإنْ كانَ مائةَ شَرْطٍ قَضاءُ الله أحَقُّ وشَرْطُ الله أوْثَقُ وإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا بَال رجال يشترطون) إِلَى آخِره، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا فِي: بَاب البيع وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء، وَمضى مطولا فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، رَوَاهُ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً، وَلَكِن نذْكر بعض شَيْء.
قَوْله: (أَوَاقٍ) ، جمع: أُوقِيَّة، وَأَصلهَا أواقي، بتَشْديد الْيَاء، فحذفت إِحْدَى الياءين تَخْفِيفًا وَالثَّانيَِة على طَريقَة قاضٍ، وَفِي مِقْدَار الْأُوقِيَّة خلاف. قَوْله: (أَن أعدهَا لَهُم) أَي: أعد تسع أَوَاقٍ لأهْلك وأعتقك، وَيكون ولاؤك لي، بِأَن يفْسخ الْكِتَابَة لعجز الْمكَاتب عَن أَدَاء النُّجُوم. قَوْله: (من عِنْدهم) ، ويروى: من عِنْدهَا، أَي: من عِنْد أَهلهَا. قَوْله: (جَالس) أَي: عِنْد عَائِشَة. قَوْله: (فَقَالَت) أَي: بَرِيرَة. قَوْله: (عرضت ذَلِك) أَي: مَا قالته لَهَا عَائِشَة. قَوْله: (فَأَبَوا) أَي: امْتَنعُوا. قَوْله: (فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَا قالته بَرِيرَة. قَوْله: (فَأخْبرت عَائِشَة) ، قيل: مَا الْفَائِدَة فِي إِخْبَار عَائِشَة حَيْثُ سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ: سمع شَيْئا مُجملا، فَأَخْبَرته عَائِشَة بِهِ مفصلا. قَوْله: (فَقَالَ: خذيها) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خذي بَرِيرَة، أَي: اشتريها. قَوْله: (أما بعد) ، أَي: بعد حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ. قَوْله: (مَا بَال رجال) ، هَذَا جَوَاب: أما، وَالْأَصْل فِيهِ أَن يكون بِالْفَاءِ، وَقد تحذف. قَوْله: (مَا كَانَ) ، كلمة: مَا، مَوْصُولَة متضمنة معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي جَوَابه، وَهُوَ قَوْله: (فَهُوَ بَاطِل) . قَوْله: (وَإِن كَانَ مائَة شَرط) ، مُبَالغَة. وَقَوله: (شَرط) ، مصدر ليَكُون مَعْنَاهُ: مائَة مرّة، حَتَّى يُوَافق الرِّوَايَة المصرحة بِلَفْظ الْمرة. قَوْله: (وَشرط الله أوثق) ، فِيهِ سجع، وَهُوَ من محسنات الْكَلَام إِذا لم يكن فِيهِ تكلّف، وَإِنَّمَا نهى عَن سجع الْكُهَّان لما فِيهِ من التَّكَلُّف.
وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: هَذَا حَدِيث عَظِيم كثير الْأَحْكَام وَالْقَوَاعِد، وَفِيه مَوَاضِع تشعبت فِيهَا الْمذَاهب:
أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت مُكَاتبَة وباعها الموَالِي واشترتها عَائِشَة، وَأقر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيعهَا، فَاحْتَجت بِهِ طَائِفَة من الْعلمَاء أَنه: يجوز بيع الْمكَاتب، وَمِمَّنْ جوزه عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد، وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَمَالك فِي رِوَايَة عَنهُ: لَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام، وَأجَاب من أبطل بَيْعه عَن حَدِيث بَرِيرَة أَنَّهَا عجزت نَفسهَا وفسخوا الْكِتَابَة.
الْموضع الثَّانِي: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشْتَرَيْتهَا. .) إِلَى آخِره، مُشكل من حَدِيث الشِّرَاء وَشرط الْوَلَاء لَهُم وإفساد البيع بِهَذَا الشَّرْط، ومخادعة البائعين وَشرط مَا لَا يَصح لَهُم، وَلَا يحصل لَهُم. وَكَيْفِيَّة الْإِذْن لعَائِشَة؟ وَلِهَذَا الْإِشْكَال أنكر بعض الْعلمَاء هَذَا الحَدِيث بجملته، وَهَذَا مَنْقُول عَن يحيى بن أَكْثَم، وَالْجُمْهُور على صِحَّته، وَاخْتلفُوا فِي تَأْوِيله. فَقيل: اشترطي لَهُم الْوَلَاء، أَي: عَلَيْهِم، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة} (الرَّعْد: 52) . أَي: وَعَلَيْهِم، نقل هَذَا عَن الشَّافِعِي والمزني، وَقيل: معنى اشترطي: أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء. وَقيل: المُرَاد الزّجر والتوبيخ لَهُم لأَنهم لما ألحُّوا فِي اشْتِرَاطه وَمُخَالفَة الْأَمر قَالَ لعَائِشَة هَذَا، بِمَعْنى: لَا تبالي سَوَاء شرطته أم لَا، فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل مَرْدُود. وَقيل: هَذَا الشَّرْط خَاص فِي قصَّة عَائِشَة، وَهِي قَضِيَّة عين لَا عُمُوم لَهَا. .
الثَّالِث: أَن الْوَلَاء لمن أعتق، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على ثُبُوت الْوَلَاء لمن أعتق عَبده أَو أمته عَن نَفسه، وَأَن يَرث بِهِ، وَأما الْعَتِيق فَلَا يَرث سَيّده عِنْد الجماهير، وَقَالَ جمَاعَة من التَّابِعين: يَرِثهُ كَعَكْسِهِ.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير بَرِيرَة فِي فسخ نِكَاحهَا، وأجمعت الْأمة على أَنه إِذا اعتقت كلهَا تَحت زَوجهَا، وَهُوَ عبد، كَانَ لَهَا خِيَار فِي فسخ النِّكَاح، فَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَهَا الْخِيَار.
الْخَامِس: أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل شَرط) إِلَى آخِره، صَرِيح فِي إبِْطَال كل شَرط لَيْسَ لَهُ أصل فِي كتاب الله تَعَالَى، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن من شَرط فِي البيع شرطا لَا يحل أَنه لَا يجوز، عملا بِهَذَا الحَدِيث. وَاخْتلفُوا فِي غَيرهَا من الشُّرُوط على مَذَاهِب مُخْتَلفَة: فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل على نَص حَدِيث بَرِيرَة، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَابْن جرير وَأَبُو ثَوْر. وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى جوازهما، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بَيْعه جمله واستثنائه حمله إِلَى الْمَدِينَة، وَرُوِيَ(11/288)
ذَلِك عَن حَمَّاد وَابْن شبْرمَة وَبَعض التَّابِعين. وَذَهَبت طَائِفَة ثَالِثَة إِلَى بطلانهما، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع وَشرط. وَهُوَ قَول عمر وَولده وَابْن مَسْعُود والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَقد يجوز عِنْد مَالك البيع وَالشّرط، مثل أَن يشْتَرط البَائِع مَا لم يدْخل فِي صَفْقَة البيع، مثل: أَن يَشْتَرِي زرعا وَيشْتَرط على البَائِع حصده، أَو دَارا وَيشْتَرط سكناهَا مُدَّة يسيرَة، أَو يشْتَرط ركُوب الدَّابَّة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ، وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لَا يجيزان هَذَا البيع كُله، وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَالشّرط: شِرَاء العَبْد بِشَرْط عتقه إتباعا للسّنة فِي بَرِيرَة، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الرّبيع، وَأَجَازَ ابْن أبي ليلى هَذَا البيع وأبطل الشَّرْط، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وأبطل أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط وَأخذ بِعُمُوم نَهْيه عَن بيع وَشرط، وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَإِبْطَال الشَّرْط: كَشِرَاء العَبْد على أَن يكون الْوَلَاء للْبَائِع، وَهَذَا البيع أَجمعت الْأمة على جَوَازه وَإِبْطَال الشَّرْط فِيهِ لمُخَالفَته السّنة، وَكَذَلِكَ من بَاعَ سلْعَة وَشرط أَن لَا ينْقد المُشْتَرِي الثّمن إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام وَنَحْوهَا فَالْبيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل عِنْد مَالك، وَأَجَازَ ابْن الْمَاجشون البيع وَالشّرط، وَمِمَّنْ أجَاز هَذَا البيع الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق، وَلم يفرقُوا بَين ثَلَاثَة أَيَّام وَأكْثر مِنْهَا، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَإِن قَالَ إِلَى أَرْبَعَة أَيَّام بَطل البيع، لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجوز عِنْده، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر.
وَمِمَّا يبطل فِيهِ عِنْد مَالك البيع وَالشّرط: مثل أَن يَبِيعهُ جَارِيَة على أَن لَا يَبِيعهَا وَلَا يَهَبهَا على أَن يتخذها أم ولد، فَالْبيع عِنْده فَاسد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وأجازت طَائِفَة هَذَا البيع وأبطلت الشَّرْط، وَهَذَا قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَابْن أبي ليلى وَأبي ثَوْر، وَقَالَ حَمَّاد الْكُوفِي: البيع جَائِز وَالشّرط لَازم. وَمِمَّا يبطل فِيهِ البيع وَالشّرط عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ والكوفيين: نَحْو بيع الْأمة والناقة واستثناء مَا فِي بَطنهَا، وَهُوَ عِنْدهم من بُيُوع الْغرَر، وَقد أجَاز هَذَا البيع وَالشّرط النَّخعِيّ وَالْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا بِأَن ابْن عمر أعتق جَارِيَة وَاسْتثنى مَا فِي بَطنهَا.
وَمِمَّا حُكيَ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد قَالَ: قدمت مَكَّة فَوجدت بهَا أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى وَابْن شبْرمَة، فَسَأَلت أَبَا حنيفَة، فَقلت: مَا تَقول فِي رجل بَاعَ بيعا وَشرط شرطا؟ فَقَالَ: البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَسَأَلته، فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة، فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز. فَقلت: سُبْحَانَ الله ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق اخْتلفُوا على مَسْأَلَة وَاحِدَة. فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نهى عَن بيع وَشرط) ، البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل. ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَأَخْبَرته فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن أَشْتَرِي بَرِيرَة فأعتقيها، البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل) . ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة فَأَخْبَرته، فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي مسعر بن كدام عَن محَارب بن دثار عَن جَابر بن عبد الله (قَالَ: بِعْت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَة، فَاشْترط لي حملانها إِلَى الْمَدِينَة، البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز) .
9612 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ عائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ أرَادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ جارِيَةً فتُعْتِقَهَا فَقَالَ أهْلُهَا نَبِيعُكِهَا علَى أنَّ وَلاَءَهَا لَنَا فذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكَ فإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (نبيعكها على أَن ولاءها لنا) ، وَهَذَا الشَّرْط بَاطِل، والترجمة فِيهِ، وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن إِسْمَاعِيل وقتيبة فرقهما، وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيُوع جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَالْكَلَام فِيهِ قد مر فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَفِي الْبَاب الَّذِي فِيهِ التَّرْجَمَة: البيع وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء.
47 - (بَاب بَيْعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع التَّمْر بِالتَّمْرِ.(11/289)
0712 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ مالِكِ بنِ أوَيْسٍ قَالَ سَمعَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْبُرُّ بالْبُرِّ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ والتَّمْرُ بالتَّمْرِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ. .
هَذَا الحَدِيث قد مر من رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار عَن الزُّهْرِيّ عَن مَالك بن أويس عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي: بَاب مَا يذكر فِي بيع الطَّعَام والحكرة، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.
57 - (بابُ بَيْعِ الزَّبِيبِ بالزَّبِيبِ والطَّعامُ بالطَّعامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي حكم بيع الزَّبِيب ... إِلَى آخِره.
1712 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حَدثنَا مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُزَابَنَةِ والمُزَابَنَةُ بَيْع التَّمْرِ بالتَّمْرِ كَيْلا وبَيْعُ الزَّبِيبِ بالْكَرْم كَيْلا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ الْمَعْنى، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَارِيّ من جِهَة النَّص: (الزَّبِيب بالزبيب وَلَا الطَّعَام بِالطَّعَامِ) ، فَلَو حقق الحَدِيث بِبيع التَّمْر فِي رُؤُوس الشّجر بِمثلِهِ من جنسه يَابسا، أَو صحّح الْكَلَام على قدر مَا ورد بِهِ لفظ الْخَبَر كَانَ أولى. وَقَالَ بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرقه من ذكر الطَّعَام، وَهُوَ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع كَمَا سَيَأْتِي. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه لَا يساعد البُخَارِيّ، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه أَخذ فِي التَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي الْمُطَابقَة، وَرُبمَا يَأْتِي بعض الْأَبْوَاب لَا تُوجد الْمُطَابقَة فِيهِ إلاَّ بِأَدْنَى من هَذَا الْمِقْدَار، وَالْغَرَض وجود شَيْء مَا من الْمُنَاسبَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن يُوسُف فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
والمزابنة، مفاعلة، لَا تكون إلاَّ بَين اثْنَيْنِ، وَأَصلهَا الدّفع الشَّديد، قَالَ الدَّاودِيّ: كَانُوا قد كثرت فيهم المدافعة بالخصام، فسميت الْمُزَابَنَة، وَلما كَانَ كل وَاحِد من الْمُتَبَايعين يدْفع الآخر فِي هَذِه الْمُبَايعَة عَن حَقه، سميت بذلك، وَقَالَ ابْن سَيّده: الزَّبْن دفع الشَّيْء عَن الشَّيْء، زبن الشَّيْء يزبنه زبنا وزبن بِهِ، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الْمُزَابَنَة كل بيع فِيهِ غرر، وَهُوَ بيع كل جزاف لَا يعلم كَيْله وَلَا وَزنه وَلَا عدده، وَأَصله أَن المغبون يُرِيد أَن يفْسخ البيع، وَيُرِيد الغابن أَن لَا يفسخه فيتزابنان عَلَيْهِ، أَي: يتدافعان، وَعند الشَّافِعِي: هُوَ بيع مَجْهُول بِمَجْهُول أَو مَعْلُوم، من جنس تَحْرِيم الرِّبَا فِي نَقده، وَخَالفهُ مَالك فِي هَذَا الْقَيْد، سَوَاء كَانَ مِمَّا يحرم الرِّبَا فِي نَقده أَو لَا، وَلَا، مطعوما كَانَ أَو غير مطعوم. قَوْله: (والمزابنة بيع الثَّمر) إِلَى آخِره، قَالَ أَبُو عمر: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن تَفْسِير الْمُزَابَنَة فِي هَذَا الحَدِيث من قَول ابْن عمر أَو مرفوعه، وَأَقل ذَلِك أَن يكون من قَوْله، وَهُوَ رواي الحَدِيث فَيسلم لَهُ، وَكَيف وَلَا مُخَالف فِي ذَلِك؟ قَوْله: (بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ) قَالَ الْكرْمَانِي: بيع الثَّمر بِالْمُثَلثَةِ بِالتَّمْرِ بالفوقية، وَمَعْنَاهُ: الرطب بِالتَّمْرِ، وَلَيْسَ المُرَاد كل الثِّمَار، فَإِن سَائِر الثِّمَار يجوز بيعهَا بِالتَّمْرِ. قَوْله: (كَيْلا) أَي: من حَيْثُ الْكَيْل، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (بِالْكَرمِ) ، بِسُكُون الرَّاء: شجر الْعِنَب، لَكِن المُرَاد هُنَا نفس الْعِنَب. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ من بَاب الْقلب، إِذْ الْمُنَاسب لقرينته أَن يدْخل الْجَار على الزَّبِيب لَا على الْكَرم، وَقَالَ أَبُو عمر: وَأَجْمعُوا على تَحْرِيم بيع الْعِنَب بالزبيب، وعَلى تَحْرِيم بيع الْحِنْطَة فِي سنبلها بحنطة صَافِيَة، وَهُوَ المحاقلة، وَسَوَاء عِنْد جمهورهم كَانَ الرطب وَالْعِنَب على الشّجر أَو مَقْطُوعًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ مَقْطُوعًا جَازَ بَيْعه بِمثلِهِ من الْيَابِس، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز بيع التَّمْر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ، لِأَنَّهُ مزابنة، وَقد نهى عَنهُ. وَأما رطب ذَلِك مَعَ يابسه إِذا كَانَ مَقْطُوعًا، وَأمكن فِيهِ الْمُمَاثلَة، فجمهور الْعلمَاء لَا يجيزون بيع شَيْء من ذَلِك بِجِنْسِهِ لَا متماثلاً وَلَا مُتَفَاضلا، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز بيع الْحِنْطَة الرّطبَة باليابسة وَالتَّمْر بالرطب مثلا بِمثل، وَلَا يُجِيزهُ مُتَفَاضلا. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وأظن أَن أَبَا ثَوْر وَافقه.(11/290)
2712 - حدَّثنا أبُو النُّعْمانِ قَالَ أخبرنَا حَمادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُزَابَنَةِ قَالَ والمُزَابَنَةُ أنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إنْ زادَ فَلِي وإنْ نقَصَ فَعَلَيَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة نَحْو مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق للتَّرْجَمَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا كلهم، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأبي كَامِل الجحدري، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد مقطعا، وَعَن عَليّ بن حجر وَزُهَيْر بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَنهُ بِهِ مقطعا أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب عَن ابْن علية.
قَوْله: (قَالَ) أَي: عبد الله بن عمر. قَوْله: (أَن يَبِيع) ، بدل أَو بَيَان لقَوْله: الْمُزَابَنَة، كَذَا قيل. قلت: كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية، وَتَقْدِيره: الْمُزَابَنَة بيع التَّمْر بكيل. قَوْله: (بكيل) أَي: من الزَّبِيب أَو التَّمْر. قَوْله: (إِن زَاد) ، حَال من فَاعل يَبِيع، بِتَقْدِير القَوْل: أَي: بِبيعِهِ قَائِلا إِن زَاد التَّمْر المخروص على مَا يُسَاوِي الْكَيْل، فَهُوَ لي وَإِن نقس فعلي بتَشْديد الْيَاء.
(قَالَ وحَدثني زيد بن ثَابت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي الْعَرَايَا بِخرْصِهَا) أَي قَالَ عبد الله بن عَمْرو حَدثنِي زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث وَعَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك وَفِي الشّرْب عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وهشيم فرقهما وَعَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى بن الْقطَّان وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن هناد وَعَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي قدامَة وَفِيه وَفِي الشُّرُوط عَن عِيسَى بن حَمَّاد وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَأخرجه ابْن ماجة فِي التِّجَارَات عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " فِي الْعَرَايَا " جمع عرية فعيلة بِمَعْنى مفعولة من عراه يعروه إِذا قَصده وَيحْتَمل أَن تكون فعيلة بِمَعْنى فاعلة من عرى يعرى إِذا قلع ثَوْبه كَأَنَّهَا عريت من جملَة التَّحْرِيم وَفِي التَّلْوِيح الْعرية النَّخْلَة المعراة وَهِي الَّتِي وهبت تَمْرَة عامها والعرية أَيْضا الَّتِي تعزل عَن المساومة عِنْد بيع النّخل وَقيل هِيَ النَّخْلَة الَّتِي قد أكل مَا عَلَيْهَا واستعرى النَّاس فِي كل وَجه أكلُوا الرطب من ذَلِك وَفِي الْجَامِع وَأَنت معروفي الصِّحَاح فيعروها الَّذِي أَعْطيته أَي يَأْتِيهَا وَهِي فعيلة بِمَعْنى مفعولة وَإِنَّمَا أدخلت فِيهَا الْهَاء لِأَنَّهَا أفردت فَصَارَت فِي عداد الْأَسْمَاء مثل النطيحة والأكيلة وَلَو جِئْت بهَا مَعَ النَّخْلَة قلت نَخْلَة عرى وَقيل عراه يعروه إِذا أَتَاهُ يطْلب مِنْهُ عرية فأعراه أَي إِيَّاهَا كَمَا يُقَال سَأَلَني فأسألته فالعرية اسْم للنخلة الْمُعْطى ثَمَرهَا فَهِيَ اسْم لعطية خَاصَّة وَقد سمت الْعَرَب عطايا خَاصَّة بأسماء خَاصَّة كالمنيحة لعطية الشَّاة والأفقار لما ركب فقاره فعلى هَذَا أَن الْعرية عَطِيَّة لَا بيع. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْعَطِيَّة شرعا فَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق الْعرية الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث هِيَ إِعْطَاء الرجل من جملَة حَائِطه نَخْلَة أَو نخلتين عَاما وَقَالَ قوم الْعرية النَّخْلَة والنخلتان وَالثَّلَاث يَجْعَل للْقَوْم فيبيعون ثَمَرهَا بِخرْصِهَا تَمرا وَهُوَ قَول يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَرُوِيَ عَن زيد بن ثَابت وَقَالَ قوم مثل هَذَا إِلَّا أَنهم خصوا بذلك الْمَسَاكِين يَجْعَل لَهُم تمر النّخل فيصعب عَلَيْهِم الْقيام عَلَيْهَا فأبيح لَهُم أَن يبيعوه بِمَا شاؤا من التَّمْر وَهُوَ قَول سُفْيَان بن حُسَيْن وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَقَالَ قوم الْعرية الرجل يعري النَّخْلَة أَو يَسْتَثْنِي من مَاله النَّخْلَة أَو النخلتين يأكلها فيبيعها بِمثل خرصها وَهُوَ قَول عبد ربه بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ قوم الْعرية أَن يَأْتِي أَوَان الرطب وَهُنَاكَ قوم فُقَرَاء لَا مَال لَهُم يُرِيدُونَ ابتياع رطب يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاس وَلَهُم فضول تمر من أقواتهم فَإِن لَهُم أَن يشتروا الرطب بِخرْصِهَا من التَّمْر فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر وَلَا عرية عِنْدهمَا فِي غير النّخل وَالْعِنَب(11/291)
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول فِيمَا سَمِعت أَحْمد بن أبي عمرَان يذكر أَنه سمع مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة قَالَ معنى ذَلِك عندنَا أَن يعرى الرجل الرجل تمر نَخْلَة من نخله فَلم يسلم ذَلِك إِلَيْهِ حَتَّى يَبْدُو لَهُ يَعْنِي يظْهر لَهُ أَن لَا يُمكنهُ من ذَلِك فيعطيه مَكَانَهُ خرصه تَمرا فَيخرج بذلك عَن إخلاف الْوَعْد وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْعرية هِيَ أَن من لَا نخل لَهُ من ذَوي الْحَاجة يدْرك الرطب وَلَا نقد بِيَدِهِ يَشْتَرِي بِهِ الرطب لِعِيَالِهِ وَلَا نخل لَهُم يُطعمهُمْ مِنْهُ وَيكون قد فضل لَهُ تمر من قوته فَيَجِيء إِلَى صَاحب النّخل فَيَقُول لَهُ بِعني تمر نَخْلَة أَو نخلتين بِخرْصِهَا من التَّمْر فيعطيه ذَلِك الْفَاضِل من التَّمْر بِتَمْر تِلْكَ النخلات ليصيب من رطبها مَعَ النَّاس فَرخص فِيهِ إِذا كَانَ دون خَمْسَة أوسق وَقَالَ ابْن زرقون هِيَ عَطِيَّة ثَمَر النّخل دون الرّقاب كَانُوا يُعْطون ذَلِك إِذا دهمتهم سنة لمن لَا نخل لَهُ فيعطيه من نخله مَا سمحت بِهِ نَفسه مثل الأفقار والمنحة والعمرى وَكَانَت الْعَرَب تتمدح بالأعراء وَقَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله الْعرية هِيَ أَن يخرص الخارص نخلات فَيَقُول هَذَا الرطب الَّذِي عَلَيْهَا إِذا يبس يَجِيء مِنْهُ ثَلَاثَة أوسق من التَّمْر مثلا فيعطيه صَاحبه لإِنْسَان بِثَلَاثَة أوسق ويتقاصان فِي الْمجْلس فيتسلم الثّمن ويتسلم بَايع الرطب الرطب بِالتَّخْلِيَةِ وَهَذَا جَائِز فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَلَا يجوز فِيمَا زَاد على خَمْسَة أوسق وَفِي جَوَازه فِي خَمْسَة أوسق قَولَانِ للشَّافِعِيّ أصَحهمَا لَا يجوز وَالأَصَح أَنه يجوز ذَلِك للْفُقَرَاء والأغنياء وَأَنه لَا يجوز فِي غير الرطب وَالْعِنَب وَبِه قَالَ أَحْمد وَقَالَ أَبُو عمر فجملة قَول مَالك وَأَصْحَابه فِي الْعَرَايَا أَن العراية هِيَ أَن يهب الرجل حَائِطه خَمْسَة أوسق فَمَا دونهَا ثمَّ يُرِيد أَن يَشْتَرِيهَا من المعري عِنْد طيب الثَّمَرَة فأبيح لَهُ أَن يَشْتَرِيهَا بِخرْصِهَا تَمرا عِنْد الْجذاذ وَإِن عجل لَهُ لم يجز وَلَا يجوز ذَلِك لغير المعري لِأَن الرُّخْصَة وَردت فِيهِ وَجَائِز بيعهَا من غَيره بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِم وَسَائِر الْعرُوض وَقَالَ أَيْضا وَلَا يجوز البيع فِي الْعَرَايَا عِنْد مَالك وَأَصْحَابه إِلَّا لوَجْهَيْنِ إِمَّا لدفع ضَرَر دُخُول المعرى على المعرى وَإِمَّا لِأَن يرفق المعرى فتكفيه المؤلة فِيهَا فأرخص لَهُ أَن يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِخرْصِهَا تَمرا إِلَى الْجذاذ وَفِي الاستذكار يجوز الإعراء فِي كل نوع من الثَّمر كَانَ مِمَّا ييبس ويدخر أم لَا وَفِي القثاء والموز والبطيخ قَالَه ابْن حبيب قبل الْأَبَّار وَبعده لعام أَو لأعوام فِي جَمِيع الْحَائِط أَو بعضه وَقَالَ عبد الْوَهَّاب بيع الْعَارِية جَائِز بأَرْبعَة شُرُوط أَحدهَا أَن يزهي وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء وَقَالَ يزِيد بن حبيب يجوز وَقبل بَدو الصّلاح وَالثَّانِي أَن يكون خَمْسَة أوسق فأدنى وَهُوَ رِوَايَة المصريين عَن مَالك وروى عَنهُ أَبُو الْفرج عَمْرو بن مُحَمَّد أَنه لَا يجوز إِلَّا فِي خَمْسَة أوسق فَإِن خرصت أقل من خَمْسَة أوسق فَلَمَّا جذت وجد أَكثر فَفِي الْمُدَوَّنَة روى صَدَقَة بن حبيب عَن مَالك أَن الْفضل لصَاحب الْعَارِية وَلَو أقل من الْخرص ضمن الْخرص وَلَو خلطه قبل أَن يكيله لم يكن عَلَيْهِ زِيَادَة وَلَا نقص وَالثَّالِث أَن يُعْطِيهِ خرصها عِنْد الْجذاذ وَلَا يجوز لَهُ تَعْجِيل الْخرص تَمرا خلافًا للشَّافِعِيّ فِي قَوْله أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يعجل الْخرص تَمرا وَلَا يجوز أَن يفترقا حَتَّى يتقابضا وَالشّرط الرَّابِع أَن يكون من صنعها فَإِذا بَاعهَا بِخرْصِهَا إِلَى الْجذاذ ثمَّ أَرَادَ تَعْجِيل الْخرص جَازَ قَالَه ابْن حبيب وَعَن مَالك فِيمَا يَصح ذَلِك فِيهِ من الثِّمَار رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا أَنه لَا يجوز إِلَّا فِي النّخل وَالْعِنَب وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالثَّانيَِة أَنه يجوز فِي كل مَا ييبس ويدخر من الثِّمَار كالجوز واللوز والتين وَالزَّيْتُون والفستق رَوَاهُ أَحْمد وَقَالَ أَشهب فِي الزَّيْتُون يجوز إِذا كَانَ ييبس ويدخر وَأما النّخل الَّذِي لَا يتتمر وَالْعِنَب الَّذِي لَا يتزبب فعلى اشْتِرَاط التيبيس يجب أَن لَا يجوز
67 - (بابُ بَيْعِ الشَّعِيرِ بالشَّعِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الشّعير بِالشَّعِيرِ. كَيفَ هُوَ. وَهُوَ أَنه يجوز إِذا كَانَا متساويين يدا بيد على مَا يَجِيء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله:
4712 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهاب عنْ مالِكِ بنِ أوْسٍ قَالَ أخبَرَهُ أنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفا بِمائَةِ دِينارٍ فَدعانِي طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ الله فتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي فأخذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُها فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ حتَّى يَأتِيَ خازِنِي منَ الْغَابَةِ وعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ فَقَالَ(11/292)
وَالله لاَ تُفَارِقُهُ حتَّى تأخُذَ مِنْهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رَبًّا إلاَّ هاءَ وهاءَ والْبُرُّ بالْبُرِّ رَبًّا إلاَّ هاءَ وهاءَ والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ والتَّمْرُ بالتَّمْرِ إلاَّ هاءَ وهاءَ. (انْظُر الحَدِيث 4312 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالشعِير بِالشَّعِيرِ) . والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَا يذكر فِي بيع الطَّعَام. قَوْله: (صرفا) ، قَالَ الْعلمَاء: بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ يُسمى صرفا لصرفه عَن مُقْتَضى الْبياعَات من جَوَاز التَّفَرُّق قبل التَّقَابُض، وَقيل: من صريفهما وَهُوَ تصويتهما فِي الْمِيزَان، كَمَا أَن بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ يُسمى مراطلة. قَوْله: (فتراوضنا) ، بالضاد الْمُعْجَمَة، يُقَال: فلَان يراوض فلَانا على أَمر كَذَا، أَي: يداريه ليدخله فِيهِ. قَوْله: (حَتَّى يَأْتِي) أَي: اصبر حَتَّى يَأْتِي، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ ظن جَوَازه كَسَائِر الْبيُوع، وَمَا كَانَ بلغه حكم الْمَسْأَلَة، فَلَمَّا أبلغه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ترك المصارفة.
77 - (بابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بالذَّهَبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الذَّهَب بِالذَّهَب كَيفَ هُوَ؟ وَهُوَ أَنه يجوز إِذا كَانَا متساويين يدا بيد.
87 - (بابُ بَيْعِ الْفِضَّةِ بالْفِضَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْفضة بِالْفِضَّةِ مَا حكمه؟ يَعْنِي، يجوز متساويتين فِي الْمجْلس.
6712 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا عَمِّي قَالَ حدَّثنا ابنُ أخِي الزُّهْرِيِّ عنْ عَمِّهِ قَالَ حدَّثني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ أَبَا سَعِيدٍ حدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حدِيثا عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَقِيَهُ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ فَقَالَ يَا أبَا سعِيدٍ مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ(11/293)
عَن رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أبُو سَعِيدٍ فِي الصَّرْفِ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ الذَّهَبُ بالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ والوَرِقُ بالوَرِق مثْلاً بِمِثْلٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالْوَرق بالورق مثلا بِمثل) وَالْوَرق، بِكَسْر الرَّاء: الْفضة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّانِي: عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم. الرَّابِع: عَمه مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر. السَّادِس: عبد الله ابْن عمر بن الْخطاب. السَّابِع: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه سعد بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: اللقى. وَفِيه: السماع وَهُوَ عَمه. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رجال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون وَأَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَابْن أخي الزُّهْرِيّ كلهم زهريون، وَأَن شَيْخه مَاتَ بِبَغْدَاد سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن أَبِيه الصَّحَابِيّ وَرِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
قَوْله: (إِن أَبَا سعيد حَدثهُ) ، أَي: حدث عبد الله بن عمر. قَوْله: (مثل ذَلِك) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: مثل حَدِيث أبي بكرَة فِي وجوب الْمُسَاوَاة. فَإِن قلت: مَا وَجه: فَلَقِيَهُ، إِذْ الْكَلَام يتم بِدُونِهِ؟ قلت: يَعْنِي: فَلَقِيَهُ بعد ذَلِك مرّة أُخْرَى. انْتهى. وَقيل: هَذَا الحَدِيث أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجْهَيْن: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم شيخ شيخ البُخَارِيّ بِلَفْظ: إِن أَبَا سعيد حَدثهُ حَدِيثا مثل حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصّرْف، قَالَ أَبُو سعيد ... فَذكره، فَظهر بِهَذِهِ الرِّوَايَة معنى قَوْله: مثل ذَلِك، أَي: مثل حَدِيث عمر، أَي: حَدِيث عمر الْمَاضِي قَرِيبا فِي قصَّة طَلْحَة بن عبيد الله. انْتهى. قلت: حَدِيث عمر الَّذِي ذكره مضى فِي: بَاب مَا يذكر فِي بيع الطَّعَام، وَالَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي أقرب لِأَنَّهُ مَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَلَيْسَ بَينهمَا بَاب آخر. قَوْله: (مَا هَذَا؟) أَي: مَا هَذَا الَّذِي تحدثه؟ وَإِنَّمَا قَالَ: مَا هَذَا؟ لِأَنَّهُ كَانَ يعْتَقد قبل ذَلِك جَوَاز المفاضلة. قَوْله: (فِي الصّرْف) أَي: فِي شَأْن الصّرْف، وَهُوَ بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (الذَّهَب بِالذَّهَب) ، يجوز فِي الذَّهَب الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف أَي: الذَّهَب يُبَاع بِالذَّهَب، أَو يكون مَرْفُوعا بِإِسْنَاد الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول إِلَيْهِ تَقْدِيره: يُبَاع الذَّهَب، وَأما النصب فعلى أَنه مفعول لفعل مُقَدّر تَقْدِيره: بيعوا الذَّهَب بِالذَّهَب، وَقَوله: الذَّهَب يتَنَاوَل جَمِيع أَنْوَاعه من مَضْرُوب وَغير مَضْرُوب، وصحيح ومكسور، وجيد ورديء. وَقَالَ بَعضهم: وخالص ومغشوش، قلت: قَوْله: ومغشوش، لَيْسَ على إِطْلَاقه، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ غشه كثيرا غَالِبا على الذَّهَب يكون حكمه حكم الْعرُوض. قَوْله: (مثلا بِمثل) ، بِالنّصب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالرَّفْع، مثل بِمثل، فوجهه بِإِسْنَاد الْفِعْل الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول إِلَيْهِ تَقْدِيره: يُبَاع مثل بِمثل، وَأما وَجه النصب فعلى أَنه حَال تَقْدِيره: الذَّهَب يُبَاع بِالذَّهَب، حَال كَونهمَا متماثلين، يَعْنِي متساويين، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مصدر فِي مَوضِع الْحَال، قلت: قَوْله: مصدر، لَيْسَ بِصَحِيح على مَا لَا يخفى.
7712 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عَن أبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بمِثْلٍ وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ولاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ بالوَرِقَ ألاَّ مِثْلاً بمِثْلٍ ولاَ تُشِفُّوا بَعْضَها عَلى بَعْضٍ وَلَا تبيعُوا مِنْها غائِبا بِناجِزٍ. (انْظُر الحَدِيث 6712 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تَبِيعُوا الْوَرق بالورق) ، وَالْوَرق بِكَسْر الرَّاء هُوَ: الْفضة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن شَيبَان بن فروخ، وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن حميد بن مسْعدَة وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود.
قَوْله: (إلاَّ مِثلاً(11/294)
بِمثل) أَي: إلاَّ حَال كَونهمَا متماثلين، أَي: متساويين، قَوْله: (وَلَا تشفوا) ، بِضَم التَّاء من الإشفاف، وَهُوَ التَّفْضِيل، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ رباعي من أشف. قلت: لَا، بل هُوَ ثلاثي مزِيد فِيهِ، يُقَال: شف الدِّرْهَم يشف: إِذا زَاد، وَإِذا نقص، من الأضداد وأشفه غَيره يشفه، وَفِي الحَدِيث: نهى عَن شف مَا لم يضمن، بِكَسْر الشين، وَهُوَ الزِّيَادَة وَالرِّبْح. قَوْله: (بناجز) ، من النجز، بالنُّون وَالْجِيم وَالزَّاي، وَالْمرَاد: بالغائب الْمُؤَجل، وبالناجز الْحَاضِر يَعْنِي: لَا بُد من التَّقَابُض فِي الْمجْلس.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: حجَّة للشَّافِعِيّ فِي قَوْله: من كَانَ لَهُ على آخر دَرَاهِم وَالْآخر عَلَيْهِ دَنَانِير لم يجز أَن يقاضي أَحدهمَا الآخر بِمَالِه، لِأَنَّهُ يدْخل فِي معنى بيع الذَّهَب بالورق دينا، لِأَنَّهُ إِذا لم يجز غَائِب بناجز فأحرى أَن لَا يجوز غَائِب بغائب. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر، قَالَ: كنت أبيع الْإِبِل بِالبَقِيعِ فأبيع بِالدَّنَانِيرِ فآخذ مَكَانهَا الْوَرق، وأبيع بالورق فآخذ مَكَانهَا الدَّنَانِير، فَأتيت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَجَدته خَارِجا من بَيت حَفْصَة، فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ بِالْقيمَةِ. قلت: قَالَ ابْن بطال: لَا يدْخل هَذَا فِي بيع الذَّهَب بالورق دينا، لِأَن النَّهْي الَّذِي بِقَبض الدَّرَاهِم عَن الدَّنَانِير لم يقْصد إِلَى التَّأْخِير فِي الصّرْف. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من حَدِيث سماك بن حَرْب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر، وروى دَاوُد عَن أبي هِنْد هَذَا الحَدِيث عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر مَوْقُوفا، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم أَنه لَا بَأْس أَن يقبض عَن الذَّهَب من الْوَرق وَالْوَرق من الذَّهَب، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقد كره بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم ذَلِك.
97 - (بابُ بَيْعِ الدِّينارِ بالدِّينارِ نَسَاءً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الدِّينَار بالدينار حَال كَونه نسَاء، بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة وبالمد. وَمَعْنَاهُ: مُؤَخرا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النِّسَاء التَّأْخِير، يُقَال: نسأت الشَّيْء نسَاء وأنسأته إنساء. قلت: مادته من: النُّون وَالسِّين والهمزة، وَفِي الحَدِيث: من أحب أَن ينسأ فِي أَجله. . أَي: يُؤَخر.
9712 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا الضَّحَّاكُ بن مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ أنَّ أَبَا صالِحٍ الزَّيَّاتَ أخبَرَهُ أنَّه سَمِعَ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ الدِّينارُ بالدِّينَارِ والدِّرْهَمُ بالدِّرْهَمِ فَقُلْتُ لَهُ فإنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ فقالَ أبُو سَعِيدٍ سألْتُهُ فَقُلْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ الله قَالَ كُلُّ ذَلِكَ لاَ أقُولُ وأنْتُمْ أعْلَمُ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنِّي وَلَكِنَّنِي أَخْبرنِي أُسامَةُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا رِبا إلاَّ فِي النَّسِيئَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الدِّينَار بالدينار) .
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، حدث عَنهُ بالواسطة وَفِي مَوَاضِع أخر حدث عَنهُ بِغَيْر وَاسِطَة. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار. الْخَامِس: أَبُو صَالح، واسْمه: ذكْوَان الزيات السمان، كَانَ يجلب الزَّيْت وَالسمن إِلَى الْكُوفَة. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعد بن مَالك. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس. الثَّامِن: أُسَامَة ابْن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَالضَّحَّاك بصريان، وَابْن جريج وَعَمْرو مكيان، وَأَبُو صَالح مدنِي سكن الْكُوفَة. وَفِيه: ثَلَاثَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَمُحَمّد بن عباد وَابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح. خمستهم عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَنهُ بِهِ.(11/295)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سمع أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يَقُول: الدِّينَار بالدينار وَالدِّرْهَم بالدرهم) ، كَذَا وَقع فِي هَذَا الطَّرِيق، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أبي صَالح قَالَ: (سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يَقُول: الدِّينَار بالدينار وَالدِّرْهَم بالدرهم. مثل بِمثل، من زَاد أَو أزداد فقد أربى، فَقلت: أَرَأَيْت هَذَا الَّذِي يَقُول؟ أَشَيْء سمعته من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أَو وجدته فِي كتاب الله تَعَالَى؟ فَقَالَ: لم أسمعهُ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم أَجِدهُ فِي كتاب الله تَعَالَى، وَلَكِن حَدثنِي أُسَامَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الرِّبَا فِي النَّسِيئَة) . قَوْله: (إِن ابْن عَبَّاس لَا يَقُول) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (يَقُول غير هَذَا) ، قَوْله: (قَالَ أَبُو سعيد: سَأَلته) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (قد لقِيت ابْن عَبَّاس، فَقلت لَهُ) . قَوْله: (كل ذَلِك) ، بِالرَّفْع، أَي: لم يكن لَا السماع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا الوجدان فِي كتاب الله تَعَالَى، وَيجوز بِالنّصب على أَنه مفعول مقدم وفاعله. قَوْله: (لَا أَقُول) ، وَالْفرق بَين الإعرابين أَن الْمَرْفُوع هُوَ السَّلب الْكُلِّي، والمنصوب لسلب الْكل، وَالْأول أبلغ وأعم وَإِن كَانَ أخص من وَجه آخر. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لم أسمعهُ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم أَجِدهُ فِي كتاب الله تَعَالَى) . كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: عَن عَطاء أَن أَبَا سعيد لَقِي ابْن عَبَّاس فَذكر نَحوه، وَفِيه: (فَقَالَ كل: لَا أَقُول: أما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْتم أعلم بِهِ، وَأما كتاب الله فَلَا أعلمهُ) . أَي: لَا أعلم هَذَا الحكم فِيهِ. وَمعنى قَوْله: أَنْتُم أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأنكم كُنْتُم بالغين كَامِلين عِنْد مُلَازمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا كنت صَغِيرا. قَوْله: (لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، وَفِي رِوَايَة عَطاء عَنهُ: ألاَ إِنَّمَا الرِّبَا، وَفِي رِوَايَة طَاوُوس عَنهُ: لَا رَبًّا فِيمَا كَانَ يدا بيد، وروى الْحَاكِم من طَرِيق حبَان الْعَدوي، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: سَأَلت أَبَا مجلز عَن الصّرْف، فَقَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس لَا يرى بِهِ بَأْسا زَمَانا من عمره، مَا كَانَ مِنْهُ عينا بِعَين يدا بيد، وَكَانَ يَقُول: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، فَلَقِيَهُ أَبُو سعيد بِالشَّعِيرِ، فَذكر الْقِصَّة، والْحَدِيث، وَفِيه: التَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ يدا بيد مثلا بِمثل، فَمن زَاد فَهُوَ رَبًّا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ. فَكَانَ ينْهَى عَنهُ أَشد النَّهْي.
وَاتفقَ الْعلمَاء على صِحَة حَدِيث أُسَامَة وَاخْتلفُوا فِي الْجمع ببينه وَبَين حَدِيث أبي سعيد، فَقيل: مَنْسُوخ، وَقيل: معنى لَا رَبًّا لَا رَبًّا أغْلظ شَدِيد التَّحْرِيم المتوعد عَلَيْهِ بالعقاب الشَّديد، كَمَا تَقول الْعَرَب: لَا عَالم فِي الْبَلَد إلاَّ زيد، مَعَ أَن فِيهَا عُلَمَاء غَيره، وَإِنَّمَا الْقَصْد نفي الْأَكْمَل، لَا نفي الأَصْل، وَأَيْضًا فنفي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل من حَدِيث أُسَامَة إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ، فَيقدم عَلَيْهِ حَدِيث أبي سعيد، لِأَن دلَالَته بالمنطوق، وَيحمل حَدِيث أُسَامَة على الرِّبَا الْأَكْبَر. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى حَدِيث أُسَامَة: لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، إِذا اخْتلف أَنْوَاع الْمَبِيع، وَالْفضل فِيهِ يدا بيد رَبًّا، جمعا بَينه وَبَين حَدِيث أبي سعيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التلفيق بَين حَدِيث أُسَامَة وَحَدِيث أبي سعيد؟ قلت: الْحصْر إِنَّمَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف اعْتِقَاد السَّامع، فَلَعَلَّهُ كَانَ يعْتَقد الرِّبَا فِي غير الْجِنْس حَالا، فَقيل: ردا لاعْتِقَاده لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، أَي: فِيهِ مُطلقًا، وَقد أَوله الْعلمَاء بِأَنَّهُ مَحْمُول على غير الربويات، وَهُوَ كَبيع الدّين بِالدّينِ مُؤَجّلا، بِأَن يكون لَهُ ثوب مَوْصُوف فيبيعه بِعَبْد مَوْصُوف مُؤَجّلا، وَإِن بَاعه بِهِ حَالا يجوز أَو مَحْمُول على الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة فَإِنَّهُ لَا رَبًّا فِيهَا من حَيْثُ التَّفَاضُل، بل يجوز مُتَفَاضلا يدا بيد، وَهُوَ مُجمل. وَحَدِيث أبي سعيد مُبين، فَوَجَبَ الْعَمَل بالمبين وتنزيل الْمُجْمل عَلَيْهِ، أَو: هُوَ مَنْسُوخ، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على ترك الْعَمَل بِظَاهِرِهِ.
08 - (بابُ بَيْع الوَرَقِ بالذَّهَبِ نَسيئَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْوَرق أَي: الْفضة بِالذَّهَب حَال كَونه نَسِيئَة، أَي: مُؤَجّلا.
1812 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخبرنِي حَبِيبُ بنُ أبي ثابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا المِنْهَالِ قَالَ سألْتُ البَرَاءَ بنَ عَازِبٍ وزَيْدَ بنَ أرْقَمَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ عنِ الصَّرْف فَكُلُّ واحدٍ(11/296)
مِنْهُمَا يَقُولُ هَذَا خَيْرٌ مِنِّي فَكِلاَهُمَا يَقُولُ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بالوَرِقِ دَيْنا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الذَّهَب بالورق دينا، أَي: نَسِيئَة. فَإِن قلت: كَيفَ هَذِه الْمُطَابقَة والترجمة بيع الْوَرق بِالذَّهَب والْحَدِيث عَكسه، وَهُوَ: بيع الذَّهَب بالورق؟ قلت: الْبَاء تدخل على الثّمن إِذا كَانَ العوضان غير النَّقْدَيْنِ اللَّذين هما للثمنية، أما إِذا كَانَا نقدين فَلَا تفَاوت فِي أَيهمَا دخلت، فهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب التِّجَارَة فِي الْبر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْفضل بن يَعْقُوب عَن الْحجَّاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار وعامر بن مُصعب، كِلَاهُمَا عَن أبي الْمنْهَال يَقُول: سَأَلت الْبَراء بن العازب وَزيد بن أَرقم ... الحَدِيث.
قَوْله: (عَن الصّرْف) أَي: بيع الدَّرَاهِم بِالذَّهَب أَو عَكسه. قَوْله: (هَذَا خير مني) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان، قَالَ: والقَ زيد بن أَرقم فَاسْأَلْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ أعظمنا تِجَارَة، فَسَأَلته الحَدِيث.
وَفِي الحَدِيث: مَا كَانَت الصَّحَابَة عَلَيْهِ من التَّوَاضُع، وإنصاف بَعضهم بَعْضًا، وَمَعْرِفَة بَعضهم حق الآخر.
18 - (بابُ بَيْع الذَّهَبِ بالوَرِق يدَا بِيدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الذَّهَب بالورق حَال كَونه يدا بيد، وَهَذِه التَّرْجَمَة عكس التَّرْجَمَة السَّابِقَة، فَإِن قلت: ذكر فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة نَسِيئَة، وَفِي هَذِه يدا بيد، هَل فِيهِ زِيَادَة نُكْتَة؟ قلت: نعم، أما فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة فَلِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من وَجه آخر عَن أبي الْمنْهَال بِلَفْظ: إِن كَانَ يدا بيد فَلَا بَأْس، وَإِن كَانَ نَسَاء فَلَا يصلح، وَأما هُنَا فَلِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق الحَدِيث الَّذِي فِيهِ، فقد أخرجه مُسلم عَن أبي الرّبيع عَن عباد الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ من طَرِيقه، وَفِيه: فَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: يدا بيد، فلأجل هَذِه النُّكْتَة قَالَ هُنَاكَ: نَسِيئَة، وَقَالَ هُنَا: يدا بيد.
2812 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنا عَبَّادُ بنُ الْعَوَّامِ قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ أبِي إسْحَاقَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي بَكْرَةَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الْفِضَّةِ والذَّهَبِ بِالذَّهَب إلاَّ سَواءً بِسَوَاءٍ وأمَرَنَا أنْ نَبْتَاعَ الذَّهَبَ بالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا والْفِضَّةِ بالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا. (انْظُر الحَدِيث 5712) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُخْتَصر من الحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذكر: يدا بيد، كَمَا ذكرنَا الْآن، فَانْدفع قَول من قَالَ: ذكر فِي التَّرْجَمَة (يدا بيد) ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث ذَلِك، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث قبله بِثَلَاثَة أَبْوَاب فِي: بَاب بيع الذَّهَب بِالذَّهَب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه، وَهنا أخرجه: عَن عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة وَهُوَ من أَفْرَاده، عَن عباد، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْعَوام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو، عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (إلاَّ سَوَاء بِسواءٍ) أَي: متساويين. قَوْله: (وأمرنا) هُوَ أَمر إِبَاحَة. قَوْله: (أَن نبتاع) أَي: نشتري، وَاحْتج بِهِ على جَوَاز بيع الربويات بَعْضهَا بِبَعْض إِذا كَانَ سَوَاء بِسَوَاء ويدا بيد، وَعند اخْتِلَاف الْجِنْس يجوز كَيفَ كَانَ، إِذا كَانَ يدا بيد. وروى مُسلم: (إِذا اخْتلف الْأَجْنَاس فبيعوا كَيفَ شِئْتُم) .
28 - (بابُ بَيْع المزَابَنَةِ وهْيَ بَيْعُ التَّمْرِ بالثَّمَرِ وبَيْعُ الزَّبِيبِ بالكَرْمِ وبَيْعُ العَرَايا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُزَابَنَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا وَفِي الْعَرَايَا فِي: بَاب بيع الزَّبِيب بالزبيب مُسْتَوفى. قَوْله: (وَهِي) أَي: الْمُزَابَنَة: بيع التَّمْر، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. قَوْله: (بالثمر) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم، وَأَرَادَ بِهِ: الرطب، يَعْنِي: بيع التَّمْر الْيَابِس بالرطب. قَوْله: (بِالْكَرمِ) ، أَي: بالعنب.(11/297)
قَالَ أنَسٌ نَهىَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ المُزَابَنَةِ والمُحَاقَلَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَيَأْتِي هَذَا التَّعْلِيق مَوْصُولا فِي: بَاب المخاصرة والمحاقلة، مفاعلة من الحقل، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف: وَهُوَ الزَّرْع، وموضعه، وَهِي: بيع الْحِنْطَة فِي سنبلها بحنطة صَافِيَة. وَقيل: هِيَ الْمُزَارعَة بِالثُّلثِ أَو الرّبع أَو نَحوه مِمَّا يخرج مِنْهَا، فَيكون كالمخابرة. وروى جَابر: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن المخابرة والمحاقلة) . والمحاقلة: أَن يَبِيع الرجل الزَّرْع قبل إِدْرَاكه، وَقَالَ اللَّيْث: بِمِائَة فرق من الْحِنْطَة، وَالْمُخَابَرَة: كِرَاء الأَرْض بِالثُّلثِ أَو الرّبع، وَقيل: هِيَ بيع الزَّرْع قبل إِدْرَاكه. وَقَالَ اللَّيْث: الحقل الزَّرْع إِذا تشعب قبل أَن يغلظ. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: إِذا كَانَت المحاقلة مَأْخُوذَة من هَذَا فَهُوَ بيع الزَّرْع قبل إِدْرَاكه. قَالَ: والمحقلة المزرعة، وَقيل: لَا تنْبت البقلة إلاَّ الحقلة. وَقَالَ أَبُو عبيد: المحاقلة مَأْخُوذَة من الحقل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس: القراح، بالعراق. وَفِي الحَدِيث: (مَا تَصْنَعُونَ بمحاقلكم؟) أَي: بمزارعكم. وَتقول للرجل: أحقل، أَي: ازرع، وَإِنَّمَا وَقع الْخطر فِي المحاقلة والمزابنة لِأَنَّهُمَا من الْكَيْل، وَلَيْسَ يجوز شَيْء من الْكَيْل وَالْوَزْن إِذا كَانَا من جنس وَاحِد إلاَّ يدا بيد، ومثلاً بِمثل. وَهَذَا مَجْهُول لَا يدْرِي أَيهمَا أَكثر.
3812 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحُهُ ولاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بالتَّمْرِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ) فَإِنَّهُ بيع الْمُزَابَنَة. قَوْله: (التَّمْر) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْمِيم. وَقَوله: (بالثمر) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم، وَهُوَ الرطب.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين. والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن جحين بن الْمثنى عَن اللَّيْث.
قَوْله: (يَبْدُو صَلَاحه) أَي: يظْهر. قَالَ النَّوَوِيّ: يَبْدُو، بِلَا همز، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُنَبه عَلَيْهِ أَنه يَقع فِي كثير من كتب الْمُحدثين وَغَيرهم: حَتَّى يبدوا، هَكَذَا بِأَلف فِي الْخط، وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب حذفهَا فِي مثل هَذَا للناصب، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي إِثْبَاتهَا إِذا لم يكن ناصب مثل: زيد يبدوا، وَالِاخْتِيَار حذفهَا أَيْضا. وَيَقَع مثله فِي: حَتَّى تزهوا، وَصَوَابه حذف الْألف. قَوْله: (صَلَاحه) هُوَ ظُهُور حمرته أَو صفرته، وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي حَدِيث جَابر: حَتَّى يطعم، وَفِي رِوَايَة: حَتَّى يشقه، والإشقاق أَن يحمر أَو يصفر أَو يُؤْكَل مِنْهُ شَيْء، وَفِي رِوَايَة: حَتَّى تشقح، وَقَالَ سعيد بن مينا الرَّاوِي عَن جَابر: يحمارَّ ويصفارَّ ويؤكل مِنْهَا. وَفِي رِوَايَة للطحاوي، فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: حَتَّى يُؤْكَل مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي حَدِيث جَابر: حَتَّى يطيب، وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حَتَّى يصلح، وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي حَدِيث ابْن عمر: مَا صَلَاحه؟ قَالَ: تذْهب عاهته.
ثمَّ إعلم أَن بَدو الصّلاح متفاوت بتفاوت الأثمار، فبدو صَلَاح التِّين أَن يطيب وتوجد فِيهِ الْحَلَاوَة وَيظْهر السوَاد فِي أسوده وَالْبَيَاض فِي أبيضه، وَكَذَلِكَ الْعِنَب الْأسود بَدو صَلَاحه أَن يتَحَوَّل إِلَى السوَاد وَأَن ينحو أبيضه إِلَى الْبيَاض مَعَ النضج، وَكَذَلِكَ الزَّيْتُون بَدو صَلَاحه أَن يتَحَوَّل إِلَى السوَاد، وبدو صَلَاح القثاء والفقوص أَن ينْعَقد ويبلغ مبلغا يُوجد لَهُ طعم، وَأما البطيح فَإِن ينحو نَاحيَة الاصفرار وَالطّيب، وَأما اللوز، فروى أَشهب وَابْن نَافِع عَن مَالك: أَنه يُبَاع إِذا بلغ فِي شَجَره قبل أَن يطيب، فَإِنَّهُ لَا يطيب حَتَّى ينْزع، وَأما الجزر واللفت والفجل والثوم والبصل فبدو صَلَاحه إِذا اسْتَقل ورقه وَتمّ وانتفع بِهِ، وَلم يكن فِي قلعه فَسَاد، وَالْبر والفول والجلبان والحمص والعدس إِذا يبس، والياسمين وَسَائِر الْأَنْوَار أَن يفتح أكمامه وَيظْهر نوره، والقصيل والقصب والقرطم إِذا بلغ أَنه يرْعَى دون فَسَاد.
ذكر مَذَاهِب الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب: قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن بَاعَ الثَّمر قبل بَدو صَلَاحه بِشَرْط الْقطع صَحَّ بِالْإِجْمَاع. قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَو شَرط الْقطع ثمَّ لم يقطع فَالْبيع صَحِيح، وَيلْزمهُ البَائِع بِالْقطعِ، فَإِن تَرَاضيا على إبقائه جَازَ، وَإِن بَاعَ بِشَرْط التبقية فَالْبيع بَاطِل بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ رُبمَا تتْلف الثَّمَرَة قبل إِدْرَاكهَا، فَيكون البَائِع قد أكل مَال أَخِيه بِالْبَاطِلِ، وَأما إِذا شَرط الْقطع فقد انْتَفَى هَذَا الضَّرَر، وَإِن بَاعهَا مُطلقًا بِلَا شَرط الْقطع فمذهبنا وَمذهب الْجُمْهُور أَن البيع بَاطِل، وَبِه(11/298)
قَالَ مَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب شَرط الْقطع. انْتهى. قلت: مَذْهَب الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق: عدم جَوَاز بيع الثِّمَار فِي رُؤُوس النّخل حَتَّى تحمر أَو تصفر.
وَمذهب الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، جَوَاز بيع الثِّمَار على الْأَشْجَار بعد ظُهُورهَا، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي قَول، وحجتهم فِي هَذَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، عَن عبد الله بن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من بَاعَ نخلا قد أبرت فثمرتها للْبَائِع إلاَّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع) . وَزَاد التِّرْمِذِيّ: وَمن بَاعَ عبدا وَله مَال فَمَاله للَّذي بَاعه إلاَّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع وَقَالَ هَذَا الحَدِيث حسن صَحِيح وَجه التَّمَسُّك بِهِ انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل فِيهِ تمر النّخل لبائعها إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع فَيكون لَهُ باشتراطه إِيَّاهَا، وَيكون ذَلِك مبتاعا لَهَا، وَفِي هَذَا إِبَاحَة بيع الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا، لِأَن كل مَا لَا يدْخل فِي بيع غَيره إلاَّ بالاشتراط هُوَ الَّذِي يكون مَبِيعًا وَحده، وَمَا لَا يدْخل فِي بيع غَيره من غير اشْتِرَاط هُوَ الَّذِي لَا يجوز أَن يكون مَبِيعًا وَحده.
قَوْله: قد أبرت، من قَوْلهم: فلَان أبر نخله، إِذا لقحه، وَالِاسْم مِنْهُ: الإبار، كالإزار، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور: أَن المُرَاد مِنْهُ البيع قبل أَن يتكون، فَيكون بَائِعهَا بَائِعا بِمَا لَيْسَ عِنْده، وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، مَا ملخصه: أَن قوما قَالُوا: إِن النَّهْي الْمَذْكُور لَيْسَ للتَّحْرِيم، وَلكنه على المشورة مِنْهُ عَلَيْهِم لِكَثْرَة مَا كَانُوا يختصمون إِلَيْهِ فِيهِ، وَرووا فِي ذَلِك عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: كَانَ النَّاس فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتبايعون الثِّمَار، فَإِذا جد النَّاس وَحضر تقاضيهم قَالَ الْمُبْتَاع إِنَّه أصَاب الثَّمر العفن والدمان، وأصابه قشام، عاهات، يحتجون بهَا. فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما كثرت عِنْده الْخُصُومَة فِي ذَلِك: (لَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر) ، كالمشورة يُشِير بهَا لِكَثْرَة خصومتهم، فَكَانَ نَهْيه عَن ذَلِك على هَذَا الْمَعْنى، وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث زيد هَذَا بِإِسْنَاد صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا وَالْبَيْهَقِيّ. قَوْله: العفن، بِفتْحَتَيْنِ: الْفساد، وَأما بِكَسْر الْفَاء فَهُوَ من الصِّفَات المشبهة، والدمان، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم وَفِي آخِره نون: هُوَ فَسَاد التَّمْر قبل إِدْرَاكه حَتَّى يسود، ويروى بِاللَّامِ وبالراء فِي مَوضِع النُّون. والقشام، بِضَم الْقَاف: دَاء يَقع فِي الثَّمَرَة فتهلك.
قَالَ سالِمٌ وأخبَرَنِي عَبْدُ الله عَنْ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بالرُّطَبِ أوْ بالتَّمْرِ ولَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ.
هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب أَنه أفرد حَدِيث زيد بن ثَابت من طَرِيق نَافِع عَن ابْن عمر، وَقد ذكر فِي: بَاب بيع الزَّبِيب بالزبيب من وَجه آخر عَن نَافِع مضموما فِي سِيَاق وَاحِد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَلم يفصل حَدِيث ابْن عمر من حَدِيث زيد بن ثَابت. وَأَشَارَ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، وَالصَّوَاب التَّفْصِيل.
قَوْله: (رخص بعد ذَلِك) ، أَي: بعد النَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر فِي بيع الْعَرَايَا، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا من أصرح مَا ورد فِي الرَّد على من حمل من الْحَنَفِيَّة النَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر على عُمُومه، وَمنع أَن يكون بيع الْعَرَايَا مُسْتَثْنى مِنْهُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا حكمان وردا فِي سِيَاق وَاحِد، وَكَذَلِكَ من زعم مِنْهُم، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُم، أَن بيع الْعَرَايَا مَنْسُوخ بِالنَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر، لِأَن الْمَنْسُوخ لَا يكون إلاَّ بعد النَّاسِخ. انْتهى. قلت: إبْقَاء النَّهْي على الْعُمُوم أولى من إبِْطَال شَيْء مِنْهُ وَلَا منع من أَن يكون النَّهْي عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ، وَبيع الْعَرَايَا حكمين واردين فِي سِيَاق وَاحِد، وَعُمُوم النَّهْي ثَابت بِيَقِين. وَقَول زيد بن ثَابت: إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص بعد ذَلِك، لَا يُخرجهُ عَن عُمُومه الْمُتَيَقن، لِأَن معنى كَلَامه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أظهر بعد نَهْيه عَن بيع التَّمْر بالثمر أَن بيع الْعرية رخصَة، لَا أَنه مُسْتَثْنى مِنْهُ، على أَن الْعرية فِي الأَصْل عَطِيَّة وَهبة.
فَإِن قلت: الرُّخْصَة لَا دخل لَهَا فِي العطايا والهبات، وَلَا تكون الرُّخْصَة إلاَّ فِي شَيْء محرم، وَلَو كَانَت الْعرية رخصَة لم يكن لقَوْله: وَرخّص بعد ذَلِك فِي بيع الْعرية، فَائِدَة وَلَا معنى؟ قلت: معنى الرُّخْصَة فِيهِ أَن الرجل إِذا أعرى الرجل شَيْئا من ثمره فقد وعد أَن يُسلمهُ إِلَيْهِ ليملكه الْمُسلم إِلَيْهِ بِقَبْضِهِ إِيَّاه، وعَلى الرجل أَن يَفِي بوعده وَإِن كَانَ غير مَأْخُوذ بِهِ فِي الحكم، فَرخص للمعري أَن يحبس مَا أعرى بِأَن يُعْطي المعري خرصة تَمرا بَدَلا مِنْهُ من غير أَن يكون إِثْمًا، وَلَا فِي حكم من أخلف موعدا، فَهَذَا مَوضِع الرُّخْصَة.
فَإِن قلت: كَيفَ سميت الْعرية بيعا؟ قلت: سميت(11/299)
بذلك لتصورها بِصُورَة البيع، لَا أَن يكون بيعا حَقِيقَة. ألاَ تَرى أَنه لم يملكهَا المعري لَهُ لِانْعِدَامِ الْقَبْض، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَت بيعا لكَانَتْ بيع التَّمْر بالثمر إِلَى أجل وَأَنه لَا يجوز بِلَا خلاف، فَدلَّ ذَلِك على أَن الْعرية المرخص فِيهَا لَيست بِبيع حَقِيقَة، بل هِيَ عَطِيَّة كَمَا نَص عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة فِي تَفْسِيره الْعرية، وَنقل ابْن الْمُنْذر عَن بعض الْحَنَفِيَّة غير صَحِيح.
قَوْله: (بالرطب أَو التَّمْر) كلمة: أَو، تحْتَمل أَن تكون للتَّخْيِير، وتحتمل أَن تكون للشَّكّ، وَلَكِن يُؤَيّد كَونهَا للتَّخْيِير مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق صَالح بن كيسَان، وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ: بِلَفْظ: بالرطب وبالتمر، وَلم يرخص فِي غير ذَلِك، هَكَذَا ذكره بِالْوَاو.
5812 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرنا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهىَ عنْ المُزَابَنَةِ والمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءِ والثَّمَرِ بالتَّمْرِ كَيْلاً وبَيْعُ الْكَرْمِ بالزَّبِيبِ كَيْلاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب بيع الزَّبِيب بالزبيب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَهنا: عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن مَالك. قَوْله: (اشْتِرَاء الثَّمر) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (بِالتَّمْرِ) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْمِيم. قَوْله: (وَبيع الْكَرم) ، أَي: الْعِنَب، (وَكيلا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَنْصُوب على التَّمْيِيز.
6812 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مالِكٌ عنْ داوُدَ بنِ الحُصَيْنِ عنْ أبِي سفْيانَ مَوْلَى ابنِ أبِي أحْمَدَ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهىَ عنِ المُزَابَنَةِ والمُحَاقَلَةِ والمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بالتَّمْرِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَدَاوُد بن الْحصين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة: مولى عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَأَبُو سُفْيَان مَشْهُور بكنيته حَتَّى قَالَ الْحَاكِم: لَا يعرف اسْمه. وَقَالَ الكلاباذي: اسْمه قزمان، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الزَّاي، وَكَذَا روى أَبُو دَاوُد عَن شَيْخه القعْنبِي فِي (سنَنه) ، وَابْن أبي أَحْمد هُوَ عبد الله بن أبي أَحْمد بن جحش الْأَسدي، ابْن أخي زَيْنَب بنت جحش أم الْمُؤمنِينَ، وَحكى الْوَاقِدِيّ أَن أَبَا سُفْيَان كَانَ مولى لبني عبد الْأَشْهَل، وَكَانَ يُجَالس عبد الله بن أبي أَحْمد، فنسب إِلَيْهِ.
وَرِجَال هَذَا الحَدِيث كلهم مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ، وَلَيْسَ لداود هَذَا وَلَا لشيخه فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر ابْن أبي السَّرْح عَن ابْن وهب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي (الْأَحْكَام) عَن مُحَمَّد بن يحيى.
قَوْله: (نهى عَن الْمُزَابَنَة والمحاقلة) ، قد مر تفسيرهما عَن قريب، وَفسّر هُنَا الْمُزَابَنَة بقوله: (والمزابنة اشْتِرَاء الثَّمر) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة (بِالتَّمْرِ) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق (فِي رُؤُوس النّخل) ، وَزَاد ابْن مهْدي عَن مَالك عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ لفظ: كَيْلا، وَهُوَ مُوَافق لحَدِيث ابْن عمر الَّذِي قبله، وَقَالَ بَعضهم: ذكر الْكَيْل لَيْسَ بِقَيْد. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الإشتراء بِمَاذَا يكون؟ ومعيار الزَّبِيب وَالتَّمْر هُوَ الْكَيْل. وَوَقع فِي (الْمُوَطَّأ) فِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير المحاقلة بقوله: والمحاقلة كِرَاء الأَرْض، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم.
78712 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عنِ الشَّيْبَانيِّ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ نَهىَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ المُحَاقَلَةِ والمُزَابَنَةِ. مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير وَقد تقدم والشيباني بالشين الْمُعْجَمَة هُوَ سُلَيْمَان أَبُو إِسْحَق وَقد تقدم وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن المحاقلة والمزابنة وَعَن زيد بن ثَابت أخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيق ابْن إِسْحَق عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن المحاقلة(11/300)
والمزابنة وَعَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي عَيَّاش عَنهُ سمع عَنهُ يَقُول نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة
133 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة قَالَ حَدثنَا مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص لصَاحب الْعرية أَن يَبِيعهَا بِخرْصِهَا) مُنَاسبَة ذكر هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ أَنه قد ذكر حَدِيث عبد الله بن عمر عَن زيد بن ثَابت فِي ضمن حَدِيث أخرجه عَن عبد الله بن عمر بِرِوَايَة سَالم عَنهُ وَهنا ذكره بِإِسْنَاد مُسْتَقل عَن ابْن عمر عَن زيد بِرِوَايَة نَافِع عَن مَوْلَاهُ عبد الله والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن أبي النُّعْمَان وَفِي الشّرْب عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن رَافع وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن رمح وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأبي كَامِل الجحدري وَعلي بن حجر وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن هناد بن السّري وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي قدامَة وَفِي الشُّرُوط عَن عِيسَى بن حَمَّاد وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح قَوْله " أرخص لصَاحب الْعرية " بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى عَن قريب قَوْله " أَن يَبِيعهَا بِخرْصِهَا " بِفَتْح الْخَاء مصدر وبكسرها اسْم للشَّيْء المخروص وَمَعْنَاهُ بِقدر مَا فِيهَا إِذا صَار تَمرا وَزَاد الطَّبَرَانِيّ عَن عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَن القعْنبِي شيخ البُخَارِيّ فِيهِ كَيْلا وَمثله للْبُخَارِيّ من رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع وَسَيَأْتِي بعد بَاب وَرَوَاهُ مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك فَقَالَ بِخرْصِهَا من التَّمْر وَنَحْوه للْبُخَارِيّ من رِوَايَة يحيى بن سعيد عَن نَافِع فِي كتاب الشّرْب وَلمُسلم من رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد بِلَفْظ رخص فِي الْعرية يَأْخُذهَا أهل الْبَيْت بِخرْصِهَا تَمرا يأكلونها رطبا وَمن طَرِيق اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد بِلَفْظ رخص فِي بيع الْعرية بِخرْصِهَا تَمرا
(بَاب بيع الثَّمر على رُؤْس النّخل بِالذَّهَب وَالْفِضَّة)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الثَّمر بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْمِيم المفتوحتين قَوْله " على رُؤُوس النّخل " جملَة وَقعت حَالا من الثَّمر وَالْبَاء فِي بِالذَّهَب تتَعَلَّق بِلَفْظ بيع الثَّمر وَذكر الذَّهَب وَالْفِضَّة لَيْسَ بِقَيْد لِأَنَّهُ يجوز بَيْعه بالعروض أَيْضا وَلَكِن لما كَانَ غَالب مَا يتعامل بِهِ النَّاس هُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة فَلذَلِك ذكرهمَا وَأَيْضًا فِيهِ اتِّبَاع لظَاهِر لفظ الحَدِيث لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ الدِّينَار وَالدِّرْهَم وهما الذَّهَب وَالْفِضَّة
134 - (حَدثنَا يحيى بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنَا ابْن وهب قَالَ أخبرنَا ابْن جريج عَن عَطاء وَأبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الثَّمر حَتَّى يطيب وَلَا يُبَاع شَيْء مِنْهُ إِلَّا بالدينار وَالدِّرْهَم إِلَّا الْعَرَايَا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَلَا يُبَاع شَيْء مِنْهُ إِلَّا بالدينار وَالدِّرْهَم " وهما الذَّهَب وَالْفِضَّة (فَإِن قلت) لَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر رُؤْس النّخل (قلت) المُرَاد من قَوْله بيع الثَّمر أَي الثَّمر الْكَائِن على رُؤْس الشّجر يدل عَلَيْهِ قَوْله حَتَّى يطيب فَإِن الثَّمر الَّذِي هُوَ الرطب لَا يطيب إِلَّا على رُؤْس الشّجر وَيحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي وَلكنه سكن مصر سمع عبد الله بن وهب وَهُوَ من أَفْرَاده وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز وَقد تكَرر ذكره وَأَبُو الزبير بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة واسْمه مُحَمَّد بن مُسلم بن تدرس بِلَفْظ مُخَاطب مضارع الدَّرْس والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن إِسْحَق بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن هِشَام بن عمار قَوْله " عَن عَطاء وَأبي الزبير " كَذَا جمع بَينهمَا عبد الله بن وهب وَتَابعه أَبُو عَاصِم عِنْد مُسلم وَيحيى بن أَيُّوب عِنْد الطَّحَاوِيّ كِلَاهُمَا عَن ابْن جريج وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة(11/301)
عِنْد مُسلم عَن ابْن جريج أَخْبرنِي عَطاء قَوْله " عَن جَابر " وَفِي رِوَايَة أبي عَاصِم الْمَذْكُور أَنَّهُمَا سمعا جَابر بن عبد الله قَوْله " عَن بيع الثَّمر " بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي الرطب قَوْله " حَتَّى يطيب " أَي طعمه وَالْغَرَض مِنْهُ أَن يَبْدُو صَلَاحه قَوْله " وَلَا يُبَاع شَيْء مِنْهُ " أَي من الثَّمر قَوْله " إِلَّا بالدينار وَالدِّرْهَم " وَقد ذكرنَا الْآن وَجه ذكرهمَا قَوْله " إِلَّا الْعَرَايَا " أَي إِلَّا الْعَرَايَا بالابتياع بالدينار وَالدِّرْهَم ويفسر هَذَا رِوَايَة يحيى بن أَيُّوب فَإِن فِي رِوَايَته " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِيهَا " أَي فِي الْعَرَايَا وَهِي بيع الرطب فِيهَا بعد أَن يخرص وَيعرف قدره بِقدر ذَلِك من التَّمْر وَقد مر أَن قوما مِنْهُم الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة احْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله على عدم جَوَاز بيع الثِّمَار على رُؤْس النّخل حَتَّى تحمر أَو تصفر وَأَجَازَ ذَلِك قوم بعد ظُهُورهَا وَمِنْهُم أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأَصْحَابه وَقَالَ ابْن الْمُنْذر ادّعى الْكُوفِيُّونَ أَن بيع الْعَرَايَا مَنْسُوخ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ وَهَذَا مَرْدُود لِأَن الَّذِي روى النَّهْي عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ هُوَ الَّذِي روى الرُّخْصَة فِي الْعَرَايَا وَقَالَ بَعضهم وَرِوَايَة سَالم الْمَاضِيَة فِي الْبَاب الَّذِي قبله تدل على أَن الرُّخْصَة فِي بيع الْعَرَايَا وَقع بعد النَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر وَلَفظه عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ قَالَ وَعَن زيد بن ثَابت أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص بعد ذَلِك فِي بيع الْعرية وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لفظ الرُّخْصَة فَإِنَّهَا تكون بعد منع انْتهى قلت أما قَول ابْن الْمُنْذر فَإِنَّهُ مَرْدُود لِأَن رِوَايَة من روى النَّهْي عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ وروى الرُّخْصَة فِي الْعَرَايَا لَا يسْتَلْزم منع النّسخ على أَنا قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن هَذَا النَّقْل عَن الْكُوفِيّين الْحَنَفِيَّة غير صَحِيح وَأما قَول هَذَا الْقَائِل الَّذِي قَالَ وَرِوَايَة مُسلم إِلَى آخِره فقد روينَاهُ فِيمَا مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَلِأَن هَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على حكمين مقرونين أَحدهمَا النَّهْي عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ وَالْآخر الترخيص فِي الْعَرَايَا وَلَا يلْزم من ذكرهمَا مقرونين أَن يكون حكمهمَا وَاحِدًا ثمَّ خرج أَحدهمَا عَن الآخر لِأَن كلا مِنْهُمَا كَلَام مُسْتَقل بِذَاتِهِ وَقد يقرن الشَّيْء بالشَّيْء وحكمهما مُخْتَلف ونظائر هَذَا كَثِيرَة وَقد ذكر أهل التَّحْقِيق من الْأُصُولِيِّينَ أَن من الْعَمَل بالوجوه الْفَاسِدَة مَا قَالَ بَعضهم أَن الْقرَان فِي النّظم يُوجب الْقرَان فِي الحكم وَقَول زيد بن ثَابت أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي بيع الْعرية كَلَام تَامّ لَا يفْتَقر إِلَى مَا يتم بِهِ. فَإِن قلت الِاسْتِثْنَاء فِي الحَدِيث يَقْتَضِي أَن الْعَرَايَا قد خرجت من صدر الْكَلَام فَيَقْتَضِي أَن تكون الرُّخْصَة بعد الْمَنْع قلت الِاسْتِثْنَاء من قَوْله وَلَا يُبَاع شَيْء مِنْهُ إِلَّا بالدينار وَالدِّرْهَم وَلم تكن الْعرية دَاخِلَة فِي صدر الْكَلَام الَّذِي هُوَ النَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر لِأَنَّهَا عَطِيَّة وَهبة فَلَا تدخل تَحت البيع حَتَّى يسْتَثْنى مِنْهُ وَلما لم يكن بيعا بَين بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنه لَا يَجْعَل فِيهَا الدِّينَار وَالدِّرْهَم كَمَا فِي البيع وَالدَّلِيل على كَونهَا هبة مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فَقَالَ حَدثنَا أَحْمد بن دَاوُد قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن عون قَالَ حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب وَعبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى البايع والمبتاع عَن الْمُزَابَنَة قَالَ وَقَالَ زيد بن ثَابت رخص فِي الْعَرَايَا فِي النَّخْلَة والنخلتين توهبان للرجل فيبيعهما بخرصهما تَمرا وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي الْكَبِير ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ فَهَذَا زيد بن ثَابت وَهُوَ أحد من روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرُّخْصَة فِي الْعرية فقد أخبر أَنَّهَا الْهِبَة وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَقد روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ " خففوا فِي الصَّدقَات فَإِن فِي المَال الْعرية وَالْوَصِيَّة " حَدثنَا بذلك أَبُو بكرَة قَالَ حَدثنَا أَبُو عمر الضَّرِير قَالَ أخبرنَا جرير بن خازم قَالَ سَمِعت قيس بن سعد يحدث عَن مَكْحُول الشَّامي عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك فَدلَّ على أَن الْعرية إِنَّمَا هِيَ شَيْء يملكهُ أَرْبَاب الْأَمْوَال قوما فِي حياتهم كَمَا يملكُونَ الْوَصَايَا بعد مماتهم قلت إِسْنَاده صَحِيح وَهُوَ مُرْسل والمرسل حجَّة عندنَا فَإِن قلت زيد بن ثَابت سمى الْعرية بيعا حَيْثُ قَالَ وَرخّص بعد ذَلِك فِي بيع الْعرية قلت سَمَّاهَا بيعا لتصورها بِصُورَة البيع لَا أَنَّهَا بيع حَقِيقَة لِانْعِدَامِ الْقَبْض وَلِأَنَّهَا لَو جعلت بيعا حَقِيقَة لَكَانَ بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ إِلَى أجل وَأَنه لَا يجوز بِلَا خلاف وَقد ذكرنَا هَذَا مرّة فِيمَا مضى
135 - (حَدثنَا عبد الله بن عبد الْوَهَّاب قَالَ سَمِعت مَالِكًا وَسَأَلَهُ عبيد الله بن الرّبيع قَالَ أحَدثك دَاوُد عَن أبي سُفْيَان عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي بيع الْعَرَايَا فِي خَمْسَة أوسق أَو دون خَمْسَة أوسق قَالَ نعم)(11/302)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الحَدِيث السَّابِق فِيهِ ذكر الْعَرَايَا وَهَذَا الحَدِيث فِي الْعَرَايَا فَهُوَ مُطَابق لَهُ من هَذِه الْحَيْثِيَّة والمطابق للمطابق مُطَابق لذَلِك المطابق والْحَدِيث السَّابِق فِيهِ ذكر الْعَرَايَا مُطلقًا وَهَذَا الحَدِيث يشْعر أَن المُرَاد من ذَلِك الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِخَمْسَة أوسق كَمَا يَجِيء بَيَانه مفصلا إِن شَاءَ الله تَعَالَى (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي الثَّانِي مَالك بن أنس الثَّالِث عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن الرّبيع وَكَانَ الرّبيع حَاجِب للخليفة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَهُوَ وَالِد الْفضل وَزِير الْخَلِيفَة هرون الرشيد الرَّابِع دَاوُد بن الْحصين بِضَم الْحَاء وَقد مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله الْخَامِس أَبُو سُفْيَان مولى ابْن أبي أَحْمد وَقد مضى هُوَ أَيْضا مَعَ دَاوُد هُنَاكَ السَّادِس أَبُو هُرَيْرَة (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد بِصِيغَة الِاسْتِفْهَام فِي مَوضِع وَفِيه السماع وَالسُّؤَال وَهُوَ إِطْلَاق السماع على مَا قرىء على الشَّيْخ فَأقر بِهِ بقوله نعم والاصطلاح عِنْد الْمُحدثين على أَن السماع مَخْصُوص بِمَا حدث بِهِ الشَّيْخ لفظا وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ بَصرِي وَدَاوُد وَأَبُو سُفْيَان مدنيان وَقد ذكرنَا أَنه لَيْسَ لداود وَلَا لأبي سُفْيَان حَدِيث فِي البُخَارِيّ سوى حديثين أَحدهمَا هَذَا وَالْآخر عَن أبي سعيد الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط عَن يحيى بن قزعة عَن مَالك بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن القعْنبِي وَيحيى بن يحيى كِلَاهُمَا عَن مَالك بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي كريب عَن زيد بن وهب كِلَاهُمَا عَن مَالك وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الشُّرُوط عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " رخص " بِالتَّشْدِيدِ من الترخيص كَذَا هُوَ عِنْد الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني أرخص من الأرخاص قَوْله " فِي بيع الْعَرَايَا " أَي فِي بيع ثَمَر الْعَرَايَا لِأَن الْعَرَايَا هِيَ النّخل قَوْله " فِي خَمْسَة أوسق " وَهُوَ وسق بِفَتْح الْوَاو وَقيل بِالْكَسْرِ أَيْضا وَالْفَتْح أفْصح وَهُوَ سِتُّونَ صَاعا وَهُوَ ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رطلا عِنْد أهل الْحجاز وَأَرْبَعمِائَة وَثَمَانُونَ رطلا عِنْد أهل الْعرَاق على اخْتلَافهمْ فِي مِقْدَار الصَّاع وَالْمدّ وَالْأَصْل فِي الوسق الْحمل وكل شَيْء وسقته فقد حَملته قَوْله " أَو دون خَمْسَة أوسق " شكّ من الرَّاوِي وَقد بَينه مُسلم فِي رِوَايَته أَن الشَّك من دَاوُد بن الْحصين وَلَفظه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي بيع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق أَو فِي خَمْسَة شكّ دَاوُد قَالَ خَمْسَة أَو دون خَمْسَة والْحَدِيث رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا حَدثنَا ابْن مَرْزُوق قَالَ حَدثنَا القعْنبِي وَعُثْمَان بن عمر قَالَا حَدثنَا مَالك بن أنس عَن دَاوُد بن الْحصين عَن أبي سُفْيَان مولى ابْن أبي أَحْمد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي بيع الْعَرَايَا فِي خَمْسَة أوسق أَو فِيمَا دون خَمْسَة أوسق شكّ دَاوُد فِي خَمْسَة أَو فِيمَا دون خَمْسَة قَوْله " قَالَ نعم " الْقَائِل هُوَ مَالك وَهَذَا التَّحَمُّل يُسمى عرض السماع وَكَانَ مَالك يختاره على التحديث فِي لَفظه وَاخْتلف المحدثون فِيمَا إِذا سكت الشَّيْخ فَالصَّحِيح أَنه ينزل منزلَة الْإِقْرَار إِذا كَانَ عَارِفًا وَلم يمنعهُ مَانع وَالْأولَى أَن يَقُول نعم لما فِيهِ من قطع النزاع (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) قَالَ ابْن قدامَة فِي الْمُغنِي الْعَرَايَا لَا تجوز إِلَّا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الآخر تجوز فِي الْخَمْسَة وَرَوَاهُ الْجوزجَاني عَن إِسْمَاعِيل بن سعيد عَن أَحْمد واتفقا على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الزِّيَادَة على خَمْسَة أوسق وَقَالَ أَيْضا إِنَّمَا يجوز بيعهَا بِخرْصِهَا من التَّمْر لَا أقل مِنْهُ وَلَا أَكثر وَيجب أَن يكون التَّمْر الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ مَعْلُوما بِالْكَيْلِ وَلَا يجوز جزَافا وَلَا نعلم فِي هَذَا عِنْد من أَبَاحَ بيع الْعَرَايَا اخْتِلَافا وَاخْتلف فِي معنى خرصها من التَّمْر فَقيل مَعْنَاهُ أَن يطِيف الخارص بالعرية فَينْظر كم يَجِيء مِنْهَا تَمرا فيشتريها بِمثلِهِ من التَّمْر وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَنقل حَنْبَل عَن أَحْمد أَنه قَالَ بِخرْصِهَا رطبا وَيُعْطِي تَمرا وَلَا يجوز أَن يَشْتَرِيهَا بِخرْصِهَا رطبا وَهُوَ أحد(11/303)
الْوُجُوه لأَصْحَاب الشَّافِعِي وَالثَّانِي يجوز وَالثَّالِث يجوز مَعَ اخْتِلَاف النَّوْع وَلَا يجوز مَعَ اتفاقه وَلَا يجوز بيعهَا إِلَّا لمحتاج إِلَى أكلهَا رطبا وَلَا يجوز بيعهَا لَغَنِيّ وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي وأباحها فِي القَوْل الآخر مُطلقًا للغني والمحتاج وَلَا يجوز بيعهَا فِي غير النّخل وَهُوَ مَذْهَب اللَّيْث وَقَالَ القَاضِي يجوز فِي بَقِيَّة الثِّمَار من الْعِنَب والتين وَغَيرهمَا وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَجَازَهُ الشَّافِعِي فِي النّخل وَالْعِنَب دون غَيرهمَا انْتهى وَقَالَ القَاضِي قَوْله فِيمَا دون خَمْسَة أوسق أَو فِي خَمْسَة أوسق مَا يدل أَنه يخْتَص بِمَا يوسق ويكال وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ الشَّافِعِي الأَصْل تَحْرِيم بيع الْمُزَابَنَة وَجَاءَت الْعَرَايَا رخصَة والراوي شكّ فِي الْخَمْسَة فَوَجَبَ الْأَخْذ بِالْيَقِينِ وَطرح الْمَشْكُوك فَبَقيت الْخَمْسَة على التَّحْرِيم الَّذِي هُوَ الأَصْل انْتهى (قلت) يرد عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَحْمد والطَّحَاوِي وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْحَق عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان عَن الْوَاسِع بن حبَان عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي الْعرية فِي الوسق والوسقين وَالثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة وَقَالَ فِي كل عشرَة أقناء قنو يوضع فِي الْمَسْجِد للْمَسَاكِين هَذَا لفظ الطَّحَاوِيّ والأقناء جمع قنو بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون النُّون وَهُوَ العذق بِمَا فِيهِ من الرطب وَقَالَ الْمَازرِيّ ذهب ابْن الْمُنْذر إِلَى تَحْدِيد ذَلِك بأَرْبعَة أوسق لوروده فِي حَدِيث جَابر من غير شكّ فِيهِ فَتعين طرح الرِّوَايَة الَّتِي وَقع فِيهَا الشَّك وَالْأَخْذ بالرواية المتيقنة قَالَ وألزم الْمُزنِيّ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ القَوْل بِهِ انْتهى (قلت) الْإِلْزَام مَوْجُود فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد والطَّحَاوِي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَيْضا وَقَالَ بَعضهم وَفِيمَا نَقله الْمَازرِيّ نظر لِأَن مَا نَقله لَيْسَ فِي شَيْء من كتب ابْن الْمُنْذر انْتهى (قلت) هَذِه مدافعة بِغَيْر وَجه لِأَنَّهُ لَا يلْزم من نفي كَون هَذَا فِي كتبه بِدَعْوَاهُ أَن يرد مَا نَقله الْمَازرِيّ لِإِمْكَان اطِّلَاعه فِيمَا لم يطلع عَلَيْهِ هَذَا الْقَائِل وَاحْتج بعض الْمَالِكِيَّة بِأَن لَفْظَة دون خَمْسَة أوسق صَالِحَة لجَمِيع مَا تَحت الْخَمْسَة فَلَو علمنَا بهَا للَزِمَ رفع هَذِه الرُّخْصَة ورد بِأَن الْعَمَل بهَا مُمكن بِأَن يحمل على أقل مَا تصدق عَلَيْهِ قيل وَهُوَ الْمُفْتى بِهِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِيَّة
136 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ قَالَ يحيى بن سعيد سَمِعت بشيرا قَالَ سَمِعت سهل بن أبي حثْمَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ وَرخّص فِي الْعرية أَن تبَاع بِخرْصِهَا يأكلها أَهلهَا رطبا وَقَالَ سُفْيَان مرّة أُخْرَى إِلَّا أَنه رخص فِي الْعرية يَبِيعهَا أَهلهَا بِخرْصِهَا يأكلونها رطبا قَالَ هُوَ سَوَاء قَالَ سُفْيَان فَقلت ليحيى وَأَنا غُلَام إِن أهل مَكَّة يَقُولُونَ إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص لَهُم فِي بيع الْعَرَايَا فَقَالَ وَمَا يدْرِي أهل مَكَّة قلت إِنَّهُم يَرْوُونَهُ عَن جَابر فَسكت قَالَ سُفْيَان إِنَّمَا أردْت أَن جَابِرا من أهل الْمَدِينَة قيل لِسُفْيَان وَلَيْسَ فِيهِ نهي عَن بيع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه قَالَ لَا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله نهى عَن بيع الثَّمر بالثاء الْمُثَلَّثَة بِالتَّمْرِ وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَبشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء ابْن يسَار بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة ضد الْيَمين الْأنْصَارِيّ الْمَدِينِيّ وَقد مر فِي كتاب الْوضُوء فِي بَاب من تمضمض من السويق وَسَهل بن أبي حثْمَة بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ سهل بن أبي حثْمَة واسْمه عَامر بن سَاعِدَة الْأنْصَارِيّ وكنيته أَبُو يحيى وَقيل أَبُو مُحَمَّد والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشّرْب عَن زَكَرِيَّا عَن أبي أُسَامَة عَن الْوَلِيد بن كثير عَن بشير بن يسَار عَن رَافع وَسَهل بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَالْحسن بن عَليّ والقعنبي وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح وَمُحَمّد بن الْمثنى وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن الْحُسَيْن بن عِيسَى وَفِيه وَفِي الشُّرُوط عَن عبد الله بن مُحَمَّد قَوْله " قَالَ قَالَ يحيى " وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب مَا يدل على أَن سُفْيَان صرح بتحديث يحيى بن سعيد لَهُ بِهِ(11/304)
قَوْله " سَمِعت سهل بن أبي حثْمَة " وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث الْوَلِيد بن كثير عَن بشير بن يسَار بن رَافع بن خديج وَسَهل بن حثْمَة حدّثنَاهُ وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد عَن بشير بن يسَار عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سهل بن أبي حثْمَة قَوْله " أَن تبَاع " بدل من الْعَارِية قَوْله " بِخرْصِهَا " قد ذكرنَا عَن قريب أَنه بِفَتْح الْخَاء وَكسرهَا وَأنكر ابْن الْعَرَبِيّ الْفَتْح وجوزهما النَّوَوِيّ قَالَ وَمَعْنَاهُ بِقدر مَا فِيهَا إِذا صَار تَمرا والخرص هُوَ التخمين والحدس قَوْله " رطبا " بِضَم الرَّاء وَقَالَ الْكرْمَانِي وروى بِفَتْحِهَا فَهُوَ متناول للعنب وَقَالَ أهل النَّخْلَة هم البائعون لَا المُشْتَرِي والآكل هُوَ المُشْتَرِي لَا البَائِع ثمَّ قَالَ قلت الضَّمِير فِي يأكلها أَهلهَا رَاجع إِلَى الثِّمَار الَّتِي يدل عَلَيْهَا الْخرص وَأهل الثِّمَار هم المشترون وَذكر الْأكل لَيْسَ بِقَيْد بل هُوَ لبَيَان الْوَاقِع وَعَن أبي عبيد أَنه شَرطه قَوْله " هُوَ سَوَاء " أَي هَذَا القَوْل الأول سَوَاء بِلَا تفَاوت بَينهمَا إِذْ الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي يأكلها عَائِد إِلَى الثِّمَار كَمَا فِي الأول وَالْمَرْفُوع إِلَى أهل المخروص فحاصلها وَاحِد وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِسَوَاء الْمُسَاوَاة بَين الثَّمر وَالرّطب على تَقْدِير الْجَفَاف قَوْله " قَالَ سُفْيَان مرّة أُخْرَى " إِلَى آخِره هُوَ من كَلَام عَليّ بن عبد الله وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَالْغَرَض أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة حَدثهمْ بِهِ مرَّتَيْنِ على لفظين وَالْمعْنَى وَاحِد قيل أَشَارَ بقوله هُوَ سَوَاء إِلَيْهِ أَي الْمَعْنى وَاحِد قَوْله " قَالَ سُفْيَان ليحيى " أَي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قلت ليحيى هُوَ ابْن سعيد الْمَذْكُور لما حَدثهُ بِهِ قَوْله " وَأَنا غُلَام " جملَة اسمية وَقعت حَالا وَفِيه أَشَارَ سُفْيَان إِلَى قدم طلبه وَأَنه كَانَ فِي سنّ الصبى يناظر شُيُوخه ويباحثهم قَوْله " وَمَا يدْرِي أهل مَكَّة " بِضَم الْيَاء وَأهل مَكَّة كَلَام إضافي مَنْصُوب بِهِ قَوْله " أَنهم " أَي أهل مَكَّة يروون هَذَا الحَدِيث عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " قَالَ سُفْيَان " أَي قَالَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قَوْله " إِنَّمَا أردْت " أَي إِنَّمَا كَانَ الْحَامِل لي على قولي ليحيى بن سعيد أَنهم يروون عَن جَابر أَن جَابِرا من أهل الْمَدِينَة فَرجع الحَدِيث إِلَى أهل الْمَدِينَة قَوْله " قيل لِسُفْيَان " بِلَفْظ قيل هُوَ عَليّ بن عبد الله الْمَذْكُور فِي أول الحَدِيث وَلَكِن لم يعرف الْقَائِل من هُوَ قَوْله " وَلَيْسَ فِيهِ " أَي فِي هَذَا الحَدِيث قَوْله " قَالَ لَا " أَي لَيْسَ فِيهِ نهي عَن بيع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه وَإِن كَانَ هُوَ صَحِيحا من رِوَايَة غَيره
(بَاب تَفْسِير الْعَرَايَا)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير الْعَرَايَا وَهُوَ جمع عَارِية وَقد استقصينا الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِي بَاب بيع الزَّبِيب بالزبيب (وَقَالَ مَالك الْعرية أَن يعري الرجل الرجل النَّخْلَة ثمَّ يتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَرخص لَهُ أَن يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِتَمْر) مَالك هُوَ ابْن أنس صَاحب الْمَذْهَب قَوْله " أَن يعرى " بِضَم الْيَاء من الإعراء وَهُوَ الْإِعْطَاء يُقَال عروت الرجل إِذا أَتَيْته تسأله معروفه " فأعراه " أَي أعطَاهُ فالرجل الأول مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل وَالرجل الثَّانِي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول وَقَوله " النَّخْلَة " مَنْصُوب أَيْضا على المفعولية قَوْله " بِتَمْر " بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن عبد الْبر من طَرِيق ابْن وهب عَن مَالك وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق ابْن نَافِع عَن مَالك أَن الْعرية النَّخْلَة للرجل فِي حَائِط غَيره وَكَانَت الْعَادة أَنهم يخرجُون بأهلهم فِي وَقت الثِّمَار إِلَى الْبَسَاتِين فَيكْرَه صَاحب النّخل الْكثير دُخُول الآخر عَلَيْهِ فَيَقُول أَنا أُعْطِيك بخرص نخلتك تَمرا فَرخص لَهُ فِي ذَلِك (وَقَالَ ابْن إِدْرِيس الْعرية لَا تكون إِلَّا بِالْكَيْلِ من التَّمْر يدا بيد لَا يكون بالجزاف وَمِمَّا يقويه قَول سهل ابْن أبي حثْمَة بالأوسق الموسقة) ابْن إِدْرِيس هَذَا هُوَ عبد الله الأودي الْكُوفِي كَذَا قَالَه ابْن التِّين وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ وَتردد ابْن بطال فِيهِ وَجزم الْمزي فِي(11/305)
التَّهْذِيب بِأَنَّهُ الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ هَذَا الْكَلَام كُله قَول مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأَن لَهُ هَذَا الْموضع فِي صَحِيح مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَمَوْضِع آخر فِي كتاب الزَّكَاة وَكَلَام ابْن بطال يدل على أَن قَوْله وَمِمَّا يقويه إِلَى آخِره من كَلَام البُخَارِيّ لَا من كَلَام ابْن إِدْرِيس وَقَالَ ابْن بطال هَذَا إِجْمَاع فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْوِيَة وَلم يَأْتِ ذكر الأوساق الموسقة إِلَّا فِي حَدِيث مَالك عَن دَاوُد بن الْحصين وَفِي حَدِيث جَابر من رِوَايَة ابْن إِسْحَق لَا فِي رِوَايَة ابْن أبي حثْمَة وَإِنَّمَا يرْوى عَن سهل من قَوْله من رِوَايَة اللَّيْث عَن جَعْفَر بن أبي ربيعَة عَن الْأَعْرَج قَالَ سَمِعت سهل بن أبي حثْمَة قَالَ لَا يُبَاع التَّمْر فِي رُؤْس النّخل بالأوسق الموسقة إِلَّا أوسق ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة أَو خَمْسَة فيأكلها النَّاس وَهِي الْمُزَابَنَة قَوْله " لَا يكون إِلَّا بِالْكَيْلِ " أَي لَا بُد أَن يكون مَعْلُوم الْقدر إِذْ لَا بُد من الْعلم بالمساواة قَوْله " يدا بيد " أَي لَا بُد من التَّقَابُض فِي الْمجْلس قَوْله " بالجزاف " بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَكسرهَا وَهُوَ مُعرب كزاف قَوْله " وَمِمَّا يقويه " أَي وَمِمَّا يُقَوي كَلَام ابْن إِدْرِيس بِأَنَّهُ لَا يكون جزَافا قَول سهل بن أبي حثْمَة يَعْنِي فِي كَونه مَكِيلًا مَعْلُوم الْمِقْدَار قَوْله " بالأوسق " جمع وسق جمع قلَّة وَقَوله " الموسقة " تَأْكِيد كَقَوْلِه تَعَالَى {والقناطير المقنطرة} وكقول النَّاس آلَاف مؤلفة (وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَت الْعَرَايَا أَن يعري الرجل الرجل فِي مَاله النَّخْلَة والنخلتين) أَي قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار صَاحب الْمَغَازِي وَحَدِيثه عَن نَافِع وَصله التِّرْمِذِيّ قَالَ حَدثنَا هناد حَدثنَا عَبدة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن المحاقلة والمزابنة إِلَّا أَنه قد أذن لأهل الْعَرَايَا أَن يبيعوها بِمثل خرصها انْتهى وَأما تَفْسِيره فوصله أَبُو دَاوُد عَنهُ قَالَ حَدثنَا هناد حَدثنَا عَبدة عَن ابْن إِسْحَق قَالَ الْعَرَايَا أَن يهب الرجل للرجل النخلات فَيشق عَلَيْهِ أَن يقوم عَلَيْهَا فيبيعها بِمثل خرصها (وَقَالَ يزِيد عَن سُفْيَان بن حُسَيْن الْعَرَايَا نخل كَانَت توهب للْمَسَاكِين فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَن ينتظروا بهَا رخص لَهُم أَن يبيعوها بِمَا شاؤا من التَّمْر) يزِيد من الزِّيَادَة هُوَ ابْن هرون الوَاسِطِيّ أحد الْأَعْلَام وسُفْيَان بن حُسَيْن الوَاسِطِيّ من أَتبَاع التَّابِعين قَوْله " أَن ينتظروا بهَا " أَي جذاذها وَالْجُمْهُور على أَنه بعكس هَذَا قَالُوا كَانَ سَبَب الرُّخْصَة أَن الْمَسَاكِين الَّذين مَا كَانَ لَهُم نخلات وَلَا نقود يشْتَرونَ بهَا الرطب وَقد فضل من قوتهم التَّمْر كَانُوا وعيالهم يشتهون الرطب فَرخص لَهُم فِي شِرَاء الرطب بِالتَّمْرِ وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الإِمَام أَحْمد فِي حَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت مَرْفُوعا فِي الْعَرَايَا قَالَ سُفْيَان بن حُسَيْن فَذكره وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه قيد الْعرية بالمساكين محتجا بِحَدِيث سُفْيَان بن حُسَيْن هَذَا وَهُوَ اخْتِيَار الْمُزنِيّ وَأنْكرهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد نَقله عَن الشَّافِعِي قيل لَعَلَّ مُسْتَند الشَّافِعِي مَا ذكره فِي اخْتِلَاف الحَدِيث عَن مَحْمُود بن لبيد قَالَ قلت لزيد بن ثَابت مَا عراياكم هَذِه قَالَ فلَان وَأَصْحَابه شكوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الرطب يحضر وَلَيْسَ عِنْدهم ذهب وَلَا فضَّة يشْتَرونَ بهَا مِنْهُ وَعِنْدهم فضل تمر من قوت سنتهمْ فَرخص لَهُم أَن يشتروا الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر يأكلونها رطبا
137 - (حَدثنَا مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ أخبرنَا مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي الْعَرَايَا أَن تبَاع بِخرْصِهَا كَيْلا)(11/306)
مُحَمَّد وَقع كَذَا غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي المجاور بِمَكَّة وَهُوَ من أَفْرَاده وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي ومُوسَى بن عقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف ابْن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب بيع الزَّبِيب بالزبيب قَوْله " كَيْلا " نصب على التَّمْيِيز أَي من حَيْثُ الْكَيْل (قَالَ مُوسَى بن عقبَة والعرايا نخلات مَعْلُومَات تأتيها فتشتريها) هَذَا تَفْسِيره للعرايا قَالَ الْكرْمَانِي كَيفَ صَحَّ كَلَامه تَفْسِيرا للعرايا وَهُوَ صَادِق على كل مَا يُبَاع فِي الدُّنْيَا من النخلات بِأَيّ غَرَض كَانَ قلت غَرَضه بَيَان أَنَّهَا مُشْتَقَّة من عروت إِذا أتيت وترددت إِلَيْهِ لَا من العرى بِمَعْنى التجرد انْتهى قلت وَتَبعهُ بَعضهم بل أَخذ مِنْهُ بقوله لَعَلَّه أَرَادَ أَن يبين أَنَّهَا مُشْتَقَّة من عروت إِلَى آخِره نَحْو مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت هَذَا تَوْجِيه بعيد جدا فَأَي شَيْء من كَلَامه هَذَا يُوضح أَن غَرَضه بَيَان الِاشْتِقَاق وَيُمكن أَن يُقَال أَنه اخْتَصَرَهُ للْعلم بِهِ (كمل الْجُزْء الْحَادِي عشر من عُمْدَة الْقَارِي شرح صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ قدس الله سره وَهُوَ أول العقد الثَّانِي ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الثَّانِي عشر ومطلعه (بَاب بيع الثِّمَار) نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ التَّوْفِيق لإتمامه على هَذَا الْوَجْه الْحسن وَمَا ذَلِك على الله بعزيز)(11/307)
58 - (بابُ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أنْ يبْدُو صَلاَحُهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الثِّمَار، بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة، حمع ثَمَرَة بِفَتْح الْمِيم: وَهُوَ يتَنَاوَل الرطب وَغَيره. قَوْله: (قبل أَن يَبْدُو) ، بِنصب الْوَاو أَي: قبل أَن يظْهر، وَلَا يهمز كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَإِنَّمَا لم يجْزم بِحكم الْمَسْأَلَة بِالنَّفْيِ أَو بالإثبات لقُوَّة الْخلاف فِيهَا بَين الْعلمَاء، فَقَالَ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري: لَا يجوز بيع الثَّمَرَة قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا مُطلقًا، وَمن نقل فِيهِ الْإِجْمَاع فقدوهم، وَقَالَ يزِيد بن أبي حبيب: يجوز مُطلقًا، وَلَو شَرط التبقية. وَمن نقل فِيهِ الْإِجْمَاع أَيْضا فقد وهم. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك فِي رِوَايَة: إِن شَرط الْقطع لم يبطل وإلاَّ بَطل. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: يَصح إِن لم يشْتَرط التبقية، وَالنَّهْي مَحْمُول على بيع الثِّمَار قبل أَن يُوجد أصلا. وَقيل: هُوَ على ظَاهره، لَكِن النَّهْي فِيهِ للتنزيه، وَقد ذكرنَا مَذْهَب أَصْحَابنَا وَمذهب مخالفيهم فِي: بَاب بيع الْمُزَابَنَة، بدلائلهم.
3912 - وَقَالَ اللَّيْثُ عنْ أبِي الزِّنادِ كانَ عُرْوَة بنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عنْ سَهْلِ بنِ أبِي حَثْمَةَ الأنْصَارِيِّ منْ بَنِي حارِثَةَ أنَّهُ حَدَّثَهُ عنْ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النَّاسُ فِي عَهْد رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَبَايَعُونَ الثِّمارَ فإذَا جَذَّ النَّاس وحَضَرَ تَقاضيهِمْ قَالَ المُبْتَاعُ إنَّهُ أصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَّانُ أصَابَهُ مُرَاضٌ أصَابَهُ قُشَامٌ عاهَات يَحْتَجُّونَ بِها فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ فِي ذالِكَ فإمَّا لاَ فَلاَ تَتَبايَعُوا حَتَّى يَبْدُو صلاَحُ الثَّمَرِ كالمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ قَالَ وأخْبرنِي خارِجَةُ ابنُ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ زيْدَ بنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمارَ أرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثرَيَّا فيَتَبَيَّنَ الأصْفَرُ مِنَ الأحْمَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر) ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت غير مَوْصُول.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا عَنْبَسَة بن خَالِد، قَالَ: حَدثنِي يُونُس، قَالَ: سَأَلت أَبَا الزِّنَاد عَن بيع الثَّمر قبل أَن يَبْدُو صَلَاحه، وَمَا ذكر فِي ذَلِك، فَقَالَ: كَانَ عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن سهل بن أبي حثْمَة عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: كَانَ النَّاس يتبايعون الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا، فَإِذا جذ النَّاس وَحضر تقاضيهم قَالَ الْمُبْتَاع: قد أصَاب الثَّمر الدمَان وأصابه قشام وأصابه مراض، عاهات يحتجون بهَا، فَلَمَّا كثرت خصومتهم عِنْد(12/2)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كالمشورة يُشِير بهَا: فَأَما لَا، فَلَا تتبايعوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه، لِكَثْرَة خصومتهم وَاخْتِلَافهمْ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي (سنَنه) مَوْصُولا. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي معرض الْجَواب عَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، الَّتِي احتجت بهَا الشَّافِعِيَّة والمالكية والحنابلة، حَيْثُ قَالُوا: لَا يجوز بيع الثِّمَار فِي رُؤُوس النّخل حَتَّى تحمر أَو تصفر. فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد قَالَ قوم: إِن النَّهْي الَّذِي كَانَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا لم يكن مِنْهُ تَحْرِيم ذَلِك، وَلكنه على المشورة مِنْهُ عَلَيْهِم، لِكَثْرَة مَا كَانُوا يختصمون إِلَيْهِ فِيهِ. وَرووا فِي ذَلِك عَن زيد بن ثَابت حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، قَالَ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة وهب الله عَن يُونُس بن زيد، قَالَ: قَالَ أَبُو الزِّنَاد: كَانَ عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن سهل بن أبي حثْمَة الْأنْصَارِيّ أَنه أخبرهُ أَن زيد بن ثَابت كَانَ يَقُول: كَانَ النَّاس فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتبايعون الثِّمَار، فَإِذا جذ النَّاس وَحضر تقاضيهم، قَالَ الْمُبْتَاع: إِنَّه أصَاب الثَّمر العفن والدمان، وأصابه مراق، قَالَ أَبُو جَعْفَر: الصَّوَاب هُوَ مراق، وأصابه قشام، عاهات يحتجون بهَا، والقشام: شَيْء يُصِيبهُ حَتَّى لَا يرطب. قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما كثرت عِنْده الْخُصُومَة فِي ذَلِك: فَلَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر، كالمشورة يُشِير بهَا لِكَثْرَة خصومتهم، فَدلَّ مَا ذكرنَا أَن أول مَا روينَا فِي أول هَذَا الْبَاب عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الثِّمَار حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا إِنَّمَا كَانَ على هَذَا الْمَعْنى لَا على مَا سواهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من بني حَارِثَة) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد رِوَايَة تَابِعِيّ عَن مثله عَن صَحَابِيّ عَن مثله، وَالْأَرْبَعَة مدنيون. قَوْله: (فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي زَمَنه وأيامه. قَوْله: (فَإِذا جذ النَّاس) ، بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة أَي: فَإِذا قطعُوا ثَمَر النّخل، وَمِنْه الْجذاذ، وَهُوَ الْمُبَالغَة فِي الْأَمر، كَذَا فِي الرِّوَايَة: جذ، على صِيغَة الثلاثي وَفِي رِوَايَة ابْن ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: أجذ، بِزِيَادَة ألف على صِيغَة الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ. وَمثله، قَالَ النَّسَفِيّ: وَقَالَ ابْن التِّين أَكثر الرِّوَايَات: أجذ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ دخلُوا فِي زمن الْجذاذ، مثل أظلم دخل فِي الظلام، وَفِي (الْمُحكم) : جذ النّخل يجذه جذا وجذاذا وجذاذا: صرمه. قَوْله: (تقاضيهم) ، بالضاد الْمُعْجَمَة، يُقَال: تقاضيت ديني وبديني واستقضيته: طلبت قَضَاهُ. قَوْله: (قَالَ الْمُبْتَاع) ، أَي: المُشْتَرِي، وَهُوَ من الصِّيَغ الَّتِي يشْتَرك فِيهَا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفرق بِالْقَرِينَةِ. قَوْله: (الدمَان) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم ضَبطه أَبُو عبيد، وَضبط الْخطابِيّ بِضَم أَوله، وَقَالَ عِيَاض: هما صَحِيحَانِ، وَالضَّم رِوَايَة الْقَابِسِيّ وَالْفَتْح رِوَايَة السَّرخسِيّ، قَالَ: وَرَوَاهَا بَعضهم بِالْكَسْرِ، وَذكره أَبُو عبيد عَن ابْن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: الإدمان، زَاد فِي أَوله الْألف، وَفتحهَا وَفتح الدَّال، وَفَسرهُ أَبُو عبيد بِأَنَّهُ فَسَاد الطّلع وتعفنه وسواده، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الدمال، بِاللَّامِ العفن. وَقَالَ الْقَزاز: الدمَان فَسَاد النّخل قبل إِدْرَاكه، وَإِنَّمَا يَقع ذَلِك فِي الطّلع يخرج قلب النَّخْلَة أسود معفونا، وَوَقع فِي رِوَايَة يُونُس: الدمار، بالراء بدل النُّون وَهُوَ تَصْحِيف، قَالَه عِيَاض، وَوَجهه غَيره بِأَنَّهُ أَرَادَ الْهَلَاك، كَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِفَتْح أَوله. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَعند أبي دَاوُد فِي رِوَايَة ابْن داسة: الدمار، بالراء كَأَنَّهُ ذهب إِلَى الْفساد المهلك لجميعه الْمَذْهَب لَهُ، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَا معنى لَهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الدمال، بِاللَّامِ فِي آخِره: التَّمْر المتعفن، وَزعم بَعضهم أَنه فَسَاد التَّمْر وعفنه قبل إِدْرَاكه حَتَّى تسود من الدمن، وَهُوَ السرقين، وَالَّذِي فِي (غَرِيب) الْخطابِيّ، بِالضَّمِّ، وَكَأَنَّهُ الْأَشْبَه، لِأَن مَا كَانَ من الأدواء والعاهات فَهُوَ بِالضَّمِّ: كالسعال والزكام والصداع. قَوْله: (أَصَابَهُ مراض) ، كَذَا هُوَ بِضَم الْمِيم عِنْد الْأَكْثَر، قَالَه الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ اسْم لجَمِيع الْأَمْرَاض، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي: مراض بِكَسْر الْمِيم، ويروى: أَصَابَهُ مرض. قَوْله: (قشام) ، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة، قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ أَن ينتفض ثَمَر النّخل قبل أَن يصير بلحا. وَقيل: هُوَ أكال يَقع فِي الثَّمر، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي رِوَايَته: والقشام شَيْء يُصِيبهُ حَتَّى لَا يرطب. قَوْله: (أَصَابَهُ ثَالِثا) ، بدل من أَصَابَهُ ثَانِيًا. وَهُوَ بدل من الأول. قَوْله: (عاهات) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف: تَقْدِيره، هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة عاهات، أَي: آفَات وأمراض، وَهُوَ جمع عاهة، وَأَصلهَا عوهة قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَذكره الْجَوْهَرِي فِي الأجوف الواوي، وَقَالَ: العاهة الآفة، يُقَال: عيه الزَّرْع وإيف، وَأَرْض معيوهة، وأعاه الْقَوْم: أَصَابَت ماشيتهم العاهة. وَقَالَ الْأمَوِي: أَعوه الْقَوْم، مثله. قَوْله: (يحتجون بهَا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: جمع لفظ: يحتجون، نظرا إِلَى أَن لفظ الْمُبْتَاع جنس(12/3)
صَالح للقليل وَالْكثير انْتهى. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَإِنَّمَا جمعه بِاعْتِبَار الْمُبْتَاع وَمن مَعَه من أهل الْخُصُومَات بِقَرِينَة قَوْله: يتبايعون. قَوْله: (فَأَما لَا) ، أَصله: فَإِن لَا تتركوا هَذِه الْمُبَايعَة، فزيدت كلمة: مَا، للتوكيد، وأدغمت النُّون فِي الْمِيم وَحذف الْفِعْل. وَقَالَ الجواليقي: الْعَوام يفتحون الْألف وَالصَّوَاب كسرهَا، وَأَصله: أَن لَا يكون كَذَلِك الْأَمر فافعل هَذَا، و: مَا، زَائِدَة وَعَن سِيبَوَيْهٍ: أفعل هَذَا إِن كنت لَا تفعل غَيره، لكِنهمْ حذفوا لِكَثْرَة استعمالهم إِيَّاه. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: دخلت: مَا، صلَة كَقَوْلِه عز وَجل: {فإمَّا تَرين من الْبشر أحدا} (مَرْيَم: 62) . فَاكْتفى: بِلَا، من الْفِعْل كَمَا تَقول الْعَرَب: من سلم عَلَيْك فَسلم عَلَيْهِ وَمن لَا، يَعْنِي: وَمن لَا يسلم عَلَيْك فَلَا تسلم عَلَيْهِ، فَاكْتفى، بِلَا، من الْفِعْل وَأَجَازَ: من أكرمني أكرمته، وَمن لَا. . مَعْنَاهُ: من لَا يكرمني لم أكْرمه، وَقد أمالت الْعَرَب: لَا، إمالة خَفِيفَة، والعوام يشبعون إمالتها فَتَصِير ألفها يَاء، وَهُوَ خطأ وَمَعْنَاهُ: إِن لم يكن هَذَا فَلْيَكُن هَذَا، قيل: وَإِنَّمَا يجوز إمالتها لتضمنها الْجُمْلَة، وإلاَّ فَالْقِيَاس أَن لَا تمال الْحُرُوف. وَقَالَ التَّيْمِيّ: قد تكْتب: لَا، هَذِه بلام وياء وَتَكون: لَا، ممالة، وَمِنْهُم من يَكْتُبهَا بِالْألف وَيجْعَل عَلَيْهَا فَتْحة محرفة عَلامَة للإمالة، فَمن كتب بِالْيَاءِ تبع لفظ الإمالة، وَمن كتب بِالْألف تبع أصل الْكَلِمَة. قَوْله: (حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر) ، صَلَاح الثَّمر هُوَ أَن يصير إِلَى الصّفة الَّتِي يطْلب كَونه على تِلْكَ الصّفة. وَهُوَ بِظُهُور النضج والحلاوة وَزَوَال العفوصة وبالتموه واللين وبالتلون وبطيب الْأكل، وَقيل: هُوَ بِطُلُوع الثريا، وهما متلازمان. قَوْله: (كالمشورة) ، بِفَتْح الْمِيم وَضم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو على وزن فعولة، وَيُقَال بِسُكُون الشين وَفتح الْوَاو على وزن مفعلة. وَقَالَ ابْن سَيّده: هِيَ مفعلة لَا مفعولة لِأَنَّهَا مصدر، والمصادر لَا تَجِيء على مِثَال مفعولة، وَقَالَ الْفراء: مشورة قَليلَة، وَزعم صَاحب الثقيف والحريري فِي آخَرين: أَن تسكين الشين فتح الْوَاو مِمَّا لحن فِيهِ الْعَامَّة، وَلَكِن الْفراء نَقله، وَهِي مُشْتَقَّة من شرث الْعَسَل إِذا اجتنيته، فَكَانَ المستشير يجتني الرَّأْي من المشير، وَقيل: أَخذ من قَوْلك: شرت الدَّابَّة، إِذا أجريتها مقبلة ومدبرة لتسبر جريها وتختبر جوهرها، فَكَانَ المستشير يسْتَخْرج الرَّأْي الَّذِي عِنْد المشير، وكلا الإشتقاقين مُتَقَارب مَعْنَاهُ من الآخر، وَالْمرَاد بِهَذِهِ المشورة: أَن لَا يشتروا شَيْئا حَتَّى يتكامل صَلَاح جَمِيع هَذِه الثَّمَرَة لِئَلَّا تجْرِي مُنَازعَة.
قَوْله: (وَأَخْبرنِي) أَي: قَالَ أَبُو الزِّنَاد: وَأَخْبرنِي خَارِجَة بن زيد بن ثَابت، وَإِنَّمَا قَالَ بِالْوَاو عطفا على كَلَامه السَّابِق، وخارجة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْجِيم هُوَ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. قَوْله: (حَتَّى تطلع الثريا) ، وَهُوَ مصغر الثروي، وَصَارَ علما للنجم الْمَخْصُوص، وَالْمعْنَى: حَتَّى تطلع مَعَ الْفجْر، وَقد روى أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: إِذا طلع النَّجْم صباحا رفعت العاهة عَن كل بلد، وَفِي رِوَايَة أبي حنيفَة عَن عَطاء: رفعت العاهة من الثِّمَار والنجم هُوَ الثريا، وطلوعها صباحا يَقع فِي أول فصل الصَّيف، وَذَلِكَ عِنْد اشتداد الْحر فِي بِلَاد الْحجاز وَابْتِدَاء نضج الثِّمَار، وَالْمُعْتَبر فِي الْحَقِيقَة النضج وطلوع النَّجْم عَلامَة لَهُ، وَقد بَينه فِي الحَدِيث بقوله: ويتبين الْأَصْفَر من الْأَحْمَر.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله رَوَاهُ عَلِيُّ بنُ بَحْرٍ. قَالَ حَدثنَا حَكَّامٌ قَالَ حدَّثنا عَنْبَسَة عنْ زَكَرِيَّاءَ عنْ أبِي الزِّنادِ عنْ عُرْوَةَ عنْ سَهْلٍ عنْ زَيْدٍ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى. قَوْله: (رَوَاهُ) ، أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَليّ بن بَحر ضد الْبر الْقطَّان الرَّازِيّ وَهُوَ أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وحكام، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ للْمُبَالَغَة: ابْن سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، وَهُوَ أَيْضا رازي، توفّي سنة تسعين وَمِائَة، وعنبسة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد بن ضريس، بالضاد الْمُعْجَمَة مصغر ضرس كُوفِي، ولي قَضَاء الرّيّ فَعرف بالرازي، وَلَيْسَ لعنبسه هَذَا فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع الْمَوْقُوف، كَذَا لشيخه زَكَرِيَّا بن خَالِد الرَّازِيّ، وَلَا يعرف لَهُ راوٍ غير عَنْبَسَة، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله ابْن ذكْوَان، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، وَسَهل هُوَ ابْن أبي حثْمَة، وَزيد هُوَ ابْن ثَابت الْأنْصَارِيّ.
وَقد روى أَبُو دَاوُد حَدِيث الْبَاب من طَرِيق عَنْبَسَة بن خَالِد عَن يُونُس بن يزِيد، قَالَ: سَأَلت أَبَا الزِّنَاد عَن بيع الثَّمر قبل أَن يَبْدُو صَلَاحه وَمَا ذكر فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: كَانَ عُرْوَة بن الزبير يحدث عَن سهل بن أبي حثْمَة عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: كَانَ النَّاس يتبايعون الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا ... الحَدِيث، فَذكره نَحْو حَدِيث الْبَاب، وعنبسة بن خَالِد هَذَا غير عَنْبَسَة بن سعيد فَافْهَم.(12/4)
4912 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا مالِك عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهى عنْ بَيْعِ الثِّمارِ حتَّى يَبْدو صلاَحُها نَهَى الْبَائِعَ والْمُبْتاعَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا بِإِسْنَاد مثل إِسْنَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (نهى عَن بيع الثِّمَار) ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن تصيبها آفَة فتتلف فيضيع مَال صَاحبه. قَوْله: (نهى البَائِع) ، لِأَنَّهُ يُرِيد أكل المَال بِالْبَاطِلِ، وَنهى الْمُبْتَاع أَي: المُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُوَافقهُ على حرَام، وَلِأَنَّهُ بصدد تَضْييع لمَاله. وَفِيه أَيْضا: قطع النزاع والتخاصم. وَمُقْتَضى الحَدِيث جَوَاز بيعهَا بعد بَدو الصّلاح مُطلقًا، سَوَاء شَرط الْإِبْقَاء أَو لم يشْتَرط، لِأَن مَا بعد الْغَايَة مُخَالف لما قبلهَا، وَقد جعل النَّهْي ممتدا إِلَى غَايَة بَدو الصّلاح، وَالْمعْنَى فِيهِ: أَن يُؤمن فِيهَا العاهة وتغلب السَّلامَة فيثق المُشْتَرِي بحصولها بِخِلَاف مَا قبل بَدو الصّلاح، فَإِنَّهُ بصدد الْغرَر.
وَاخْتلف السّلف فِي قَوْله: (حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) هَل المُرَاد مِنْهُ جنس الثِّمَار؟ حَتَّى لَو بدا الصّلاح فِي بُسْتَان من الْبَلَد مثلا جَازَ بيع ثَمَرَة جَمِيع الْبَسَاتِين، وَإِن لم يبد الصّلاح فِيهَا أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل بُسْتَان على حِدة؟ أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل جنس على حِدة؟ أَو فِي كل شَجَرَة على حِدة؟ على أَقْوَال. وَالْأول: قَول اللَّيْث، وَهُوَ عِنْد الْمَالِكِيَّة بِشَرْط أَن يكون الصّلاح متلاحقا. وَالثَّانِي: قَول أَحْمد، وَعنهُ فِي رِوَايَة كالرابع، وَالثَّالِث: قَول الشَّافِعِيَّة. قلت: هَذَا كُله غير مُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْحَنَفِيَّة.
5912 - حدَّثنا ابْن مُقاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا حُمَيْدٌ الطَّويلُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهىَ أنْ تُباعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: أَبُو الْحسن الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (ثَمَرَة النّخل) ، ذكر النّخل لَيْسَ بِقَيْد، وَإِنَّمَا ذكره لكَونه الْغَالِب عِنْدهم. قَوْله: (حَتَّى تزهو) ، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: زها النّخل يزهو إِذا ظَهرت ثَمَرَته، وأزهي إِذا احمر واصفر. وَقَالَ غَيره: يزهو خطأ، وَإِنَّمَا يُقَال: يزهي، وَقد حَكَاهُمَا أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ الْخَلِيل: أزهي الثَّمر. وَفِي (الْمُحكم) : الزهو والزهو، الْبُسْر إِذا ظَهرت فِيهِ الْحمرَة، وَقيل: إِذا لون، واحدته زهوة، وأزهي النّخل وزهي: تلون بحمرة وصفرة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الصَّوَاب فِي الْعَرَبيَّة يزهى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَل حَدِيث الْبَاب وَغَيره يدل على التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة؟ فبالأول قَالَ الْجُمْهُور، وَإِلَى الثَّانِي صَار أَبُو حنيفَة.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، فسر لفظ: تزهو، بقوله: تحمر. قيل: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ تشعر بِأَن قَائِل ذَلِك هُوَ عبد الله بن الْمُبَارك، فَإِذا صَحَّ هَذَا يكون لفظ: أَبُو، زَائِدا ليبقى: قَالَ عبد الله، وَيكون المُرَاد بِهِ: عبد الله بن الْمُبَارك أحد رُوَاة الحَدِيث الْمَذْكُور.
6912 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ سَليمِ بنِ حَيَّانَ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ مِيناءَ قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ نِهىَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُباعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ وَمَا تُشَقِّحُ قَالَ تحمارُّ وتصْفَارُّ ويُؤْكَلُ مِنْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وسليم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللَّام: ابْن حَيَّان من الْحَيَاة وَسَعِيد بن ميناء بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون ممدودا ومقصورا، تقدم فِي: بَاب التَّكْبِير على الْجِنَازَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن هِشَام. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن خَلاد الْبَاهِلِيّ عَن يحيى.
قَوْله: (حَتَّى تشقح) ، بِضَم أَوله وَسُكُون ثَانِيه، قَالَ بَعضهم: من أشقح يشقح إشقاحا إِذا احمر أَو اصفر، والإسم الشقحة، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْقَاف بعْدهَا حاء مُهْملَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: التشقح تغير اللَّوْن إِلَى الصُّفْرَة أَو الْحمرَة، والشقحة لون خلص فِي الْحمرَة. انْتهى. قلت: هَذَا كَمَا ترى جعله بَعضهم من بَاب الْأَفْعَال، وَجعله الْكرْمَانِي من بَاب التفعيل. وَقَالَ ابْن(12/5)
الْأَثِير: نهى عَن بيع الثَّمر حَتَّى تشقح، هُوَ أَن يحمر أَو يصفر، يُقَال: أشقحت البسرة وشقحت إشقاحا وتشقيحا، وَالِاسْم الشقحة. قَوْله: (قيل: مَا تشقح؟ . .) إِلَى آخِره هَذَا التَّفْسِير من قَول سعيد بن ميناء رَاوِي الحَدِيث، بيَّن ذَلِك أَحْمد فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن بهز بن أَسد عَن سليم بن حَيَّان أَنه هُوَ الَّذِي سَأَلَ سعيد بن ميناء عَن ذَلِك فَأَجَابَهُ بذلك، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من طَرِيق بهز، قَالَ: حَدثنَا سليم بن حَيَّان حَدثنَا سعيد بن ميناء عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْمُزَابَنَة والمحاقلة وَالْمُخَابَرَة وَعَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح. قَالَ: قلت لسَعِيد: مَا تشقح؟ قَالَ: تحمار وتصفار ويؤكل مِنْهَا. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سليم بن حَيَّان، فَقَالَ فِي رِوَايَته: قلت لجَابِر: مَا تشقح ... ؟ الحَدِيث. قلت: هَذَا يدل على أَن السَّائِل عَن ذَلِك هُوَ سعيد بن ميناء وَالَّذِي فسره هُوَ جَابر. قَوْله: (تحمار وتصفار) ، كِلَاهُمَا من بَاب الافعيلال من الثلاثي الَّذِي زيدت فِيهِ الْألف والتضعيف لِأَن أَصلهمَا: حمر وصفر. وَقَالَ الْخطابِيّ: أَرَادَ بالإحمرار والإصفرار ظُهُور أَوَائِل الْحمرَة والصفرة قبل أَن يشْبع، وَإِنَّمَا يُقَال: تفعال من اللَّوْن الْغَيْر المتمكن. قلت: فِيهِ نظر، لأَنهم إِذا أَرَادوا فِي لفظ حمر مُبَالغَة يَقُولُونَ: احمرَّ فيزيدون على أصل الْكَلِمَة الْألف والتضعيف، ثمَّ إِذا أَرَادوا الْمُبَالغَة فِيهِ يَقُولُونَ: إحمارَّ، فيزيدون فِيهِ أَلفَيْنِ والتضعيف، واللون الْغَيْر المتمكن هُوَ الثلاثي الْمُجَرّد، أَعنِي: حمر، فَإِذا تمكن يُقَال: احمر، وَإِذا ازْدَادَ فِي التَّمَكُّن يُقَال: احمار، لِأَن الزِّيَادَة تدل على التكثير وَالْمُبَالغَة. وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا يُقَال: يفعال، فِي اللَّوْن الْغَيْر المتمكن إِذا كَانَ يَتلون، وَأنكر هَذَا بعض أهل اللُّغَة، وَقَالَ: لَا فرق بَين يحمر ويحمار. انْتهى. قلت: قَائِل هَذَا مَا مس شَيْئا من علم الصّرْف، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ.
68 - (بابُ بَيْعِ النَّخْلِ قَبْلَ أنْ يَبْدُو صَلاَحُها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع ثَمَر النّخل، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه التَّرْجَمَة معقودة لحكم بيع الْأُصُول وَالَّتِي قبلهَا لحكم بيع الثِّمَار انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام فَاسد غير صَحِيح، بل كل من الترجمتين معقودة لبيع الثِّمَار: أما التَّرْجَمَة الأولى فَهِيَ قَوْله: بَاب فِي بيع الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا، وَلم يذكر فِيهِ النّخل ليشْمل ثمار جَمِيع الْأَشْجَار المثمرة، وَهَهُنَا ذكر النّخل، وَالْمرَاد ثَمَرَته وَلَيْسَ المُرَاد عين النّخل، لِأَن بيع عين النّخل لَا يحْتَاج أَن يُقيد ببدو الصّلاح أَو بِعَدَمِهِ، ألاَ ترى فِي الحَدِيث يَقُول: وَعَن النّخل حَتَّى تزهو، والزهو صفة الثَّمَرَة لَا صفة عين النّخل، وَالتَّقْدِير عَن: ثَمَر النّخل، فَافْهَم.
7912 - حدَّثني عَلِيُّ بنُ الْهَيْثَمِ قَالَ حدَّثنا مُعَلَّى حدَّثنا هُشَيْمٌ قَالَ أخبرنَا حُمَيْدٌ قَالَ حدَّثنا أنَسْ بنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ نَهىَ عنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حتَّى يَبْدُو صَلاَحُها وعنِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُو قِيلَ وَمَا يَزْهُو قَالَ يحْمَارُّ ويصْفَارُّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَعَن النّخل) ، أَي: وَعَن ثَمَر النّخل كَمَا ذكرنَا. وَعلي بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالثاء الْمُثَلَّثَة: الْبَغْدَادِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَمعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن مَنْصُور الرَّازِيّ الْحَافِظ، طلبوه على الْقَضَاء فَامْتنعَ، مَاتَ سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا روى عَنهُ فِي (الْجَامِع) بِوَاسِطَة. وهشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن بشير الوسطي مر فِي التَّيَمُّم. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (حَدثنِي) ، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا عَليّ. قَوْله: (وَعَن النّخل) ، أَي: عَن بيع ثَمَر النّخل، وَهَذَا لَيْسَ بتكرار، لِأَن المُرَاد بقوله: نهى عَن بيع الثَّمَرَة غير ثَمَر النّخل، بِقَرِينَة عطفه عَلَيْهِ، وَلِأَن الزهو مَخْصُوص بالرطب، وَالْبَاقِي قد شرح عَن قريب، وَلم يسم السَّائِل عَن ذَلِك فِي هَذِه الرِّوَايَة وَلَا المسؤول، وَسَيَأْتِي بعد خَمْسَة أَبْوَاب: عَن حميد بِرِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَنهُ، وَفِيه: قُلْنَا لأنس: مَا زهوها؟ قَالَ: تحمر.(12/6)
78 - (بابٌ إذَا باعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أنْ يَبْدُو صَلاَحُهَا ثُمَّ أصَابَتْهُ عَاهَةٌ فَهْوَ مِنَ البَائِعِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا بَاعَ شخص الثِّمَار قبل بَدو صَلَاحهَا ثمَّ أَصَابَته عاهة أَي: آفَة، فَهُوَ من البَائِع أَي: من مَال البَائِع، وَالْفَاء جَوَاب: إِذا، لتضمن معنى الشَّرْط، فَهَذَا يدل على أَن البُخَارِيّ قَائِل بِصِحَّة هَذَا البيع، وَإِن لم يبد صَلَاحه، لِأَنَّهُ: إِذا لم يفْسد فَالْبيع صَحِيح.
8912 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكُ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ فَقِيلَ لَهُ ومَا تُزْهِيَ قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ فَقَالَ أرأيْتَ إذَا منَعَ الله الثَّمَرَةَ بِمَ يأخُذْ أحدُكُمْ مالَ أخِيهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله) إِن منع الله الثَّمَرَة. . إِلَى آخِره، لِأَن الثَّمَرَة إِذا أصابتها آفَة وَلم يقبضهَا المُشْتَرِي تكون من ضَمَان البَائِع، فَإِذا قبضهَا المُشْتَرِي فَهُوَ من مَال المُشْتَرِي.
وَفِي هَذَا الْبَاب أَقْوَال للْعُلَمَاء وتفصيل، فَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على وُجُوه.
الأول: أَن مَا تهلكه الْجَائِحَة من الثِّمَار من ضَمَان البَائِع فِي الْجُمْلَة، وَبِهَذَا قَالَ أَكثر أهل الْمَدِينَة، مِنْهُم: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو عبيد وَجَمَاعَة من أهل الحَدِيث. الثَّانِي: أَن الْجَائِحَة كل آفَة لَا صنع للآدمي فِيهَا: كَالرِّيحِ وَالْبرد وَالْجَرَاد والعطش. الثَّالِث: أَن ظَاهر الْمَذْهَب أَنه: لَا فرق بَين قَلِيل الْجَائِحَة وكثيرها، إلاَّ أَن مَا جرت الْعَادة بِتَلف مثله كالشيء الْيَسِير الَّذِي لَا يَنْضَبِط فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَحْمد: إِنِّي لَا أَقُول فِي عشرَة ثَمَرَات وَعشْرين ثَمَرَة لَا أَدْرِي مَا الثُّلُث؟ وَلَكِن إِذا كَانَت جَائِحَة فَوق الثُّلُث أَو الرّبع أَو الْخمس تُوضَع، وَمِنْه رِوَايَة أُخْرَى: إِن مَا كَانَ دون الثُّلُث فَهُوَ من ضَمَان المُشْتَرِي، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يَأْكُل الطَّائِر مِنْهَا وينثر الرّيح وَيسْقط مِنْهَا، فَلم يكن بُد من ضَابِط وحد فاصل بَين هَذَا وَبَين الْجَائِحَة، وَالثلث قد رَأينَا الشَّرْع اعْتَبرهُ فِي مَوَاضِع مِنْهَا: الْوَصِيَّة وعطايا الْمَرِيض، إِذا ثَبت هَذَا فَإِنَّهُ إِذا تلف شَيْء لَهُ قدر خَارج عَن الْعَادة وضع من الثّمن بِقدر الذَّاهِب، وَإِن تلف الْجَمِيع بَطل العقد وَيرجع المُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثّمن، وَإِن تلف الْبَعْض وَكَانَ الثُّلُث فَمَا زَاد وضع بِقسْطِهِ من الثّمن، وَإِن كَانَ دونه لم يرجع بِشَيْء، وَإِن اخْتلفَا فِي الْجَائِحَة أَو فِي قدر مَا أتلفت فَالْقَوْل قَول البَائِع، لِأَن الأَصْل السَّلامَة. انْتهى.
وَقَالَ جُمْهُور السّلف وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد وَأَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَدَاوُد وَأَصْحَابه: مَا ذهب من الثَّمر الْمَبِيع الَّذِي أَصَابَته جَائِحَة من شَيْء، سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا بعد قبض المُشْتَرِي إِيَّاه، فَهُوَ ذَاهِب من مَال المُشْتَرِي، وَالَّذِي ذهب فِي يَد البَائِع قبل قبض المُشْتَرِي فَذَاك يبطل الثّمن عَن المُشْتَرِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَتَّى تزهى) ، بِضَم التَّاء من الإذهاء. قَالَ الْخطابِيّ: هَذِه الرِّوَايَة هِيَ الصَّوَاب، وَلَا يُقَال فِي النّخل: يزهو، وَإِنَّمَا يُقَال: يزهى، لَا غير، ورد عَلَيْهِ غَيره فَقَالَ: زهى إِذا طَال واكتمل، وأزهى إِذا احمر واصفر. قَوْله: (فَقيل لَهُ: وَمَا تزهى؟) لم يسم السَّائِل فِي هَذِه الرِّوَايَة وَلَا المسؤول أَيْضا، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِلَفْظ: قيل. يَا رَسُول الله! وَمَا تزهى؟ قَالَ: حَتَّى تحمرَّ، وَهَكَذَا أخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيق يحيى بن أَيُّوب وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق سُلَيْمَان ابْن بِلَال، كِلَاهُمَا عَن حميد، وَظَاهره الرّفْع، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَغَيره عَن حميد مَوْقُوفا على أنس، كَمَا مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويروى: فَقَالَ رَسُول الله أَرَأَيْت أَي أَخْبرنِي؟ قَالَ أهل البلاغة: هُوَ من بَاب الْكِنَايَة، حَيْثُ استفهم وَأَرَادَ الْأَمر. قَوْله: (إِذا منع الله الثَّمَرَة) إِلَى آخِره، هَكَذَا صرح مَالك بِرَفْع هَذِه الْجُمْلَة، وَتَابعه مُحَمَّد ابْن عباد عَن الدَّرَاورْدِي عَن حميد مُقْتَصرا على هَذِه الْجُمْلَة الْأَخِيرَة، وَجزم الدَّارَقُطْنِيّ وَغير وَاحِد من الْحفاظ بِأَنَّهُ أَخطَأ فِيهِ، وَبِذَلِك جزم ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) عَن أَبِيه وَأبي زرْعَة، وَالْخَطَأ فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز من مُحَمَّد بن عباد، فقد رَوَاهُ إِبْرَاهِيم ابْن حَمْزَة عَن الدَّرَاورْدِي كَرِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْآتِي ذكرهَا، وَرَوَاهُ مُعْتَمر بن سُلَيْمَان وَبشر بن الْمفضل عَن حميد(12/7)
فَقَالَ فِيهِ: قَالَ: أَفَرَأَيْت ... إِلَى آخِره، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أنس قَالَ بِمَ يسْتَحل أَو حدث بِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أخرجه الْخَطِيب فِي (المدرج) وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد فعطفه على كَلَام أنس فِي تَفْسِير قَوْله: تزهى، وَظَاهره الْوَقْف. وَأخرجه الجوزقي من طَرِيق زيد بن هَارُون والخطيب من طَرِيق أبي خَالِد الْأَحْمَر، كِلَاهُمَا عَن حميد بِلَفْظ، قَالَ: أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ... الحَدِيث وَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك وهشيم، كَا تقدم آنِفا عَن حميد، فَلم يذكرَا هَذَا الْقدر الْمُخْتَلف فِيهِ، وتابعهما جمَاعَة من أَصْحَاب حميد عَنهُ على ذَلِك، قيل: وَلَيْسَ فِي جَمِيع مَا تقدم مَا يمْنَع أَن يكون التَّفْسِير مَرْفُوعا، لِأَن مَعَ الَّذِي رَفعه زِيَادَة علم عَن مَا عِنْد الَّذِي وَقفه، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الَّذِي وَقفه مَا يَنْفِي قَول من رَفعه. قَوْله: (بِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟) أَي: بِأَيّ شَيْء يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه إِذا تلف الثَّمر، لِأَنَّهُ إِذا تلف الثَّمر لَا يبْقى للْمُشْتَرِي فِي مُقَابلَة مَا دفع شَيْء، فَيكون أَخذ البَائِع بِالْبَاطِلِ، ويروى: بِمَ يسْتَحل أحدكُم مَال أَخِيه وَفِيه إِجْرَاء الحكم على الْغَالِب لِأَن تطرق التّلف إِلَى مَا بدا صَلَاحه مُمكن، وَعدم تطرقه إِلَى مَا لم يبد صَلَاحه مُمكن، فأنيط الحكم فِي الْغَالِب فِي الْحَالين.
9912 - قَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ لَوْ أنَّ رجُلاً ابْتَاعَ تَمْرا قَبْلَ أنْ يَبْدُو صَلاَحُهُ ثُمَّ أصابَتْهُ عاهَةٌ كانَ مَا أصَابَهُ عَلى رَبِّهِ قَالَ أخبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحُهَا ولاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بالتَّمْرِ. .
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق عَن اللَّيْث بن سعد عَن يُونُس بن يزِيد أَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ استنبط الحكم المترجم بِهِ من الحَدِيث.
قَوْله: (ابْتَاعَ) ، أَي: اشْترى. قَوْله: (ثمرا) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (عاهة) ، أَي: آفَة. قَوْله: (على ربه) ، أَي: وَاقع على صَاحبه وَهُوَ بَائِعه مَحْسُوب عَلَيْهِ، وَفهم من هَذَا أَن الزُّهْرِيّ أطلق كَلَامه وَلم يفصل هَل كَانَ حُصُول العاهة قبل قبض المُشْتَرِي أَو بعده، فمذهب الْحَنَفِيَّة بالتفصيل كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَقبض المُشْتَرِي الثِّمَار فِي رُؤُوس النّخل يكون بِالتَّخْلِيَةِ بِأَن يخلى البَائِع بَين المُشْتَرِي وَبَينهَا وإمكانه إِيَّاه مِنْهَا. قَوْله: (أَخْبرنِي) من كَلَام الزُّهْرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عبد الله: أَن رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تتبايعوا الثَّمر ... إِلَى آخِره، فَكَأَن الزُّهْرِيّ استنبط مَا قَالَه من عُمُوم النَّهْي، وَقد مضى هَذَا فِي: بَاب بيع الْمُزَابَنَة، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ. .) الحَدِيث. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (لَا تَبِيعُوا الثَّمر) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم. قَوْله: (بِالتَّمْرِ) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْمِيم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عَام خصص بالعرايا. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن هَذَا الْعَام على عُمُومه، وَأَن بيع الْعَرَايَا حكم مُسْتَقل بِذَاتِهِ لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء ليخرج من عُمُوم الحَدِيث الْمَذْكُور.
88 - (بابُ شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أجَلٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شِرَاء الطَّعَام إِلَى أجل.
0022 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفصِ بنِ غِياثٍ قَالَ حدَّثنا أبِي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ ذَكَرْنا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ فَقَالَ ل اَ بَأسَ بِهِ ثُمَّ حَدثنَا عنِ الأسْوَدِ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرَى طَعاما مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى إجَلٍ فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اشْترى طَعَاما من يَهُودِيّ إِلَى أجل) وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب شِرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّسِيئَةِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُعلى بن أَسد عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش، وَهُوَ سُلَيْمَان. وَهنا أخرجه: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم هوالنخعي. قَوْله: (فِي السّلف) أَي: السّلم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.(12/8)
98 - (بابٌ إذَا أرادَ بَيْعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيْر مِنْهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أَرَادَ الشَّخْص بيع تمر بِتَمْر خير من ثمره، وَكِلَاهُمَا بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْمِيم، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: مَاذَا يضع حَتَّى يسلم من الرِّبَا؟
2022 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالِكٍ عنْ عَبْدِ المَجِيدِ بن سُهَيْلِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ سَعِيدِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وعنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعْمَلَ رجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فجاءَهُ بِتَمْرٍ جِنيبٍ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكُلُّ تَمْر خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لاَ وَالله يَا رسولَ الله إنَّا لَنَأخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بالصَّاعَيْنِ بالثَّلاثَةِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَفْعَلْ بِعْ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمُ ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِيبا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بِعْ الْجمع جنيبا) ، فَإِنَّهُ أسلم من الرِّبَا، فَإِن التَّمْر كُله جنس وَاحِد فَلَا يجوز بيع صَاع مِنْهُ بِصَاع من تمر آخر إلاَّ سَوَاء بِسَوَاء، فَلَا يجوز بالتفاضل. وَعبد الْمجِيد بن سُهَيْل مصغر سهل، ضد الصعب ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْمدنِي، يكنى أَبَا وهب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْوكَالَة عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْمَغَازِي عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَفِي نُسْخَة عَن القعْنبِي، ثَلَاثَتهمْ، أَعنِي قُتَيْبَة وَعبد الله بن يُوسُف وَإِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَأخرجه فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، كِلَاهُمَا عَن عبد الْمجِيد الْمَذْكُور عَنهُ عَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك وَعَن نصر بن عَليّ وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، كِلَاهُمَا عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن سعيد عَن قَتَادَة عَنهُ عَن أبي سعيد بِمَعْنَاهُ، وَلم يذكر أَبَا هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن سعيد بن الْمسيب) ، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال: عَن عبد الْمجِيد أَنه سمع سعيد بن الْمسيب، أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام. قَوْله: (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَن أبي هُرَيْرَة) ، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان الْمَذْكُور أَن أَبَا سعيد وَأَبا هُرَيْرَة حَدَّثَاهُ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: ذِكرُ أبي هُرَيْرَة لَا يُوجد فِي هَذَا الحَدِيث إلاَّ لعبد الْمجِيد، وَقد رَوَاهُ قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي سعيد وَحده، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ جمَاعَة من أَصْحَاب أبي سعيد عَنهُ. قَوْله: (اسْتعْمل رجلا) قيل: هُوَ سَواد بن غزيَّة، وَقيل: مَالك بن صعصعة، ذكره الْخَطِيب. قلت: سَواد، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: ابْن غزيَّة، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الزَّاي وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف على وزن عَطِيَّة ابْن وهب حَلِيف الْأَنْصَار، وَهُوَ الَّذِي أسر يَوْمئِذٍ خَالِد بن هِشَام وَمَالك بن صعصعة الخزرجي ثمَّ الْمَازِني. قَوْله: (تمر جنيب) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، قَالَ مَالك: هُوَ الكبيس، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هُوَ الطّيب، وَقيل: الصلب، وَقيل: الَّذِي أخرج مِنْهُ حشفه ورديئه، وَقَالَ التَّيْمِيّ: هُوَ تمر غَرِيب غير الَّذِي كَانُوا يعهدونه، وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ نوع من التَّمْر، وَهُوَ أَجود تمورهم، وَهُوَ بِخِلَاف الْجمع بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، وَهُوَ كل لون من النّخل لَا يعرف اسْمه، وَقيل: هُوَ تمر مختلط من أَنْوَاع مُتَفَرِّقَة وَلَيْسَ مرغوبا فِيهِ، وَلَا يخْتَلط إلاَّ لرداءته. قَوْله: (بالصاعين) ، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: بالصاعين من الْجمع، أَي: غير الصاعين اللَّذين هما عوض الصَّاع الَّذِي هُوَ من الجنيب، وَكَون الْمعرفَة الْمُعَادَة عين الأول عِنْد عدم الْقَرِينَة على الْمُغَايرَة، وَهُوَ كَقَوْلِه: {تؤتي الْملك من تشَاء} (آل عمرَان: 62) . فَإِنَّهُ فِيهِ غير الأول. قَوْله: (بِالثَّلَاثَةِ) ، كَذَا وَفِي رِوَايَة القايسي بِالتَّاءِ وَفِي رِوَايَة أكثرين بِالثلَاثِ بِلَا تَاء وَكِلَاهُمَا جَائِز لِأَن الصَّاع يذكر وَيُؤَنث قَوْله (لَا تفعل) وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: وَلَكِن مثلا بِمثل، أَي: بِعْ الْمثل بِالْمثلِ، وَزَاد فِي آخِره: وَكَذَلِكَ الْمِيزَان، أَي: فِي بيع مَا يُوزن من المقتات بِمثلِهِ. قَوْله: (بِعْ الْجمع) ، أَي: التَّمْر الَّذِي يُقَال لَهُ: (الْجمع بِالدَّرَاهِمِ، ثمَّ ابتع) أَي: ثمَّ اشترِ بِالدَّرَاهِمِ جنيبا، وَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك ليَكُون بصفقتين، فَلَا يدْخلهُ الرِّبَا.(12/9)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف بَين أهل الْعلم فِي أَن مَا دخل فِي الْجِنْس الْوَاحِد من جنس التَّفَاضُل وَالزِّيَادَة لم تجز فِيهِ الزِّيَادَة، لَا فِي كيل وَلَا فِي وزن، وَالْوَزْن والكيل فِي ذَلِك سَوَاء عِنْدهم إِلَّا أَن كَانَ أَصله الْكل لَا يُبَاع إِلَّا كَيْلا وَمَا كَانَ أَصله الْوَزْن لَا يُبَاع إلاَّ وزنا، وَمَا كَانَ أَصله الْكَيْل فَبيع وزنا فَهُوَ عِنْدهم مماثلة، وَإِن كَرهُوا ذَلِك. وَمَا كَانَ مَوْزُونا فَلَا يجوز أَن يُبَاع كَيْلا عِنْد جَمِيعهم، لِأَن الْمُمَاثلَة لَا تدْرك بِالْكَيْلِ إلاَّ فِيمَا كَانَ كَيْلا لَا وزنا اتبَاعا للسّنة، وَأَجْمعُوا أَن الذَّهَب وَالْوَرق والنحاس وَمَا أشبهه لَا يجوز يَبِيع شىء كُله كَيْلا لكيل يُوَجه من الْوُجُوه وَالتَّمْر كُله على اخْتِلَاف انواعه جنس وَاحِد لَا يجوز فِيهِ التَّفَاضُل فِي البيع والمعاوضة، وَكَذَلِكَ الْبر وَالزَّبِيب، وكل طَعَام مَكِيل، هَذَا حكم الطَّعَام المقتات عِنْد مَالك. وَعند الشَّافِعِي: الطَّعَام كُله مقتات أَو غير مقتات، وَعند الْكُوفِيّين: الطَّعَام الْمكيل وَالْمَوْزُون دون غَيره، وَقد احْتج بِحَدِيث الْبَاب من أجَاز بيع الطَّعَام من رجل نَقْدا ويبتاع مِنْهُ طَعَاما قبل الِافْتِرَاق وَبعده، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخص فِيهِ بَائِع الطَّعَام وَلَا مبتاعه من غَيره، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر، وَلَا يجوز هَذَا عِنْد مَالك. وَقَالَ ابْن بطال: وَزعم قوم أَن بيع الْعَامِل الصاعين بالصاع كَانَ قبل نزُول آيَة الرِّبَا، وَقبل إخبارهم بِتَحْرِيم التَّفَاضُل بذلك، فَلذَلِك لم يَأْمُرهُ بفسخه. قَالَ: وَهَذِه غَفلَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي غَنَائِم خَيْبَر للسعدين: أريتما فَردا، وَفتح خَيْبَر مقدم على مَا كَانَ بعد ذَلِك مِمَّا وَقع فِي ثَمَرهَا وَجَمِيع أمرهَا وَقد احْتج بعض الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْعينَة لَيست حَرَامًا، يَعْنِي: الْحِيلَة الَّتِي يعملها بَعضهم توصلاً إِلَى مَقْصُود الرِّبَا، بِأَن يُرِيد أَن يُعْطِيهِ مائَة دِرْهَم بمائتين، فيبيعه ثوبا بمائتين ثمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بِمِائَة، وَدَلِيل هَذَا من الحَدِيث أَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: بِعْ هَذَا واشتر بِثمنِهِ من هَذَا، وَلم يفرق بَين أَن يَشْتَرِي من المُشْتَرِي أَو من غَيره، فَدلَّ على أَنه لَا فرق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا كُله لَيْسَ بِحرَام عِنْد الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَآخَرين، وَقَالَ مَالك وَأحمد: هُوَ حرَام، وَفِي الحَدِيث حجَّة على من يَقُول: إِن بيع الرِّبَا جَائِز بِأَصْلِهِ من حَيْثُ إِنَّه بيع مَمْنُوع بوصفه من حَيْثُ هُوَ رَبًّا، فَيسْقط الرِّبَا وَيصِح البيع. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلَو كَانَ على مَا ذكر لما فسخ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذِه الصَّفْقَة، وَلَا أَمر برد الزِّيَادَة على الصَّاع. وَفِيه: جَوَاز اخْتِيَار طيب الطَّعَام، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَفِي التَّخْيِير لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، التَّمْر الطّيب وإقرارهم عَلَيْهِ دَلِيل على أَن النَّفس يرفق بهَا لحقها، وَهُوَ عكس مَا يصنعه جهال المتزهدين من حملهمْ على أنفسهم مَا لَا يُطِيقُونَ، جهلا مِنْهُم بِالسنةِ. وَفِيه: جَوَاز الْوكَالَة فِي البيع وَغَيره. وَفِيه: أَن الْبيُوع الْفَاسِدَة تُرَدُّ.
09 - (بابُ منْ باعَ نَخْلاً قَدْ أُبِرَّتْ أوْ أرْضا مزْرُوعَةً أوْ بإجَارةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من بَاعَ نخلا، وَالنَّخْل اسْم جنس يذكر وَيُؤَنث، وَالْجمع: نخيل. قَوْله: (قد أُبِرَّت) ، جملَة وَقعت صفة لقَوْله: نخلا، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة من التَّأْبِير، وَهُوَ التشقيق والتلقيح، وَمَعْنَاهُ: شقّ طلع النَّخْلَة الْأُنْثَى ليذر فِيهِ شَيْء من طلع النَّخْلَة الذّكر، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُقَال: أبرت النَّخْلَة آبرها، بِكَسْر الْبَاء وَضمّهَا، فَهِيَ: مأبورة، وإبار كل ثَمَر بِحَسبِهِ، وَبِمَا جرت عَادَتهم فِيهِ بِمَا يثبت ثمره ويعقده، وَقد يعبر بالتأبير عَن ظُهُور الثَّمَرَة وَعَن انْعِقَادهَا، وَأَن يفعل فِيهَا شَيْء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَبرته آبره أبرا وإبرا بِالتَّخْفِيفِ كأكلته أكلا. وأبرته بِالتَّشْدِيدِ أُؤبره تأبيرا، كعلمته أعلمهُ تَعْلِيما، والإبار: شقّ طلع النَّخْلَة سَوَاء خطّ فِيهِ شَيْء أم لَا، وَلَو تأبرت بِنَفسِهَا أَي: تشققت فَحكمهَا فِي البيع حكم المؤبرة بِفعل الْآدَمِيّ. قَوْله: (أَو أَرضًا) أَو بَاعَ أَرضًا مزروعة. قَوْله: (أَو بِإِجَارَة) ، عطف على: بَاعَ بِتَقْدِير فعل مُقَدّر تَقْدِيره: أَو أَخذ بِإِجَارَة، وَجَوَاب: مَن، مَحْذُوف تَقْدِيره: فثمرتها للَّذي أبرها، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث. قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ لِي إبراهِيمُ أخبرنَا هِشامٌ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ أبِي مُلَيْكَةَ يُخَبِّرُ عنْ نافِعٍ مَوْلَى ابْن عُمَرَ أنَّ أيَّما نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِرَّتْ لَمْ يُذْكَر الثَّمَرُ فالثَّمَرُ لِلَّذِي أبَرَّهَا وكَذَلِكَ الْعَبْدُ والحَرْثُ سَمَّى لَهُ نافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نخل بِيعَتْ قد أُبرت) . فَإِن قلت: للتَّرْجَمَة ثَلَاثَة أَجزَاء: الأول: بيع النّخل المؤبرة. وَالثَّانِي: بيع الأَرْض(12/10)
المزروعة. وَالثَّالِث: الْإِجَارَة، فَأَيْنَ مُطَابقَة الحَدِيث لهَذِهِ الْأَجْزَاء؟ قلت: قَوْله: (نخل بِيعَتْ قد أبرت) مُطَابق للجزى الأول. وَقَوله: والحرث، هُوَ الزَّرْع مُطَابق للجزء الثَّانِي، فالزرع للْبَائِع إِذا بَاعَ الأَرْض المزروعة وَيفهم مِنْهُ أَنه: إِذا آجر أرضه وفيهَا زرع فالزرع لَهُ، وَإِن كَانَت الْإِجَارَة فَاسِدَة عندنَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَقَالَ خُوَاهَر زَاده: إِن كَانَ الزَّرْع قد أدْرك جَازَت الْإِجَارَة، وَيُؤمر الْآجر بالحصاد وَالتَّسْلِيم، فعلى كل حَال فالزرع للمؤجر، وَهَذَا مُطَابق للجزء الثَّالِث، وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح قد تنبه لهَذَا مَعَ دَعْوَى بَعضهم الدَّعَاوَى العريضة فِي هَذَا الْفَنّ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن يُوسُف ين يزِيد بن زادان الْفراء، هَكَذَا نسبه فِي (التَّلْوِيح) . وَقَالَ بَعضهم: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الرَّازِيّ، وَقَالَ الْمزي: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر.
إِذا قَالَت حذام فصدقوها!
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَقَالَ الْمزي: هِشَام هَذَا هُوَ ابْن سُلَيْمَان بن عِكْرِمَة بن خَالِد بن الْعَاصِ الْقرشِي المَخْزُومِي. الثَّالِث: عبد الْملك ابْن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: واسْمه زُهَيْر بن عبد الله. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن إِبْرَاهِيم رازي وَأَن هشاما صنعاني قاضيها، وَكَانَ من الْأَبْنَاء، وَأَن ابْن جريج وَابْن أبي مليكَة مكيان، وَأَن نَافِعًا مدنِي، وَهَذَا الْأَثر من أَفْرَاده.
ذكر حكمه: أما حكمه أَولا: فَإِنَّهُ ذكر هَذَا عَن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور على سَبِيل المحاورة والمذاكرة حَيْثُ قَالَ: قَالَ لي إِبْرَاهِيم، وَلم يقل: حَدثنِي، وَقد تقدم غير مرّة أَن قَول البُخَارِيّ عَن شُيُوخه بِهَذِهِ الصِّيغَة يدل على أَنه أَخذه مِنْهُم فِي حَالَة المذاكرة. وَأما ثَانِيًا: فَإِنَّهُ مَوْقُوف على نَافِع، لِأَن ابْن جريج رَوَاهُ عَن نَافِع، هَكَذَا مَوْقُوفا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي: الصَّحِيح من رِوَايَة نَافِع مَا اقْتصر عَلَيْهِ فِي هَذَا الحَدِيث من التَّأْبِير خَاصَّة، قَالَ: وَحَدِيث العَبْد يَعْنِي: من ابْتَاعَ عبدا وَله مَال فَمَاله للْبَائِع إلاَّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع، يذكرهُ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: وَقد رَوَاهُ عَن نَافِع عبد ربه بن سعيد وَبُكَيْر بن الْأَشَج، فجمعا بَين الْحَدِيثين مثل رِوَايَة سَالم وَعِكْرِمَة بن خَالِد فَإِنَّهُمَا رويا الْحَدِيثين جَمِيعًا عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو عمر: اتّفق نَافِع وَسَالم عَن ابْن عمر مَرْفُوعا فِي قصَّة النّخل، وَاخْتلفَا فِي قصَّة العَبْد: رَفعهَا سَالم ووقفها نَافِع على عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَنَافِع يروي حَدِيث النّخل عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَدِيث العَبْد عَن ابْن عمر مَوْقُوفا. قيل: وَحَدِيث الْحَرْث لم يروه غير ابْن جريج، وَوصل مَالك وَاللَّيْث وَغَيرهمَا عَن نَافِع عَن ابْن عمر قصَّة النّخل دون غَيرهَا، وَاخْتلف على نَافِع وَسَالم فِي رفع مَا عدا النّخل، فَرَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه مَرْفُوعا فِي قصَّة النّخل وَالْعَبْد مَعًا، وروى مَالك وَاللَّيْث وَأَيوب وَعبيد الله بن عمر وَغَيرهم عَن نَافِع عَن ابْن عمر قصَّة النّخل، وَعَن ابْن عمر عَن عمر قصَّة العَبْد مَوْقُوفَة، كَذَلِك أخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق مَالك بالإسنادين مَعًا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَيّمَا نخل) ، كلمة: أَي، تَجِيء لمعان خَمْسَة، أَحدهَا: للشّرط نَحْو {أيّا مَا تَدْعُو فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} (الْإِسْرَاء: 11) . وَهنا كَذَلِك تَقْدِيره: أَي نخل من النخيل بِيعَتْ، فَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فالثمر للَّذي أبرها) ، وَذكر النّخل لَيْسَ بِقَيْد، وَإِنَّمَا ذكر لأجل أَن سَبَب وُرُود الحَدِيث كَانَ فِي النّخل وَهُوَ الظَّاهِر، وإمَّا لِأَن الْغَالِب فِي أَشْجَارهم كَانَ النّخل، وَفِي مَعْنَاهُ كل ثَمَر بارز يرى فِي الشّجر: كالعنب والتفاح إِذْ أبيع أصُول الشّجر لم تدخل هَذِه الثِّمَار فِي بيعهَا إلاَّ أَن يشْتَرط. قَوْله: (بِيعَتْ) ، بِكَسْر الْبَاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (قد أبرت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا، وَقعت حَالا، وَالْجُمْلَة الَّتِي قبلهَا صفة، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لم يذكر الثَّمر) ، جملَة حَالية قيد بهَا لِأَنَّهُ إِذا ذكر الثَّمر لأحد من الْمُتَعَاقدين فَهُوَ لَهُ بِمُقْتَضى الشَّرْط. قَوْله: (وَكَذَلِكَ العَبْد) ، يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِذا بِيعَتْ الْأُم الْحَامِل وَلها ولد رَقِيق مُنْفَصِل فَهُوَ للْبَائِع، وَإِن كَانَ جَنِينا لم يظْهر فَهُوَ للْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: إِذا بيع العَبْد وَله مَال على مَذْهَب من يَقُول: إِنَّه يملك فَإِنَّهُ للْبَائِع، وروى مُسلم قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا لَيْث عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من ابْتَاعَ نخلا(12/11)
قبل أَن تؤبر فثمرتها للَّذي بَاعهَا إلاَّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع، وَمن ابْتَاعَ عبدا لَهُ فَمَاله للَّذي بَاعه إلاَّ أَن يَشْتَرِطه الْمُبْتَاع) . قَوْله: (والحرث) ، أَي: الزَّرْع فَإِنَّهُ للْبَائِع إِذا بَاعَ الأَرْض المزروعة. قَوْله: (سمى لَهُ نَافِع) أَي: سمى لِابْنِ جريج هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، أَي: التَّمْر وَالْعَبْد والحرث، وَهُوَ بِتَمَامِهِ مَوْقُوف على نَافِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: أَخذ بِظَاهِر هَذَا وبظاهر حَدِيث ابْن عمر الْمَرْفُوع الَّذِي هُوَ عقيب هَذَا كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَالك وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق، فَقَالُوا: من بَاعَ نخلا قد أبرت وَلم يشْتَرط ثَمَرَته الْمُبْتَاع فالثمرة للْبَائِع، وَهِي فِي النّخل متروكة إِلَى الْجذاذ، وعَلى البَائِع السَّقْي وعَلى المُشْتَرِي تخليته وَمَا يَكْفِيهِ من المَاء، وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الثَّمَرَة دون الأَصْل فعلى البَائِع السَّقْي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: سَوَاء أبرت أَو لم تؤبر هِيَ للْبَائِع وَللْمُشْتَرِي أَن يُطَالِبهُ بقلعها عَن النّخل فِي الْحَال، وَلَا يلْزمه أَن يصبر إِلَى الْجذاذ فَإِن اشْترط البَائِع فِي البيع ترك الثَّمَرَة إِلَى الْجذاذ فَالْبيع فَاسد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تَعْلِيق الحكم بالإبار إمَّا للتّنْبِيه لَهُ على مَا لم يؤبر، أَو لغير ذَلِك، أَو لم يقْصد بِهِ نفي الحكم عَمَّا سوى الحكم الْمَذْكُور.
وتلخيص مَأْخَذ اخْتلَافهمْ فِي الحَدِيث أَن أَبَا حنيفَة اسْتعْمل الحَدِيث لفظا ومعقولاً، وَاسْتَعْملهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ لفظا ودليلا وَلَكِن الشَّافِعِي يسْتَعْمل دلَالَته من غير تَخْصِيص، ويستعملها مَالك مخصصة. وَبَيَان ذَلِك أَن أَبَا حنيفَة جعل الثَّمَرَة للْبَائِع فِي الْحَالين، وَكَأَنَّهُ رأى أَن ذكر الإبار تَنْبِيه على مَا قبل الإبار، وَهَذَا الْمَعْنى يُسمى فِي الْأُصُول: مَعْقُول الْخطاب، وَاسْتَعْملهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ على أَن الْمَسْكُوت عَنهُ حكمه حكم الْمَنْطُوق، وَهَذَا يُسَمِّيه أهل الْأُصُول دَلِيل الْخطاب، وَقَول الثَّوْريّ وَأهل الظَّاهِر وفقهاء أَصْحَاب الحَدِيث كَقَوْل الشَّافِعِي، وَقَول الْأَوْزَاعِيّ نَحْو قَول أبي حنيفَة، وَقَالَ ابْن أبي ليلى: سَوَاء أبرت، أَو لم تؤبر الثَّمَرَة للْمُشْتَرِي، اشْترط أَو لم يشْتَرط، قَالَ أَبُو عمر: إِنَّه خَالف لحَدِيث ورده جهلا بِهِ.
الثَّانِي: أَن الْمَالِكِيَّة استدلت بِهِ على كَون الثَّمَرَة مَعَ الْإِطْلَاق للْبَائِع بعد الإبار إلاَّ أَن يشْتَرط، وَأَنَّهَا قبل الإبار للْمُشْتَرِي. قلت: كَأَن مَالِكًا يرى أَن ذكر الإبار هَهُنَا لتعليق الحكم ليدل على أَن مَا عداهُ بِخِلَافِهِ.
الثَّالِث: قَالَ مَالك: إِذا لم يشْتَرط المُشْتَرِي الثَّمَرَة فِي شِرَاء الأَصْل جَازَ لَهُ شراؤها بعد شِرَاء الأَصْل، وَهَذَا مَشْهُور قَوْله، وَعنهُ: أَنه لَا يجوز لَهُ إفرادها بِالشِّرَاءِ مَا لم تطب، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ أَشهب من الْمَالِكِيَّة على جَوَاز اشْتِرَاط بعض الثَّمر، وَقَالَ: يجوز لمن ابْتَاعَ نخلا قد أبرت أَن يشْتَرط من الثَّمر نصفهَا أَو جُزْءا مِنْهَا، وَكَذَلِكَ فِي مَال العَبْد، لِأَن مَا جَازَ اشْتِرَاط جَمِيعه جَازَ اشْتِرَاط بعضه، وَمَا لم يدْخل الرِّبَا فِي جَمِيعه فأحرى أَن لَا يدْخل فِي بعضه. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يجوز لمبتاع النّخل المؤبر أَن يشْتَرط مِنْهَا جُزْءا، وَإِنَّمَا لَهُ أَن يشْتَرط جَمِيعهَا أَو لَا يشْتَرط شَيْئا مِنْهَا.
الْخَامِس: استدلت بِهِ أَصْحَابنَا على أَن من بَاعَ رَقِيقا وَله مَال أَن مَاله لَا يدْخل فِي البيع، وَيكون للْبَائِع إلاَّ أَن يَشْتَرِطه الْمُبْتَاع.
السَّادِس: اسْتدلَّ بِهِ على أَن المؤبر يُخَالف فِي الحكم غير المؤبر، وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: لَو بَاعَ نَخْلَة بَعْضهَا مؤبر وَبَعضهَا غير مؤبر فالجميع للْبَائِع، فَإِن بَاعَ نخلتين فَكَذَلِك بِشَرْط اتِّحَاد الصّفة، فَإِن أفرد فلكلٍ حكمه. وَيشْتَرط كَونهمَا فِي بُسْتَان وَاحِد، فَإِن تعدد فَلِكُل حكمه. وَنَصّ أَحْمد على أَن الَّذِي يؤبر للْبَائِع وَالَّذِي لَا يؤبر للْمُشْتَرِي، وَجعلت الْمَالِكِيَّة الحكم للأغلب.
السَّابِع: اخْتلف الشَّافِعِيَّة فِيمَا لَو بَاعَ نَخْلَة وَبقيت ثَمَرَتهَا ثمَّ خرج طلع آخر من تِلْكَ النَّخْلَة، فَقَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: هُوَ للْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَيْسَ للْبَائِع إلاَّ مَا وجد دون مَا لم يُوجد. وَقَالَ الْجُمْهُور: وَهُوَ للْبَائِع لكَونه من ثَمَرَة المؤبر دون غَيرهَا.
الثَّامِن: روى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَن من اشْترى أَرضًا مزروعة وَلم يسنبل فالزرع للْبَائِع إلاَّ أَن يَشْتَرِطه المُشْتَرِي، وَإِن وَقع البيع وَالْبذْر وَلم ينْتَه فَهُوَ للْمُبْتَاع بِغَيْر شَرط، وروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك إِن كَانَ الزَّرْع لقح أَكْثَره ولقاحه أَن يتحبب ويسنبل حَتَّى لَو يبس حِينَئِذٍ لم يكن فَسَادًا، فَهُوَ للْبَائِع إلاَّ أَن يَشْتَرِطه المُشْتَرِي، وَإِن كَانَ لم يلقح فَهُوَ للْمُبْتَاع.
التَّاسِع: إِن وَقع العقد على النّخل أَو على العَبْد خَاصَّة ثمَّ زَاده شَيْئا يلْحق الثَّمَرَة وَالْمَال. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن كَانَ بِحَضْرَة البَائِع وَتَقْدِيره جَازَ، وإلاَّ فَلَا. وَقَالَ أَشهب: يجوز فِي الثَّمَرَة وَلَا يجوز فِي مَال العَبْد.
الْعَاشِر: اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ على جَوَاز بيع الثَّمَرَة على رُؤُوس النّخل قبل بَدو صَلَاحهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل فِيهِ ثَمَر النّخل للْبَائِع عِنْد عدم اشْتِرَاط المُشْتَرِي، فَإِذا اشْترط المُشْتَرِي ذَلِك يكون لَهُ، وَيكون المُشْتَرِي مُشْتَريا لَهَا أَيْضا. وَاعْترض الْبَيْهَقِيّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّه يسْتَدلّ بالشَّيْء فِي غير مَا ورد فِيهِ، حَتَّى إِذا جَاءَ مَا ورد فِيهِ اسْتدلَّ بِغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَذَلِك، فيستدل لجَوَاز بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا بِحَدِيث التَّأْبِير، وَلَا يعْمل(12/12)
بِحَدِيث التَّأْبِير. انْتهى. قلت: هَل الْبَيْهَقِيّ عَن الدلالات الْأَرْبَعَة للنَّص، وَهِي عبارَة النَّص وإشارته ودلالته واقتضاؤه، وبهذه يكون الِاسْتِدْلَال بالنصوص، والطَّحَاوِي مَا ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه اسْتدلَّ على مَا ذهب إِلَيْهِ بِإِشَارَة النَّص، والخصم اسْتدلَّ بعبارته، وهما سَوَاء فِي إِيجَاب الحكم، وَلم يُوَافق الْخصم فِي الْعَمَل بعبارته لِأَن عِبَارَته تَعْلِيق الحكم بالإبارة للتّنْبِيه على مَا لم يؤبر أَو لغير ذَلِك، فَافْهَم، فَإِن فِيهِ دقة عَظِيمَة لَا يفهمها إلاَّ من لَهُ يَد فِي وُجُوه الاستدلالات بالنصوص.
4022 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ باعَ نَخْلاً قَدْ أُبِرَّتْ فثَمَرُها لِلْبائِعِ إلاَّ أنْ يَشْتَرطَ المُبْتَاعُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الشُّرُوط عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن هِشَام بن عمار، خمستهم عَن مَالك بِهِ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي أثر نَافِع قبله.
19 - (بابُ بَيْعِ الزَّرْعِ بالطَّعام كَيْلا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الزَّرْع بِالطَّعَامِ كَيْلا، أَي: من حَيْثُ الْكَيْل، نصب على التَّمْيِيز.
5022 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ المُزَابَنَةِ أنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حائِطِهِ إنْ كانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلا وإنْ كانَ كَرْما أنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً أوْ كانَ زَرْعا أنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعامٍ ونَهىَ عنْ ذالِكَ كُلِّهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَإِن كَانَ زرعا أَن يَبِيعهُ بكيل طَعَام. والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ، كِلَاهُمَا فِي الْبيُوع نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات نَحوه.
قَوْله: (عَن الْمُزَابَنَة) ، قد مضى تَفْسِيرهَا غير مرّة. قَوْله: (أَن يَبِيع) ، يدل عَن الْمُزَابَنَة. قَوْله: (ثَمَر حَائِطه) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم، وَأَرَادَ بِهِ الرطب، والحائط هُوَ الْبُسْتَان من النّخل إِذا كَانَ عَلَيْهِ حَائِط، وَهُوَ الْجِدَار، وَجمعه: حَوَائِط. قَوْله: (إِن كَانَ نخلا) أَي: إِن كَانَ الْحَائِط نخلا، وَهَذِه الشُّرُوط تَفْصِيل لَهُ، وَيقدر جَزَاء الشَّرْط الثَّانِي نهى أَن يَبِيعهُ لقَرِينَة السِّيَاق، وَكَذَا يقدر جَزَاء الشَّرْط الأول. وَأما بيع الزَّرْع بِالطَّعَامِ فيسمى بالمحاقلة، وَأطلق عَلَيْهَا الْمُزَابَنَة تَغْلِيبًا أَو تَشْبِيها. وَقد مضى تَفْسِير المحاقلة أَيْضا. قَوْله: (وَنهى عَن ذَلِك) ، أَي: عَن الْمَذْكُور كُله.
وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز بيع الزَّرْع قبل أَن يقطع بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ بيع مَجْهُول بِمَعْلُوم، وَأما بيع رطب ذَلِك بيابسه بعد الْقطع وَإِمْكَان الْمُمَاثلَة فالجمهور لَا يجيزون بيع شَيْء من ذَلِك بِجِنْسِهِ، لَا مُتَفَاضلا وَلَا متماثلاً، خلافًا لأبي حنيفَة. قلت: هَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام: الأول: بيع الثَّمر بالثاء الْمُثَلَّثَة على رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ، وَهُوَ الْمُزَابَنَة وَهُوَ غير جَائِز. وَالثَّانِي: بيع الْعِنَب على رُؤُوس الْكَرم بالزبيب كَيْلا، وَهُوَ أَيْضا الْمُزَابَنَة، وَهُوَ أَيْضا غير جَائِز. وَالثَّالِث: بيع الزَّرْع على الأَرْض بكيل من طَعَام، وَهُوَ الْحِنْطَة، وَهَذَا محاقلة وَهُوَ أَيْضا غير جَائِز. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ المحاقلة بيع الزَّرْع بِالْحِنْطَةِ، والمزابنة بيع الثَّمر على رُؤُوس النَّحْل بِالتَّمْرِ، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم، كَرهُوا بيع المحاقلة والمزابنة. وَقَالَ بَعضهم: وَاحْتج الطَّحَاوِيّ لأبي حنيفَة فِي جَوَاز بيع الزَّرْع الرطب بالحب الْيَابِس بِأَنَّهُم أَجمعُوا على جَوَاز بيع الرطب بالرطب مثلا بِمثل، مَعَ أَن رُطُوبَة أَحدهمَا لَيست كرطوبة الآخر، بل يخْتَلف اخْتِلَافا متباينا، ثمَّ قَالَ: وَتعقب بِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَهُوَ فَاسد، وَبِأَن الرطب بالرطب وَإِن تفَاوت لكنه نُقْصَان يسير، فعفى عَنهُ لقلته، بِخِلَاف الرطب بِالتَّمْرِ. فَإِن تفاوته تفَاوت كثير انْتهى. قلت: ... . .(12/13)
29 - (بابُ بَيْعِ النَّخْلِ بأصْلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع ثَمَر النّخل بِأَصْلِهِ أَي: بِأَصْل النّخل.
6022 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أيُّما امْرِىءٍ أبَّرَ نَخْلاً ثُمَّ باعَ أصْلَها فَللَّذِي أبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ بَاعَ أَصْلهَا) والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث إِلَى آخِره نَحوه، وَتَفْسِير التَّأْبِير قد مضى. قَوْله: (ثمَّ بَاعَ أَصْلهَا) أَي: أصل النّخل، وَالنَّخْل قد يسْتَعْمل مؤنثا نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّخْل باسقات} (ق: 01) . وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة، نَحْو: شجر الْأَرَاك، لِأَن المُرَاد من الأَصْل هُوَ النَّخْلَة لَا أرْضهَا. قَوْله: (إلاَّ أَن يَشْتَرِطه الْمُبْتَاع) أَي: المُشْتَرِي، وَلَفظ الْمُبْتَاع، وَإِن كَانَ عَاما، فالاستثناء يخصصه للْمُشْتَرِي، وَأَيْضًا لفظ الافتعال يدل عَلَيْهِ، يُقَال: كسب لِعِيَالِهِ واكتسب لنَفسِهِ، وَلَا يُقَال: اكْتسب لِعِيَالِهِ. فَافْهَم. وَقَالَ ابْن بطال: ذهب الْجُمْهُور إِلَى منع من اشْترى النّخل وَحده أَن يَشْتَرِي ثمره قبل أَن يَبْدُو صَلَاحه فِي صَفْقَة أُخْرَى، بِخِلَاف مَا لَو اشْتَرَاهَا تبعا للنخل، فَيجوز، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك الْجَوَاز مُطلقًا، قَالَ: وَالْأول أولى لعُمُوم النَّهْي عَن ذَلِك، وَالله أعلم.
39 - (بابُ بَيْعِ المُخَاضَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع المخاضرة، والمخاضرة، بِالْخَاءِ وَالضَّاد المعجمتين: مفاعلة من الخضرة، وَالْمرَاد بهَا: بيع الثِّمَار والحبوب وَهِي خضر قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا.
7022 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ وهْبٍ قَالَ حَدثنَا عُمَرُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني إسْحَاقُ بنُ أبِي طَلْحَةَ الأنصَارِيُّ عَن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ المُحَاقَلَةِ والمُخَاضَرَةِ والمُلامَسَةِ والمُنَابَذَةِ والمُزَابَنَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: والمخاضرة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن وهب العلاف. الثَّانِي: عمر بن يُونُس الْحَنَفِيّ. الثَّالِث: أَبوهُ يُونُس بن الْقَاسِم أَبُو عمر الْحَنَفِيّ. الرَّابِع: إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، واسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه واسطي وَعمر بن يُونُس يمامي وَأَبوهُ كَذَلِك وَإِسْحَاق بن أبي طَلْحَة مدنِي، وَكَانَ يسكن دَار جده بِالْمَدِينَةِ. توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده، وَهَذِه المنهيات خَمْسَة، قد مر تَفْسِير الْكل فِيمَا مضى، وَتَفْسِير المخاضرة فِي أول هَذَا الْبَاب، وَزعم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن فِي بعض الرِّوَايَات: والمخاضرة: بيع الثِّمَار قبل أَن تطعم، وَبيع الزَّرْع قبل أَن يشْتَد ويفرك مِنْهُ، وَقَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا: أَنه لَا يجوز بيع الزَّرْع أَخْضَر إلاَّ الفصيل للدواب. وَأَجْمعُوا: أَنه يجوز بيع الْبُقُول إِذا قلعت من الأَرْض وأحاط المُشْتَرِي بهَا علما. قَالَ: وَمن بيع المخاضرة شراؤها مغيبة فِي الأَرْض كالفجل والكراث والبصل واللفت وَشبهه، فَأجَاز شراءها مَالك. وَقَالَ: إِذا اسْتَقل ورقه وَأمن، والأمان عِنْده أَن يكون مَا يقطع مِنْهُ لَيْسَ بِفساد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: بيع اللفت فِي الأَرْض جَائِز، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز بيع مَا لَا يرى، وَهُوَ عِنْدِي بيع الْغرَر، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلفُوا فِي بيع القثاء والبطيخ وَمَا يَأْتِي بَطنا بعد بطن. فَقَالَ مَالك: يجوز بَيْعه إِذا بدا صَلَاحه، وَيكون للْمُشْتَرِي مَا ينْبت حَتَّى يَنْقَطِع ثمره، لِأَن وقته مَعْرُوف عِنْد النَّاس. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز بيع بطن مِنْهُ إلاَّ بعد طيبه كالبطن الأول، وَهُوَ عِنْدهم من بيع مَا لم يخلق، وَجعله مَالك كالثمرة إِذا بدا صَلَاحهَا جَازَ مَا بدا صلاجه وَمَا لم يبدُ لحاجتهم إِلَى ذَلِك، وَلَو منعُوا مِنْهُم لأضرهم، لِأَن مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرَر يجوز فِيهِ بعض(12/14)
الْغرَر. ألاَ يرى أَن الظِّئْر يكرى لأجل لَبنهَا الَّذِي لم يخلق وَلم يُوجد إلاَّ أَوله، وَلَا يدْرِي كم يشرب الصَّبِي مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَو اكترى عبدا لخدمته فالمنفعة الَّتِي وَقع عَلَيْهَا العقد لم تخلق، وَإِنَّمَا تتجدد أَولا فأولاً، حَتَّى لَو مَاتَ العَبْد تَعَذَّرَتْ المحاسبة على مَا حصل من الْمَنْفَعَة، وَقد جرت الْعَادة فِي الْأَغْلَب إِذا كَانَ الأَصْل سليما من الْآفَات أَن تتتابع بطونها وتتلاحق، وَعدم مشاهدته لَا تدل على بطلَان بَيْعه، بِدَلِيل بيع الْجَوْز واللوز فِي قشورهما وفساده يتَبَيَّن من خَارج.
8022 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ بَيْع ثَمَرِ التَّمْرِ حتَّى تَزْهُو فَقُلْنَا لأِنَسٍ مَا زَهْوُها قَالَ تَحْمَرُّ وتَصْفَرّ أرَأيْتَ أنْ مَنَعَ الله الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مالَ أخِيكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من معنى الحَدِيث، لِأَن الثَّمَرَة قبل زهوها خضراء، فَتدخل فِي بيع المخاضرة، قبل الزهو، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن كثير أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمَدِينِيّ. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي ابْن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.
قَوْله: (ثَمَر التَّمْر) ، الأول بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْمِيم، وَالثَّانِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْمِيم، ويروى: بيع الثَّمر، بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى شَيْء. قَوْله: (أَرَأَيْت) ، مَعْنَاهُ أَخْبرنِي. قَوْله: (أَن منع الله الثَّمَرَة) يَعْنِي: لم يخرج شَيْء. قَوْله: (بِمَ تستحل؟) يَعْنِي: إِذا تلف الثَّمر لَا يبْقى فِي مُقَابلَة شَيْء عوض ذَلِك، فَيكون البَائِع آكلاً لمَال غَيره بِالْبَاطِلِ. وَاحْتِمَال التّلف بعد الزهو، وَإِن كَانَ مُمكنا، لَكِن تطرقه إِلَى الباذي أسْرع وَأظْهر وَأكْثر.
49 - (بابُ بَيْعِ الجُمَّارِ وأكْلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْجمار، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، هُوَ قلب النَّخْلَة. وَيُقَال: شحمها. قَوْله: (وَأكله) أَي: وَفِي بَيَان حكم أكله.
9022 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ هِشامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبِي بِشْرٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ يَأكُلُ جُمَّارا فَقَالَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةُ كالرَّجُلِ المُؤْمِنِ فأرَدْتُ أنْ أقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فإذَا أَنا أحدِّثُهُمْ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ. .
هَذِه التَّرْجَمَة لَهَا جزءان. أَحدهمَا: بيع الْجمار، وَالْآخر: أكله، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ الْأكل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا الَّذِي يدل على بيع الْجمار؟ ثمَّ قَالَ: جَوَاز أكله. وَلَعَلَّ الحَدِيث مُخْتَصر مِمَّا فِيهِ ذَلِك، أَو غَرَضه الْإِشَارَة إِلَى أَنه لم يجد حَدِيثا يدل عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ انْتهى. قلت: الْجَواب الأول أوجه من الآخرين. وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: بيع الْجمار وَأكله من الْمُبَاحَات بِلَا خلاف، وكل مَا انْتفع بِهِ للْأَكْل فبيعه جَائِز. وَقَالَ بَعضهم: فَائِدَة التَّرْجَمَة دفع توهم الْمَنْع من ذَلِك لكَونه قد يظنّ إفسادا وإضاعة وَلَيْسَ كَذَلِك. قلت: الْمَقْصُود من التَّرْجَمَة أَن يدل على شَيْء فِي الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ فِي بَابهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَه أَجْنَبِي من ذَلِك. وَلَيْسَ بِشَيْء على مَا لَا يخفى.
وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب طرح الإِمَام الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَهنا أخرجه: عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن أبي بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: جَعْفَر بن أبي وحشية، واسْمه: إِيَاس الْبَصْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَهُوَ يَأْكُل جمارا) جملَة حَالية، وَهَذِه الْجُمْلَة لَيست مَذْكُورَة هُنَاكَ فَلذَلِك هُنَا ترْجم للْأَكْل. قَوْله: (فَإِذا أَنا) كلمة: إِذا، للمفاجأة. وَقَوله: (أحدثهم) جوابها، أَي: أَصْغَرهم، فَمَعْنَى الصغر فِي السن أَن أتقدم على الأكابر وأتكلم بحضورهم.
وَفِيه: أكل الشَّارِع بِحَضْرَة الْقَوْم تواضعا، وَلَا عِبْرَة بقول بَعضهم: إِنَّه يكره أظهاره، وَإنَّهُ يخفى مدخله كَمَا يخفى مخرجه. وَفِيه: مُرَاعَاة الصغار الْأَدَب بِحُضُور الْكِبَار.(12/15)
59 - (بابُ منْ أجْرَى أمْرَ الأمْصَارِ عَلَى مَا يتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي البُيُوعِ والإجَارَةِ والمِكْيَالِ والوَزْنِ وسُنَنهمْ عَلِى نِيَّاتِهِمْ ومَذَاهِبِهِمْ المَشْهُورَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من أجْرى أمرهَا إِلَى الْأَمْصَار على مَا يَتَعَارَفُونَ بَينهم، أَي: على عرفهم وعوائدهم فِي أَبْوَاب الْبيُوع والإجارات والمكيال، وَفِي بعض النّسخ: والكيل وَالْوَزْن مثلا بِمثل، كل شَيْء لم ينص عَلَيْهِ الشَّارِع أَنه كيلي أَو وزني يعْمل فِي ذَلِك على مَا يتعارفه أهل تِلْكَ الْبَلدة مثلا: الْأرز فَإِنَّهُ لم يَأْتِ فِيهِ نَص من الشَّارِع أَنه كيلي أَو وزني، فَيعْتَبر فِي عَادَة أهل كل بَلْدَة على مَا بَينهم من الْعرف فِيهِ، فَإِنَّهُ فِي الْبِلَاد المصرية يُكَال، وَفِي الْبِلَاد الشامية يُوزن، وَنَحْو ذَلِك من الْأَشْيَاء، لِأَن الرُّجُوع إِلَى الْعرف جملَة من الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة.
قَوْله: (وسننهم) ، عطف على مَا يَتَعَارَفُونَ بَينهم أَي: على طريقتهم الثَّابِتَة على حسب مقاصدهم وعاداتهم الْمَشْهُورَة.
وَحَاصِل الْكَلَام أَن البُخَارِيّ قصد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِثْبَات الِاعْتِمَاد على الْعرف وَالْعَادَة.
وَقَالَ شُرَيْحٌ للْغَزَّالِينَ سنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ رِبْحا
شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ القَاضِي من عهد عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (للغزالين) هُوَ جمع: غزال، وَهُوَ بياع الْغَزل. قَوْله: (سنتكم) ، يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (بَيْنكُم) ، يَعْنِي: عادتكم وطريقتكم بَيْنكُم مُعْتَبرَة، وَأما النصب فعلى تَقْدِير إلزموا سنتكم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن سِيرِين: أَن نَاسا من الغزالين اخْتَصَمُوا إِلَى شُرَيْح فِي شَيْء كَانَ بَينهم، فَقَالُوا: إِن سنتنا بَيْننَا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: سنتكم بَيْنكُم. قَوْله: (ربحا) ، قيل: لَا معنى لَهُ هَهُنَا، وَإِنَّمَا مَحَله فِي آخر الْأَثر الَّذِي بعده. قلت: هَكَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، وَلكنه غير صَحِيح، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة هُنَا لَا فَائِدَة لَهَا وَلَا معنى يُطَابق الْأَثر.
وَقَالَ عَبْدُ الوهَّابِ عنْ أيّوبَ عَن محَمَّدٍ لاَ بأسَ الْعَشْرَةُ بأحَدَ عَشَرَ ويأخُذُ لِلْنَّفقَةِ رِبحا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عرف الْبَلَد أَن الْمُشْتَرى بِعشْرَة دَرَاهِم يُبَاع بِأحد عشر، فَبَاعَهُ المُشْتَرِي على ذَلِك الْعرف لم يكن بِهِ بَأْس، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْوَهَّاب، هَذَا. قَوْله: (لَا بَأْس الْعشْرَة بِأحد عشر) ، أَي: لَا بَأْس أَن يَبِيع مَا اشْتَرَاهُ بِمِائَة دِينَار مثلا كل عشرَة مِنْهُ بِأحد عشر، فَيكون رَأس المَال عشرَة وَالرِّبْح دِينَارا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْعشْرَة، بِالرَّفْع وَالنّصب إِذا كَانَ عرف الْبَلَد أَن الْمُشْتَرى بِعشْرَة دَرَاهِم يُبَاع بِأحد عشر درهما، فيبيعه على ذَلِك الْعرف، فَلَا بَأْس بِهِ. وَيَأْخُذ لأجل النَّفَقَة ربحا. قلت: أما وَجه الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (بِأحد عشر) ، وَالتَّقْدِير: تبَاع بِأحد عشر. وَأما النصب فعلى تَقْدِير: بيع الْعشْرَة، يَعْنِي: الْمُشْتَرى بِعشْرَة، بِأحد عشر.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَأَجَازَهُ قوم وَكَرِهَهُ آخَرُونَ، وَمِمَّنْ كرهه ابْن عَبَّاس وَابْن عمر ومسروق وَالْحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق. قَالَ أَحْمد: البيع مَرْدُود، وَأَجَازَهُ ابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَحجَّة من كرهه لِأَنَّهُ بيع مَجْهُول، وَحجَّة من أجَازه بِأَن الثّمن مَعْلُوم وَالرِّبْح مَعْلُوم وأصل هَذَا الْبَاب بيع الصُّبْرَة كل قفيز بدرهم وَلَا يعلم مقدارها من الطَّعَام، فَأَجَازَهُ قوم وأباه آخَرُونَ، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا يلْزم إِلَّا القفيز الْوَاحِد. وَعَن مَالك: لَا يَأْخُذ فِي الْمُرَابَحَة أجر السمسار وَلَا أجر الشد والطي وَلَا النَّفَقَة على الرَّقِيق، وَلَا كِرَاء الْبَيْت، وَإِنَّمَا يحْسب هَذَا فِي أصل المَال وَلَا يحْسب لَهُ ربح، وَأما كِرَاء الْبَز فيحسب لَهُ الرِّبْح لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهُ، فَإِن أربحه الْمُشْتَرى على مَا لَا تَأْثِير لَهُ جَازَ إِذا رَضِي بذلك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يحْسب فِي الْمُرَابَحَة أُجْرَة القصارة والسمسرة وَنَفَقَة الرَّقِيق وكسوتهم، وَيَقُول: قَامَ عَليّ بِكَذَا، وَلَا يَقُول: اشْتَرَيْته بِكَذَا.
قَوْله: (وَيَأْخُذ للنَّفَقَة) ، أَي: لأجل النَّفَقَة ربحا، هَذَا مَحل ذكر الرِّبْح، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقد ذكرنَا الْآن خلاف مَالك فِيهِ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِهِنْدٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وولَدَكِ بِالمَعْرُوفِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لهِنْد: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ عَادَة النَّاس، وَهَذَا(12/16)
يدل على أَن الْعرف عمل جَار. وَقَالَ ابْن بطال: الْعرف عِنْد الْفُقَهَاء أَمر مَعْمُول بِهِ، وَهُوَ كالشرط اللَّازِم فِي الشَّرْع، وَمِمَّا يدل على مَا قَالَه قَضِيَّة هِنْد بنت عتبَة زوج أبي سُفْيَان وَالِد مُعَاوِيَة، وَهَذَا التَّعْلِيق يَأْتِي الْآن مَوْصُولا.
وَذكر ابْن بطال بعض مسَائِل من الْفِقْه الَّتِي يعْمل فِيهَا بِالْعرْفِ. مِنْهَا: لَو وكل رجل رجلا على بيع سلْعَة فَبَاعَهَا بِغَيْر النَّقْد الَّذِي هُوَ عرف النَّاس لم يجز ذَلِك، وَلَزِمَه النَّقْد الْجَارِي. وَكَذَا: لَو بَاعَ طَعَاما مَوْزُونا أَو مَكِيلًا بِغَيْر الْوَزْن أَو الْكَيْل الْمَعْهُود لم يجز، وَلزِمَ الْكَيْل الْمَعْهُود الْمُتَعَارف من ذَلِك.
وَقَالَ تَعَالَى: {ومَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيأكُل بالمَعْرُوف} (النِّسَاء: 6) .
هَذَا من التَّرْجَمَة، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر فِي صدر الْبَاب أَو يكْتَفى بِذكرِهِ فِي حَدِيث عَائِشَة الْآتِي فِي هَذَا الْبَاب، وَالْمرَاد مِنْهُ فِي التَّرْجَمَة حِوَالَة، وَإِلَى الْيَتِيم فِي أكله من مَاله على الْعرف.
واكْتَرَى الحَسَنُ مِنْ عَبْدِ الله بنِ مِرْدَاسِ حِمَارا فَقَالَ بِكَمْ قَالَ بِدَانِقَيْنِ فَرَكِبَهُ ثُمَّ جاءَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ الحِمَارَ الحِمَارَ فَرَكِبَهُ ولَمْ يُشَارِطْهُ فبَعَثَ إلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْحسن لم يشارط المكاري فِي الْمرة الثَّانِيَة اعْتِمَادًا على الْأُجْرَة الْمُتَقَدّمَة، وَزَاد بعد ذَلِك على الْأُجْرَة الْمُتَقَدّمَة على سَبِيل الْفضل. وَقد جرى الْعرف أَن شخصا إِذا اكترى حمارا أَو فرسا أَو جملا للرُّكُوب إِلَى مَوضِع معِين بِأُجْرَة مُعينَة، ثمَّ فِي ثَانِي مرّة إِذا أَرَادَ ركُوب حمَار هَذَا على الْعَادة لَا يشارطه الْأُجْرَة لاستغنائه عَن ذَلِك، بِاعْتِبَار الْعرف الْمَعْهُود بَينهمَا، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَعبد الله بن مرادس، بِكَسْر الْمِيم: هُوَ صَاحب الْحمار الَّذِي اكتراه مِنْهُ الْحسن. وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن يُونُس فَذكر مثله.
قَوْله: (بدانقين) ، تَثْنِيَة دانق بِفَتْح النُّون وَكسرهَا: وَهُوَ سدس الدِّرْهَم. قَوْله: (فَرَكبهُ) ، فِيهِ حذف أَي: فَرضِي الْحسن بدانقين فَأَخذه فَرَكبهُ. قَوْله: (ثمَّ جَاءَ) ، أَي: الْحسن مرّة أُخْرَى إِلَى عبد الله بن مرداس، فَقَالَ: الْحمار الْحمار، بالتكرار وَيجوز فيهمَا النصب وَالرَّفْع، أما النصب فعلى تَقْدِير: هَات الْحمار، فينصب على المفعولية، وَأما الرّفْع فعلى الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: الْحمار مَطْلُوب، أَو أطلب، أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَلم يشارطه) ، يَعْنِي الْأُجْرَة اعْتِمَادًا على الْأُجْرَة الْمُتَقَدّمَة للْعُرْف بذلك. قَوْله: (فَبعث إِلَيْهِ) أَي: بعث الْحسن إِلَى عبد الله الْمَذْكُور (بِنصْف دِرْهَم) فَزَاد على الدانقين دانقا آخر على سَبِيل الْفضل وَالْكَرم.
0122 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ حَجَمَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبُو طَيْبَةَ فأمَرَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصاعٍ مِنْ تَمْرٍ وأمَرَ أهْلَه أنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يشارط الْحجام الْمَذْكُور على أجرته اعْتِمَادًا على الْعرف فِي مثله، وَقد مضى الحَدِيث بِعَيْنِه إِسْنَادًا ومتنا فِيمَا مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب ذكر الْحجام، غير أَن هُنَاكَ: حجم أَبُو طيبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهنا: حجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو طيبَة.
1122 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ هِشَامٍ عنْ عُروَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعاوِيَة لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أَبَا سُفْيانَ رَجُلٌ شَحِيحُ فَهَلْ عَلَيَّ جُناح أنْ اخُذَ مِنْ مالِهِ سِرّا قَالَ خُذِي أنْتِ وبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بالمَعْرُوفِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خذي أَنْت وبنوك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ) من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحالها على الْعرف فِيمَا لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيد شَرْعِي. وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، نَص عَلَيْهِ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) [/ ح.
والْحَدِيث(12/17)
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن كثير، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
قَوْله: (هِنْد) يصرف وَلَا يصرف، وَهِي بنت عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف، زَوْجَة أبي سُفْيَان، أسلمت عَام الْفَتْح وَمَاتَتْ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأَبُو سُفْيَان اسْمه: صَخْر بن حَرْب ضد الصُّلْح ابْن أُميَّة بن عبد شمس، أسلم يَوْم فتح مَكَّة، وَكَانَ رَئِيس قُرَيْش يَوْمئِذٍ، وَقد مر فِي حَدِيث هِرقل. قَوْله: (شحيح) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وبالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ، والشحيح: هُوَ الْبَخِيل الْحَرِيص. قَوْله: (جنَاح) ، بِضَم الْجِيم: أَي: إِثْم. قَوْله: (أَن آخذ) أَي: بِأَن آخذ، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (سرا) ، نصب على التَّمْيِيز أَي: من حَيْثُ السِّرّ، وَيجوز أَن يكون صفة لمصدر مَحْذُوف أَي أخذا سرا غير جهر، قَوْله: (وبنوك) ، ويروى: وبنيك، بِالْجَرِّ. أما وَجه الأول فعلى أَنه مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: خذي، وَإِنَّمَا ذكر أَنْت ليَصِح الْعَطف عَلَيْهِ، وَفِيه خلاف بَين الْبَصرِيين والكوفيين، وَأما النصب فعلى أَنه مفعول مَعَه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مُقْتَضى الْمقَام أَن يُقَال أَيْضا: وَمَا يَكْفِي بنيك، أَو: مَا يكفيكم. قلت: تَقْدِيره: مَا يَكْفِي لنَفسك ولبنيك، وَاقْتصر عَلَيْهَا لِأَنَّهَا هِيَ الكافلة لأمورهم. وَقَالَ أَيْضا: فَإِن قلت: هَذِه الْقِصَّة بِمَكَّة وَأَبُو سُفْيَان فِيهَا، فَكيف حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غيبته وَهُوَ فِي الْبَلَد؟ قلت: هَذَا لم يكن حكما بل كَانَ فَتْوَى. انْتهى. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَاسْتدلَّ بِحَدِيث هِنْد على الْقَضَاء على الْغَائِب، وبالإفتاء لِأَن زَوجهَا أَبَا سُفْيَان كَانَ متواريا بهَا. انْتهى. قلت: لم يكن غَائِبا وَلَا متواريا. وَقَالَ السُّهيْلي: كَانَ حَاضرا سؤالها، فَقَالَ: أَنْت فِي حل مِمَّا أخذت، فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ على جَوَاز الْقَضَاء على الْغَائِب.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: نَفَقَة الزَّوْجَة وَالْأَوْلَاد الصغار، وَأَنَّهَا مقدرَة بالكفاية. قَالَ: وَفِيه: أَخذ الْحق من مَال الْغَيْر بِدُونِ إِذْنه. قلت: لَيْسَ هَذَا على إِطْلَاقه بل هَذَا إِذا ظفر بِجِنْس حَقه، وَفِي خلاف جنس حَقه لَا بُد من إِذْنه أَو إِذن الْحَاكِم. قَالَ: وَفِيه: إِطْلَاق الْفَتْوَى وَإِرَادَة تَعْلِيقهَا بِمَا يَقُوله المستفتي. وَفِيه: خُرُوج الْمُزَوجَة من بَيتهَا لحاجتها إِذا علمت رضى الزَّوْج بِهِ.
154 - (حَدثنِي إِسْحَاق قَالَ حَدثنَا ابْن نمير قَالَ أخبرنَا هِشَام ح وحَدثني مُحَمَّد قَالَ سَمِعت عُثْمَان بن فرقد قَالَ سَمِعت هِشَام بن عُرْوَة يحدث عَن أَبِيه أَنه سمع عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ أنزلت فِي وَالِي الْيَتِيم الَّذِي يُقيم عَلَيْهِ وَيصْلح فِي مَاله إِن كَانَ فَقِيرا أكل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله أكل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ. (ذكر رِجَاله) وهم سَبْعَة. الأول اسحق قَالَ الغساني لم أَجِدهُ مَنْسُوبا لأحد من الروَاة وَقَالَ خلف وَغَيره فِي الْأَطْرَاف أَنه اسحق بن مَنْصُور واستخرج أَبُو نعيم هَذَا الحَدِيث من مُسْند اسحق بن رَاهَوَيْه عَن ابْن نمير وَقَالَ أخرجه البُخَارِيّ عَن اسحق وَقَالَ فِي التَّفْسِير أخرجه البُخَارِيّ عَن اسحق بن مَنْصُور. الثَّانِي ابْن نمير هُوَ عبد الله بن نمير بِضَم النُّون وَقد مر فِي التَّيَمُّم. الثَّالِث هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع مُحَمَّد بن الْمثنى الْمَشْهُور بالزمن وَقد مر فِي الْإِيمَان كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَيُقَال هُوَ مُحَمَّد بن سَلام وَالظَّاهِر أَنه هُوَ الأول. الْخَامِس عُثْمَان بن فرقد بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة على وزن جَعْفَر هُوَ الْعَطَّار فِيهِ مقَال لَكِن البُخَارِيّ لم يخرج لَهُ مَوْصُولا إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَقد قرنه بِابْن نمير وَذكر لَهُ آخر تَعْلِيقا فِي الْمَغَازِي. السَّادِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّابِع أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن شَيْخه اسحق إِن كَانَ ابْن مَنْصُور فَهُوَ مروزي انْتقل إِلَى نيسابور وَإِن كَانَ هُوَ ابْن رَاهَوَيْه فَكَذَلِك مروزي انْتقل إِلَى نيسابور وَفِيه أَن شَيْخه الآخر إِن كَانَ ابْن الْمثنى فَهُوَ بَصرِي وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن سَلام فَهُوَ البُخَارِيّ البيكندي وَفِيه أَن عبد الله بن نمير كُوفِي وَأَن عُثْمَان بن فرقد بَصرِي وَأَن هشاما وأباه عُرْوَة مدنيان "(12/18)
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن نمير عَن هِشَام فِي التَّفْسِير وَمن طَرِيق عُثْمَان بن فرقد من أَفْرَاده وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي كريب عَن عبد الله بن نمير (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ " هَذَا فِي سُورَة النِّسَاء وَأول الْآيَة {وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم وَكفى بِاللَّه حسيبا} قَوْله " وابتلوا الْيَتَامَى " أَي اختبروهم قَالَه ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَالْحسن وَالسُّديّ وَمُقَاتِل بن حَيَّان قَوْله " حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح " قَالَ مُجَاهِد يَعْنِي الْحلم قَوْله " فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا " يَعْنِي صلاحا فِي دينهم وحفظا لأموالهم قَالَه سعيد بن جُبَير ثمَّ نهى الله عَن أكل أَمْوَال الْيَتَامَى من غير حَاجَة ضَرُورِيَّة إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم قَوْله " وَمن كَانَ غَنِيا " أَي من كَانَ فِي غنية عَن مَال الْيَتِيم فليستعفف عَنهُ وَلَا يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا قَوْله " أنزلت " أَي هَذِه الْآيَة فِي وَالِي الْيَتِيم وَهُوَ الَّذِي يَلِي أمره ويتولاه قَوْله " الَّذِي يُقيم عَلَيْهِ " قَالَ ابْن التِّين الصَّوَاب يقوم لِأَنَّهُ من الْقيام لَا من الْإِقَامَة قلت لَا مَانع من ذَلِك لِأَن مَعْنَاهُ يلازمه ويعتكف عَلَيْهِ أَو يُقيم نَفسه عَلَيْهِ وَكَذَا أخرجه أَبُو نعيم عَن هِشَام من وَجه آخر وَذهل صَاحب التَّوْضِيح عَن هَذَا الْمَعْنى وَقَالَ الصَّوَاب يقوم بِالْوَاو وَلِأَن يُقيم مُتَعَدٍّ بِغَيْر حرف جر قَوْله " أكل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ " يَعْنِي بِقدر قِيَامه عَلَيْهِ وَقَالَ الْفُقَهَاء لَهُ أَن يَأْكُل أقل الْأَمريْنِ أُجْرَة مثله أَو قدر حَاجته وَاخْتلفُوا هَل يرد إِذا أيسر على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا لَا لِأَنَّهُ أكل بِأُجْرَة عمله وَكَانَ فَقِيرا وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي لِأَن الْآيَة أَبَاحَتْ الْأكل من غير بدل وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا حُسَيْن عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَيْسَ لي مَال ولي يَتِيم فَقَالَ " كل من مَال يَتِيمك غير مُسْرِف وَلَا مبذر وَلَا متاثل مَالا وَمن غير أَن تَقِيّ مَالك " وَقَالَ تفدي مَالك شَاك حُسَيْن وروى ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من حَدِيث عَليّ بن مهْدي عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن أبي عَامر الخراز عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله مِمَّا أضْرب يَتِيمِي قَالَ " مَا كنت ضَارِبًا مِنْهُ ولدك غير واق مَالك بِمَالِه وَلَا متاثل مِنْهُ مَالا " وَقَالَ ابْن جرير حَدثنَا الْحسن بن يحيى أخبرنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا الثَّوْريّ عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ إِن فِي حجري أيتاما وَإِن لَهُم إبِلا ولي إبل وَأَنا أمنح فِي إبلي وأفقر فَمَاذَا يحل لي من أَلْبَانهَا فَقَالَ إِن كنت تبغي ضَالَّتهَا وَتَهْنَأ جَرْبَاهَا وَتَلوط حَوْضهَا وتسقي عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غير مُضر بِنَسْل وَلَا نَاهِك فِي الْحَلب وَبِهَذَا القَوْل وَهُوَ عدم الْبَدَل يَقُول عَطاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعطية الْعَوْفِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّانِي نعم لِأَن مَال الْيَتِيم على الْخطر وَإِنَّمَا أُبِيح للْحَاجة فَيرد بدله كَأَكْل مَال الْغَيْر للْمُضْطَر عِنْد الْحَاجة قَوْله " وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ " يَعْنِي الْقَرْض كَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس وروى من طَرِيق السّديّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ قَالَ يَأْكُل بِثَلَاث أَصَابِع وَقَالَ الشّعبِيّ لَا يَأْكُل مِنْهُ إِلَّا أَن يضْطَر إِلَيْهِ كَمَا يضْطَر إِلَى الْميتَة فَإِن أكل مِنْهُ قَضَاهُ رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَقيل أَن الْوَلِيّ يستقرض من مَال الْيَتِيم إِذا افْتقر وَبِه قَالَ عُبَيْدَة وَعَطَاء وَأَبُو الْعَالِيَة وَقيل فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ فِي مَال نَفسه لِئَلَّا يحْتَاج إِلَى مَال الْيَتِيم وَقَالَ مُجَاهِد لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يَأْخُذ قرضا وَلَا غَيره وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَذهب إِلَى أَن الْآيَة مَنْسُوخَة نسختها {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} قَوْله " فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم " يَعْنِي بعد بلوغهم الْحلم وإيناس الرشد فَحِينَئِذٍ سلموهم أَمْوَالهم فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم لِئَلَّا يَقع من بَعضهم جحود وإنكار لما قَبضه وتسلمه قَوْله " وَكفى بِاللَّه حسيبا " أَي محاسبا وَشَاهدا ورقيبا على الْأَوْلِيَاء فِي حَال نظرهم للْأُم حَال تسلمهم الْأَمْوَال هَل هِيَ كَامِلَة وفرة أَو نَاقِصَة مبخوسة مدحلسة مروج حسباها مُدَلّس أمورها الله عَالم بذلك كُله وَلِهَذَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يَا أَبَا ذَر إِنِّي أَرَاك ضَعِيفا وَإِنِّي أحب لَك مَا أحب لنَفْسي لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين مَال يَتِيم " -(12/19)
69 - (بابُ بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الشَّرِيك من شَرِيكه.
3122 - حدَّثني مَحْمُودٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مالٍ لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الشُّفْعَة لَا تقوم إلاَّ بالشفيع، وَهُوَ إِذا أَخذ الدَّار الْمُشْتَركَة بَينه وَبَين رجل حِين بَاعَ مَا يَخُصُّهُ بِالشُّفْعَة فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ من شَرِيكه فَصدق عَلَيْهِ أَنه بيع الشَّرِيك من الشَّرِيك. ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة، وَعبد الرَّزَّاق ابْن همام، وَمعمر ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأَبُو سَلمَة ابْن عبد الرحمان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب وَفِيه وَفِي الشّركَة وَفِي الشُّفْعَة عَن مُسَدّد، وَفِي الشّركَة وَفِي ترك الْحِيَل عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن عبد بن حميد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي كل مَال لم يقسم) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي عَن قريب فِي كل مَا لم يقسم، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن عبد الرَّزَّاق: فِي كل مَا لم يقسم، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَنهُ فَقَالَ: فِي الْأَمْوَال مَا لم يقسم، وَالْمرَاد من قَوْله: فِي كل مَا لم يقسم: الْعقار وَإِن كَانَ اللَّفْظ عَاما، قَوْله: (فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شَفَقَة) ، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تكون مقسومة غير مشاعة. قَوْله: (صرفت) على صِيغَة الْمَجْهُول، بتَشْديد الرَّاء وتخفيفها.
ذكر مَذَاهِب الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب: مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر: أَن لَا شُفْعَة إلاَّ لِشَرِيك لم يقاسم، وَلَا تجب الشُّفْعَة بالجوار، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر الْمَذْكُور، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الشُّفْعَة فِي كل شرك بِأَرْض أَو ربع أَو حَائِط لَا يصلح أَن يَبِيع حَتَّى يعرض على شَرِيكه فَيَأْخُذ أَو يدع) . وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد أَيْضا، وَاحْتج الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ وَإِسْحَاق وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو عبيد والظاهرية: أَن أحد الشَّرِيكَيْنِ إِذا عرض عَلَيْهِ الآخر فَلم يَأْخُذ سقط حَقه من الشُّفْعَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن الحكم بن عتيبة أَيْضا.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم: لَا يسْقط حَقه بذلك، بل لَهُ أَن يَأْخُذ بعد البيع لِأَن الشُّفْعَة لم تجب بعد، وَإِنَّمَا تجب لَهُ بعد البيع، فَتَركه مَا لم يجب لَهُ بعد لَا معنى لَهُ، وَلَا يسْقط حَقه إِذا وَجب. وَقَالَ النَّخعِيّ وَشُرَيْح القَاضِي وَالثَّوْري وَعَمْرو بن حُرَيْث وَالْحسن بن حَيّ وَقَتَادَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: تجب الشُّفْعَة فِي الْأَرَاضِي والرباع والحوائط للشَّرِيك الَّذِي لم يقاسم ثمَّ للشَّرِيك الَّذِي قَاسم وَقد بَقِي حق طَرِيقه أَو شربه، ثمَّ من بعدهمَا للْجَار الملازق وَهُوَ الَّذِي دَاره على ظهر الدَّار المشفوعة، وبابه فِي سكَّة أُخْرَى، وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه قَالَ: الشُّفْعَة فِي كل شَيْء حَتَّى فِي الثَّوْب، وَحكى مقَالَة عَطاء عَن بعض الشَّافِعِيَّة وَمَالك، وَأنْكرهُ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد، وَحكى عَن مَالك وَأحمد وجوب الشُّفْعَة فِي السفن، وَفِي (حاوي) الْحَنَابِلَة: وكل مَا لَا يقسم وَلَا هُوَ مُتَّصِل بعقار كالسيف والجوهرة وَالْحجر وَالْحَيَوَان وَمَا فِي معنى ذَلِك، فَفِي وجوب الشُّفْعَة فِيهِ رِوَايَتَانِ ذكرهمَا ابْن أبي مُوسَى، وَلَا تُؤْخَذ الثِّمَار بِالشُّفْعَة تبعا، ذكره القَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخطاب، تُؤْخَذ، وعَلى ذَلِك يخرج الزَّرْع، وَلَا شُفْعَة فِيمَا يقسم من المنقولات بِحَال. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) ؛ وَلَا شُفْعَة فِي المنقولات سَوَاء بِيعَتْ وَحدهَا أم مَعَ الأَرْض، وَيثبت فِي الأَرْض سَوَاء بيع الشّقص مِنْهَا وَحده أم مَعَ شَيْء من المنقولات، وَمَا كَانَ مَنْقُولًا ثمَّ أثبت فِي الأوض للدوام كالأبنية وَالْأَشْجَار، فَإِن بِيعَتْ مُنْفَرِدَة فَلَا شُفْعَة فِيهَا على الصَّحِيح.(12/20)
وَلَو كَانَ على الشّجر ثَمَرَة مؤبرة وأدخلت فِي البيع بِالشّرطِ لم تثبت فِيهَا الشُّفْعَة، فَيَأْخُذ الشَّفِيع الأَرْض والنخيل بحصتهما، وَإِن كَانَت غير مؤبرة دخلت فِي البيع، وَهل للشَّفِيع أَخذهَا؟ وَجْهَان أَو قَولَانِ أصَحهمَا: نعم. انْتهى.
ثمَّ اخْتلف من يَقُول بِالشُّفْعَة للْجَار، فَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: لَا شُفْعَة إلاَّ للْجَار الملازق، وَقَالَ الْحسن بن حَيّ: للْجَار مُطلقًا بعد الشَّرِيك، وَقَالَ آخَرُونَ: الْجَار الَّذِي تجب لَهُ الشُّفْعَة أَرْبَعُونَ دَارا حول الدَّار. وَقَالَ آخَرُونَ: من كل جَانب من جَوَانِب الدَّار أَرْبَعُونَ دَارا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كل من صلى مَعَه صَلَاة الصُّبْح فِي الْمَسْجِد، وَقَالَ بَعضهم: أهل الْمَدِينَة كلهم جيران، وَحجَّة أَصْحَابنَا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَحَادِيث رويت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، فَقَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد البرنسي، قَالَ: حَدثنَا عَليّ ابْن صَالح الْقطَّان وَأحمد بن حبَان، قَالَا: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) . وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا فِي (مُسْنده) . فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلَا يعرف حَدِيث قَتَادَة عَن أنس إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس؟ قلت: مَا لعيسى بن يُونُس فَإِنَّهُ حجَّة ثَبت، فَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ حِين سُئِلَ عَنهُ: بخٍ بخٍ ثِقَة مَأْمُون، وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار عِيسَى: حجَّة، وَهُوَ أثبت من إِسْرَائِيل. وَقَالَ الْعجلِيّ: كَانَ ثبتا فِي الحَدِيث، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا يضر كَون الحَدِيث عَنهُ وَحده. وَمِنْهَا: حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا عَليّ بن حجر، قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن علية عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من سِتَّة طرق صِحَاح أَحدهَا مُرْسل. فَإِن قلت: الْحسن لم يسمع من سَمُرَة إلاَّ ثَلَاثَة أَحَادِيث، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا؟ قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنَّه سمع مِنْهُ عدَّة أَحَادِيث، وَقَالَ الْحَاكِم فِي أثْنَاء كتاب الْبيُوع من (الْمُسْتَدْرك) : قد احْتج البُخَارِيّ بالْحسنِ عَن سَمُرَة، وَذَلِكَ بعد أَن روى حَدِيثا من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكرَة حَدثنَا أَبُو أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الحكم عَمَّن سمع عليا وَعبد الله بن مَسْعُود يَقُولَانِ: قضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالجوار. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: حَدثنَا جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور عَن الحكم عَن عَليّ وَعبد الله قَالَا: قضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالشُّفْعَة للجوار. قلت: فِي سَنَد الطَّحَاوِيّ مَجْهُول، وَفِي سَنَد ابْن أبي شيبَة الحكم عَن عَليّ، وَالْحكم لم يدْرك عليا وَلَا عبد الله. وَمِنْهَا: حَدِيث عَمْرو بن حُرَيْث، أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح مثل الحَدِيث الَّذِي قبله، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا على عَمْرو بن حُرَيْث أَنه: كَانَ يقْضِي بالجوار، أَي يقْضِي للْجَار بِالشُّفْعَة بِسَبَب الْجوَار، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كتب إِلَى شُرَيْح أَن يقْضِي بِالشُّفْعَة للْجَار الملازق، وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة نَحوه، وَفِيه: فَكَانَ شُرَيْح يقْضِي للرجل من أهل الْكُوفَة على الرجل من أهل الشَّام، وَأجَاب الْأَصْحَاب عَن حَدِيث الْبَاب أَن جَابِرا قَالَ: جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَة فِي كل مَال لم يقسم، وَلَفظه فِي حَدِيثه الثَّانِي الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب: قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِي كل مَا لم يقسم، وَهَذَانِ اللفظان إِخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا قضى، ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك، فَإِذا وَقعت الْحُدُود ... إِلَى آخِره، وَهَذَا قَول من رأى جَابِرا لم يحكه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا يكون هَذَا حجَّة علينا أَن لَو كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك على أَنه روى عَن جَابر أَيْضا أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْجَار أَحَق بشفعة جَاره، فَإِن كَانَ غَائِبا انْتظر إِذا كَانَ طريقهما وَاحِدًا، أخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَلَاث طرق صِحَاح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وَلَا نعلم أحدا روى هَذَا الحَدِيث غير عبد الْملك بن مَالك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن جَابر، وَقد تكلم شُعْبَة فِي عبد الْملك من أجل هَذَا الحَدِيث، وَعبد الْملك ثِقَة مَأْمُون عِنْد أهل الحَدِيث لَا نعلم أحدا تكلم فِيهِ غير شُعْبَة من أجل هَذَا الحَدِيث، وَقد روى وَكِيع عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك هَذَا الحَدِيث، وروى عَن ابْن الْمُبَارك عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، قَالَ: عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان ميزَان، يَعْنِي: فِي الْعلم.(12/21)
79 - (بابُ بَيْعِ الأرْضِ والدُّورِ والعُرُوضِ مُشاعا غَيْرَ مَقْسُومٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الأَرْض ... إِلَى آخِره. قَوْله: (الدؤر) بِالْهَمْز وَالْوَاو كليهمَا بِالْوَاو فَقَط جمع دَار، وَالْعرُوض بالضاد الْمُعْجَمَة جمع عرض بِالْفَتْح، وَهُوَ الْمَتَاع. قَوْله: (مشَاعا) ، نصب على الْحَال، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: مشاعة، لَكِن لما صَار: الْمشَاع كالاسم، وَقطع النّظر فِيهِ عَن الوصفية جَازَ تذكيره أَن يكون بِاعْتِبَار الْمَذْكُور أَو بِاعْتِبَار كل وَاحِد.
4122 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ مَحْبُوب قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَضَي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مالٍ لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: كل مَا لَا يقسم، وَقد ذكرنَا أَن هَذَا اللَّفْظ عَام، وَأُرِيد بِهِ الْخَاص فِي الْعقار، والبحث فِيهِ قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق من أَن الشُّفْعَة فِي الْأَرْضين والدور خَاصَّة. وَأما بيع الْعرُوض مشَاعا فَأكْثر الْعلمَاء أَنه: لَا شُفْعَة فِيهَا، كَمَا مر، وَإِنَّمَا ذكر الْعرُوض فِي التَّرْجَمَة وَلَيْسَ لَهَا ذكر فِي الحَدِيث تَنْبِيها على الْخلاف فِيهِ على الْإِجْمَال، فَيُوقف عَلَيْهِ من الْخَارِج.
وَرِجَال الحَدِيث كلهم قد مروا، فمحمد بن مَحْبُوب ضد المبغوض قد مر فِي الْغسْل، وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد قد مر فِي بَاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم} (الْإِسْرَاء: 58) . وَقَالَ الْخطابِيّ هُنَا: معنى الشَّفَقَة نفي الضَّرَر، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق مَعَ الشّركَة وَلَا ضَرَر على الْجَار، فَلَا وَجه لنزع ملك الْمُبْتَاع مِنْهُ بعد استقراره. انْتهى. قلت: هَذَا مدافعة للأحاديث الصَّحِيحَة الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَة للْجَار، وَقد ذَكرنَاهَا عَن قريب. قَوْله: (وَلَا ضَرَر على الْجَار) مَمْنُوع لاحْتِمَال أَن يكون المُشْتَرِي من شرار النَّاس، أَو مِمَّن يشْتَغل بِالْمَعَاصِي فيتضرر بِهِ الْجَار، وَلَا ضَرَر أعظم من هَذَا لاستمراره لَيْلًا وَنَهَارًا. وَقَوله: بعد استقراره، غير صَحِيح، لِأَن حق الْغَيْر فِيهِ، فَكيف يُقَال إِنَّه مُسْتَقر وَهَذِه كلهَا معاندة ومكابرة.
751 - ح دَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بِهَذَا وَقَالَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث عَن شَيْخه أَحدهمَا مُحَمَّد بن مَحْبُوب عَن عبد الْوَاحِد، وَالْآخر عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد، وَأَشَارَ بِهِ أَيْضا إِلَى اخْتِلَاف كل فِي قَوْله فِي كل مَا لم يقسم، فَإِن فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن مَحْبُوب: فِي كل مَا لم يقسم، وَفِي رِوَايَة مُسَدّد. وَفِي كل مَال لم يقسم. قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بِهَذَا الحَدِيث، الْمَذْكُور.
تابَعَهُ هِشَامٌ عنْ مَعْمَرٍ
أَي: تَابع عبد الْوَاحِد هِشَام بن يُوسُف الْيَمَانِيّ فِي رِوَايَته: فِي كل مَال لم يقسم، وَهَذِه المتابة وَصلهَا البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي ترك الْحِيَل.
قَالَ عبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كُلِّ مالٍ رَواهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ إسْحَاقَ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: قَالَ عبد الرَّزَّاق فِي رِوَايَته عَن معمر: فِي كل مَال، وَكَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الْقرشِي، قَالَ أَبُو دَاوُد: إِنَّه قدري ثِقَة. قَوْله: (عَن الزُّهْرِيّ) ، أَي: رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَطَرِيق عبد الرَّزَّاق وَصله البُخَارِيّ فِي الْبَاب السَّابِق، وَطَرِيق عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَصله مُسَدّد فِي (مُسْنده) عَن بشر بن الْمفضل عَنهُ، وَوَقع عِنْد السَّرخسِيّ فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد فِي الْمَوْضِعَيْنِ: فِي كل مَال، وللباقين: فِي كل مَا لم يقسم، فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد، و: كل مَال، فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا الْفرق بَين هَذِه الأساليب الثَّلَاثَة؟ قلت: الْمُتَابَعَة هِيَ أَن يروي الرَّاوِي الآخر الحَدِيث بِعَيْنِه، وَالرِّوَايَة أَعم مِنْهَا، وَالْقَوْل إِنَّمَا يسْتَعْمل عِنْد السماع على سَبِيل المذاكرة. انْتهى. قلت: هَذِه فَائِدَة جليلة وَأَرَادَ بالأساليب الثَّلَاثَة قَوْله: تَابعه، وَقَوله: قَالَ عبد الرَّزَّاق، وَقَوله: رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن.(12/22)
89 - (بابٌ إذَا اشْتَرَى شَيْئا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَرَضِيَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اشْترى أحد شَيْئا لأجل غَيره بِغَيْر إِذن مِنْهُ، يَعْنِي بطرِيق الفضول، وَأَشَارَ بِهِ البُخَارِيّ إِلَى بيع الْفُضُولِيّ، وَكَأَنَّهُ مَال إِلَى جَوَاز بيع الْفُضُولِيّ، فَلذَلِك عقد هَذِه التَّرْجَمَة. قَوْله: (فَرضِي) أَي: فَرضِي ذَلِك الْغَيْر بذلك الشِّرَاء بعد وُقُوعه بِغَيْر إِذن مِنْهُ.
5122 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْراهيم حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ أخبرَنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرَني مُوسى ابنُ عُقْبةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَرَجَ ثَلاثَةٌ يَمْشُونَ فأصَابَهُمُ المَطَرُ فدَخَلُوا فِي غارٍ فِي جَبَلً فانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ فَقَالَ بعضُهُمْ لِبَعْضٍ ادْعُوا الله بِأفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ فَقَالَ أحدُهُمْ اللَّهُمَّ إنِّي كانَ لِي أبَوَانِ شَيْخَانِ كبِيرانِ فكُنْتُ أخْرُجُ فأرْعَى ثُمَّ أجيءُ فأحْلُبُ فأجِيءُ بالحِلاَبِ فآتِي بِهِ أبَوَي فيَشْرَبانِ ثُمَّ أسْقِي الصِّبْيَةَ وأهْلِي وامْرَأتِي فاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً فَجِئْتُ فإذَا هُمَا نائِمان قَالَ فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا والصِّبْيَةُ يتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ فلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأبِي ودَأبَهُمَا حَتَّى طلَعَ الفَجْرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَراى مِنْهَا السَّماءَ قَالَ فَفُرِجَ عَنْهُمْ وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأةً منْ بناتِ عَمِّي كأشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّساءَ فقالَتْ لَا تَنالُ ذَلِكَ مِنْها حَتَّى تُعْطِيهَا مائَةَ دِينارٍ فسَعَيْتُ فِيها حتَّى جَمعْتُها فلَمَّا قَعدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قالَتِ اتَّقِ الله ولاَ تَفُض الخَاتَمَ إلاَّ بِحَقِّهِ فقُمْتُ وتَرَكْتُهَا فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً قَالَ ففَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلْثَيْنِ وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي اسْتَأجَرْتُ أجِيرا بِفَرَقٍ مِنْ ذرَّةٍ فأعطيته وأبى ذَاك أنْ يأخُذَ فَعَمَدْتُ إِلَى ذالِكَ الْفَرْقِ فزَرَعْتُهُ حتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرا وراعِيهَا ثُمَّ جاءَ فَقال يَا عَبْدَ الله أعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ انْطَلِقْ إلاى تِلْكَ الْبَقَرِ وراعِيها فإنَّها لَكَ فقالَ أتَسْتَهْزِىءُ بِي فقُلْتُ مَا أسْتَهْزِيءُ بِكَ ولاكِنَّها لَكَ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا فَكُشِفَ عَنْهُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى اشْتريت مِنْهُ بقرًا) فَإِنَّهُ اشْترى شَيْئا لغيره بِغَيْر إِذْنه، ثمَّ لما جَاءَ الْأَجِير الْمَذْكُور وَأخْبرهُ الرجل بذلك فَرضِي وَأَخذه.
وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك ابْن عبد الْعَزِيز، ومُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن الْمسَيبِي عَن أنس بن عِيَاض وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن أبي عَاصِم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّقَائِق عَن يُوسُف بن سعيد عَن حجاج عَن ابْن جريج بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج ثَلَاثَة) أَي: ثَلَاثَة من النَّاس، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: بَيْنَمَا ثَلَاثَة نفر يَمْشُونَ. وَقَوله: (يَمْشُونَ) حَال وَمحله النصب. قَوْله: (أَصَابَهُم الْمَطَر) بِالْفَاءِ، عطف على: خرج ثَلَاثَة، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: أَصَابَهُم، بِدُونِ الْفَاء لِأَنَّهُ خبر بَيْنَمَا. قَوْله: (فَدَخَلُوا فِي غَار) ، فِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فأووا إِلَى غَار، بقصر الْهمزَة، وَيجوز مدها أَي: انضموا إِلَى الْغَار وجعلوه(12/23)
لَهُم مأوى. قَوْله: (فِي جبل) أَي: فِي غَار كَائِن فِي جبل. قَوْله: (فانحطت عَلَيْهِم صَخْرَة) ، أَي: على بَاب غارهم، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فانحطت على فَم الْغَار صَخْرَة من الْجَبَل. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أدعوا الله بِأَفْضَل عمل عملتموه) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقَالَ بَعضهم لبَعض: انْظُرُوا أعمالاً عملتموها صَالِحَة لله تَعَالَى فَادعوا الله بهَا، لَعَلَّه يفرجها عَنْكُم. قَالَ أحدهم: أَي أحد الثَّلَاثَة، وَهَهُنَا: فَقَالَ، بِالْفَاءِ. قَوْله: (أللهم) . إعلم أَن لفظ: اللَّهُمَّ، يسْتَعْمل فِي كَلَام الْعَرَب على ثَلَاثَة أنحاء: أَحدهَا: للنداء الْمَحْض وَهُوَ ظَاهر. وَالثَّانِي: للإيذان بنذرة الْمُسْتَثْنى كَقَوْلِك بعد كَلَام: أللهم، إلاَّ إِذا كَانَ كَذَا. وَالثَّالِث: ليدل على تَيَقّن الْمُجيب فِي الْجَواب المقترن هُوَ بِهِ، كَقَوْلِك لمن قَالَ: أَزِيد قَائِم أللهم نعم أَو أللهم لَا، كَأَنَّهُ يُنَادِيه تَعَالَى مستشهدا على مَا قَالَ من الْجَواب. وأللهم هَذَا هُنَا من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (إِنِّي كَانَ لي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كبيران) . قَوْله: أَبَوَانِ، من بَاب التغليب لِأَن الْمَقْصُود الْأَب وَالأُم، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: أللهم إِنَّه كَانَ لي والدان شَيْخَانِ كبيران ولي صبية صغَار وَكنت أرعى عَلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَاب: وَكنت أخرج فأرعى، يَعْنِي: كنت أخرج إِلَى المرعى فأرعى، أَي: إبلي. قَوْله: (ثمَّ أجيء) أَي: من المرعى (فأحلب) أَي: الَّتِي يحلب مِنْهَا، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَإِذا رحت عَلَيْهِم حلبت. قَوْله: (فأجيء بالحلاب) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام: وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ، وَيُرَاد بِهِ هَهُنَا اللَّبن المحلوب فِيهِ. قَوْله: (فَآتي بِهِ) أَي: بالحلاب. قَوْله: (أَبَوي) ، من بَاب التغليب، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَأَصله: أَبَوَانِ لي، فَلَمَّا أضيف إِلَيّ يَاء الْمُتَكَلّم وَسَقَطت النُّون وانتصب على المفعولية قلبت ألف التَّثْنِيَة ياءٍ وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (فيشربان) مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: فأناولهما إِيَّاه فيشربان. قَوْله: (وأسقي الصبية) ، بِكَسْر الصَّاد: جمع صبي وَكَذَلِكَ الصبوة، والواوو الْقيَاس وَالْيَاء أَكثر اسْتِعْمَالا. وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَبَدَأت بوالدي أسقيهما قبل بني، أَي: قبل أَن أَسْقِي بني، وَأَصله بنُون لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم وَسَقَطت النُّون وقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، فَصَارَ: بني، بِضَم النُّون، وأبدلت الضمة كسرة لأجل الْيَاء فَصَارَ: بني، قَوْله: (وَأَهلي) ، المُرَاد بالأهل هَهُنَا الأقرباء نَحْو: الْأَخ وَالْأُخْت، حَتَّى لَا يكون عطف امْرَأَتي على أَهلِي عطف الشَّيْء على نَفسه. قَوْله: (فاحتبست لَيْلَة) أَي: تَأَخَّرت لَيْلَة من اللَّيَالِي بِسَبَب أَمر عرض لي، وَفِي بَاب الْمُزَارعَة: وَإِنِّي استأخرت ذَات يَوْم فَلم آتٍ حَتَّى أمسيت. قَوْله: (استأخرت) بِمَعْنى تَأَخَّرت، يُقَال: تَأَخّر واستأخر بِمَعْنى، وَلَيْسَ السِّين فِيهِ للطلب. قَوْله: (ذَات يَوْم) الْإِضَافَة فِيهِ من قبيل إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى الإسم أَي: قِطْعَة من زمَان هَذَا الْيَوْم أَي: من صَاحِبَة هَذَا الإسم. قَوْله: (فَإِذا هما نائمان) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَقد ذكر غير مرّة أَنَّهَا تُضَاف إِلَى جملَة، فَقَوله: هما، مُبْتَدأ و: نائمان، خَبره. وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فوجدتهما نَامَا فحلبت كَمَا كنت أحلب. قَوْله: (فَكرِهت أَن أوقظهما) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقُمْت عِنْد رؤوسهما أكره أَن أوقظهما وأكره أَن أَسْقِي الصبية. قَوْله: (والصبية يتضاغون) ، أَي: يصيحون، وَهُوَ من بَاب التفاعل من: الضغاء، بالمعجمتين وَهُوَ: الصياح بالبكاء، وَيُقَال: ضغا الثَّعْلَب ضغاء أَي: صَاح، وَكَذَلِكَ السنور، وَيُقَال: ضغا يضغو ضغوا وضغاء: إِذا صَاح وضج. قَوْله: (عِنْد رجْلي) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: يتضاغون عِنْد قدمي حَتَّى طلع الْفجْر. قَوْله: (فَلم يزل ذَلِك دأبي ودأبهما) ، الدأب الْعَادة والشأن، وَقَالَ الْفراء: أَصله من دأبت، إلاَّ أَن الْعَرَب حولت مَعْنَاهُ إِلَى الشَّأْن. قَوْله: (أللهم إِن كنت تعلم أَنِّي فعلت ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَإِن كنت تعلم أَنِّي فعلته، وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظَة: أللهم. قَوْله: (ابْتِغَاء وَجهك) ، أَي: طلبا لمرضاتك، وَالْمرَاد بِالْوَجْهِ الذَّات، وانتصاب ابْتِغَاء على أَنه مفعول لَهُ، أَي: لأجل ابْتِغَاء وَجهك. قَوْله: (فأفرجْ عَنَّا) أَمر من: فرج يفرج، من بَاب: نصر ينصر، وَقَالَ ابْن التِّين: هُوَ بِضَم الرَّاء فِي أَكثر الْأُمَّهَات. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِنَّه بِكَسْرِهَا، وَهُوَ دُعَاء فِي صُورَة الْأَمر، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فأفرج لنا. قَوْله: (فُرْجَة) ، بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، والفرجة فِي الْحَائِط كالشق، والفرجة انفراج الكروب، وَقَالَ النّحاس: الفرجة بِالْفَتْح فِي الْأَمر، والفرجة بِالضَّمِّ فِيمَا يُرى من الْحَائِط وَنَحْوه، قلت: الفرجة هُنَا بِالضَّمِّ قطعا على مَا لَا يخفى. قَوْله: (فَفرج عَنْهُم) أَي: فرج بِقدر مَا دَعَاهُ، وَهِي الَّتِي بهَا ترى السَّمَاء، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَفرج الله لَهُم فَرَأَوْا السَّمَاء. قَوْله: (وَقَالَ الآخر: أللهم إِن كنت تعلم أَنِّي كنت أحب أمْرَأَة من بَنَات عمي كأشد مَا يحب الرجل النِّسَاء) وَفِي كتاب الْمُزَارعَة: أللهم إِنَّهَا كَانَت لي بنت عَم أحببتها كأشد مَا يحب الرِّجَال النِّسَاء. قَوْله: (كأشد) الْكَاف(12/24)
زَائِدَة أَو أَرَادَ تَشْبِيه محبته بأشد المحبات. قَوْله: (فَقَالَت: لَا تنَال ذَلِك مِنْهَا) أَي: قَالَت بنت عَمه: لَا تنَال مرادك مِنْهَا حَتَّى تعطيها مائَة دِينَار، وَفِيه الْتِفَات لِأَن مُقْتَضى الْكَلَام: لَا تنَال مني حَتَّى تُعْطِينِي، وَفِي بَاب الْمُزَارعَة: فطلبت مِنْهَا فَأَبت حَتَّى أتيتها بِمِائَة دِينَار أَي: طلبت من بنت عمي فامتنعت، وَقَالَت: حَتَّى تُعْطِينِي مائَة دِينَار، فجمعتها حَتَّى أتيتها بِمِائَة دِينَار الَّتِي طلبتها. قَوْله: (فسعيت فِيهَا) أَي: فِي مائَة دِينَار (حَتَّى جمعتها) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فبغيت حَتَّى جمعتها، أَي: فطلبت، من الْبَغي وَهُوَ الطّلب هَكَذَا فِي رِوَايَة السجري، وَفِي رِوَايَة العذري والسمرقندي وَابْن ماهان، فَبعثت حَتَّى جمعتها. وَفِي (الْمطَالع) : وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف، بالغين الْمُعْجَمَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف دون الثَّانِي، وَهُوَ بِالْعينِ الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (فَلَمَّا قعدت بَين رِجْلَيْهَا) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَلَمَّا وَقعت بَين رِجْلَيْهَا. قَوْله: (قَالَت: إتق الله) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: قَالَت: يَا عبد الله إتق الله، أَي: خف الله وَلَا ترتكب الْحَرَام. قَوْله: (وَلَا تقض الْخَاتم إلاَّ بِحقِّهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: وَلَا تفتح الْخَاتم إلاَّ بِحقِّهِ، و: لَا تفض، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسرهَا، و: الْخَاتم، بِفَتْح التَّاء وَكسرهَا، وَهُوَ كِنَايَة عَن بَكَارَتهَا. قَوْله: (إلاَّ بِحقِّهِ) أَي: إلاَّ بِالنِّكَاحِ، أَي: لَا تُزِلِ البكارةَ إلاَّ بحلال. قَوْله: (فَقُمْت) أَي: من بَين رِجْلَيْهَا وتركتها، يَعْنِي لم أفعل بهَا شَيْئا، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: وتركتها. قَوْله: (فَفرج عَنْهُم الثُّلثَيْنِ) أَي: فَفرج الله عَنْهُم ثُلثي الْموضع الَّذِي عَلَيْهِ الصَّخْرَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُزَارعَة إلاَّ قَوْله: فَفرج، لَيْسَ إلاَّ قَوْله: (أللهم إِن كنت تعلم أَنِّي اسْتَأْجَرت أَجِيرا بفرق من ذرة) وَفِي الْمُزَارعَة: أللهم إِنِّي اسْتَأْجَرت أَجِيرا بفرق أرز، الْفرق، بِفَتْح الرَّاء وسكونها: مكيال يسع ثَلَاثَة آصَع. وَقَالَ ابْن قرقول: روينَاهُ بالإسكان وَالْفَتْح عَن أَكثر شُيُوخنَا، وَالْفَتْح أَكثر. قَالَ الْبَاجِيّ: وَهُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا قيدناه عَن أهل اللُّغَة، وَلَا يُقَال: فرق بالإسكان، وَلَكِن فرق بِالْفَتْح، وَكَذَا حكى النّحاس، وَذكر ابْن دُرَيْد أَنه قد قيل بالإسكان. قَوْله: (ذرة) 7 بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء الْخَفِيفَة، وَهُوَ حب مَعْرُوف، وَأَصله ذرو أَو ذري، وَالْهَاء عوض. و: الْأرز، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الرَّاء وَتَشْديد الزَّاي، وَهُوَ مَعْرُوف، وَفِيه سِتّ لُغَات: أرز وأرز فتتبع الضمة الضمة، و: ارز وارز مثل: رسل ورسل، ورز ورنز، وَهُوَ لُغَة عبد الْقَيْس. قَوْله: (فأعطيته وأبى ذَاك أَن يَأْخُذ) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَلَمَّا قضى عمله قَالَ: أَعْطِنِي حَقي، فعرضت عَلَيْهِ فَرغب عَنهُ. قَوْله: (أَعْطيته) أَي: أَعْطَيْت الْفرق من ذرة، (وأبى) أَي: امْتنع. قَوْله: (ذَاك) ، أَي: الْأَجِير الْمَذْكُور. قَوْله: (أَن يَأْخُذ) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أَبى من الْأَخْذ، وَهُوَ معنى قَوْله: فَرغب عَنهُ، أَي: أعرض عَنهُ فَلم يَأْخُذهُ. قَوْله: (فعمدت) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: قصدت، يُقَال: عَمَدت إِلَيْهِ وعمدت لَهُ أعمد عمدا أَي: قصدت. قَوْله: (فزرعته) أَي: الْفرق الْمَذْكُور (حَتَّى اشْتريت مِنْهُ بقرًا وراعيها) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فرغت عَنهُ فَلم أزل أزرعه حَتَّى جمعت مِنْهُ بقرًا وراعيها، ويروى: ورعاتها بِضَم الرَّاء جمع راعي. قَوْله: (ثمَّ جَاءَ) أَي: الْأَجِير الْمَذْكُور، (فَقَالَ: يَا عبد الله أَعْطِنِي حَقي) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَجَاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ الله قَوْله: (فَقلت انْطلق إِلَى تِلْكَ الْبَقر وراعيها فَإِنَّهَا لَك) . وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقلت: إذهب إِلَى ذَلِك الْبَقر ورعاتها فَخذ، ويروى: إِلَى تِلْكَ الْبَقر. قَوْله: (فَقَالَ أتستهزىء بِي؟) من اسْتَهْزَأَ بفلان: إِذا سخر مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة، فَقَالَ: اتَّقِ الله وَلَا تستهزىء بِي. قَوْله: (فَقلت: مَا استهزىء بك وَلكنهَا لَك) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقَالَ: إِنِّي لَا استهزىء بك فَخذه، فَأَخذه. ويروى: فَقلت إِنِّي ... إِلَى آخِره. قَوْله: (فافرج عَنَّا، فكشف عَنْهُم) أَي: فكشف بَاب المغارة، وَفِي رِوَايَة المز ارعة، فافرج مَا بَقِي، فَفرج أَي فَفرج الله مَا بَقِي من بَاب المغارة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْإِخْبَار عَن مُتَقَدِّمي الْأُمَم وَذكر أَعْمَالهم لترغيب أمته فِي مثلهَا، وَلم يكن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَكَلَّم بِشَيْء إلاَّ لفائدة، وَإِذا كَانَ مزاحه كَذَلِك فَمَا ظَنك بأخباره؟ وَفِيه: جَوَاز بيع الْإِنْسَان مَال غَيره بطرِيق الفضول، وَالتَّصَرُّف فِيهِ بِغَيْر إِذن مَالِكه إِذا أجَازه الْمَالِك بعد ذَلِك، وَلِهَذَا عقد البُخَارِيّ التَّرْجَمَة، وَقَالَ بَعضهم: طَرِيق الِاسْتِدْلَال بِهِ يبتنى على أَن شرع من قبلنَا شرع لنا، وَالْجُمْهُور على خِلَافه. انْتهى. قلت: شرع من قبلنَا يلْزمنَا مَا لم يقص الشَّارِع الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَهنا طَرِيق آخر فِي الْجَوَاز، وَهُوَ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر هَذِه الْقِصَّة فِي معرض الْمَدْح وَالثنَاء على فاعلها، وَأقرهُ على ذَلِك، وَلَو كَانَ لَا يجوز لبينه. وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه: دَلِيل على صِحَة قَول ابْن الْقَاسِم: إِذا أودع رجل رجلا طَعَاما فَبَاعَهُ الْمُودع بِثمن: فَرضِي الْمُودع بِهِ، فَلهُ الْخِيَار إِن شَاءَ أَخذ الثّمن الَّذِي بَاعه بِهِ، وَإِن شَاءَ أَخذ مثل طَعَامه، وَمنع أَشهب. قَالَ: لِأَنَّهُ طَعَام بِطَعَام فِيهِ(12/25)
خِيَار. وَفِيه: الِاسْتِدْلَال لأبي ثَوْر فِي قَوْله: إِن من غصب قمحا فزرعه إِن كل مَا أخرجت الأَرْض من الْقَمْح فَهُوَ لصَاحب الْحِنْطَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: اسْتدلَّ بِهِ أَحْمد على أَن الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر فِي مَال الْوَدِيعَة وَربح أَن الرِّبْح إِنَّمَا يكون لرب المَال، قَالَ: وَهَذَا لَا يدل على مَا قَالَ، وَذَلِكَ أَن صَاحب الْفرق إِنَّمَا تبرع بِفِعْلِهِ وتقرب بِهِ إِلَى الله، عز وَجل، وَقد قَالَ: إِنَّه اشْترى بقرًا وَهُوَ تصرف مِنْهُ فِي أَمر لم يُوكله بِهِ، فَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ ربحا، وَالْأَشْبَه بِمَعْنَاهُ أَنه قد تصدق بِهَذَا المَال على الْأَجِير بعد أَن أتجر فِيهِ، وأنماه، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء فِي الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر بِمَال الْوَدِيعَة وَالْمُضَارب إِذا خَالف رب المَال فربحا أَنه لَيْسَ لصَاحب المَال من الرِّبْح شَيْء، وَعند أبي حنيفَة: الْمضَارب ضَامِن لرأس المَال وَالرِّبْح لَهُ وَيتَصَدَّق بِهِ، والوضيعة عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ اشْترى السّلْعَة بِعَين المَال فَالْبيع بَاطِل، وَإِن كَانَ بِغَيْر عينه فالسلعة ملك المُشْتَرِي وَهُوَ ضَامِن لِلْمَالِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما من أتجر فِي مَال غَيره؟ فَقَالَت طَائِفَة: يطيب لَهُ الرِّبْح إِذا رد رَأس المَال إِلَى صَاحبه، سَوَاء كَانَ غَاصبا لِلْمَالِ أَو كَانَ وَدِيعَة عِنْده مُتَعَدِّيا فِيهِ، هَذَا قَول عَطاء وَمَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف، وَاسْتحبَّ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ تنزهه عَنهُ، وَيتَصَدَّق بِهِ. وَقَالَت طَائِفَة: يرد المَال وَيتَصَدَّق بِالرِّبْحِ كُله، وَلَا يطيب لَهُ مِنْهُ شَيْء، هَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَزفر. وَقَالَت طَائِفَة: الرِّبْح لرب المَال وَهُوَ ضَامِن لما تعدى فِيهِ، هَذَا قَول ابْن عمر وَأبي قلَابَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ ابْن بطال: وإصح هَذِه الْأَقْوَال قَول من قَالَ: إِن الرِّبْح للْغَاصِب والمتعدي وَالله أعلم. وَفِيه: إِثْبَات كرامات الْأَوْلِيَاء وَالصَّالِحِينَ. وَفِيه: فضل الْوَالِدين وَوُجُوب النَّفَقَة عَلَيْهِمَا، وعَلى الْأَوْلَاد والأهل، قَالَ الْكرْمَانِي: نَفَقَة الْفُرُوع مُتَقَدّمَة على الْأُصُول فَلم تَركهم جائعين؟ قلت: لَعَلَّ فِي دينهم نَفَقَة الأَصْل مُقَدّمَة، أَو كَانُوا يطْلبُونَ الزَّائِد على سد الرمق، والصياح لم يكن من الْجُوع، قلت: قَوْله: والصياح لم يكن من الْجُوع، فِيهِ نظر لَا يخفى. وَفِيه: أَنه يسْتَحبّ الدُّعَاء فِي حَال الكرب والتسل بِصَالح الْعَمَل إِلَى الله تَعَالَى، كَمَا فِي الاسْتِسْقَاء. وَفِيه: فضل بر الْوَالِدين وَفضل خدمتهما وإيثارهما على من سواهُمَا من الْأَوْلَاد وَالزَّوْجَة. وَفِيه: فضل العفاف والانكفاف عَن الْمُحرمَات بعد الْقُدْرَة عَلَيْهَا. وَفِيه: جَوَاز الْإِجَارَة بِالطَّعَامِ. وَفِيه: فَضِيلَة أَدَاء الْأَمَانَة. وَفِيه: قبُول التَّوْبَة، وَأَن من صلح فِيمَا بَقِي، غفر لَهُ، وَأَن من هم بسيئة فَتَركهَا ابْتِغَاء وَجهه كتب لَهُ أجرهَا. {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 64) . وَفِيه: سُؤال الرب جلّ جَلَاله بإنجاز وعده، قَالَ تَعَالَى: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} (الطَّلَاق: 2) . وَقَالَ: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} (الطَّلَاق: 4) .
99 - (بابُ الشِّرَاءِ والبَيْعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ الْمُشْركين. قَوْله: (وَأهل الْحَرْب) ، من عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِي بعض النّسخ: أهل الْحَرْب، بِدُونِ: الْوَاو، فعلى هَذَا يكون: أهل الْحَرْب، صفة: للْمُشْرِكين.
6122 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدثنَا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي عُثْمَانَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ جاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعانٌ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُها فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْعا أمْ عَطِيَّةً أوْ قَالَ أمْ هِبَةً قَالَ لاَ بَلْ بَيْعٌ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاة.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَاشْترى مِنْهُ شَاة) ، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، ومعتمر بن سُلَيْمَان بن طرخان، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن أبي النُّعْمَان أَيْضا. وَأخرجه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن عبيد الله بن معَاذ وحامد بن عَمْرو وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى ثَلَاثَتهمْ عَن مُعْتَمر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مشعان) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَبعدهَا عين مُهْملَة وَبعد الْألف نون مُشَدّدَة: أَي(12/26)
طَوِيل جدا فَوق الطول، وَعَن الْأَصْمَعِي: شعر مشعان، بتَشْديد النُّون: متنفش، وإشعانّ الشّعْر اشعينانا: كاحمارّ احميرارا، وَفِي (التَّهْذِيب) : تَقول الْعَرَب: رَأَيْت فلَانا مشعانَّ الرَّأْس إِذا رَأَيْته شعثا متنفش الرَّأْس مغبرا، وروى عَمْرو عَن أَبِيه: أشعن الرجل إِذا نامى عدوه، فاشعان شعره. قَوْله: (بيعا؟) ، مَنْصُوب على المصدرية أَي: اتبيع بيعا. قيل: وَيجوز الرّفْع أَي: أَهَذا بيع؟ قَوْله: (أم عَطِيَّة) ، بِالنّصب عطف على: بيعا. قَوْله: (أَو قَالَ) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ الرجل: لَيْسَ عَطِيَّة، أَو: لَيْسَ هبة (بل بيع) أَي: بل هُوَ بيع، وَأطلق البيع عَلَيْهِ بِاعْتِبَار مَا يؤول إِلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز بيع الْكَافِر وَإِثْبَات ملكه على مَا فِي يَده، وَقَالَ الْخطابِيّ فِي قَوْله: أم هبة؟ دَلِيل على قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشرك لَو وهب. فَإِن قلت: قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعياض بن حمَار حِين أهْدى لَهُ فِي شركه: إِنَّا لَا نقبل زبد الْمُشْركين، يُرِيد عطاهم. قلت: قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يشبه أَن يكون ذَلِك مَنْسُوخا، لِأَنَّهُ قبل هَدْيه غير وَاحِد من أهل الشّرك، أهْدى لَهُ الْمُقَوْقس وأكيدر دومة. قَالَ: إلاَّ أَن يزْعم زاعم أَن بَين هَدَايَا أهل الشّرك وهدايا أهل الْكتاب فرقا. انْتهى.
قلت: فِيهِ نظر فِي مَوَاضِع.
الأول: أَن الزَّعْم بِالْفرقِ الْمَذْكُور يردهُ قَول عبد الرَّحْمَن فِي نفس هَذَا الحَدِيث: إِن هَذَا الرجل كَانَ مُشْركًا، وَقد قَالَ لَهُ: أبيع أم هَدِيَّة؟
الثَّانِي: هَدِيَّة أكيدر كَانَت قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَاوِي هَذَا الحَدِيث، لِأَن إِسْلَامه كَانَ فِي هدنة الْحُدَيْبِيَة، وَذَلِكَ فِي سنة سبع، وهدنة أكيدر كَانَت بعد وَفَاة سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي قَالَ فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما عجب النَّاس من هَدِيَّة أكيدر: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لمناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة أحسن من هَذِه، وَسعد توفّي بعد غَزْوَة بني قُرَيْظَة سنة أَربع فِي قَول عقبَة، وَعند إِبْنِ إِسْحَاق: سنة خمس، وأيّا مَا كَانَ فَهُوَ قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن، وبَعْثُ حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى الْمُقَوْقس كَانَ فِي سنة سِتّ، ذكره ابْن مَنْدَه وَغَيره، فَدلَّ على أَنه قبل هَذَا الحَدِيث.
الثَّالِث: لقَائِل أَن يَقُول: هَذَانِ اللَّذَان قبل مِنْهُمَا هديتهما لَيْسَ سوقة، إِنَّمَا هما ملكان. فَقبل هديتهما تألفا، لِأَن فِي رد هديتهما نوع حُصُول شَيْء.
الرَّابِع: نقُول: كَانَ قبُول هديتهم بإثابته عَلَيْهِمَا، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهَذَا الْمُشرك أَيْضا كَانَ تأنيسا لَهُ، وَلِأَن يثيبه بِأَكْثَرَ مِمَّا أهْدى، وَكَذَا يُقَال فِي هَدِيَّة كسْرَى الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْحَرْبِيّ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ورد هَدِيَّة عِيَاض بن حمَار وَكَانَ بَينه وَبَين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، معرفَة قبل الْبعْثَة، فَلَمَّا بعث أهْدى لَهُ فَرد هديته، وَكَذَا رد هَدِيَّة ذِي الجوشن، وَكَانَت فرسا، وَكَذَا رد هَدِيَّة ملاعب الأسنة، لأَنهم كَانُوا سوقة وَلَيْسوا ملوكا، وَأهْدى لَهُ ملك أَيْلَة بغلة، وفروة الجذامي هَدِيَّة فقبلهما وَكَانَا ملكَيْنِ، وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا مَا ذكره أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) : أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قبل هَدِيَّة أبي سُفْيَان بن حَرْب لِأَنَّهَا كَانَت فِي مُدَّة الْهُدْنَة، وَكَذَا هَدِيَّة الْمُقَوْقس إِنَّمَا كَانَ قبلهَا لِأَنَّهُ أكْرم حَاطِبًا وَأقر بنبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يؤيسه من إِسْلَامه، وَقبُول هَدِيَّة الأكيدر لِأَن خَالِدا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قدم بِهِ فحقن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَمه وَصَالَحَهُ على الْجِزْيَة، لِأَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيّا ثمَّ خلى سَبيله، وَكَذَا ملك أَيْلَة لما أهْدى كَسَاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بردا لَهُ، وَهَذَا كُله يرجع إِلَى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يقبل هَدِيَّة إلاَّ ويكافىء.
ثمَّ إعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِيمَا يهدى للأئمة، فَروِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُوجب رده إِلَى بَيت المَال، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مَا أهْدى إِلَيْهِ أهل الْحَرْب فَهُوَ لَهُ دون بَيت المَال، وَأما مَا يهدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فَهُوَ فِي ذَلِك بِخِلَاف النَّاس، لِأَن الله تَعَالَى اختصه فِي أَمْوَال أهل الْحَرْب بِخَاصَّة لم تكن لغيره، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء} (الْحَشْر: 6) . بعد قَوْله: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} (الْحَشْر: 6) . فسبيل مَا تصل إِلَيْهِ يَده من أَمْوَالهم على جِهَة الْهَدِيَّة وَالصُّلْح سَبِيل الْفَيْء يَضَعهُ حَيْثُ أرَاهُ الله، فَأَما الْمُسلمُونَ إِذا أهدوا إِلَيْهِ فَكَانَ من سجيته أَن لَا يردهَا بل يثيبهم عَلَيْهَا.
وَفِيه: أَن ابتياع الأشاء من الْمَجْهُول الَّذِي لَا يعرف جَائِز حَتَّى يطلع على مَا يلْزم التورع عَنهُ، أَو يُوجب ترك مبايعته غصب أَو سَرقَة أَو شبههما، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: من كَانَ بِيَدِهِ شَيْء فَظَاهره أَنه مَالِكه، وَلَا يلْزم المُشْتَرِي أَن يعلم حَقِيقَة ملكه.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مبايعة من الْغَالِب على مَاله الْحَرَام(12/27)
وَقبُول هديته وجائزته، فرخصت فِيهِ طَائِفَة، فَكَانَ الْحسن بن أبي الْحسن لَا يرى بَأْسا أَن يَأْكُل الرجل من طَعَام العشار والصراف وَالْعَامِل، وَيَقُول: قد أحل الله طَعَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقد أخبر أَن الْيَهُود أكالون للسحت. قَالَ الْحسن: مَا لم يعرفوا شَيْئا مِنْهُ حَرَامًا، يَعْنِي: معينا. وَعَن الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول: إِذا كَانَ المَال فِيهِ حرَام وحلال فَلَا بَأْس أَن يُؤْكَل مِنْهُ، إِنَّمَا يكره من ذَلِك الشَّيْء الَّذِي يعرف بِعَيْنِه، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا أحب مبايعة من أَكثر مَاله رَبًّا أَو كَسبه من حرَام، فَإِن بُويِعَ لَا يفْسخ البيع. وَقَالَ ابْن بطال: وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالْحَرْبِيّ فِي هَذَا سَوَاء، وَحجَّة من رخص حَدِيث الْبَاب، وَحَدِيث رَهنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم درعه عِنْد الْيَهُودِيّ، وَكَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يأخذان هَدَايَا الْمُخْتَار، وَبعث عَمْرو بن عبيد الله بن معمر إِلَى ابْن عمر بِأَلف دِينَار، وَإِلَى الْقَاسِم بن مُحَمَّد بِأَلف دِينَار فَأَخذهَا ابْن عمر وَقَالَ: لقد جاءتنا على حَاجَة، وأبى أَن يقبلهَا الْقَاسِم، فَقَالَت امْرَأَته: إِن لم تقبلهَا فَأَنا ابْنة عَمه كَمَا هُوَ ابْن عَمه، فأخذتها. وَقَالَ عَطاء: بعث مُعَاوِيَة إِلَى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بطوق من ذهب فِيهِ جَوْهَر قوم بِمِائَة ألف، وقسمته بَين أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. وكرهت طَائِفَة الْأَخْذ مِنْهُم رُوِيَ ذَلِك عَن مَسْرُوق وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَبشر بن سعيد وطاووس وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَمُحَمّد بن وَاسع وَأحمد، وَأخذ ابْن الْمُبَارك قذاة من الأَرْض وَقَالَ: من أَخذ مِنْهُم مثل هَذِه فَهُوَ مِنْهُم.
001 - (بابُ شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ وهِبَتِهِ وعِتْقِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ، وَحكم هِبته وعتقه. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِثْبَات ملك الْحَرْبِيّ وَجَوَاز تصرفه فِي ملكه بِالْبيعِ وَالْهِبَة وَالْعِتْق وَغَيرهَا، إِذْ أقرّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلمَان عِنْد مَالِكه من الْكفَّار وَأمره أَن يُكَاتب، وَقبل الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هبة الْجَبَّار وَغير ذَلِك مِمَّا تضمنه أَحَادِيث الْبَاب.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِسَلْمَانَ كاتِبْ وكانَ حُرّا فَظَلَمُوهُ وباعُوهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يعلم من قَضِيَّة سلمَان تَقْرِير أَحْكَام الْحَرْبِيّ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، وسلمان هُوَ الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقصته طَوِيلَة على مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره، وملخصها: أَنه هرب من أَبِيه لطلب الْحق وَكَانَ مجوسيا، فلحق براهب ثمَّ براهب ثمَّ بآخر، وَكَانَ يصحبهم إِلَى وفاتهم حَتَّى دله الْأَخير إِلَى الْحجاز وَأخْبرهُ بِظُهُور رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقصده مَعَ بعض الْأَعْرَاب فغدروا بِهِ وباعوه فِي وَادي الْقرى ليهودي، ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيّ آخر من بني قُرَيْظَة، فَقدم بِهِ الْمَدِينَة، فَلَمَّا قدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأى عَلَامَات النُّبُوَّة أسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب عَن نَفسك، عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة، وَقيل: مِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين سنة، وَمَات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بالمداين.
ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق الَّذِي علقه البُخَارِيّ أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَالْحَاكِم من حَدِيث زيد بن صوحان سلمَان. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد عَن سلمَان. قَالَ: كنت رجلا فارسيا ... فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: ثمَّ مر بِي نفر من بني كلب تجار، فحملوني مَعَهم حَتَّى إِذا قدمُوا وَادي الْقرى ظلموني فباعوني من رجل يَهُودِيّ ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب يَا سلمَان. قَالَ: فكاتب صَاحِبي على ثَلَاثمِائَة ودية ... الحَدِيث، وَفِي حَدِيث الْحَاكِم مَا يدل أَنه هُوَ ملك رقبته لَهُم، وَعِنْده من حَدِيث أبي الطُّفَيْل عَن سلمَان وَصَححهُ، وَفِيه: فَمر نَاس من أهل مَكَّة فسألتهم عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا نعم، ظهر منا رجل يزْعم أَنه نَبِي، فَقلت لبَعْضهِم: هَل لكم أَن أكون عبدا لبعضكم على أَن تحملوني عقبَة وتطعموني من الْكسر، فَإِذا بَلغْتُمْ إِلَى بِلَادكُمْ فَمن شَاءَ أَن يَبِيع بَاعَ وَمن شَاءَ أَن يستعبد استعبد؟ فَقَالَ رجل مِنْهُم: أَنا، فصرت عبدا لَهُ حَتَّى أَتَى بِي مَكَّة فجعلني فِي بُسْتَان لَهُ ... الحَدِيث.
قَوْله: (كَاتب) أَمر من الْمُكَاتبَة. قَوْله: (وَكَانَ حرا) ، جملَة وَقعت حَالا من: قَالَ، لَا من قَوْله: (كَاتب) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ حر؟ قلت: أَرَادَ بِالْكتاب صُورَة الْكِتَابَة لَا حَقِيقَتهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أفد عَن نَفسك وتخلص من ظلمه. انْتهى. قلت: هَذَا السُّؤَال غير وَارِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب، فَكَانَ الْكرْمَانِي اعْتقد أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَكَانَ حرا، يَعْنِي فِي حَال الْكِتَابَة، فَإِنَّهُ فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ فِي ملك الَّذِي اشْتَرَاهُ لِأَنَّهُ غلب عَلَيْهِ(12/28)
بعض الْأَعْرَاب فِي وَادي الْقرى فملكه بالقهر، ثمَّ بَاعه من يَهُودِيّ، وَاشْترى مِنْهُ يَهُودِيّ آخر كَمَا ذكرنَا. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَكَانَ حرا) إِخْبَار مِنْهُ بحريَّته فِي أول أمره قبل أَن يخرج من دَار الْحَرْب، وَالْعجب من الْكرْمَانِي أَنه قَالَ: قَوْله: (وَكَانَ حرا) حَال من: قَالَ، يَعْنِي من: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا من: قَوْله: (كَاتب) فَكيف غفل عَن هَذَا وَسَأَلَ هَذَا السُّؤَال السَّاقِط؟ وَنَظِير ذَلِك مَا قَالَه صَاحب (التَّوْضِيح) : وَلَكِن مَا هُوَ فِي الْبعد مثل مَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَهُوَ أَنه قَالَ: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لِلْيَهُودِيِّ ملك سلمَان وَهُوَ مُسلم، فَلَا يجوز للْكَافِرِ ملك مُسلم؟ قلت: أجَاب عَنهُ الطَّبَرِيّ: بِأَن حكم هَذِه الشَّرِيعَة أَن من غلب من أهل الْحَرْب على نفس غَيره أَو مَاله، وَلم يكن المغلوب على ذَلِك مِمَّن دخل فِي الْإِسْلَام، فَهُوَ ملك للْغَالِب، وَكَانَ سلمَان حِين غلب نَفسه لم يكن مُؤمنا، وَإِنَّمَا كَانَ إيمَانه تَصْدِيق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا بعث مَعَ إِقَامَته على شَرِيعَة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، انْتهى. وَيُؤَيّد مَا ذكره الطَّبَرِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قدم الْمَدِينَة وَسمع بِهِ سلمَان فَذهب إِلَيْهِ بِبَعْض تمر يختبره إِن كَانَ هُوَ هَذَا النَّبِي يقبل الْهَدِيَّة وَيرد الصَّدَقَة، فَلَمَّا تحَققه دخل فِي ذَلِك الْوَقْت فِي الْإِسْلَام، كَمَا هوشرطه، فَلذَلِك أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْكِتَابَةِ ليخرج من ملك مَوْلَاهُ الْيَهُودِيّ.
وسُبِيَ عَمَّارٌ وصُهَيْبٌ وبِلاَلٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أم عمار كَانَت من موَالِي بني مَخْزُوم وَكَانُوا يعاملون عمارا مُعَاملَة السَّبي، فَهَذَا هُوَ السَّبي، فَهَذَا هُوَ الْوَجْه هُنَا لِأَن عمارا مَا سبي، على مَا نذكرهُ. وَأما صُهَيْب وبلاد فباعهما الْمُشْركُونَ على مَا نذكرهُ، فدخلا فِي قَوْله فِي التَّرْجَمَة: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَوْله: (وَسبي عمار وصهيب وبلال) يَعْنِي: أَنه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يسبي بَعضهم بَعْضًا ويملكون بذلك. انْتهى. قلت: هَذَا الْكَلَام الَّذِي يقرب قطّ من الْمَقْصُود أَخذه من صَاحب (التَّلْوِيح) ، وَكَون أهل الْجَاهِلِيَّة سابين بَعضهم بَعْضًا لَا يسْتَلْزم كَون عمار مِمَّن سبي وَلَا بلالد وَإِنَّمَا كَانَا يعذبان فِي الله تَعَالَى حَتَّى خلصهما الله تَعَالَى ببركة إسلامهما، نعم سبي صُهَيْب وَبيع على يَد الْمُشْركين، وَرُوِيَ عَن ابْن سعد أَنه قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي وَأَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بن مَسْعُود، قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن حَمْزَة بن صُهَيْب عَن أَبِيه، قَالَ: إِنِّي رجل من الْعَرَب من النمر بن قاسط، وَلَكِنِّي سبيت، سبتني الرّوم غُلَاما صَغِيرا بعد أَن عقلت أَهلِي وقومي وَعرفت نسبي، وَعَن ابْن سعد: كَانَ أَبَاهُ من النمر بن قاسط، وَكَانَ عَاملا لكسرى: فسبت الرّوم صهيبا لما غزت أهل فَارس فابتاعه مِنْهُم عبد الله بن جدعَان، وَقيل: هرب من الرّوم إِلَى مَكَّة فحالف ابْن جدعَان، فَهَذَا يُنَاسب التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ. وَأما بِلَال فَإِن ابْن إِسْحَاق ذكر فِي (الْمَغَازِي) : حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: مر أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأمية بن خلف وَهُوَ يعذب بِلَالًا، فَقَالَ: أَلا تتقي الله فِي هَذَا الْمِسْكِين؟ فَقَالَ: انقذه أَنْت بِمَا ترى. فَأعْطَاهُ أَبُو بكر غُلَاما أجلد مِنْهُ، وَأخذ بِلَالًا، فَأعْتقهُ. وَقيل غير ذَلِك، فحاصل الْكَلَام أَنه أَيْضا يُنَاسب التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ، أما الشِّرَاء فَإِن أَبَا بكر قايض مَوْلَاهُ، والمقايضة نوع من الْبيُوع، وَأما كَونه اشْترى من الْحَرْبِيّ لِأَن مَكَّة فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَت دَار الْحَرْب وَأَهْلهَا من أهل الْحَرْب، وَأما عمار فَإِنَّهُ كَانَ عَرَبيا عنسيا، بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة، مَا وَقع عَلَيْهِ سباء، وَإِنَّمَا سكن أَبوهُ يَاسر، مَكَّة وحالف بني مَخْزُوم فَزَوجُوهُ سميَّة، بِضَم السِّين: وَهِي من مواليهم، أسلم عمار بِمَكَّة قَدِيما، وَأَبوهُ وَأمه وَكَانُوا مِمَّن يعذب فِي الله، عز وَجل، (فَمر بهم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم يُعَذبُونَ: فَقَالَ صبرا آل يَاسر، فَإِن مَوْعدكُمْ الْجنَّة) . وَقيل أَبُو جهل سميَّة، طَعنهَا بِحَرْبَة فِي قُبُلِها فَكَانَت أول شَهِيد فِي الْإِسْلَام. وَقَالَ مُسَدّد: لم يكن أحد أَبَوَاهُ مسلمان غير عمار بن يَاسر، وَلَيْسَ لَهُ وَجه فِي دُخُوله فِي التَّرْجَمَة إلاَّ بتعسف، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: سبي، أَي أسر: وَلم يذكر شَيْئا غَيره، لِأَنَّهُ لم يجد شَيْئا يذكرهُ، على أَن السَّبي هَل يَجِيء بِمَعْنى الْأسر؟ فِيهِ كَلَام.
وَقَالَ الله تَعَالَى {وَالله فَضَّلَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} (النَّحْل: 17) .(12/29)
مُطَابقَة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {على مَا ملكت أَيْمَانهم} (النَّحْل: 17) . وَالْخطاب فِيهِ للْمُشْرِكين، فَأثْبت لَهُم ملك الْيَمين مَعَ كَون ملكهم غَالِبا على غير الأوضاع الشَّرْعِيَّة. وَقيل: مَقْصُوده صِحَة ملك الْحَرْبِيّ وَملك الْمُسلم عَنهُ. قلت: إِذا صَحَّ ملكهم يَصح تصرفهم فِيهِ بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَالْعِتْق وَنَحْوهَا، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ: أَن الله فضل الْملاك على مماليكهم، فَجعل الْمَمْلُوك لَا يقوى على ملك مَعَ مَوْلَاهُ، وَاعْلَم أَن الْمَالِك لَا يُشْرك مَمْلُوكه فِيمَا عِنْده، وهما من بني آدم، فَكيف تَجْعَلُونَ بعض الرزق الَّذِي يرزقكم الله لله، وَبَعضه لأصنامكم فتشركون بَين الله وَبَين الْأَصْنَام وَأَنْتُم لَا ترْضونَ ذَاك مَعَ عبيدكم لأنفسكم؟ وَقَالَ ابْن بطال: تَضَمَّنت التقريع للْمُشْرِكين والتوبيخ لَهُم على تسويتهم عبَادَة الْأَصْنَام بِعبَادة الرب تَعَالَى، وتعظم فنبههم الله تَعَالَى على أَن مماليكهم غير مساوين فِي أَمْوَالهم فَالله تَعَالَى أولى بإفراد الْعِبَادَة، وَأَنه لَا يُشْرك مَعَه أحد من عبيده إِذْ لَا مَالك فِي الْحَقِيقَة سواهُ، وَلَا يسْتَحق الإلهية غَيره. قَوْله: {أفبنعمة الله يجحدون} (النَّحْل: 17) . الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار، مَعْنَاهُ: لَا تجحدوا نعْمَة الله وَلَا تكفرُوا بهَا، وجحودهم بِأَن جعلُوا مَا رزقهم الله لغيره، وَقيل: أنعم الله عَلَيْهِم بالبراهين فجحدوا نعمه.
7122 - حدَّثنا أبوُ اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاجرَ إبراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاة والسَّلامُ بِسارَةَ فدَخَلَ بِها قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ أوْ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةَ فَقِيلَ دَخَلَ إبْرَاهِيمُ بامْرَأةٍ هِيَ مِنْ أحْسَنِ النِّساءِ فأرْسَلَ إلَيْهِ أنْ يَا إبْرَاهِيمُ مَنْ هاذِهِ الَّتِي معَكَ قَالَ أُخْتِي ثُمَّ رجَعَ إلَيْهَا فَقَالَ لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي فإنِّي أخْبَرْتُهُمْ أنَّكِ أُخْتِي وَالله إنْ عَلَى الأرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وغَيْرُكِ فأرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ فقامَ إلَيْهَا فقامَتْ تَوَضَّأُ وتصَلِّي فقالَتْ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وبِرَسُولِكَ وأحْصَنْتُ فَرْجِي إلاَّ عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ الكَافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ الأعْرَجُ قَالَ أبُو سلَمَةَ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قالَتِ اللَّهُمَّ إنْ يَمُتْ يُقالُ هِيَ قَتَلَتْهُ فارْسِلَ ثُمَّ قامَ إلَيهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأ وتُصَلي وتَقُولُ أللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وبِرَسُولِكَ وأحصَنْتِ فَرْجِي إلاَّ علَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ هاذا الكافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ أبُو سَلَمَةَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ فقالَتِ اللَّهُمَّ إنْ يَمُتُ فيُقَالُ هِيَ قتَلَتْهُ فأُرْسِلَ فِي الثَّانيَةِ أوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ وَالله مَا أرْسَلْتُمْ إلَيَّ إلاَّ شَيْطانا ارْجِعُوهَا إلَى إبْرَاهِيمَ وأعْطُوها آجَرَ فرَجعَتْ إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَت أشَعَرْتَ أنَّ الله كبَتَ الكَافِرَ وأخْدَمَ ولِيدَةً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: أعطوها هَاجر فَقَبلتهَا سارة، فَهَذِهِ هبة من الْكَافِر إِلَى الْمُسلم، فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز تصرف الْكَافِر فِي ملكه، وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَتَخْفِيف الْمِيم: الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة وَفِي الْإِكْرَاه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَاجر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بسارة) أَي: سَافر بهَا، و: سارة، بتَخْفِيف الرَّاء، بنت توبيل ابْن ناحور. وَقيل: سارة بنت هاران بن ناحور، وَقيل: بنت هاران بن ناحور، وَقيل: بنت هاران بن تارخ، وَهِي بنت أَخِيه على هَذَا وَأُخْت لوط. قَالَه الْعُتْبِي فِي (المعارف) والنقاش فِي التَّفْسِير قَالَ: وَذَلِكَ أَن نِكَاح بنت الْأَخ كَانَ حَلَالا إِذْ ذَاك، ثمَّ إِن النقاش نقض هَذَا القَوْل، فَقَالَ فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} (الشورى: 31) . إِن هَذَا يدل على تَحْرِيم بنت الْأَخ على لِسَان نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ السُّهيْلي: هَذَا هُوَ الْحق، وَإِنَّمَا توهموا أَنَّهَا بنت أَخِيه، لِأَن هاران أَخُوهُ، وَهُوَ هاران الْأَصْغَر، وَكَانَت هِيَ بنت هاران الْأَكْبَر وَهُوَ عَمه. قَوْله: (فَدخل بهَا قَرْيَة) الْقرْيَة من قريت المَاء فِي الْحَوْض أَي: جمعته، سميت بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا، وَتجمع(12/30)
على قرى، قَالَ الدَّاودِيّ: الْقرْيَة تقع على المدن الصغار والكبار، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْقرْيَة الْأُرْدُن وَالْملك صادوق، وَكَانَت هَاجر لملك من مُلُوك القبط، وَعند الطَّبَرِيّ: كَانَت امْرَأَة ملك من مُلُوك مصر، فَلَمَّا قَتله أهل عين شمس احتملوها مَعَهم، وَزعم أَن الْملك الَّذِي أَرَادَ سارة اسْمه سِنَان بن علوان، أَخُو الضَّحَّاك، وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (كتاب التيجان) : إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خرج من مَدين إِلَى مصر، وَكَانَ مَعَه من الْمُؤمنِينَ ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبمصر ملكهَا عَمْرو بن امرىء الْقَيْس بن نابليون من سبأ. قَوْله: (أَو جَبَّار) ، شكّ من الرَّاوِي، والجبار يُطلق على ملك عَاتٍ ظَالِم. قَوْله: (فَقيل: دخل إِبْرَاهِيم بِامْرَأَة) ، وَقَالَ ابْن هِشَام وشى بِهِ حناط كَانَ إِبْرَاهِيم يتمار مِنْهُ، فَأمر بِإِدْخَال إِبْرَاهِيم وَسَارة عَلَيْهِ، ثمَّ نحى إِبْرَاهِيم وَقَامَ إِلَى سارة، فَلَمَّا صَار إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَارج الْقصر جعله الله لَهُ كالقارورة الصافية، فَرَأى الْملك وَسَارة وَسمع كَلَامهمَا، فهم عَمْرو بسارة وَمد يَده إِلَيْهَا، فيبست فَمد الْأُخْرَى فَكَذَلِك، فَلَمَّا رأى ذَلِك كف عَنْهَا. وَقَالَ ابْن هِشَام: وَكَانَ الحناط أخبر الْملك بِأَنَّهُ رَآهَا تطحن، فَقَالَ الْملك: يَا إِبْرَاهِيم! مَا يَنْبَغِي لهَذِهِ أَن تخذم نَفسهَا؟ فَأمر لَهُ بهاجر. قَوْله: (قَالَ: أُخْتِي) يَعْنِي: فِي الدّين.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا الحَدِيث إِشْكَال مَا زَالَ يختلج فِي صَدْرِي، وَهُوَ أَن يُقَال: مَا معنى توريته، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن الزَّوْجَة بالأخت، وَمَعْلُوم أَن ذكرهَا بِالزَّوْجِيَّةِ كَانَ أسلم لَهَا، لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: هَذِه أُخْتِي قَالَ: زوجنيها. وَإِذا قَالَ امْرَأَتي سكت هَذَا إِن كَانَ الْملك يعْمل بِالشَّرْعِ، فَأَما إِذا كَانَ كَمَا وصف من جوره فَمَا يُبَالِي إِذا كَانَت زَوْجَة أَو أُخْتا إِلَى أَن وَقع لي أَن الْقَوْم كَانُوا على دين الْمَجُوس، وَفِي دينهم أَن الْأُخْت إِذا كَانَت زَوْجَة كَانَ أَخُوهَا الَّذِي هُوَ زَوجهَا أَحَق بهَا من غَيره، فَكَانَ الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يستعصم من الْجَبَّار بِذكر الشَّرْع الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ، فَإِذا هُوَ جَبَّار لَا يُرَاعِي جَانب دينه. قَالَ: وَاعْترض على هَذَا بِأَن الَّذِي جَاءَ على مَذْهَب الْمَجُوس زرادشت، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن هَذَا الزَّمن، فَالْجَوَاب أَن لمَذْهَب الْقَوْم أصلا قَدِيما ادَّعَاهُ زرادشت وَزَاد عَلَيْهِ خرافات، وَقد كَانَ نِكَاح الْأَخَوَات جَائِزا فِي زمن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَيُقَال: كَانَت حرمته على لِسَان مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: وَيدل على أَن دين الْمَجُوس لَهُ أصل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر، وَمَعْلُوم أَن الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إلاَّ مِمَّن لَهُ كتاب أَو شُبْهَة كتاب، ثمَّ سَأَلت عَن هَذَا بعض عُلَمَاء أهل الْكتاب فَقَالَ: كَانَ من مَذْهَب الْقَوْم أَن من لَهُ زَوْجَة لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج إلاَّ أَن يهْلك زَوجهَا، فَلَمَّا علم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا قَالَ: هِيَ أختى، كَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَانَ الْملك عادلاً، فَخَطَبَهَا مني أمكنني دَفعه، وَإِن كَانَ ظَالِما تخلصت من الْقَتْل، وَقيل: إِن النُّفُوس تأبى أَن يتَزَوَّج الْإِنْسَان بِامْرَأَة وَزوجهَا مَوْجُود، فَعدل، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن قَوْله: زَوْجَتي، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَتله أَو طرده عَنْهَا، أَو تَكْلِيفه لفراقها. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيل: إِن من سيرة هَذَا الْجَبَّار أَنه لَا يغلب الْأَخ على أُخْته وَلَا يَظْلمه فِيهَا، وَكَانَ يغلب الزَّوْج على زَوجته. وَالله أعلم.
قَوْله: (إِن على الأَرْض) كلمة: إِن، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون النُّون للنَّفْي، يَعْنِي: وَالله مَا على الأَرْض مُؤمن غَيْرِي وَغَيْرك. قَوْله: (وَغَيْرك) ، بِالْجَرِّ عطفا على: غَيْرِي، ويروى بِالرَّفْع بَدَلا عَن الْمحل، ويروى: مَنْ يُؤمن، بِكَلِمَة: مَنْ، الموصولة: وَصدر صلتها مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالله، الَّذِي على الأَرْض لَيْسَ بِمُؤْمِن غَيْرِي وَغَيْرك. قَوْله: (فَقَامَتْ تَوَضَّأ) ، بِرَفْع الْهمزَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَتصلي (عطف عَلَيْهِ) . قَوْله: (أللهم إِن كنت آمَنت. .) قيل: شَرط مَدْخُول أَن كَونه مشكوكا فِيهِ، وَالْإِيمَان مَقْطُوع بِهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهَا كَانَت قَاطِعَة بِهِ، وَلكنهَا ذكرته على سَبِيل الْفَرْض هَهُنَا هضما لنَفسهَا. قَوْله: (فغط) ، قَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي بعض الْأُصُول بِفَتْح الْغَيْن وَالصَّوَاب بِالضَّمِّ، كَذَا فِي بعض الْأُصُول. قلت: هُوَ بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة، وَمَعْنَاهُ: أَخذ مجاري نَفسه حَتَّى سمع لَهُ غطيط، يُقَال: غط المخنوق إِذا سمع غَطِيطه. قَوْله: (حَتَّى ركض بِرجلِهِ) ، أَي: حركها وضربها على الأَرْض. قَوْله: (قَالَ الْأَعْرَج) ، هُوَ الْمَذْكُور فِي السَّنَد، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، قَالَ أَبُو سَلمَة: إِن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: قَالَت: أللهم إِن يمت (ح) هُوَ مَوْقُوف ظَاهرا، وَكَذَا ذكره صَاحب (الْأَطْرَاف) ، وَكَانَ أَبَا الزِّنَاد روى الْقطعَة الأولى مُسندَة، وَهَذِه مَوْقُوفَة. قَوْله: (يُقَال: هِيَ قتلته) ، ويروى: يقل هِيَ قتلته، وَهُوَ الظَّاهِر لوُجُوب الْجَزْم فِيهِ، وَوجه رِوَايَة: يُقَال: هُوَ، إِمَّا أَن الْألف حصلت من إشباع الفتحة، وَإِمَّا أَنه كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت} (النِّسَاء: 87) . بِالرَّفْع فِي قِرَاءَة بَعضهم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قيل: هُوَ بِتَقْدِير الْفَاء: قلت: تَقْدِيره: فيدرككم الْمَوْت، وَكَذَلِكَ(12/31)
هُنَا يكون التَّقْدِير: فَيُقَال. قَوْله: (فِي الثَّانِيَة) ، أَي: أرسل سارة فِي الْمرة الثَّانِيَة. قَوْله: (أَو فِي الثَّالِثَة) ، شكّ من الرَّاوِي أَي: أَو أرسلها فِي الْمرة الثَّالِثَة. قَوْله: (إلاَّ شَيْطَانا) أَي: متمردا من الْجِنّ، وَكَانُوا يهابون الْجِنّ ويعظمون أَمرهم، وَيُقَال: سَبَب قَوْله ذَلِك أَنه جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: لما قبضت يَده عَنْهَا، قَالَ لَهَا: ادعِي لي، فَقَالَ ذَلِك لِئَلَّا يتحدث بِمَا ظهر من كرامتها فتعظم فِي نفوس النَّاس وتتبع، فَلبس على السَّامع بِذكر الشَّيْطَان. قَوْله: (إرجعوا) ، بِكَسْر الْهمزَة أَي: ردوهَا إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وأعطوها آجر) أَي: أعْطوا سارة آجر، وَهِي الوليدة: اسْمهَا آجر، بِهَمْزَة ممدودة وجيم مَفْتُوحَة وَفِي آخِره رَاء، واستعملوا الْهَاء مَوضِع الْهمزَة، فَقيل: هَاجر، وَهِي أم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا أَن سارة أم إِسْحَاق، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: إِن هَاجر من حقن من كورة أنصنا قَوْله. قلت: حقن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفِي آخِره نون، وَهُوَ اسْم لقرية من صَعِيد مصر، قَالَه ابْن الْأَثِير. قلت: هُوَ كفر من كفور كورة أنصنا، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة ثمَّ نون ثَانِيَة وَألف مَقْصُورَة، وَهِي بَلْدَة بالصعيد الْأَوْسَط على شط النّيل من الْبر الشَّرْقِي فِي قبالة الأشمونيين من الْبر الآخر، وَبهَا آثَار عَظِيمَة ومزدرع كثير. وَقَالَ اليعقوبي: هِيَ مَدِينَة قديمَة يُقَال إِن سحرة فِرْعَوْن كَانُوا فِيهَا. قَوْله: (أشعرت) ، أَي: أعلمت تخاطب إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَوْله: (كبت الْكَافِر) ، أَي: رده خاسئا خائبا. وَقيل: أحزنه. وَقيل: أغاظه، لِأَن الكبت شدَّة الغيظ، وَقيل: صرعه، وَقيل: أذله، وَقيل: أَخْزَاهُ، وَقيل: أَصله كبد، أَي: بلغ الْهم كبده فأبدل من الدَّال تَاء. قَوْله: (واخدم وليدة) أَي: أعطي خَادِمًا أَي: أَعْطَاهَا أمة تخدمها، والوليدة تطلق على الْجَارِيَة وَإِن كَانَت كَبِيرَة، وَفِي الأَصْل الْوَلِيد الطِّفْل وَالْأُنْثَى وليدة وَالْجمع ولائد. فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الْمعَارض لقَوْله: إِنَّهَا أُخْتِي وَإِنَّهَا مندوحة عَن الْكَذِب. وَفِيه: إِن أخوة الْإِسْلَام أخوة تجب أَن يتسمى بهَا. وَفِيه: الرُّخْصَة فِي الأنقياد للظالم أَو الْغَاصِب. وَفِيه: قبُول صلَة السُّلْطَان الظَّالِم وَقبُول هَدِيَّة الْمُشرك. وَفِيه: إِجَابَة الدُّعَاء بإخلاص النِّيَّة وكفاية الرب، جلّ جَلَاله، لمن أخلصها بِمَا يكون نوعا من الْآفَات وَزِيَادَة فِي الْإِيمَان تَقْوِيَة على التَّصْدِيق وَالتَّسْلِيم والتوكل. وَفِيه: ابتلاء الصَّالِحين لرفع درجاتهم. وَفِيه: أَن من قَالَ لزوجته: أُخْتِي، وَلم ينوِ شَيْئا لَا يكون طَلَاقا، وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: مثل أُخْتِي، لَا يكون ظِهَارًا. وَفِيه: أَخذ الحذر مَعَ الْإِيمَان بِالْقدرِ. وَفِيه: مُسْتَند لمن يَقُول: إِن طَلَاق الْمُكْره لَا يَقع، وَلَيْسَ بِشَيْء. وَفِيه: الْحِيَل فِي التَّخَلُّص من الظلمَة، بل إِذا علم أَنه لَا يتَخَلَّص إلاَّ بِالْكَذِبِ جَازَ لَهُ الْكَذِب الصراح، وَقد يجب فِي بعض الصُّور بالِاتِّفَاقِ لكَونه يُنجي نَبيا أَو وليا مِمَّن يُرِيد قَتله أَو لنجاة الْمُسلمين من عدوهم، وَقَالَ الْفُقَهَاء: لَو طلب ظَالِم وَدِيعَة لإِنْسَان ليأخذها غصبا وَجب عَلَيْهِ الْإِنْكَار وَالْكذب فِي أَنه لَا يعلم موضعهَا.
8122 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهابٍ عَن عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها قالَتِ اخْتَصَمَ سَعْدُ بنُ أبِي وقاصٍ وعَبْدُ بنُ زَمْعَةَ فِي غلامٍ فقالَ سَعْدٌ هَذَا يَا رسولَ الله ابنُ أخي عُتْبَةَ بنِ أبِي وقَّاصٍ عَهدَ إلَى أنَّهُ ابْنُهُ انْظُر إِلَى شبَهِهِ وَقَالَ عَبدُ بنُ زَمْعَةَ هَذَا أخي يَا رسولَ الله وُلِدَ علَى فِراشِ أبِي مِنْ ولِيدَتِهِ فنَظَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاى شبَهِهِ فرَأى شبَها بَيِّنا بِعُتْبَةَ فَقال هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ الوَلدُ لِلْفِراشِ ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ واحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عبد بن زَمعَة قَالَ: هَذَا ابْن أمة أبي، ولد على فرَاشه، فَأثْبت لِأَبِيهِ أمه وملكا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلم يُنكر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك، وَسمع خصامهما وَهُوَ دَلِيل على تَنْفِيذ عهد الْمُشرك وَالْحكم بِهِ، وَإِن تصرف الْمُشرك فِي ملكه يجوز كَيفَ شَاءَ، وَحكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُنَا بِأَن الْوَلَد للْفراش فَلم ينظر إِلَى الشّبَه وَلَا اعْتَبرهُ. والْحَدِيث قد مر فِي تَفْسِير المشبهات فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يحيى بن قزعة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَوْله: (أنظر إِلَى شبهه) أَي: إِلَى مشابهة الْغُلَام بِعتبَة، والعاهر: الزَّانِي.(12/32)
9122 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لِصُهَيْبٍ اتَّقِ الله وَلَا تدَّعِ إلَى غَيْرِ أبيكَ فقالَ صُهَيْبٌ مَا يَسُرُّنِي أنَّ لي كَذَا وكَذا وَأنِّي قُلْتُ ذَلِكَ وَلاكِنِّي سُرِقْتُ وأنَا صَبِيٌّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من تَتِمَّة قصَّته، وَهِي أَن كَلْبا ابتاعه من الرّوم فَاشْتَرَاهُ ابْن جدعَان فاعتقه، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، وَسعد هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لِصُهَيْب: إتق الله) إِلَى آخِره إِنَّمَا قَالَ عبد الرَّحْمَن ذَلِك لِأَن صهيبا كَانَ يَقُول: إِنَّه ابْن سِنَان بن مَالك بن عبد عَمْرو بن عقيل، نسبه إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى النمر بن قاسط، وَأَن أمه من بني تَمِيم، وَكَانَ لِسَانه أعجميا لِأَنَّهُ رَبِّي بَين الرّوم فغلب عَلَيْهِ لسانهم. فَإِن قلت: وروى الْحَاكِم من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِصُهَيْب: مَا جدت عَلَيْك فِي الْإِسْلَام إلاَّ ثَلَاثَة أَشْيَاء: اكتنيت أَبَا يحيى، وَإنَّك لَا تمسك شَيْئا، وتدعى إِلَى النمر بن قاسط، فَقَالَ: أما الكنية، فَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كناني. وَأما النَّفَقَة، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} . وَأما النّسَب، فَلَو كنت من رَوْثَة لانتسبت إِلَيْهَا، وَلَكِن كَانَ الْعَرَب يسبي بَعضهم بَعْضًا، فسباني نَاس بعد أَن عرفت مولدِي وَأَهلي، فباعوني، فَأخذت بلسانهم يَعْنِي بِلِسَان الرّوم قلت: سِيَاق الحَدِيث يدل على أَن الْمُرَاجَعَة كَمَا كَانَت بَين صُهَيْب وَبَين عبد الرَّحْمَن كَانَت كَذَلِك بَينه وَبَين عمر بن الْخطاب. قلت: النمر بن قاسط فِي ربيعَة بن نزار، وَهُوَ النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار. قَوْله: (اتَّقِ الله) ، أَي: خف الله وَلَا تنتسب إِلَى غير أَبِيك، فَكَأَن عبد الرَّحْمَن كَانَ يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك، وَلَا يحملهُ إلاَّ على خِلَافه، فَأجَاب صُهَيْب بقوله: (مَا يسرني أَن لي كَذَا وَكَذَا) .
0222 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ أخبرَهُ أنَّهُ قَالَ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ أُمُورا كُنْتُ أتَحَنَّثُ أوْ أتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وعَتاقَةٍ وصَدَقَةٍ هَلْ لِي فِيها أجْرٌ قَالَ حَكِيمٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلفَ لَك مِنْ خَيْرٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِيمَا تضمنه الحَدِيث من وُقُوع الصَّدَقَة والعتاقة من الْمُشرك، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن صِحَة ملك الْمُشرك لِأَن صِحَة الْعتْق متوقفة على صِحَة الْملك فيطابق هَذَا قَوْله فِي التَّرْجَمَة وهبته وعتقه، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب من تصدق فِي الشّرك، ثمَّ أسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن هِشَام عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (أَرَأَيْت أمورا؟) وَهُنَاكَ: أَرَأَيْت أَشْيَاء. وَقَوله: (أَو أتحنت) ، غير مَذْكُور هُنَاكَ، وَفِي التَّلْوِيح: أتحنث أَو أتحنت، كَذَا فِي نُسْخَة السماع الأول بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالثَّانِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة، وَعَلَيْهَا تمريض وَفِي بعض النّسخ بِالْعَكْسِ، كَذَا ذكره ابْن التِّين، قَالَ: وَلم يذكر أحد من اللغويين التَّاء الْمُثَنَّاة، وَإِنَّمَا هُوَ الْمُثَلَّثَة كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث حراء، (فَيَتَحَنَّث) أَي: فيتعبد، وَفِي (الْمطَالع) قَول حَكِيم بن حزَام: (كنت أتحنت) بتاء مثناة، رَوَاهُ الْمروزِي فِي: بَاب من وصل رَحمَه، وَهُوَ غلط من جِهَة الْمَعْنى، وَأما الرِّوَايَة فصحيحة، وَالوهم فِيهِ من شُيُوخ البُخَارِيّ بِدَلِيل قَول البُخَارِيّ: وَيُقَال أَيْضا عَن أبي الْيَمَان: (أتحنث أَو أتحنت) ، على الشَّك، وَالصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ الكافة بالثاء الْمُثَلَّثَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: (أتحبب) ، من الْمحبَّة، وَالله تَعَالَى أعلم.
101 - (بابُ جُلُودِ المَيْتَةِ قَبْلَ أنْ تدْبَغَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم جُلُود الْميتَة قبل دباغها، هَل يَصح بيعهَا أم لَا؟ وسنوضح فِي الحَدِيث جَوَاز بيعهَا.(12/33)
1222 - حدَّثنا زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا أبِي عنْ صالِحٍ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ الله قَالَ أخبَرَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بِشاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بإهَابِهَا قالُوا إنَّها مَيِّتَة قَالَ إنَّمَا حَرُمَ أكْلُهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (هلا انتفعتم بإهابها؟) لِأَنَّهُ يدل على أَنه ينْتَفع بجلد الْمَيِّت، وَالِانْتِفَاع بِهِ يدل على جَوَاز بَيْعه، لِأَن الشَّارِع خص الْحُرْمَة فِيهَا بِغَيْر الْأكل، وَغير الْأكل أَعم من أَن يكون بِالْبيعِ وَغَيره، وَظَاهره جَوَاز الِانْتِفَاع بِهِ، سَوَاء دبغ أَو لم يدبغ، وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ، وَكَانَ البُخَارِيّ أَيْضا اخْتَار هَذَا الْمَذْهَب، وَبِمَا ذَكرْنَاهُ يسْقط اعْتِرَاض من يُورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي أوردهُ تعرض للْبيع، والْحَدِيث أَيْضا أوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة.
وَرِجَاله سَبْعَة: زُهَيْر مصغر زهر ابْن حَرْب ضد الصُّلْح ابْن شَدَّاد أَبُو خَيْثَمَة، وَيَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الصَّدَقَة على موَالِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سعيد بن عفير عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عبد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
201 - (بابُ قَتْلِ الخِنْزِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قتل الْخِنْزِير: هَل هُوَ مَشْرُوع كَمَا شرع تَحْرِيم أكله؟ أَي: مَشْرُوع؟ وَالْجُمْهُور على جَوَاز قَتله مُطلقًا إلاَّ مَا رُوِيَ شاذا من بعض الشَّافِعِيَّة أَنه يتْرك الْخِنْزِير إِذا لم يكن فِيهِ ضراوة، وَقَالَ ابْن التِّين: وَمذهب الْجُمْهُور أَنه إِذا وجد الْخِنْزِير فِي دَار الْكفْر وَغَيرهَا وتمكنا من قَتله قَتَلْنَاهُ. قلت: يَنْبَغِي أَن يسْتَثْنى خِنْزِير أهل الذِّمَّة لِأَنَّهُ مَال عِنْدهم، وَنحن نهينَا عَن التَّعَرُّض إِلَى أَمْوَالهم. فَإِن قلت: يَأْتِي عَن قريب أَن عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، حِين ينزل يقتل الْخِنْزِير مُطلقًا. قلت: يقتل الْخِنْزِير بعد قتل أَهله، كَمَا أَنه يكسر الصَّلِيب لِأَنَّهُ ينزل وَيحمل النَّاس كلهم على الْإِسْلَام لتقرير شَرِيعَة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا جَازَ قتل أهل الْكفْر حِينَئِذٍ سَوَاء كَانُوا من أهل الذِّمَّة أَو من أهل الْحَرْب، فَقتل خنزيرهم وَكسر صليبهم بطرِيق الأولى والأحق، ألاَ تَرى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يضع الْجِزْيَة) ، يَعْنِي: يرفعها لِأَن النَّاس كلهم يسلمُونَ؟ فَمن لم يدْخل فِي الْإِسْلَام يقْتله، فَلَا يبْقى وَجه لأخذ الْجِزْيَة لِأَن الْجِزْيَة، إِنَّمَا تُؤْخَذ فِي هَذِه الْأَيَّام لتصرف فِي مصَالح الْمُسلمين، مِنْهَا دفع أعدائهم، وَفِي زمن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يبْقى عَدو للدّين، لِأَن النَّاس كلهم مُسلمُونَ، وَيفِيض المَال بَينهم فَلَا يحْتَاج أحد إِلَى شَيْء من الْجِزْيَة لارتفاعها بذهاب أَهلهَا. فَإِن قلت: مَا وَجه دُخُول هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الْبيُوع؟ قلت: كَانَ البُخَارِيّ فهم أَن كل مَا حرم وَلم يجز بَيْعه يجوز قَتله، فالخنزير حرم الشَّارِع بَيْعه كَمَا فِي حَدِيث جَابر الْآتِي، فَجَاز قَتله، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة أَدخل هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الْبيُوع، وَقَالَ بَعضهم: وَوجه دُخُوله فِي أبوواب البيع الْإِشَارَة إِلَى أَن مَا أَمر بقتْله لَا يجوز بَيْعه. قلت: فِيهِ نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه يحْتَاج إِلَى بَيَان الْموضع الَّذِي أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقتل الْخِنْزِير، وَتَحْرِيم بَيْعه لَا يسْتَلْزم جَوَاز قَتله، وَالْآخر أَن قَوْله: (ماأمر بقتْله لَا يجوز بَيْعه) ، لَيْسَ بكلي، فَإِن الشَّارِع أَمر بقتل الْحَيَّات صَرِيحًا، مَعَ أَن جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم أَبُو اللَّيْث، قَالُوا: يجوز بيع الْحَيَّات إِذا كَانَت ينْتَفع بهَا للأدوية.
وَقَالَ جابرٌ حَرَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْعَ الخِنْزِيرِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَشْرُوعِيَّة قتل الْخِنْزِير كَانَ مَبْنِيا على كَونه محرما أكله، فَهَذَا الْقدر بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّة يَكْفِي لوُجُود الْمُطَابقَة، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث البُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر، بِلَفْظ: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،(12/34)
عَام الْفَتْح، وَهُوَ بِمَكَّة، يَقُول: إِن الله تَعَالَى وَرَسُوله حرما بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير والأصنام بعد تِسْعَة أَبْوَاب.
2222 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ حَكما مُقْسِطا فيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ويَقْتُلَ الخِنْزِيرَ ويَضَعَ الجِزْيَةَ ويَفِيضَ المالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أحدٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيقتل الْخِنْزِير) ، والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَقَالَ حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ليوشكن) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، ويوشكن من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ مضارع دخلت عَلَيْهِ نون التَّأْكِيد، وماضيه: أوشك، وَأنكر الْأَصْمَعِي مَجِيء الْمَاضِي مِنْهُ، وَحكى الْخَلِيل اسْتِعْمَال الْمَاضِي فِي قَول الشَّاعِر:
وَلَو سالوا الشرَّاب لأوشكونا
وأفعال المقاربة أَنْوَاع: نوع: مِنْهَا: مَا وضع للدلالة على دنو الْخَبَر، وَهُوَ ثَلَاثَة: كَاد وكرب وأوشك، وَمَعْنَاهُ هُنَا: ليسرعن، وَقَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ لَيَكُونن. قَالَ: وَجَاء يُوشك بِمَعْنى: يكون وَمعنى يقرب. قَوْله: (أَن ينزل) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية، وَالْمعْنَى: ليسرعن نزُول ابْن مَرْيَم فِيكُم، ونزوله من السَّمَاء، فَإِن الله رَفعه إِلَيْهَا وَهُوَ حَيّ ينزل عِنْد المنارة الْبَيْضَاء بشرقي دمشق وَاضِعا كفيه على أَجْنِحَة ملكَيْنِ، وَكَانَ نُزُوله عِنْد انفجار الصُّبْح. قَوْله: (حكما) بِفتْحَتَيْنِ، بِمَعْنى الْحَاكِم. قَوْله: (مقسطا) أَي: عادلاً، من الإقساط، يُقَال: أقسط إِذا عدل، وقسط إِذا ظلم، فَكَأَن الْهمزَة فِيهِ للسلب، كَمَا يُقَال: شكا إِلَيْهِ فأشكاه. قَوْله: (فيكسر الصَّلِيب) ، الْفَاء فِيهِ تفصيلية لقَوْله حكما مقسطا، وويرى: حكما عدلا، قَالَ الطَّيِّبِيّ: يُرِيد بقوله: يكسر الصَّلِيب إبِْطَال النَّصْرَانِيَّة وَالْحكم بشرع الْإِسْلَام. وَفِي (التَّوْضِيح) : يكسر الصَّلِيب، أَي: بعد قتل أَهله. قلت: فتح لي هُنَا معنى من الْفَيْض الإلهي، وَهُوَ: أَن المُرَاد من كسر الصَّلِيب إِظْهَار كذب النَّصَارَى حَيْثُ ادعوا أَن الْيَهُود صلبوا عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على خشب، فَأخْبر الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز بكذبهم وافترائهم، فَقَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه لَكِن شبه لَهُم} (النِّسَاء: 751) . وَذَلِكَ أَنهم لما نصبوا لَهُ خَشَبَة ليصلبوا عَلَيْهَا، ألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى على الَّذِي دلهم عَلَيْهِ، واسْمه: يهوذا، وصلبوه مَكَانَهُ، وهم يظنون أَنه عِيسَى، وَرفع الله عِيسَى إِلَى السَّمَاء، ثمَّ تسلطوا على أَصْحَابه بِالْقَتْلِ والصلب وَالْحَبْس حَتَّى بلغ أَمرهم إِلَى صَاحب الرّوم، فَقيل لَهُ: إِن الْيَهُود قد تسلطوا على أَصْحَاب رجل كَانَ يذكر لَهُم أَنه رَسُول الله، وَكَانَ يحيي الْمَوْتَى ويبرىء الأكمه والأبرص وَيفْعل الْعَجَائِب، فعدوا عَلَيْهِ وقتلوه وصلبوه، فَأرْسل إِلَى المصلوب فَوضع عَن جذعه وَجِيء بالجذع الَّذِي صلب عَلَيْهِ فَعَظمهُ، صَاحب الرّوم وَجعلُوا مِنْهُ صلبانا، فَمن ثمَّ عظمت النَّصَارَى الصلبان، وَمن ذَلِك الْوَقْت دخل دين النَّصْرَانِيَّة فِي الرّوم، ثمَّ يكون كسر عِيسَى الصَّلِيب حِين ينزل إِشَارَة إِلَى كذبهمْ فِي دَعوَاهُم أَنه قتل وصلب، وَإِلَى بطلَان دينهم، وَأَن الدّين الْحق هُوَ الدّين الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ دين الْإِسْلَام دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي هُوَ نزل لإظهاره وَإِبْطَال بَقِيَّة الْأَدْيَان بقتل النَّصَارَى وَالْيَهُود وَكسر الْأَصْنَام، وَقتل الْخِنْزِير وَغير ذَلِك. قَوْله: (وَيقتل الْخِنْزِير) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَمعنى قتل الْخِنْزِير تَحْرِيم اقتنائه وَأكله، وَإِبَاحَة قَتله. وَفِيه بَيَان أَن أعيانها نَجِسَة، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا يَقْتُلهَا على حكم شرع الْإِسْلَام وَالشَّيْء الطَّاهِر المنتفع بِهِ لَا يُبَاح إِتْلَافه. انْتهى. وَقيل: يحْتَمل أَنه لتضعيف أهل الْكفْر عِنْدَمَا يُرِيد قِتَالهمْ، وَيحْتَمل أَنه يقْتله بَعْدَمَا يقتلهُمْ. قَوْله: (وَيَضَع الْجِزْيَة) ، وَقد مر تَفْسِيره فِي أول الْبَاب. قَوْله: (وَيفِيض المَال) ، أَي: يكثر ويتسع، من فاض المَاء إِذا سَالَ وارتفع، وَضَبطه الدمياطي بِالنّصب عطفا على مَا قبله من المنصوبات، وَقَالَ ابْن التِّين: إعرابه بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ كَلَام مُسْتَأْنف غير مَعْطُوف لِأَنَّهُ لَيْسَ من فعل عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (حَتَّى لَا يقبله أحد) ، لكثرته واستغناء كل وَاحِد بِمَا فِي يَده، وَيُقَال: يكثر المَال حَتَّى يفضل مِنْهُ بأيدي ملاكه مَا لَا حَاجَة لَهُم بِهِ فيدور وَاحِد مِنْهُم على من يقبل شَيْئا مِنْهُ فَلَا يجده.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث مَا فِيهِ: قَالَه ابْن بطال دَلِيل على أَن الْخِنْزِير حرَام فِي شَرِيعَة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَتله لَهُ تَكْذِيب(12/35)
لِلنَّصَارَى أَنه حَلَال فِي شريعتهم. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الِانْتِفَاع بِشعرِهِ، فكرهه ابْن سِيرِين وَالْحكم وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا ينْتَفع من الْخِنْزِير بِشَيْء وَلَا يجوز بيع شَيْء مِنْهُ، وَيجوز للخرازين أَن يبيعوا شَعْرَة أَو شعرتين للخرازة، وَرخّص فِيهِ الْحسن وَطَائِفَة، وَذكر عَن مَالك: أَنه لَا بَأْس بالخرازة بِشعرِهِ، وَأَنه لَا بَأْس بِبيعِهِ وشرائه، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يجوز للخراز أَن يَشْتَرِيهِ، وَلَا يجوز لَهُ أَن يَبِيعهُ، وَمِنْه مَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) أَن الْخِنْزِير أَسْوَأ حَالا من الْكَلْب، لِأَنَّهُ لم ينزل بقتْله بِخِلَافِهِ. قلت: الْخِنْزِير نجس الْعين حَتَّى لَا يجوز دباغة جلده، بِخِلَاف الْكَلْب على مَا عرف فِي الْفُرُوع.
301 - (بابٌ لاَ يُذَابُ شَحْمُ المَيْتَةِ ولاَ يُباعُ ودَكُهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يذاب شَحم الْميتَة، وَلَا يذاب مَجْهُول من: يذيب إذابة، من ذاب الشيى ذوبا ضد: جمد قَوْله: (ودكه) بِفَتْح الْوَاو وَالدَّال، وَفِي (الْمغرب) : الودك من اللَّحْم والشحم مَا يتحلب مِنْهُ، وَقَول الْفُقَهَاء: ودك الْميتَة من ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الودك: هُوَ دسم اللَّحْم ودهنه الَّذِي يسْتَخْرج مِنْهُ.
روَاهُ جابِرٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى الْمَذْكُور من ترك إذابة شَحم الْميتَة وَترك بيع الودك جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا تَعْلِيق أسْندهُ البُخَارِيّ فِي بَاب بيع الْميتَة والأصنام، يَأْتِي بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب.
166 - (حَدثنَا الْحميدِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار قَالَ أَخْبرنِي طَاوس أَنه سمع ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول بلغ عمر أَن فلَانا بَاعَ خمرًا فَقَالَ قَاتل الله فلَانا ألم يعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَاتل الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها فَبَاعُوهَا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها بِالْجِيم والْحميدِي بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة هُوَ عبد الله بن الزبير ابْن عِيسَى الْقرشِي الْمَكِّيّ وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَكَانَ الْحميدِي أثبت النَّاس وَفِيه وَقَالَ جالسته تسع عشرَة سنة أَو نَحْوهَا والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب واسحق بن إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن أُميَّة بن بسطَام عَن يزِيد بن زُرَيْع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح وَفِي التَّفْسِير عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ قَوْله " قَاتل الله فلَانا " قَالَ الْبَيْضَاوِيّ أَي عاداهم وَقيل قَتلهمْ فَأخْرج فِي صُورَة الْمُبَالغَة أَو عبر عَنهُ بِمَا هُوَ سَبَب عَنهُ فَمنهمْ بِمَا اخترعوا من الْحِيَل انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته وَمن قَاتله قَتله وَقَالَ الْخطابِيّ قيل أَن الَّذِي فِيهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ هَذَا القَوْل سَمُرَة فَإِنَّهُ خللها ثمَّ بَاعهَا وَكَيف يجوز على مثل سَمُرَة أَن يَبِيع عين الْخمر وَقد شاع تَحْرِيمهَا لكنه أول فِيهَا بِأَن خللها وَغير اسْمهَا كَمَا أولوه بالإذابة فِي الشَّحْم فعابه عمر على ذَلِك انْتهى قلت قَالَ مُسلم حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَاللَّفْظ لأبي بكر قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو وَعَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ بلغ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن سَمُرَة بَاعَ خمرًا فَقَالَ قَاتل الله سَمُرَة ألم يعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لعن الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها فَبَاعُوهَا " وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الزَّعْفَرَانِي عَن سُفْيَان وَزَاد فِي رِوَايَته سَمُرَة بن جُنْدُب وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره اخْتلف فِي تَفْسِيره بيع سَمُرَة الْخمر على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهمَا أَنه أَخذهَا من أهل الْكتاب عَن قيمَة الْجِزْيَة فَبَاعَهَا مِنْهُم مُعْتَقدًا جَوَاز ذَلِك وَالثَّانِي أَن يكون بَاعَ الْعصير مِمَّن يَتَّخِذهُ خمرًا والعصير يُسمى خمرًا كَمَا يُسمى الْعِنَب بِهِ لِأَنَّهُ يؤول إِلَيْهِ قَالَ الْخطابِيّ وَلَا يظنّ بسمرة أَنه بَاعَ عين الْخمر بعد أَن شاع تَحْرِيمهَا وَإِنَّمَا بَاعَ الْعصير وَالثَّالِث أَن يكون خلل الْخمر وباعها لما ذكرنَا آنِفا وَقَالَ(12/36)
الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي كِتَابه الْمدْخل يجوز أَن سَمُرَة علم بتحريمها وَلم يعلم بِحرْمَة بيعهَا وَلَو لم يكن كَذَلِك لما أقره عمر على عمله ولعزله لَو فعله عَن علم انْتهى وَهَذَا يرد قَول بَعضهم وَلم أر فِي شَيْء من الْأَخْبَار أَن سَمُرَة كَانَ واليا لعمر على شَيْء من أَعماله انْتهى لِأَن قَول الَّذِي اطلع على شَيْء حجَّة على قَول من يَدعِي عدم الِاطِّلَاع عَلَيْهِ وَأَيْضًا الدَّعْوَى بِعَدَمِ رُؤْيَة شَيْء فِي الْأَخْبَار الَّذِي نَقله غير وَاحِد من الْحفاظ غير مسموعة لِأَنَّهُ يبعد أَن يطلع أحد على جَمِيع مَا وَقع فِي قَضِيَّة من الْأَخْبَار قَوْله " قَاتل الله الْيَهُود " فسره البُخَارِيّ من رِوَايَة أبي ذَر باللعنة وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَقَالَ الْهَرَوِيّ مَعْنَاهُ قَتلهمْ الله وَحكى عَن بَعضهم عاداهم وَالْأَصْل فِي فَاعل أَن يكون من اثْنَيْنِ وَرُبمَا يكون من وَاحِد مثل سَافَرت وطارقت قَوْله " فجملوها " بِالْجِيم أَي أذابوها يُقَال جمل الشَّحْم يجمله من بَاب نصر ينصر إِذا أذابه وَمِنْه الْجَمِيل وَهُوَ الشَّحْم الْمُذَاب وَقَالَ الدَّاودِيّ وَمِنْه سمى الْجمال لِأَنَّهُ يكون عَن الشَّحْم وَلَيْسَ هَذَا بَين لِأَنَّهُ قد يكون بعد الهزال وَقَالَ بَعضهم وَجه تَشْبِيه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بيع الْمُسلمين الْخمر بِبيع الْيَهُودِيّ الْمُذَاب من الشَّحْم الِاشْتِرَاك فِي النَّهْي عَن تنَاول كل مِنْهُمَا قلت هَذَا لَا يُسمى تَشْبِيها لعدم شُرُوط التَّشْبِيه فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيل يَعْنِي بيع فلَان الْخمر مثل بيع الْيَهُودِيّ الشَّحْم الْمُذَاب وَالْمعْنَى حَال هَذَا الرجل الَّذِي بَاعَ الْخمر العجيبة الشَّأْن كَحال الْيَهُود الَّذين حرم عَلَيْهِم الشَّحْم ثمَّ جملوه فباعوه وعلماء الْبَيَان قد فرقوا بَين التَّشْبِيه والتمثيل وَجعلُوا لكل وَاحِد بَابا مُفردا نعم إِذا كَانَ وَجه التَّشْبِيه منتزعا من أُمُور يُسمى تمثيلا كَمَا فِي تَشْبِيه {مثل الَّذِي حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} فَإِن تَشْبِيه مثل الْيَهُود الَّذين كلفوا بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاة ثمَّ لم يعملوا بذلك بِمثل الْحمار الْحَامِل للأسفار فَإِن وَجه التَّشْبِيه بَينهمَا وَهُوَ حرمَان الِانْتِفَاع بأبلغ نَافِع مَعَ الكد والتعب فِي استصحابه لَا يخفى كَونه منتزعا من عدَّة أُمُور وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا كل مَا حرم تنَاوله حرم بَيْعه قلت قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن هَذَا لَيْسَ بكلي فَإِن الْحَيَّة يحرم تنَاولهَا وَلَا يحرم بيعهَا للضَّرُورَة للتداوي وَقَالَ أَيْضا وَتَنَاول الْخمر وَالسِّبَاع وَغَيرهمَا مِمَّا حرم أكله إِنَّمَا يَتَأَتَّى بعد ذبحه وَهُوَ بِالذبْحِ يصير ميتَة لِأَنَّهُ لَا ذَكَاة لَهُ وَإِذا صارة ميتَة صَار نجسا وَلم يجز بَيْعه انْتهى قلت كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول هَذَا فِي مَذْهَبنَا لِأَن من لم يقف على مَذَاهِب الْعلمَاء فِي مثل هَذَا يعْتَقد أَنه أَمر مجمع عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن عندنَا مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه إِذا ذبح يطهر لَحْمه حَتَّى إِذا صلى وَمَعَهُ من ذَلِك أَكثر من قدر الدِّرْهَم تصح صلَاته وَلَو وَقع فِي المَاء لَا يُنجسهُ لِأَنَّهُ بالذكاة يطهر لِأَن الذَّكَاة أبلغ من الدّباغ فِي إِزَالَة الدِّمَاء والرطوبات وَقَالَ الْكَرْخِي كل حَيَوَان يطهر جلده بالدباع يطهر بالذكاة فَهَذَا يدل على أَنه يطهر لَحْمه وشحمه وَسَائِر أَجْزَائِهِ وَفِي الْبَدَائِع الذَّكَاة تطهر المذكي بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ إِلَّا الدَّم المسفوح هُوَ الصَّحِيح وَقَالَ ابْن بطال أجمع الْعلمَاء على تَحْرِيم بيع الْميتَة بِتَحْرِيم الله تَعَالَى لَهَا قَالَ تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} وَاعْترض بعض الْمَلَاحِدَة بِأَن الابْن إِذا ورث من أَبِيه جَارِيَة كَانَ الْأَب وَطئهَا فَإِنَّهَا تحرم على الابْن وَيحل لَهُ بيعهَا بِالْإِجْمَاع وَأكل ثمنهَا وَقَالَ القَاضِي هَذَا تمويه على من لَا علم عِنْده لِأَن جَارِيَة الْأَب لم يحرم على الابْن مِنْهَا غير الِاسْتِمْتَاع على هَذَا الْوَلَد دون غَيره من النَّاس وَيحل لهَذَا الابْن الِانْتِفَاع بهَا فِي جَمِيع الْأَشْيَاء سوى الِاسْتِمْتَاع وَيحل لغيره الِاسْتِمْتَاع وَغَيره بِخِلَاف الشحوم فَإِنَّهَا مُحرمَة الْمَقْصُود مِنْهَا وَهُوَ الْأكل مِنْهَا على جَمِيع الْيَهُود وَكَذَلِكَ شحوم الْميتَة مُحرمَة الْأكل على كل وَاحِد فَكَانَ مَا عدا الْأكل تَابعا بِخِلَاف مَوْطُوءَة الْأَب وَفِي الحَدِيث لعن العَاصِي الْمعِين وَلَكِن يحْتَمل أَن قَول عمر كَانَ للتغليظ لِأَن هَذَا كلمة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد إِرَادَة الزّجر وَلَيْسَت على حَقِيقَتهَا وَفِيه إبِْطَال الْحِيَل والوسائل إِلَى الْمحرم وَفِيه تَحْرِيم بيع الْخمر وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَغَيره فِيهِ الْإِجْمَاع وشذ من قَالَ يجوز بيعهَا وَيجوز بيع العنقود المستحيل بَاطِنه خمرًا وَقَالَ بَعضهم فِيهِ أَن الشَّيْء إِذا حرم عينه حرم ثمنه قلت هَذَا لَيْسَ بكلي وَقَالَ أَيْضا فِيهِ دَلِيل على أَن بيع الْمُسلم الْخمر من الذِّمِّيّ لَا يجوز وَكَذَا تَوْكِيل الذِّمِّيّ الْمُسلم فِي بيع الْخمر قلت لَا خلاف فِي المسئلة الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة وَلَكِن الْخلاف فِيمَا إِذا وكل الذِّمِّيّ الْمُسلم بِبيع الْخمر والْحَدِيث لَا يدل على مسئلة التَّوْكِيل من الْجَانِبَيْنِ وَفِيه اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي الْأَشْبَاه والنظائر وَقَالَ بَعضهم وَاسْتدلَّ بِهِ على تَحْرِيم جثة الْكَافِر إِذا قَتَلْنَاهُ وَأَرَادَ الْكفَّار شِرَاءَهُ قلت وَجه هَذَا الِاسْتِدْلَال من هَذَا الحَدِيث غير ظَاهِرَة -(12/37)
4222 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيد بنَ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قاتَلَ الله يَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فباعُوهَا وأكلُوا أثْمانَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعبدان هُوَ: عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم بِإِسْنَاد البُخَارِيّ. قَوْله: (يهود) يُغير تَنْوِين لِأَنَّهُ لَا ينْصَرف للعلمية والتأنيث، لِأَنَّهُ علم للقبيلة، ويروى: يهودا، بِالتَّنْوِينِ، وَوَجهه أَن يكون بِاعْتِبَار الْحَيّ فَيبقى بعلة وَاحِدَة فَيَنْصَرِف.
قَالَ أَبُو عَبدِ الله قاتَلَهُمُ الله لَعَنَهُمْ قُتِلَ لعِنَ الخَرَّاصُونَ. الْكَذَّابُونَ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقَالَ: تَفْسِير قَاتلهم لعنهم، وَاسْتشْهدَ على ذَلِك بقوله تَعَالَى: {قتل الخراصون} (الذاريات: 01) . يَعْنِي: لعن الخراصون، وَهُوَ تَفْسِير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: قتل، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَنهُ فِي تَفْسِيره، والخراصون الكذابون، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ أَيْضا عَن مُجَاهِد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي معنى اللَّعْن عَن قريب.
401 - (بابُ بَيْعِ التَّصاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيها رُوحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التصاوير، أَي: المصورات الَّتِي لَيْسَ فِيهَا روح: كالأشجار وَنَحْوهَا. قَوْله: (وَمَا يكره) أَي: وَفِي بَيَان مَا يكره من ذَلِك من اتِّخَاذ أَو عمل أَو بيع أَو نَحْو ذَلِك.
5222 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ أخبرنَا عَوْفٌ عنْ سَعِيدِ بنِ أبِي الحَسَنِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما إذَا أتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إنِّي إنْسَانٌ إنَّما مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي وإنِّي أصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لاَ أُحَدِّثُكَ إلاَّ مَا سَمِعْتُ منْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمِعْتُهُ يَقولُ منْ صَوَّرَ صورَةً فإنَّ الله مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيها الرُّوحَ ولَيْسَ بِنافِخٍ فِيها أبَدا فَرَبا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً واصْفَرَّ وجْهُهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إنْ أبَيْتَ إلاَّ أنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَعَلَيْك بِهَذَا الشّجر) ، وَكَانَ البُخَارِيّ فهم من قَوْله فِي الحَدِيث: إِنَّمَا معيشتي من صَنْعَة يَدي، وَإجَابَة ابْن عَبَّاس بِإِبَاحَة صور الشّجر، وَشبهه إِبَاحَة البيع وجوازه فترجم عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: عَوْف، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو فِي آخِره فَاء: ابْن أبي حميد الْأَعرَابِي، يعرف بِهِ وَلَيْسَ بأعرابي الأَصْل يكنى أَبَا سهل، وَيُقَال: أَبُو عبد الله. الرَّابِع: سعيد بن أبي الْحسن، أَخُو الْحسن الْبَصْرِيّ، وَاسم أبي الْحسن: يسَار، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن هَؤُلَاءِ كلهم بصريون. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سعيد بن أبي الْحسن لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ مَوْصُولا سوى هَذَا الحَدِيث.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن نصر بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا القعْنبِي، قَالَ: حَدثنَا(12/38)
عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (المصورون يُعَذبُونَ يَوْم الْقِيَامَة، يُقَال لَهُم: أحيوا مَا خلقْتُمْ) ، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا وَغَيره، وَعَن أبي هُرَيْرَة أخرجه النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن عَليّ حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا همام عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صور صُورَة كلف يَوْم الْقِيَامَة أَن ينْفخ فِيهَا الرّوح، وَلَيْسَ بنافخ) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذْ أَتَاهُ رجل) ، كلمة: إِذْ، للمفاجأة، وَقد ذكرنَا غير مرّة أَن: إِذْ وَإِذا، يضافان إِلَى جملَة، فَقَوله: (أَتَاهُ رجل) جملَة فعلية، وَقَوله: (فَقَالَ ابْن عَبَّاس) ، جَوَاب: إِذْ. قَوْله: (إِنَّمَا معيشتي من صَنْعَة يَدي) يَعْنِي: مَا معيشتي إلاَّ من عمل يَدي. قَوْله: (حَتَّى ينْفخ فِيهَا) ، أَي: إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّورَة. قَوْله: (وَلَيْسَ بنافخ) أَي: لَا يُمكن لَهُ النفخ قطّ، فيعذب أبدا. قَوْله: (فربا) أَي: فربا الرجل أَي أَصَابَهُ الربو، وَهُوَ مرض يحصل للرجل يَعْلُو نَفسه ويضيق صَدره، وَقَالَ ابْن قرقول: أَي ذكر وامتلأ خوفًا. وَعَن صَاحب (الْعين) : رَبًّا الرجل أَصَابَهُ نفس فِي جَوْفه، وَهُوَ الربو والربوة والربوة، وَهُوَ نهج وَنَفس متواتر، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ انتفخ كَأَنَّهُ خجل من ذَلِك. قَوْله: (وَيحك) ، كلمة ترحم، كَمَا أَن: وَيلك، كلمة عَذَاب. قَوْله: (كل شَيْء) ، بِالْجَرِّ بدل الْكل عَن الْبَعْض، وَهَذَا جَائِز عِنْد بعض النُّحَاة، وَهُوَ قسم خَامِس من الْإِبْدَال كَقَوْل الشَّاعِر:
(رحم الله أعظما دفنوهابسجستان طَلْحَة الطلحات)
ويروى: نضر الله أعظما، وَيجوز أَن يكون فِيهِ مُضَاف مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: عَلَيْك، بِمثل الشّجر، أَو يكون وَاو الْعَطف فِيهِ مقدرَة، تَقْدِيره: وكل شَيْء، كَمَا فِي: التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات، فَإِن مَعْنَاهُ: والصلوات، وبواو الْعَطف جَاءَ فِي رِوَايَة أبي نعيم من طَرِيق خودة عَن عَوْف: فَعَلَيْك بِهَذَا الشّجر وكل شَيْء لَيْسَ فِيهِ روح، وَفِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي بِلَفْظ: فَاصْنَعْ الشّجر ومالا نفس لَهُ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هُوَ بَيَان للشجر، لِأَنَّهُ لما مَنعه عَن التَّصْوِير وأرشده إِلَى جنس الشّجر، رأى أَنه غير وافٍ بِالْمَقْصُودِ، فأوضحه بِهِ، وَيجوز النصب على التَّفْسِير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن تَصْوِير ذِي روح حرَام، وَأَن مصوره توعد بِعَذَاب شَدِيد، وَهُوَ قَوْله: فَإِن الله معذبه حَتَّى ينْفخ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: كل مُصَور فِي النَّار يَجْعَل لَهُ بِكُل صُورَة صورها نفسا، فيعذبه فِي جَهَنَّم. وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي جُحَيْفَة: لعن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، المصورين. وَعَن عُمَيْر عَن أُسَامَة بن زيد يرفعهُ: قَاتل الله قوما يصورون مَا لَا يخلقون. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا كره هَذَا من أجل أَن الصُّورَة الَّتِي فِيهَا الرّوح كَانَت تعبد فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكرِهت كل صُورَة، وَإِن كَانَت لَا فَيْء لَهَا وَلَا جسم قطعا للذريعة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي حَدِيث مُسلم: أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة المصورون، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون فِي النَّار أحد يزِيد عَذَابه على عَذَاب المصورين، وَهَذَا يُعَارضهُ قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} (غَافِر: 64) . وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة إِمَام ضَلَالَة) . وَقَوله: (أَشد النَّاس عذَابا عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ) ، وَأَشْبَاه ذَلِك، وَوجه التَّوْفِيق: أَن النَّاس الَّذين أضيف إِلَيْهِم: أَشد، لَا يُرَاد بهم كل نوع النَّاس، بل بَعضهم المشاركون فِي ذَلِك الْمَعْنى المتوعد عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ، ففرعون أَشد المدعين للإلهية عذَابا، وَمن يَقْتَدِي بِهِ فِي ضَلَالَة كفر أَشد مِمَّن يَقْتَدِي بِهِ فِي ضَلَالَة بِدعَة، وَمن صور صورا ذَات أَرْوَاح أَشد عذَابا مِمَّن يصور مَا لَيْسَ بِذِي روح، فَيجوز أَن يَعْنِي بالمصورين الَّذين يصورون الْأَصْنَام لِلْعِبَادَةِ، كَمَا كَانَت الْجَاهِلِيَّة تفعل، وكما يفعل النَّصَارَى، فَإِن عَذَابهمْ يكون أَشد مِمَّن يصورها لَا لِلْعِبَادَةِ. انْتهى. وَلقَائِل أَن يَقُول: أَشد النَّاس عذَابا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الْأمة لَا إِلَى غَيرهَا من الْكفَّار، فَإِن صورها لتعبد أَو لمضاهاة خلق الله تَعَالَى فَهُوَ كَافِر قَبِيح الْكفْر، فَلذَلِك زيد فِي عَذَابه. قلت: قَول الْقُرْطُبِيّ: وَمن صور صورا ذَات أَرْوَاح أَشد عذَابا مِمَّن يصور مَا لَيْسَ بِذِي روح، فِيهِ نظر لَا يخفى، وَفِيه إِبَاحَة تَصْوِير مَا لَا روح لَهُ كالشجر وَنَحْوه، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث، فَإِنَّهُم استدلوا على ذَلِك بقول ابْن عَبَّاس: فَعَلَيْك بِهَذَا الشّجر ... إِلَى آخِره، فَإِن ابْن عَبَّاس استنبط قَوْله من قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَإِن الله معذبه حَتَّى ينْفخ فِيهَا) . أَي: الرّوح، فَدلَّ هَذَا على أَن المصور إِنَّمَا يسْتَحق هَذَا الْعَذَاب لكَونه قد بَاشر تَصْوِير حَيَوَان مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى، وتصوير جماد لَيْسَ لَهُ فِي معنى ذَلِك، فَلَا بَأْس بِهِ.
وَذهب جمَاعَة(12/39)
مِنْهُم اللَّيْث بن سعيد وَالْحسن بن حَيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة إِلَى كَرَاهَة التَّصْوِير مُطلقًا، سَوَاء كَانَت على الثِّيَاب أَو على الْفرش والبسط وَنَحْوهَا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ صُورَة وَلَا كلب وَلَا جنب) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ كلب وَلَا صُورَة) ، أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أبي طَلْحَة، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ نَحوه من حَدِيث أبي أَيُّوب عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّا لَا ندخل بَيْتا فِيهِ صُورَة) . وَأخرجه مُسلم مطولا. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: دخل عليَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مستترة بقرام ستر فِيهِ صُورَة فهتكه، ثمَّ قَالَ: (إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة الَّذين يشبهون بِخلق الله تَعَالَى) . وَأخرجه مُسلم بأتم مِنْهُ. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أُسَامَة بن زيد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ صُورَة. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ مطولا. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي الزبير: قَالَ: سَأَلت جَابِرا عَن الصُّور فِي الْبَيْت وَعَن الرجل يفعل ذَلِك؟ فَقَالَ: زجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك.
وَخَالف الْآخرُونَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، وهم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالُوا: إِذا كَانَت الصُّور على الْبسط والفرش الَّتِي تُوطأ بالأقدام فَلَا بَأْس بهَا، وَأما إِذا كَانَت على الثِّيَاب والستائر وَنَحْوهمَا، فَإِنَّهَا تحرم، وَقَالَ أَبُو عمر: ذكر ابْن الْقَاسِم: قَالَ: كَانَ مَالك يكره التماثيل فِي الأسرة والقباب، وَأما الْبسط والوسائد وَالثيَاب فَلَا بَأْس بِهِ. وَكره أَن يُصَلِّي إِلَى قبَّة فِيهَا تماثيل. وَقَالَ الثَّوْريّ: لَا بَأْس بالصور فِي الوسائد لِأَنَّهَا تُوطأ وَيجْلس عَلَيْهَا، وَكَانَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يكْرهُونَ التصاوير فِي الْبيُوت بتمثال، وَلَا يكْرهُونَ ذَلِك فِيمَا يبسط، وَلم يَخْتَلِفُوا أَن التصاوير فِي الستور الْمُعَلقَة مَكْرُوهَة، وَكَذَلِكَ عِنْدهم مَا كَانَ خرطا أَو نقشا فِي الْبناء.
وَقَالَ الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي: وَإِن دعِي رجل إِلَى عرس فَرَأى صُورَة ذَات روح، أَو صورا ذَات أَرْوَاح، لم يدْخل إِن كَانَت مَنْصُوبَة، وَإِن كَانَت تُوطأ فَلَا بَأْس، وَإِن كَانَت صُورَة الشّجر. وَقَالَ قوم: إِنَّمَا كره من ذَلِك مَا لَهُ ظلّ وَمَا لَا ظلّ لَهُ فَلَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ عِيَاض: وَأَجْمعُوا على منع مَا كَانَ لَهُ ظلّ، وَوُجُوب تَغْيِيره إلاَّ مَا ورد فِي اللّعب بالبنات لصغار الْبَنَات، والرخصة فِي ذَلِك، وَكره مَالك شِرَاء ذَلِك لابنته، وَادّعى بَعضهم أَن إِبَاحَة اللّعب للبنات مَنْسُوخ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاسْتثنى بعض أَصْحَابنَا من ذَلِك مَا لَا يبْقى كصور الفخار والشمع وَمَا شاكل ذَلِك، وَهُوَ مطَالب بِدَلِيل التَّخْصِيص، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تعْمل أصناما من الْعَجْوَة، حَتَّى إِن بَعضهم جَاع فَأكل صنمه. قلت: بَنو باهلة كَانُوا يصنعون الْأَصْنَام من الْعَجْوَة، فَوَقع فيهم الغلاء فأكلوها وَقَالُوا: بَنو باهلة أكلُوا آلِهَتهم.
وَحجَّة الْمُخَالفين لأهل الْمقَالة الأولى حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قدم رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْدِي نمط لي فِيهِ صُورَة، فَوَضَعته على سهوتي، فاجتذبه، فَقَالَ: لَا تستروا الْجِدَار. قَالَت: فصنعته وسادتين. أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأخرجه مُسلم بأتم مِنْهُ، والنمط بِفَتْح النُّون وَالْمِيم، هُوَ ضرب من الْبسط لَهُ خمل رَقِيق وَيجمع على أنماط. والسهوة، بِالسِّين الْمُهْملَة بَيت صَغِير منحدر فِي الأَرْض قَلِيلا، شَبيه بالمخدع والخزانة. وَقيل: هُوَ كالصفة تكون بَين يَدي الْبَيْت، وَقيل: شَبيه بالرف والطاق يوضع فِيهِ الشَّيْء، والوسادة المخدة.
وَأَجَابُوا عَن الْأَحَادِيث الَّتِي مَضَت بِأَنا عَملنَا بهَا على عمومها، وعملنا بِحَدِيث عَائِشَة أَيْضا وبأمثاله الَّتِي رويت فِي هَذَا الْبَاب فِيمَا إِذا كَانَت الصُّور مِمَّا كَانَ يُوطأ ويهان، فَإِذن نَحن عَملنَا بِأَحَادِيث الْبَاب كلهَا بِخِلَاف هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم عمِلُوا بِبَعْضِهَا وأهملوا بَعْضهَا.
وَفِيه: مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ: يُسْتَفَاد من قَوْله: (وَلَيْسَ بنافخ) جَوَاز التَّكْلِيف بِمَا لَا يقدر عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَكِن لَيْسَ مَقْصُود الحَدِيث التَّكْلِيف، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهُ تَعْذِيب الْمُكَلف وَإِظْهَار عَجزه عَمَّا تعاطاه مُبَالغَة فِي توبيخه وَإِظْهَار قبح فعله.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله سَمِعَ سَعيدُ بنُ أبِي عَرُوبَةَ مِنَ النِّضْرِ بنِ أنَسٍ هَذا الوَاحِدِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله، وَالنضْر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: هُوَ النَّضر بن أنس بن مَالك البُخَارِيّ(12/40)
الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا مَالك، عداده فِي أهل الْبَصْرَة، وَلم يسمع سعيد هَذَا من النَّضر إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد الَّذِي رَوَاهُ عَوْف الْأَعرَابِي، وَهُوَ معنى قَوْله: هَذَا الْوَاحِد، أَي: هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
أخرج البُخَارِيّ هَذَا فِي كتاب اللبَاس: عَن عَيَّاش بن الْوَلِيد عَن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن أبي عرُوبَة سَمِعت النَّضر بِحَدِيث قَتَادَة، قَالَ: كنت عِنْد ابْن عَبَّاس ... فَذكره، وروى مُسلم: فَأدْخل بَين سعيد وَالنضْر قَتَادَة، قَالَ الجياني: وَلَيْسَ بِشَيْء لتصريح البُخَارِيّ وَغَيره بِسَمَاع سعيد من النَّضر هَذَا الحَدِيث وَحده، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن أبي غَسَّان، وَعَن أبي مُوسَى عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه عَن قَتَادَة عَن النَّضر مثله.
501 - (بابُ تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِي الخَمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْرِيم التِّجَارَة فِي الْخمر، وَذكر البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذِه التَّرْجَمَة فِي أَبْوَاب الْمَسْجِد لَكِن بِقَيْد الْمَسْجِد حَيْثُ قَالَ: بَاب تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر فِي الْمَسْجِد، وَهَذِه التَّرْجَمَة أَعم من تِلْكَ التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا غير مُقَيّدَة بِشَيْء.
وَقَالَ جابِرٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حرَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْعَ الخَمْرِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَوَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب بيع الْميتَة والإصنام، وَسَيَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
6222 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا نَزَلَتْ آياتُ سورَةِ الْبَقَرَةِ عنْ آخِرِهَا خرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ حُرِّمَتِ التِّجارَةُ فِي الخَمْرِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حرمت التِّجَارَة فِي الْخمر) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح الْكُوفِي، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر فِي الْمَسْجِد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَبْدَانِ عَن أبي جَمْرَة عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (لما نزلت آيَات سُورَة الْبَقَرَة) أَي: من أول آيَة الرِّبَا إِلَى آخر السُّورَة، وَلَفظه هُنَاكَ: لما نزلت الْآيَات من سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا. قَوْله: (خرج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: من الْبَيْت إِلَى الْمَسْجِد، وَكَذَا هُوَ هُنَاكَ، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
601 - (بابُ إثْمِ مَنْ باعَ حُرّا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من بَاعَ حرا، يَعْنِي عَالما بذلك مُتَعَمدا، وَالْحر يسْتَعْمل فِي بني آدم على الْحَقِيقَة، وَقد يسْتَعْمل فِي غَيرهم مجَازًا، كَمَا يُقَال فِي الْوَقْف، وَقَالَ بَعضهم: وَالْحر الظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ من بني آدم، وَيحْتَمل مَا هُوَ أَعم من ذَلِك، فَيدْخل فِيهِ مثل الْمَوْقُوف. انْتهى. قلت: لَا معنى لقَوْله: وَالْحر الظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ من بني آدم، لِأَن لفظ الْحر مَوْضُوع فِي اللُّغَة لمن لم يمسهُ رق، وَعَن هَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحر خلاف العَبْد، والحرة خلاف الْأمة. وَقَوله: أَعم من ذَلِك، إِن أَرَادَ بِهِ عُمُوم لفظ حر، فَإِنَّهُ فِي أَفْرَاده، وَلَا يدْخل فِيهِ شَيْء خَارج عَنْهَا، وَإِن أَرَادَ بِهِ أَن لفظ: حر، يسْتَعْمل لمعان كَثِيرَة مثل مَا يُقَال: حر الرمل وحر الدَّار يَعْنِي وَسطهَا، وحر الْوَجْه مَا بدا من الوجنة، وَالْحر فرخ الْحَمَامَة وَولد الظبية والحية، وطين حر لَا رمل فِيهِ، وَغير ذَلِك، فَلَا هموم فِي كل وَاحِد مِنْهَا بِلَا شكّ، وَعند إِطْلَاقه يُرَاد بِهِ الْحر خلاف العَبْد، فَكيف يَقُول: وَيحْتَمل مَا هُوَ أَعم من ذَلِك؟ وَهَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ.
7222 - حدَّثني بِشْرُ بنُ مَرْحُومٍ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أُمَيَّةَ عنْ سعِيدِ بنِ أبِي سَعيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله ثلاثَةٌ(12/41)
أَنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ رَجُلُ أعطَى بِي ثُمَّ غدَرَ ورَجُلٌ باعَ حُرّا فأكَلَ ثَمَنَهُ ورَجُلٌ استَأجَرَ أجِيرا فاسْتَوْفَى مِنْهُ ولَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ. (الحَدِيث 7222 طرفه فِي: 0722) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرجل بَاعَ حرا فَأكل ثمنه) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مَرْحُوم ضد المعذب وَهُوَ بشر بن عُبَيْس بن مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز بن مهْرَان مولى آل مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان الْقرشِي الْعَطَّار، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وعبيس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة. الثَّانِي: يحيى بن سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة: الْقرشِي الخراز الْحذاء، يكنى أَبَا زَكَرِيَّا، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: سعيد المَقْبُري، وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه طائفي نزل مَكَّة مُخْتَلف فِي توثيقه وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ مَوْصُولا سوى هَذَا الحَدِيث، وَذكره فِي الْإِجَارَة من وَجه آخر عَنهُ. وَفِيه: أَن يحيى وَإِسْمَاعِيل مكيان وَسَعِيد مدنِي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، رَوَاهُ أَبُو جَعْفَر النُّفَيْلِي عَن يحيى بن سليم، فَقَالَ: عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْمَحْفُوظ قَول الْجَمَاعَة، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثَلَاثَة) ، أَي: ثَلَاثَة أنفس، وَذكر الثَّلَاثَة لَيْسَ للتخصيص، لِأَن الله تَعَالَى خصم لجَمِيع الظَّالِمين. وَلَكِن لما أَرَادَ التَّشْدِيد على هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة صرح بهَا. قَوْله: (خصمهم) ، الْخصم يَقع على الْوَاحِد والإثنين وَالْجَمَاعَة والمذكر والمؤنث، بِلَفْظ وَاحِد، وَزعم الْهَرَوِيّ أَن الْخصم بِالْفَتْح: الْجَمَاعَة من الْخُصُوم، والخصم بِكَسْر الْخَاء: الْوَاحِد، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْخصم هُوَ المولع بِالْخُصُومَةِ الماهر فِيهَا. وَعَن يَعْقُوب: يُقَال للخصم خصيم، وَفِي (الواعي) : خصيم للمخاصِم والمخاصَم، وَعَن الْفراء: كَلَام الْعَرَب الفصحاء أَن الإسم إِذا كَانَ مصدرا فِي الأَصْل لَا يثنونه وَلَا يجمعونه، وَمِنْهُم من يثنيه ويجمعه، فالفصحاء يَقُولُونَ: هَذَا خصم فِي جَمِيع الْأَحْوَال، وَالْآخرُونَ يَقُولُونَ: هَذَانِ خصمان، وهم خصوم وخصماء، وَكَذَا مَا أشبهه. قَوْله: (أعطي بِي) حذف فِيهِ الْمَفْعُول تَقْدِيره: أعْطى الْعَهْد باسمي وَالْيَمِين بِهِ، ثمَّ نقض الْعَهْد وَلم يَفِ بِهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَعْنَاهُ حلف فِي قَوْله ثمَّ غدر، يَعْنِي: نقض الْعَهْد الَّذِي عهد عَلَيْهِ واجترأ على الله تَعَالَى. قَوْله: (بَاعَ حرا) أَي: عَالما مُتَعَمدا، فَإِن كَانَ جَاهِلا، فَلَا يدْخل فِي هَذَا القَوْل قَوْله: (فَأكل ثمنه) ، خص الْأكل بِالذكر لِأَنَّهُ أعظم مَقْصُود. قَوْله: (فاستوفى مِنْهُ) أَي: استوفى الْعَمَل مِنْهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْعَذَاب الشَّديد على الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين: إِمَّا الأول: فَلِأَنَّهُ هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى. وَأما الثَّانِي: فَلِأَن الْمُسلمين أكفاء فِي الْحُرِّيَّة والذمة، وللمسلم على الْمُسلم أَن ينصره وَلَا يَظْلمه، وَأَن ينصحه وَلَا يغشه، وَلَيْسَ فِي الظُّلم أعظم مِمَّن يستعبده أَو يعرضه على ذَلِك، وَمن بَاعَ حرا فقد مَنعه التَّصَرُّف فِيمَا أَبَاحَ الله لَهُ وألزمه حَال الذلة وَالصغَار، فَهُوَ ذَنْب عَظِيم يُنَازع الله بِهِ فِي عباده. وَأما الثَّالِث: فَهُوَ دَاخل فِي بيع حر، لِأَنَّهُ استخدمه بِغَيْر عوض، وَهَذَا عين الظُّلم. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وكل من لقِيت من أهل الْعلم على أَن من بَاعَ حرا لَا قطع عَلَيْهِ ويعاقب، ويروى عَن ابْن عَبَّاس: يرد البيع ويعاقبان، وروى حلاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: تقطع يَده، وَالصَّوَاب قَول الْجَمَاعَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بسارق، وَلَا يجوز قطع غير السَّارِق، وَذكر ابْن حزم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة: أَن رجلا بَاعَ نَفسه فَقضى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَنَّهُ عبد كَمَا أقرّ، وَجعل ثمنه فِي سَبِيل الله تَعَالَى، وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (إِذا أقرّ على نَفسه بالعبودية فَهُوَ عبد) ، وروى سعيد بن مَنْصُور، فَقَالَ: حَدثنَا هشيم أَنبأَنَا مُغيرَة بن مقسم عَن النَّخعِيّ(12/42)
فِيمَن سَاق إِلَى امْرَأَة رجلا، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: هُوَ رهن بِمَا جعل فِيهِ حَتَّى يفتك نَفسه، وَعَن زُرَارَة بن أوفى، قَاضِي الْبَصْرَة التَّابِعِيّ: أَنه بَاعَ حرا فِي دين عَلَيْهِ، قَالَ ابْن حزم: وروينا هَذَا القَوْل عَن الشَّافِعِي، وَهِي قولة غَرِيبَة لَا يعرفهَا من أَصْحَابه إلاَّ من تبحر فِي الْآثَار. قَالَ: وَهَذَا قَضَاء عمر وَعلي بِحَضْرَة الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يعترضهما معترض. قَالَ: وَقد جَاءَ أثر بِأَن الْحر يُبَاع فِي دينه فِي صدر الْإِسْلَام إِلَى أَن أنزل الله: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} (الْبَقَرَة: 082) . وَرُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاعَ حرا أفلس) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حجاج عَن ابْن جريج، فَقَالَ: عَن أبي سعيد أَو سعد على الشَّك، وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي عَن سرق: أَنه اشْترى من أَعْرَابِي بَعِيرَيْنِ فباعهما، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَعْرَابِي! إذهب فبعه حَتَّى تستوفي حَقك، فاعتقه الْأَعرَابِي. وَرَوَاهُ ابْن سعد عَن أبي الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ سَنَد صَحِيح، وَضَعفه عبد الْحق بِأَن قَالَ: مُسلم وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم ضعيفان، وَلَيْسَ بجيد، لِأَن مُسلما وَثَّقَهُ غير وَاحِد، وَصحح حَدِيثه، وَعبد الرَّحْمَن لَا مدْخل لَهُ فِي هَذَا لَا جرم. وَأخرجه الْحَاكِم من حَدِيث بنْدَار: حَدثنَا عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن دِينَار حَدثنَا زيد بن أسلم، ثمَّ قَالَ: على شَرط البُخَارِيّ، وَفِي (التَّوْضِيح) : ويعارضه فِي (مَرَاسِيل) أبي دَاوُد عَن الزُّهْرِيّ، كَأَن يكون على عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دُيُون على رجال مَا علمنَا حرا بيع فِي دين.
701 - (بابُ أمرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُودَ بِبَيْعِ أرْضِيهِمْ ودِمَنِهِمْ حينَ أجْلاهُمْ فِيهِ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُود فِي بيع أرضيهم، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بِفَتْح الرَّاء وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَفِيه شذوذان: أَحدهمَا: أَنه جمع سَلامَة وَلَيْسَ من الْعُقَلَاء. وَالْآخر: أَنه لم يبْق مفرده سالما لتحريك الرَّاء. قَوْله: (حِين أجلاهم) ، أَي: من الْمَدِينَة. قَوْله: (فِيهِ المَقْبُري) ، أَي: فِي أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُود حَدِيث سعيد المَقْبُري، بِفَتْح الْبَاء وَضمّهَا، وَجَاء الْكسر أَيْضا وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى مَا أخرجه فِي الْجِهَاد فِي: بَاب إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب، عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: بَينا نَحن فِي الْمَسْجِد إِذْ خرج علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (انْطَلقُوا إِلَى الْيَهُود) وَفِيه، فَقَالَ: (إِنِّي أُرِيد أَن أجليكم، فَمن وجد مِنْكُم بِمَا لَهُ شَيْئا فليبعه، وإلاَّ فاعلموا أَن الأَرْض لله وَرَسُوله) . قَالَ ابْن إِسْحَاق: فسألوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجليهم ويكف عَن دِمَائِهِمْ على أَن لَهُم مَا حملت الْإِبِل من أَمْوَالهم لَا الْحلقَة، فاحتملوا ذَلِك وَخَرجُوا إِلَى خَيْبَر، وخلوا الْأَمْوَال لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَت لَهُ خَاصَّة يَضَعهَا حَيْثُ يَشَاء، فَقَسمهَا سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُهَاجِرين، وَهَؤُلَاء الْيَهُود الَّذين أجلاهم هم بَنو النَّضِير، وَذَلِكَ أَنهم أَرَادوا الْغدر برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن يلْقوا عَلَيْهِ حجرا، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ بذلك، فَأمره بإجلائهم وَأمرهمْ أَن يَسِيرُوا حَيْثُ شاؤوا، فَلَمَّا سمع المُنَافِقُونَ بذلك بعثوا إِلَى بني النَّضِير: أثبتوا وتمتعوا فَإنَّا لم نسلمكم، إِن قوتلتم قاتلنا مَعكُمْ، وَإِن خَرجْتُمْ خرجنَا مَعكُمْ، فَلم يَفْعَلُوا: {وَقذف الله فِي قُلُوبهم الرعب} (الْأَحْزَاب: 62، الْحَشْر: 2) . فسألوا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يجليهم ويكف عَن دِمَائِهِمْ فأجابهم بِمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض حَدِيث سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، لِأَن فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم بِبيع أرضيهم، قلت: أمره بذلك كَانَ قبل أَن يَكُونُوا حَربًا، ثمَّ أطلعه الله على الْغدر مِنْهُم، وَكَانَ قبل ذَلِك أَمرهم بِبيع أرضيهم وإجلائهم فَلم يَفْعَلُوا لأجل قَول الْمُنَافِقين لَهُم إثبتوا، فعزموا على مقاتلته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فصاروا حَربًا فَحلت بذلك دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ، فَخرج إِلَيْهِم رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي السِّلَاح وحاصرهم، فَلَمَّا يئسوا من عون الْمُنَافِقين ألْقى الله فِي قُلُوبهم الرعب، وسألوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ عرض عَلَيْهِم قبل ذَلِك، فَلم يبح لَهُم بيع الأَرْض وَقَاضَاهُمْ أَن يجليهم ويحملوا مَا اسْتَقَلت بِهِ الْإِبِل، على أَن يكف عَن دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ، فَجَلَوْا عَن دِيَارهمْ {وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} (الْأَحْزَاب: 52) . وَكَانَت أَرضهم وَأَمْوَالهمْ مِمَّا لم يوجف عَلَيْهَا بِقِتَال، فَصَارَت خَالِصَة لرَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَضَعهَا حَيْثُ يَشَاء، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَلم يسلم من بني النَّضِير إلاَّ رجلَانِ أسلما على أموالهما، فأحرزاها، قَالَ: وَنزلت فِي بني النَّضِير سُورَة الْحَشْر إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء. .} (الْحَشْر: 3) . الْآيَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم عبر عَمَّا رَوَاهُ بِهَذِهِ الْعبارَة وَلم يذكر(12/43)
الحَدِيث بِعَيْنِه؟ قلت: لِأَن الحَدِيث لم يثبت على شَرطه، انْتهى، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَنَّهُ غَفلَة مِنْهُ، لِأَنَّهُ غفل عَن الْإِشَارَة إِلَى هَذَا الحَدِيث. غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه اكْتفى هُنَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ لِاتِّحَاد مخرجه عِنْده، ففر من تكراره على صوورته بِغَيْر فَائِدَة زَائِدَة كَمَا هُوَ الْغَالِب من عَادَته. انْتهى. قلت: التّكْرَار حَاصِل على مَا لَا يخفى، مَعَ أَن ذكر هَذَا لَا دخل لَهُ فِي كتاب الْبيُوع، وَلِهَذَا سقط هَذَا فِي بعض النّسخ.
801 - (بابُ بَيْعِ العَبِيدِ والحَيوَانِ بالحَيَوانِ نَسيئَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع العَبْد نَسِيئَة وَبيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، هَذَا تَقْدِير الْكَلَام، وَقَوله: (وَالْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ) من عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (نَسِيئَة) ، بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْهمزَة، أَي: مُؤَجّلا، وانتصابه على التَّمْيِيز. وَقَالَ بَعضهم: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَبدِ جنس مَا يستعبد فَيدْخل الذّكر وَالْأُنْثَى. قلت: لَا نسلم أَن يكون المُرَاد بِالْعَبدِ جنس مَا يستعبد، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضُوعه فِي اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ خلاف الْأمة كَمَا نَص عَلَيْهِ أهل اللُّغَة، وَلَا حَاجَة لإدخال الْأُنْثَى فِيهِ إِلَى هَذَا التَّكَلُّف والتعسف، وَقد علم أَنه إِذا أورد حكم فِي الذُّكُور يدْخل فِيهِ الْإِنَاث إلاَّ بِدَلِيل، يخص الذُّكُور.
وَاعْلَم أَن هَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على حكمين.
الأول: فِي بيع العَبْد بِالْعَبدِ نَسِيئَة وَبيع العَبْد بعبدين أَو أَكثر نَسِيئَة، فَإِنَّهُ يجوز عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ مَالك: إِنَّمَا يجوز إِذا اخْتلف الْجِنْس، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه والكوفيون: لَا يجوز ذَلِك، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي شِرَاء العَبْد بالعبدين: حَدثنَا قُتَيْبَة أخبرنَا اللَّيْث عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: (جَاءَ عبد يُبَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْهِجْرَة، وَلَا يشْعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عبد، فجَاء سَيّده يُريدهُ، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعنيه، فَاشْتَرَاهُ بعبدين أسودين، ثمَّ لم يُبَايع أحدا بعد حَتَّى يسْأَله: أعبد هُوَ؟ ثمَّ قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم أَنه لَا بَأْس عبد بعبدين يدا بيد) . وَاخْتلفُوا فِيهِ إِذا كَانَ نسأ وَأخرجه مُسلم، وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن.
الحكم الثَّانِي: فِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ فَالْعُلَمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَت طَائِفَة: لَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان، وَجَائِز بعضه بِبَعْض نَقْدا ونسيئة، اخْتلف أَو لم يخْتَلف، هَذَا مَذْهَب عَليّ وَابْن عمر وَابْن الْمسيب، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَأبي ثَوْر. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس بالبعير النجيب بالبعيرين من حَاشِيَة الْإِبِل نَسِيئَة، وَإِن كَانَت من نعم وَاحِدَة إِذا اخْتلفت وَبَان اختلافها، وَإِن اشْتبهَ بَعْضهَا بَعْضًا واتفقت أجناسها فَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا اثْنَان بِوَاحِد إِلَى أجل، وَيُؤْخَذ يدا بيد، وَهُوَ قَول سُلَيْمَان بن يسَار، وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد. وَقَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَأحمد: لَا يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، اخْتلفت أجناسها أَو لم تخْتَلف، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الْحسن عَن سَمُرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، ثمَّ روى حَدِيث سَمُرَة هَذَا وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَسَمَاع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح، هَكَذَا قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَغَيره، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم فِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَأهل الْكُوفَة، وَبِه يَقُول أَحْمد.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب: عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: حَدِيث ابْن عمر أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْعِلَل: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الْمقدمِي عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن عمر، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) ، وَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْأَشَج عَن حَفْص بن غياث وَأبي خَالِد عَن حجاج عَن أبي الزبير عَن جَابر: أَن رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا بَأْس بِالْحَيَوَانِ وَاحِد بِاثْنَيْنِ يدا بيد وَكَرِهَهُ نَسِيئَة) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل: حَدثنَا سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد هُوَ الأحمري عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) .
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد تَخْرِيجه حَدِيث سَمُرَة: أَكثر الْحفاظ لَا يثبتون سَماع الْحسن من سَمُرَة فِي غير حَدِيث الْعَقِيقَة؟ قلت: قَول الحافظين الكبيرين الحجتين: التِّرْمِذِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ، كافٍ فِي هَذَا، مَعَ أَنَّهُمَا مثبتان، وَالْبَيْهَقِيّ ينْقل النَّفْي فَلَا يُفِيد شَيْئا. فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عمر قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِنَّمَا يرْوى عَن زِيَاد بن جُبَير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(12/44)
مُرْسلا؟ قلت: رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ مَوْصُولا بِإِسْنَاد جيد. قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن سَالم الصَّائِغ وَعبيد الله بن مُحَمَّد بن حشيش وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الصَّيْرَفِي، قَالُوا: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن دِينَار عَن مُوسَى بن عبد عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) . فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف بِمُحَمد بن دِينَار الطَّاحِي الْبَصْرِيّ بِمَا رُوِيَ عَن ابْن معِين: أَنه ضَعِيف؟ قلت: الْبَيْهَقِيّ لتحامله على أَصْحَابنَا يثبت بِمَا لَا يثبت، وَقد روى أَحْمد بن أبي خَيْثَمَة عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَكَذَا قَالَه النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق، وَقَالَ ابْن عدي: حسن الحَدِيث.
فَإِن قلت: حَدِيث جَابر فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَأَة وَهُوَ ضَعِيف. قلت: قَالَ ابْن حبَان: صَدُوق يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (الْمِيزَان) : أحد الْأَعْلَام على لين فِي حَدِيثه، روى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وروى لَهُ الْأَرْبَعَة.
فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ فِيهِ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسل؟ قلت: أخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين متصلين، وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا مُتَّصِلا، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أجلّ إِسْنَادًا مِنْهُ، وَهَذِه الْأَحَادِيث مَعَ اخْتِلَاف طرقها يُؤَيّد بَعْضهَا بَعْضًا، وَيرد قَول الشَّافِعِي أَنه لَا يثبت الحَدِيث فِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، ثمَّ إِن الشَّافِعِي وَمن مَعَه احْتَجُّوا لما ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيث عبد الله بن عَمْرو أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا حَفْص بن عمر، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعَن يزِيد ابْن أبي حبيب عَن مُسلم بن جُبَير عَن أبي سُفْيَان عَن عَمْرو بن حريش عَن عبد الله بن عَمْرو: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمره أَن يُجهز جَيْشًا، فنفدت الْإِبِل فَأمره أَن يَأْخُذ على قَلَائِص الصَّدَقَة، فَكَانَ يَأْخُذ الْبَعِير بالبعيرين إِلَى إبل الصَّدَقَة) . وَرَاه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَفِي رِوَايَته فِي قلاص الصَّدَقَة، والقلاص، بِكَسْر الْقَاف جمع قلص بِضَم الْقَاف وَاللَّام، وَهُوَ جمع قلُوص، فَيكون القلاص جمع الْجمع، وَقَالَ: القلوص يجمع على قلص وقلائص، وَجمع القلص قلاص، والقلوص من النوق الشَّابَّة، وَهِي بِمَنْزِلَة الْجَارِيَة من النِّسَاء، وَأَجَابُوا عَنهُ بِأَن فِي إِسْنَاده اخْتِلَافا كثيرا. وَذكر عبد الْغَنِيّ فِي (الْكَمَال) فِي: بَاب الكنى: أَبُو سُفْيَان روى عَن عمر بن حريش روى عَنهُ مُسلم بن جُبَير، وَلم يذكر شَيْئا غير ذَلِك. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَرْجَمَة عَمْرو بن حريش: مَا رُوِيَ عَنهُ سوى أبي سُفْيَان، وَلَا يُدْرَى من أَبُو سُفْيَان، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ بعد أَن رَوَاهُ: ثمَّ نسخ ذَلِك بِآيَة الرِّبَا، بَيَان ذَلِك أَن آيَة الرِّبَا تحرم كل فضل خَال عَن الْعِوَض فَفِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، يُوجد الْمَعْنى الَّذِي حرم بِهِ الرِّبَا، فنسخ كَمَا نسخ بِآيَة الرِّبَا استقراض الْحَيَوَان، لِأَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة، وَمثل هَذَا النّسخ يكون بِدلَالَة التَّارِيخ، فيندفع بِهَذَا قَول النَّوَوِيّ وَأَمْثَاله: أَن النّسخ لَا يكون إلاَّ بِمَعْرِِفَة التَّارِيخ، وَإِن حَدِيث أبي رَافع الَّذِي رَوَاهُ مُسلم وَغَيره أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استسلف من رجل بكرا، فَقدمت عَلَيْهِ إبل من إبل الصَّدَقَة، فَأمر أَبَا رَافع أَن يقْضِي الرجل بكره، فَرجع إِلَيْهِ أَبُو رَافع فَقَالَ: لم أجد فِيهَا إلاَّ جملا خيارا رباعيا، فَقَالَ: أعْطه إِيَّاه، إِن خِيَار النَّاس أحْسنهم قَضَاء) . احْتج بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من جَوَاز استقراض الْحَيَوَان، قَالُوا: وَهُوَ حجَّة على منع ذَلِك. وَأجَاب المانعون عَن ذَلِك بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِآيَة الرِّبَا بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ فِيهِ إلاَّ الثَّنَاء على من أحسن الْقَضَاء، فَأطلق ذَلِك وَلم يُقَيِّدهُ بِصفة، وَلم يكن ذَلِك بِشَرْط الزِّيَادَة، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ بِالنَّقْلِ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن اشْتِرَاط الزِّيَادَة فِي السّلف رَبًّا حرَام، وَكَذَلِكَ أجابوا عَن كل حَدِيث يشبه حَدِيث أبي رَافع بِأَنَّهُ كَانَ قبل آيَة الرِّبَا. وَعَن هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وفقهاء الْكُوفَة وَالثَّوْري وَالْحسن بن صَالح: إِن استقراض الْحَيَوَان لَا يجوز، وَلَا يجوز الاستقراض إلاَّ مِمَّا لَهُ مثل: كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، فَلَا يجوز قرض مَا لَا مثل لَهُ من المزروعات والعدديات المتفاوتة، لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى إِيجَاب رد الْعين، وَلَا إِلَى إِيجَاب الْقيمَة لاخْتِلَاف تَقْوِيم المقومين، فَتعين أَن يكون الْوَاجِب فِيهِ رد الْمثل، فَيخْتَص جَوَازه بِمَا لَهُ مثل، وَعَن هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: لَا يجوز الْقَرْض فِي الْخبز لَا وزنا وَلَا عددا، وَقَالَ مُحَمَّد: يجوز عددا.(12/45)
واشْتَرَى ابنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأرْبَعَةِ أبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوفِيهَا صاحِبَهَا بالرَّبَذَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن مَالك، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي بشر عَن نَافِع أَن ابْن عمر اشْترى نَاقَة بأَرْبعَة أَبْعِرَة بالربذة، فَقَالَ لصَاحب النَّاقة: إذهب فَانْظُر، فَإِن رضيت فقد وَجب البيع، وَأجِيب عَن هَذَا بِأَن ابْن أبي شيبَة روى عَن ابْن عمر خلاف ذَلِك، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي زَائِدَة عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين، قلت لِابْنِ عمر: الْبَعِير بالبعيرين إِلَى أجل، فكرهه.
قَوْله: (رَاحِلَة) ، هِيَ مَا أمكن ركُوبهَا من الْإِبِل، سَوَاء كَانَت ذكرا أَو انثى، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرَّاحِلَة من الْإِبِل الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال. وَالتَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، يَسْتَوِي فِيهَا الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهِي الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت، والأبعرة جمع: بعير، وَيجمع أَيْضا على: بعران، وَهُوَ أَيْضا يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (مَضْمُونَة عَلَيْهِ) أَي: تكون تِلْكَ الرَّاحِلَة فِي ضَمَان البَائِع. قَوْله: (يوفيها صَاحبهَا) أَي: يُسَلِّمهَا صَاحب الرَّاحِلَة إِلَى المُشْتَرِي. قَوْله: (بالربذة) ، أَي: فِي الربذَة، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره تَاء، قَالَ بَعضهم: هُوَ مَكَان مَعْرُوف بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، قلت: هِيَ قَرْيَة مَعْرُوفَة قرب الْمَدِينَة، بهَا قبر أبي ذَر الْغِفَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن قرقول: وَهِي على ثَلَاث مراحل من الْمَدِينَة، قريب من ذَات عرق، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ذَات عرق ثنية أَو هضبة بَينهَا وَبَين مَكَّة يَوْمَانِ، وَبَعض يَوْم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذَات عرق أول بِلَاد تهَامَة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرا مِنَ البَعِيرَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الشَّافِعِي قَالَ: أخبرنَا ابْن علية عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن بعير ببعيرين؟ فَقَالَ: قد يكون الْبَعِير خيرا من البعيرين. قلت: فَإِن اسْتدلَّ بِهِ من يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه كرهه لأجل الْفضل الَّذِي لَيْسَ فِي مُقَابلَته شَيْء.
واشْتَرَى رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ بَعِيرا بِبَعِيرَيْنِ فأعْطاهُ أحدَهُما وَقَالَ آتِيكَ بالآخَرَ غَدا رَهْوا إنْ شاءَ الله
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا لِأَنَّهُ اشْترى بَعِيرًا ببعيرين نَسِيئَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: أخبرنَا معمر عَن بديل الْعقيلِيّ عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير: أَن رَافع بن خديج اشْترى. . فَذكره، وَرَافِع، بِكَسْر الْفَاء: ابْن خديج، بفتخ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره جِيم: الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ.
قَوْله: (رهوا) بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ فِي الأَصْل: السّير السهل، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: أَنا آتِيك بِهِ سهلاً بِلَا شدَّة وَلَا مماطلة، وَأَن المأتي بِهِ يكون سهل السّير رَفِيقًا غير خشن فَإِن قلت: بِمَ انتصاب رهوا؟ قلت: على التَّفْسِير الأول يكون مَنْصُوبًا على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: أَنا آتِيك بِهِ إتيانا رهوا، وعَلى الثَّانِي يكون حَال عَن قَوْله بِالْآخرِ بالتأويل. فَافْهَم.
وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبِ لاَ رِبا فِي الحَيَوانِ الْبَعِيرُ بالبَعِيرَيْنِ والشَّاةُ بالشَّاتَيْنِ إلَى أجَلٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن الْمسيب هُوَ سعيد بن الْمسيب من كبار التَّابِعين، وَقد تكَرر ذكره. قَوْله: (لَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان) ، وَصله مَالك عَن ابْن شهَاب عَنهُ: لَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان، وَالْبَاقِي وَصله ابْن بِي شيبَة من طَرِيق آخر عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ: لَا بَأْس بالبعير بالبعيرين نَسِيئَة، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) أَنبأَنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ سُئِلَ سعيد ... فَذكره.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ لاَ بأسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئةً ودِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: بعير ببعيرين، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين من كبار التَّابِعين، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين، قَالَ: لَا بَأْس بعير ببعيرين وَدِرْهَم بدرهم نَسِيئَة، وَإِن كَانَ أحد البعيرين نَسِيئَة فَهُوَ مَكْرُوه. قَوْله: (وَدِرْهَم بدرهم) ، كَذَا هُوَ فِي مُعظم الروايت، وَوَقع فِي بَعْضهَا: وَدِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ نَسِيئَة. قَالَ ابْن بطال: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب مَا ذكره عبد الرَّزَّاق.(12/46)
8222 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبً قَالَ حَدثنَا حَمادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ فَصارَتْ إلَى دِحْيَةَ الْكُلْبِيِّ ثُمَّ صارَتْ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْترى صَفِيَّة من دحْيَة بسبعة أرؤس، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جمع فِي خَيْبَر السَّبي جَاءَ دحْيَة فَقَالَ: أَعْطِنِي جَارِيَة مِنْهُ، قَالَ: إذهب فَخذ جَارِيَة، فَأخذ صَفِيَّة، فَقيل: يَا رَسُول الله إِنَّهَا سيدة قُرَيْظَة وَالنضير مَا تصلح إلاَّ لَك، فَأَخذهَا مِنْهُ كَمَا ذكرنَا وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فَقَالَ لدحية: خُذ جَارِيَة من السَّبي غَيرهَا، وَقَالَ ابْن بطال: ينزل تبديلها بِجَارِيَة غير مُعينَة منزلَة بيع جَارِيَة بِجَارِيَة نَسِيئَة، وَالَّذِي ذكره البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصر من حَدِيث خَيْبَر. أخرجه فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن ثَابت وَشُعَيْب بن الحبحاب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ، وَعَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن ثَابت عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ، وَأخرجه عَن مُسَدّد فِي النِّكَاح أَيْضا عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد عَن ثَابت وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد ابْن عَبدة عَن حَمَّاد عَن ثَابت وَعبد الْعَزِيز بِهِ، وَمن حَدِيث شُعَيْب بن الحبحاب أخرجه مُسلم أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عَمْرو بن مَنْصُور وَمُحَمّد بن رَافع، وَفِي الْوَلِيمَة أَيْضا عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث بِهِ، وَمن حَدِيث عبد الْعَزِيز أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن عبد الْعَزِيز عَن أنس مُخْتَصرا.
وَصفِيَّة بنت حييّ ابْن أَخطب بن سفنة بن ثَعْلَبَة النضيرية أم الْمُؤمنِينَ من بَنَات هَارُون بن عمرَان أخي مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأمّهَا برة بنت سموأل سباها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام خَيْبَر فِي شهر رَمَضَان سنة سبع من الْهِجْرَة، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وروى لَهَا عشرَة أَحَادِيث، اتفقَا على حَدِيث وَاحِد، مَاتَت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين، قَالَه الْوَاقِدِيّ. ودحية، بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا: ابْن خَليفَة بن فَرْوَة الْكَلْبِيّ رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قَيْصر، وَقد مر ذكره فِي أول الْكتاب.
901 - (بابُ بَيْعِ الرَّقِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الرَّقِيق.
9222 - حدَّثنا أَبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا ابنُ مُحَيْرِيزِ أنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخبرهُ أنَّهُ بَيْنَما هُوَ جالِسٌ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا رسولَ الله إِنَّا نصِيبُ سَبْيا فنُحِبُّ الأثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِي العَزْلِ فَقَالَ أوَ إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ لاَ عَلَيْكُمْ أنْ لاَ تَفْعَلُوا ذالِكُمْ فإنَّهَا لَيْسَتْ نَسمَةٌ كتَبَ الله أنْ تَخْرُجَ إلاَّ هِيَ خارِجَةٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمْنَع عَن بيع السَّبي لما قَالُوا: إِنَّا نصيب السَّبي فَنحب الْأَثْمَان، والأثمان لَا تَجِيء إلاَّ بِالْبيعِ، والسبي فِيهِ الرَّقِيق وَغَيره.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَقد تكَرر ذكرهم، وَابْن محيريز بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره زَاي، وَهُوَ: عبد الله بن محيريز الجُمَحِي الْقرشِي اليمامي، يكنى أَبَا محيريز، مَاتَ فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن جوَيْرِية عَن مَالك، وَفِي الْقدر عَن حبَان بن مُوسَى عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ، وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَفِي الْعتْق عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، كِلَاهُمَا عَن ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن وَفِي التَّوْحِيد عَن إِسْحَاق بن عَفَّان. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عبد الله بن مُحَمَّد بِهِ وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر وَعَن مُحَمَّد بن الْفرج، وَفِيه قصَّة لأبي صرمة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعتْق(12/47)
عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب وَعَن يحيى بن أَيُّوب وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن عَبَّاس بن عبد الْعَظِيم وَعَن كثير بن عبيد وَفِيه وَفِي النعوت عَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّا نصيب سيبا) أَي: نجامع الْإِمَاء المسبية، وَنحن نُرِيد أَن نبيعهن فنعزل الذّكر عَن الْفرج وَقت الْإِنْزَال حَتَّى لَا ينزل فِيهِ دفعا لحُصُول الْوَلَد الْمَانِع من البيع، إِذْ أُمَّهَات الْأَوْلَاد حرَام بيعهَا، وَكَيف تحكم فِي الْعَزْل أهوَ جَائِز أم لَا؟ وَاخْتلف فِيهِ أهَلْ كَانُوا أهل كتاب أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأصيلِيّ: كَانُوا عَبدة أوثان، وَإِنَّمَا جَازَ وطؤهن قبل نزُول: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانُوا أهل كتاب فَلم يحْتَج فِيهِنَّ إِلَى ذكر الْإِسْلَام، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالظَّاهِر الأول لقَوْله فِي بعض طرقه: فأصبنا سبيا من سبي الْعَرَب، ثمَّ نقل عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد أَنه كَانَ أسر فِي بني المصطلق أَكثر من سَبْعمِائة، وَمِنْهُم جوَيْرِية بنت الْحَارِث أعْتقهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَزَوجهَا، وَلما دخل بهَا سَأَلته فِي الأسرى فوهبهم لَهَا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (أَو أَنكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِك {؟) على التَّعَجُّب مِنْهُ، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى الْعَزْل. قَوْله: (لَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا) ، أَي: لَيْسَ عدم الْفِعْل وَاجِبا عَلَيْكُم، وَقَالَ الْمبرد: كلمة: لَا، زَائِدَة أَي: لَا بَأْس عَلَيْكُم فِي فعله، وَأما من لم يجوّز الْعَزْل فَقَالَ: لَا، نفي لما سَأَلُوهُ، و: عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا، كَلَام مُسْتَأْنف مؤكذ لَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: مَا عَلَيْكُم ضَرَر فِي ترك الْعَزْل، لِأَن كل نفس قدر الله تَعَالَى خلقهَا لَا بُد أَن يخلقها، سَوَاء عزلتم أم لَا؟ قَوْله: (نسمَة) ، بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة وَهُوَ كل ذَات روح، وَيُقَال: النَّسمَة النَّفس وَالْإِنْسَان، وَيُرَاد بهَا الذّكر وَالْأُنْثَى، وَالنَّسَمُ: الْأَرْوَاح، والنسيم: الرّيح الطّيبَة. قَوْله: (إلاَّ هِيَ خَارِجَة) ويروى: إلاَّ وَهِي خَارِجَة، بِالْوَاو أَي: جف الْقَلَم بِمَا يكون.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: السُّؤَال عَن الْعَزْل من الْإِمَاء. وَأجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن مَا قدر من النَّسمَة يكون، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ: (سَأَلَ رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعَزْل؟ فَقَالَ: إِن امْرَأَتي مرضع وَأَنا أكره أَن تحمل. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا قدر فِي الرَّحِم سَيكون) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر: (أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن لي جَارِيَة أَطُوف عَلَيْهَا وأكره أَن تحمل. فَقَالَ: إعزل عَنْهَا إِن شِئْت فَإِنَّهُ سيأتيها مَا قدر لَهَا) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَنهُ: قُلْنَا: يَا رَسُول الله} إِنَّا كُنَّا نعزل، فَزَعَمت الْيَهُود أَنَّهَا الموؤودة الصُّغْرَى. فَقَالَ: كذبت الْيَهُود، إِن الله إِذا أَرَادَ أَن يخلقه لم تَمنعهُ) . ثمَّ إِن هَذَا السَّبي الْمَذْكُور فِي الحَدِيث كَانَ من سبي هوَازن، وَذَلِكَ يَوْم حنين سنة ثَمَان، لِأَن مُوسَى بن عقبَة روى هَذَا الحَدِيث عَن ابْن محيريز عَن أبي سعيد، فَقَالَ: أصبْنَا سبيا من سبي هوَازن، وَذَلِكَ يَوْم حنين، سنة ثَمَان. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَمَ مُوسَى بن عقبَة فِي ذَلِك، وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي الوداك عَن أبي سعيد، قَالَ: لما أصبْنَا سبي حنين سَأَلنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. عَن الْعَزْل؟ فَقَالَ: (لَيْسَ من كل المَاء يكون الْوَلَد) . وروى من حَدِيث ابْن محيريز: قَالَ: دخلت أَنا وَأَبُو الصرمة على أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَسَأَلَهُ أَبُو الصرمة، فَقَالَ: يَا أَبَا سعيد! هَل سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يذكر الْعَزْل؟ فَقَالَ: نعم، غزونا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَزْوَة المصطلق، فسبينا كرائم الْعَرَب، فطالت علينا الْعزبَة ورغبنا فِي الْفِدَاء، فأردنا أَن نستمتع ونعزل، فَقُلْنَا: نَفْعل وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين أظهرنَا لَا نَسْأَلهُ؟ فسألنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: (لَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا مَا كتب الله خلق نسمَة هِيَ كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا سَتَكُون) . قَوْله: (غَزْوَة المصطلق) ، أَي: بني المصطلق، وَهِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، قَالَ القَاضِي: قَالَ أهل الحَدِيث: هَذَا أولى من رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة أَنه فِي غَزْوَة أَوْطَاس، وَكَانَت غَزْوَة بني المصطلق فِي سنة سِتّ أَو خمس أَو أَربع. وَفِيه: فِي قَوْله: (فَنحب الْأَثْمَان) ، دلَالَة على عدم جَوَاز بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَهُوَ حجَّة على دَاوُد وَغَيره مِمَّن يجوز بيعهنَّ. وَفِيه: إِبَاحَة الْعَزْل عَن الْأمة، قَالَ الرَّافِعِيّ: يجوز الْعَزْل فِي الْأمة قطعا. وَحكى فِي الْبَحْر فِيهِ وَجْهَان، وَأما الزَّوْجَة فَالْأَصَحّ جَوَازه عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَلكنه يكره، وَمِنْهُم من جوزه عِنْد إِذْنهَا وَمنعه عِنْد عَدمه، وَهُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة أَيْضا. وَذكر بعض الْعلمَاء أَرْبَعَة أَقْوَال: الْجَوَاز، وَعَدَمه، وَمذهب مَالك: جَوَازه فِي التَّسَرِّي وَفِي الْحرَّة مَوْقُوف على إِذْنهَا وَإِذن سَيِّدهَا إِن كَانَت للْغَيْر. وَرَابِعهَا: يجوز برضى الْمَوْطُوءَة كَيفَ مَا كَانَت، وَحجَّة من أجَاز حَدِيث جَابر: (كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل، فَبلغ ذَلِك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم ينهنا) . وَحجَّة من منع أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما سُئِلَ عَنهُ قَالَ: (ذَلِك الوأد الْخَفي) .(12/48)
وَفِيه: دلَالَة على أَن الْوَلَد يكون مَعَ الْعَزْل. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَلِهَذَا صحّح أَصْحَابنَا أَنه لَو قَالَ: وطِئت وعزلت لحقه الْوَلَد على الْأَصَح.
011 - (بابُ بَيْعِ المدَبَّرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُدبر، وَهُوَ الْمُعَلق عتقه بِمَوْت سَيّده، كَذَا قَالُوا. قلت: التَّدْبِير لُغَة) : النّظر فِيمَا يؤول إِلَيْهِ عاقبته، وَشرعا: التَّدْبِير تَعْلِيق الْعتْق بِمُطلق مَوته، كَقَوْلِه: إِذا مت فَأَنت حر، أَو: أَنْت حر يَوْم أَمُوت. أَو: أَنْت حر عَن دبر مني، أَو: أَنْت مُدبر أَو: دبرتك. أَو قَالَ: أَعتَقتك بعد موتِي. أَو: أَنْت عَتيق أَو مُعتق أَو مُحَرر بعد موتِي. أَو: إِن مت فَأَنت حر، أَو: إِن حدث لي حدث فَأَنت حر، لِأَن الْحَدث يُرَاد بِهِ الْمَوْت عَادَة، وَكَذَا إِذا قَالَ: أَنْت حر مَعَ موتِي أَو فِي موتِي فَهَذِهِ كلهَا أَلْفَاظ التَّدْبِير الْمُطلق، فَالْحكم فِيهَا: أَنه لَا يجوز بَيْعه وَلَا هِبته، وَلكنه يستخدم ويؤجر، وَالْأمة تُوطأ وَتنْكح وتعتق بِمَوْت الْمولى من ثلثه، وَإِن مَاتَ فَقِيرا يسْعَى فِي ثلي قِيمَته، وَيسْعَى فِي جَمِيع قِيمَته إِن مَاتَ الْمولى مديونا مُسْتَغْرقا.
وَأما أَلْفَاظ التَّدْبِير الْمُقَيد فَهِيَ كَقَوْلِه: إِن مت من مرضِي هَذَا أَو من سَفَرِي هَذَا فَأَنت حر، فَحكمه أَنه يجوز بَيْعه بِالْإِجْمَاع، فَإِن وجد الشَّرْط عتق. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: يجوز بيع الْمُدبر بِكُل حَال. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره: اتَّفقُوا على مَشْرُوعِيَّة التَّدْبِير، وَاتَّفَقُوا على أَنه من الثُّلُث، غير اللَّيْث بن سعد وَزفر فَإِنَّهُمَا قَالَا: من رَأس المَال، وَاخْتلفُوا: هَل هُوَ عقد جَائِز أَو لَازم؟ فَمن قَالَ: لَازم: منع التَّصَرُّف فِيهِ إلاَّ بِالْعِتْقِ. وَمن قَالَ: جَائِز، أجَاز، وبالأول قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيون، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِي وَأهل الحَدِيث.
0322 - حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ حدَّثنا وكِيعٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عنْ عطاءٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ باعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المدَبَّرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم: وَهُوَ مصغر نمر الْحَيَوَان الْمَشْهُور. الثَّانِي: وَكِيع بن الْجراح الرواسِي. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَاسم أبي خَالِد سعد، وَيُقَال: هُرْمُز، وَيُقَال: كثير. الرَّابِع: سَلمَة بن كهيل مصغر كهل الْحَضْرَمِيّ، كَانَ ركنا من الْأَركان، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: عَطاء بن أبي رَبَاح. السَّادِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: إِن شَيْخه ووكيعا وَإِسْمَاعِيل وَسَلَمَة كلهم كوفيون وَأَن عَطاء مكي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد وهم: إِسْمَاعِيل وَسَلَمَة ووعطاء، فإسماعيل وَسَلَمَة قريبان من صغَار التَّابِعين، وَعَطَاء من أوساطهم. وَفِيه: ثَلَاثَة ذكرُوا مجردين بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي، وَفِيه وَفِي الْبيُوع عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَفِيه وَفِي الْقَضَاء عَن عبد الْأَعْلَى بن وَاصل، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير وَعلي بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد لما ذَهَبا إِلَيْهِ من جَوَاز بيع الْمُدبر بِكُل حَال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي: بَاب بيع المزايدة. قَوْله: (الْمُدبر) أَي: الْمُدبر الَّذِي كَانَ للرجل الْمُحْتَاج، قد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الَّذِي اشْتَرَاهُ: نعيم، وَاسم الْمُدبر: يَعْقُوب، وَاسم سَيّده: أَبُو مَذْكُور، وَالثمن: ثَمَانمِائَة دِرْهَم.
1322 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرِو سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقولُ باعَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، هَكَذَا أوردهُ مُخْتَصرا وَلم يذكر من يعود عَلَيْهِ الضَّمِير. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن(12/49)
سُفْيَان فَزَاد فِي آخِره: يَعْنِي الْمُدبر، وَأخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأبي بكر بن أبي شيبَة جَمِيعًا عَن سُفْيَان بِلَفْظ: دبر رجل من الْأَنْصَار غُلَاما لَهُ لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبَاعَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاشْتَرَاهُ ابْن النحام عبدا قبطيا مَاتَ عَام أول فِي إِمَارَة ابْن الزبير، وَهَكَذَا أخرجه أَحْمد عَن سُفْيَان بِتَمَامِهِ نَحوه، وَقد أخرجه البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي كَفَّارَات الْإِيمَان من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو نَحوه وَلم يقل فِيهِ فِي إمارات ابْن الزبير وَلَا عين الثّمن.
3322 - حدَّثني زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوبُ قَالَ حَدثنَا أبِي عنْ صالِحٍ قَالَ حدَّثَ ابنُ شِهَابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله أخْبَرَهُ أنَّ زَيْدَ بنَ خالِدٍ وَأَبا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخْبَرَاهُ أنَّهُما سَمِعَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْئَلُ عنِ الأمَةِ تَزْنِي ولَمْ تُحْصَنْ قَالَ اجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوها ثُمَّ بِيعُوها بعْدَ الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ. .
قيل: لَا معنى لإدخال هَذَا فِي بيع الْمُدبر، وَلِهَذَا أسقط هَذَا الْبَاب ابْن التِّين وَأدْخلهُ ابْن بطال فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ: بَاب بيع الرَّقِيق، وَقَالَ بَعضهم: وَجه دُخُول هَذَا فِي هَذَا الْبَاب عُمُوم الْأَمر بِبيع الْأمة إِذا زنت، فَيشْمَل مَا إِذا كَانَت مُدبرَة أَو غير مُدبرَة، فَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز بيع الْمُدبرَة فِي الْجُمْلَة. انْتهى. قلت: أَخذ هَذَا الْقَائِل بعض كَلَامه هَذَا من الْكرْمَانِي، وَزَاد عَلَيْهِ من عِنْده فَإِن الْكرْمَانِي قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلقه بالمدبر؟ قلت: لفظ الْأمة الْمُطلقَة شَامِل للمدبرة وَغَيرهَا. انْتهى. قلت: هَذَا الْكَلَام كُله لَيْسَ بموجه، لِأَن الْأمة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث إِنَّمَا أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَيْعِهَا لأجل تكَرر زنَاهَا، وَالْأمة الْمُدبرَة يجوز بيعهَا عِنْدهم مُطلقًا، سَوَاء تكَرر الزِّنَا مِنْهَا أَو لم يتَكَرَّر، أَو لم تزنِ أصلا. وَقَول هَذَا الْقَائِل: فَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز بيع الْمُدبرَة فِي الْجُمْلَة كَلَام واهٍ، لِأَن الْأَخْذ الَّذِي ذكره لَا يكون إلاَّ بِدلَالَة من اللَّفْظ من أَقسَام الدّلَالَة الثَّلَاثَة، وَلَا يَصح أَيْضا على رَأْي أهل الْأُصُول، فَإِن الَّذِي يدل لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِعِبَارَة النَّص أَو بإشارته أَو بدلالته، فَأَي ذَلِك أَرَادَ هَذَا الْقَائِل فَلَا يدْرِي مَا قَالَه، وَالصَّوَاب مَعَ ابْن بطال وَابْن التِّين.
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: زُهَيْر مصغر زهر بن حَرْب، ضد الصُّلْح، الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الثَّالِث أَبوهُ ابراهيم بن سعيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. السَّادِس: عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّابِع: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ. الثَّامِن: أَبُو هُرَيْرَة.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب بيع العَبْد الزَّانِي، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من وَجه آخر: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله عَن أبي هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَوْله: (لم تحصن) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسرهَا.
4322 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله قَالَ أخبرنِي اللَّيْثُ عنْ سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فتَبَيَّنَ زِناهَا فلْيَجْلِدْها الحَدَّ ولاَ يُثَرِّبْ عَلَيْها ثُمَّ إنْ زَنَتْ فلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ ولاَ يُثَرِّبْ ثُمْ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فتَبَيَّنَ زِناهَا فَلْيَبِعْها ولَوْ بِحَبلٍ مِنْ شَعرٍ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي هُرَيْرَة وَحده أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أبي الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن اللَّيْث بن سعد عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه أبي سعيد كيسَان مولى بني لَيْث، وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود، وَالنَّسَائِيّ فِي الرَّحِم، جَمِيعًا عَن عِيسَى بن حَمَّاد كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث بِهِ.
قَوْله: (فَتبين) أَي: ظهر زنَاهَا وَثَبت. قَوْله: (وَلَا يثرب) أَي: وَلَا(12/50)
يوبخها بِالزِّنَا بعد الضَّرْب، والتثريب اللوم، وَقيل أَرَادَ: لَا يَقع فِي عقوبتها التثريب بل يضْربهَا الْحَد، فَإِن زنا الْإِمَاء لم يكن عِنْد الْعَرَب مَكْرُوها وَلَا مُنْكرا، فَأَمرهمْ بِحَدّ الْإِمَاء كَمَا أَمرهم بِحَدّ الْحَرَائِر، ومادته: ثاء مُثَلّثَة وَرَاء وباء مُوَحدَة. قَوْله: (وَلَو بِحَبل) أَي: وَلَو كَانَ بِحَبل من شعر.
111 - (بابٌ هَلْ يُسَافِرُ بالجَارِيَةِ أنْ يَسْتَبْرِئَها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُسَافر شخص بالجارية الَّتِي اشْتَرَاهَا قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا؟ وَإِنَّمَا قيد بِالسَّفرِ، وَإِن كَانَ فِي الْحَضَر أَيْضا لَا بُد من الِاسْتِبْرَاء، لِأَن السّفر مَظَنَّة المخالطة وَالْمُلَامَسَة غَالِبا، واستبراء الْجَارِيَة طلب بَرَاءَة رَحمهَا من الْحمل، وَأَصله من: استبرأت الشَّيْء إِذا طلبت أمره لتعرفه وتقطع الشُّبْهَة. وَقيل: الِاسْتِبْرَاء عبارَة عَن التعرف والتبصر احْتِيَاطًا، والاستبراء الَّذِي يذكر مَعَ الِاسْتِنْجَاء فِي الطَّهَارَة هُوَ أَن يستفرغ بَقِيَّة الْبَوْل وينقي مَوْضِعه وَمَجْرَاهُ، وَكلمَة: هَل: هُنَا للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَلم يذكر جَوَابه لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ.
ولَمْ يَرَ الحَسَنُ بَأْسا أَن يُقَبِّلَها أوْ يُبَاشِرَهَا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية، قَالَ: سُئِلَ يُونُس عَن الرجل يَشْتَرِي الْأمة فيستبرئها يُصِيب مِنْهَا الْقبْلَة والمباشرة؟ فَقَالَ ابْن سِيرِين: يكره ذَلِك، وَيذكر عَن الْحسن أَنه كَانَ لَا يرى بالقبلة بَأْسا. قَوْله: (أَو يُبَاشِرهَا) يَعْنِي فِيمَا دون الْفرج، ويروى: ويباشرها بِالْوَاو، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن، قَالَ: يُصِيب مَا دون الْفرج، وَلَفظ الْمُبَاشرَة أَعم من التَّقْبِيل وَغَيره، وَلَكِن الْفرج مُسْتَثْنى لأجل الْمعرفَة بِبَرَاءَة الرَّحِم.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا وُهِبَتِ الوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطأ أوْ بِيعَتْ أوْ عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرأ رَحِمُها بِحَيْضَةٍ ولاَ تَسْتَبُرَأُ العَذْرَاءُ
ابْن عمر هُوَ عبد الله بن عمر. قَوْله: (إِذا وهبت) إِلَى قَوْله: (بِحَيْضَة) ، تَعْلِيق وَصله أَبُو بكر بن أبي شيبَة من طَرِيق عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر والوليدة الْجَارِيَة. قَوْله: (الَّتِي تُوطأ) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو بِيعَتْ) ، بِكَسْر الْبَاء على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (أَو عتقت) ، بِفَتْح الْعين وَقيل بضَمهَا، وَلَيْسَ بِشَيْء. قَوْله: (فليستبرأ) على صِيغَة الْمَجْهُول أَو الْمَعْلُوم أَي: ليستبرىء الْمُتَّهب وَالْمُشْتَرِي والمتزوج بهَا الْغَيْر الْمُعْتق. قَوْله: (وَلَا تستبرأ الْعَذْرَاء) وَهِي الْبكر إِذْ لَا شكّ فِي بَرَاءَة رَحمهَا من الْوَلَد، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْوَهَّاب عَن سعيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: إِن اشْترى أمة عذراء فَلَا يَسْتَبْرِئهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا خلاف مَا يَقُوله مَالك. قيل: وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. وَقيل: يستبرىء اسْتِحْبَابا، وَعَن ابْن سِيرِين فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة الْعَذْرَاء، قَالَ لَا يقربن رَحمهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا. وَعَن الْحسن: يَسْتَبْرِئهَا وَإِن كَانَت بكرا، وَكَذَا قَالَه عِكْرِمَة، وَقَالَ عَطاء فِي رجل اشْترى جَارِيَة من أَبَوَيْهَا عذراء، وَقَالَ: يَسْتَبْرِئهَا بحيضتين. وَمذهب جمَاعَة مِنْهُم: ابْن الْقَاسِم وَسَالم وَاللَّيْث وَأَبُو يُوسُف: لَا اسْتِبْرَاء إلاَّ على الْبَالِغَة، وَكَانَ أَبُو يُوسُف لَا يرى اسْتِبْرَاء الْعَذْرَاء وَإِن كَانَت بَالِغَة، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَقَالَ إِيَاس بن مُعَاوِيَة فِي رجل اشْترى جَارِيَة صَغِيرَة، لَا يُجَامع مثلهَا، قَالَ: لَا بَأْس أَن يَطَأهَا وَلَا يَسْتَبْرِئهَا، وَكره قَتَادَة تقبيلها حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا. وَقَالَ أَيُّوب اللَّخْمِيّ، وَقعت فِي سهم ابْن عمر جَارِيَة يَوْم جَلُولَاء، فَمَا ملك نَفسه حَتَّى قبلهَا. قَالَ ابْن بطال: ثَبت هَذَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ عَطاءٌ لاَ بأسَ أنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الحامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ وَقَالَ الله تَعَالَى: {إلاَّ عَلى أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ، وَالْمرَاد بقوله: (الْحَامِل) من غير سَيِّدهَا، لِأَنَّهَا: إِذا كَانَت حَامِلا من سَيِّدهَا فَلَا يرتاب فِي حلّه، ثمَّ وَجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ هُوَ أَن الله تَعَالَى مدح الحافظين فروجهم إلاَّ عَلى أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم، فَإِنَّهَا دلّت على جَوَاز الِاسْتِمْتَاع بِجَمِيعِ وجوهه لَكِن خرج الْوَطْء بِدَلِيل، فَبَقيَ الْبَاقِي على أَصله.(12/51)
3522 - حدَّثنا عَبْدُ الغَفَّارِ بنُ داوُدَ قَالَ حدَّثنا يَعْقوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ عَمْرِو بنِ أبِي عَمْرٍ وعنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ فَلَمَّا فتَحَ الله عَلَيْهِ الحصْنَ ذكِرَ لَهُ جَمالُ صفيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بن أخْطَبَ وقَدْ قتلَ زَوْجُها وكانَتْ عَرُوسا فاصْطَفاها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِنَفْسهِ فخَرَجَ بِها حتَّى بلغْنَا سَدَّ الرَّوْحاءِ حلَّتْ فبَنَى بهَا ثُمَّ صنَعَ حَيْسا فِي نطَعٍ صغيرٍ ثمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ فكانَتْ تِلُكَ وَلِيمَةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى صفِيَّةَ ثُمَّ خَرَجْنا إِلَى المَدِينَةِ قَالَ فرأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحَوِّي لَها ورَاءَهُ بِعَباءَةٍ ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فيَضَعُ رُكْبَتَهُ فتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَتَّى تَرْكَبَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما اصْطفى صَفِيَّة استبرأها بِحَيْضَة ثمَّ بنى بهَا، وَهَذَا يفهم من قَوْله: حَتَّى بلغنَا سد الروحاء حلت، فَإِن المُرَاد بقوله: حلت أَي: طهرت من حَيْضهَا. وَقد روى الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَبْرَأَ صَفِيَّة بِحَيْضَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الْغفار بن دَاوُد بن مهْرَان، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْقَارِي، من القارة، حَلِيف بني زهرَة، وَقد مر فِي: بَاب الْخطْبَة على الْمِنْبَر. الثَّالِث: عَمْرو بن أبي عَمْرو، واسْمه: ميسرَة يكنى أَبَا عُثْمَان. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَعبد الْغفار حراني سكن مصر وَأَن يَعْقُوب مدنِي سكن إسكندرية وَأَن عَمْرو بن أبي عَمْرو مدنِي مَاتَ فِي أول خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عبد الْغفار، وَفِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن أَحْمد عَن ابْن وهب، وَفِي الْأَطْعِمَة وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن سعيد بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خَيْبَر) ، كَانَت غَزْوَة خَيْبَر سنة سِتّ، وَقيل: سبع. قَوْله: (الْحصن) ، اسْمه القموص وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سبى صَفِيَّة وَابْنَة عَم لَهَا من هَذَا الْحصن. قَوْله: (صَفِيَّة) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الصَّحِيح: أَن هَذَا كَانَ اسْمهَا قبل السَّبي، وَقيل: كَانَ اسْمهَا: زَيْنَب، فسميت صَفِيَّة بعد السَّبي. قَوْله: (بنت حييّ) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى وَتَشْديد الثَّانِيَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: المحدثون يَقُولُونَهُ بِكَسْر الْحَاء، وَأهل اللُّغَة بضَمهَا. قَوْله: (ابْن أَخطب) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (وَقد قتل زَوجهَا) ، وَهُوَ كنَانَة بن أبي الْحقيق وَكَانَ زَوجهَا أَو لأسلام بن مشْكم، وَكَانَ خمارا فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ خلف عَلَيْهَا كنَانَة، وَكَانَت صَفِيَّة رَأَتْ فِي الْمَنَام قمرا أقبل من يثرب وَوَقع فِي حجرها، فقصت على زَوجهَا، فلطم وَجههَا وَقَالَ: أَنْت تزعمين أَن ملك يثرب يتزوجك، وَفِي لفظ: تحبين أَن يكون هَذَا الْملك الَّذِي يَأْتِي من الْمَدِينَة زَوجك، وَفِي لفظ: رَأَيْت كَأَنِّي وَهَذَا الَّذِي يزْعم أَن الله أرْسلهُ وَملك يسترنا بجناحه، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى بوجهها أثر خضرَة قَرِيبا من عينهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَت: يَا رَسُول الله رَأَيْت فِي الْمَنَام ... فَذكرت مَا مضى إِلَى آخِره، و: هَذِه الخضرة من لطمة على وَجْهي، وَفِي (الإكليل) للْحَاكِم، وَجُوَيْرِية رَأَتْ فِي الْمَنَام كرؤية صَفِيَّة قبل تزَوجهَا برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر ابْن سعد أَن أم حَبِيبَة، قَالَت: رَأَيْت فِي النّوم كَأَن آتِيَا يَقُول لي: يَا أم الْمُؤمنِينَ، فَفَزِعت وأولت أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَتَزَوَّجنِي، وَعَن ابْن عَبَّاس: رَأَتْ سَوْدَة فِي الْمَنَام كَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبل يمشي حَتَّى وطىء على عُنُقهَا، فَقَالَ زَوجهَا: إِن صدقت رُؤْيَاك لتتزوجي بِهِ، ثمَّ رَأَيْت لَيْلَة(12/52)
أُخْرَى أَن قمرا أَبيض انقض عَلَيْهَا من السَّمَاء وَهِي مُضْطَجِعَة، فَأخْبرت زَوجهَا السَّكْرَان، فَقَالَ: إِن صدقت رُؤْيَاك لم ألبث إلاَّ يَسِيرا حَتَّى أَمُوت وتتزوجيه من بعدِي، فاشتكى من يَوْمه ذَلِك وَلم يلبث إلاَّ قَلِيلا حَتَّى مَاتَ. قَوْله: (وَكَانَت عروسا) الْعَرُوس: نعت يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، وَعَن الْخَلِيل: رجل عروس وَامْرَأَة عروس وَنسَاء عرائس. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال للرجل عروس كَمَا يُقَال للْمَرْأَة، وَهُوَ اسْم لَهَا عِنْد دُخُول أَحدهمَا بِالْآخرِ، وَيُقَال: أعرس الرجل فَهُوَ معرس إِذا دخل بامرأته عِنْد بنائها. قَوْله: (فاصطفاها) أَي: أَخذهَا صفيا، والصفي سهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْمغنم، كَانَ يَأْخُذهُ من الأَصْل قبل الْقِسْمَة جَارِيَة أَو سِلَاحا، وَقيل: إِنَّمَا سميت صَفِيَّة بذلك لِأَنَّهَا كَانَت صَفِيَّة من غنيمَة خَيْبَر. قَوْله: (سد الروحاء) السد، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الدَّال، والروحاء، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبالمد. مَوضِع قريب من الْمَدِينَة وَفِي (الْمطَالع) : الروحاء من عمل الْفَرْع على نَحْو من أَرْبَعِينَ ميلًا من الْمَدِينَة، وَفِي مُسلم: على سِتَّة وَثَلَاثِينَ، وَفِي كتاب ابْن أبي شيبَة: على ثَلَاثِينَ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: الصَّوَاب الصَّهْبَاء بدل سد الروحاء. وَفِي (الْمطَالع) : الصَّهْبَاء من خَيْبَر على رَوْحَة. قَوْله: (حلت) قد فسرناه عَن قريب فِي أول الْبَاب. قَوْله: (فَبنى بهَا) أَي: دخل بهَا، قَالَ ابْن الْأَثِير: الابتناء وَالْبناء: الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الرجل كَانَ إِذا تزوج بِامْرَأَة بنى عَلَيْهَا قبَّة ليدْخل بهَا فِيهَا. فَيُقَال: بنى الرجل على أَهله. قَالَ الْجَوْهَرِي: لَا يُقَال بنى بأَهْله. قَوْله: (حَيْسًا) ، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة. وَهُوَ: أخلاط من التَّمْر والأقط وَالسمن، وَيُقَال: من الثَّمر والسويق، وَيُقَال: من التَّمْر وَالسمن، وَعَن أبي الْوَلِيد، وَلِيمَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، السّمن والأقط وَالثَّمَر. وَفِي لفظ: التَّمْر والسويق. قَوْله: (فِي نطع) ، بِكَسْر النُّون وَفتح الطَّاء على الْأَفْصَح، وَقَالَ ابْن التِّين، يُقَال: قطع، بِسُكُون الطَّاء وَفتحهَا: جُلُود تدبغ وَيجمع بَعْضهَا على بعض وتفرش. قَوْله: (آذن من حولك) أَي: أعلمهُ لإشهاد النِّكَاح، وَهُوَ أَمر من: آذن يُؤذن إِيذَانًا، وَالْخطاب لأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَلِيمَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الْوَلِيمَة: هِيَ الطَّعَام الَّذِي يصنع عِنْد الْعرس. قَوْله: (يحوِّي) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو الْمَكْسُورَة، وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر، وَقَول أهل اللُّغَة: وَفِي رِوَايَة أبي الْحُسَيْن: يحوى، بِالتَّخْفِيفِ ثلاثي وَهُوَ أَن يُدِير كسَاء فَوق سَنَام الْبَعِير ثمَّ يركبه، والعباءة، مَمْدُود: ضرب من الأكيسة، وَكَذَلِكَ العباء. قَوْله: (فَيَضَع ركبته) إِلَى آخِره، قَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت تعظم أَن تجْعَل رجلهَا على ركبته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَت تضع ركبتها على ركبته، وَلما أركبها على الْبَعِير وحجبها علم النَّاس أَنَّهَا زَوجته، وَكَانُوا قبل ذَلِك لَا يَدْرُونَ أَنه تزَوجهَا أم اتخذها أم ولد. وَقَالَ الجاحظ فِي (كتاب الموَالِي) ولد صَفِيَّة مائَة نَبِي وَمِائَة ملك ثمَّ صيرها الله تَعَالَى أمة لسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت من سبط هَارُون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ القَاضِي أَبُو عمر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان النوقائي فِي (كتاب المحنة) : إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَرَادَ الْبناء بصفية استأذنته عَائِشَة أَن تكون فِي المتنقبات، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا عَائِشَة إِنَّك لَو رَأَيْتهَا اقشعر جِلْدك من حسنها) فَلَمَّا رأتها حصل لَهَا ذَلِك، وَقيل: حَدِيث اصطفائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصفية يُعَارضهُ حَدِيث أنس أَنَّهَا صَارَت لدحية، فَأَخذهَا مِنْهُ وَأَعْطَاهُ سَبْعَة أرؤس، ويروى أَنه أعطَاهُ بِنْتي عَمها عوضا مِنْهَا، ويروى أَنه قَالَ لَهُ: خُذ رَأْسا آخر مَكَانهَا. وَأجِيب: لَا مُعَارضَة، لِأَن أَخذهَا من دحْيَة قبل الْقسم وَمَا عوضه فِيهَا لَيْسَ على جِهَة البيع، وَلَكِن على جِهَة النَّفْل أَو الْهِبَة، غير أَن بعض رُوَاة الحَدِيث فِي الصَّحِيح يَقُولُونَ فِيهِ: إِنَّه ترى صَفِيَّة من دحْيَة، وَبَعْضهمْ يزِيد فِيهِ بعد الْقسم. وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ، وَفِي (حَوَاشِي السّنَن) : الإِمَام إِذا نفل مَا لم يعلم بمقداره لَهُ استرجاعه والتعويض عَنهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذهُ بِغَيْر عوض، وَإِعْطَاء دحْيَة كَانَ بِرِضَاهُ فَيكون مُعَاوضَة جَارِيَة بِجَارِيَة. فَإِن قلت: الْوَاهِب مَنْهِيّ عَن شِرَاء هِبته. قلت: لم يَهبهُ من مَال نَفسه، وَإِنَّمَا أعطَاهُ من مَال الله، عز وَجل، على جِهَة النّظر كَمَا يُعْطي الإِمَام النَّفْل لأحد من أهل الْجَيْش نظرا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث: أَنه يدل على أَن الِاسْتِبْرَاء أَمَانَة يؤتمن الْمُبْتَاع عَلَيْهَا بِأَن لَا يَطَأهَا حَتَّى تحيض حَيْضَة إِن لم تكن حَامِلا، لِأَن الْحَامِل لَا تُوطأ حَتَّى تضع لِئَلَّا يسْقِي مَاؤُهُ زرع غَيره. وَأجْمع الْفُقَهَاء على أَن حَيْضَة وَاحِدَة بَرَاءَة فِي الرَّحِم إلاَّ أَن مَالِكًا وَاللَّيْث قَالَا: إِن اشْتَرَاهَا فِي أول حَيْضهَا اعْتد بهَا، وَإِن كَانَت فِي آخرهَا لم يعْتد بهَا، وَقَالَ ابْن الْمسيب:(12/53)
حيضتان، وَقَالَ ابْن سِيرِين: ثَلَاث حيض، وَاخْتلف إِذا أَمن فِيهَا الْحمل؟ فَقَالَ مَالك: يستبرىء، وَقَالَ مطرف وَابْن الْمَاجشون: لَا.
وَاخْتلفُوا فِي قبْلَة الْجَارِيَة ومباشرتها قبل الِاسْتِبْرَاء، فَأجَاز ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَوَجهه قطعا للذريعة وحفظا للأنساب. وَحجَّة المجيزين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِض حَتَّى تطهر) . فَيدل هَذَا على أَن مَا دون الْوَطْء من الْمُبَاشرَة والقبلة فِي حيّز الْمُبَاح، وسفره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصفية قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا حجَّة فِي ذَلِك، لكَونه لَو لم يحل لَهُ من مباشرتها مَا دون الْجِمَاع، لم يُسَافر بهَا مَعَه، لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يرفعها أَو يَتْرُكهَا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يمس بِيَدِهِ امْرَأَة لَا تحل لَهُ. وَمن هَذَا اخْتلَافهمْ فِي مُبَاشرَة المظاهرة وقبلتها، فَذهب الزُّهْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: إِلَى أَنه لَا يقبلهَا وَلَا يتلذذ مِنْهَا بِشَيْء. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لَا بَأْس أَن ينَال مِنْهَا مَا دون الْجِمَاع، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَلذَلِك فسر عَطاء وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ قَوْله تَعَالَى: {من قبل أَن يتماسا} (المجادلة: 3 و 4) . أَنه عَنى بالمسيس: الْجِمَاع، فِي هَذِه الْآيَة.
211 - (بابُ بَيْعِ المَيْتَةِ والأصْنَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْرِيم بيع الْميتَة وَتَحْرِيم بيع الْأَصْنَام، وَهُوَ جمع صنم. قَالَ الْجَوْهَرِي: (هوالوثن. وَقَالَ غَيره: الوثن مَا لَهُ جثة والصنم مَا كَانَ مصورا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّنَم مَا اتخذ إِلَهًا من دون الله، وَقيل: الصَّنَم مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة، فَإِن لم يكن لَهُ جسم أَو صُورَة فَهُوَ وثن. وَقَالَ فِي: بَاب الْوَاو بعْدهَا الثَّاء الْمُثَلَّثَة: الْفرق بَين الصَّنَم والوثن أَن الوثن: كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ يعْمل وَينصب فيعبد، والصنم: الصُّورَة بِلَا جثة. وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَأطلقهُمَا على الْمَعْنيين، وَقد يُطلق الوثن على غير الصُّورَة، وَقد يُطلق الوثن على الصَّلِيب. وَالْميتَة، بِفَتْح الْمِيم: هِيَ الَّتِي تَمُوت حتف أنفها من غير ذَكَاة، شَرْعِيَّة، وَالْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْميتَة، وَاسْتثنى مِنْهَا السّمك وَالْجَرَاد.
6322 - حدَّثنا قُتَيبَةُ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يَزيدَ بنِ أبِي حَبِيبٍ عنْ عطَاءِ بنِ أبِي رَباحٍ عنْ جابِر بنِ عَبْد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ عامَ الْفَتْح وهْوَ بِمَكَّةَ إنَّ الله ورسولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ والْمَيْتَةِ والخِنْزيرِ والأصْنامِ فَقِيلَ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فإنَّها يُطْلَى بِهَا السُّفُنْ ويُدْهَنُ بِها الجُلودُ ويَسْتَصْبِحُ بِها النَّاسُ فقالَ لاَ هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ ذَلِكَ قاتَلَ الله اليَهُودَ إنَّ الله لَمَّا حرَّمَ شُحُومَها جَمَلُوهُ ثُمَّ باعُوهُ فأكَلُوا ثَمَنَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة، وَفِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن خَالِد عَن اللَّيْث بِبَعْضِه. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْبيُوع عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن أبي عَاصِم بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جمعيا فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عَطاء) ، هَذَا رِوَايَة مُتَّصِلَة، وَلَكِن نبه البُخَارِيّ فِي الرِّوَايَة الْمُعَلقَة الَّتِي عقيب هَذِه: بِأَن يزِيد بن أبي حبيب لم يسمعهُ من عَطاء، وَإِنَّمَا كتب بِهِ إِلَيْهِ على مَا يَأْتِي، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج بِالْكِتَابَةِ، فَذهب إِلَى صِحَّتهَا أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَمَنْصُور وَاللَّيْث بن سعد وَآخَرُونَ، وَاحْتج بهَا الشَّيْخَانِ، وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقَالَ أَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ، إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة، وَتكلم فِيهَا بَعضهم وَلم يرهَا حجَّة، لِأَن الخطوط تشتبه، وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) . قَوْله: (عَن جَابر) وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن حجاج بن مُحَمَّد عَن اللَّيْث بِسَنَدِهِ: سَمِعت جَابر بن عبد الله بِمَكَّة. قَوْله: (عَام الْفَتْح) ، أَي: فتح مَكَّة. قَوْله: (وَهُوَ بِمَكَّة) ، جملَة حَالية فِيهِ بَيَان تَارِيخ ذَلِك، وَكَانَ ذَلِك فِي رَمَضَان سنة ثَمَان من الْهِجْرَة. قيل: يحْتَمل أَن يكون التَّحْرِيم وَقع قبل ذَلِك ثمَّ أَعَادَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يسمعهُ من لم يكن سَمعه. قَوْله: (إِن الله وَرَسُوله حرم) ، هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول الصَّحِيحَة، حرم، بإفراد الْفِعْل وَلم يقل: حرّما، وَهَكَذَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) و (سنَن) النَّسَائِيّ(12/54)
وَابْن مَاجَه، وَأما أَبُو دَاوُد فَقَالَ: إِن الله حرم، لَيْسَ فِيهِ: وَرَسُوله، وَقد وَقع فِي بعض الْكتب: أَن الله وَرَسُوله حرما، بالتثنية وَهُوَ الْقيَاس، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من طَرِيق اللَّيْث أَيْضا، وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة الأولى، وَوَجهه: أَنه لما كَانَ أَمر الله هُوَ أَمر رَسُوله، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْمر إلاَّ بِمَا أَمر الله بِهِ، كَانَ كَأَن الْأَمر وَاحِد. وَقَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : كَانَ أَصله: حرما، لَكِن تأدب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يجمع بَينه وَبَين اسْم الله تَعَالَى فِي ضمير الْإِثْنَيْنِ، لِأَن هَذَا من نوع مَا رده على الْخَطِيب الَّذِي قَالَ: وَمن يعصهما فقد غوى، فَقَالَ: بئس الْخَطِيب أَنْت. قل: وَمن يعْص الله وَرَسُوله، قَالَ: وَصَارَ هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله برىء من الْمُشْركين وَرَسُوله} (التَّوْبَة: 3) . فِيمَن قَرَأَ بِنصب: رَسُوله، غير أَن الحَدِيث فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير لِأَنَّهُ كَانَ حَقه أَن يقدم: حرم، على: رَسُوله، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَة. وَقَالَ شَيخنَا: قد ثَبت فِي (الصَّحِيح) تَثْنِيَة الضَّمِير فِي غير حَدِيث، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله وَرَسُوله ينهيانكم عَن لُحُوم الْحمر، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَأمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا طَلْحَة فَنَادَى إِن الله وَرَسُوله ينهيانكم عَن لُحُوم الْحمر، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: إِن الله، عز وَجل، وَرَسُوله يَنْهَاكُم، بِالْإِفْرَادِ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا تشهد قَالَ: الْحَمد نستعينه، وَفِيه: من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا نَفسه. قَوْله: (فَقيل: يَا رَسُول الله!) ، وَفِي رِوَايَة عبد الحميد الْآتِيَة: فَقَالَ رجل. قَوْله: (أَرَأَيْت؟) أَي: أَخْبرنِي عَن شحوم الْميتَة إِلَى قَوْله: (النَّاس) ، أَي: أَخْبرنِي: هَل يحل بيعهَا؟ لِأَن فِيهَا مَنَافِع مقتضية لصِحَّة البيع. قَوْله: (فَقَالَ: لَا) ، أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَبِيعُوهَا (هُوَ حرَام) أَي: بيعهَا حرَام، هَكَذَا فسر بعض الْعلمَاء مِنْهُم الشَّافِعِي، وَمِنْهُم من قَالَ: يحرم الِانْتِفَاع بهَا، فَلَا يجوز الِانْتِفَاع من الْميتَة أصلا عِنْدهم إلاَّ مَا خص بِالدَّلِيلِ: كالجلد إِذا دبغ، وَسُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذَا الحَدِيث عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: عَن طلي السفن، وَالثَّانِي: عَن دهن الْجُلُود، وَالثَّالِث: عَن الاستصباح، كل ذَلِك بشحوم الْميتَة، وَكَانَ سُؤَالهمْ عَن بيع ذَلِك ظنا مِنْهُم أَن ذَلِك جَائِز لما فِيهِ من الْمَنَافِع، كَمَا جَازَ بيع الْحمر الْأَهْلِيَّة لما فِيهِ من الْمَنَافِع، وَإِن حرم أكلهَا، فظنوا أَن شحوم الْميتَة مثل ذَلِك يحل بيعهَا وشراؤها وَإِن حرم أكلهَا، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ذَلِك لَيْسَ كَالَّذي ظنُّوا، وَأَن بيعهَا حرَام وَثمنهَا حرَام إِذْ كَانَت نَجِسَة، نَظِيره الدَّم وَالْخمر مِمَّا يحرم بيعهَا، وَأكل ثمنهَا، وَأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بهَا فَهُوَ بِخِلَاف بيعهَا وَأكل ثمنهَا إِذا كَانَ مَا يدهن بهَا من ذَلِك يغسل بِالْمَاءِ غسل الشَّيْء الَّذِي أَصَابَته النَّجَاسَة فيطهره المَاء، هَذَا قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَجَمَاعَة من الْعلمَاء.
وَمِمَّنْ أجَاز الاستصباح مِمَّا يَقع فِيهِ الْفَأْرَة: عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَالْإِجْمَاع قَائِم على أَنه: لَا يجوز بيع الْميتَة والأصنام لِأَنَّهُ لَا يحل الِانْتِفَاع بهَا وَوضع الثّمن فِيهَا إِضَاعَة مَال، وَقد نهى الشَّارِع عَن إضاعته. قلت: على هَذَا التَّعْلِيل إِذا كسرت الْأَصْنَام وَأمكن الِانْتِفَاع برضاضها جَازَ بيعهَا عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الصلبان على هَذَا التَّفْصِيل. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فَإِذا أَجمعُوا على تَحْرِيم بيع الْميتَة فَبيع جيفة الْكَافِر من أهل الْحَرْب كَذَلِك. وَقَالَ شَيخنَا: اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ على أَنه لَا يجوز بيع ميتَة الْآدَمِيّ مُطلقًا، سَوَاء فِيهِ الْمُسلم وَالْكَافِر، أما الْمُسلم فلشرفه وفضله، حَتَّى إِنَّه لَا يجوز الِانْتِفَاع بِشَيْء من شعره وَجلده وَجَمِيع أَجْزَائِهِ، وَأما الْكَافِر فَلِأَن نَوْفَل بن عبد الله بن الْمُغيرَة لما اقتحم الخَنْدَق وَقتل، غلب الْمُسلمُونَ على جسده، فَأَرَادَ الْمُشْركُونَ أَن يشتروه مِنْهُم، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا حَاجَة لنا بجسده وَلَا بِثمنِهِ فخلى بَينهم وَبَينه، ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره من أهل السّير، قَالَ ابْن هِشَام: أعْطوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بجسده عشرَة آلَاف دِرْهَم، فِيمَا بَلغنِي عَن الزُّهْرِيّ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْمُشْركين أَرَادوا أَن يشتروا جَسَد رجل من الْمُشْركين فَأبى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبيعهم.
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على نَجَاسَة ميتَة الْآدَمِيّ إِذْ هُوَ محرم الْأكل وَلَا ينْتَفع بِهِ. قلت: عُمُوم الحَدِيث مَخْصُوص بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تنجسوا مَوْتَاكُم، فَإِن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف فِي جَوَاز بيع كل محرم نجس فِيهِ مَنْفَعَة: كالزبل والعذرة فَمنع من ذَلِك الشَّافِعِي وَمَالك، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ والطبري. وَذهب آخَرُونَ إِلَى إجَازَة ذَلِك من المُشْتَرِي دون البَائِع، وَرَأَوا أَن المُشْتَرِي أعذر من البَائِع لِأَنَّهُ مُضْطَر(12/55)
إِلَى ذَلِك، رُوِيَ ذَلِك عَن بعض الشَّافِعِيَّة. وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ أَيْضا من ذهب إِلَى نَجَاسَة سَائِر أَجزَاء الْميتَة من اللَّحْم وَالشعر وَالظفر وَالْجَلد وَالسّن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد، وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى أَن مَا لَا تحله الْحَيَاة لَا ينجس بِالْمَوْتِ: كالشعر وَالظفر والقرن والحافر والعظم، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ مشط من عاج، وَهُوَ عظم الْفِيل، وَهُوَ غير مَأْكُول فَدلَّ على طَهَارَة عظمه وَمَا أشبهه. وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بالعاج عظم السّمك وَهُوَ الذيل. قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: العاج من عظم الْفِيل، وَكَذَا قَالَه فِي (الْعباب) وَفِي (الْمُحكم) : العاج أَنْيَاب الْفِيل، وَلَا يُسمى غير الناب عاجا، وَقَالَ الْخطابِيّ: العاج الذبل، وَهُوَ خطأ، وَفِي (الْعباب) : الذيل ظهر السلحفاة البحرية تتَّخذ مِنْهَا السوار والخاتم وَغَيرهمَا. وَقَالَ جرير:
(ترى العبس الحولي جونا بُلُوغهَا ... لَهَا مسكا من غير عاج وَلَا ذبل)
فَهَذَا يدل على أَن العاج غير الذبل، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِنَّمَا حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْميتَة لَحمهَا، فَأَما الْجلد وَالشعر وَالصُّوف فَلَا بَأْس بِهِ. وروى أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا بَأْس بمَسك الْميتَة إِذا دبغ، وَلَا بَأْس بصوفها وشعرها وقرونها إِذا غسل بِالْمَاءِ. فَإِن قلت: الحديثان كِلَاهُمَا ضعيفان لِأَن فِي إِسْنَاد الأول: عبد الْجَبَّار بن مُسلم، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ ضَعِيف، وَفِي إِسْنَاد الثَّانِي: يُوسُف بن أبي السّفر، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. قلت: ابْن حبَان ذكر عبد الْجَبَّار فِي الثِّقَات، وَأما يُوسُف فَإِنَّهُ لَا يُؤثر فِيهِ الضعْف إلاَّ بعد بَيَان جِهَته، وَالْجرْح الْمُبْهم غير مَقْبُول عِنْد الحذاق من الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ كَانَ كَاتب الْأَوْزَاعِيّ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك) ، أَي: عِنْد قَوْله: هُوَ حرَام. قَوْله: (قَاتل الله الْيَهُود) أَي: لعنهم. قَوْله: (جملوه) ، بِالْجِيم أَي: أذابوه من جملَة الشَّحْم أجمله جملا وإجمالاً: إِذا أذبته واستخرجت دهنه، و: جملت، أفْصح من: أجملت، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد بقوله: هُوَ حرَام، أَي: البيع لَا الِانْتِفَاع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الضَّمِير فِي: باعوه رَاجع إِلَى الشحوم بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، أَو إِلَى الشَّحْم الَّذِي فِي ضمن الشحوم. قلت: الأول لَهُ وَجه، وَالثَّانِي لَا وَجه لَهُ، على مَا لَا يخفى.
قَالَ أبُو عاصِمٍ حَدثنَا عَبْدُ الحَمِيدِ قَالَ حَدثنَا يَزيدُ قَالَ كتَبَ إلَيَّ عطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جابِرا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو عَاصِم هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد الشَّيْبَانِيّ، أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، وَعبد الحميد بن جَعْفَر بن عبد الله بن أبي الحكم بن سِنَان حَلِيف الْأَنْصَار، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، حدث هُوَ وَابْنه سعد وَأَبوهُ جَعْفَر وجده أَبُو الحكم رَافع، وَله صُحْبَة، وَابْن عَمه عمر بن الحكم بن رَافع بن سِنَان، وَهُوَ من ولد القطيون من ولد محرق بن عَمْرو ومزيقيا، وَقيل: القطيون من الْيَهُود وَلَيْسَ من ولد محرق، وَرَافِع بن سِنَان لَهُ حَدِيث فِي (سنَن أبي دَاوُد) من رِوَايَة ابْنه فِي تَخْيِير الصَّبِي بَين أَبَوَيْهِ، وَيزِيد هُوَ ابْن أبي حبيب الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن عبد الحميد بن جَعْفَر أَخْبرنِي يزِيد بن أبي حبيب ... الحَدِيث.
311 - (بابُ ثَمَنِ الكَلْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم ثمن الْكَلْب.
7322 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مَالك عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهىَ عنْ ثَمَنِ الكَلْبِ ومَهْرِ الْبَغِيِّ وحُلْوانِ الْكَاهِنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نهى عَن ثمن الْكَلْب) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام رَاهِب قُرَيْش، مر فِي الصَّلَاة، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عمر الْأنْصَارِيّ، مر فِي آخر كتاب الْإِيمَان، وَعقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف.(12/56)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِجَارَة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَفِي الطَّلَاق عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الطِّبّ عَن عبد الله بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث وَعَن أبي بكر عَن سُفْيَان، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ وَفِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث بِهِ وَعَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّيْد عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.
وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعبد الله بن جَعْفَر، وَأخرج هُوَ أَيْضا حَدِيث رَافع بن خديج من حَدِيث السَّائِب بن يزِيد عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (كسب الْحجام خَبِيث وَمهر النغي خَبِيث وَثمن الْكَلْب خَبِيث) . وَأخرجه أَيْضا مُسلم وَالْأَرْبَعَة.
أما حَدِيث عمر فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث السَّائِب بن يزِيد عَن عمر بن الْخطاب: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثمن الْقَيْنَة سحت وَغِنَاهَا حرَام وَالنَّظَر إِلَيْهَا حرَام وَثمنهَا مثل ثمن الْكَلْب وَثمن الْكَلْب سحت وَمن نبت لَحْمه على السُّحت فَالنَّار أولى بِهِ. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَأجر الْبَغي وَكسب الْحجام والضب والضبع، وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود ...
وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ مُسلم من رِوَايَة أبي الزبير، قَالَ: سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور؟ فَقَالَ: زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي حَازِم عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب وعسب الْفَحْل، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: وعسب التيس، وَأخرجه الْحَاكِم، وَلَفظه: لَا يحل مهر الزَّانِيَة وَلَا ثمن الْكَلْب، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَليّ بن رَبَاح أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يحل ثمن الْكَلْب وَلَا حلوان الكاهن وَلَا مهر الْبَغي. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة قيس بن جُبَير عَن عبد الله بن عَبَّاس، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَإِن جَاءَ يطْلب ثمن الْكَلْب فاملأ كَفه تُرَابا، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عَطاء بن أبي رَبَاح عَنهُ. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) فَقَالَ: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ الْمعَافى عَن ابْن عمرَان الْحِمصِي عَن ابْن لَهِيعَة عَن عبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَإِن كَانَ ضاريا؟ قَالَ أبي: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَأما حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة يحيى بن الْعَلَاء عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن عبد الله بن جَعْفَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب وَكسب الْحجام، أوردهُ فِي تَرْجَمَة يحيى بن الْعَلَاء وَضَعفه.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي جُحَيْفَة وَعبد الله بن عَمْرو وَأنس بن مَالك والسائب بن يزِيد ومَيْمُونَة بنت سعد. وَأما حَدِيث أبي جُحَيْفَة فَأخْرجهُ البُخَارِيّ وَقد مر. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن عبد الله ابْن عَمْرو، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَمهر الْبَغي وَأجر الكاهن وَكسب الْحجام. وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ: ثمن الْكَلْب كلهَا سحت. وَأما حَدِيث السَّائِب بن يزِيد فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الله، قَالَ: سَمِعت السَّائِب بن يزِيد يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السُّحت ثَلَاثَة: مهر الْبَغي وَكسب الْحجام وَثمن الْكَلْب) . وَأما حَدِيث مَيْمُونَة بنت سعد فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبد الحميد بن يزِيد عَن أُميَّة بنت عمر بن عبد الْعَزِيز عَن مَيْمُونَة بنت سعد أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله أَفْتِنَا عَن الْكَلْب؟ فَقَالَ: (الْكَلْب طعمة جَاهِلِيَّة، وَقد أغْنى الله عَنْهَا) . قَالَ شَيخنَا: وَلَيْسَ المُرَاد من هَذَا الحَدِيث أكل الْكَلْب(12/57)
وَإِنَّمَا المُرَاد أكل ثمنه، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث جَابر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه نهى عَن ثمن الْكَلْب وَقَالَ: طعمة جَاهِلِيَّة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نهى عَن ثمن الْكَلْب) وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يتَنَاوَل جَمِيع أَنْوَاع الْكلاب، وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَمهر الْبَغي) وَفِي حَدِيث عَليّ: وَأجر الْبَغي، وَجَاء: وَكسب الْأمة هُوَ مهر الْبَغي لَا الْكسْب الَّذِي تكتسبه بالصنعة وَالْعَمَل، وَإِطْلَاق الْمهْر فِيهِ مجَاز، وَالْمرَاد مَا تَأْخُذهُ على زنَاهَا، وَالْبَغي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: نقل عَن أبي الْحسن أَنه قَالَ بِإِسْكَان الْغَيْن وَتَخْفِيف الْيَاء، وَهُوَ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ الْبغاء بِكَسْر الْبَاء ممدودا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} (النُّور: 33) . يُقَال: بَغت الْمَرْأَة تبغي بغاء، وَالْبَغي يَجِيء بِمَعْنى الطّلب، يُقَال: أبغني، أَي: اطلب لي، قَالَ الله تَعَالَى: {يبغونكم الْفِتْنَة} (التَّوْبَة: 74) . قَالَ الْخطابِيّ: وَأكْثر مَا يَأْتِي ذَلِك فِي الشَّرّ، وَمِنْه الفئة الباغية من الْبَغي وَهُوَ الظُّلم وَأَصله الْحَسَد، وَالْبَغي الْفساد أَيْضا والاستطالة وَالْكبر، وَالْبَغي فِي الحَدِيث: الْفَاجِرَة، وَأَصله بغوي على وزن: فعول، بِمَعْنى فاعلة، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: بغي، بِضَم الْغَيْن، فأبدلت الضمة كسرة لأجل الْيَاء، وَهُوَ صفة لمؤنث، فَلذَلِك جَاءَ بِغَيْر هَاء كَمَا يَجِيء إِذا كَانَت بِمَعْنى مفعول نَحْو: ركُوب وحلوب وَلَا يجوز أَن يكون بغي هُنَا على وزن: فعيل، إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك للزمته الْهَاء كامرأة حليمة وكريمة، وَيجمع الْبَغي على: بَغَايَا. قَوْله: (وحلوان الكاهن) ، الحلوان، بِضَم الْحَاء: الرِّشْوَة، وَهُوَ مَا يعْطى الكاهن وَيجْعَل لَهُ على كهانته، تَقول مِنْهُ: حلوت الرجل حلوانا إِذا حبوته بِشَيْء، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: قَالَ بَعضهم: أَصله من الْحَلَاوَة، شبه بالشَّيْء الحلو، يُقَال: حلوته إِذا أطعمته الحلو كَمَا يُقَال عسلته اذا اطعمته الْعَسَل. وَقَالَ أَبُو عبيد: والحلوان أَيْضا فِي غير هَذَا أَن يَأْخُذ الرجل من مهر ابْنَته لنَفسِهِ، وَهُوَ عيب عِنْد النِّسَاء، وَقَالَت امْرَأَة تمدح زَوجهَا:
لَا تَأْخُذ الحلوان من بناتها
وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لِابْنِ زرقون: وأصل الحلوان فِي اللُّغَة الْعَطِيَّة، قَالَ الشَّاعِر:
(فَمن رجل أحلوه رحلي وناقتييبلِّغ عني الشّعْر إِذْ مَاتَ قَائِله)
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: حلوت فلَانا على كَذَا مَالا وَأَنا أحلوه حلوا وحلوانا: إِذا وهبت لَهُ شَيْئا على شَيْء يَفْعَله لَك غير الْأُجْرَة، والحلوان أَيْضا أَن يَأْخُذ الرجل من مهر ابْنَته لنَفسِهِ شَيْئا كَمَا ذكرنَا. والكاهن الَّذِي يخبر بِالْغَيْبِ الْمُسْتَقْبل، والعراف الَّذِي يخبر بِمَا أُخْفِي، وَقد حصل فِي الْوُجُود، وَيجمع الكاهن على: كهنة وكهان، يُقَال: كهن يكهن كهَانَة، مثل: كتب يكْتب كِتَابَة، إِذا تكهن فَإِذا أردْت أَنه صَار كَاهِنًا قلت: كهن بِالضَّمِّ كهَانَة، بِالْفَتْح. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الكاهن الَّذِي يتعاطى الْخَبَر عَن الكائنات فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان، ويدَّعي معرفَة الْأَسْرَار، وَقد كَانَ فِي الْعَرَب كهنة: كشق وسطيح وَغَيرهمَا، فَمنهمْ من كَانَ يزْعم أَن لَهُ تَابعا من الْجِنّ ورئيا يلقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَار، وَمِنْهُم من كَانَ يزْعم أَنه يعرف الْأُمُور بمقدمات أَسبَاب يسْتَدلّ بهَا على مواقعها من كَلَام من يسْأَله أَو فعله أَو حَاله، وَهَذَا يخصونه باسم العراف، كَالَّذي يدعى معرفَة الشَّيْء الْمَسْرُوق وَمَكَان الضَّالة وَنَحْوهمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ ثَلَاثَة أَحْكَام:
الأول: ثمن الْكَلْب، احْتج بِهِ جمَاعَة على أَنه لَا يجوز بيع الْكَلْب مُطلقًا، الْمعلم وَغَيره، وَمِمَّا يجوز اقتناؤه أَو لَا يجوز، وَأَنه لَا ثمن لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن وَمُحَمّد بن سيريين وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالْحكم وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَأهل الظَّاهِر، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك، وَقَالَ ابْن قدامَة: لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي أَن بيع الْكَلْب بَاطِل على كل حَال. وَكره أَبُو هُرَيْرَة ثمن الْكَلْب، وَرخّص فِي ثمن كلب الصَّيْد خَاصَّة جَابر، وَبِه قَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ.
وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك، فَمنهمْ من قَالَ: لَا يجوز، وَمِنْهُم من قَالَ: الْكَلْب الْمَأْذُون فِي إِمْسَاكه يكره بَيْعه وَيصِح، وَلَا تجوز إِجَارَته، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَهَذَا قَول بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَقَالَ بَعضهم: يجوز، وَقَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : أكره ثمن الْكَلْب الضاري وَغير الضاري لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب، وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لِابْنِ زرقون: وَاخْتلف قَول مَالك فِي ثمن الْكَلْب الْمُبَاح اتِّخَاذه، فَأَجَازَهُ مرّة وَمنعه أُخْرَى، وبإجازته قَالَ(12/58)
ابْن كنَانَة وَأَبُو حنيفَة، وَقَالَ سَحْنُون: ويحج بِثمنِهِ، وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم أَنه كره بَيْعه، وَفِي (المزينة) كَانَ مَالك يَأْمر بِبيع الْكَلْب الضاري فِي الْمِيرَاث وَالدّين والمغارم، وَيكرهُ بَيْعه ابْتِدَاء، قَالَ يحيى بن إِبْرَاهِيم: قَوْله: فِي الْمِيرَاث، يَعْنِي: للْيَتِيم، وَأما لأهل الْمِيرَاث الْبَالِغين فَلَا يُبَاع إلاَّ فِي الدّين والمغارم، وَقَالَ أَشهب فِي (ديوانه) عَن مَالك: يفْسخ بيع الْكَلْب إلاَّ أَن يطول. وَحكى ابْن عبد الحكم: أَنه يفْسخ وَإِن طَال. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا يحل بيع كلب أصلا لَا كلب صيد وَلَا كلب مَاشِيَة وَلَا غَيرهمَا، فَإِن اضْطر إِلَيْهِ وَلم يجد من يُعْطِيهِ إِيَّاه فَلهُ ابتياعه، وَهُوَ حَلَال للْمُشْتَرِي حرَام على البَائِع، ينتزع مِنْهُ الثّمن مَتى قدر عَلَيْهِ كالرشوة فِي دفع الظُّلم وَفِدَاء الْأَسير ومصانعة الظَّالِم وَلَا فرق.
ثمَّ إِن الشَّافِعِيَّة قَالُوا: من قتل كلب صيد أَو زرع وماشية لَا يلْزمه قِيمَته. قَالَ الشَّافِعِي: مَا لَا ثمن لَهُ لَا قيمَة لَهُ إِذا قتل، وَبِه قَالَ أَحْمد وَمن نحى إِلَى مَذْهَبهمَا، وَعَن مَالك رِوَايَتَانِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب بالأحاديث الَّتِي فِيهَا منع بيع الْكَلْب وَحُرْمَة ثمنه. وَخَالفهُم فِي ذَلِك جمَاعَة، وهم: عَطاء ابْن أبي رَبَاح، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن كنَانَة وَسَحْنُون من الْمَالِكِيَّة، وَمَالك فِي رِوَايَة، فَقَالُوا: الْكلاب الَّتِي ينْتَفع بهَا يجوز بيعهَا وَيُبَاح أثمانها، وَعَن أبي حنيفَة: أَن الْكَلْب الْعَقُور لَا يجوز بَيْعه وَلَا يُبَاح ثمنه. وَفِي (الْبَدَائِع) : وَأما بيع ذِي نَاب من السبَاع سوى الْخِنْزِير كَالْكَلْبِ والفهد والأسد والنمر وَالذِّئْب والهر وَنَحْوهَا فَجَائِز عِنْد أَصْحَابنَا، ثمَّ عندنَا لَا فرق بَين الْمعلم وَغير الْمعلم فِي رِوَايَة الأَصْل: فَيجوز بَيْعه كَيفَ مَا كَانَ، وروى عَن أبي يُوسُف أَنه: لَا يجوز بيع الْكَلْب الْعَقُور، كَمَا روى عَن أبي حنيفَة فِيهِ، ثمَّ على أصلهم يجب قِيمَته على قَاتله، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان ابْن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أغرم رجلا ثمن كلب قَتله عشْرين بَعِيرًا، وَبِمَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش.
وَقَالَ المخالفون لَهُم: أثر عُثْمَان مُنْقَطع وَضَعِيف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ خطب فَأمر بقتل الْكلاب. قَالَ الشَّافِعِي: فَكيف يَأْمر بقتل مَا يغرم من قَتله قِيمَته؟ وَأثر عبد الله بن عَمْرو لَهُ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا مُنْقَطع، وَالْآخر فِيهِ من لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَا يُتَابع عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ، وَقد روى عبد الله بن عَمْرو النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب، فَلَو ثَبت عَنهُ الْقَضَاء بِقِيمَتِه لكَانَتْ الْعبْرَة بروايته لَا بِقَضَائِهِ على الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ. انْتهى. قلت: الْجَواب عَن هَذَا كُله: أما قَول الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ حكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: أَخْبرنِي الثِّقَة عَن يُونُس عَن الْحسن: سَمِعت عُثْمَان يخْطب وَهُوَ يَأْمر بقتل الْكلاب، فَلَا يُكتفى بقوله: أَخْبرنِي الثِّقَة، فقد يكون مجروحا عِنْد غَيره، لَا سِيمَا وَالشَّافِعِيّ كثيرا مَا يَعْنِي بذلك ابْن أبي يحيى أَو الزنْجِي، وهما ضعيفان. وَكَيف يَأْمر عُثْمَان بقتل الْكلاب وَآخر الْأَمريْنِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن قَتلهَا إلاَّ الْأسود مِنْهَا؟ فَإِن صَحَّ أمره بقتلها فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي وَقت لمفسدة طرأت فِي زَمَانه. قَالَ صَاحب (التَّمْهِيد) : ظهر بِالْمَدِينَةِ اللّعب بالحمام والمهارشة بَين الْكلاب، فَأمر عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بقتل الْكلاب وَذبح الْحمام. قَالَ الْحسن: سَمِعت عُثْمَان غير مرّة يَقُول فِي خطبَته: اقْتُلُوا الْكلاب واذبحوا الْحمام، فَظهر من هَذَا أَنه لَا يلْزم من الْأَمر بقتلها فِي وَقت لمصْلحَة أَن لَا يضمن قاتلها فِي وَقت آخر، كَمَا أَمر بِذبح الْحمام، وَأما قَول الْبَيْهَقِيّ: أثر عُثْمَان مُنْقَطع، وَقد رُوِيَ من وَجه آخر مُنْقَطع عَن يحيى الْأنْصَارِيّ عَن عُثْمَان، فَنَقُول: مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُرْسل إِذا رُوِيَ مُرْسلا من وَجه آخر صَار حجَّة وتأيد أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بعدُ عَن عبد الله بن عَمْرو، وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا أَيْضا. وَأما قَوْله: وَالْآخر فِيهِ من لَيْسَ بِمَعْرُوف فَلَا يُتَابع عَلَيْهِ كَمَا قَالَه البُخَارِيّ فَهُوَ إِسْمَاعِيل بن خشَاش الرَّاوِي عَن عبد الله بن عمر، وَقد ذكر ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) : وَكَيف يَقُول: البُخَارِيّ لم يُتَابع عَلَيْهِ؟ وَقد أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِيمَا بعد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عَمْرو، وَذكر ابْن عدي فِي (الْكَامِل) كَلَام البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: لم أجد لما قَالَه البُخَارِيّ فِيهِ أثرا فأذكره، وَأما قَوْله: فَالْعِبْرَة لروايته لَا بِقَضَائِهِ، غير مُسلم، لِأَن هَذَا الَّذِي قَالَه يُؤَدِّي إِلَى مُخَالفَة الصَّحَابِيّ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا روى عَنهُ، وَلَا نظن ذَلِك فِي حق الصَّحَابِيّ، بل الْعبْرَة لقضائه، لِأَنَّهُ لم يقْض بِخِلَاف مَا رَوَاهُ إلاَّ بعد أَن ثَبت عِنْده انتساخ مَا رَوَاهُ.
وَهَكَذَا أجَاب الطَّحَاوِيّ عَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب وَأَنه سحت، فَقَالَ: إِن هَذَا إِنَّمَا كَانَ حِين كَانَ حكم الْكلاب أَن تقتل وَلَا يحل إمْسَاك شَيْء مِنْهَا وَلَا الِانْتِفَاع بهَا، وَلَا شكّ أَن(12/59)
مَا حرم الِانْتِفَاع بِهِ كَانَ ثمنه حَرَامًا، فَلَمَّا أَبَاحَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الِانْتِفَاع بهَا للاصطياد وَنَحْوه مَا نهى عَن قَتلهَا نسخ مَا كَانَ من النَّهْي عَن بيعهَا وَتَنَاول ثمنهَا. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا النّسخ؟ قلت: وَجهه ظَاهر، وَهُوَ أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، فَلَمَّا ورد النَّهْي عَن اتِّخَاذ الْكلاب وَورد الْأَمر بقتلها علمنَا أَن اتخاذها حرَام، وَأَن بيعهَا حرَام أَيْضا، لِأَن مَا كَانَ انتفاعه حَرَامًا قِيمَته حرَام كالخنزير وَنَحْوه، ثمَّ لما وَردت الْإِبَاحَة بِالِانْتِفَاعِ بهَا للاصطياد وَنَحْوه، وَورد النَّهْي عَن قَتلهَا، علمنَا أَن مَا كَانَ قبل ذَلِك من الْحكمَيْنِ الْمَذْكُورين قدانتسخ بِمَا ورد بعده، وَلَا شكّ أَن الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم نسخ لذَلِك التَّحْرِيم وَرفع لحكمه، وَسَيَأْتِي زِيَادَة بَيَان فِي الْمُزَارعَة وَغَيرهَا.
فَإِن قلت: مَا حكم السنور؟ قلت: روى الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سُفْيَان عَن جَابر: قَالَ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب والسنور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث فِي إِسْنَاده اضْطِرَاب، ثمَّ روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أكل الهر وثمنه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. وروى مُسلم من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور؟ فَقَالَ: زجر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ذَلِك. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَفظه: نهى عَن الْكَلْب والسنور، إلاَّ كلب صيد. وَقَالَ النَّسَائِيّ بعد تَخْرِيجه: هَذَا حَدِيث مُنكر.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز بيع الهر، فَذهب قوم إِلَى جَوَاز بَيْعه وَحل ثمنه، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْحكم وَحَمَّاد وَمَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن ابْن عَبَّاس أَنه رخص فِي بَيْعه. قَالَ وكرهت طَائِفَة بَيْعه، روينَا ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُجاهد، وَبِه قَالَ جَابر بن زيد، وَأجَاب الْقَائِلُونَ بِجَوَاز بَيْعه عَن الحَدِيث بأجوبه: أَحدهَا: أَن الحَدِيث ضَعِيف وَهُوَ مَرْدُود. وَالثَّانِي: حمل الحَدِيث على الهر إِذا توحش فَلم يقدر على تَسْلِيمه، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) عَن بعض أهل الْعلم. وَالثَّالِث: مَا حَكَاهُ البييهقي عَن بَعضهم أَنه: كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ، ثمَّ لما حكم بِطَهَارَة سؤره حل ثمنه. وَالرَّابِع: أَن النَّهْي مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم، وَلَفظ مُسلم: زجر، يشْعر بتَخْفِيف النَّهْي، فَلَيْسَ على التَّحْرِيم بل على التَّنْزِيه، وَعكس ابْن حزم هَذَا، فَقَالَ: الزّجر أَشد النَّهْي وَفِي كل مِنْهُمَا نظر لَا يخفى. وَالْخَامِس: مَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه يُعَارضهُ مَا روى أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس عَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه أَبَاحَ ثمن الهر، ثمَّ رده بِكَلَام طَوِيل. وَالسَّادِس: مَا حَكَاهُ أَيْضا ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه: لما صَحَّ الْإِجْمَاع على وجوب الهر وَالْكَلب الْمُبَاح اتِّخَاذه فِي الْمِيرَاث وَالْوَصِيَّة وَالْملك جَازَ بيعيهما، ثمَّ رده أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْجَوَاب الْمُعْتَمد أَنه مَحْمُول على مَا لَا نفع فِيهِ، أَو: على أَنه نهي تَنْزِيه حَتَّى يعْتَاد النَّاس هِبته وإعارته.
وَالْحكم الثَّانِي: مهر الْبَغي: وَهُوَ مَا يعْطى على النِّكَاح الْمحرم فَإِذا كَانَ محرما وَلم يستبح بِعقد صَارَت الْمُعَاوضَة عَلَيْهِ لَا تحل، لِأَنَّهُ ثمن عَن محرم، وَقد حرم الله الزِّنَا، وَهَذَا مجمع على تَحْرِيمه لَا خلاف فِيهِ بن الْمُسلمين.
وَالْحكم الثَّالِث: حلوان الكاهن: وَهُوَ حرَام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن إتْيَان الْكُهَّان، مَعَ أَن مَا يأْتونَ بِهِ بَاطِل وحله كذب، قَالَ تَعَالَى: {تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السّمع وَأَكْثَرهم كاذبون} (الشُّعَرَاء: 222) . وَأخذ الْعِوَض على مثل هَذَا، وَلَو لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ من أكل المَال بِالْبَاطِلِ، وَلِأَن الكاهن يَقُول مَا لَا ينْتَفع بِهِ، ويعان بِمَا يعطاه على مَا لَا يحل.
8322 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَوْنُ بنُ أبِي جُحَيْفَةَ قَالَ رأيتُ أبي اشْتَرَى حَجَّاما فأمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِّرَتْ فسَألْتُهُ عنْ ذَلِكَ فقالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ ثَمَنِ الدَّمِ وثَمَنِ الْكَلْبِ وكسْبِ الأمَةِ ولَعَنَ الوَاشِمَةَ والْمُسْتَوْشِمةَ وآكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ ولَعَنَ المُصَوِّرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثمن الْكَلْب، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب مُوكل الرِّبَا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة، وَهنا: عَن حجاج بن منهال السّلمِيّ مَوْلَاهُم الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، نَحوه، غير أَن فِيهِ: عَن ثمن الْكَلْب وَثمن الدَّم، وَفِيه أَيْضا: اشْترى عبدا حجاما، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
بِسم الله الرَّحِيم(12/60)
53 - (كتابُ السَّلَمِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام السّلم، وَالسّلم، بِفتْحَتَيْنِ: بيع على مَوْصُوف فِي الذِّمَّة بِبَدَل يعْطى عَاجلا، وَسمي سلما لتسليم رَأس المَال فِي الْمجْلس، وسلفا لتقديم رَأس المَال، وَالسّلم وَالسَّلَف كِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَوزن وَاحِد، وَقيل: السّلف لُغَة أهل الْعرَاق، وَالسّلم لُغَة: أهل الْحجاز، وَقيل: السّلف بِتَقْدِيم رَأس المَال وَالسّلم تَسْلِيمه فِي الْمجْلس فالسلف أَعم، وقييل: السّلم وَالسَّلَف والتسليف عبارَة عَن معنى وَاحِد غير أَن الِاسْم الْخَاص بِهَذَا الْبَاب السّلم لِأَن السّلف يُقَال على الْقَرْض وَالسّلم فِي الشَّرْع بيع من الْبيُوع الْجَائِزَة بالِاتِّفَاقِ، وَاتفقَ الْعلمَاء على مشروعيته إلاَّ مَا حكى عَن ابْن الْمسيب. وَفِي (التَّلْوِيح) : وكرهت طَائِفَة السّلم روى عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود أَنه كَانَ يكره السّلم.
1 - (بابُ السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السّلم فِي كيل مَعْلُوم فِيمَا يُكَال، كَذَا وَقع هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَوَقعت الْبَسْمَلَة عِنْده مُقَدّمَة، وَوَقعت فِي رِوَايَة الْكشميهني بَين الْكتاب وَالْبَاب، وَلم يَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لفظ: كتاب السّلم، وَإِنَّمَا وَقع عِنْده لفظ الْبَاب، وَوَقعت الْبَسْمَلَة بعده.
9322 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ زُرَارَةَ قَالَ أخبرنَا إسْماعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ قَالَ أخبرنَا أبي ابنُ نَجِيحٍ عنْ عبْدِ الله بنِ كَثِيرٍ عنْ أبِي المِنْهَالِ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ والنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ العامَ والعامَينِ أَو قَالَ عامَيْنِ أوْ ثلاثَةً شَكَّ إسْمَاعِيلُ فَقَالَ منْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوزْنٍ مَعْلُومٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن زُرَارَة، بِضَم الزَّاي وَتَخْفِيف الراءين بَينهمَا ألف وَفِي آخِره هَاء: ابْن وَاقد، أَبُو مُحَمَّد، مر فِي ستْرَة الصَّلَاة. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين وَفتح اللَّام الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن سهم الْأَسدي، وَعَلِيهِ اسْم أمه مولاة لبني أَسد. الثَّالِث: عبد الله بن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: واسْمه يسَار، ضد الْيَمين. الرَّابِع: عبد الله بن كثير ضد قَلِيل المقريء، أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَبِه جزم الْقَابِسِيّ وَعبد الْغَنِيّ والمزي، وَقَالَ الكلاباذي وَابْن طَاهِر الدمياطي: هُوَ عبد الله بن كثير بن الْمطلب ابْن أبي ودَاعَة السَّهْمِي، كِلَاهُمَا ثِقَة. الْخَامِس: أَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: عبد الرَّحْمَن بن مطعم الْكُوفِي، وَلَا يشْتَبه عَلَيْك بِأبي الْمنْهَال سيار الْبَصْرِيّ. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه نيسابوري وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وَأَن إِسْمَاعِيل بَصرِي وَابْن أبي نجيح وَعبد الله بن كثير، سَوَاء كَانَ هُوَ المقرىء أَو ابْن الْمطلب، مكيون، وَعبد الله بن كثير بن الْمطلب لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَذكر لَهُ مُسلم حَدِيثا آخر فِي الْجَنَائِز رَوَاهُ عَنهُ ابْن جريج، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لعبد الله بن كثير المقرىء غير هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ لأحد من الْقُرَّاء السَّبْعَة رِوَايَة إلاَّ لهَذَا وَلابْن أبي النجُود فِي الْمُبَايعَة، وَوَقع فِي (الْمُدَوَّنَة) : عبد الله بن أبي كثير، وَهُوَ غلط وَصَوَابه حذف: أبي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي السّلم عَن مُحَمَّد وَعَن صَدَقَة بن الْفضل وَعلي بن عبد الله وقتيبة، فرقهم ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن أبي نعيم، وَقَالَ عبد الله بن الْوَلِيد: كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى وَعَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي(12/61)
شيبَة وَإِسْمَاعِيل بن سَالم، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ وَعَن أبي كريب وَابْن أبي عمر كِلَاهُمَا عَن وَكِيع وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كِلَاهُمَا عَن الثَّوْريّ بِهِ وَعَن شَيبَان بن فروخ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النفلي، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الشُّرُوط عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن هِشَام ابْن عمار، أربعتهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَالنَّاس يسلفون) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، و: يسلفون، بِضَم الْيَاء من أسلف. قَوْله: (الْعَام) ، بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (شكّ إِسْمَاعِيل) ، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن علية وَلم يشك سُفْيَان، فَقَالَ: وهم يسلفون فِي التَّمْر السنتين وَالثَّلَاث، وَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَقَالَ بَعضهم: وَقَوله: السنتين، مَنْصُوب إِمَّا على نزع الْخَافِض أَو على الْمصدر. قلت: هَذَا غلط لَا يخفى، وَمن مس شَيْئا مَا من الْعَرَبيَّة لَا يَقُول هَذَا، وَلَكِن لَو بيّن وَجهه لَكَانَ لَهُ وَجه، وَهُوَ أَن يُقَال: التَّقْدِير فِي وَجه نزع الْخَافِض إِلَى السّنة وَالتَّقْدِير فِي، وَجه النصب على الْمصدر أَن يُقَال: إسلاف السّنة، فالإسلاف مصدر مَنْصُوب، فَلَمَّا حذف قَامَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه. فَافْهَم. قَوْله: (من سلف فِي تمر) ، بتَشْديد اللَّام فِي رِوَايَة ابْن علية وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: من أسلف فِي شَيْء وَهَذِه أشمل. قَوْله: (فِي تمر) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، ويروى: بالثاء الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (وَوزن) ، الْوَاو بِمَعْنى: أَو، أَي: أَو فِي وزن مَعْلُوم، وَالْمرَاد اعْتِبَار الْكَيْل فِيمَا يُكَال وَاعْتِبَار الْوَزْن فِيمَا يُوزن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: اشْتِرَاط تعْيين الْكَيْل فِيمَا يسلم فِيهِ من المكيلات، وَاشْتِرَاط الْوَزْن فِيمَا يُوزن من الموزونات لاخْتِلَاف المكاييل والموزونات، إلاَّ أَن يكون فِي بلد لَيْسَ فِيهِ إلاَّ كيل وَاحِد وَوزن وَاحِد فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَيْهِ عِنْد الْإِطْلَاق، وَلَا خلاف فِي اشْتِرَاط تعْيين الْكَيْل فِيمَا يسلم فِيهِ من الْمكيل، كصاع الْحجاز وقفيز الْعرَاق وإردب مصر، بل مكاييل هَذِه الْبِلَاد فِي أَنْفسهَا مُخْتَلفَة، فَلَا بُد من التعين. وَعَن هَذَا قَالَ ابْن حزم: لَا يجوز السّلم إلاَّ فِي مَكِيل أَو مَوْزُون فَقَط، وَلَا يجوز فِي مذروع وَلَا فِي مَعْدُود وَلَا شَيْء غير مَا ذكر فِي النَّص، وَكَأَنَّهُ قصر السّلم على مَا ذكر فِي الحَدِيث، وَلَيْسَ كَذَلِك بل السّلم يجوز فِيمَا لَا يُكَال وَلَا يوزون، وَلَكِن لَا بُد فِيهِ من صفة الشَّيْء الْمُسلم فِيهِ وَيدخل فِي قَوْله: كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم، إِذْ الْعلم بهما يستلزمه.
وَالْأَصْل فِيهِ عندنَا: أَن كل شَيْء يُمكن ضبط صفته وَمَعْرِفَة مِقْدَاره جَازَ السّلم فِيهِ، كمكيل وموزن ومذروع ومعدود مُتَقَارب: كالجوز وَالْبيض، وَعند زفر: لَا يجوز فِي الْمَعْدُود عِنْد تفَاوت آحاده، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يَصح إلاَّ وزنا وَفِي (الرَّوْضَة) : وَيجوز السّلم فِي الْجَوْز واللوز وزنا إِذا لم تخْتَلف قشوره غَالِبا، وَيجوز كَيْلا على الْأَصَح، وَكَذَا الفستق والبندق، وَأما الْبِطِّيخ والقثاء والبقول والسفرجل وَالرُّمَّان والباذنجان والنارنج وَالْبيض فَالْمُعْتَبر فِيهَا الْوَزْن. انْتهى. وَبِه قَالَ أَحْمد. وَفِي (حاوي) الْحَنَابِلَة، وَلَا يسلم فِي مَعْدُود مُخْتَلف من حَيَوَان وَغَيره، وَعنهُ: يَصح وزنا فِي غير الْحَيَوَان كالفلوس إِن جَازَ السّلم فِيهَا، وَعنهُ عددا، وَقيل: فِي المتقارب كجوز وبيض عددا، وَفِي المتفاوت كفاكهة وبقل وزنا. انْتهى.
وَمذهب مَالك مَا ذكره فِي (الْجَوَاهِر) ؛ وَيَكْفِي الْعدَد فِي المعدودات وَلَا يفْتَقر إِلَى الْوَزْن إلاَّ أَن يتَفَاوَت آحاده تَفَاوتا يَقْتَضِي اخْتِلَاف أثمانها، فَلَا يَكْفِي فِيهَا حِينَئِذٍ مُجَرّد الْعدَد والمعدود كالبيض والباذنجان وَالرُّمَّان، وَكَذَا الْجَوْز واللوز إِن جرت عَادَة بَيْعه بِالْعدَدِ، وَكَذَا اللَّبن وَكَذَا الْبِطِّيخ إِذا كَانَ متفاوتا غير بَين التَّفَاوُت، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا يشبه مَا ذكرنَا. انْتهى. وَأما الْفُلُوس فَيجوز السّلم فِيهَا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف. وَقَالَ مُحَمَّد: لَا يجوز، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعَن أَحْمد: يجوز وزنا، وَعنهُ عددا وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِي سلم الْفُلُوس. وَأما السّلم فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن أسلم فيهمَا قيل: يكون بَاطِلا، وَقيل: ينْعَقد بيعا بِثمن مُؤَجل، مَعْنَاهُ إِذا أسلم فِي الدَّرَاهِم ثوبا مثلا، وَالْأول أصح. وَعند الشَّافِعِي القَوْل الثَّانِي هُوَ الْأَصَح. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اتّفق أَصْحَابنَا على أَنه لَا يجوز إِسْلَام الدَّرَاهِم فِي الدَّنَانِير وَلَا عَكسه سلما مُؤَجّلا. وَفِي الْحَال وَجْهَان: الْأَصَح الْمَنْصُوص فِي (الْأُم) أَنه لَا يَصح، وَالثَّانِي: يَصح بِشَرْط قبضهَا فِي الْمجْلس.
حدَّثنا محَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا إسْمَاعِيلُ عنِ ابنِ نَجيحٍ بِهاذا فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ
اخْتلف فِي مُحَمَّد هَذَا من هُوَ؟ قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: لم ينْسب مُحَمَّدًا هَذَا أحد من الروَاة، قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا أَنه(12/62)
مُحَمَّد بن سَلام، وَبِه جزم الكلاباذي، وَأَن ابْن سَلام روى عَن إِسْمَاعِيل بن علية. قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور.
2 - (بابُ السَّلَمِ فِي وَزْنٍ مَعْلُومٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السّلم حَال كَونه فِي وزن مَعْلُوم، وَكَأَنَّهُ قصد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة التَّنْبِيه على أَن مَا يُوزن لَا يسلم فِيهِ كَيْلا وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَالأَصَح الْجَوَاز.
0422 - حدَّثنا صدَقَةُ قَالَ أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ قَالَ أخبرنَا ابنُ أبي نَجِيحٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ كَثيرٍ عنْ أبِي المِنْهَالِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ وهُمْ يُسْلِفونَ بالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ والثَّلاثَ فقالَ مَنْ أسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَوزن مَعْلُوم) ، وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِيهِ رِوَايَته عَن صَدَقَة بن الْفضل الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن أبي نجيح عَن عبد الله بن كثير عَن أبي الْمنْهَال عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عَبَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. وَفِيه زِيَادَة وَهِي قَوْله: إِلَى أجل مَعْلُوم، وَهَذَا يدل على أَن السّلم الْحَال لَا يجوز، وَعند الشافعيي: يجوز كالمؤجل، فَإِن صرح بحلول أَو تَأْجِيل فَذَاك، وَإِن أطلق فَوَجْهَانِ، وَقيل: قَولَانِ أصَحهمَا عِنْد الْجُمْهُور يَصح وَيكون حَالا، وَالثَّانِي: لَا ينْعَقد وَلَو صرحا الْأَجَل فِي نفس العقد ثمَّ أسقطاه فِي الْمجْلس سقط، وَصَارَ العقد حَالا.
وَقَوله: (إِلَى أجل) ، من جملَة شُرُوط صِحَة السّلم، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن مَعَه فِي عدم اشْتِرَاط الْأَجَل، وَهُوَ مُخَالفَة للنَّص الصَّرِيح، وَالْعجب من الْكرْمَانِي حَيْثُ يَقُول: لَيْسَ ذكر الْأَجَل فِي الحَدِيث لاشْتِرَاط الْأَجَل لصِحَّة السّلم الْحَال، لِأَنَّهُ إِذا جَازَ مُؤَجّلا مَعَ الْغرَر فجواز الْحَال أولى لِأَنَّهُ أبعد من الْغرَر، بل مَعْنَاهُ: أَن كَانَ أجل فَلْيَكُن مَعْلُوما، كَمَا أَن الْكَيْل لَيْسَ بِشَرْط وَلَا الْوَزْن، بل يجوز فِي الثِّيَاب بالذرع، وَإِنَّمَا ذكر الْكَيْل أَو الْوَزْن بِمَعْنى أَنه: إِن أسلم فِي مَكِيل أَو مَوْزُون فليكونا معلومين. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام مُخَالف لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِلَى أجل مَعْلُوم) ، لِأَن مَعْنَاهُ فليسلم فِيمَا جَازَ السّلم فِيهِ إِلَى أجل مَعْلُوم، وَهَذَا قيد، والقيد شَرط، وَكَلَامه هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِلْغَاء مَا قَيده الشَّارِع من الْأَجَل الْمَعْلُوم، فَكيف يَقُول: مَعَ الْغرَر، وَلَا غرر هَهُنَا أصلا؟ لِأَن الْأَجَل إِذا كَانَ مَعْلُوما فَمن أَيْن يَأْتِي الْغرَر؟ وَالْمَذْكُور الْأَجَل الْمَعْلُوم، والمعلوم صفة الْأَجَل، فَكيف يشْتَرط قيد الصّفة وَلَا يشْتَرط قيد الْمَوْصُوف؟ وَقَوله: كَمَا أَن الْكَيْل لَيْسَ بِشَرْط وَلَا الْوَزْن! قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَن الْمُسلم فِيهِ لَا يشْتَرط أَن يكون من المكيلات خَاصَّة وَلَا من الموزونات خَاصَّة، كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن حزم بِظَاهِر الحَدِيث، يَعْنِي: لَا ينْحَصر السّلم فيهمَا، بل مَعْنَاهُ أَن الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ من المكيلات لَا بُد من إِعْلَام قدر رَأس الْمُسلم فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ بِالْكَيْلِ فِي المكيلات وَالْوَزْن فِي الموزونات، وَكَون الْكَيْل مَعْلُوما شَرط، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَن السّلم فِيمَا لَا يُكَال غير صَحِيح حَتَّى يُقَال: بل يجوز فِي الثِّيَاب بالذرع وَفِي الثِّيَاب أَيْضا لَا يجوز إلاَّ إِذا كَانَ ذرعها مَعْلُوما وصفتها مَعْلُومَة وضبطها مُمكنا. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمَقْصُود مِنْهُ أَن يخرج الْمُسلم فِيهِ من حد الْجَهَالَة. حَتَّى إِن أسلف فِيمَا أَصله الْكَيْل بِالْوَزْنِ جَازَ. قلت: قد ذكرنَا أَنه لَا يجوز فِي أحد الْوَجْهَيْنِ عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَلَا يَنْبَغِي أَن يُورد الْكَلَام على الْإِطْلَاق، ثمَّ إِنَّهُم اخْتلفُوا فِي حد الْأَجَل، فَقَالَ ابْن حزم: الْأَجَل سَاعَة فَمَا فَوْقهَا، وَعند بعض أَصْحَابنَا لَا يكون أقل من نصف يَوْم، وَعند بَعضهم لَا يكون أقل من ثَلَاثَة أَيَّام، وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: يكره أقل من يَوْمَيْنِ وَقَالَ اللَّيْث: خَمْسَة عشر يَوْمًا.
حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ قَالَ حدَّثني ابنُ أبِي نَجِيحٍ وَقَالَ فَلْيُسْلِف فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِين عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره، وَفِيه نبه أَيْضا على اشْتِرَاط الْأَجَل، وَهُوَ أَيْضا حجَّة على من لم يَشْتَرِطه.(12/63)
1422 - حدَّثنا قتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ كَثيرٍ عنْ أبي المنْهال قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَال فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلومٍ إلِى أجلٍ معْلُومٍ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت أخرج هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق: الأول عَن عَمْرو بن زُرَارَة أخرجه فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَالثَّلَاثَة فِي هَذَا الْبَاب عَن صَدَقَة وَعلي وقتيبة، وَذكر الْأَجَل فِي هَذِه الثَّلَاثَة المفرقة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
4 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن ابْن أبي المجالد ح وَحدثنَا يحيى قَالَ حَدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن أبي المجالد) أَبُو الْوَلِيد هُوَ هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ وَيحيى هُوَ ابْن معِين أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي يُقَال لَهُ خت أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَمُحَمّد بن أبي المجالد الْكُوفِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ سمع عبد الله بن أبي أوفى وَعبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى روى عَنهُ أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ وَشعْبَة إِلَّا أَنه قَالَ مرّة مُحَمَّد بن أبي المجالد وَمرَّة مُحَمَّد أَو عبد الله مترددا فِي اسْمه وَلِهَذَا بهم البُخَارِيّ أَولا حَيْثُ قَالَ ابْن أبي المجالد وَبَقِيَّة هَذَا السَّنَد فِي السَّنَد الَّذِي يَأْتِي وَهُوَ قَوْله حَدثنَا حَفْص إِلَى آخِره والمجالد من الْأَعْلَام الَّتِي تسْتَعْمل بلام التَّعْرِيف وَقد يتْرك
(حَدثنَا حَفْص بن عمر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد أَو عبد الله بن أبي المجالد قَالَ اخْتلف عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد وَأَبُو بردة فِي السّلف فبعثوني إِلَى ابْن أوفى رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلته فَقَالَ إِنَّا كُنَّا نُسلف على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّبِيب وَالتَّمْر وَسَأَلت ابْن أَبْزَى فَقَالَ مثل ذَلِك) قيل لَيْسَ لإيراد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب وَجه لِأَن الْبَاب فِي السّلم فِي وزن مَعْلُوم وَلَيْسَ فِي الحَدِيث شَيْء يدل على مَا يُوزن وَأجِيب بِأَنَّهُ جَاءَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث على مَا يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظ فيسلفهم فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّيْت وَهُوَ من جنس مَا يُوزن فَكَأَن وَجه إِيرَاده فِي هَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَيْهِ (ذكر رِجَاله) وهم سَبْعَة. الأول حَفْص بن عمر بن الْحَارِث أَبُو عمر الحوضي النمري الْأَزْدِيّ. الثَّانِي شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث هُوَ ابْن أبي المجالد الَّذِي أبهمه أَبُو الْوَلِيد عَن شُعْبَة وَهنا تردد فِيهِ شُعْبَة بَين مُحَمَّد بن أبي المجالد وَبَين عبد الله ابْن أبي المجالد وَذكر البُخَارِيّ فِيهِ ثَلَاث رِوَايَات الأولى عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن ابْن أبي المجالد وَالثَّانيَِة عَن حَفْص ابْن عمر عَن شُعْبَة بالتردد بَين مُحَمَّد وَعبد الله وَالثَّالِثَة ذكرهَا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الشَّيْبَانِيّ عَن مُحَمَّد بن أبي المجالد وَجزم أَبُو دَاوُد بِأَن اسْمه عبد الله وَكَذَا قَالَ ابْن حبَان وَوَصفه بِأَنَّهُ كَانَ صهر مُجَاهِد وَبِأَنَّهُ كُوفِي ثِقَة وَكَانَ مولى عبد الله بن أبي أوفى. الرَّابِع عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد وَقد مر فِي الْحيض. الْخَامِس أَبُو بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الْفَقِيه قَاضِي الْكُوفَة واسْمه عَامر. السَّادِس عبد الله بن أبي أوفى واسْمه عَلْقَمَة أَبُو إِبْرَاهِيم وَقيل أَبُو مُحَمَّد وَقيل غير ذَلِك أَخُو زيد بن أبي أوفى لَهما ولأبيهما صُحْبَة. السَّابِع عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الزَّاي مَقْصُورَة (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه السُّؤَال فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه بَصرِي وَأَنه من أَفْرَاده وَشعْبَة واسطي وَعبد الله بن شَدَّاد مدنِي يَأْتِي إِلَى الْكُوفَة وَأَبُو بردة كُوفِي وَكَذَلِكَ ابْن أبي مجَالد كَمَا ذَكرْنَاهُ وَفِيه اثْنَان من الصَّحَابَة أَحدهمَا ابْن أبي أوفى(12/64)
وَالْآخر ابْن أَبْزَى وَقَالَ بَعضهم عبد الله بن شَدَّاد من صغَار الصَّحَابَة قلت لم أر أحدا ذكره من الصَّحَابَة وَذكره الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي كتاب تَجْرِيد الصَّحَابَة وَقَالَ عبد الله بن شَدَّاد بن أُسَامَة بن الْهَاد الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ العتواري من قدماء التَّابِعين وَقَالَ الْخَطِيب هُوَ من كبار التَّابِعين وَقَالَ ابْن سعد كَانَ عثمانيا ثِقَة فِي الحَدِيث وَفِيه أَن ابْن أبي المجالد لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد وَعَن يحيى عَن وَكِيع وَعَن حَفْص بن عمر وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن اسحق بن خَالِد وَعَن قُتَيْبَة عَن جرير وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْبيُوع عَن حَفْص بن عمر وَمُحَمّد بن كثير وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عبد الله بن سعيد وَعَن مَحْمُود بن غيلَان وَأخرجه ابْن ماجة فِي التِّجَارَات عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " فِي السّلف " أَي فِي السّلم يَعْنِي هَل يجوز السّلم إِلَى من لَيْسَ عِنْده الْمُسلم فِيهِ فِي تِلْكَ الْحَالة أم لَا قَوْله " فبعثوني " هُوَ مقول ابْن أبي المجالد وَإِنَّمَا جمع إِمَّا بِاعْتِبَار أَن أقل الْجمع اثْنَان أَو باعتبارهما وَمن مَعَهُمَا قَوْله " فَقَالَ " أَي ابْن أبي أوفى قَوْله " على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي فِي زَمَنه وَأَيَّام حَيَاته قَوْله " وَأبي بكر " أَي وعَلى عهد أبي بكر وَعمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا الخليفتين من بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " فِي الْحِنْطَة " ذكر أَرْبَعَة أَشْيَاء كلهَا من المكيلات وَيُقَاس عَلَيْهَا سَائِر مَا يدْخل تَحت الْكَيْل قَوْله " فَقَالَ مثل ذَلِك " أَي فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى مثل مَا قَالَ عبد الله بن أبي أوفى. وَفِيه مَشْرُوعِيَّة السّلم وَالسُّؤَال عَن أهل الْعلم فِي حَادِثَة تحدث. وَفِيه جَوَاز المباحثة فِي الْمَسْأَلَة طلبا للصَّوَاب وَإِلَى الله الْمرجع والمآب -
3 - (بابُ السَّلَمِ إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أصْلٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السّلم إِلَى من لَيْسَ عِنْده مِمَّا أسلف فِيهِ أصل. وَقيل: المُرَاد بِالْأَصْلِ أصل الشَّيْء الَّذِي يسلم فِيهِ، فَأصل الْحبّ الزَّرْع، وأصل الثِّمَار الأشحار، وَقَالَ بَعضهم: الْغَرَض من التَّرْجَمَة أَن كَون أصل الْمُسلم فِيهِ لَا يشْتَرط. قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى سلم الْمُنْقَطع، فَإِنَّهُ لَا يجوز عندنَا، وَهَذَا على أَرْبَعَة أوجه: الأول: أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا عِنْد العقد مُنْقَطِعًا عِنْد الْأَجَل فَإِنَّهُ لَا يجوز. وَالثَّانِي: أَن يكون مَوْجُودا وَقت العقد إِلَى الْأَجَل، فَيجوز بِلَا خلاف. وَالثَّالِث: أَن يكون مُنْقَطِعًا عِنْد العقد مَوْجُودا عِنْد الْأَجَل. وَالرَّابِع: أَن يكون مَوْجُودا وَقت العقد وَالْأَجَل، مُنْقَطِعًا فِيمَا بَين ذَلِك، فهذان الْوَجْهَانِ لَا يجوزان عندنَا خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، قَالُوا: لِأَنَّهُ مَقْدُور التَّسْلِيم فيهمَا، قُلْنَا: غير مَقْدُور التَّسْلِيم لِأَنَّهُ يتَوَهَّم موت الْمُسلم إِلَيْهِ فَيحل الْأَجَل، وَهُوَ مُنْقَطع، فيتضرر رب السّلم، فَلَا يجوز. وَفِي (التَّوْضِيح) : وأصل السّلم أَن يكون إِلَى من عِنْده أصل مِمَّا يسلم فِيهِ إلاَّ أَنه لما وَردت السّنة فِي السّلم بِالصّفةِ الْمَعْلُومَة والكيل وَالْوَزْن وَالْأَجَل الْمَعْلُوم، كَانَ عَاما فِيمَن عِنْده أصل وَمن لَيْسَ عِنْده. قلت: إِذا لم يكن الأَصْل مَوْجُودا عِنْد حُلُول الْأَجَل، أَو فِيمَا بَين العقد وَالْأَجَل يكون غررا، والشارع نهى عَن الْغرَر.
5422 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي المُجَالِدِ قَالَ بَعَثَنِي عَبْدُ الله بنُ شَدَّادٍ وأبُو بُرْدَةَ إلَى عَبْدِ الله بنِ أبي أوْفَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُما فقالاَ سَلْهُ هَلْ كانَ أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عَهْدِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْلِفُونَ فِي الحِنْطَةِ قَالَ عَبْدُ الله كنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أهْلِ الشَّامِ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والزَّيْتِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ قُلْتُ إلَى مَنْ كانَ أصْلُهُ عِنْدَهُ قَالَ مَا كُنَّا نَسْألُهُمْ عنْ ذالِكَ ثُمَّ بعَثَانِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ أبْزَى فسَألْتُهُ فَقَالَ كانَ أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ نَسْألْهُمْ ألَهُمْ حَرْثٌ أمْ لاَ. (انْظُر الحَدِيث 2422 وطرفه) (انْظُر الحَدِيث 3422 وطرفه) .(12/65)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قلت: إِلَى من كَانَ أَصله عِنْده) وَفِي قَوْله: (ألهم حرث أم لَا؟) . والْحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق وَمضى الْكَلَام فِيهِ بوجوهه، غير أَن فِي هَذَا نَص البُخَارِيّ على أَن اسْم أبي المجالد: مُحَمَّد، وَذكر هُنَا: الزَّيْت، مَوضِع: الزَّبِيب، هُنَاكَ، وَفِيه زِيَادَة، وَهِي السُّؤَال عَن كَون الأَصْل عِنْد الْمُسلم إِلَيْهِ. وَالْجَوَاب بِعَدَمِ ذَلِك، وَعبد الْوَاحِد هُوَ: ابْن زِيَاد، والشيباني بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة: هُوَ أَبُو إِسْحَاق سُلَيْمَان، وَقد مر فِي الْحيض.
قَوْله: (يسلفون) ، من الإسلاف، ويروى بتَشْديد اللَّام من التسليف. قَوْله: (نبيط أهل الشَّام) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: أهل الزِّرَاعَة من أهل الشَّام، وَقيل: هم قوم ينزلون البطائح وتسموا بِهِ لاهتدائهم إِلَى اسْتِخْرَاج المياة من الْيَنَابِيع وَنَحْوهَا، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: أنباطا من أَنْبَاط أهل الشَّام، وهم قوم من الْعَرَب دخلُوا فِي الْعَجم وَالروم، واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وَكَانَ الَّذين اختلطوا بالعجم مِنْهُم قوم ينزلون البطائح بَين العراقين، وَالَّذين اختلطوا بالروم ينزلون فِي بوادي الشَّام، وَيُقَال لَهُم: النبط، بِفتْحَتَيْنِ وَيجمع على: أَنْبَاط، وَكَذَلِكَ النبيط يجمع على أَنْبَاط، يُقَال: رجل نبطي ونباطي ونباط، وَحكى يَعْقُوب: نباطي، بِضَم النُّون. وَيُقَال: أَنْبَاط الشَّام هم نَصَارَى الشَّام الَّذين عمروها، قَالَ الْجَوْهَرِي: نبط المَاء ينبط وينبط نبوطا: نبع، فَهُوَ نبيط. وَهُوَ الَّذِي ينبط من قَعْر الْبِئْر إِذا حفرت، وأنبط الحفار: بلغ المَاء، والاستنباط: الاستخراج. قَوْله: (إِلَى من كَانَ أَصله) أَي: أصل الْمُسلم فِيهِ، وَهُوَ الثَّمر أَي: الْحَرْث. قَوْله: (ألَهم حرث؟) أَي: زرع. فَافْهَم.
وَفِيه: مبايعة أهل الذِّمَّة وَالسّلم إِلَيْهِم. وَفِيه: جَوَاز السّلم فِي السّمن والشيرج وَنَحْوهمَا قِيَاسا على الزَّيْت.
حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ عبْدِ الله عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنْ محَمَّدِ بنِ أبِي مُجَالِدٍ بِهذَا وَقَالَ فنُسْلِفُهُمْ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن إِسْحَاق بن شاهين الوَاسِطِيّ عَن خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان الوَاسِطِيّ عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ ... إِلَى آخِره.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ الوَلِيدِ عنْ سفْيَانَ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبانِيُّ وَقَالَ والزَّيْتِ
هَذَا طَرِيق آخر مُعَلّق عَن عبد الله بن الْوَلِيد أَبُو مُحَمَّد الْعَدنِي نزيل مَكَّة، روى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَكَانَ يصحح حَدِيثه وسماعه عَن سُفْيَان، قَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكت حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فِي: بَاب رمي الْجمار من بطن الْوَادي، وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ يَقُول: أَنا مكي يُقَال لي عدني، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. قَوْله: (وَقَالَ: وَالزَّيْت) يَعْنِي بعد أَن قَالَ: فِي الْحِنْطَة وَالشعِير قَالَ وَالزَّيْت، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سُفْيَان فِي (جَامعه) من طَرِيق عَليّ بن الْحسن الْهِلَالِي عَن عبد الله بن الْوَلِيد، رَحمَه الله.
حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الشَّيْبَانِيِّ وَقَالَ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والزَّبِيبِ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان الشيبانيي، قَوْله: (وَقَالَ فِي الْحِنْطَة) ، أَي: قَالَ فِي رُوَاته: فَنُسلفهُمْ فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّبِيب، وَلم يذكر فِيهِ: الزَّيْت، بل ذكر: الزَّبِيب.
5422 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي المُجَالِدِ قَالَ بَعَثَنِي عَبْدُ الله بنُ شَدَّادٍ وأبُو بُرْدَةَ إلَى عَبْدِ الله بنِ أبي أوْفَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُما فقالاَ سَلْهُ هَلْ كانَ أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عَهْدِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْلِفُونَ فِي الحِنْطَةِ قَالَ عَبْدُ الله كنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أهْلِ الشَّامِ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والزَّيْتِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ قُلْتُ إلَى مَنْ كانَ أصْلُهُ عِنْدَهُ قَالَ مَا كُنَّا نَسْألُهُمْ عنْ ذالِكَ ثُمَّ بعَثَانِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ أبْزَى فسَألْتُهُ فَقَالَ كانَ أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ نَسْألْهُمْ ألَهُمْ حَرْثٌ أمْ لاَ. (انْظُر الحَدِيث 2422 وطرفه) (انْظُر الحَدِيث 3422 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قلت: إِلَى من كَانَ أَصله عِنْده) وَفِي قَوْله: (ألهم حرث أم لَا؟) . والْحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق وَمضى الْكَلَام فِيهِ بوجوهه، غير أَن فِي هَذَا نَص البُخَارِيّ على أَن اسْم أبي المجالد: مُحَمَّد، وَذكر هُنَا: الزَّيْت، مَوضِع: الزَّبِيب، هُنَاكَ، وَفِيه زِيَادَة، وَهِي السُّؤَال عَن كَون الأَصْل عِنْد الْمُسلم إِلَيْهِ. وَالْجَوَاب بِعَدَمِ ذَلِك، وَعبد الْوَاحِد هُوَ: ابْن زِيَاد، والشيباني بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة: هُوَ أَبُو إِسْحَاق سُلَيْمَان، وَقد مر فِي الْحيض.
قَوْله: (يسلفون) ، من الإسلاف، ويروى بتَشْديد اللَّام من التسليف. قَوْله: (نبيط أهل الشَّام) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: أهل الزِّرَاعَة من أهل الشَّام، وَقيل: هم قوم ينزلون البطائح وتسموا بِهِ لاهتدائهم إِلَى اسْتِخْرَاج المياة من الْيَنَابِيع وَنَحْوهَا، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: أنباطا من أَنْبَاط أهل الشَّام، وهم قوم من الْعَرَب دخلُوا فِي الْعَجم وَالروم، واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وَكَانَ الَّذين اختلطوا بالعجم مِنْهُم قوم ينزلون البطائح بَين العراقين، وَالَّذين اختلطوا بالروم ينزلون فِي بوادي الشَّام، وَيُقَال لَهُم: النبط، بِفتْحَتَيْنِ وَيجمع على: أَنْبَاط، وَكَذَلِكَ النبيط يجمع على أَنْبَاط، يُقَال: رجل نبطي ونباطي ونباط، وَحكى يَعْقُوب: نباطي، بِضَم النُّون. وَيُقَال: أَنْبَاط الشَّام هم نَصَارَى الشَّام الَّذين عمروها، قَالَ الْجَوْهَرِي: نبط المَاء ينبط وينبط نبوطا: نبع، فَهُوَ نبيط. وَهُوَ الَّذِي ينبط من قَعْر الْبِئْر إِذا حفرت، وأنبط الحفار: بلغ المَاء، والاستنباط: الاستخراج. قَوْله: (إِلَى من كَانَ أَصله) أَي: أصل الْمُسلم فِيهِ، وَهُوَ الثَّمر أَي: الْحَرْث. قَوْله: (ألَهم حرث؟) أَي: زرع. فَافْهَم.
وَفِيه: مبايعة أهل الذِّمَّة وَالسّلم إِلَيْهِم. وَفِيه: جَوَاز السّلم فِي السّمن والشيرج وَنَحْوهمَا قِيَاسا على الزَّيْت.
حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ عبْدِ الله عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنْ محَمَّدِ بنِ أبِي مُجَالِدٍ بِهذَا وَقَالَ فنُسْلِفُهُمْ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن إِسْحَاق بن شاهين الوَاسِطِيّ عَن خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان الوَاسِطِيّ عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ ... إِلَى آخِره.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ الوَلِيدِ عنْ سفْيَانَ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبانِيُّ وَقَالَ والزَّيْتِ
هَذَا طَرِيق آخر مُعَلّق عَن عبد الله بن الْوَلِيد أَبُو مُحَمَّد الْعَدنِي نزيل مَكَّة، روى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَكَانَ يصحح حَدِيثه وسماعه عَن سُفْيَان، قَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكت حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فِي: بَاب رمي الْجمار من بطن الْوَادي، وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ يَقُول: أَنا مكي يُقَال لي عدني، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. قَوْله: (وَقَالَ: وَالزَّيْت) يَعْنِي بعد أَن قَالَ: فِي الْحِنْطَة وَالشعِير قَالَ وَالزَّيْت، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سُفْيَان فِي (جَامعه) من طَرِيق عَليّ بن الْحسن الْهِلَالِي عَن عبد الله بن الْوَلِيد، رَحمَه الله.
حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الشَّيْبَانِيِّ وَقَالَ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والزَّبِيبِ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان الشيبانيي، قَوْله: (وَقَالَ فِي الْحِنْطَة) ، أَي: قَالَ فِي رُوَاته: فَنُسلفهُمْ فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالزَّبِيب، وَلم يذكر فِيهِ: الزَّيْت، بل ذكر: الزَّبِيب.
6422 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخبرنَا عَمْرٌ وَقَالَ سَمِعْتُ أَبَا البَخْتَرِيِّ الطَّائِيَّ قَالَ سألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ السَّلَم فِي النَّخْلِ قالَتْ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ النَّخْلِ حتَّى يْؤكَلَ مِنْهُ وحتَّى يُوزَنَ فَقَالَ الرَّجُلُ وأيُّ شَيءٍ يُوزَنُ قَالَ رَجُلٌ إلَى جانِبِهِ حتَّى يحْرَزَ.
قَالَ ابْن بطال: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا لَيْسَ من هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا هُوَ من الْبَاب الَّذِي بعده المترجم بِبَاب السّلم فِي النّخل، وَهُوَ غلط من النَّاسِخ، وَأجِيب: بِأَن ابْن عَبَّاس لما سُئِلَ عَن السّلم إِلَى من لَهُ نخل عد ذَلِك من قبيل بيع الثِّمَار قبل بَدو صَلَاحهَا، فَإِذا كَانَ السّلم فِي النّخل لَا يجوز لم يبْق لوجودها فِي ملك الْمُسلم إِلَيْهِ فَائِدَة مُتَعَلقَة بالسلم، فَيصير جَوَاز السّلم إِلَى من(12/66)
لَيْسَ لَهُ عِنْده أصل وإلاَّ يلْزمه سد بَاب السّلم.
وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: هُوَ ابْن مرّة، بِضَم الْمِيم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَمْرو بن مرّة وَهُوَ عَمْرو بن مرّة بن عبد الله الْمرَادِي الْأَعْمَى الْكُوفِي، وَأَبُو البخْترِي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالراء وَتَشْديد الْيَاء: واسْمه سعيد بن فَيْرُوز الْكُوفِي الطَّائِي، قتل فِي الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن الْوَلِيد وَعَن بنْدَار عَن غنْدر، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر.
قَوْله: (فِي النّخل) ، أَي: فِي ثَمَر النّخل. وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا ملخصه: أَن المُرَاد من السّلم مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، وَهُوَ السّلف حَتَّى لَا يُقَال: كَيفَ يَصح معنى السّلم فِيهِ وَلم يَقع العقد على مَوْصُوف فِي الذِّمَّة؟ وَأما النَّهْي عَنهُ فَلِأَنَّهُ من جِهَة أَنه من تِلْكَ الثَّمَرَة خَاصَّة، وَلَيْسَ مسترسلاً فِي الذِّمَّة مُطلقًا. قَوْله: (حَتَّى يُؤْكَل مِنْهُ) مُقْتَضَاهُ أَن يَصح بعد الْأكل الَّذِي هُوَ كِنَايَة عَن ظُهُور الصّلاح، وَمَعَ هَذَا لم يَصح، لِأَن ذكر هَذِه الْغَايَة بَيَان للْوَاقِع لأَنهم كَانُوا يسلفونه قبل صَيْرُورَته مِمَّا يُؤْكَل، والقيود الَّتِي خرجت مخرج الْأَغْلَب لَا مَفْهُوم لَهَا. قَوْله: (فَقَالَ الرجل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: إِنَّمَا عرف مَعَ أَن السِّيَاق يَقْتَضِي تنكيره لِأَنَّهُ مَعْهُود إِذا أَرَادَ بِهِ أَبُو البخْترِي نَفسه أَي السَّائِل من ابْن عَبَّاس. قَوْله: (قَالَ رجل) ، لم يدر هَذَا من هُوَ. قَوْله: (وَأي شَيْء يُوزن) ، إِذْ لَا يُمكن وزن الثَّمَرَة الَّتِي على النّخل. قَوْله: (إِلَى جَانِبه) أَي: إِلَى جَانب ابْن عَبَّاس. قَوْله: (حَتَّى يحرز) ، بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي: حَتَّى يحفظ ويصان، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَتَّى يحرز، بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، أَي: يخرص وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: حَتَّى يحرر، من التَّحْرِير، وَلكنه رَوَاهُ بِالشَّكِّ. وَاعْلَم أَن الْخرص وَالْأكل وَالْوَزْن كلهَا كنايات عَن ظُهُور صَلَاحهَا، وَفَائِدَة ذَلِك معرفَة كمية حُقُوق الْفُقَرَاء قبل أَن يتَصَرَّف فِيهِ الْمَالِك، وَاحْتج بِهَذَا الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ بِأَن السّلم لَا يجوز إلاَّ أَن يكون السّلم فِيهِ مَوْجُودا فِي أَيدي النَّاس فِي وَقت العقد إِلَى حِين حُلُول الْأَجَل، فَإِن انْقَطع فِي شَيْء من ذَلِك لم يجز، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: يجوز السّلم فِيمَا هُوَ مَعْدُوم فِي أَيدي النَّاس إِذا كَانَ مَأْمُون الْوُجُود عِنْد حُلُول الْأَجَل فِي الْغَالِب، فَإِن كَانَ يَنْقَطِع حِينَئِذٍ لم يجز، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبَاب مفصلا.
وَقَالَ مُعاذٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ ووقال أبُو البَخْتَرِيِّ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ
معَاذ هُوَ ابْن معَاذ التَّمِيمِي قَاضِي الْبَصْرَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن يحيى بن مُحَمَّد عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه بِهِ، وَفِي الحَدِيث السَّابِق، قَالَ شُعْبَة: أخبرنَا عَمْرو، قَالَ: سَمِعت أَبَا البخْترِي، قَالَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس. وَهَهُنَا: يَقُول شُعْبَة عَن عَمْرو: قَالَ أَبُو البخْترِي: سَمِعت ابْن عَبَّاس. قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور.
4 - (بابُ السلَمِ فِي النَّخْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السّلم فِي ثَمَر النّخل.
8422 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وعنْ أبِي البَخْتَرِيِّ قَالَ سألتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ وعنْ بَيْعِ الوَرِقِ نَساءً بِناجِزٍ وسألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ عنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ النَّخْلِ حتَّى يُؤكَلَ مِنْهُ أوْ يَأكُلَ مِنْهُ وحتَّى يُوزَنَ. . (انْظُر الحَدِيث 6422 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. قَوْله: (فَقَالَ: نهى) أَي: فَقَالَ ابْن عمر: نهي، بِضَم النُّون على بِنَاء الْمَجْهُول، وَالرِّوَايَات كلهَا متفقة على ضم النُّون. قَوْله: (عَن بيع النّخل) أَي: عَن بيع ثَمَر النّخل. قَوْله: (حَتَّى يصلح) ، أَي: حَتَّى يظْهر فِيهِ الصّلاح. قَوْله: (وَعَن بيع الْوَرق) ، أَي: وَنهى أَيْضا عَن بيع الْوَرق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء وبكسر الْوَاو وَسُكُون(12/67)
الرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء: وَهُوَ الدَّرَاهِم المضروبة، أَي: نهى عَن بيع الْفضة بِالذَّهَب نسأ، أَي: بِالتَّأْخِيرِ، وَهُوَ بِفَتْح النُّون وبالمد وَالْقصر، وَمِنْه: نسأت الدّين أَي: أَخَّرته نسَاء وأنسأته إنسا، وَالنِّسَاء الإسم، فَإِن قلت: انتصاب نسَاء بِمَاذَا؟ قلت: يجوز أَن يكون على الْحَال، وَيكون نسأ بِمَعْنى منسأ على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول. قَوْله: (بناجز) بالزاي فِي آخِره، أَي: بحاضر، يُقَال: نجز ينجز نجزا إِذا حضر وَحصل. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس نهى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع ثَمَر النّخل حَتَّى يُؤْكَل مِنْهُ، أَي: حَتَّى يُؤْكَل من النّخل ثمره، أَو يَأْكُلهُ صَاحبه مِنْهُ. قَوْله: (وَحَتَّى يُوزن) أَي: حَتَّى يخرص، وَقد مر عَن قريب.
وَاسْتدلَّ بَعضهم بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على جَوَاز السّلم فِي النّخل الْمعِين من الْبُسْتَان الْمعِين، وَلَكِن بعد بَدو صَلَاحه، وَهُوَ مَذْهَب الْمَالِكِيَّة أَيْضا وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اتِّفَاق الْأَكْثَر على منع السّلم فِي بُسْتَان معِين لِأَنَّهُ غرر. قلت: وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة أَيْضا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن سَلام فِي قصَّة إِسْلَام زيد بن سعنة، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح النُّون، أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لَك أَن تبيعني تَمرا مَعْلُوما إِلَى أجل مَعْلُوم من حَائِط بني فلَان؟ قَالَ: (لَا أبيعك من حَائِط مُسَمّى، بل أبيعك أوسقا مُسَمَّاة إِلَى أجل مُسَمّى) .
0522 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرو عنْ أبِي الْبَخْتَريِّ قَالَ سألْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حتَّى يَصْلُحَ ونِهىَ عنِ الوَرِقِ بالذَّهَبِ نَسَاءً بِناجِزٍ وسألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ النَّخْلِ حتَّى يأكلَ أوْ يُؤْكَلَ وحتَّى يُوزَنَ قُلْتُ وَمَا يُوزَنُ قَالَ رجُلٌ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرَزَ. (انْظُر الحَدِيث 6841 وطرفه) . (انْظُر الحَدِيث 6422 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، قَوْله: (فَقَالَ: نهى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت: نهى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَنهي عمر إِمَّا عَن السماع عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِمَّا عَن اجْتِهَاده.
5 - (بابُ الكَفِيلِ فِي السَّلَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكَفِيل فِي السّلم.
1522 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَعْلَى قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْراهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتِ اشْتَرَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعاما مِنْ يَهُودِيٍّ بِنَسِيئَةٍ ورَهَنَهُ دِرْعا لَهُ مِنْ حدِيدٍ. .
قيل: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث مَا ترْجم بِهِ، وَأجَاب الْكرْمَانِي بِأَنَّهُ: إِمَّا أَن يُرَاد بِالْكَفَالَةِ الضَّمَان، وَلَا شكّ أَن الْمَرْهُون ضَامِن للدّين من حَيْثُ إِنَّه يُبَاع فِيهِ. وَأما يُقَاس على الرَّهْن بِجَامِع كَونهمَا وَثِيقَة، وَلِهَذَا كل مَا صَحَّ الرَّهْن فِيهِ صَحَّ ضَمَانه. وَبِالْعَكْسِ. قلت: إِثْبَات الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين التَّرْجَمَة بِهَذَا الْكَلَام، إِنَّمَا هُوَ بِالْجَرِّ الثقيل، وَمَعَ هَذَا الْجَواب الثَّانِي فِيهِ بعض قرب، وَالْأَقْرَب مِنْهُ أَن يُقَال: إِن عَادَته جرت أَن يُشِير إِلَى بعض مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث، وَقد روى فِي الرَّهْن عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش، قَالَ: تَذَاكرنَا عِنْد إِبْرَاهِيم الرَّهْن والقبيل فِي السّلف، فَذكر إِبْرَاهِيم هَذَا الحَدِيث، وَفِيه التَّصْرِيح بِالرَّهْنِ وَالْكَفِيل، لِأَن الْقَبِيل هُوَ الْكَفِيل، وَبِهَذَا يُجَاب أَيْضا عَمَّا قَالَه الْكرْمَانِي: لَيْسَ فِيهِ عقد السّلم، لِأَن السّلف هُوَ السّلم.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّسِيئَةِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُعلى بن أَسد عَن عبد الْوَاحِد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن يعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وبالقصر: ابْن عبيد بِالتَّصْغِيرِ أبي يُوسُف الطنافسي الْحَنَفِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ، عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.(12/68)
6 - (بابُ الرَّهْنِ فِي السَّلَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الرَّهْن فِي السّلم.
7 - (بابُ السَّلَمِ إلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السّلم الْوَاقِع إِلَى أجل مَعْلُوم أَي: إِلَى مُدَّة مُعينَة. وَفِيه: الرَّد على من أجَاز السّلم الْحَال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِيَّة وَمن تَبِعَهُمْ.
وبِهِ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وأبُو سَعِيدٍ والأسْوَدُ والحسَنُ
أَي: باختصاص السّلم بالأجل، قَالَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَتَعْلِيق ابْن عَبَّاس وَصله الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن قَتَادَة عَن أبي حسان بن مُسلم الْأَعْرَج عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أشهد أَن السّلف الْمَضْمُون إِلَى أجل مُسَمّى قد أَجله الله فِي كِتَابه وَأذن فِيهِ. ثمَّ قَرَأَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} (الْبَقَرَة: 282) . وَأخرجه الْحَاكِم من هَذَا الْوَجْه وَصَححهُ، وروى ابْن أبي شيبَة من وَجه آخر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا تسلف إِلَى الْعَطاء وَلَا إِلَى الْحَصاد وَاضْرِبْ أَََجَلًا. وَتَعْلِيق أبي سعيد وَصله عبد الرازق من طَرِيق نُبيح الْعَنزي الْكُوفِي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: السّلم بِمَا يقوم بِهِ السّعر رَبًّا، وَلَكِن أسلف فِي كيل مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم. قلت: نُبيح، بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، والعنزي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالنُّون وبالزاي، وَتَعْلِيق الْأسود وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ، قَالَ: سَأَلته عَن السّلم فِي الطَّعَام، قَالَ: لَا بَأْس بِهِ كيل مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم. وَلم أَقف على تَعْلِيق الْحسن.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ لاَ بَأسَ فِي الطَّعَامِ المَوصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ مَا لَمْ يَكُ ذالِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع عَنهُ قَالَ: لَا بَأْس أَن يسلف الرجل فِي الطَّعَام الْمَوْصُوف، فَذكر مثله، وَزَاد: وَثَمَرَة لم يبد صَلَاحهَا، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع نَحوه. قَوْله: (مَا لم يَك) ، أَصله: مَا لم يكن، حذفت النُّون تَخْفِيفًا، ويروى على الأَصْل، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت أساطين الصَّحَابَة عبد الله بن عَبَّاس وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد الله بن عمر(12/69)
بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، شرطُوا الْأَجَل فِي السّلم، وَكَذَلِكَ من أساطين التَّابِعين: الْأسود وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَهَذَا كُله حجَّة على من يرى جَوَاز السّلم الْحَال من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم. وَاخْتَارَ ابْن خُزَيْمَة من الشَّافِعِيَّة تأقيته إِلَى الميسرة، وَاحْتج بِحَدِيث عَائِشَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث إِلَى يَهُودِيّ: إبعث لي ثَوْبَيْنِ إِلَى الميسرة) . وَابْن الْمُنْذر طعن فِي صِحَّته، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَلَا دلَالَة فِيهِ على مَا ذكره، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ مُجَرّد الاستدعاء، فَلَا يمْتَنع أَنه إِذا وَقع العقد قيد بِشُرُوطِهِ، وَلذَلِك لم يصف الثَّوْبَيْنِ.
3522 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنِ ابنِ أبِي نَجيحٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ كَثِيرٍ عنْ أبِي المِنْهَالِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ وهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ والثَّلاثَ فَقَالَ أسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ (انْظُر الحَدِيث 9322 وطرافيه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى أجل مَعْلُوم) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب السّلم فِي كيل مَعْلُوم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَمْرو ابْن زُرَارَة عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن عبد الله بن أبي نجيح ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن أبي نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح ... إِلَى آخِره، والتكرار لأجل التَّرْجَمَة وَاخْتِلَاف الشُّيُوخ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ الوَلِيدِ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي نَجِيحٍ وَقَالَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ
هَذَا التَّعْلِيق مَوْصُول فِي (جَامع) سُفْيَان من طَرِيق عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، وَهَذَا فِيهِ فَائِدَتَانِ: الأولى: فِيهِ: بَيَان التحديث، وَالَّذِي قبله مَذْكُور بالعنعنة. وَالْأُخْرَى: فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى أَن من جملَة الشَّرْط فِي السّلم الْوَزْن الْمَعْلُوم فِي الموزونات.
5522 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا سُفْيانُ عنُ سُلَيْمانَ الشَّيْبَانِيِّ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي مُجالِدٍ قَالَ أرْسَلَنِي أبُو بُرْدَةَ وعَبْدُ الله بنُ شَدَّادٍ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبْزَى وعَبْدِ الله بنِ أبِي أوْفَى فسَألْتُهُمَا عنِ السَّلَفِ فقالاَ كُنَّا نُصِيبُ المَغَانِمَ مَعَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكَانَ يَأتِينَا أنْباطٌ مِنْ أنْباطِ الشَّامِ فنُسْلِفُهُمْ فِي الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والزَّبِيبِ إلَى أجَلٍ مُسَمَّى قَالَ قُلْتُ أكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أوْ لَمْ يَكنْ لَهُمْ زَرْعٌ قالاَ مَا كُنَّا نَسْألُهُمْ عنْ ذالِكَ. (انْظُر الحَدِيث 3422 وطرفه) . (انْظُر الحَدِيث 2422 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى أجل مُسَمّى) وَهُوَ أجل مَعْلُوم، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب السّلم إِلَى من لَيْسَ عِنْده أصل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من ثَلَاث طرق: عَن مُوسَى بن سماعيل، وَإِسْحَاق، وقتيبة. وَأخرجه هُنَا: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي. وَهُوَ من أَفْرَاده عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ ... إِلَى آخِره، والتكرار لأجل التَّرْجَمَة وَاخْتِلَاف الشُّيُوخ، والتقديم وَالتَّأْخِير فِي بعض الْمَتْن وَبَعض الزِّيَادَة فِيهِ هُنَا يعرف ذَلِك بِالنّظرِ والتأمل.
8 - (بابُ السَّلَمِ إلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السّلم إِلَى أَن تنْتج النَّاقة، وتنتج على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمَعْنَاهُ: إِلَى أَن تَلد النَّاقة، يُقَال: نتجت النَّاقة إِذا ولدت فَهِيَ منتوجة. وأنتجت إِذا حملت فَهِيَ نتوج. وَلَا يُقَال: منتج، ونتجت النَّاقة أنتجها: إِذا أولدتها، والناتج لِلْإِبِلِ كالقابلة للنِّسَاء، وَالْمَقْصُود من هَذِه التَّرْجَمَة بَيَان عدم جَوَاز السّلم إِلَى أجل غير مَعْلُوم، يدل عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب.(12/70)
6522 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ أخبرَنَا جُوَيْرِيَةُ عنُ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانُوا يَتَبَايَعُونَ الجَزُورَ إلَى حَبَلِ الحَبَلَةِ فنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْهُ فسَّره نافِعٌ إلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا. (انْظُر الحَدِيث 3412 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَبل الحبلة) لِأَن مَعْنَاهُ: نتاج النِّتَاج، وَفَسرهُ نَافِع الرَّاوِي عَن ابْن عمر بقوله: أَن تنْتج النَّاقة، يَعْنِي أَن تَلد مَا فِي بَطنهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا فِي بَطنهَا بدل عَن النَّاقة، وَهُوَ الْمُوَافق لتفسير نَافِع لَهُ فِي بَاب بيع الْغرَر، وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ بيع الْجَزُور بِثمن مُؤَجل إِلَى أَن تَلد النَّاقة وتلد وَلَدهَا، وَهُوَ تَفْسِير ابْن عمر، وَقيل: هُوَ بيع ولد ولد النَّاقة، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب: بيع الْغرَر، وحبل الحبلة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. وَجُوَيْرِية مصغر جَارِيَة وَهُوَ جوَيْرِية بن أَسمَاء ابْن عبيد الضبعِي الْبَصْرِيّ.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
63 - (كِتابُ الشُّفْعَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الشُّفْعَة، وَهُوَ بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْفَاء، وَغلط من حركها، قَالَه بَعضهم. وَقَالَ صَاحب (تثقيف اللِّسَان) : وَالْفُقَهَاء يضمون الْفَاء، وَالصَّوَاب الإسكان. قلت: فعلى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَن ينْسب الْفُقَهَاء إِلَى الْغَلَط صَرِيحًا لرعاية الْأَدَب، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: وَالصَّوَاب الإسكان، كَمَا قَالَه صَاحب (تثقيف اللِّسَان) . وَاخْتلف فِي اشتقاقها فِي اللُّغَة على أَقْوَال: إِمَّا من الضَّم أَو الزِّيَادَة أَو التقوية والإعانة، أَو من الشَّفَاعَة، وكل ذَلِك يُوجد فِي حق الشَّفِيع. وَقَالَ ابْن حزم: وَهِي لَفْظَة شَرْعِيَّة لم تعرف الْعَرَب مَعْنَاهَا قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا لم يعرفوا معنى: الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَنَحْوهمَا، حَتَّى بَينهَا الشَّارِع، وَيُقَال: شفعت كَذَا بِكَذَا إِذا جعلته شفعا. وَكَانَ الشَّفِيع يَجْعَل نصِيبه شفعا بِنَصِيب صَاحبه بِأَن ضمه إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشُّفْعَة فِي الِاصْطِلَاح: تملك قهري فِي الْعقار بعوض يثبت على الشَّرِيك الْقَدِيم للحادث، وَقيل: هِيَ تملك الْعقار على مُشْتَرِيه جبرا بِمثل ثمنه. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الشُّفْعَة تملك الْبقْعَة جبرا على المُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ. وَقيل: هِيَ ضم بقْعَة مشتراة إِلَى عقار الشَّفِيع بِسَبَب الشّركَة أَو الْجوَار، وَهَذَا أحسن، وَلم يخْتَلف الْعلمَاء فِي مشروعيتها إلاَّ مَا نقل عَن أبي بكر الْأَصَم من إنكارها.
(كِتابُ السَّلَمِ فِي الشُّفْعَةِ)
كَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ سقط مَا سوى الْبَسْمَلَة.
1 - (بابُ الشُّفْعَةِ فِي مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقعَتِ الحُدُودِ فلاَ شْفْعَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشُّفْعَة فِي الْمَكَان الَّذِي لم يقسم. قَوْله: (فَإِذا وَقعت الْحُدُود) أَي: إِذا صرفت وعينت فَلَا شُفْعَة، وَهَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة ثَابت عِنْد جَمِيع الروَاة.
7522 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَضَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شفْعَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع الشَّرِيك من شَرِيكه، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَهنا: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن معمر. . إِلَى آخِره. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً وَاخْتلف على الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الْإِسْنَاد، فَقَالَ مَالك: عَنهُ عَن أبي سَلمَة وَابْن الْمسيب مُرْسلا، كَذَا(12/71)
رَوَاهُ الشَّافِعِي وَغَيره، وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِم والماجشون عَنهُ فوصله بِذكر أبي هُرَيْرَة. أخرجه الْبَيْهَقِيّ، وَرَوَاهُ ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ كَذَلِك لَكِن قَالَ عَنْهُمَا أَو عَن أَحدهمَا أخرجه أَبُو دَاوُد، قلت: هَذَا مِمَّا يضعف حجَّة من احْتج بِهِ فِي اخْتِصَاص ثُبُوت الشُّفْعَة للشَّرِيك دون الْجَار، وَأَيْضًا قَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: إِن قَوْله: فَإِذا وَقعت الْحُدُود ... إِلَى آخِره، مدرج من كَلَام جَابر. قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَن الأَصْل كل مَا ذكر فِي الحَدِيث فَهُوَ مِنْهُ حَتَّى يثبت الإدراج بِدَلِيل. قلت: قَوْله: كل مَا ... إِلَى آخِره، غير مُسلم، لِأَن أَشْيَاء كَثِيرَة تقع فِي الحَدِيث وَلَيْسَت مِنْهُ، وَأَبُو حَاتِم إِمَام فِي هَذَا الْفَنّ، وَلَو لم يثبت عِنْده الإدراج فِيهِ لما أقدم على الحكم بِهِ.
وَقَالَ الكرمانيي: قَالَ التَّيْمِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: الشُّفْعَة إِنَّمَا هِيَ للشَّرِيك، وَأَبُو حنيفَة: للْجَار، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: سُبْحَانَ الله {هَذَا كَلَام عَجِيب، لِأَن أَبَا حنيفَة لم يقل: الشُّفْعَة للْجَار على الْخُصُوص، بل قَالَ: الشُّفْعَة للشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع، ثمَّ فِي حق الْمَبِيع ثمَّ من بعدهمَا للْجَار، وَكَيف يَقُول: هُوَ حجَّة عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يكون حجَّة عَلَيْهِ إِذا ترك الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ عمل بِهِ أَولا ثمَّ عمل بِحَدِيث الْجَار، وَلم يهمل وَاحِدًا مِنْهُمَا، وهم عمِلُوا بِأَحَدِهِمَا وأهملوا الآخر بتأويلات بعيدَة فَاسِدَة، وَهُوَ قَوْلهم: أما حَدِيث: (الْجَار أَحَق بصقبه) ، فَلَا دلَالَة فِيهِ، إِذْ لم يقل: أَحَق بشفعته، بل قَالَ: أَحَق بصقبه، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد مِنْهُ بِمَا يَلِيهِ وَيقرب مِنْهُ، أَي: أَحَق بِأَن يتَعَمَّد وَيتَصَدَّق عَلَيْهِ، أَو يُرَاد بالجار الشَّرِيك. قلت: هَذِه مُكَابَرَة وعناد من أريحية التعصب، وَكَيف يَقُول: إِذا لم يقل: أَحَق بشفعته؟ وَقد وَقع فِي بعض أَلْفَاظ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي شيبَة: (جَار الدَّار أَحَق بشفعة الدَّار) . وَكَيف يقبل هَذَا التَّأْوِيل الصَّارِف عَن الْمَعْنى الْوَارِد فِي الشُّفْعَة، وَيصرف إِلَى معنى لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ؟ وَيرد هَذَا التَّأْوِيل مَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) ، ذكره التِّرْمِذِيّ فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي الشُّفْعَة. وَقَالَ: حَدِيث حسن. ثمَّ قَالَ: وروى عِيسَى بن يُونُس عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، وروى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالصَّحِيح عِنْد أهل الْعلم حَدِيث الْحسن عَن سَمُرَة، وَلَا يعرف حَدِيث قَتَادَة عَن أنس إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس، وَحَدِيث عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّائِفِي عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب، هُوَ حَدِيث حسن، وروى إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن عَمْرو بن الشريد عَن أبي رَافع: سَمِعت مُحَمَّدًا يَقُول: كلا الْحَدِيثين عِنْدِي صَحِيح.
وَقَالَ الْكرْمَانِي بعد أَن قَالَ: يُرَاد بالجار الشَّرِيك يجب الْحمل عَلَيْهِ جمعا بَين مُقْتَضى الْحَدِيثين. قلت: لم يكتف الْكرْمَانِي بِصَرْف معنى الْجَار عَن مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ إِلَى الشَّرِيك حَتَّى يحكم بِوُجُوب ذَلِك، وَهَذَا يدل على أَنه لم يطلع على مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من الْأَحَادِيث الدَّالَّة بِثُبُوت الشُّفْعَة للْجَار بعد الشَّرِيك. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حبَان: الحَدِيث ورد فِي الْجَار الَّذِي يكون شَرِيكا دون الْجَار الَّذِي لَيْسَ بِشريك، يدل عَلَيْهِ مَا أخبرنَا، وَأسْندَ عَن عَمْرو بن الشريد، قَالَ: كنت مَعَ سعد بن أبي وَقاص والمسور ابْن مخرمَة، فجَاء أَبُو رَافع، مولى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لسعد بن مَالك: إشتر مني بَيْتِي الَّذِي فِي دَارك. فَقَالَ: لَا إلاَّ بأَرْبعَة آلَاف منجمة. فَقَالَ: أما وَالله لَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (الْجَار أَحَق بصقبه) مَا بعتكها، وَقد أعطيتهَا بِخَمْسِمِائَة دِينَار. قلت: هَذَا معَارض بِمَا أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن حُسَيْن الْمعلم عَن عَمْرو ابْن شُعَيْب عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه: (أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله: أرضي لَيْسَ فِيهَا لأحد شرك وَلَا قسم إلاَّ الْجوَار} فَقَالَ: الْجَار أَحَق بصقبه) . الصقب، بالصَّاد: مَا قرب من الدَّار، وَيُقَال: السقب أَيْضا بِالسِّين. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سقبت الدَّار سقوبا وأسقبت: لُغَتَانِ فصيحتان، أَي: قربت، وأبياتهم متساقبة أَي: متدانية. وَفِي (الْجَامِع) : هُوَ بالصَّاد أَكثر. وَفِي (الْمُنْتَهى) : الصقب، بِالتَّحْرِيكِ: التَّقَرُّب. يُقَال: هَذَا أصقب الْمَوْضِعَيْنِ إِلَيْك، أَي: أقربهما، وَفِي (الزَّاهِر) للأنباري: الصقب: الملاصقة كَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَا يَلِيهِ وَمَا يقرب مِنْهُ.(12/72)
2 - (بابُ عَرْضِ الشُّفْعَةِ على صاحِبِهَا قِبلَ الْبَيْعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: إِن عرض الشَّرِيك فِيمَا يشفع فِيهِ الشُّفْعَة على من لَهُ الشُّفْعَة قبل صُدُور البيع: هَل يبطل الشُّفْعَة أم لَا؟ وَفِيه خلاف على مَا نذكرهُ.
وَقَالَ الحَكَمُ إذَا أذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فلاَ شُفْعَةَ لَهُ
الحكم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف المفتوحتين: ابْن عتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو عبد الله الْكُوفِي التَّابِعِيّ. قَوْله: (إِذا أذن لَهُ) أَي: إِذا أذن الشَّرِيك لصَاحبه فِي البيع قبل البيع سقط حَقه فِي الشُّفْعَة، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه ابْن أبي شيبَة بِلَفْظ: (إِذا أذن المُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرى فَلَا شُفْعَة لَهُ) . وَرَوَاهُ وَكِيع عَن سُفْيَان عَن أَشْعَث عَن الحكم: (إِذا أذن الشَّفِيع للْمُشْتَرِي فِي الشِّرَاء فَلَا شُفْعَة لَهُ) . وَقَالَ ابْن التِّين: قَول الحكم بن عتيبة هَذَا قَالَ بِهِ سُفْيَان، وَخَالَفَهُمَا مَالك، وَقَالَ: لَا يلْزمه إِذْنه بذلك، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا الْعرض مَنْدُوب إِلَيْهِ كَمَا فعل أَبُو رَافع على مَا يَأْتِي حَدِيثه عَن قريب وَفِي (التَّوْضِيح) : وَإِذا أذن لَهُ شَرِيكه فِي بيع نصِيبه ثمَّ رَجَعَ فطالبه بِالشُّفْعَة؟ فَقَالَت طَائِفَة: لَا شُفْعَة لَهُ، وَهَذَا قَول الْحسن وَالثَّوْري وَأبي عبيد وَطَائِفَة من أهل الحَدِيث، وَقَالَت طَائِفَة: إِن عرض عَلَيْهِ الْأَخْذ بِالشُّفْعَة قبل البيع فَأبى أَن يَأْخُذ، ثمَّ بَاعَ فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ بشفعه، فَذَلِك لَهُ، هَذَا قَول مَالك والكوفيين، وَرِوَايَة عَن أَحْمد. وَقَالَ ابْن بطال: وَيُشبه مَذْهَب الشَّافِعِي. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهُوَ مذْهبه، وَحكى أَيْضا عَن عُثْمَان البتي وَابْن أبي ليلى، وَاحْتج أَحْمد، فَقَالَ: لَا تجب لَهُ الشُّفْعَة حَتَّى يَقع البيع، فَإِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك. وَقد احْتج بِمثلِهِ ابْن أبي ليلى، وَذكر الرَّافِعِيّ، قَالَ مَالك: إِذا بَاعَ المُشْتَرِي نصِيبه من أَجْنَبِي وشريكه حَاضر يعلم بَيْعه فَلهُ الْمُطَالبَة بِالشُّفْعَة مَتى شَاءَ، وَلَا تَنْقَطِع شفعته إلاَّ بِمُضِيِّ مُدَّة يعلم أَنه فِي مثلهَا تَارِك، وَاخْتلف فِي الْمدَّة، فَقيل: سنة، وَقيل: فَوْقهَا، وقييل: فَوق ثَلَاث، وَقيل: فَوق خمس، حَكَاهَا ابْن الْحَاجِب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا وَقع البيع فَعلم الشَّفِيع بِهِ، فَإِن أشهد فِي مَكَانَهُ أَنه على شفعته وَإِلَّا بِطَلَب شفعته، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي: إلاَّ أَن يكون لَهُ عذر مَانع من طلبَهَا من حبس أَو غَيره فَهُوَ على شفعته.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ منْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وهْوَ شاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُها فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ
الشّعبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير، قَالَ مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن الفداني عَن الشّعبِيّ: إِنَّه قَالَ: أدْركْت خَمْسمِائَة من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُونَ: عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر فِي الْجنَّة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَتَعْلِيق الشّعبِيّ وَصله ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع حَدثنَا يُونُس بن أبي إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعت الشّعبِيّ يَقُول بِهِ. وَفِيه: لَا ينكرها، بدل: لَا يغيرها.
8522 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي إبْرَاهِيمُ بنُ مَيْسَرَةَ عنْ عَمْرٍ وبنِ الشَّرِيدِ قَالَ وقَفْتُ علَى سَعْدِ بنِ أبِي وقَّاصٍ فَجاءَ المِسْوَرُ بنُ مَحْرَمَةَ فوَضَعَ يَدَهُ عَلى إحْدَى مَنْكِبَيَّ إذْ جاءَ أبُو رَافِعٍ مَوْلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا سَعْدُ ابْتَعْ مِنِّي بَيْتِي فِي دَارِكَ فَقَالَ سعْدٌ وَالله مَا أبْتَاعُهُمَا فَقَالَ المِسْوَرُ وَالله لتَبْتَاعَنَّهُما فَقَالَ سَعْدٌ وَالله لَا أزِيدُكَ عَلى أرْبَعَةِ آلافٍ مُنَجَّمَةٍ أوْ مُقَطَّعَةٍ. قَالَ أبُو رَافِعٍ لَقَدْ أعْطَيْتُ بِها خَمْسَمِائَةِ دِينارٍ ولَوْلاَ أنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ الجارُ أحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أعْطَيْتُكَها بأرْبَعَةِ آلافٍ وَأَنا أَعْطَى بِها خَمْسَمائَةِ دِينَارٍ فأعْطَاها إيَّاهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ابتع مني بَيْتِي الَّذِي فِي دَارك) فَفِي ذَلِك عرض الشَّرِيك بِالْبيعِ شَرِيكه لأجل شفعته قبل صُدُور البيع.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد أَبُو السكن الْحَنْظَلِي الْبَلْخِي.(12/73)
الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن ميسرَة ضد الميمنة وَقد مر فِي: بَاب الدّهن للْجُمُعَة. الرَّابِع: عَمْرو بن الشريد، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: أَبُو الْوَلِيد، قَالَ الْعجلِيّ: حجازي تَابِعِيّ ثِقَة. وَأَبوهُ الشريد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ صَحَابِيّ شهد الْحُدَيْبِيَة. الْخَامِس: سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء وَإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا، تقدم فِي آخر كتاب الْوضُوء. السَّابِع: أَبُو رَافع، واسْمه أسلم، بِلَفْظ أفعل التَّفْضِيل: القبطي، كَانَ للْعَبَّاس فوهبه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا بشر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْلَام الْعَبَّاس أعْتقهُ، مَاتَ فِي أول خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، واحدهم صَحَابِيّ ابْن صَحَابِيّ، وَهُوَ الْمسور بن مخرمَة، فَإِن مخرمَة: من مسلمة الْفَتْح، وَمن الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، وَشهد حنينا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن عَم سعد بن أبي وَقاص. وَفِيه: أَن شَيْخه بلخي، كَمَا ذكرنَا، وَأَن ابْن جريج وَإِبْرَاهِيم مكيان وَعَمْرو بن شريد طائفي وَهُوَ من أوساط التَّابِعين وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث وَفِيه: إِبْرَاهِيم عَن عَمْرو، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان على مَا يَأْتِي فِي ترك الْحِيَل عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة سَمِعت عَمْرو بن الشريد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ترك الْحِيَل عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة وَعَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأبي نعيم: كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَعَن مُسَدّد عَن يحيى عَن الثَّوْريّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن النُّفَيْلِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي نعيم بيه، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة، وَعلي بن مُحَمَّد وَعبد الله بن الْجراح، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِحْدَى مَنْكِبي) ذكره ابْن التِّين هَكَذَا بِلَفْظ إِحْدَى، وَأنْكرهُ بَعضهم، وَقَالَ: الْمنْكب مُذَكّر، وبخط الْحَافِظ الدمياطي: أحد مَنْكِبي. قَوْله: (إِذْ جَاءَ) كلمة: إِذْ، للمفاجأة مُضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وجوابها قَوْله: فَقَالَ: يَا سعد. قَوْله: (إبتعْ مني) أَي: إشترِ مني. قَوْله: (بَيْتِي فِي دَارك) أَي: بَيْتِي الكائنين فِي دَارك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَيْتِي، بِلَفْظ الْمُفْرد والتثنية، وَلِهَذَا جَاءَت الضمائر الَّتِي بعده مثنى ومفردا مؤنثا بِتَأْوِيل الْبَيْت بالبقعة. قَوْله: (مَا ابتاعهما) ، أَي: مَا اشتريهما. قَوْله: (لتبتاعنهما) ، اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد وَكَذَلِكَ نون التَّأْكِيد، إِمَّا مُخَفّفَة وَإِمَّا مثقلة. قَوْله: (منجمة) ، أَي: موظفة، والنجم: الْوَقْت الْمَضْرُوب. قَوْله: (أَو مقطعَة) ، شكّ من الرَّاوِي وَالْمرَاد: مُؤَجّلَة يُعْطي شَيْئا فَشَيْئًا. قَوْله: (أَرْبَعَة آلَاف) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ فِي ترك الْحِيَل: أَرْبَعمِائَة مِثْقَال، وَهُوَ يدل على أَن المثقال إِذْ ذَاك عشرَة دَرَاهِم. قَوْله: (لقد أَعْطَيْت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَأَنا أعطي بهَا) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه على إِثْبَات الشُّفْعَة للْجَار، وأوله الْخصم على أَن المُرَاد بِهِ الشَّرِيك بِنَاء على أَن أَبَا رَافع كَانَ شريك سعد فِي الْبَيْتَيْنِ، وَلذَلِك دَعَاهُ إِلَى الشِّرَاء مِنْهُ، ورد هَذَا بِأَن ظَاهر الحَدِيث أَن أَبَا رَافع كَانَ يملك بَيْتَيْنِ من جملَة دَار سعد لَا شِقْصا شَائِعا من دَار سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذكر عمر بن شبة أَن سَعْدا كَانَ اتخذ دارين بالبلاط مُتَقَابلين بَينهمَا عشرَة أَذْرع، وَكَانَت الَّتِي عَن يَمِين الْمَسْجِد مِنْهُمَا لأبي رَافع، فاشتراها سعد مِنْهُ، ثمَّ سَاق حَدِيث الْبَاب، فَاقْتضى كَلَامه أَن سَعْدا كَانَ جارا لأبي رَافع قبل أَن يَشْتَرِي مِنْهُ دَاره لَا شَرِيكا. وَقيل: الْجَار، لما احْتمل مَعَاني كَثِيرَة: مِنْهَا: أَن كل من قَارب بدنه بدن صَاحبه قيل لَهُ جَار فِي لِسَان الْعَرَب. وَمِنْهَا: يُقَال لامْرَأَة الرجل جارته لما بَينهمَا من الِاخْتِلَاط بِالزَّوْجِيَّةِ. وَمِنْهَا: أَنه يُسمى الشَّرِيك جارا لما بَينهمَا من الِاخْتِلَاط بِالشّركَةِ وَغير ذَلِك من الْمعَانِي، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون لفظ الْحَار فِي الحَدِيث مُجملا. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا وَقعت الْحَد فَلَا شُفْعَة) كَانَ مُفَسرًا فَالْعَمَل بِهِ أولى من الْعَمَل بالمجمل. قلت: دَعْوَى الْإِجْمَال هُنَا دَعْوَى فَاسِدَة لعدم الدَّلِيل على ذَلِك، وَفِي (مُصَنف) عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن شُرَيْح: الخليط أَحَق من غَيره. وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شبة: عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: الشَّرِيك أَحَق بِالشُّفْعَة، فَإِن لم يكن شريك فالجار، وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الشَّرِيك غير الْجَار، فَإِن المُرَاد بالجار هُوَ صَاحب(12/74)
الدَّار الملاصقة بدار غَيره. وَفِيه: ثُبُوت الشُّفْعَة مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الَّذِي لَهُ الشُّفْعَة حَاضرا أَو غَائِبا، وَسَوَاء كَانَ بدويا أَو قرويا، مُسلما أَو ذِمِّيا، صَغِيرا أَو كَبِيرا أَو مَجْنُونا إِذا أَفَاق. وَقَالَ قوم من السّلف: لَا شُفْعَة لمن لم يسكن فِي الْمصر وَلَا للذِّمِّيّ، قَالَه الشّعبِيّ والْحَارث العكلي والبتي، وَزَاد الشّعبِيّ: وَلَا لغَائِب، وَقَالَ ابْن أبي ليلى: وَلَا شُفْعَة لصغير، وَقَالَ الشّعبِيّ: لَا تبَاع الشُّفْعَة وَلَا توهب وَلَا تعار، هِيَ لصَاحِبهَا الَّذِي وَقعت لَهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم فِيمَا نَقله الْأَثْرَم: لَا تورث، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن سِيرِين، وَقَالَ ابْن حزم: قَالَ عبد الرَّزَّاق: وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق وَالْحسن بن حَيّ وَأبي سُلَيْمَان، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: تورث. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة أَن الشُّفْعَة تبطل بِمَوْت الشَّفِيع قبل الْأَخْذ بعد الطّلب أَو قبله، فَلَا تورث عَنهُ وَلَا تبطل بِمَوْت المُشْتَرِي لوُجُود الْمُسْتَحق. وَفِيه: مَا يدل على مَكَارِم الْأَخْلَاق لِأَن أَبَا رَافع بَاعَ من سعد بِأَقَلّ مِمَّا أعطَاهُ غَيره، فَهُوَ من بَاب الْإِحْسَان وَالْكَرم، وَإِذا اخْتلف الشَّفِيع وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَار الثّمن فَالْقَوْل للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مُنكر، وَلَا يَتَحَالَفَانِ، فَإِن برهنا فَالْبَيِّنَة بَيِّنَة الشَّفِيع عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، وَعند أبي يُوسُف: الْبَيِّنَة بَيِّنَة المُشْتَرِي، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: تهاترتا وَالْقَوْل للْمُشْتَرِي، وعنهما: يقرع، وَعند مَالك: يحكم للأعدل وإلاَّ فباليمين.
3 - (بابٌ أيُّ الجِوَارِ أقْرَبُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَي الْجوَار أقرب إِذا كَانَ ثمَّة جيران، وَقد ذكرنَا أَن الْجَار الَّذِي يسْتَحق الشُّفْعَة هُوَ الْجَار الملاصق، وَهُوَ الَّذِي دَاره على ظهر الدَّار المشفوعة، وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ، والجوار بِضَم الْجِيم وَكسرهَا.
9522 - حدَّثنا حَجَّاجٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ ح وحدَّثني عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا شبَابَةُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا أبُو عِمْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ طَلْحَةَ بنَ عَبْدِ الله عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قُلْتُ يَا رسولَ الله إنَّ لِي جارَيْنِ فإلَى أيِّهِما أُهْدِي قَالَ إِلَى أقرَبِهِما منْكِ بَابا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه أوضح أَي الْجوَار أقرب.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: حجاج هُوَ ابْن منهال السّلمِيّ الْأنمَاطِي، وَلَيْسَ هُوَ حجاج بن مُحَمَّد الْأَعْوَر، وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا قد روى عَن شُعْبَة، لِأَن البُخَارِيّ سمع من حجاج ابْن منهال وَلم يسمع من حجاج بن مُحَمَّد، وَلَكِن روى لَهُ. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عَليّ بن عبد الله، كَذَا وَقع فِي النِّسْبَة فِي رِوَايَة ابْن السكن وكريمة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَقع غير مَنْسُوب حَيْثُ قَالَ: حَدثنِي عَليّ فَقَط، وَعَن هَذَا اخْتلفُوا فِيهِ من هُوَ؟ فَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: هُوَ عَليّ بن سَلمَة اللبقي، بِفَتْح اللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالقاف: النييسابوري، وَبِه جزم الكلاباذي، وَابْن طَاهِر، وَهُوَ الَّذِي ثَبت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَقَالَ ابْن شبويه: هُوَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَهُوَ الْأَظْهر، لِأَن فِي كثير من الْمَوَاضِع يُطلق البُخَارِيّ الرِّوَايَة عَن عَليّ، وَإِنَّمَا يقْصد بِهِ عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَلِأَن الْعَادة أَنه إِذا أطلق ينْصَرف إِلَى من يكون أشهر، وَلَا شكّ أَن ابْن الْمَدِينِيّ أشهر من اللبقي. الرَّابِع: شَبابَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف البائين الموحدتين بَينهمَا ألف: ابْن سوار الْفَزارِيّ أَبُو عَمْرو، وَقد مر فِي: بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء. الْخَامِس: أَبُو عمرَان، واسْمه: عبد الْملك بن حبيب ضد الْعَدو الْجونِي، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وبالنون. السَّادِس: طَلْحَة بن عبد الله، قَالَ الْحَافِظ الْمزي: هُوَ طَلْحَة ابْن عبد الله بن عُثْمَان بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيّ، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ طَلْحَة بن عبد الله الْخُزَاعِيّ، وَالأَصَح مَا قَالَه الْمزي، لِأَن البُخَارِيّ أخرج حَدِيث الْبَاب فِي الْهِبَة من طَرِيق غنْدر عَن شُعْبَة، فَقَالَ: طَلْحَة بن عبد الله رجل من بني تيم بن مرّة، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب: عَن شُعْبَة عَن طَلْحَة بن عبد الله الْخُزَاعِيّ، وَقَالَ الْحَارِث بن عبد الله: عَن أبي عمرَان الْجونِي عَن طَلْحَة، وَلم ينْسبهُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَسليمَان بن الْأَشْعَث: قَالَ شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث: عَن طَلْحَة، رجل من قُرَيْش. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: قَالَ يحيى بن يُونُس عَن شُعْبَة: أَخْبرنِي أَبُو عمرَان أَنه سمع طَلْحَة عَن عَائِشَة، قَالَ شُعْبَة: وَأَظنهُ سَمعه من عَائِشَة وَلم يقل سمعته مِنْهَا. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي(12/75)
موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَنه من أَفْرَاده، وَأَن شُعْبَة واسطي وَعلي بن عبد الله مديني وشبابة مدائني، وَأَن أَبَا عمرَان بَصرِي. وَفِيه: أَنه لَيْسَ لطلْحَة بن عبد الله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده لم يُخرجهُ مُسلم، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن حجاج، وَفِي الْهِبَة عَن ابْن بشار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد وَسَعِيد بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أهدي) ، بِضَم الْهمزَة من الإهداء، وَقَالَ الْمُهلب: وَإِنَّمَا أَمر بالهدية إِلَى من قرب بَابه لِأَنَّهُ ينظر إِلَى مَا يدْخل دَار جَاره وَمَا يخرج مِنْهَا، فَإِذا رأى ذَلِك أحب أَن يُشَارك فِيهِ، وَأَنه أسْرع إِجَابَة لجاره عِنْدَمَا ينوبه من حَاجَة إِلَيْهِ فِي أَوْقَات الْغَفْلَة والغرة، فَلذَلِك بَدَأَ بِهِ على من بعد بَاب دَاره وَإِن كَانَت دَاره أقرب، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهَذَا الحَدِيث دَال على أَن اسْم الْجَار يَقع على غير الملاصق، لِأَنَّهُ قد يكون لَهُ جَار ملاصق وبابه من سكَّة غير سكته، وَله جَار بَينه وَبَين بَابه قدر ذراعين وَلَيْسَ بملاصق، وَهُوَ أدناهما بَابا. وَقد خرج أَبُو حنيفَة عَن ظَاهر الحَدِيث، فَقَالَ: إِن الْجَار الملاصق إِذا ترك الشُّفْعَة وطلبها الَّذِي يَلِيهِ وَلَيْسَ لَهُ حد وَلَا طَرِيق فَلَا شُفْعَة لَهُ، وعوام الْعلمَاء يَقُولُونَ: إِذا أوصى رجل لجيرانه أعْطى اللزيق وَغَيره إلاَّ أَبَا حنيفَة، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يعْطى إلاَّ اللزيق وَحده. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَ: خرج أَبُو حنيفَة عَن ظَاهر الحَدِيث، خرج عَن ظَاهر الْأَدَب، وَلَا ينْقل عَن إِمَام مثل أبي حنيفَة شَيْء مِمَّا قَالَه إلاَّ بمراعاة الْأَدَب، فَإِن الَّذِي ينْقل عَنهُ شَيْئا من بعده لَا يُسَاوِي مِقْدَاره وَلَا يدانيه لَا فِي الدّين وَلَا فِي الْعلم، وَأَبُو حنيفَة لَا يذهب إِلَى شَيْء إلاَّ بعد أَن يُحَقّق مدركه والسر فِيهِ، وَالْأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل، وَلَا يدْرِي هَذَا إلاَّ من يقف على مداركها، والسر فِي وجوب الشُّفْعَة دفع الْأَذَى من الْخَارِج، وَلِهَذَا قدم الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع، ثمَّ من بعده الشَّرِيك فِي حق الْمَبِيع، ثمَّ من بعدهمَا للْجَار، وَلَا يحصل الضَّرَر فِي منع الشُّفْعَة إلاَّ للْجَار الملاصق لاتصال الجدران، وَوضع الأخشاب بَينه وَبَين صَاحب الْملك، وَلَا مُنَاسبَة بَين الْجَار الَّذِي لَهُ الشُّفْعَة وَبَين الْجَار الَّذِي أوصى إِلَيْهِ بشء، لِأَن أَمر الشُّفْعَة مَبْنِيّ على الْقَهْر، بِخِلَاف الْوَصِيَّة. وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْوَصِيَّة لجيرانه الملاصقين لأَنهم الْجِيرَان تَسْمِيَة وَعرفا، وَفِي مَذْهَب عوام الْعلمَاء عسر عَظِيم، بل لَا يحصل فِيهِ فَائِدَة على قَول من يَقُول: أهل الْمَدِينَة كلهم جيران، وَفِي (مَرَاسِيل) أبي دَاوُد: عَن ابْن شهَاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَرْبَعُونَ دَارا جَار. قَالَ يُونُس: قلت لِابْنِ شهَاب: وَكَيف أَرْبَعُونَ دَارا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ عَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَخَلفه وَبَين يَدَيْهِ. وَعَن الْحسن أَرْبَعُونَ من هُنَا وَأَرْبَعُونَ من جوانبها الْأَرْبَع أَرْبَعُونَ أَرْبَعُونَ أَرْبَعُونَ، وَلَو فَرضنَا أَن شخصا من أهل مصر أوصى بِثلث مَاله لجيرانه، فَخرج ثلث مَاله عشرَة دَرَاهِم مثلا، فعلى قَول الْحسن يعْطى هَذِه الْعشْرَة لمِائَة وَعشْرين نفسا، فَيحصل لكل وَاحِد مَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة وَلَا ينْتَفع بِهِ الْمُوصى إِلَيْهِ، وَأما على قَول: أهل الْمَدِينَة كلهم جيران، فَحكمه حكم الْعَدَم، فَلَا يحصل مَقْصُود الْمُوصي وَلَا مَقْصُود الْمُوصى لَهُم. فَإِذا قُلْنَا: الْجِيرَان هم الملاصقون لَا يفوت شَيْء من ذَلِك وَيحصل مَقْصُود الْمُوصي من ذَلِك أَيْضا. وَقَالَ ابْن بطال: لَا حجَّة فِي هَذَا الحَدِيث لمن أوجب الشُّفْعَة بالجوار، لِأَن عَائِشَة إِنَّمَا سَأَلت عَمَّن تبدأ بِهِ من جِيرَانهَا بالهدية، فَأَخْبرهَا بِأَن من قرب أولى من غَيره. انْتهى. قلت: إِنَّمَا كَانَ مُرَاد ابْن بطال من هَذَا الْكَلَام التسميع للحنفية فهم مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَلَئِن سلمنَا أَنهم احْتَجُّوا بِهِ فَلهم ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ إِلَى أَن الْأَقْرَب أولى، فالجار الملاصق أقرب من غَيره فَيكون أَحَق من غَيره، وَلَا سِيمَا بِأَنَّهُ بَاب الْإِكْرَام وَبَاب الإهداء على التعهد والتفضل وَالْإِحْسَان. قَوْله: (قَالَ إِلَى أقربهما مِنْك بَابا) أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِلَى أقرب الجارين من حَيْثُ الْبَاب، وَهنا اسْتعْمل أفعل التَّفْضِيل بِوَجْهَيْنِ، مَعَ أَنه لَا يسْتَعْمل إلاَّ بِأحد الْوُجُوه الثَّلَاثَة، لِأَنَّهُ لم يسْتَعْمل إلاَّ بِالْإِضَافَة. وَأما كلمة: من، فَهِيَ من صلَة الْقرب، كَمَا يُقَال: قرب من كَذَا.
وَفِيه: افتقاد الْجِيرَان بإرسال شَيْء إِلَيْهِم، وَلَا سِيمَا إِذا كَانُوا فُقَرَاء وَفِيهِمْ أَغْنِيَاء، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُؤمن أحدكُم بِبَيْت شبعان وجاره طاوٍ) وَقد أوصى الله تَعَالَى بالجار. فَقَالَ: {وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجنب} (النِّسَاء: 63) . وَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا زَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يوصيني بالجار حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيورثه) .(12/76)
73 - (كِتَابُ الإجَارَة)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْإِجَارَة وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي الْإِجَارَات، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ قَوْله: فِي الْإِجَارَات، وَكَذَا لَيْسَ فِي رِوَايَة البَاقِينَ لفظ: كتاب الْإِجَارَة، وَالْإِجَارَة على وزن فعالة، بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَة اسْم للأجرة، وَهُوَ كِرَاء الْأَجِير، وَقد أجره إِذا أعطَاهُ أجرته من بَابي طلب وَضرب فَهُوَ آجر، وَذَاكَ مأجور، وَفِي كتاب (الْعين) : آجرت مملوكي أَو جَرّه إيجارا فَهُوَ موجر، وَفِي (الأساس) : أجرني دَاره فاستأجرتها، وَهُوَ مؤجر، وَلَا تقل مؤاجر فَإِنَّهُ خطأ فَاحش، وَتقول: أجره إِذا أعطَاهُ أجرته، وَإِذا نقلته إِلَى بَاب الإفعال تَقول: أجر، بِالْمدِّ لِأَن أَصله: اءجر، بهمزتين إِحْدَاهمَا فَاء الْفِعْل وَالْأُخْرَى همزَة أفعل، فقلبت الْهمزَة الثَّانِيَة ألفا للتَّخْفِيف فَصَارَ: آجر، على وزن أفعل، فاسم الْفَاعِل من الأول: آجر، وَمن الثَّانِي: مؤجر، وَفِي الشَّرْع: الْإِجَارَة عقد الْمَنَافِع بعوض، وَقيل: تمْلِيك الْمَنَافِع بعوض، وَقيل: بيع مَنْفَعَة مَعْلُومَة بِأَجْر مَعْلُوم، وَهَذَا أحسن.
1 - (بابٌ فِي استِئْجارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان استيجار الرجل الصَّالح، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قصَّة مُوسَى مَعَ ابْنة شُعَيْب، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {إنَّ خَيْرَ منِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ} (الْقَصَص: 62) .
وَقَوله الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فِي استيجار الرجل الصَّالح، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن خير من اسْتَأْجَرت. .} (الْقَصَص: 62) . الْآيَة. وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي (تَفْسِيره) : هَذَا قَول صفوراء ابْنة شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الَّتِي تزَوجهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت توأمة عبوراء، ولدت صفوراء قبلهَا بِنصْف يَوْم، وَكَانَ بَين الْمَكَان الَّذِي سقى فِيهِ الْغنم وَبَين شُعَيْب ثَلَاثَة أَمْيَال فَمشى مَعهَا وأمرها أَن تمشي خَلفه وتدله على الطَّرِيق، كَرَاهِيَة أَن ينظر إِلَيْهَا وهما على غير جادة، فَقَالَ شُعَيْب لابنته: من أَيْن علمت قوته وأمانته؟ فَقَالَت: أَزَال الْحجر عَن رَأس الْبِئْر، وَكَانَ لَا يطيقه إلاَّ رجال، وَقيل: أَرْبَعُونَ رجلا. وَذكرت أَنه أمرهَا أَن تمشي خَلفه كَرَاهَة أَن ينظر إِلَيْهَا، وسأوضح لَك هَذِه الْقِصَّة حَتَّى تقف على حَقِيقَتهَا مَعَ اخْتِصَار غير مخل.
لما قتل مُوسَى القبطي كَمَا أخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن، فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ، فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب الْأَخْبَار، وَأمر فِرْعَوْن الذباحين بقتل مُوسَى، فَجَاءَهُ رجل من شيعته يُقَال لَهُ: خربيل، وَكَانَ قد آمن بإبراهيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصدق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن، وَقَالَ لَهُ: إِن الْمَلأ يأتمرون بك، أَي: يتشاورون فِي قَتلك فَاخْرُج من هَذِه الْمَدِينَة إِنِّي لَك من الناصحين، فَخرج وَلم يدر أَيْن يذهب، فَجَاءَهُ ملك ودله على الطَّرِيق، فهداه إِلَى مَدين وَبَينهَا وَبَين مصر مسيرَة ثَمَانِيَة أَيَّام، وَقيل: عشرَة، وَكَانَ يَأْكُل من ورق الشّجر وَيَمْشي حافيا حَتَّى ورد مَاء مَدين وَنزل عِنْد الْبِئْر، وَإِذا بجنبه أمة من النَّاس يسقون، وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان أَي: تمنعان أغنامهما عَن الِاخْتِلَاط بأغنام النَّاس، فَقَالَ لَهما: {مَا خطبكما قَالَتَا لَا نسقي حَتَّى يصدر الرعاء} (الْقَصَص: 32) . لأَنا ضعفاء لَا نقدر على مزاحمتهم {وأبونا شيخ كَبِير} (الْقَصَص: 52) . تعنيان شعيبا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور أَنه شُعَيْب النَّبِي،، وَقيل: إِنَّه ابْن أخي شُعَيْب، ذكره أَحْمد فِي (تَفْسِيره) وَذكر السُّهيْلي أَن شعيبا هُوَ شيرون بن ضيفون بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُقَال: شُعَيْب بن ملكاين، وَقيل: شيرون ابْن أخي شُعَيْب، وَقيل: ابْن عَم شُعَيْب، وَقَالَ وهب: اسْم ابْنَته الْكُبْرَى صفوراء، وَاسم الصُّغْرَى عبوراء،، وَقيل: اسْم إحديهما شرفا، وَقيل: ليا، وَالْمَقْصُود: لما جَاءَ إِلَى شُعَيْب بعد أَن فعل مَا ذكرنَا، قصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص، قَالَ: {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} (الْقَصَص: 62) . و {قَالَت إِحْدَاهمَا} (الْقَصَص: 32) . وَهِي صفوراء {يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين} (الْقَصَص: 62) . فَقَالَ لَهَا شُعَيْب، وَمَا علمك بِهَذَا؟ فَأخْبرت بِالَّذِي فعله مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ شُعَيْب: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين} (الْقَصَص: 72) . إِلَى آخر الْآيَة، وَكَانَ فِي شرعهم: يجوز تَزْوِيج الْمَرْأَة على رعي الْغنم، وَأما فِي شرعنا فَفِيهِ خلاف مَشْهُور، وَقَالَ مُوسَى: {ذَلِك بيني وَبَيْنك ... } (الْقَصَص: 82) . الْآيَة.(12/77)
والخَازِنُ الأمِينُ ومنْ لَمْ يَسْتعْملْ مَنْ أرَادَهُ
هَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة، وَلها جزآن: أَحدهمَا: قَوْله: والخازن الْأمين. وَالْآخر: قَوْله: وَمن لم يسْتَعْمل من أَرَادَهُ، وَقد ذكر بعد لكل وَاحِد حَدِيثا، فَالْحَدِيث الأول للجزء الأول وَالثَّانِي للثَّانِي، وَمعنى: من لم يسْتَعْمل من أَرَادَهُ الإِمَام الَّذِي لم يسْتَعْمل الَّذِي أَرَادَ الْعَمَل، لِأَن الَّذِي يُريدهُ يكون طلبه لِحِرْصِهِ فَلَا يُؤمن عَلَيْهِ.
1622 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عَن قرَّةَ بنِ خالِدٍ قَالَ حدَّثني حُمَيْدُ بنُ هِلال قَالَ حدَّثنا أبُو بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أقْبَلْتُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعِي رَجلانِ منَ الأشْعَرِيِّينَ فَقُلْتُ مَا عَلِمْتُ أنَّهُمَا يَطْلُبَانِ العَمَلَ فقالَ لَنْ أوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلى عَمَلِنَا مَنْ أرَادَهُ. .
مطابقته لقَوْله: وَمن لم يسْتَعْمل من أَرَادَهُ، ظَاهِرَة وَأما وَجه دُخُوله فِي هَذَا الْبَاب فَلِأَن الَّذِي يطْلب الْعَمَل إِنَّمَا يَطْلُبهُ غَالِبا لتَحْصِيل الْأُجْرَة الَّتِي شرعت لَهُ، وَهَذَا كَانَ فِي ذَلِك الزَّمَان، وَأما الَّذِي يطْلب الْعَمَل فِي زَمَاننَا هَذَا فَلَا يَطْلُبهُ إلاَّ لتَحْصِيل الْأَمْوَال، سَوَاء كَانَ من الْحَلَال أَو الْحَرَام، وللأمر وَالنَّهْي بِغَيْر طَرِيق شَرْعِي، بل غَالب من يطْلب الْعَمَل إِنَّمَا يَطْلُبهُ بالبراطيل والرشوة، وَلَا سِيمَا فِي مصر، فَإِن الْأَمر فَاسد جدا فِي الْعمَّال فِيهَا حَتَّى إِن أَكثر الْقُضَاة يتولون بالرشوة وَهَذَا غير خَافَ على أحد، فنسأل الله الْعَفو والعافية.
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وقرة، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء: ابْن خَالِد أَبُو مُحَمَّد، وَأَبُو خَالِد السدُوسِي الْبَصْرِيّ، وَحميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن هِلَال بن هُبَيْرَة الْعَدوي الْهِلَالِي الْبَصْرِيّ مر فِي: بَاب يرد الْمُصَلِّي من بَين يَدَيْهِ، وَأَبُو بردة عَامر، وَقد مضى الْآن.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مُخْتَصرا وَمُطَولًا فِي الْإِجَارَة وَالْأَحْكَام وَفِي استنابة الْمُرْتَدين عَن مُسَدّد عَن يحيى وَفِي الْأَحْكَام أَيْضا عَن عبد الله بن الصَّباح. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي قدامَة وَمُحَمّد بن حَاتِم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحُدُود عَن أَحْمد بن حَنْبَل ومسدد بِتَمَامِهِ وَفِي القضايا عَن أَحْمد بن حَنْبَل(12/78)
بِبَعْضِه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة وَفِي الْقَضَاء عَن عَمْرو بن عَليّ، خمستهم عَن يحيى بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ومعى) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (من الْأَشْعَرِيين) أَي: من الْجَمَاعَة الْأَشْعَرِيين، والأشعري نِسْبَة إِلَى الْأَشْعر وَهُوَ نبت بن أدد بن يشحب بن عريب بن يزِيد بن كهلان، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْأَشْعَرِيّ، لِأَن أمه وَلدته وَهُوَ أشعر. قَوْله: (فَقلت) ، الْقَائِل هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَي: فَقلت: يَا رَسُول الله! مَا علمت أَنَّهُمَا أَي: أَن الرجلَيْن يطلبان الْعَمَل. وَسَيَجِيءُ فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَفِيه: معي رجلَانِ من الْأَشْعَرِيين وَكِلَاهُمَا سَأَلَا، أَي: الْعَمَل، فَقلت: وَالَّذِي بَعثك مَا أطلعت على مَا فِي أَنفسهمَا وَلَا علمت أَنَّهُمَا يطلبان الْعَمَل ... الحَدِيث. قَوْله: (فَقَالَ: لن أَو لَا) أَي: فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لن نستعمل على عَملنَا من أَرَادَهُ) ، وَقَوله: أوَ، لَشك الرَّاوِي، أَي: لَا نولي من أَرَادَ الْعَمَل. وَذكر ابْن التِّين أَنه ضبط فِي بعض النّسخ: لن أولي، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة، مضارع فعل من التَّوْلِيَة. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي: فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون لفظ: نستعمل، زَائِد، أَو يكون تَقْدِير الْكَلَام: لن أولى على عَملنَا، وَقد وَقع هَذَا الحَدِيث فِي الْأَحْكَام من طَرِيق بريد بن عبد الله عَن أبي بردة بِلَفْظ: إِنَّا لَا نولي على عَملنَا، وَهَذَا يُؤَيّد مَا ذكره الشَّيْخ قطب الدّين، رَحمَه الله. وَقَالَ ابْن بطال: لما كَانَ طلب العمالة دلَالَة على الْحِرْص وَجب أَن يحْتَرز من الْحَرِيص عَلَيْهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا نهي، وَظَاهره التَّحْرِيم، كَمَا قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تسْأَل الْإِمَارَة وَإِنَّا وَالله لَا نولي على عَملنَا هَذَا أحدا يسْأَله ويحرص عَلَيْهِ) ، فَلَمَّا أعرض عَنْهُمَا وَلم يولهما لحرصهما، ولى أَبَا مُوسَى الَّذِي لَا يحرص عَلَيْهَا والسائل الْحَرِيص يُوكل إِلَيْهَا وَلَا يعان عَلَيْهَا.
2 - (بابُ رَعْي الغَنمِ عَلى قَرَارِيطَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رعي الْغنم على قراريط، وَهُوَ جمع قراط بتَشْديد الرَّاء فأبدل أحد حرفي التَّضْعِيف يَاء، وَمثل هَذَا كثير فِي لُغَة الْعَرَب، والقيراط نصف دانق، وَقيل: هُوَ نصف عشر الدِّينَار، وَقيل: هُوَ جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جُزْءا، وَقَالَ بَعضهم: على، هُنَا بِمَعْنى: الْبَاء، وَهِي للسَّبَبِيَّة أَو الْمُعَاوضَة، وَقيل: إِنَّهَا للظرفية. قلت: تَجِيء، على، بِمَعْنى: الْبَاء، نَحْو: حقيق عَليّ أَن لَا أَقُول، وَقد قَرَأَهُ أبي بِالْبَاء، وَلَكِن كَونهَا للسَّبَبِيَّة غير بعيد، وَكَذَلِكَ كَونهَا للمعاوضة، إِلَّا أَن كَونهَا للظرفية بعيد أللهم إلاَّ أَن يُقَال: إِن القراريط، إسم مَوضِع.
2622 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ جَدِّهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا بَعَثَ الله نَبِيَّا إلاَّ رَعَى الغَنَمَ فَقَالَ أصْحَابُهُ وأنْتَ فَقَالَ نَعَمْ كُنْتُ أرْعَاهَا عَلى قرَاريطَ لأِهْلِ مَكَّةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كنت أرعاها على قراريط لأهل مَكَّة) .
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ، وَيُقَال: الزرقي. الثَّانِي: عَمْرو بن يحيى بن سعيد. الثَّالِث: جده سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه من أَفْرَاده، وهما مكيان، وَأَن سعيد بن عَمْرو جد عَمْرو بن يحيى مدنِي الأَصْل، كَانَ مَعَ أَبِيه إِذْ غلب على دمشق، فَلَمَّا قتل أَبوهُ سيره عبد الْملك بن مَرْوَان مَعَ أهل بَيته إِلَى الْحجاز ثمَّ سكن الْكُوفَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مر فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا فِي التِّجَارَات عَن سُوَيْد بن سعيد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إلاَّ راعي الْغنم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ راعي الْغنم. قَوْله: (وَأَنت) ، أَي: وَأَنت أَيْضا رعيت الْغنم، فَقَالَ: نعم. قَوْله: (على قراريط) ، وَاخْتلف فِي القراريط، فَقيل: هِيَ قراريط النقط، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن سُوَيْد بن سعيد عَن عَمْرو بن يحيى: كنت أرعاها لأهل مَكَّة بالقراريط، وَقَالَ سُوَيْد: شيخ ابْن ماجة، يَعْنِي: كل شَاة بقيراط، يَعْنِي:(12/79)
القيراط الَّذِي هُوَ جُزْء من الدِّينَار أَو الدِّرْهَم وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قراريط اسْم مَوضِع بِمَكَّة قرب جِيَاد وَلم يرد القراريط من النَّقْد وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ الَّذِي قَالَه الْحَرْبِيّ أصح وَهُوَ تبع فِي ذَلِك شَيْخه ابْن نَاصِر فَإِنَّهُ خطأ سويدا فِي تَفْسِيره وَقَالَ بَعضهم لَكِن رجح الأول لِأَن أهل مَكَّة لَا يعْرفُونَ مَكَانا يُقَال لَهُ قراريط (قلت) وَكَذَلِكَ لَا يعْرفُونَ القيراط الَّذِي هُوَ من النَّقْد وَلذَلِك جَاءَ فِي الصَّحِيح " ستفتحون أَرضًا يذكر فِيهَا القراط " وَلَكِن لَا يلْزم من عدم معرفتهم القراريط الَّذِي هُوَ اسْم مَوضِع والقراريط الَّتِي من النَّقْد لَا يكون للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك علم فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أخبر بِأَنَّهُ رعى الْغنم على قراريط علمُوا فِي ذَلِك الْوَقْت أَنَّهَا اسْم مَوضِع وَلم يَكُونُوا علمُوا بِهِ قبل ذَلِك لكَون هَذَا الِاسْم قد هجر اسْتِعْمَاله من قديم الزَّمَان فأظهره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك الْوَقْت وَيدل على تأييد ذَلِك شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن كلمة على فِي أصل وَضعهَا للاستعلاء والاستعلاء حَقِيقَة لَا يكون إِلَّا على القراريط الَّذِي هُوَ اسْم مَوضِع وعَلى القراريط من النَّقْد يكون بطرِيق الْمجَاز فَلَا يُصَار إِلَى الْمجَاز إِلَّا عِنْد تعذر الْحَقِيقَة وَلَا تعذر هُنَا وَالثَّانِي جَاءَ فِي رِوَايَة كنت أرعى غنم أَهلِي بجياد وَهُوَ مَوضِع بِأَسْفَل مَكَّة فَهَذَا يدل على أَنه يرْعَى تَارَة بجياد وَتارَة بقراريط الَّذِي هُوَ الْمَكَان وَهَذَا يدل أَيْضا أَنه مَا كَانَ يرْعَى بِأُجْرَة فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا دخل للقراريط من النَّقْد فِي هَذَا الْموضع فَإِن قلت مَتى كَانَ هَذَا الرَّعْي فِي عمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) علم بالاستقراء من كَلَام ابْن إِسْحَاق والواقدي أَنه كَانَ وَعَمه نَحْو الْعشْرين سنة (فَإِن قلت) مَا الْحِكْمَة فِيهِ (قلت) التقدمة والتوطئة فِي تَعْرِيفه سياسة الْعباد وَحُصُول التمرن على مَا سيكلف من الْقيام بِأَمْر أمته (فَإِن قلت) مَا وَجه تَخْصِيص الْغنم فِيهِ (قلت) لِأَنَّهَا أَضْعَف من غَيرهَا وأسرع انقيادا وَهِي من دَوَاب الْجنَّة (فَإِن قلت) مَا الْحِكْمَة فِي ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك (قلت) إِظْهَار تواضعه لرَبه مَعَ كَونه أكْرم الْخلق عَلَيْهِ وتنبيه أمته على مُلَازمَة التَّوَاضُع وَاجْتنَاب الْكبر وَلَو بلغ أقْصَى الْمنَازل الدنياوية وَفِيه أَيْضا اتِّبَاع لأخوته من الرُّسُل الَّذين رعوا الْغنم وَفِي حَدِيث للنسائي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مُوسَى وَهُوَ راعي غنم وَبعث دَاوُد وَهُوَ راعي غنم عَلَيْهِمَا وَعَلِيهِ صلوَات الله وَسَلَامه دَائِما أبدا
(بَاب اسْتِئْجَار الْمُشْركين عِنْد الضَّرُورَة أَو إِذا لم يُوجد أهل الْإِسْلَام)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم استيجار الْمُسلمين أهل الشّرك عِنْد الضَّرُورَة وَهَذِه التَّرْجَمَة تشعر بِأَنَّهُ لَا يرى اسْتِئْجَار الْمُشرك سَوَاء كَانَ من أهل الذِّمَّة أَو من غَيرهم عِنْد عدم الضَّرُورَة إِلَّا عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَى أحد مِنْهُم لأجل الضَّرُورَة نَحْو عدم وجود أحد من أهل الْإِسْلَام يَكْفِي ذَلِك أَو عِنْد عَدمه أصلا وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله وَإِذا لم يُوجد أهل الْإِسْلَام وَقَوله " لم يُوجد " على صِيغَة الْمَجْهُول وَفِي بعض النّسخ " وَإِذا لم يجد على صِيغَة الْمَعْلُوم أَي وَإِذا لم يجد الْمُسلم أحدا من أهل الْإِسْلَام لِأَن يستأجره وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف يعلم مِمَّا قبله لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ وَقد قَرَّرْنَاهُ (وعامل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر) مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامل يهود خَيْبَر على الْعَمَل فِي أرْضهَا إِذْ لم يُوجد من الْمُسلمين من يَنُوب منابهم فِي عمل الأَرْض فِي ذَلِك الْوَقْت وَلما قوي الْإِسْلَام اسْتغنى عَنْهُم حَتَّى أجلاهم عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَسقط بذلك قَول بَعضهم وَفِي استشهاده بِقصَّة مُعَاملَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر على أَن يزرعوها نظر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيح بِالْمَقْصُودِ (قلت) كَيفَ يَنْفِي التَّصْرِيح بِالْمَقْصُودِ فِيهِ فَإِن مُعَامَلَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر على الزِّرَاعَة فِي معنى استئجاره إيَّاهُم صَرِيحًا
4 - (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَام عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا واستأجر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل ثمَّ من بني عبد بن عدي هاديا خريتا. الخريت الماهر بالهداية قد غمس يَمِين حلف فِي آل العَاصِي(12/80)
ابْن وَائِل وَهُوَ على دين كفار قُرَيْش فأمناه فدفعا إِلَيْهِ راحلتيهما ووعداه غَار ثَوْر بعد ثَلَاث لَيَال فأتاهما براحلتيهما صَبِيحَة لَيَال ثَلَاث فارتحلا وَانْطَلق مَعَهُمَا عَامر بن فهَيْرَة وَالدَّلِيل الديلِي فَأخذ بهم وَهُوَ على طَرِيق السَّاحِل) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي " واستأجر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل " وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ استأجرا هَذَا الرجل وَهُوَ مُشْرك إِذْ لم يجدا أحدا من أهل الْإِسْلَام وَقَول بَعضهم وَفِي استشهاده باستئجار الدَّلِيل الْمُشرك على ذَلِك نظر قَول واه صادر من غير ترو وَلَا تَأمل على مَا لَا يخفى وَهَذَا الحَدِيث يَأْتِي كَامِلا فِي أَوَاخِر كتاب الْإِجَارَة قَوْله " واستأجر " بواو الْعَطف إِنَّمَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا وَقع " اسْتَأْجر " بِدُونِ حرف الْعَطف وَهِي ثَابِتَة فِي الأَصْل فِي نفس الحَدِيث الطَّوِيل لِأَن الْقِصَّة معطوفة على قصَّة قبلهَا وَقَالَ الْكرْمَانِي واستأجر ذكر بِالْوَاو إشعارا بِأَنَّهُ قد تقدم لَهَا كَلِمَات أخر فِي حِكَايَة هِجْرَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعطف هَذَا عَلَيْهَا (قلت) نسب بَعضهم الْكرْمَانِي فِي قَوْله هَذَا إِلَى الْوَهم حَيْثُ قَالَ وَوهم من زعم أَن المُصَنّف زَاد الْوَاو للتّنْبِيه على أَنه اقتطع هَذَا الْقدر من الحَدِيث انْتهى (قلت) هَذَا الْقَائِل وهم فِي نَقله كَلَام الْكرْمَانِي على هَذَا الْوَجْه لِأَنَّهُ لم يقل بِأَن المُصَنّف زَاد الْوَاو إِلَى آخِره على هَذَا الْوَجْه وَمَا غر هَذَا الْقَائِل فِيمَا قَالَه إِلَّا قَول الْكرْمَانِي إشعارا وَقَوله فعطف هَذَا عَلَيْهَا وَأخذ مِنْهُمَا مَا ذهب إِلَيْهِ وهمه فنسبه إِلَى الْوَهم وَمعنى قَوْله إشعارا يَعْنِي للإشعار بِأَنَّهُ وَاو الْعَطف حَيْثُ قَالَ قد تقدم لَهَا كَلِمَات أخر يَعْنِي من الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَمعنى قَوْله فعطف هَذَا عَلَيْهَا يَعْنِي أظهر وَاو الْعَطف على الْكَلِمَات الَّتِي تقدّمت لَا أَنه زَاد المُصَنّف من عِنْده وَاو الْعَطف قَوْله " رجلا من بني الديل " وَاسم هَذَا الرجل عبد الله بن أَرقم فِيمَا قَالَه ابْن إِسْحَق وَقَالَ ابْن هِشَام عبد الله بن أريقط وَقَالَ مَالك اسْمه رقيط والديلي بِكَسْر الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره لَام وَقَالَ الرشاطي الديل فِي الأزد الديلِي بن هداء بن زيد وَفِي ثَعْلَب الديل بن زيد وَفِي إياد الديل بن أُميَّة وَفِي ضبة الديل بن ثَعْلَبَة وَفِي عبد الْقَيْس الديل بن عَمْرو وَالنِّسْبَة إِلَى ذَلِك كُله الديل بِكَسْر الدَّال وَإِسْكَان الْيَاء من دَال يديل إِذا تعلق الشَّيْء وتحرك وَيُقَال مِنْهُ اندال يندال وَقَالَ ابْن هِشَام رجلا من بني الديلِي بن بكر وَكَانَت أمه من بني سهم بن عَمْرو وَكَانَ مُشْركًا قَوْله " من بني الديل " جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله رجلا قَوْله " ثمَّ من بني عبد بن عدي " وَعبد خلاف الْحر وعدي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الدَّال وَتَشْديد الْيَاء من بني بكر قَوْله " هاديا " صفة لرجلا أَيْضا من هداه الطَّرِيق إِذا أرشده إِلَيْهِ قَوْله " خريتا " أَيْضا صفة بعد صفة والخريت بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا تَاء مثناة من فَوق وَهُوَ الماهر الَّذِي يَهْتَدِي لأخرات الْمَفَازَة وَهِي طرقها الْخفية ومضايقها وَقيل أَرَادَ بِهِ أَنه يَهْتَدِي لمثل خرت الإبرة من الطَّرِيق أَي ثقبها وَحكى الْكسَائي خرتنا الأَرْض إِذا عرفناها وَلم تخف علينا طرقها قَوْله " الخريت الماهر " بالهداية مدرج من قَول الزُّهْرِيّ قَوْله " قد غمس يَمِين حلف " أَي دخل فِي جُمْلَتهمْ وغمس نَفسه فِي ذَلِك وَالْحلف بِكَسْر الْحَاء الْعَهْد الَّذِي يكون بَين الْقَوْم وَإِنَّمَا قَالَ غمس إِمَّا لِأَن عَادَتهم أَنهم كَانُوا يغمسون أَيْديهم فِي المَاء وَنَحْوه عِنْد التَّحَالُف وَإِمَّا أَنه أَرَادَ بالغمس الشدَّة قَوْله " الْعَاصِ بن وَائِل " بِالْهَمْزَةِ بعد الْألف وباللام وَيُقَال العَاصِي بِالْيَاءِ وبدونه وَآل الْعَاصِ هم بَنو سهم رَهْط من قُرَيْش قَوْله " فأمناه " أَي فأمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر الرجل من أمنت فلَانا فَهُوَ آمن وَذَاكَ مَأْمُون قَوْله " راحلتيهما " تَثْنِيَة رَاحِلَة وَهِي من الْإِبِل الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء وَالتَّاء فِيهَا للْمُبَالَغَة وَقَالَ الْوَاقِدِيّ كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اشتراهما بثمانمائة دِرْهَم وَكَانَ حبسهما فِي دَاره يعلفها إعدادا للسَّفر قَالَ ابْن إِسْحَاق لما قرب أَبُو بكر الراحلتين إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم لَهُ أفضلهما فَقَالَ اركب يَا رَسُول الله فدَاك أبي وَأمي فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي لَا أركب بَعِيرًا لَيْسَ لي قَالَ فَهِيَ لَك يَا رَسُول الله بِأبي وَأمي قَالَ مَا الثّمن الَّذِي ابتعتها بِهِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ أَخَذتهَا بذلك " قَالَ فَهِيَ لَك يَا رَسُول الله وروى الْوَاقِدِيّ أَنه أَخذ(12/81)
القصوى وروى ابْن عَسَاكِر بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت هِيَ الجدعاء فركبا وانطلقا وَأَرْدَفَ أَبُو بكر عَامر بن فهَيْرَة مَوْلَاهُ خَلفه للْخدمَة فِي الطَّرِيق قَوْله " غَار ثَوْر " الْغَار بالغين الْمُعْجَمَة الْكَهْف وثور اسْم الْحَيَوَان الْمَشْهُور جبل بِأَسْفَل مَكَّة وَفِيه الْغَار الَّذِي بَات فِيهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر لما هاجرا قَوْله " مَعَهُمَا " أَي مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " عَامر بن فهَيْرَة " بِضَم الْفَاء وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء الْأَزْدِيّ وَكَانَ أسود اللَّوْن مَمْلُوكا للطفيل بن عبد الله فَاشْتَرَاهُ أَبُو بكر الصّديق مِنْهُ فَأعْتقهُ وَكَانَ دُخُوله فِي الْإِسْلَام قبل دُخُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَار الأرقم وَكَانَ حسن الْإِسْلَام وَهَاجَر مَعَهُمَا إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ ثالثهما قتل يَوْم بِئْر مَعُونَة بِفَتْح الْمِيم وبالنون سنة أَربع من الْهِجْرَة قَوْله " فَأخذ بهم " أَي فَأخذ الدَّلِيل الديلِي بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وعامر بن فهَيْرَة أَي ملتبسا بهم قَوْله " وَهُوَ على طَرِيق السَّاحِل " أَي طَرِيق سَاحل الْبَحْر ويروى فَأخذ بهم طَرِيق سَاحل الْبَحْر (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ اسْتِئْجَار الْمُسلم الْكَافِر على هدايته الطَّرِيق قلت وعَلى غَيرهَا أَيْضا. وَفِيه اسْتِئْجَار الرجلَيْن الْوَاحِد على عمل وَاحِد لَهما. وَفِيه اسْتِئْجَار الرجل على أَن يدْخل فِي الْعَمَل بعد أَيَّام مَعْلُومَة فَيصح عقدهما قبل الْعَمَل وَقِيَاسه أَن يسْتَأْجر منزلا مُدَّة مَعْلُومَة قبل مَجِيء السّنة بأيام وَأَجَازَ مَالك وَأَصْحَابه اسْتِئْجَار الْأَجِير على أَن يعْمل بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ أَو مَا قرب هَذَا إِذا نَقده الْأُجْرَة وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا اسْتَأْجرهُ ليعْمَل بعد شهر أَو سنة وَلم ينقده فَأَجَازَهُ مَالك وَابْن الْقَاسِم وَقَالَ أَشهب لَا يجوز وَوَجهه أَنه لَا يدْرِي أيعيش الْمُسْتَأْجر أَو الدَّابَّة وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا يجوز فِي الرَّاحِلَة الْمعينَة والأجير الْمعِين وَأما إِذا كَانَ كِرَاء مَضْمُونا فَيجوز فِيهِ ضرب الْأَجَل الْبعيد وَتَقْدِيم رَأس المَال وَلَا يجوز أَن يتَأَخَّر رَأس المَال إِلَى الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة لِأَنَّهُ إِذا تَأَخّر كَانَ من بَاب بيع الدّين بِالدّينِ وَتَفْسِير الْكِرَاء الْمَضْمُون أَن يستأجره على حَملَة بِعَينهَا على غير دَابَّة مُعينَة وَالْإِجَارَة الْمَضْمُونَة أَن يستأجره على بِنَاء بَيت لَا يشْتَرط عَلَيْهِ عمل يَده ويصف لَهُ طوله وَعرضه وَجَمِيع آلَته على أَن الْمُؤْنَة فِيهِ كلهَا على الْعَامِل مَضْمُونا عَلَيْهِ حَتَّى يتمه فَإِن مَاتَ قبل تَمَامه كَانَ ذَلِك فِي مَاله وَلَا يضرّهُ بعد الْأَجَل وَفِيه ائتمان أهل الشّرك على السِّرّ وَالْمَال إِذا عهد مِنْهُم وَفَاء ومروءة كَمَا استأمن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا الْمُشرك لما كَانُوا عَلَيْهِ من بَقِيَّة دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِن كَانَ من الْأَعْدَاء لكنه علم مِنْهُ مُرُوءَة وائتمنه من أجلهَا على سره فِي الْخُرُوج من مَكَّة وعَلى الناقتين اللَّتَيْنِ دفعهما إِلَيْهِ ليوافيهما بهما بعد ثَلَاث فِي غَار ثَوْر
(بَاب إِذا اسْتَأْجر أَجِيرا ليعْمَل لَهُ بعد ثَلَاثَة أَيَّام أَو بعد شهر أَو بعد سِتَّة أشهر أَو بعد سنة جَازَ وهما على شَرطهمَا الَّذِي اشترطاه إِذا جَاءَ الْأَجَل)
أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اسْتَأْجر شخص أَجِيرا إِلَى آخِره قَوْله " جَازَ " جَوَاب إِذا قَوْله " وهما " أَي الْمُؤَجّر وَالْمُسْتَأْجر على شَرطهمَا قَوْله " إِذا جَاءَ الْأَجَل " أَي الْأَجَل الْمَضْرُوب الْمَذْكُور وَقد ذكرنَا خلاف مَالك وَأَصْحَابه فِيهِ
5 - (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل قَالَ ابْن شهَاب فَأَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت واستأجر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وَهُوَ على دين كفار قُرَيْش فدفعا إِلَيْهِ راحلتيهما وواعداه غَار ثَوْر بعد ثَلَاث لَيَال براحلتيهما صبح ثَلَاث) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ اسْتِئْجَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الرجل الْمَذْكُور على أَن ينظر فِي أَمر راحلتيهما ثَلَاثَة أَيَّام وَأَن يحضرهما بعد ثَلَاثَة أَيَّام عِنْد غَار ثَوْر ثمَّ خدمهما بِمَا قصداه من الدّلَالَة على الطَّرِيق بعد تِلْكَ الثَّلَاثَة(12/82)
الْأَيَّام فَهَذَا بِعَيْنِه ظَاهر التَّرْجَمَة وَلَكِن فِيهَا ابْتِدَاء الْعَمَل بعد الثَّلَاثَة وقاس عَلَيْهَا البُخَارِيّ إِذا كَانَ ابْتِدَاء الْعَمَل بعد شهر أَو بعد سنة وقاس الْأَجَل الْبعيد على الْأجر الْقَرِيب إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ فَجعل الحَدِيث دَلِيلا على جَوَاز الْأَجَل مُطلقًا وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق هَهُنَا فَلَا يرد اعْتِرَاض من قَالَ أَنه لَيْسَ فِي الْخَبَر أَنَّهُمَا استأجراه على أَن لَا يعلم إِلَّا بعد ثَلَاث بل الَّذِي فِي الْخَبَر أَنَّهُمَا استأجراه وابتدأ فِي الْعَمَل من وقته بتسليمهما إِلَيْهِ راحلتيهما وبحفظهما فَكَانَ خروجهما وَخُرُوجه بعد ثَلَاث على الراحلتين اللَّتَيْنِ قَامَ بأمرهما إِلَى ذَلِك الْوَقْت انْتهى قلت هَذَا الْقَائِل صدر كَلَامه هَذَا أَولا بقوله ظن البُخَارِيّ ظنا فَعمل عَلَيْهِ بل هُوَ الَّذِي ظن
ظنا فَعمل عَلَيْهِ، بل هُوَ الَّذِي ظن ظنا فَعمل عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ظن أَن ابْتِدَاء الْإِجَارَة من أول مَا تسلم الرجل الراحلتين، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل أول الْإِجَارَة بعد الثَّلَاث، وَلم تكن إجارتهما إِيَّاه لخدمة الراحلتين، بل كَانَت الْإِجَارَة لأجل الدّلَالَة على الطَّرِيق، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ تسليمهما الراحلتين إِيَّاه لأجل مُجَرّد النّظر فيهمَا، وَلأَجل حفظهما إِلَى مُضِيّ الثَّلَاث، فَإِن ادّعى هَذَا الْمُعْتَرض بِبُطْلَان الْإِجَارَة إِذا لم يشرع فِي الْعَمَل من حِين الْإِجَارَة فَيحْتَاج إِلَى إِقَامَة برهَان، وَلَا يرد أَيْضا اعْتِرَاض من قَالَ: إِن الإبتداء فِي الْعَمَل بعد شهر أَو سنة غرر، فَلَا يدْرِي هَل يعِيش الرجل أم لَا، واغتفر الأمد الْيَسِير لِأَن العطبفيه نَادِر، وَالْغَالِب السَّلامَة. انْتهى. قلت: يكون الحكم فِي الأمد الْكثير بعروض الْمَوْت مثل مَا يكون فِي الأمد الْقصير بعروضه، لِأَن عدم الْعرُوض فِيهِ غير مُحَقّق، فَلَا غرر حِينَئِذٍ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالْحكم فِي الْمَوْت وجوب الضَّمَان فيهمَا، وَالله أعلم.
5 - (بابُ الأجِيرِ فِي الْغَزْوِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِئْجَار الْأَجِير فِي الْغَزْو، وَقَالَ ابْن بطال: اسْتِئْجَار الْأَجِير للْخدمَة وكفاية مؤونة الْعَمَل فِي الْغَزْو وَغَيره سَوَاء، وَيحْتَمل أَن يكون أَشَارَ إِلَى أَن الْجِهَاد، وَإِن كَانَ القصدبه تَحْصِيل الْأجر، فَلَا يُنَافِي ذَلِك الِاسْتِعَانَة بالخادم، خُصُوصا لمن لَا يقدر على معاطاة الْأُمُور بِنَفسِهِ.
6 - (حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن علية قَالَ أخبرنَا ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى عَن يعلى بن أُميَّة رَضِي الله عَنهُ قَالَ غزوت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيش الْعسرَة فَكَانَ من أوثق أعمالي فِي نَفسِي فَكَانَ لي أجِير فقاتل إنْسَانا فعض أَحدهمَا إِصْبَع صَاحبه فَانْتزع إصبعه فأندر ثنيته فَسَقَطت فَانْطَلق إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأهدر ثنيته وَقَالَ أفيدع إصبعه فِي فِيك تقضمها قَالَ أَحْسبهُ قَالَ كَمَا يقضم الْفَحْل) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَكَانَ لي أجِير. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة الأول يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي الثَّانِي إِسْمَاعِيل بن علية بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَعليَّة اسْم أمه وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن سهم بن مقسم الْأَسدي الثَّالِث عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الرَّابِع عَطاء بن أبي رَبَاح الْخَامِس صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة التَّمِيمِي أَو التَّيْمِيّ حَلِيف لقريش السَّادِس يعلى بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام مَقْصُورا ابْن أُميَّة بِضَم الْهمزَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَيُقَال لَهُ ابْن منية بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ اسْم أمه وَالْأول اسْم أَبِيه أَبُو صَفْوَان (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه بغدادي وَإِنَّمَا قيل لَهُ الدَّوْرَقِي لِأَنَّهُ وأقاربه كَانُوا يلبسُونَ قلانس تسمى الدورقية فنسبوا إِلَيْهَا وَلَيْسوا من بلد دورق وَإِسْمَاعِيل بَصرِي والبقية كلهم مكيون وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَفِيه عَن عَطاء عَن صَفْوَان وَفِي رِوَايَة همام الْمَاضِيَة فِي الْحَج حَدثنِي صَفْوَان بن يعلى(12/83)
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَفِي الْمَغَازِي عَن عبيد الله بن سعيد وَفِي الدِّيات مُخْتَصرا عَن أبي عَاصِم أربعتهم عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن عَمْرو بن زُرَارَة وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن شَيبَان بن فروخ وَعَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار وَعَن أبي غَسَّان وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الدِّيات عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقصاص وَعَن عبد الْجَبَّار وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فرقهما وَعَن عبد الْجَبَّار وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أَيْضا وَعَن أبي بكر بن إِسْحَاق (ذكره مَعْنَاهُ) قَوْله " جَيش الْعسرَة " بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَهِي غَزْوَة تَبُوك وتعرف أَيْضا بالفاضحة وَقيل لَهَا الْعسرَة لِأَن الْحر كَانَ فِيهَا شَدِيدا والجدب كثيرا وَحين طابت الثِّمَار وَكَانَ النَّاس يحبونَ الْمقَام فِي ثمارهم وظلالهم وَكَانَت فِي رَجَب قَالَ ابْن سعد يَوْم الْخَمِيس وَقَالَ ابْن التِّين خرج فِي أول يَوْم من رَجَب وَرجع فِي سلخ شَوَّال وَقيل رَمَضَان من سنة تسع من الْهِجْرَة قَوْله " فَكَانَ من أوثق أعمالي فِي نَفسِي " أَي مَكَان الْغَزْو من أحكم أعمالي فِي نَفسِي وأقواها اعْتِمَادًا عَلَيْهِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ ذكر الرجل الصَّالح عمله قَوْله " فَكَانَ لي أجِير " وَهُوَ الَّذِي يخْدم بِالْأُجْرَةِ قَوْله " فقاتل " أَي الْأَجِير إنْسَانا وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم " أَن يعلى قَاتل رجلا " قَالَ مُسلم حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى وَابْن بشار وَاللَّفْظ لِابْنِ الْمثنى قَالَا حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن زُرَارَة عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ قَاتل يَعْنِي ابْن منية أَو ابْن أُميَّة رجلا فعض أَحدهمَا صَاحبه فَانْتزع يَده من فِيهِ فَنزع ثنيته وَقَالَ ابْن الْمثنى ثنتيه فاختصما إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " يعَض أحدكُم كَمَا يعَض الْفَحْل لَا دِيَة لَك " وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَرِوَايَة البُخَارِيّ " أَن أَجِيرا ليعلى " هُوَ الأولى إِذْ لَا يَلِيق بيعلى مَعَ جلالته وفضله ذَلِك الْفِعْل وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح الْمَعْرُوف فِيمَا قَالَه الْحفاظ أَنه أجِير يعلى لَا يعلى وَيحْتَمل أَنَّهُمَا قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره فِي وَقت أَو فِي وَقْتَيْنِ انْتهى قَوْله " يَده " ويروى " ذراعه " قَوْله " أصْبع صَاحبه " فِي الْأصْبع تسع لُغَات والعاشر أصبوع قَوْله " فندر ثنيته " أَي أسقطها بجذبه والثنية مقدم الْأَسْنَان وللإنسان أَربع ثنايا ثِنْتَانِ من فَوق وثنتان من أَسْفَل قَوْله " أفيدع " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار قَوْله " فيقضمها " بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة من القضم وَهُوَ الْأكل بأطراف الْأَسْنَان يُقَال قضمت الدَّابَّة شعيرها بِالْكَسْرِ تقضمه وَفِي الواعي أصل القضم الدق وَالْكَسْر وَلَا يكون إِلَّا فِي الشَّيْء الصلب وماضيه على مَا ذكره ثَعْلَب بِكَسْر الْعين وَحكى ثَابت وَابْن طَلْحَة فتح الْعين وَقَالَ ابْن التِّين القضم هُوَ الْأكل بِأَدْنَى الأضراس قَوْله " الْفَحْل " الذّكر من الْإِبِل وَنَحْوه (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) وَبِه احْتج أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين فِي أَن المعضوض إِذا جبذ يَده فَسَقَطت أَسْنَان العاض أَو فك لحييْهِ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا صال الْفَحْل على رجل فَدفعهُ فَأتى عَلَيْهِ لم يلْزمه قِيمَته وَعند مَالك يضمن المعضوض قَالَ الْقُرْطُبِيّ لم يقل أحد بِالْقصاصِ فِي ذَلِك فِيمَا علمت وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الضَّمَان فأسقطه أَبُو حنيفَة وَبَعض أَصْحَابنَا وَضَمنَهُ الشَّافِعِي وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك قَالَ وَنزل بعض أَصْحَابنَا القَوْل بِالضَّمَانِ على مَا إِذا أمكنه نزع يَده بِرِفْق فانتزعها بعنف وَحمل بعض أَصْحَابنَا الحَدِيث على أَنه كَانَ متحرك الثنايا وَقَالَ أَبُو عبد الْملك لم يَصح الحَدِيث عِنْد مَالك وَفِيه اسْتِئْجَار الْأَجِير للْخدمَة وكفاية مُؤنَة الْعَمَل فِي الْغَزْو وَغَيره سَوَاء وَأما الْقِتَال فَلَا يسْتَأْجر عَلَيْهِ لِأَن على كل مُسلم أَن يُقَاتل حَتَّى تكون كلمة الله هِيَ الْعليا
(قَالَ ابْن جريج وحَدثني عبد الله بن أبي مليكَة عَن جده بِمثل هَذِه الصّفة أَن رجلا عض يَد رجل فأندر ثنيته فأهدرها أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ) ابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَعبد الله بن أبي مليكَة تَصْغِير ملكة مَنْسُوب إِلَى جده وَقيل إِلَى جد أَبِيه فَإِنَّهُ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة واسْمه زُهَيْر بن عبد الله بن جدعَان وَله صُحْبَة وَمِنْهُم من زَاد فِي نِسْبَة عبد الله بَين عبيد الله وَزُهَيْر وَقَالَ أَن الَّذِي يكنى أَبَا مليكَة هُوَ عبد الله بن زُهَيْر فعلى الأول فَالْحَدِيث من رِوَايَة زُهَيْر بن عبد الله عَن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وعَلى الثَّانِي من رِوَايَة عبد الله بن زُهَيْر فَالضَّمِير فِي جده على الأول يعود على عبد الله(12/84)
فَيكون الحَدِيث مُتَّصِلا وعَلى الثَّانِي يعود على زُهَيْر فَيكون مُنْقَطِعًا قَالَ بَعضهم قَوْله قَالَ ابْن جريج إِلَى آخِره هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَيْهِ وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد فِي الكنى عَن أبي بكر بن أبي دَاوُد حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن أَبِيه عَن جده عَن أبي بكر أَن رجلا عض يَد رجل فأندر ثنيته فأهدرها أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح عبد الله بن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكَة زُهَيْر بن عبد الله بن جدعَان قَاضِي الطَّائِف لِابْنِ الزبير توفّي بِمَكَّة سنة أَربع عشرَة وَمِائَة وَقد خَالف البُخَارِيّ ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم وَأَبُو عمر فَرَوَوْه فِي كتب الصَّحَابَة فِي تَرْجَمَة أبي مليكَة زُهَيْر بن عبد الله بن جدعَان من حَدِيث ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن أَبِيه عَن جده عَن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " بِمثل هَذِه الصّفة " بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا الْفَاء ويروى بِمثل هَذِه الْقَضِيَّة بِفَتْح الْقَاف وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف -
6 - (بابُ مَنِ اسْتَأجَرَ أجِيرا فَبَيَّنَ لَهُ الأجَلَ ولَمْ يُبَيِّنُ لَهُ الْعَمَلَ لِقَوْلِهِ {إنِّي أرِيدُ أنْ أنْكِحَكَ إحْدَى بِنْتَيَّ هَاتَيْننِ عَلَى أنْ تأجُرَنِي} إِلَى قَوْله: {وَالله علَى مَا نقولُ وَكِيلٌ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من اسْتَأْجر أَجِيرا فَبين لَهُ الْأَجَل، أَي الْمدَّة وَلم يبين لَهُ، أَي: للْأَجِير الْعَمَل، يَعْنِي: لم يبين أَي عمل يعمله لَهُ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: إِذا اسْتَأْجرهُ، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره وَهل يَصح ذَلِك أم لَا؟ وميل البُخَارِيّ إِلَى الصِّحَّة، فَلذَلِك ذكر هَذِه الْآيَة فِي معرض الِاحْتِجَاج. حَيْثُ قَالَ: لقَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابنتيي} (الْقَصَص: 72) . الْآيَة، وَجه الدّلَالَة مِنْهُ أَنه لم يَقع فِي سِيَاق الْقِصَّة الْمَذْكُورَة بَيَان الْعَمَل، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن مُوسَى آجر نَفسه من وَالِد الْمَرْأَتَيْنِ. فَإِن قلت: كَيفَ يَقُول لم يَقع فِي سِيَاق الْقِصَّة بَيَان الْعَمَل، وَقد قَالَ شُعَيْب: إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى بِنْتي هَاتين؟ قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: كَيفَ يَصح أَن ينكحه إِحْدَى ابْنَتَيْهِ من غير تَمْيِيز؟ قلت: لم يكن ذَلِك عقد النِّكَاح، وَلَكِن مواعدة ومواضعة أَمر قد عزم عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ عقدا لقَالَ: قد أنكحتك، وَلم يقل: إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك. انْتهى. قلت: حَاصله أَن شعيبا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إستأجر مُوسَى، لم يبين لَهُ الْعَمَل أَولا، لكنه بَين لَهُ الْأَجَل، فَدلَّ ذَلِك أَن الْإِجَارَة إِذا بَين فِيهَا الْمدَّة وَلم يبين الْعَمَل جَائِزَة، لَكِن هَذَا فِي مَوضِع يكون نفس الْعَمَل مَعْلُوما بِنَفس العقد كاستئجار العَبْد لأجل الْخدمَة وَأما اذا لم يكن نفس الْعَمَل مَعْلُوما بِنَفس العقد فَلَا يجوز إلاَّ بِبَيَان الْعَمَل، لِأَن الْجَهَالَة فِيهِ تقضي إِلَى الْمُنَازعَة، وَقَالَ الْمُهلب، رَحمَه الله تَعَالَى عَلَيْهِ: لَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل على جَهَالَة الْعَمَل فِي الْإِجَارَة، لِأَن ذَلِك كَانَ مَعْلُوما بَينهم من سقِِي وحرث ورعي واحتطاب. وَمَا شاكل ذَلِك من أَعمال الْبَادِيَة ومهنة أَهلهَا فَهَذَا مُتَعَارَف، وَإِن لم يبين لَهُ أشخاص الْأَعْمَال، وَقد عرفه الْمدَّة وسماها لَهُ. انْتهى. وَأجِيب: بِأَن هَذَا ظن أَن البُخَارِيّ أجَاز أَن يكون الْعَمَل مَجْهُولا وَلَيْسَ كَمَا ظن، إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ أَن التَّنْصِيص على الْعَمَل بِاللَّفْظِ غير مَشْرُوط، وَأَن المنبع الْمَقَاصِد لَا الْأَلْفَاظ، فَيَكْفِي دلَالَة الْفَوَائِد عَلَيْهَا.
قلت: يُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عتبَة ابْن الندر، قَالَ: كُنَّا عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (فَقَالَ: إِن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، آجر نَفسه ثَمَان سِنِين أَو عشرا على عفة فرجه وَطَعَام بَطْنه) . انْتهى. وَلَيْسَ فِيهِ بَيَان الْعَمَل من قبل مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، والندر، بِضَم النُّون وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عتبَة بن الندر السّلمِيّ، صَحَابِيّ يُقَال: هُوَ عتبَة بن عبد السّلمِيّ، وَلَيْسَ بِشَيْء، روى عَنهُ عَليّ بن رَبَاح وخَالِد بن معدان.
فَإِن قلت: كَيفَ حكم النِّكَاح على أَعمال الْبدن؟ قلت: لَا يجوز عِنْد أهل الْمَدِينَة، لِأَنَّهُ غرر، وَمَا وَقع من النِّكَاح على مثل هَذَا الصَدَاق لَا يُؤمر بِهِ الْيَوْم لظُهُور الْغرَر فِي طول الْمدَّة، وَهُوَ خُصُوص لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد أَكثر الْعلمَاء، لِأَنَّهُ قَالَ إِحْدَى ابْنَتي هَاتين، وَلم يعينها، وَهَذَا لَا يجوز إلاَّ بِالتَّعْيِينِ.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَقَالَ مَالك: إِذا تزَوجهَا على أَن يؤجرها نَفسه سنة أَو أَكثر يفْسخ النِّكَاح إِن لم يكن دخل بهَا، فَإِن دخل ثَبت النِّكَاح بِمهْر الْمثل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: إِن كَانَ حرآ فلهَا مهر مثلهَا، وَإِن كَانَ عبدا فلهَا خدمَة سنة، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ مُحَمَّد: يجب عَلَيْهِ قيمَة الْخدمَة سنة لِأَنَّهَا مُتَقَومَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: النِّكَاح جَائِز على خدمته إِذا كَانَ وقتا مَعْلُوما، وَيجب عله عين الْخدمَة سنة. وَكَذَلِكَ الْخلاف إِذا تزَوجهَا على تَعْلِيم الْقُرْآن.(12/85)
ثمَّ الْكَلَام فِي تَفْسِير الْآيَات الْكَرِيمَة. قَوْله: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك} (الْقَصَص: 72) . أَي: أُرِيد أَن أزَوجك {إِحْدَى ابْنَتي هَاتين على أَن تَأْجُرنِي} (الْقَصَص: 82) . نَفسك مُدَّة ثَمَانِي حجج أَي: على أَن تكون أَجِيرا لي ثَمَانِي سِنِين من أجرته إِذا كنت لَهُ أَجِيرا، كَقَوْلِك: أبوته إِذا كنت لَهُ أَبَا، وثماني حجج ظرفه، وَيجوز أَن يكون من آجرته كَذَا إِذا أثْبته إِيَّاه، وَمِنْه تَعْزِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (آجركم الله وَرَحِمَكُمْ الله) ، وثماني حجج مفعول بِهِ، أَي: رعية ثَمَانِي حجج، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ أَن يمهرها إِجَارَة نَفسه فِي رعية الْغنم، وَلَا بُد من تَسْلِيم مَا هُوَ مَال؟ أَلاَ ترى إِلَى أبي حنيفَة كَيفَ منع أَن يتَزَوَّج امْرَأَة بِأَن يخدمها سنة؟ وَجوز أَن يَتَزَوَّجهَا بِأَن يخدمها عَبده سنة أَو يسكنهَا دَاره سنة، لِأَنَّهُ فِي الأول سلم نَفسه، وَلَيْسَ بِمَال وَفِي الثَّانِي هُوَ مُسلم مَالا، وَهُوَ العَبْد أَو الدَّار. قلت: الْأَمر على مَذْهَب أبي حنيفَة كَمَا ذكرت، وَأما الشَّافِعِي فقد جوز التَّزْوِيج على الْإِجَازَة بِبَعْض الْأَعْمَال والخدمة إِذا كَانَ الْمُسْتَأْجر لَهُ أَو المخدوم فِيهِ أمرا مَعْلُوما، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ جَائِزا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة، وَيجوز أَن يكون الْمهْر شَيْئا آخر، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يكون رعي غنمه هَذِه الْمدَّة، وَأَرَادَ أَن ينكحه ابْنَته، فَذكر لَهُ المرادين، وعلق الْإِنْكَاح بالرعية على معنى: أَنِّي أفعل هَذَا إِذا فعلت ذَلِك، على وَجه المفاهدة لَا على وَجه المعاقدة، وَيجوز أَن يستأجره لرعي غنمه ثَمَانِي سِنِين بمبلغ مَعْلُوم ويوفيه إِيَّاه ثمَّ ينكحه ابْنَته بِهِ، وَيجْعَل قَوْله: على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج، عبارَة عَمَّا جرى بَينهمَا {فَإِن أتممت الْعَمَل عشرا فَمن عنْدك} (الْقَصَص: 72) . فإتمامه من عنْدك، وَالْمعْنَى: فَهُوَ من عنْدك لَا من عِنْدِي، يَعْنِي: لَا ألزمك وَلَا أحتمه عَلَيْك، وَلَكِن إِن فعلته فَهُوَ مِنْك تَفْضِيل وتبرع، وإلاَّ فَلَا عَلَيْك {وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك} (الْقَصَص: 72) . فِي هَذِه الْمدَّة فأكلفك مَا يصعب عَلَيْك: {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين} (الْقَصَص: 72) . فِي حسن الْعشْرَة وَالْوَفَاء بالعهد، وَهَذَا شَرط للْأَب وَلَيْسَ بِصَدَاق، وَقيل: صدَاق، وَالْأول أظهر لقَوْله: {تَأْجُرنِي} (الْقَصَص: 72) . وَلم يقل: تأجرها، وَإِنَّمَا قَالَ: إِن شَاءَ الله، للاتكال على توفيقه ومعونته. قَوْله: {قَالَ ذَلِك} (الْقَصَص: 82) . أَي: قَالَ مُوسَى لشعيب عَلَيْهِمَا السَّلَام، ذَلِك مُبْتَدأ {بيني وَبَيْنك} (الْقَصَص: 82) . خَبره، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا عاهده عَلَيْهِ شُعَيْب. ثمَّ قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {أَيّمَا الْأَجَليْنِ} (الْقَصَص: 82) . أَي: أجل من الْأَجَليْنِ أطولهما الَّذِي هُوَ الْعشْر وأقصرهما الَّذِي هُوَ ثَمَان. {قضيت} أَي: أوفيتك إِيَّاه وفرغت من الْعَمَل فِيهِ {فَلَا عدان عَليّ} أَي: لَا سَبِيل عَليّ، وَالْمعْنَى: لَا تَعْتَد عَليّ بِأَن تلزمني أَكثر مِنْهُ. قَوْله: {وَالله على مَا نقُول وَكيل} (الْقَصَص: 82) . أَي: على مَا نقُول من النِّكَاح وَالْأَجْر وَالْإِجَارَة وَكيل، أَي: حفيظ وَشَاهد، وَلما اسْتعْمل وَكيل فِي مَوضِع الشَّاهِد عدى بعلى، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: سَأَلَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَي الْأَجَل قضى مُوسَى؟ فَقَالَ: أتمهما وأكملهما) .
يأجُرُ فُلاَنا يُعْطِيهِ أجْرا ومِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ آجَرَكَ الله
يأجر، بِضَم الْجِيم، وَالْمَقْصُود مِنْهُ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج} (الْقَصَص: 72) . وَبِهَذَا فسر أَبُو عُبَيْدَة فِي (الْمجَاز) . قَوْله: (وَمِنْه) أَي: وَمن هذاالمعنى قَوْلهم فِي التَّعْزِيَة: آجرك الله أَي: يعطيك أجره، وَهَكَذَا فسر أَبُو عُبَيْدَة أَيْضا، وَزَاد: يأجرك أَي: يثيبك. وَقيل: الْمَعْنى فِي قَوْله: على أَن تَأْجُرنِي أَن تكون لي أَجِيرا، أَو التَّقْدِير: على أَن تَأْجُرنِي نَفسك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي جَوَاب من قَالَ: مَا الْفَائِدَة فِي عقد هَذَا الْبَاب إِذْ لم يذكر فِيهِ حَدِيثا؟ بِأَن البُخَارِيّ كثيرا مَا يقْصد بتراجم الْأَبْوَاب بَيَان الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة، فَأَرَادَ هُنَا بَيَان جَوَاز مثل هَذِه الْإِجَارَة، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ، ثمَّ قَالَ: قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ كَمَا ترْجم، لِأَن الْعَمَل كَانَ مَعْلُوما عِنْدهم. انْتهى. قلت: قد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
7 - (بابٌ إذَا اسْتَأجَرَ أَجِيرا علَى أنْ يُقِيمَ حائِطا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اسْتَأْجر أحد أَجِيرا لأجل إِقَامَة حَائِط يُرِيد أَن ينْقض، أَي: بسقط، يُقَال: انقض الطَّائِر سقط من الْهَوَاء بِسُرْعَة. قَوْله: (جَازَ) ، جَوَاب: إِذا، وَقَالَ ابْن التِّين: تبويب البُخَارِيّ يدل على أَن هَذَا جَائِز لجَمِيع النَّاس، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك للخضر، عَلَيْهِ السَّلَام، خَاصَّة، وَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَرَادَ أَن يَبْنِي لَهُ حَائِطا من الأَصْل، أَو يصلح لَهُ حَائِطا. انْتهى. قلت: يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا جَائِزا لجَمِيع النَّاس، وتخصيصه بالخضر، عَلَيْهِ السَّلَام، لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَجه ذَلِك على الْعُمُوم أَن حَائِط رجل إِذا أشرف على السُّقُوط، فخيف من سُقُوطه، فاستأجر أحدا يعلقه حَتَّى لَا يسْقط فَإِنَّهُ يجوز بِلَا خلاف، ثمَّ بعد التَّعْلِيق إِمَّا أَن يرمه وَيقطع عَيبه، أَو يهده ويبنيه جَدِيدا. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا جَازَ الِاسْتِئْجَار عَلَيْهِ لقَوْل مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {لَو(12/86)
شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا} (الْكَهْف: 77) . وَالْأَجْر لَا يُؤْخَذ إلاَّ على عمل مَعْلُوم، وَإِنَّمَا كَانَ يكون لَهُ الْأجر لَو عَامله عَلَيْهِ قبل عمله، وَأما بعد أَن أَقَامَهُ بِغَيْر إِذن صَاحبه فَلَا يجْبر صَاحبه على غرم شَيْء، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِيه جَوَاز الِاسْتِئْجَار على الْبناء.
7622 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُسَى قَالَ أخبرنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخبرَهُمْ قَالَ أخْبَرَنِي يَعْلَى بنُ مُسْلِمٍ وعَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ يَزيدُ أحَدُهُمَا علَى صاحِبه وغَيْرُهُما قَالَ قدْ سَمِعتُهُ يُحَدِّثُهُ عنْ سَعِيدٍ قَالَ قَالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ حدَّثني أبيُّ بنُ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانْطَلَقا فوَجَدا جِدَارا يُرِيدُ أنْ ينقَضَّ قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا ورَفَعَ يدَيْهِ فاسْتَقامَ قالَ يَعْلَى حَسِبْتُ أنَّ سَعِيدا قَالَ فمَسَحَهُ بِيَدِهِ فاسْتَقامَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا قَالَ سَعيدٌ أجْرا نأكُلُهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {فَوجدَ جدارا يُرِيد أَن ينفض فأقامه} .
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق، يعرف بالصغير. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن، قَاضِي الْيمن. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: يعلى بن مُسلم بن هُرْمُز. الْخَامِس: عَمْرو بن دِينَار الْقرشِي الْأَثْرَم. السَّادِس: سعيد بن جُبَير. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس. الثَّامِن: أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وبصيغة الْإِخْبَار بِجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه رازي وَأَن هشاما يماني وَأَن ابْن جريج وَعمر مكيان وَسَعِيد بن جُبَير كُوفِي. وَفِيه: يروي ابْن جريج عَن شيخين. وَفِيه: يزِيد أَحدهمَا أَي: يعلى أَو عَمْرو.
قَوْله: (سمعته) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْغَيْر، أَي: قَالَ ابْن جريج: وَسمعت غَيرهمَا أَيْضا يحدث عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ الْكرْمَانِي: يلْزم من زِيَادَة أَحدهمَا على صَاحبه نوع محَال، وَهُوَ أَن يكون الشَّيْء مزيدا ومزيدا عَلَيْهِ، ثمَّ أجَاب: بِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا وَاحِدًا معينا مِنْهُمَا فَلَا إِشْكَال وَإِن أَرَادَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فَمَعْنَاه أَنه يزِيد شَيْئا غير مَا زَاده الآخر، فَهُوَ مزِيد بِاعْتِبَار شَيْء مزيدعليه، بِاعْتِبَار شَيْء آخر، ثمَّ قَالَ: هَذَا الْمَرْوِيّ مَجْهُول، إِذْ لَا يعلم الزِّيَادَة مِنْهُ، ثمَّ أجَاب: علم من سِيَاقه زِيَادَة يعلى إِذْ قَالَ: حسبت.
وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من كل الْوُجُوه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب ذهَاب مُوسَى فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر، وَهنا ذكر قِطْعَة من حَدِيث مُوسَى وَالْخضر، وَقد أوردهُ مُسْتَوفى فِي التَّفْسِير. قَوْله: (يُرِيد) نِسْبَة الْإِرَادَة إِلَى الْجِدَار مجَاز. وَفِيه: حجَّة على من يُنكر الْمجَاز. قَوْله: {أَن ينْقض} وقرىء: ينقاض، أَي: ينقلع من أَصله، وَيُقَال للبئر إِذا انهارت: انقاضت، بالضاد الْمُعْجَمَة، وقرىء بِالْمُهْمَلَةِ مَوضِع الْألف، أَي: ينشق طولا. قَوْله: (يرفع يَدَيْهِ) ، أَي: إِلَى الْجِدَار، فاستقام، وَهُوَ تَفْسِير لقَوْله: فأقامه، وروى: يَده، بِالْإِفْرَادِ.
8 - (بابُ الإجارَةِ إلَى نِصْفِ النَّهارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِجَارَة إِلَى نصف النَّهَار، يَعْنِي: من أول النَّهَار إِلَى نصفه، ثمَّ قَالَ بعد هَذَا الْبَاب: بَاب الْإِجَارَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر، ثمَّ قَالَ بعد بَاب آخر: بَاب الْإِجَارَة من الْعَصْر إِلَى اللَّيْل، وَهَذَا كُله فِي حكم يَوْم وَاحِد، وَأَرَادَ بذلك إِثْبَات صِحَة الْإِجَارَة بِأَجْر مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم، إِذْ لَوْلَا جَازَت مَا أقره الشَّارِع فِي الحَدِيث الَّذِي ضرب بِهِ الْمثل، كَمَا يَأْتِي، وَمَا اتَّخذهُ من هَذَا الحَدِيث، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون الْغَرَض من كل ذَلِك إِثْبَات جَوَاز الْإِجَارَة بِقِطْعَة من النَّهَار إِذا كَانَت مَعْلُومَة مُعينَة دفعا لتوهم من يتَوَهَّم أَن أقل الْأَجَل الْمَعْلُوم أَن يكون يَوْمًا كَامِلا.
8622 - حدَّثنا سلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا حمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَثَلُكُمْ ومثَلُ أهْلِ الكتابَيْنِ كمَثَل رَجُلٍ اسْتَأجَرَ أُجَرَاءَ فقالَ(12/87)
منْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إلَى نِصْفِ النهارِ عَلى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ ثُمَّ قالَ من يَعْمَلُ لِي مِن نِصْفِ النهارِ إِلَى صلاةِ العَصْرِ علَى قِيراطٍ فعَمِلَتِ النَّصارَى ثُمَّ قالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إِلَى أنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ على قِيراطَيْنِ فأنْتُمْ هُمْ فغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصارَى فَقالوا مَا لَنا أكْثرَ عمَلاً وأقَلَّ عَطاء قالَ هَلْ نَقَصْتُكُم مِنْ حَقِّكُم قَالُوا لاَ فذَلِكَ فَضْلِي أوُتيهِ مَنْ أشاءُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من يعْمل لي غدْوَة إِلَى نصف النَّهَار) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، وَبَينهمَا تفَاوت فِي الْمَتْن أَيْضا، وَلَكِن الأَصْل وَاحِد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ، ولنذكر بعض شَيْء.
قَوْله: (أهل الْكِتَابَيْنِ) ، المُرَاد بِهِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى. قَوْله: (كَمثل رجل) فِيهِ حذف تَقْدِيره: وَهُوَ مثلكُمْ مَعَ نَبِيكُم وَمثل أهل الْكِتَابَيْنِ مَعَ أَنْبِيَائهمْ كَمثل رجل اسْتَأْجر، فالمثل مَضْرُوب للْأمة مَعَ نَبِيّهم، والممثل بِهِ الأجراء مَعَ من استأجرهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقيَاس يَقْتَضِي أَن يُقَال: كَمثل أجراء، ثمَّ قَالَ: هُوَ من تَشْبِيه الْمُفْرد بالمفرد فَلَا اعْتِبَار إلاَّ بالمجموعين، أَو التَّقْدِير: مثل الشَّارِع مَعكُمْ كَمثل رجل مَعَ أجراء. قَوْله: (على قِيرَاط) وَفِي رِوَايَة عبد الله بن دِينَار: على قِيرَاط قِيرَاط، وَالْمرَاد بالقيراط النَّصِيب، وَهُوَ فِي الأَصْل نصف دانق، والدانق سدس دِرْهَم قَوْله: (فَغضِبت الْيَهُود وَالنَّصَارَى) ، أَي: الْكفَّار مِنْهُم. قَوْله: (أَكثر) بِالرَّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى تَقْدِير: مَا لنا نَحن أَكثر، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَأما النصب فعلى الْحَال. وَيجوز أَن يكون خَبرا كَانَ تَقْدِيره: مَا لنا كُنَّا أَكثر عملا؟ قَوْله: (عملا) ، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (وَأَقل عَطاء) مثله على الْعَطف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ كَانُوا أَكثر عملا وَوقت الظّهْر إِلَى الْعَصْر مثل وَقت الْعَصْر إِلَى الْمغرب؟ وَأجَاب بِأَنَّهُ لَا يلْزم من أكثرية الْعَمَل أكثرية الزَّمَان، وَقد مضى الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فَذَلِك فضلي) ، فِيهِ حجَّة لأهل السّنة على أَن الثَّوَاب من الله على سَبِيل الْإِحْسَان مِنْهُ.
9 - (بابُ الإجارَةِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِجَارَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر.
9622 - حدَّثنا إسماعِيلُ بنُ أبِي أوَيْسٍ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ دينارٍ مَوْلَى عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّما مَثَلُكُمْ واليَهُودُ والنَّصارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً فقالَ منْ يَعْمَلُ لِي نِصْفَ النَّهارِ علَى قِيراطٍ قِيراطٍ فعَمِلَتِ اليَهُودُ علَى قِيراطٍ قيراطٍ ثُمَّ عَملَتِ النَّصارَى علَى قيراطٍ قيراطٍ ثُمَّ أنْتُمْ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إلَى مغَارِبِ الشِّمْسِ على قِيراطَيْنِ قيرَاطَيْنِ فغَضِبَتِ الْيَهُودُ والنَّصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً وأقَلُّ عَطاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئا قَالُوا لاَ فقالَ فذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أشَاءُ. .
وَقَالَ ابْن بطال: لفظ نَحن أَكثر عملا من قَول الْيَهُود خَاصَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {نسيا حوتهما} (الْكَهْف: 16) . وَالنَّاسِي هُوَ يُوشَع. وَقَوله تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} (الرَّحْمَن: 22) . وَالْحَال أَنه لَا يخرج إلاَّ من المالح، هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (وَالْيَهُود) ، عطف على الْمُضمر الْمَجْرُور بِدُونِ إِعَادَة الْخَافِض، وَهُوَ جَائِز على رَأْي الْكُوفِيّين، وَقيل: يجوز الرّفْع على تَقْدِير: وَمثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى، على حذف الْمُضَاف وَإِعْطَاء الْمُضَاف إِلَيْهِ إعرابه، وَقيل: فِي أصل أبي ذَر بِالنّصب، وَوَجهه أَن تكون الْوَاو بِمَعْنى: مَعَ. قَوْله: (على قِيرَاط قِيرَاط) ، بالتكرار ليدل على تَقْسِيم القراريط على جَمِيعهم. قَوْله: (إِلَى مغارب الشَّمْس)(12/88)
وَوَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان الْآتِيَة فِي (فَضَائِل الْقُرْآن) إِلَى مغرب الشَّمْس، على الْإِفْرَاد وَهُوَ الأَصْل، وَهنا الْجمع كَأَنَّهُ بِاعْتِبَار الْأَزْمِنَة المتعددة بِاعْتِبَار الطوائف الْمُخْتَلفَة الْأَزْمِنَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (هَل ظلمتكم) أَي: هَل نقصتكم فَإِن قلت: لم كَانَ للْمُؤْمِنين قيراطان؟ قلت: لإيمانهم بمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، لِأَن التَّصْدِيق أَيْضا عمل.
01 - (بابُ إثْمِ مَنْ مَنَعَ أجْرَ الأجيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم الَّذِي يمْنَع أجر الْأَجِير، وَقد أخر ابْن بطال هَذَا الْبَاب عَن الْبَاب الَّذِي بعده، وَهُوَ الْأَوْجه، فَإِن فِيهِ رِعَايَة الْمُنَاسبَة.
0722 - حدَّثنا يوسفُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ عَن إسْمَاعِيلَ بنِ أمَيَّةَ عنْ سَعِيدَ بنِ أبِي سَعِيد عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله تَعَالَى ثلاثَةٌ أَنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رجُلٌ أعطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ورَجُلٌ باعَ حُرّا فأكَلَ ثَمَنُهُ ورجلٌ اسْتَأجَرَ أَجِيرا فاسْتَوْفَى مِنُهُ ولَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ. (انْظُر الحَدِيث 7222) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب إِثْم من بَاعَ حرا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن بشر ابْن مَرْحُوم عَن يحيى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن علية إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه عَن يُوسُف بن مُحَمَّد بن سَابق الْعُصْفُرِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ هَهُنَا، وَهُوَ حَدِيث وَاحِد، ويوسف هَذَا من أَفْرَاده.
11 - (بابُ الإجارَةِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِجَارَة من أول وَقت الْعَصْر إِلَى أول دُخُول اللَّيْل.
11 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن يزِيد عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مثل الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمثل رجل اسْتَأْجر قوما يعْملُونَ لَهُ عملا يَوْمًا إِلَى اللَّيْل على أجر مَعْلُوم فعملوا لَهُ إِلَى نصف النَّهَار فَقَالُوا لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك الَّذِي شرطت لنا وَمَا عَملنَا بَاطِل فَقَالَ لَهُم لَا تَفعلُوا أكملوا بَقِيَّة عَمَلكُمْ وخذوا أجركُم كَامِلا فَأَبَوا وَتركُوا واستأجر أجيرين بعدهمْ فَقَالَ لَهما أكملا بَقِيَّة يومكما هَذَا ولكما الَّذِي شرطت لَهُم من الْأجر فعملا حَتَّى إِذا كَانَ حِين صَلَاة الْعَصْر قَالَا لَك مَا عَملنَا بَاطِل وَلكم الْأجر الَّذِي جعلت لنا فِيهِ فَقَالَ لَهما أكملا بَقِيَّة عملكما فَإِن مَا بَقِي من النَّهَار شَيْء يسير فأبيا واستأجر قوما أَن يعملوا لَهُ بَقِيَّة يومهم فعملوا بَقِيَّة يومهم حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس واستكملوا أجر الْفَرِيقَيْنِ كليهمَا فَذَلِك مثلهم وَمثل مَا قبلوا من هَذَا النُّور) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " واستأجر قوما " أَن يعملوا إِلَى قَوْله الشَّمْس وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن كريب عَن أبي أُسَامَة عَن بريد إِلَى آخِره بأخصر مِنْهُ وَهنا أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء بن كريب أَي كريب الْهَمدَانِي الْكُوفِي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن بريد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف عَن أبي بردة واسْمه عَامر عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس قَوْله " كَمثل رجل اسْتَأْجر قوما " هُوَ من بَاب الْقلب وَالتَّقْدِير كَمثل قوم استأجرهم قوم أَو هُوَ من بَاب التَّشْبِيه بالمركب قَوْله " إِلَى اللَّيْل " هَذَا(12/89)
مُغَاير لحَدِيث ابْن عمر لِأَن فِيهِ أَنه استأجرهم على أَن يعملوا إِلَى نصف النَّهَار وَأجِيب بِأَن ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى من عجز عَن الْإِيمَان بِالْمَوْتِ قبل ظُهُور دين آخر وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى من أدْرك دين الْإِسْلَام وَلم يُؤمن بِهِ وَقد تقدم تَمام الْبَحْث فِي ذَاك الْبَاب قَوْله " لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك " إِشَارَة إِلَى أَنهم كفرُوا وتولوا وَاسْتغْنى الله عَنْهُم وَهَذَا من بَاب إِطْلَاق القَوْل وَإِرَادَة لَازمه لِأَن لَازمه ترك الْعَمَل الْمعبر بِهِ عَن ترك الْإِيمَان قَوْله " وَمَا عَملنَا بَاطِل " إِشَارَة إِلَى إحباط عَمَلهم بكفرهم بِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذْ لَا يَنْفَعهُمْ الْإِيمَان بمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَحده بعد بعثة عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَذَلِكَ القَوْل فِي النَّصَارَى إِلَّا أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن مدتهم كَانَت قدر نصف الْمدَّة فاقتصروا على نَحْو الرّبع من جَمِيع النَّهَار قَوْله " لَا تَفعلُوا " أَي إبِْطَال الْعَمَل وَترك الْأجر الْمَشْرُوط (فَإِن قلت) الْمَفْهُوم مِنْهُ أَن أهل الْكِتَابَيْنِ لم يَأْخُذُوا شَيْئا وَمن السَّابِق أَنهم أخذُوا قيراطا قيراطا (قلت) الآخذون هم الَّذين مَاتُوا قبل النّسخ والتاركون الَّذين كفرُوا بِالنَّبِيِّ الَّذِي بعد نَبِيّهم قَوْله " فَإِنَّمَا بَقِي من النَّهَار شَيْء يسير " أَي بِالنِّسْبَةِ لما مضى مِنْهُ وَالْمرَاد مَا بَقِي من الدُّنْيَا حَتَّى إِذا كَانَ حِين صَلَاة الْعَصْر هُوَ بِنصب حِين وَيجوز الرّفْع قَالَه بَعضهم وَلم يبين وَجهه وَلَا وَجه النصب (قلت) أما النصب فعلى الظَّرْفِيَّة وَأما الرّفْع فعلى أَنه اسْم كَانَ قَوْله " أجر الْفَرِيقَيْنِ كليهمَا " كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره وَحكى ابْن التِّين أَن فِي رِوَايَته كِلَاهُمَا بِالرَّفْع ثمَّ خطأه (قلت) لَيْسَ لما قَالَه وَجه لِأَن كِلَاهُمَا بِالْألف على لُغَة من يَجْعَل الْمثنى فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة بِالْألف قَوْله " فَذَلِك مثلهم " أَي مثل الْمُسلمين وَمثل مَا قبلوا من هَذَا النُّور أَي نور الْهِدَايَة إِلَى الْحق وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ فَذَلِك مثل الْمُسلمين الَّذين قبلوا هدى الله وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُوله وَمثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى تركُوا مَا أَمرهم الله بِهِ وَالْمَقْصُود من التمثيلين من الأول بَيَان أَن أَعمال هَذِه الْأمة أَكثر ثَوابًا من أَعمال سَائِر الْأُمَم وَمن الثَّانِي أَن الَّذين لم يُؤمنُوا بِمُحَمد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْمَالهم السالفة على دينهم لَا ثَوَاب لَهَا قيل اسْتدلَّ بِهِ على أَن بَقَاء هَذِه الْأمة تزيد على الْألف لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن مُدَّة الْيَهُود نَظِير مدتي النَّصَارَى وَالْمُسْلِمين وَقد اتّفق أهل النَّقْل على أَن مُدَّة الْيَهُود إِلَى بعثة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت أَكثر من ألفي سنة وَمُدَّة النَّصَارَى من ذَلِك سِتّمائَة سنة وَقيل أقل فَيكون مُدَّة الْمُسلمين أَكثر من ألف قطعا (قلت) فِيهِ نظر لِأَنَّهُ صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح أَنه قَالَ الدُّنْيَا سَبْعَة أَيَّام كل يَوْم ألف سنة وَبعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَوْم الآخر مِنْهَا وَقد مَضَت مِنْهُ سنُون أَو مئون وَيُؤَيّد هَذَا أَيْضا حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ حِين قصّ على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُؤْيَاهُ وَقَالَ فِيهَا رَأَيْتُك على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات الحَدِيث وَفِيه فِي الْمِنْبَر ودرجاته الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة بعثت فِي آخرهَا ألفا وَقد صحّح أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل بآثار -
21 - (بابُ مَنِ اسْتأجرَ أَجِيرا فتَرَكَ أجْرَهُ فعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتأجِرُ فَزادَ أوْ منْ عَمِلَ فِي مالِ غَيْرِهِ فاسْتَفْضَلَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر من اسْتَأْجر أَجِيرا فَترك أجره، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فَترك الْأَجِير أجره وغايته أَنه أظهر فَاعل ترك. قَوْله: (فَعمل فِيهِ) ، ويروى: بِهِ، أَي: اتّجر فِيهِ أَو زرع فَزَاد أَي ربح. قَوْله: (من عمل فِي مَال غَيره) ، عطف على: من اسْتَأْجر. قَوْله: (فاستفضل) ، بِمَعْنى: أفضل، يَعْنِي: أفضل من مَال غَيره الشَّيْء، وَلَيْسَ السِّين فِيهِ للطلب.
2722 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ انْطَلَقَ ثلاثةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ أوَوْا المَبِيتَ إلَى غارٍ فدَخَلُوهُ فانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ فقالُوا إنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إلاَّ أنْ تَدْعُوا الله بصالِحِ أعْمَالِكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أللَّهُمَّ كانَ لِي أبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ وكُنْتُ لَا أغْبَقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً ولاَ مَالا فنأى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ(12/90)
يوْما فَلَمْ أرِحْ عَلَيْهِما حَتَّى نامَا فَحَلَبْتُ لَهُما غَبُوقَهُما فوَجدْتُهُما نائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أغبِقَ قَبْلَهُما أهْلاً أوْ مَالا فَلَبِثْتُ والقَدَحُ على يَدَيَّ أنْتَظِرِ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرَق الفَجْرُ فاسْتَيْقَظَا فشَرِبا غَبُوقَهُما اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعلْتُ ذَلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ منْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فانْفَرَجَتْ شيْئا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الآخرُ أللَّهُمَّ كانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كانَتْ أحَبَّ النَّاسَ إلَيَّ فأرَدْتُها عنْ نَفْسها فامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى ألَمَّتْ بِا سَنَةٌ مِنَ السِّنينَ فَجاءَتْنِي فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِائَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلتْ حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قالتْ لَا احلُّ لَكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاَّ بِحَقِّهِ فتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا فانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهْيَ أحَبُّ النَاسِ إلَيَّ وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيْتُهَا اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْها قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إنِّيي استَأجَرْتُ أُجَرَاءَ فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غَيْرَ رجلٍ واحِدٍ ترَكَ الَّذِي لَهُ وذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأمْوَالُ فجَاءَنِي بَعْدَ حِين فَقَالَ يَا عَبْدَ الله أدِّي إلَيَّ أجْرِي فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى منْ أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ فَقَالَ يَا عَبْدَ الله لَا تَسْتَهْزِىءْ بِي فقُلْتُ إنِّي لَا أسْتَهْزِىءُ بِكَ فأخذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكّ مِنْهُ شَيْئا اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأعطيتهم أجرهم غير رجل وَاحِد ترك الَّذِي لَهُ وَذهب) إِلَى قَوْله: (بعد حِين) . قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل لما ترْجم لَهُ، وَإِنَّمَا أتجر الرجل فِي أجر أجيره ثمَّ أعطَاهُ على سَبِيل التَّبَرُّع، وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ يلْزمه قدر الْعَمَل خَاصَّة. قلت: وَرِجَاله هَكَذَا قد تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب إِذا اشْترى شَيْئا لغيره بِغَيْر إِذْنه. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَبَينهمَا تفَاوت فِي الْمَتْن يعرف بِالنّظرِ.
قَوْله: (ثَلَاثَة رَهْط) ، الرَّهْط من الرِّجَال مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى الْأَرْبَعين وَلَا يكون فيهم امْرَأَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه وَيجمع على أرهط وأرهاط وأراهط، جمع الْجمع. قَوْله: (حَتَّى أووا) ، يُقَال: أَوَى فلَان إِلَى منزله يأوي أويا على وزن فعول، وَقَالَ أَبُو زيد: فعلت وأفعلت بِمَعْنى، يَعْنِي: أَوَى بِالْقصرِ وآوى بِالْمدِّ سَوَاء، وَالْمَبِيت مَوضِع البيتوتة، وَكلمَة: إِلَى، فِي: إِلَى غَار، للانتهاء. يَعْنِي: انْتهى، أويهم لأجل البيتوتة إِلَى غَار، وَهُوَ كَهْف فِي الْجَبَل. قَوْله: (فانحدرت) أَي: هَبَطت وَنزلت. قَوْله: (لَا ينجيكم) ، بِضَم الْيَاء، من الإنجاء بِالْجِيم، وَهُوَ التخليص. قَوْله: (إلاَّ أَن تدعوا الله) ، بِسُكُون الْوَاو لِأَنَّهُ جمع، وَأَصله: تدعون، من الدُّعَاء فَسَقَطت النُّون لأجل: أَن. قَوْله: (أللهم قد) ذكرنَا مَعْنَاهُ هُنَاكَ فِي ذَلِك الْبَاب. قَوْله: (لَا أغبق) ، من الغبوق بالغين الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره قَالَ، وَهُوَ: شرب الْعشي، وضبطوا: لَا أغبق، بِفَتْح الْهمزَة من الثلاثي إلاَّ الْأصيلِيّ، فَإِنَّهُ يضمها من الرباعي، وخطؤه فِيهِ. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : يُقَال: غبقت الرجل، وَلَا يُقَال: أغبقته، والغبوق: شرب آخر النَّهَار مُقَابل الصبوح، وَاسم الشَّرَاب الغبق. قَوْله: (أَهلا) الْأَهْل الزَّوْجَات، وَالْمَال الرَّقِيق، وَقَالَ الدادي: وَالدَّوَاب أَيْضا. وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَيْسَ للدواب هُنَا معنى يذكر بِهِ. قَوْله: (فنَاء بِي) بِمد بعد النُّون بِوَزْن جَاءَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: فنأى، بِفَتْح النُّون والهمزة مَقْصُورا على وزن: سقى، أَي: بعد، وأصل هَذِه الْمَادَّة(12/91)
من النأي، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهمزَة: الْبعد، يُقَال: نأى بِي طلب شَيْء، أَي: بعد. قَوْله: (فَلم أرح) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء أَي: لم أرجع على أَبَوي حَتَّى أخذهما النّوم. قَوْله: (والقدح) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (حَتَّى برق الْفجْر) أَي: ظهر الضياء. قَوْله: (فأردتها عَن نَفسهَا) ، كِنَايَة عَن طلب الْجِمَاع. قَوْله: (حَتَّى ألمت بهَا) أَي: حَتَّى نزلت بهَا سنة من سني الْقَحْط فأحوجتها. قَوْله: (عشْرين وَمِائَة) ، أَي: عشْرين دِينَارا وَمِائَة، وَوَقع هُنَاكَ مائَة، والتخصيص بِالْعدَدِ لَا يُنَافِي الزِّيَادَة، وَالْمِائَة كَانَت بالتماسها وَالْعشْرُونَ تبرع مِنْهُ كَرَامَة لَهَا. قَوْله: (لَا أحل لَك) ، بِضَم الْهمزَة من الْإِحْلَال. قَوْله: (أَن تفض الْخَاتم) كِنَايَة عَن الْوَطْء، يُقَال: فض الْخَاتم والختم إِذا كَسره وفتحه. قَوْله: (فتحرجت) ، يُقَال: تحرج فلَان إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ من الْحَرج، وَهُوَ الْإِثْم والضيق. قَوْله: (وَتركت الذَّهَب الَّذِي أعطيتهَا) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (الَّتِي أعطيتهَا) ، وَالذَّهَب يذكر وَيُؤَنث. قَوْله: (فأفرج عَنَّا) ، بوصل الْهمزَة وَضم الرَّاء، فَإِذا قطع الْهمزَة وَكسر الرَّاء. فَالْأول أَمر من الْفرج. وَالثَّانِي: من الإفراج. قَوْله: (أجراء) جمع أجِير. قَوْله: (فثمرت) أَي: كثرت من التثمير. قَوْله: (كل مَا ترى) مُبْتَدأ وَخَبره. قَوْله: (من أجرك) ، أَي: من أجرتك. قَوْله: (من الْإِبِل. .) إِلَى آخِره، بَيَان لما ترى، وَهنا زَاد الْإِبِل وَالْبَقر، وَهُنَاكَ بقرًا وراعيها، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، وَقد ذكرنَا بعض الْخلاف فِيمَن اتّجر فِي مَال غَيره، فَقَالَ قوم: لَهُ الرِّبْح إِذا أدّى رَأس المَال إِلَى صَاحبه سَوَاء كَانَ غَاصبا لِلْمَالِ أَو وَدِيعَة عِنْده مُتَعَدِّيا فِيهِ، وَهُوَ قَول عَطاء وَمَالك وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف، وَاسْتحبَّ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ تنزهه، وَيتَصَدَّق بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ يرد المَال وَيتَصَدَّق بِالرِّبْحِ كُله. وَلَا يطيب لَهُ شَيْء من ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَزفر، وَقَالَ قوم: الرِّبْح لرب المَال، وَهُوَ ضَامِن لما تعدى فِيهِ، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَأبي قلَابَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن اشْترى السّلْعَة بِالْمَالِ بِعَيْنِه فَالرِّبْح وَرَأس المَال لرب المَال، وَإِن اشْتَرَاهَا بِمَال بِغَيْر عينه قبل أَن يستوجبها بِثمن مَعْرُوف بِالْعينِ، ثمَّ نقد المَال مِنْهُ أَو الْوَدِيعَة، فَالرِّبْح لَهُ وَهُوَ ضَامِن لما اسْتهْلك من مَال غَيره، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
31 - (بابُ منْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَحْمِلَ عَليّ ظَهْرِهِ ثْمَّ تصَدَّقَ بِهِ وأُجْرَةِ الحَمَّالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أجر نَفسه لغيره ليحمل مَتَاعه على ظَهره، ثمَّ تصدق بِهِ أَي: بأجره، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ثمَّ تصدق مِنْهُ. قَوْله: (وَأُجْرَة الْحمال) أَي: وَبَاب فِي بَيَان أُجْرَة الْحمال، ويروى: وَأجر الْحمال.
3722 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ شَقِيقٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أمَرَ بالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أحدُنا إِلَى السُّوقِ فيُحَامِلُ فيُصِيبُ المُدَّ وإنَّ لبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ ألْفٍ قَالَ مَا نَرَاهُ إلاَّ نَفسَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تعلم من مَعْنَاهُ لِأَن مَعْنَاهُ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا كَانَ يَأْمر بِالصَّدَقَةِ يسمعهُ فُقَرَاء الصَّحَابَة ويرغب فِي الصَّدَقَة لما يسمع من الْأجر الجزيل فِيهَا، ثمَّ يذهب إِلَى السُّوق فَيحمل شَيْئا من أَمْتعَة النِّسَاء على ظَهره بأجره، ثمَّ يتَصَدَّق بِهِ، وَهَذَا معنى التَّرْجَمَة أَيْضا، وَكَذَلِكَ فِي الحَدِيث مَا يُطَابق قَوْله: وَأجر الْحمال، لِأَنَّهُ حِين يحمل شَيْئا بِأُجْرَة يصدق عَلَيْهِ أَنه حمال، وَأَنه يَأْخُذ الْأُجْرَة.
ثمَّ الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب (اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد، وبعين هَذَا الْمَتْن، غير أَن فِيهِ هُنَا زِيَادَة شَيْء، وَهُوَ قَوْله: (مَا نرَاهُ إلاَّ نَفسه) .
وَسَعِيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ الْقرشِي الْأمَوِي أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وشقيق أَبُو وَائِل، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَامر الْأنْصَارِيّ البدري.
قَوْله: (فيحامل) أَي: يعْمل صَنْعَة الحمالين، من المحاملة من بَاب المفاعلة الَّتِي تكون من الْإِثْنَيْنِ، وَالْمرَاد هُنَا: أَن الْحمل من أَحدهمَا وَالْأُجْرَة من الآخر كالمساقاة والمزارعة، ويروى: تحامل، على وزن: تفَاعل، بِلَفْظ الْمَاضِي أَي: تكلّف حمل مَتَاع الْغَيْر ليكتسب مَا يتَصَدَّق بِهِ. قَوْله: (فنصيب الْمَدّ) أَي: من الطَّعَام. وَهُوَ أجرته. قَوْله: (وَأَن لبَعْضهِم لمِائَة ألف) ، أَي: من الدَّرَاهِم أَو الدَّنَانِير، وَاللَّام فِي: الْمِائَة، للتَّأْكِيد، تسمى اللَّام الابتدائية لدخولها على اسْم إِن، وَهُوَ لفظ: فَإِنَّهُ اسْم: إِن، وخبرها مقدما، قَوْله:(12/92)
لبَعْضهِم، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (وَمَا كَانَ لَهُ يَوْمئِذٍ دِرْهَم) ، أَي: فِي الْيَوْم الَّذِي كَانَ يحمل بِالْأُجْرَةِ، لأَنهم كَانُوا فُقَرَاء فِي ذَلِك الْوَقْت وَالْيَوْم هم أَغْنِيَاء. قَوْله: (قَالَ: مَا نرَاهُ إِلَّا نَفسه) أَي: قَالَ شَقِيق الرَّاوِي: مَا أَظن أَبَا مَسْعُود أَرَادَ بذلك الْبَعْض إلاَّ نَفسه، فَإِنَّهُ كَانَ من الْأَغْنِيَاء، وَقد جَاءَ ذَلِك مُبينًا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من طَرِيق زَائِدَة عَن الْأَعْمَش: أَن قَائِل ذَلِك هُوَ أَبُو وَائِل الرَّاوِي، وَالله أعلم.
41 - (بابُ أجْرِ السَّمْسَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السمسرة أَي: الدّلَالَة، والسمسار بِالْكَسْرِ: الدَّلال. وَفِي (الْمغرب) السمسرة مصدر، وَهُوَ أَن يُوكل الرجل من الْحَاضِرَة للقادمة، فيبيع لَهُم مَا يجلبونه، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: وَقيل فِي تَفْسِير قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَبِيع حَاضر لبادٍ) ، أَنه لَا يكون لَهُ سمسارا، وَمِنْه كَانَ أَبُو حنيفَة يكره السمسرة.
ولَمْ يَرَ ابنُ سِيرِينَ وعَطَاءٌ وإبْرَاهِيمُ والحَسَنُ بأجرِ السِّمْسَارِ بَأْسا
أَي: لم يَرَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ بِأَجْر السمسار بَأْسا، وَتَعْلِيق ابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم وَصله ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا حَفْص عَن أَشْعَث عَن الحكم وَحَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن سِيرِين، قَالَا: لَا بَأْس بِأَجْر السمسار إِذا اشْترى يدا بيد، وَتَعْلِيق عَطاء وَصله ابْن أبي شييبة أَيْضا: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا اللَّيْث أَبُو عبد الْعَزِيز، قَالَ: سَأَلت عَطاء عَن السمسرة، فَقَالَ: لَا بَأْس بهَا. وَقَالَ بَعضهم: وَكَأن المُصَنّف أَشَارَ إِلَى الرَّد على من كرهها، وَقد نَقله ابْن الْمُنْذر عَن الْكُوفِيّين. انْتهى. قلت: لم يقْصد البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على أحد، وَإِنَّمَا نقل عَن هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين أَنهم لَا يرَوْنَ بَأْسا بالسمسرة، وَطَرِيقَة الرَّد لَا تكون هَكَذَا.
وَهَذَا الْبَاب فِيهِ اخْتِلَاف للْعُلَمَاء، فَقَالَ مَالك: يجوز أَن يستأجره على بيع سلْعَته إِذا بَين لذَلِك أَََجَلًا، قَالَ: وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَهُ: بِعْ هَذَا الثَّوْب وَلَك دِرْهَم أَنه جَائِز، وَإِن لم يُوَقت لَهُ ثمنا، وَكَذَلِكَ إِن جعل لَهُ فِي كل مائَة دِينَار شَيْئا، وَهُوَ جعل، وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس أَن يُعْطِيهِ من الْألف شَيْئا مَعْلُوما، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن حَمَّاد وَالثَّوْري أَنَّهُمَا كرها أجره، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن دفع لَهُ ألف دِرْهَم يَشْتَرِي بهَا بزا بِأَجْر عشر دَرَاهِم، فَهُوَ فَاسد، وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: اشْتَرِ مائَة ثوب فَهُوَ فَاسد، فَإِن اشْترى فَلهُ أجر مثله، وَلَا يُجَاوز مَا سمى من الْأجر، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا جعل لَهُ فِي كل ألف شَيْئا مَعْلُوما لم يجز، لِأَن ذَلِك غير مَعْلُوم فَإِن عمل على ذَلِك فَلهُ أجره وَإِن اكتراه شهرا على أَن يَشْتَرِي لَهُ وَيبِيع فَذَلِك جَائِز. وَقَالَ ابْن التِّين أُجْرَة السمسار ضَرْبَان: إِجَارَة وجعالة: فَالْأول: يكون مُدَّة مَعْلُومَة فيجتهد فِي بَيْعه، فَإِن بَاعَ قبل ذَلِك أَخذ بِحِسَابِهِ، وَإِن انْقَضى الْأَجَل أَخذ كَامِل الْأُجْرَة. وَالثَّانِي: لَا يضْرب فِيهَا أجل، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الْمَذْهَب، وَلَكِن لَا تكون الْإِجَارَة والجعالة إلاَّ معلومين، وَلَا يسْتَحق فِي الْجعَالَة شَيْئا إلاَّ بِتمَام الْعَمَل، وَهُوَ البيع، والجعالة الصَّحِيحَة أَن يُسمى لَهُ ثمنا إِن بلغه مَا بَاعَ، أَو يُفَوض إِلَيْهِ، فَإِن بلغ الْقيمَة بَاعَ، وَإِن قَالَ الْجَاعِل: لَا تبع إلاَّ بأَمْري فَهُوَ فَاسد. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: أُجْرَة السمسار مَحْمُولَة على الْعرف يقل عَن قوم وَيكثر عَن قوم، وَلَكِن جوزت لما مضى من عمل النَّاس عَلَيْهِ على أَنَّهَا مَجْهُولَة، قَالَ: وَمثل ذَلِك أُجْرَة الْحجام، وَقَالَ ابْن التِّين: وَهَذَا الَّذِي ذكره غير جَار على أصُول مَالك، وَإِنَّمَا يجوز من ذَلِك عِنْده مَا كَانَ ثمنه مَعْلُوما لَا غرر فِيهِ.
وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَا بَأسَ أنْ يَقولَ بِعْ هذَا الثَّوْبَ فَما زَاد علَى كذَا وكَذَا فَهُوَ لَكَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ إذَا قالَ بِعْهُ بِكَذَا فَما كانَ مِنْ رِبْحٍ فَهْوَ لَكَ أوْ بَيْنِي وبَيْنَكَ فَلاَ بَأسَ بِهِ
هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا وَصله ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن يُونُس عَن ابْن سِيرِين، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَأما قَول ابْن عَبَّاس وَابْن سِيرِين فَأكْثر الْعلمَاء لَا يجيزون هَذَا البيع، وَمِمَّنْ كرهه: الثَّوْريّ والكوفيون، وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: لَا يجوز، فَإِن بَاعَ فَلهُ أجر مثله، وَأَجَازَهُ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالا: هُوَ من بَاب الْقَرَاض، وَقد لَا يربح الْمُقَارض.(12/93)
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المؤمنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السمسرة إِذا شرطت بِشَيْء معِين يَنْبَغِي أَن يكون السمسار وَصَاحب الْمَتَاع ثابتين على شَرطهمَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم) ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد فِي الْقَضَاء من حَدِيث الْوَلِيد بن رَبَاح، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، عَن أبي هُرَيْرَة، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَطاء: بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم) وروى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مثله وَزَاد: مَا وَافق الْحق، وروى إِسْحَاق فِي (مُسْنده) من طَرِيق كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: الْمُسلمُونَ على شروطهم إلاَّ شرطا حرم حَلَالا أَو أحل حَرَامًا، وَكثير ابْن عبد الله ضَعِيف عِنْد الْأَكْثَرين إلاَّ أَن البُخَارِيّ قوي أمره وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة، وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ على شروطهم) ، وَقيل: ظن ابْن التِّين أَن قَوْله: وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ على شروطهم) بَقِيَّة كَلَام ابْن سِيرِين، فشرح على ذَلِك، فَوَهم وَقد اعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي وَغَيره.
4722 - حدَّثنا مُسَدَّد قَالَ حَدثنَا عبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ ولاَ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبَادٍ قُلْتُ يَا ابنَ عبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ قَالَ لاَ يَكُونُ لَهُ سَمْسارا. .
مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب البيع فِي بَاب النَّهْي عَن تلقي الركْبَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَيَّاش بن الْوَلِيد عَن عبد الْأَعْلَى عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه. . إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن معمر بن رَاشد عَن عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه طَاوُوس عَن عبد الله بن عَبَّاس، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصى. قَوْله: (لَا يَبِيع) بِالنّصب على أَن لَا زَائِدَة، وبالرفع بِتَقْدِير: قَالَ قبله عطفا على نهي، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ لَا يكون لَهُ سمسارا يَعْنِي من أجل الْمضرَّة الدَّاخِلَة على النَّاس لَا من أجل أجرته، وَالله أعلم.
4722 - حدَّثنا مُسَدَّد قَالَ حَدثنَا عبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ ولاَ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبَادٍ قُلْتُ يَا ابنَ عبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ قَالَ لاَ يَكُونُ لَهُ سَمْسارا. .
مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب البيع فِي بَاب النَّهْي عَن تلقي الركْبَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَيَّاش بن الْوَلِيد عَن عبد الْأَعْلَى عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه. . إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن معمر بن رَاشد عَن عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه طَاوُوس عَن عبد الله بن عَبَّاس، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصى. قَوْله: (لَا يَبِيع) بِالنّصب على أَن لَا زَائِدَة، وبالرفع بِتَقْدِير: قَالَ قبله عطفا على نهي، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ لَا يكون لَهُ سمسارا يَعْنِي من أجل الْمضرَّة الدَّاخِلَة على النَّاس لَا من أجل أجرته، وَالله أعلم.
51 - (بابٌ هَلْ يُؤاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي أرْضِ الحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُؤجر الرجل الْمُسلم نَفسه من رجل مُشْرك فِي دَار الْحَرْب؟ وَلم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام، لِأَن حَدِيث الْبَاب يتَضَمَّن إِجَارَة خباب نَفسه، وَهُوَ مُسلم إِذْ ذَاك فِي عمله للعاص بن وَائِل وَهُوَ مُشْرك، وَكَانَ ذَلِك بِمَكَّة، وَكَانَت مَكَّة إِذْ ذَاك دَار حَرْب، وأطلع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك فأقره، وَلكنه يحْتَمل أَن يكون كَانَ ذَلِك لأجل الضَّرُورَة، أَو كَانَ ذَلِك قبل الْإِذْن فِي قتال الْمُشْركين ومنابذتهم، وَقبل الْأَمر بِمَنْع إذلال الْمُؤمن نَفسه. وَقَالَ الْمُهلب: كره أهل الْعلم ذَلِك إلاَّ للضَّرُورَة بِشَرْطَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون عمله فِيمَا يحل للْمُسلمِ، وَالْآخر: أَن لَا يُعينهُ على مَا هُوَ ضَرَر على الْمُسلمين، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: اسْتَقَرَّتْ الْمذَاهب على أَن الصناع فِي حوانيتهم يجوز لَهُم الْعَمَل لأهل الذِّمَّة، وَلَا يعْتد ذَلِك من الذلة، بِخِلَاف أَن يَخْدمه فِي منزله وبطريق التّبعِيَّة لَهُ.
5722 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حَدثنَا أبِي قَالَ حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ مُسْلِمٍ عنْ مَسْرُوقٍ قَالَ حَدثنَا خَبَّابٌ قَالَ كُنْتُ رَجُلاً قِينا فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ ابنِ وائِلٍ فاجْتَمَعَ لِي عِنْدَهُ فأتَيْتُه أتَقاضَاهُ فَقَالَ لَا وَالله لاَ أقْضِيكَ حتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ فَقُلْتُ أما وَالله حتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلا قالَ وإنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فإنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مالٌ وَوَلَدٌ فأقْضِيكَ فأنزلَ الله تَعَالَى أفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوُتِيَنَّ مَالا وَوَلَدا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب ذكر الْقَيْن والحداد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد(12/94)
بن بشار عَن ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن خباب ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي، قاضيها، عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى مُسلم عَن مَسْرُوق إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. والقين، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْحداد.
قَوْله: (أما) ، حرف التَّنْبِيه وَجَوَاب الْقسم مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا أكفر. قَوْله: (حَتَّى تَمُوت) غَايَة لَهُ، وَالْغَرَض التأييد كَمَا فِي قَوْلك: إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَبعد الْبَعْث لَا يُمكن الْكفْر. قَوْله: (فَلَا) أَي: فَلَا أكفر، ويروى هَكَذَا: فَلَا أكفر. فَإِن قلت: الْفَاء لَا تدخل جَوَاب الْقسم. قلت: الْمَذْكُور مُفَسّر للمقدر، ويروى: أمَّا، بتَشْديد الْمِيم، وَتَقْدِيره: أمَّا أَنا فَلَا أكفر، وَالله، وأمَّا غَيْرِي فَلَا أعلم حَاله، قَوْله: (وَإِنِّي) همزَة الِاسْتِفْهَام مقدرَة فِيهِ، وَإِنَّمَا أكد بِأَن وَاللَّام مَعَ أَن الْمُخَاطب هُوَ خباب غير مُنكر وَلَا مُتَرَدّد فِي ذَلِك، لِأَن الْعَاصِ فهم مِنْهُ التَّأْكِيد فِي مُقَابلَة إِنْكَاره، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَقول هَذَا الْكَلَام الْمُؤَكّد؟
61 - (بابُ مَا يُعْطَى فِي الرقَيَّةِ عَلى أحْياءِ الَعرَبِ بِفاتِحَةِ الْكِتابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مَا يعْطى فِي الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب، وَلم يبين الحكم اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث على عَادَته فِي ذَلِك. والرقية، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: من رقاه رقيا ورقية ورقيا، فَهُوَ راقٍ: إِذا عوذه، وَصَاحبه رقاه. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَقد يُقَال: استرقيته، بِمَعْنى: رقيته. قَالَ: وَعَن الْكسَائي: ارتقيته، بِهَذَا الْمَعْنى، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: كل كَلَام استشفي بِهِ من وجع أَو خوف أَو شَيْطَان أَو سحر فَهُوَ رقية، وَفِي مُعظم نسخ البُخَارِيّ وأكثرها هَكَذَا: بَاب مَا يعْطى فِي الرّقية على أَحيَاء الْعَرَب بِفَاتِحَة الْكتاب، وَاعْترض عَلَيْهِ بتقييده بأحياء الْعَرَب بِأَن الحكم لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْمحَال وَلَا الْأَمْكِنَة، وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ ترْجم بالواقع وَلم يتَعَرَّض لنفي غَيره. قلت: هَذَا الْجَواب غير مقنع لِأَنَّهُ قَيده بأحياء الْعَرَب، والقيد شَرط إِذا انْتَفَى يَنْتَفِي الْمَشْرُوط، وَهَذَا الْقَائِل لم يكتف بِهَذَا الْجَواب الَّذِي لَا يرضى بِهِ حَتَّى قَالَ: والأحياء جمع حَيّ، وَالْمرَاد بِهِ: طَائِفَة مَخْصُوصَة، وَهَذَا الْكَلَام أَيْضا يشْعر بالتقييد، وَالْأَصْل فِي الْبَاب الْإِطْلَاق، فَافْهَم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَقُّ مَا أخَذْتُمْ عَلَيْهِ أجْرا كِتابُ الله
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة لقِرَاءَة الْقُرْآن وللتعليم أَيْضا وللرقيا بِهِ أَيْضا لعُمُوم اللَّفْظ، وَهُوَ يُفَسر أَيْضا الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة، فَإِنَّهُ مَا بَين فِيهِ حكم مَا يعْطى فِي الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب، وَهَذَا الَّذِي علقه البُخَارِيّ طرف من حَدِيث وَصله هُوَ فِي كتاب الطِّبّ فِي: بَاب الشَّرْط فِي الرّقية بقطيع من الْغنم، حَدثنِي سيدان بن مضَارب ... إِلَى آخِره وَفِي آخِره: إِن أَحَق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَخذ الْأجر على الرّقية بِالْفَاتِحَةِ، وَفِي أَخذه على التَّعْلِيم، فَأَجَازَهُ عَطاء وَأَبُو قلَابَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَنَقله الْقُرْطُبِيّ عَن أبي حنيفَة فِي الرّقية، وَهُوَ قَول إِسْحَاق. وَكره الزُّهْرِيّ تَعْلِيم الْقُرْآن بِالْأَجْرِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يَأْخُذ الْأجر على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَقَالَ الْحَاكِم من أَصْحَابنَا فِي كِتَابه (الْكَافِي) : وَلَا يجوز أَن يسْتَأْجر رجل رجلا أَن يعلم وَلَده الْقُرْآن وَالْفِقْه والفرائض أَو يؤمهم رَمَضَان أَو يُؤذن، وَفِي (خُلَاصَة الْفَتَاوَى) نَاقِلا عَن الأَصْل: لَا يجوز الِاسْتِئْجَار على الطَّاعَات كتعليم الْقُرْآن وَالْفِقْه وَالْأَذَان والتذكير والتدريس وَالْحج والغزو، يَعْنِي: لَا يجب الْأجر، وَعند أهل الْمَدِينَة: يجوز، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي ونصير وعصام، وَأَبُو نصر الْفَقِيه وَأَبُو اللَّيْث رَحِمهم الله. وَالْأَصْل الَّذِي بنى عَلَيْهِ حُرْمَة الِاسْتِئْجَار على هَذِه الْأَشْيَاء: أَن كل طَاعَة يخْتَص بهَا الْمُسلم لَا يجوز الِاسْتِئْجَار عَلَيْهَا، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء طَاعَة وقربة تقع على الْعَامِل. قَالَ تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى} (النَّجْم: 93) . فَلَا يجوز أَخذ الْأُجْرَة من غَيره كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِأَحَادِيث: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام الدستوَائي حَدثنِي يحى بن أبي كثير عَن أبي رَاشد الحبراني قَالَ: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن شبْل: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إقرأوا الْقُرْآن وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ، وَعنهُ: وَلَا تجفوا وَلَا تقلوا فِيهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَيْضا فِي (مُسْنده) وَابْن أبي شيبَة وَعبد الرَّزَّاق فِي (مصنفيهما) . وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ عبد بن حميد وَأَبُو يعلى الْموصِلِي وَالطَّبَرَانِيّ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) عَن حَمَّاد بن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عبد الرَّحْمَن(12/95)
ابْن عَوْف مَرْفُوعا نَحوه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَن الضَّحَّاك بن نبراس الْبَصْرِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحوه. وَمِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْمُغيرَة بن زِيَاد الْموصِلِي عَن عبَادَة بن نسي عَن الْأسود بن ثَعْلَبَة عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: علَّمتُ نَاسا من أهل الصّفة الْقُرْآن فأهدى إليَّ رجل مِنْهُم قوسا، فَقلت: لَيست بِمَال، وأرمي بهَا فِي سَبِيل الله. فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك؟ فَقَالَ: إِن أردْت أَن يطوقك الله طوقا من نَار فاقبلها. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق آخر من حَدِيث جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا قدم الرجل مُهَاجرا دَفعه إِلَى رجل منا يُعلمهُ الْقُرْآن، فَدفع إليَّ رجلا كَانَ معي وَكنت أقرئه الْقُرْآن، فَانْصَرَفت يَوْمًا إِلَى أَهلِي فَرَأى أَن عَلَيْهِ حَقًا، فأهدى إِلَيّ قوسا مَا رَأَيْت أَجود مِنْهَا عودا، وَلَا أحسن مِنْهَا عَطاء، فَأتيت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستفتيته، فَقَالَ: جَمْرَة بَين كتفيك تقلدتها أَو تعلقتها. وَأخرجه الْحَاكِم فِي (كتاب الْفَضَائِل) عَن أبي الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج عَن بشر بن عبد الله بن يسَار بِهِ سندا ومتنا. وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح الأسناد وَلم يخرجَاهُ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عَطِيَّة الكلَاعِي عَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: علمت رجلا الْقُرْآن فأهدى إليَّ قوسا، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِن أَخَذتهَا أخذت قوسا من نَار. قَالَ: فرددتها. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ من حَدِيث أم الدَّرْدَاء عَن أبي الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من أَخذ قوسا على تَعْلِيم الْقُرْآن قَلّدهُ الله قوسا من نَار) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من حَدِيث سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْقُرْآن يَأْكُل بِهِ النَّاس جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَوَجهه عَظمَة لَيْسَ عَلَيْهِ لحم) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن يرفعهُ: (اقرأوا الْقُرْآن وسلوا الله بِهِ، فَإِن من بعدكم قوم يقرأون الْقُرْآن يسْأَلُون النَّاس بِهِ) . وَذكر ابْن بطال من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي جرهم عَن أبي هُرَيْرَة، قلت: (يَا رَسُول الله {مَا تَقول فِي المعلمين؟ قَالَ} أجرهم حرَام) وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: (لَا تستأجروا المعلمين) وَهَذَا غير صَحِيح، وَفِي إِسْنَاده أَحْمد بن عبد الله الْهَرَوِيّ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: دجال يضع الحَدِيث، وَوَافَقَهُ صَاحب التَّنْقِيح، وَهَذِه الْأَحَادِيث، وَإِن كَانَ فِي بَعْضهَا مقَال، لَكِنَّهَا يُؤَكد بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا حَدِيث الْقوس، فَإِنَّهُ صَحِيح كَمَا ذكرنَا، وَإِذا تعَارض نصان أَحدهمَا مُبِيح وَالْآخر محرم يدل على النّسخ كَمَا نذكرهُ عَن قريب، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي حَدِيث أبي سعد الْخُدْرِيّ الَّذِي يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فِي هَذَا الْبَاب.
وَأجَاب ابْن الْجَوْزِيّ نَاقِلا عَن أَصْحَابه عَن حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثَلَاثَة أجوبة: أَحدهَا: أَن الْقَوْم كَانُوا كفَّارًا فَجَاز أَخذ أَمْوَالهم. وَالثَّانِي: أَن حق الضَّيْف وَاجِب وَلم يضيفوهم. وَالثَّالِث: أَن الرّقية لَيست بقربة مَحْضَة، فَجَاز أَخذ الْأُجْرَة عَلَيْهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلَا نسلم أَن جَوَاز أَخذ الإجر فِي الرقي يدل على جَوَاز التَّعْلِيم بِالْأَجْرِ، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَمعنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن أَحَق مَا إخذتم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله) ، يَعْنِي: إِذا رقيتم بِهِ، وَحمل بعض من منع أَخذ الْأجر على تَعْلِيم الْقُرْآن الْأجر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور على الثَّوَاب، وَبَعْضهمْ ادعوا أَنه مَنْسُوخ بالأحاديث الْمَذْكُورَة الَّتِي فِيهَا الْوَعيد، وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بِأَنَّهُ إِثْبَات النّسخ بالإحتمال، وَهُوَ مَرْدُود. قلت: منع هَذَا بِدَعْوَى الِاحْتِمَال مَرْدُود، وَمن الَّذِي قَالَ هَذَا الحَدِيث يحْتَمل النّسخ، بل الَّذِي ادّعى النّسخ إِنَّمَا قَالَ: هَذَا الحَدِيث يحْتَمل الْإِبَاحَة، وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة تمنع الْإِبَاحَة قطعا، والنسخ هُوَ الْحَظْر بعد الْإِبَاحَة، لِأَن الْإِبَاحَة أصل فِي كل شَيْء، فَإِذا طَرَأَ الْحَظْر يدل على النّسخ بِلَا شكّ، وَقَالَ بَعضهم: الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة لَيْسَ فِيهَا مَا تقوم بِهِ الْحجَّة فَلَا تعَارض الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: لَا نسلم عدم قيام الْحجَّة فِيهَا. فَإِن حَدِيث الْقوس صَحِيح، وَفِيه الْوَعيد الشَّديد. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَيجوز الْأجر على الرقى وَإِن كَانَ يدْخل فِي بعضه الْقُرْآن، لِأَنَّهُ لَيْسَ على النَّاس أَن يرقي بَعضهم بَعْضًا، وَتَعْلِيم النَّاس بَعضهم بَعْضًا الْقُرْآن وَاجِب، لِأَن فِي ذَلِك التَّبْلِيغ عَن الله تَعَالَى، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَول الطَّحَاوِيّ هَذَا غلط، لِأَن تعلمه لَيْسَ بِفَرْض، فَكيف تَعْلِيمه؟ وَإِنَّمَا الْفَرْض الْمعِين مِنْهُ على كل أحد مَا تقوم بِهِ الصَّلَاة، وَغير ذَلِك فَضِيلَة ونافلة، وَكَذَلِكَ تَعْلِيم النَّاس بَعضهم بَعْضًا، لَيْسَ بِفَرْض مُتَعَيّن عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا هُوَ على الْكِفَايَة، وَلَا فرق بَين الْأُجْرَة فِي الرقي وعَلى تَعْلِيم الْقُرْآن، لِأَن ذَلِك كُله مَنْفَعَة. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام صادر بقلة الْأَدَب وَعدم مُرَاعَاة أدب الْبَحْث، سَوَاء كَانَ هَذَا الْكَلَام مِنْهُ أَو هُوَ نَقله(12/96)
من غَيره، وَكَيف يَقُول: لِأَن تعلمه لَيْسَ بِفَرْض فَكيف تَعْلِيمه؟ فَإِذا لم يكن تَعْلِيمه وتعلمه فرضا فَلَا يفْرض قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الصَّلَاة. وَقد أَمر الله تَعَالَى بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا بقوله: (فاقرأوا) فَإِذا أسلم أحد من أهل الْحَرْب أَفلا يفْرض عَلَيْهِ أَن يعلم مِقْدَار مَا تجوز بِهِ صلَاته؟ وَإِذا لم يجد إلاَّ أحدا مِمَّن يقْرَأ الْقُرْآن كُله أَو بعضه، أَفلا يجب عَلَيْهِ أَن يُعلمهُ مِقْدَار مَا تجوز بِهِ الصَّلَاة؟ وَقَوله: وَإِنَّمَا الْفَرْض الْمعِين مِنْهُ مَا تقوم بِهِ الصَّلَاة، يدل على أَن تعلمه فرض عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يقدر على هَذَا الْمِقْدَار إلاَّ بالتعليم، إِذْ لَا يقدر عَلَيْهِ من ذَاته، فَإِذا كَانَ مَا تقوم بِهِ الصَّلَاة من الْقِرَاءَة فرضا عَلَيْهِ يكون تعلمه هَذَا الْمِقْدَار فرضا عَلَيْهِ، لِأَن مَا يقوم بِهِ الْفَرْض فرض، والتعلم لَا يحصل إلاَّ بالتعليم، فَيكون فرضا على كل حَال، سَوَاء كَانَ على التَّعْيِين أَو على الْكِفَايَة، وَكَيف لَا يكون فرضا وَقد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتبليغ من الله تَعَالَى؟ وَلَو كَانَ آيَة من الْقُرْآن؟ وَأوجب التَّبْلِيغ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بلغُوا عني وَلَو آيَة من كتاب الله تَعَالَى.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لاَ يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ إلاَّ أنْ يُعُطى شَيْئا فلْيَقْبَلْهُ
الشّعبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَوصل تَعْلِيقه ابْن أبي شيبَة عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن عُثْمَان بن الْحَارِث، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا سُفْيَان عَن أَيُّوب بن عَائِذ الطَّائِي عَنهُ، وَقَول الشّعبِيّ هَذَا يدل على أَن أَخذ الْأجر بالاشتراط لَا يجوز فَإِن اعطى من غير شَرط فَإِنَّهُ يجوز أَخذه لِأَنَّهُ إمَّا هبة أَو صَدَقَة، وَلَيْسَ بِأُجْرَة، وأصحابنا الْحَنَفِيَّة قَائِلُونَ بِهَذَا أَيْضا. قَوْله: (إِلَّا أَن يعْطى) ، الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع، مَعْنَاهُ: لَكِن الْإِعْطَاء بِدُونِ الِاشْتِرَاط جَائِز فيقبله، ويروى: إِن، بِكَسْر الْهمزَة أَي: لَكِن إِن يعْطى شَيْئا بِدُونِ الشَّرْط فليقبله، وَإِنَّمَا كتب يعْطى، بِالْألف على قِرَاءَة الْكسَائي: {من يتقِ ويصبر} أَو الْألف حصلت من إشباع الفتحة.
وَقَالَ الحَكَمُ لَمْ أسْمَعْ أحدا كَرِهَ أجْرَ المُعَلِّمِ
الحكم، بِفَتْح الْحَاء وَالْكَاف: ابْن عتيبة، وَوصل تَعْلِيقه الْبَغَوِيّ فِي (الجعديات) : حَدثنَا عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة سَأَلت مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أجر الْمعلم، فَقَالَ: أرى لَهُ أجرا، قَالَ: وَسَأَلت الحكم، فَقَالَ: مَا سَمِعت فَقِيها يكرههُ. انْتهى. قلت: نفي الحكم سَمَاعه من أَخذ كَرَاهَة أجر الْمعلم لَا يسْتَلْزم النَّفْي عَن الْكل، لِأَن النبيي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره لعبادة بن الصَّامِت حِين أهْدى لَهُ من كَانَ يُعلمهُ قوسا ... الحَدِيث، وَقد مر عَن قريب، وَقَالَ عبد الله بن شَقِيق: يكره أرش الْمعلم، فَإِن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يكرهونه ويرونه شَدِيدا، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يَأْخُذُوا على الغلمان فِي الْكتاب أجرا، وَذهب الزُّهْرِيّ وَإِسْحَاق إِلَى: أَنه لَا يجوز أَخذ الْأجر عَلَيْهِ.
وأعْطَى الحَسَنُ دَراهِمَ عَشْرَةً
أَي: أعْطى الْحسن الْبَصْرِيّ عشرَة دَرَاهِم أجر الْمعلم، وَوصل تَعْلِيقه مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات) من طَرِيق يحيى بن سعيد بن أبي الْحسن، قَالَ: لما حذقت قلت لِعَمِّي: يَا عماه! إِن الْمعلم يُرِيد شَيْئا. قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ شَيْئا. ثمَّ قَالَ: أعْطه خَمْسَة دَرَاهِم، فَلم أزل بِهِ حَتَّى قَالَ: أَعْطوهُ عشرَة دَرَاهِم، ورورى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا حَفْص عَن أَشْعَث عَن الْحسن أَنه قَالَ: لَا بَأْس أَن يَأْخُذ على الْكِتَابَة أجرا، وَكره الشَّرْط. انْتهى، وَالْكِتَابَة غير التَّعْلِيم.
ولَمْ يَرَ ابنَ سِيرينَ بأجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسا. وَقَالَ كانَ يُقالُ السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ وكانُوا يُعْطَوْنَ عَلى الخَرْصِ
قيل: وَجه ذكر القسام والخارص فِي هَذَا الْبَاب الِاشْتِرَاك فِي أَن جنسهما وجنس تَعْلِيم الْقُرْآن والرقية وَاحِد. انْتهى. قلت: هَذَا وَجه فِيهِ تعسف، وَيُمكن أَن يُقَال: وَقع هَذَا اسْتِطْرَادًا لَا قصدا، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، والقسام، بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد، مُبَالغَة قَاسم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: القسام جمع الْقَاسِم، فعلى قَوْله: الْقَاف مَضْمُومَة. قلت: السُّحت، بِضَم السِّين وَسُكُون(12/97)
الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَحكى ضم الْحَاء وَهُوَ شَاذ، وَقد فسره بالرشوة فِي الحكم، وَهُوَ بِتَثْلِيث الرَّاء، وَقيل بِفَتْح الرَّاء الْمصدر، وبالكسر الِاسْم. وَقيل: السُّحت مَا يلْزم الْعَار بِأَكْلِهِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرِّشْوَة الوصلة إِلَى الْحَاجة بالمصانعة وَأَصله من الرشاء الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى المَاء. وَقَالَ: السُّحت الْحَرَام الَّذِي لَا يحل كَسبه لِأَنَّهُ يسحت الْبركَة أَي يذهبها، واشتقاقه من السُّحت بِالْفَتْح، وَهُوَ الإهلاك والاستئصال. قَوْله: (وَكَانُوا يُعْطون) أَي: الْأُجْرَة، على الْخرص، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وبالصاد الْمُهْملَة، وَهُوَ الْحِرْز وزنا وَمعنى. وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي الْبيُوع.
ثمَّ اعْمَلْ أَن قَول ابْن سِيرِين: فِي أُجْرَة القسام، مُخْتَلف فِيهِ، فروى عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) : من طَرِيق يحيى بن عَتيق عَن مُحَمَّد وَهُوَ ابْن سِيرِين: أَنه كَانَ يكره أجور القسام، وَيَقُول: كَانَ يُقَال: السُّحت الرِّشْوَة على الحكم، وَأرى هَذَا حكما يُؤْخَذ عَلَيْهِ الْأجر، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق قَتَادَة، قَالَ: قتل لِابْنِ الْمسيب: مَا ترى فِي كسب القسام؟ فكرهه، وَكَانَ الْحسن يكره كَسبه، وَقَالَ ابْن سِيرِين: إِن لم يكن حسنا فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَجَاءَت عَنهُ رِوَايَة جمع بهَا مَا بَين هَذَا الِاخْتِلَاف، قَالَ ابْن سعد: حَدثنَا عَارِم حَدثنَا حَمَّاد عَن يحيى عَن مُحَمَّد هُوَ ابْن سِيرِين، أَنه كَانَ يكره أَن يشارط القسام، فَكَأَنَّهُ كَانَ يكره لَهُ أَخذ الْأُجْرَة على سَبِيل المشارطة وَلَا يكرهها إِذا كَانَت بِغَيْر اشْتِرَاط. وَأما قَول ابْن سِيرِين: السُّحت الرِّشْوَة فِي الحكم، فَأَخذه مِمَّا جَاءَ عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، من قَوْلهم فِي تَفْسِير السُّحت: إِنَّه الرِّشْوَة فِي الحكم، أخرجه الطَّبَرِيّ بأسانيده عَنْهُم، وَرَوَاهُ من وَجه آخر مَرْفُوعا بِرِجَال ثِقَات، وَلكنه مُرْسل وَلَفظه: كل جسم أَنْبَتَهُ السُّحت فَالنَّار أولى بِهِ. قيل: يَا رَسُول الله! وَأما السُّحت قَالَ: (الرِّشْوَة فِي الحكم) .
16 - (حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان قَالَ حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن أبي المتَوَكل عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ انْطلق نفر من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سفرة سافروها حَتَّى نزلُوا على حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب فاستضافوهم فَأَبَوا أَن يضيفوهم فلدغ سيد ذَلِك الْحَيّ فسعوا لَهُ بِكُل شَيْء لَا يَنْفَعهُ شَيْء فَقَالَ بَعضهم لَو أتيتم هَؤُلَاءِ الرَّهْط الَّذين نزلُوا لَعَلَّه أَن يكون عِنْد بَعضهم شَيْء فأتوهم فَقَالُوا يَا أَيهَا الرَّهْط إِن سيدنَا لدغ وسعينا لَهُ بِكُل شَيْء لَا يَنْفَعهُ فَهَل عِنْد أحد مِنْكُم من شَيْء فَقَالَ بَعضهم نعم وَالله إِنِّي لأرقي وَلَكِن وَالله لقد استضفناكم فَلم تضيفونا فَمَا أَنا براق لكم حَتَّى تجْعَلُوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الْغنم فَانْطَلق يتفل عَلَيْهِ وَيقْرَأ الْحَمد لله رب الْعَالمين فَكَأَنَّمَا نشط من عقال فَانْطَلق يمشي وَمَا بِهِ قلبة قَالَ فأوفوهم جعلهم الَّذِي صالحوهم عَلَيْهِ فَقَالَ بَعضهم اقسموا فَقَالَ الَّذِي رقى لَا تَفعلُوا حَتَّى نأتي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَذْكُر لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُر مَا يَأْمُرنَا فقدموا على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرُوا لَهُ فَقَالَ وَمَا يدْريك أَنَّهَا رقية ثمَّ قَالَ قد أصبْتُم اقسموا واضربوا لي مَعكُمْ سَهْما فَضَحِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَانْطَلق يتفل عَلَيْهِ وَيقْرَأ الْحَمد لله رب الْعَالمين وَهُوَ الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي الثَّانِي أَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي الثَّالِث أَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة هُوَ جَعْفَر بن أبي وحشية وَهُوَ مَشْهُور بكنيته أَكثر من اسْمه وَاسم أَبِيه أَبُو وحشية إِيَاس الرَّابِع أَبُو المتَوَكل واسْمه عَليّ بن دَاوُد بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَقيل دَاوُد النَّاجِي بالنُّون وَالْجِيم السَّامِي بِالسِّين الْمُهْملَة مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة الْخَامِس أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك مَشْهُور باسمه وكنيته(12/98)
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رجال هَذَا الحَدِيث كلهم مذكورون بالكنى وَهَذَا غَرِيب جدا وَفِيه أَن شَيْخه وَمن بعده كلهم بصريون غير أبي عوَانَة فَإِنَّهُ واسطي وَفِيه عَن أبي بشر عَن أبي المتَوَكل عَن أبي سعيد وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي آخر الْبَاب بتصريح أبي بشر بِالسَّمَاعِ مِنْهُ وتابع أَبُو عوَانَة على هَذَا الْإِسْنَاد شُعْبَة كَمَا فِي آخر الْبَاب وهشيم كَمَا أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَخَالفهُم الْأَعْمَش فَرَوَاهُ عَن جَعْفَر بن أبي وحشية عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد جعل بدل أبي المتَوَكل أَبَا نَضرة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيقه وَقَالَ التِّرْمِذِيّ طَرِيق شُعْبَة أصح من طَرِيق الْأَعْمَش وَقَالَ ابْن مَاجَه هُوَ الصَّوَاب وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِيهِ اضْطِرَاب وَلَيْسَ بِشَيْء (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِيه عَن بنْدَار عَن غنْدر وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن بنْدَار وَأبي بكر بن نَافِع عَن غنْدر بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ وَفِي الْبيُوع عَن مُسَدّد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن بنْدَار بِهِ وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن أبي كريب وأوله بعثنَا فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " انْطلق نفر " النَّفر رَهْط الْإِنْسَان وعشيرته وَهُوَ اسْم جمع يَقع على جمَاعَة الرِّجَال خَاصَّة مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه قَالَ ابْن الْأَثِير وَيجمع على أَنْفَار وَهَذَا يدل على أَنهم مَا كَانُوا أَكثر من الْعشْرَة وَفِي سنَن ابْن مَاجَه بعثنَا فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش عِنْد التِّرْمِذِيّ بعثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثِينَ رجلا فنزلنا بِقوم لَيْلًا فسألناهم الْقرى أَي الضِّيَافَة وَفِيه عدد السّريَّة وَوقت النُّزُول وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ بعث سَرِيَّة عَلَيْهَا أَبُو سعيد وفيهَا تعْيين أَمِير السّريَّة والسرية طَائِفَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَرْبَعمِائَة تبْعَث إِلَى الْعَدو وَتجمع على السَّرَايَا قَوْله " حَيّ " اعْلَم أَن طَبَقَات أَنْسَاب الْعَرَب سِتّ الشّعب بِفَتْح الشين وَهُوَ النّسَب الْأَبْعَد كعدنان مثلا وَهُوَ أَبُو الْقَبَائِل الَّذين ينسبون إِلَيْهِ وَيجمع على شعوب والقبيلة وَهِي مَا انقسم بِهِ الشّعب كربيعة وَمُضر والعمارة بِكَسْر الْعين وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْقَبِيلَة كقريش وكنانة وَيجمع على عمارات وعمائر والبطن وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْعِمَارَة كبني عبد منَاف وَبني مَخْزُوم وَيجمع على بطُون وأبطن والفخذ وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْبَطن كبني هَاشم وَبني أُميَّة وَيجمع على أفخاذ والفصيلة بالصَّاد الْمُهْملَة وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْفَخْذ كبني الْعَبَّاس وَأكْثر مَا يَدُور على الْأَلْسِنَة من الطَّبَقَات الْقَبِيلَة ثمَّ الْبَطن وَرُبمَا عبر عَن كل وَاحِد من الطَّبَقَات السِّت بالحي إِمَّا على الْعُمُوم مثل أَن يُقَال حَيّ من الْعَرَب وَإِمَّا على الْخُصُوص مثل أَن يُقَال حَيّ من بني فلَان وَقَالَ الْهَمدَانِي فِي الْأَنْسَاب الشّعب والحي بِمَعْنى قَوْله " فاستضافوهم " أَي طلبُوا مِنْهُم الضِّيَافَة قَوْله " فَأَبَوا " أَي امْتَنعُوا من أَن يضيفوهم بِالتَّشْدِيدِ من التضييف ويروى بِالتَّخْفِيفِ وَقَالَ ثَعْلَب ضفت الرجل إِذا أنزلت بِهِ وأضفته إِذا أنزلته وَقَالَ ابْن التِّين ضَبطه فِي بعض الْكتب أَن يضيفوهم بِفَتْح الْيَاء وَالْوَجْه ضمهَا قَوْله " فلدغ " على بِنَاء الْمَجْهُول من اللدغ بِالدَّال الْمُهْملَة والغين الْمُعْجَمَة وَهُوَ اللسغ وزنا وَمعنى وَأما اللذغ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة فَهُوَ الإحراق الْخَفِيف واللدغ فِي الحَدِيث ضرب ذَات الْحمة من حَيَّة أَو عقرب وَقد بَين فِي التِّرْمِذِيّ أَنَّهَا عقرب (فَإِن قلت) عِنْد النَّسَائِيّ من رِوَايَة هشيم أَنه مصاب فِي عقله أَو لديغ (قلت) هَذَا شكّ من هشيم وَرَوَاهُ الْبَاقُونَ أَنه لديغ وَلم يشكوا خُصُوصا تَصْرِيح الْأَعْمَش بِأَنَّهُ لديغ من عقرب وَسَيَأْتِي فِي فَضَائِل الْقُرْآن من طَرِيق معبد بن سِيرِين بِلَفْظ أَن سيد الْحَيّ سليم وَكَذَا فِي الطِّبّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن سيد الْقَوْم سليم والسليم هُوَ اللديغ قيل لَهُ ذَلِك تفاؤلا بالسلامة وَقيل لاستسلامه بِمَا نزل بِهِ (فَإِن قلت) جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق خَارِجَة بن الصَّلْت عَن عَمه أَنه مر بِقوم وَعِنْدهم رجل مَجْنُون موثق فِي الْحَدِيد فَقَالُوا إِنَّك جِئْت من عِنْد هَذَا الرجل بِخَير فَارق لنا هَذَا الرجل وَفِي لفظ عَن خَارِجَة بن الصَّلْت عَن عَمه يَعْنِي علاقَة بن صحار أَنه رقى مَجْنُونا موثقًا بالحديد بِفَاتِحَة الْكتاب ثَلَاثَة أَيَّام كل يَوْم مرَّتَيْنِ فبرأ فأعطوني مِائَتي شَاة فَأخْبرت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " خُذْهَا ولعمري من أكل برقية(12/99)
بَاطِل فقد أكلت برقية حق " (قلت) هما قضيتان لِأَن الراقي هُنَاكَ أَبُو سعيد وَهنا علاقَة بن صحار وَبَينهمَا اخْتِلَاف كثير قَوْله " جعلا " بِضَم الْجِيم وَهُوَ الْأُجْرَة على الشَّيْء وَيُقَال أَيْضا جعَالَة والجعل بِالْفَتْح مصدر يُقَال جعلت لَك كَذَا جعلا وَجعلا قَوْله " فسعوا لَهُ بِكُل شَيْء " أَي مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة أَن يتداوى بِهِ من لدغة الْعَقْرَب وَقَالَ الْخطابِيّ يَعْنِي عالجوا طلبا للشفاء يُقَال سعى لَهُ الطَّبِيب عالجه بِمَا يشفيه أَو وصف لَهُ مَا فِيهِ الشِّفَاء وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فشفوا بالشين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء وَعَلِيهِ شرح الْخطابِيّ فَقَالَ مَعْنَاهُ طلبُوا لَهُ الشِّفَاء يُقَال شفى الله مريضي إِذا أَبرَأَهُ وشفى لَهُ الطَّبِيب أَي عالجه بِمَا يشفيه أَو وصف لَهُ مَا فِيهِ الشِّفَاء وَادّعى ابْن التِّين أَن هَذَا تَصْحِيف (قلت) الَّذِي قَالَه أقرب قَوْله " لَو أتيتم هَؤُلَاءِ الرَّهْط " قَالَ ابْن التِّين قَالَ تَارَة نَفرا وَتارَة رهطا قَوْله " لَو أتيتم " جَوَاب لَو مَحْذُوف أَو هُوَ لِلتَّمَنِّي قَوْله " فأتوهم " وَفِي رِوَايَة معبد بن سِيرِين أَن الَّذِي جَاءَ فِي الرسلية جَارِيَة مِنْهُم فَيحمل على أَنه كَانَ مَعهَا غَيرهَا قَوْله " وسعينا " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فشفينا من الشِّفَاء كَمَا ذكرنَا عَن قريب قَوْله " فَقَالَ بَعضهم " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد فَقَالَ رجل من الْقَوْم نعم وَالله إِنِّي لأرقي بِكَسْر الْقَاف وَبَين الْأَعْمَش أَن الَّذِي قَالَ ذَلِك أَبُو سعيد رَاوِي الْخَبَر وَلَفظه قلت نعم أَنا وَلَكِن لَا أرقيه حَتَّى تعطونا غنما (فَإِن قلت) فِي رِوَايَة معبد بن سِيرِين أخرجهَا مُسلم فَقَامَ منا رجل مَا كُنَّا نظنه يحسن رقية وَسَيَأْتِي فِي فَضَائِل الْقُرْآن فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ أَكنت تحسن رقية فَفِي هَذَا مَا يشْعر بِأَنَّهُ غَيره (قلت) لَا مَانع من أَن يكنى الرجل عَن نَفسه وَهُوَ من بَاب التَّجْرِيد فَلَعَلَّ أَبَا سعيد صرح تَارَة وكنى أُخْرَى وَوَقع فِي حَدِيث جَابر رَوَاهُ الْبَزَّار فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار أَنا أرقيه وَأَبُو سعيد أَنْصَارِي وَحمل بعض الشَّارِحين ذَلِك على تعدد الْقِصَّة وَكَانَ أَبُو سعيد روى قصتين كَانَ فِي إِحْدَاهمَا راقيا وَفِي الْأُخْرَى كَانَ غَيره قيل هَذَا بعيد جدا لِاتِّحَاد مخرج الحَدِيث والسياق وَالسَّبَب قَوْله " فصالحوهم " أَي وافقوهم قَوْله " غنم " على قطيع من الْغنم والقطيع طَائِفَة من الْغنم والمواشي وَقَالَ الدَّاودِيّ يَقع على مَا قل وَكثر وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ ثَلَاثُونَ شَاة قَوْله " يتفل عَلَيْهِ " من تفل بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق يتفل بِكَسْر الْفَاء وَضمّهَا تفلا وَهُوَ نفخ مَعَه قَلِيل بصاق وَقَالَ ابْن بطال التفل البصاق وَقيل مَحل التفل فِي الرّقية يكون بعد الْقِرَاءَة لتَحْصِيل بركَة الْقِرَاءَة فِي الْجَوَارِح الَّتِي يمر عَلَيْهَا الرِّيق فَتحصل الْبركَة فِي الرِّيق الَّذِي يتفله قَوْله " وَيقْرَأ الْحَمد لله رب الْعَالمين " وَفِي رِوَايَة شُعْبَة فَجعل يقْرَأ عَلَيْهِ بِفَاتِحَة الْكتاب وَكَذَا فِي حَدِيث جَابر وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش فَقَرَأت عَلَيْهِ وَأَنه سبع مَرَّات وَفِي رِوَايَة جَابر ثَلَاث مَرَّات قَوْله " نشط " بِضَم النُّون وَكسر الشين الْمُعْجَمَة من الثلاثي الْمُجَرّد كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْجَمِيع وَقَالَ الْخطابِيّ وَهُوَ لُغَة وَالْمَشْهُور نشط إِذا عقد وَأنْشط إِذا حل يُقَال نشطته إِذا عقدته وأنشطته إِذا حللته وفكيته وَعند الْهَرَوِيّ فَكَأَنَّمَا نشط من عقال وَقيل مَعْنَاهُ أقيم بِسُرْعَة وَمِنْه يُقَال رجل نشيط والعقال بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالقاف هُوَ الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ ذِرَاع الْبَهِيمَة قَوْله " يمشي " جملَة وَقعت حَالا قَوْله " قلبة " بالفتحات أَي عِلّة وَقيل لِلْعِلَّةِ قلبة لِأَن الَّذِي تصيبه يتقلب من جنب إِلَى جنب ليعلم مَوضِع الدَّاء وبخط الدمياطي أَنه دَاء مَأْخُوذ من القلاب يَأْخُذ الْبَعِير فيشتكي مِنْهُ قلبه فَيَمُوت من يَوْمه قَالَه ابْن الْأَعرَابِي قَوْله " فَقَالَ الَّذِي رقى " بِفَتْح الْقَاف قَوْله " فَنَنْظُر مَا يَأْمُرنَا " أَي فنتبعه وَلم يُرِيدُوا أَن يكون لَهُم الْخيرَة فِي ذَلِك قَوْله " وَمَا يدْريك أَنَّهَا رقية " قَالَ الدَّاودِيّ مَعْنَاهُ وَمَا أَدْرَاك وَقد روى كَذَلِك وَلَعَلَّه هُوَ الْمَحْفُوظ لِأَن ابْن عُيَيْنَة قَالَ إِذا قَالَ وَمَا يدْريك فَلم يعلم وَإِذا قَالَ وَمَا أَدْرَاك فقد أعلم وَاعْترض بِأَن ابْن عُيَيْنَة إِنَّمَا قَالَ ذَلِك فِيمَا وَقع فِي الْقرَان وَلَا فرق بَينهمَا فِي اللُّغَة أَي فِي نفي الدارية وَوَقع فِي رِوَايَة هشيم وَمَا أَدْرَاك وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ وَمَا علمك أَنَّهَا رقية قَالَ حق ألقِي فِي روعي وَهَذِه الْكَلِمَة أَعنِي وَمَا أَدْرَاك وَمَا يدْريك تسْتَعْمل عِنْد التَّعَجُّب من الشَّيْء وَفِي تَعْظِيمه قَوْله " قد أصبْتُم " أَي فِي الرّقية قَوْله " واضربوا لي سَهْما " أَي اجعلوا لي مِنْهُ نَصِيبا وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالغَة فِي تصويبه إيَّاهُم كَمَا وَقع لَهُ فِي قصَّة الْحمار الوحشي وَغير ذَلِك (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الرّقية بِشَيْء من كتاب الله تَعَالَى وَيلْحق بِهِ مَا كَانَ من الدَّعْوَات المأثورة أَو مِمَّا يشابهها وَلَا يجوز بِأَلْفَاظ مِمَّا لَا يعلم مَعْنَاهَا من الْأَلْفَاظ الْغَيْر الْعَرَبيَّة وَفِيه خلاف فَقَالَ الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة آخَرُونَ يكره الرقي وَالْوَاجِب على الْمُؤمن أَن يتْرك ذَلِك اعتصاما بِاللَّه تَعَالَى وتوكلا عَلَيْهِ وثقة بِهِ وانقطاعا إِلَيْهِ(12/100)
وعلما بِأَن الرّقية لَا تَنْفَعهُ وَإِن تَركهَا لَا يضرّهُ إِذْ قد علم الله تَعَالَى أَيَّام الْمَرَض وَأَيَّام الصِّحَّة فَلَو حرص الْخلق على تقليل أَيَّام الْمَرَض وزمن الدَّاء وعَلى تَكْثِير أَيَّام الصِّحَّة مَا قدرُوا على ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها} وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي مجلز قَالَ كَانَ عمرَان بن حُصَيْن ينْهَى عَن الكي فابتلي فَكَانَ يَقُول لقد اكتويت كَيَّة بِنَار فَمَا أبرأتني من إِثْم وَلَا شفتني من سقم وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَآخَرُونَ لَا بَأْس بالرقى وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث الْبَاب وَغَيره وَفِيه جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب مُسْتَوْفِي وَفِيه أَن سُورَة الْفَاتِحَة فِيهَا شِفَاء وَلِهَذَا من أسمائها الشافية وَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا فَاتِحَة الْكتاب شِفَاء من كل سقم وَلأبي دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود مرض الْحسن أَو الْحُسَيْن فَنزل جِبْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأمره أَن يقْرَأ الْفَاتِحَة على إِنَاء من المَاء أَرْبَعِينَ مرّة فَيغسل يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَرَأسه وَقَالَ ابْن بطال مَوضِع الرّقية مِنْهَا إياك نستعين وَعبارَة الْقُرْطُبِيّ موضعهَا إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين وَالظَّاهِر أَنَّهَا كلهَا رقية لقَوْله وَمَا يدْريك أَنَّهَا رقية وَلم يقل فِيهَا فَيُسْتَحَب قرَاءَتهَا على اللديغ وَالْمَرِيض وَصَاحب العاهة وَفِيه مَشْرُوعِيَّة الضِّيَافَة على أهل الْبَوَادِي وَالنُّزُول على مياه الْعَرَب والطلب مِمَّا عِنْدهم على سَبِيل الْقرى أَو الشرى وَفِيه مُقَابلَة من امْتنع من المكرمة بنظير صَنِيعه كَمَا صنعه الصَّحَابِيّ من الِامْتِنَاع من الرّقية فِي مُقَابلَة امْتنَاع أُولَئِكَ من ضيافتهم وَهَذَا طَريقَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا وَلم يعْتَذر الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام عَن ذَلِك إِلَّا بِأَمْر خَارج عَن ذَلِك وَفِيه الِاشْتِرَاك فِي الْمَوْهُوب إِذا كَانَ أَصله مَعْلُوما وَفِيه جَوَاز قبض الشَّيْء الَّذِي ظَاهره الْحل وَترك التَّصَرُّف فِيهِ إِذا عرضت فِيهِ شُبْهَة وَفِيه عَظمَة الْقُرْآن فِي صُدُور الصَّحَابَة خُصُوصا الْفَاتِحَة وَفِيه أَن الرزق الَّذِي قسم لأحد لَا يفوتهُ وَلَا يَسْتَطِيع من هُوَ فِي يَده مَنعه مِنْهُ وَفِيه الِاجْتِهَاد عِنْد فقد النَّص
(قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ شُعْبَة قَالَ حَدثنَا أَبُو بشر سَمِعت أَبَا المتَوَكل بِهَذَا) أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة هُوَ جَعْفَر بن أبي وحشية الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دَاوُد الْمَذْكُور فِيهِ وَوَصله التِّرْمِذِيّ بِهَذِهِ الصِّيغَة وَالْبُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ وَلَكِن وَصله بالعنعنة -
71 - (بابُ ضَرِيبَةِ الْعَبْد وتَعاهُدِ ضَرَائِبِ الإماءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي النّظر فِي ضريبة العَبْد، والضريبة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة على وزن فعيلة بِمَعْنى مفعولة: وَهِي مَا يقرره السَّيِّد على عَبده فِي كل يَوْم أَن يُعْطِيهِ. قَوْله: (وتعاهد) ، أَي: وَفِي بَيَان افتقاد ضَرَائِب الْإِمَاء، والضرائب جمع ضريبة، وَالْإِمَاء جمع أمة، وَإِنَّمَا اختصها بالتعاهذ لكَونهَا مَظَنَّة لطريق الْفساد فِي الْأَغْلَب مَعَ أَنه يخْشَى أَيْضا من اكْتِسَاب لعبد بِالسَّرقَةِ مثلا، وَقيل: كَأَنَّهُ أَرَادَ بالتعاهد التفقد لمقدار ضريبة الْأمة لاحْتِمَال أَن تكون ثَقيلَة فتحتاج إِلَى التكسب بِالْفُجُورِ.
7722 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَو صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وكَلَّمَ مَوالِيَهُ فَخَفَّفَ عنْ غَلَّتِهِ أوْ ضَرِيبَتِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَخفف عَن غَلَّته) ، وَهُوَ النّظر فِي ضريبة العَبْد والْحَدِيث مضى بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِيمَا مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب ذكر الْحجام، غير أَن هُنَاكَ: وَأمر أَهله أَن يخففوا من خراجه، وَهُنَاكَ: من صَاع من تمر، وَهنا لَيْسَ فِيهِ ذكر التَّمْر، بل قَالَ: من طَعَام، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، لِأَن الطَّعَام هُوَ المطعوم، وَالتَّمْر مطعوم، أَو كَانَت الْقَضِيَّة مرَّتَيْنِ. قَوْله: (أَو(12/101)
صَاعَيْنِ) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (فَكلم موَالِيه) أَي: ساداته، وهم بَنو حَارِثَة على الصَّحِيح، وَمولى أَبُو طيبَة مِنْهُم هُوَ محيصة بن مَسْعُود، وَإِنَّمَا ذكر الموَالِي بِلَفْظ الْجمع إِمَّا بِاعْتِبَار أَنه كَانَ مُشْتَركا بَين طَائِفَة؟ وَإِمَّا مجَازًا كَمَا يُقَال: تَمِيم قتلوا فلَانا، وَالْقَاتِل هُوَ شخص وَاحِد مِنْهُم. قَوْله: (فَخفف من غَلَّته) ، بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وَهِي الْخراج والضريبة وَالْأَجْر بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (أَو ضريبته) ، شكّ من الرَّاوِي. فَإِن قلت: مَا فِيهِ مَا يدل على ضَرَائِب الْإِمَاء، والترجمة مُشْتَمِلَة عَلَيْهِ. قلت: بِالْقِيَاسِ على ضريبة العَبْد.
81 - (بابُ خَرَاجِ الحَجَّامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خراج الْحجام، أَي: أجره.
8722 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قل حَدثنَا ابنُ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ احْتجَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعْطَى الحَجَّامَ أجْرَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب ذكر الْحجام، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد الله عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: احْتجم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأعْطى الَّذِي حجمه، وَلَو كَانَ حَرَامًا لم يُعْطه. وَهنا أخرجه: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي عَن وهيب بن خَالِد عَن عبد الله بن طَاوُوس.
9722 - حدَّثنا مسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عنْ خالِدٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ احْتَجَم النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعْطَى الحَجَّامَ أجْرَهُ ولَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأعْطى الْحجام أجره) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى.
قَوْله: (وَلَو علم كَرَاهِيَة لم يُعْطه) ، أَي: وَلَو علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَرَاهِيَة أجر الْحجام لم يُعْطه أجره، وَلَفظه فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُسَدّد: وَلَو كَانَ حَرَامًا لم يُعْطه، يدل على أَن المُرَاد بالكراهية هُنَا كَرَاهِيَة التَّحْرِيم.
0822 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا مِسْعَرٌ عنْ عَمْرِو بنِ عامرٍ قَالَ سَمِعْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقولُ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَحْتَجِمُ ولَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أحَدا أجْرَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن: ومسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن كدام، مر فِي: بَاب الْوضُوء بِالْمدِّ. وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَامر الْأنْصَارِيّ مر فِي الْوضُوء من غير حدث، وَلَيْسَت لَهُ رِوَايَة فِي البُخَارِيّ إلاَّ عَن أنس، لَهُ حَدِيث فِي الْوضُوء وَأخر فِي الصَّلَاة، وَهَذَا الْمَذْكُور هُنَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن مسعر بِهِ.
قَوْله: (وَلم يكن يظلم أحدا أجره) ، أَعم من أجر الْحجام وَغَيره، مِمَّن يسْتَعْمل فِي عمل، وَالْمرَاد أَنه يُوفي أجر كل أجِير، وَلم يكن يظلم أَي: ينقص من أجر أحد، وَلَا يردهُ بِغَيْر أجر.
91 - (بابُ مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ العَبْدِ أنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من كلم موَالِي العَبْد أَن يخففوا، أَي: بِأَن يخففوا عَنهُ من خراجه، أَي: من ضريبته الَّتِي وَضعهَا مَوْلَاهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا التكليم بطرِيق التَّفْضِيل لَا على وَجه الْإِلْزَام، إلاَّ إِذا كَانَ العَبْد لَا يُطيق ذَلِك، وَإِنَّمَا جمع: الْمولى، إِمَّا بِاعْتِبَار كَون العَبْد مُشْتَركا بَين جمَاعَة، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَنه مجَاز، كَمَا ذكرنَا عَن قريب فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق.(12/102)
1822 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ دَعَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غلاَما حَجَّاما فحَجَمَهُ وأمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أوْ صَاعَيْنِ أوْ مُدٍّ أوْ مُدَّيْنِ وكَلَّمع فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وكلم فِيهِ فَخفف من ضريبته) ، والْحَدِيث عَن حميد عَن أنس مر عَن قريب، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه عَن حميد: سَمِعت أنسا.
قَوْله: (دَعَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غُلَاما) قَالَ بَعضهم: هُوَ أَبُو طيبَة كَمَا تقدم قبل بَاب. قلت: من أَيْن علم أَنه هُوَ؟ فَلم لَا يجوز أَن يكون غَيره؟ وَمن ادّعى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكن لَهُ إلاَّ حجام وَاحِد مُتَعَيّن فَعَلَيهِ الْبَيَان. وَقد روى ابْن مَنْدَه فِي (معرفَة الصَّحَابَة) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ قَالَ: كَانَ جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم على كَاهِله من أجل الشَّاة الَّتِي أكلهَا، حجمه أَبُو هِنْد مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: أَن أَبَا هِنْد حجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اليافوخ ... الحَدِيث. وَقَالَ ابْن مَنْدَه: قيل: إسم أبي هِنْد سِنَان، وَقيل: سَالم. قَوْله: (وكلم فِيهِ) ، مَفْعُوله مَحْذُوف، أَي: كلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغُلَام الْمَذْكُور مَوْلَاهُ بِأَن يُخَفف عَنهُ من ضريبته، وَكلمَة: فِي، للتَّعْلِيل، أَي: كلم لأَجله كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها) أَي: لأجل هرة.
وَفِيه: اسْتِعْمَال العَبْد بِغَيْر إِذن سَيّده إِذا كَانَ معدا لعمل ومعروفا بِهِ. وَفِيه: الحكم بِالدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ على أَنه مَأْذُون لَهُ فِي الْعَمَل لانتصابه لَهُ وَعرض نَفسه عَلَيْهِ، وَيجوز للحجام أَن يَأْكُل من كَسبه، وَكَذَلِكَ السَّيِّد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
02 - (بابُ كَسْبِ الْبَغِيِّ والإماءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم كسب الْبَغي وَالْإِمَاء الْبَغي الْفَاجِرَة، يُقَال: بَغت الْمَرْأَة تبغي، بِالْكَسْرِ: بغيا إِذا زنت، فَهِيَ بغي، وَيجمع على: بَغَايَا. وَالْإِمَاء جمع: أمة. وَالْبَغي أَعم من أَن تكون أمة أَو حرَّة، وَالْأمة أَعم من أَن تكون بغية أَو عفيفة، وَلم يُصَرح بالحكم تَنْبِيها على أَن الْمَمْنُوع من كسب الْبَغي مُطلق، والممنوع من كسب الْأمة مُقَيّد بِالْفُجُورِ، لِأَن كسبها بالصنائع الْجَائِزَة غير مَمْنُوع.
وكَرِهَ إبْرَاهِيمُ أجْرَ النَّائِحَةِ والمُغَنِّيَةِ
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي هَاشم عَنهُ: أَنه كره أجر النائحة والمغنية والكاهن، وَكَرِهَهُ أَيْضا الشّعبِيّ وَالْحسن، وَقَالَ عبد الله بن هُبَيْرَة: وأكلهم السُّحت، قَالَ: مهر الْبَغي، فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة فِي ذكر أثر إِبْرَاهِيم هَذَا فِي هَذَا الْبَاب؟ قلت: قَالَ بَعضهم: كَانَ البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن النَّهْي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَحْمُول على مَا كَانَت الحرفة فِيهِ مَمْنُوعَة، أَو تجر إِلَى أَمر مَمْنُوع. انْتهى. قلت: هَذَا لَا يصلح أَن يكون جَوَابا عَن السُّؤَال عَن الْمُنَاسبَة فِي ذكر الْأَثر الْمَذْكُور، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِن بَين كسب الْبَغي وَأجر النائحة والمغنية مُنَاسبَة من حَيْثُ إِن كلاَّ مِنْهُمَا مَعْصِيّة كَبِيرَة. وَأَن إِجَارَة كل مِنْهُمَا بَاطِلَة، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ.
وقَوْلُ الله تعالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغَاءِ إِن يُرِدْنَ تحَصُّنا لِتَبْتَغُوا عَرَض الحَياةِ الدُّنْيَا ومَنْ يُكْرِهْهُنَّ فإنَّ الله منْ بَعْدِ إكْرَاهِهنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النُّور: 33) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ تَقْدِيره: وَبَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا} الْآيَة، ذكر هَذِه الْآيَة فِي معرض الدَّلِيل لحُرْمَة كسب الْبَغي لِأَنَّهُ نهي عَن إِكْرَاه الفتيات أَي: الْإِمَاء على الْبغاء، أَي: الزِّنَا، وَالنَّهْي يَقْتَضِي تَحْرِيم ذَلِك، وَتَحْرِيم هَذَا يَسْتَدْعِي حُرْمَة زناهن وَحُرْمَة زناهن تَسْتَلْزِم حُرْمَة وضع الضرائب عَلَيْهِنَّ، وَهِي تَقْتَضِي حُرْمَة الْأجر الْحَاصِل من ذَلِك.
ثمَّ سَبَب نزُول(12/103)
هَذِه الْآيَة، فِيمَا ذكره مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي تَفْسِيره نزلت هَذِه الْآيَة فِي سِتّ جوَار لعبد الله بن أبي بن سلول كَانَ يكرههن على الزِّنَا، وَيَأْخُذ أُجُورهنَّ، وَهِي: معَاذَة ومسيكة وَأُمَيْمَة وَعمرَة وأروى وَقتيلَة، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُنَّ يَوْمًا بِدِينَار، وَجَاءَت أُخْرَى بِبرد، فَقَالَ لَهما: إرجعا فازنيا، فَقَالَتَا: وَالله لَا نَفْعل، قد جَاءَ الله تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَحرم الزِّنَا، فَأَتَتَا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشكتا إِلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ذكره الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: فِي قَوْله: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} (النُّور: 33) . قَالَ: إماءكم على الزِّنَا، وَأَن عبد الله بن أبي أَمر أمة لَهُ بِالزِّنَا فزنت فَجَاءَت بِبرد، فَقَالَ: إرجعي فازني على آخر. قَالَت: وَالله مَا أَنا براجعة، فَنزلت. وَهَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق أبي سُفْيَان عَن جَابر مَرْفُوعا، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق أبي الزبير: سمع جَابِرا قَالَ: جَاءَت مُسَيْكَة أمة لبَعض الْأَنْصَار فَقَالَت: إِن سَيِّدي يكرهني على الْبغاء. . فَنزلت. قَوْله: (فَتَيَاتكُم) ، جمع: فتاة، وَهِي الشَّابَّة، والفتى الشَّاب، وَقد فتي، بِالْكَسْرِ، يُفْتِي فَهُوَ فتي السن بَين الفتا والفتي السخي الْكَرِيم، وَقد تفتَّى وتفاتى، وَالْجمع: فتيَان وفتية، وفتو، على فعول، وفتي مثل عَصا، والفتيان: اللَّيْل وَالنَّهَار، واستفتيت الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة فأفتاني، وَالِاسْم الْفتيا وَالْفَتْوَى. قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} (النُّور: 33) . أَي: تعففا. وَقَالَ بَعضهم، قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} (النُّور: 33) . لَا مَفْهُوم لَهُ، بل خرج مخرج الْغَالِب. قلت: الْمَفْهُوم لَا يَصح نَفْيه لِأَن كلمة: إِن، تَقْتَضِي ذَلِك، وَلَكِن الَّذِي يُقَال هُنَا: أَن: إِن، لَيست للشّرط، بل بِمَعْنى: إِذْ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} (الْبَقَرَة: 872) . وَقَوله تَعَالَى: {وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين} (آل عمرَان: 931) . وَقَوله تَعَالَى: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله} (الْفَتْح: 72) . وَمعنى: إِن، فِي هَذِه كلهَا بِمَعْنى: إِذْ، وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْط لِأَنَّهُ لَا يجوز إكراههن على الزِّنَا إِن لم يردن تَحَصُّنًا، ثمَّ قَالَ: وَكلمَة: إِن، وإيثارها على: إِذا، إيذان بِأَن الباغيات كن يفعلن ذَلِك برغبة وطواعية، وَقيل: إِن أردن تَحَصُّنًا. مُتَّصِل بقوله: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} (النُّور: 23) . أَي: من أَرَادَ أَن يلْزم الحصانة فليتزوج. وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: {فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} (النُّور: 33) . لمن أَرَادَ تَحَصُّنًا. قَوْله: (لتبتغوا) أَي: لتطلبوا بإكراههن على الزِّنَا أُجُورهنَّ على الزِّنَا. قَوْله: (غَفُور رَحِيم) أَي: لَهُنَّ، وَقيل: لَهُم، لمن تَابَ عَن ذَلِك بعد نزُول الْآيَة، وَقيل: لَهُنَّ وَلَهُم إِن تَابُوا وَأَصْلحُوا.
2822 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ ثَمَنِ الكَلْبِ ومَهْرِ البَغِيِّ وحُلْوانِ الْكَاهِنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمهر الْبَغي) . والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَاخِر الْبيُوع فِي: بَاب ثمن الْكَلْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
3822 - حدَّثنا مُسْلِمُ بن إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ جُحَادَةَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ نَهى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كَسْبِ الإماءِ. (الحَدِيث 3822 طرفه فِي: 8435) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن جحادة، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة: الْأَيَامَى، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة: واسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ. والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن الْجَعْد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من كسب الْإِمَاء الْمنْهِي: هُوَ الْكسْب الَّذِي تحصله الْأمة بِالْفُجُورِ، وَأما الَّذِي تحصله بالصناعة الْمُبَاحَة فَغير مَنْهِيّ عَنهُ.
12 - (بابُ عَسْبِ الفَحْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن عسب الْفَحْل، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَة عسب الْفَحْل، وَهُوَ بِفَتْح الْعين وَسُكُون(12/104)
السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَقد اخْتلف أهل اللُّغَة فِيهِ: هَل هُوَ الضراب أَو الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ عَلَيْهِ أَو مَاء الْفَحْل؟ فَحكى أَبُو عبيد عَن الْأمَوِي: أَنه الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ على ضراب الْفَحْل، وَبِه صدر الْجَوْهَرِي كَلَامه فِي (الصِّحَاح) ، ثمَّ قَالَ: وعسب الْفَحْل أَيْضا ضرابه. وَيُقَال: مَاؤُهُ، وَصدر صَاحب (الْمُحكم) كَلَامه بِأَن العسب: ضراب الْفَحْل، ثمَّ قَالَ: عسب الرجل يعسبه عسبا أعطَاهُ، وَقَالَ أَبُو عبيد: العسب فِي الحَدِيث الْكِرَاء، وَالْأَصْل فِيهِ الضراب. قَالَ: وَالْعرب تسمي الشَّيْء باسم غَيره إِذا كَانَ مَعَه، أَو من سَببه، كَمَا قَالُوا للمزادة: راوية، والراوية: الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ، قَالَ شَيخنَا: وَيدل على مَا قَالَه أَبُو عبيد رِوَايَة الشَّافِعِي: (نهى عَن ثمن بيع عسب الْفَحْل) ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْمَشْهُور فِي الفقهيات أَن العسب الضراب، وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ النُّطْفَة. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) عسب الرجل عسبا أكرى مِنْهُ فحلاً ينزيه. وَقَالَ أَبُو عَليّ: وَلَا يتَصَرَّف مِنْهُ فعل، يُقَال: قطع الله عسبه أَي: مَاءَهُ ونسله، وَنقل ابْن التِّين عَن أَصْحَاب مَالك: أَن معنى عسب الْفَحْل أَن يتَعَدَّى عَلَيْهِ بِغَيْر أجر. وَقَالُوا: لَيْسَ بمعقول أَن يُسمى الْكِرَاء عسبا.
4822 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ وإسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلِيِّ بن الحَكَمِ عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ عَسْبِ الفَحْلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عَليّ بن الحكم، بالفتحتين: الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد النُّون الأولى. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن مُسَددًا روى عَن شيخين. وَفِيه: أَن إِسْمَاعِيل بن علية ذكر هُنَا بنسبته إِلَى أَبِيه وشهرته باسم أمه عَلَيْهِ أَكثر. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون مَا خلا نَافِعًا. وَفِيه: أَن عَليّ بن الحكم ثِقَة عِنْد الْجَمِيع إلاَّ أَن أَبَا الْفَتْح الْأَزْدِيّ لينه. قَالَ بَعضهم: لينه بِلَا مُسْتَند. قلت: لَو لم يظْهر عِنْده شَيْء لما لينه، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل وَحده بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع وَأبي عمار عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن علية بِهِ، وَعَن حميد بن مسْعدَة عَن عبد الْوَارِث بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن حميد بن مسْعدَة عَن عبد الْوَارِث، وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة. أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وعسب الْفَحْل، وَفِي رِوَايَة للنسائي: عسب التيس وَعَن أنس أخرجه ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن ابْن شهَاب، عَن أنس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن أجر عسب الْفَحْل. قَالَ أَبُو حَاتِم: إِنَّمَا يروي من كَلَام أنس، وَيزِيد لم يسمع من الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا كتب إِلَيْهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا. وَعَن أبي سعيد أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة هِشَام عَن ابْن أبي نعيم عَنهُ، قَالَ: نهى عَن عسب الْفَحْل، وَعَن جَابر أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع ضراب الْجمل. وَعَن عَليّ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه عبد الله بن أَحْمد فِي (زوائده) على الْمسند من حَدِيث عَاصِم بن ضَمرَة عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطُّيُور، وَعَن ثمن الْميتَة، وَعَن لحم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَعَن مهر الْبَغي، وَعَن عسب الْفَحْل، وَعَن المياثر الأرجوان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ من حرم بيع عسب الْفَحْل وإجارته، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة: مِنْهُم: عَليّ وَأَبُو هُرَيْرَة، وَهُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء، كَمَا حكى عَنْهُم الْخطابِيّ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَجزم أَصْحَاب الشَّافِعِي بِتَحْرِيم البيع لِأَن مَاء الْفَحْل غير مُتَقَوّم وَلَا مَعْلُوم وَلَا مَقْدُور على تَسْلِيمه. وحكوا فِي إِجَارَته وَجْهَيْن: أصَحهمَا:(12/105)
الْمَنْع، وَذهب ابْن أبي هُرَيْرَة إِلَى جَوَاز الْإِجَارَة عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول مَالك، وَإِنَّمَا يجوز عِنْدهم إِذا اسْتَأْجرهُ على نزوات مَعْلُومَة وعَلى مُدَّة مَعْلُومَة، فَإِن آجره على الطّرق حَتَّى يحمل لم يَصح، وَرخّص فِيهِ الْحسن وَابْن سِيرِين، وَقَالَ عَطاء: لَا بَأْس بِهِ إِذا لم يجد مَا يطرقه.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَكرِهت طَائِفَة أَن يسْتَأْجر الْفَحْل لينزيه مُدَّة مَعْلُومَة بِأَجْر مَعْلُوم، وَذَلِكَ عَن أبي سعيد والبراء، وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى: إِنَّه لَا يجوز، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس أَن رجلا من كلاب سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن عسب الْفَحْل فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّا نطرق الْفَحْل فنركم، فَرخص فِي الْكَرَامَة، ثمَّ قَالَ: حسن غَرِيب.
وَفِيه: جَوَاز قبُول الْكَرَامَة على عسب الْفَحْل وَإِن حرم بَيْعه وإجارته، وَبِه صرح أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: وَيجوز أَن يُعْطي صَاحب الْأُنْثَى صَاحب الْفَحْل شَيْئا على سَبِيل الْهَدِيَّة، خلافًا لِأَحْمَد، انْتهى. وَمَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد قد حُكيَ عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، فروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَسْرُوق، قَالَ: سَأَلت عبد الله عَن السُّحت؟ قَالَ: الرجل يطْلب الْحَاجة فيهدى إِلَيْهِ فيقبلها، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَهُ أَنه تقبل رجلا أَي: صمنه، فَأعْطَاهُ دَرَاهِم وَحمله وكساه، فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو لم تقبله أَكَانَ يعطيك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَا يصلح لَك، وروى أَيْضا عَن أبي مَسْعُود، عقبَة بن عَمْرو، وَأَنه أَتَى إِلَى أَهله، فَإِذا هَدِيَّة، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: الَّذِي شفعت لَهُ، فَقَالَ: أخرجوها أتعجل أجر شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه كلم عليا فِي حَاجَة دهقان، فَبعث إِلَى عبد الله بن جَعْفَر بِأَرْبَعِينَ ألفا، فَقَالَ: ردوهَا عَلَيْهِ، فَإنَّا أهل بَيت لَا نبيع الْمَعْرُوف. وَقد رُوِيَ نَحْو هَذَا فِي حَدِيث مَرْفُوع، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من رِوَايَة خَالِد بن أبي عمرَان عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من شفع لِأَخِيهِ شَفَاعَة فأهدى لَهُ هَدِيَّة عَلَيْهَا، فقد أَتَى بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الرِّبَا، وَهَذَا معنى مَا ورد: كل قرض جر مَنْفَعَة فَهُوَ رَبًّا، وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : من حَدِيث أبي عَامر الْهَوْزَنِي عَن أبي كَبْشَة الْأَنمَارِي: أَنه أَتَاهُ فَقَالَ: أطرقني فرسك، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: من أطرق فرسا فعقب لَهُ كَانَ لَهُ كَأَجر سبعين فرسا حمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، وَإِن لم يعقب كَانَ لَهُ كَأَجر فرس حمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله. قَوْله: (أطرقني) ، أَي: أعرني فرسك للإنزاء. ثمَّ الْحِكْمَة فِي كَرَاهَة إِجَارَته عِنْد من يمْنَعهَا أَنَّهَا لَيست من مَكَارِم الْأَخْلَاق. وَمن جوزها من الشَّافِعِيَّة والحنابلة بِمدَّة مَعْلُومَة قاسها على جَوَاز الِاسْتِئْجَار لتلقيح النّخل، وَهُوَ قِيَاس بالفارق، لِأَن الْمَقْصُود هُنَا مَاء الْفَحْل وَصَاحبه عَاجز عَن تَسْلِيمه، بِخِلَاف تلقيح النّخل.
22 - (بابٌ إذَا اسْتَأجَرَ أحَدٌ أرْضا فماتَ أحَدُهُمَا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اسْتَأْجر أَرضًا فَمَاتَ أَحدهمَا، أَي: أحد المتواجرين، وَلَيْسَ هُوَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن لفظ: اسْتَأْجر، يدل على الْمُؤَجّر، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يَنْفَسِخ أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يجْزم بِالْجَوَابِ للِاخْتِلَاف فِيهِ.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ لَيْسَ لأِهْلِهِ أنْ يُخْرِجُوهُ إلَى تَمامِ الأجَلِ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَيْسَ لأَهله، أَي: لأهل الْمَيِّت، أَن يخرجوه أَي الْمُسْتَأْجر إِلَى تَمام الْأَجَل، أَي: الْمدَّة الَّتِي وَقع العقد عَلَيْهَا، قَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ لأَهله: إِي: لوَرثَته أَن يخرجوه أَي: عقد الِاسْتِئْجَار أَي: يتصرفوا فِي مَنَافِع الْمُسْتَأْجر. قلت: قَول الْكرْمَانِي: أَي عقد الِاسْتِئْجَار، بَيَان لعود الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: أَن يخرجوه، إِلَى عقد الِاسْتِئْجَار، وَهَذَا لَا معنى لَهُ، بل الضَّمِير يعود إِلَى الْمُسْتَأْجر كَمَا ذكرنَا، وَلَكِن لم يمض ذكر الْمُسْتَأْجر، فَكيف يعود إِلَيْهِ؟ وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي: أَهله: لَيْسَ مرجعه مَذْكُورا ففيهما إِضْمَار قبل الذّكر، وَلَا يجوز أَن يُقَال: مرجع الضميرين يفهم من لفظ التَّرْجَمَة، لِأَن التَّرْجَمَة وضعت بعد قَول ابْن سِيرِين هَذَا بِمدَّة طَوِيلَة، وَلَيْسَ كُله كلَاما مَوْضُوعا على نسق وَاحِد حَتَّى يَصح هَذَا، وَلَكِن الْوَجْه فِي هَذَا أَن يُقَال: إِن مرجع الضميرين مَحْذُوف، والقرينة تدل عَلَيْهِ، فَهُوَ فِي حكم الملفوظ.
وأصل الْكَلَام فِي أصل الْوَضع هَكَذَا: سُئِلَ مُحَمَّد بن سِيرِين فِي رجل اسْتَأْجر من رجل أَرضًا، فَمَاتَ أَحدهمَا، هَل لوَرَثَة الْمَيِّت أَن يخرجُوا يَد الْمُسْتَأْجر من تِلْكَ الأَرْض أم لَا؟(12/106)
فَأجَاب: بقوله: لَيْسَ لأَهله، أَي: لأهل الْمَيِّت أَن يخرجُوا الْمُسْتَأْجر إِلَى تَمام الْأَجَل، أَي: أجل الْإِجَارَة، أَي: الْمدَّة الَّتِي وَقع عَلَيْهَا العقد، وَقَالَ بَعضهم: الْجُمْهُور على عدم الْفَسْخ، وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَاللَّيْث إِلَى الْفَسْخ، وَاحْتَجُّوا بِأَن الْوَارِث ملك الرَّقَبَة وَالْمَنْفَعَة تبع لَهَا فارتفعت يَد الْمُسْتَأْجر عَنْهَا بِمَوْت الَّذِي آجره، وَتعقب بِأَن الْمَنْفَعَة قد تنفك عَن الرَّقَبَة، كَمَا يجوز بيع مسلوب الْمَنْفَعَة، فَحِينَئِذٍ ملك الْمَنْفَعَة باقٍ للْمُسْتَأْجر بِمُقْتَضى العقد، وَقد اتَّفقُوا على أَن الْإِجَارَة لَا تَنْفَسِخ بِمَوْت نَاظر الْوَقْف، فَكَذَلِك هُنَا انْتهى. قلت: الَّذِي يتْركهُ الْمَيِّت ينْتَقل بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِث، ثمَّ يَتَرَتَّب الحكم على هَذَا عِنْد موت الْمُؤَجّر أَو موت الْمُسْتَأْجر، أما إِذا مَاتَ الْمُؤَجّر فقد انْتَقَلت رَقَبَة الدَّار إِلَى الْوَارِث والمستحق من الْمَنَافِع الَّتِي حدثت على ملكه. قد فَاتَ بِمَوْتِهِ فبطلت الْإِجَارَة لفَوَات الْمَعْقُود عَلَيْهِ، لِأَن بعد مَوته تحدث الْمَنْفَعَة على ملك الْوَارِث، فَإِذا كَانَت الْمَنْفَعَة على ملك الْوَارِث كَيفَ يَقُول هَذَا الْقَائِل: فَملك الْمَنْفَعَة بَاقٍ للْمُسْتَأْجر بِمُقْتَضى العقد؟ وَمُقْتَضى العقد هُوَ قيام الْإِجَارَة، وَقيام الْإِجَارَة بالمتؤاجرين؟ فَإِذا مَاتَ أَحدهمَا زَالَ ذَلِك الِاقْتِضَاء، وَأما إِذا مَاتَ الْمُسْتَأْجر فَلَو بَقِي العقد لبقي على أَن يخلفه الْوَارِث، وَذَا لَا يتَصَوَّر، لِأَن الْمَنْفَعَة الْمَوْجُودَة فِي حَيَاته تلاشت، فَكيف يُورث الْمَعْدُوم؟ وَالَّتِي تحدث لَيست بمملوكة لَهُ ليخلفه الْوَارِث فِيهَا، إِذْ الْملك لَا يسْبق الْوُجُود، فَإِذا ثَبت انْتِفَاء الْإِرْث تعين بطلَان العقد. وَقَوله: الْمَنْفَعَة قد تنفك عَن الرَّقَبَة، كَمَا يجوز بيع مسلوب الْمَنْفَعَة كَلَام واهٍ جدا لِأَن الْمَنْفَعَة عرض، وَالْعرض كَيفَ يقوم بِذَاتِهِ، وتنظيره بِبيع مسلوب الْمَنْفَعَة غير صَحِيح، لِأَن مسلوب الْمَنْفَعَة لم يكن فِيهَا مَنْفَعَة أصلا وَقت البيع حَتَّى يُقَال: كَانَت فِيهِ مَنْفَعَة، ثمَّ انفكت عَنهُ، وَفَاتَ بذاتها، وَفِي الْإِجَارَة الْمَنْفَعَة مَوْجُودَة وَقت العقد لِأَنَّهَا تحدث سَاعَة فساعة، وَلَكِن قِيَامهَا بِالْعينِ وَحين انْتَقَلت الْعين إِلَى ملك الْوَارِث انْتَقَلت الْمَنْفَعَة مَعهَا لقيامها مَعهَا، وتنظيرها بِالْمَسْأَلَة الاتفاقية أَيْضا غير صَحِيح. لِأَن النَّاظر لَا يرجع إِلَيْهِ العقد والعاقد من وَقع الْمُسْتَحق عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْمُوكل إِذا مَاتَ يَنْفَسِخ العقد، مَعَ أَنه غير عَاقد؟ قلت: نَحن نقُول: كلما مَاتَ الْعَاقِد لنَفسِهِ يَنْفَسِخ، وَلم نلتزم بِأَن كل مَا انْفَسَخ يكون بِمَوْت الْعَاقِد، لِأَن الْعَكْس غير لَازم فِي مثله.
وَقَالَ الحَكَمُ والحَسَنُ وإيَاسُ بنُ مُعَاوِيَةَ تُمْضِي الإجَارَةُ إلَى أجَلِهَا
الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن عتيبة أحد الْفُقَهَاء الْكِبَار بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ مِمَّن روى عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَإيَاس بن مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ. قَوْله: (تُمضي الْإِجَارَة) على صِيغَة بِنَاء الْفَاعِل أَو على صِيغَة بِنَاء الْمَفْعُول. قَوْله: (إِلَى أجلهَا) أَي: إِلَى مُدَّة الْإِجَارَة، وَالْحَاصِل أَن الْإِجَارَة لَا تَنْفَسِخ عِنْدهم بِمَوْت أحد المتؤاجرين، وَوصل ابْن أبي شيبَة هَذَا الْمُعَلق من طَرِيق حميد عَن الْحسن وَإيَاس بن مُعَاوِيَة نَحوه، وَأَيْضًا من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين نَحوه.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ أعْطَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ بالشَّطْرِ فكانَ ذَلِك على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبِي بَكْرٍ وصَدْرا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ ولَمْ يُذْكَرْ أنَّ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ جَدَّدا الإجارةَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أعْطى خَيْبَر بالشطر اسْتمرّ الْأَمر عَلَيْهِ فِي حَيَاته وَبعده أَيْضا، فَدلَّ على أَن عقد الْإِجَارَة لَا يَنْفَسِخ بِمَوْت أحد المتؤاجرين، وَهَذَا تَعْلِيق أدرج فِيهِ البُخَارِيّ كَلَامه، وَالتَّعْلِيق أخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذَا حجَّة من يَدعِي عدم الْفَسْخ بِالْمَوْتِ، وَلَكِن هَذَا لَا يفيدهم فِي الِاسْتِدْلَال، وَلِهَذَا قَالَ ابْن التِّين: قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ الرَّاوِي لَيْسَ مِمَّا بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ، لِأَن خَيْبَر مُسَاقَاة وَالْمُسَاقَاة سنة على حيالها. انْتهى. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا من جِهَة أبي حنيفَة: إِن قَضِيَّة خَيْبَر لم تكن بطرِيق الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة بل كَانَت بطرِيق الْخراج على وَجه الْمَنّ عَلَيْهِم وَالصُّلْح، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملكهَا غنيمَة، فَلَو كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ كلهَا جَازَ وَتركهَا فِي أَيْديهم بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا فضلا، وَكَانَ ذَلِك خراج مقاسمة وَهُوَ جَائِز كخراج التوظيف، وَلَا(12/107)
نزاع فِيهِ، وَإِنَّمَا النزاع أَن يوظف فِي جَوَاز الْمُزَارعَة والمعاملة، وخراج الْمُقَاسَمَة أَن يوظف الإِمَام فِي الْخَارِج شَيْئا مُقَدرا عشرا أَو ثلثا أَو ربعا، وَيتْرك الْأَرَاضِي على ملكهم منّا عَلَيْهِم، فَإِن لم تخرج الأَرْض شَيْئا فَلَا شَيْء عَلَيْهِم، وَلم ينْقل عَن أحد من الروَاة أَنه تصرف فِي رقابهم أَو رِقَاب أَوْلَادهم، وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي (شَرحه لمختصر الطَّحَاوِيّ) : وَمِمَّا يدل على أَن مَا شَرط من نصف الثَّمر أَو الزَّرْع كَانَ على وَجه الْخراج أَنه لم يروَ فِي شَيْء من الْأَخْبَار أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ مِنْهُم الْجِزْيَة إِلَى أَن مَاتَ، وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى أَن أجلاهم، وَلَو لم يكن ذَلِك لأخذ مِنْهُم الْجِزْيَة حِين نزلت آيَة الْجِزْيَة، وَسَنذكر بَقِيَّة الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِي بَاب الْمُزَارعَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
5822 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أعْطَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ أنْ يَعْمَلوها ويَزْرَعُوهَا ولَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وأنَّ ابنَ عُمَرَ حدَّثَهُ أنَّ المَزَارِعَ كانَتْ تُكْرَى على شَيْءٍ سَمَّاهُ نَافِعٌ لَا أحْفَظُهُ. .
6822 - وأنَّ رافِعَ بنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ وَقَالَ عُبَيْدُ الله عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ حَتَّى أجْلاَهُمْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. .
هَذَا أَيْضا لَيْسَ بداخل فِيمَا ترْجم بِهِ على مَا ذكرنَا الْآن أَن قَضِيَّة خَيْبَر لم تكن بطرِيق الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة إِلَى آخِره. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هِيَ إِجَارَة وَسكت على ذَلِك، وسكوته كَانَ خيرا لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ يُعلل كَلَامه بِشَيْء لَا يقبله أحد. وَقَالَ ابْن التِّين: وَمَا ذكر من حَدِيث رَافع لَيْسَ مِمَّا بوب عَلَيْهِ أَيْضا، لِأَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نكرِي الأَرْض بِالثُّلثِ وَالرّبع وعَلى الماديانات. وإقبال الجداول فنهينا عَن ذَلِك. وَجُوَيْرِية مصغر جَارِيَة ضد الواقفة: ابْن أَسمَاء بِوَزْن حَمْرَاء، وَهُوَ من الْأَعْلَام الْمُشْتَركَة، وَقد مر غير مرّة. قَوْله: (وَأَن ابْن عمر) عطف على: عَن عبد الله، أَي: عَن نَافِع أَن ابْن عمر حَدثهُ أَيْضا أَنه كَانَت الْمزَارِع تكرى على شَيْء من حاصلها. قَوْله: (سَمَّاهُ نَافِع) أَي: قَالَ جوَيْرِية: سمى نَافِع مِقْدَار ذَلِك الشَّيْء، لَكِن أَنا لَا أحفظ مِقْدَاره. قَوْله: (وَأَن رَافع بن خديج حدث) إِنَّمَا قَالَ: وَأَن ابْن عمر حَدثهُ، بالضمير، وَقَالَ هَذَا: حدث، بِلَا ضمير، لِأَن ابْن عمر حدث نَافِعًا بِخِلَاف نَافِع، فَإِنَّهُ لم يحدث لَهُ خُصُوصا وَيحْتَمل أَن يكون الضَّمِير محذوفا، وَسَيَجِيءُ بَيَان حكم هَذَا الْبَاب فِي الْمُزَارعَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَقَالَ عبيد الله) إِلَى آخِره، تَعْلِيق وَصله مُسلم فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل وَزُهَيْر بن حَرْب، وَاللَّفْظ لزهير، قَالَ: حَدثنَا يحيى وَهُوَ الْقطَّان عَن عبيد الله، قَالَ: أَخْبرنِي نَافِع عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَامل أهل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع) وَرَوَاهُ أَيْضا من وُجُوه أُخْرَى، وَفِي آخِره: قَالَ لَهُم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نقركم بهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا) . فَقَروا بهَا حَتَّى أجلاهم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى تيماء وأريحاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ عبيد الله، هُوَ كَلَام مُوسَى وَمن تَتِمَّة حَدِيثه، وَمِنْه تحصل التَّرْجَمَة. قلت: لَيْسَ هُوَ من كَلَام مُوسَى بل هُوَ كَلَام مُسْتَأْنف مُعَلّق، وَلَا هُوَ من تَتِمَّة حَدِيثه وَلَا مِنْهُ تحصل التَّرْجَمَة، لِأَنَّهَا فِي الْإِجَارَة وَهَذَا لَيْسَ بإجاره، وَإِنَّمَا هُوَ خَارج، على مَا ذكرنَا عَن قريب. وَعبيد الله، بتصغير العَبْد: ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.
بِسم الله الرحْمانِ الرَّحِيم
83 - (كتابُ الحَوالاتِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الحوالات، وَهِي جمع: حِوَالَة، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، مُشْتَقَّة من التَّحَوُّل والانتقال، قَالَ ثَعْلَب: تَقول: أحلّت فلَانا على فلَان بِالدّينِ إِحَالَة، قَالَ ابْن طريف: مَعْنَاهُ أتبعته على غَرِيم ليأخذه. وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: يَعْنِي: أَزَال عَن نَفسه الدّين إِلَى غَيره، وَحَوله تحويلاً، وَفِي (نَوَادِر) اللحياني: أحيله إِحَالَة وإحالاً، وَهِي عِنْد الْفُقَهَاء: نقل دين من ذمَّة إِلَى ذمَّة. قَوْله:(12/108)
(كتاب الْحِوَالَة) بعد الْبَسْمَلَة وَقع كَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين لم يَقع إلاَّ لفظ: بَاب الْحِوَالَة، لَا غير.
1 - (بابٌ فِي الحَوالَةِ وهَلْ يَرْجِعُ فِي الحَوَالَةِ؟)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحِوَالَة، وَهل يرجع الْمُحِيل فِي الْحِوَالَة أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يجْزم بالحكم لِأَن فِيهِ خلافًا، وَهُوَ أَن الْحِوَالَة عقد لَازم عِنْد الْبَعْض، وَجَائِز عِنْد آخَرين، فَمن قَالَ: عقد لَازم فَلَا يرجع فِيهَا، وَمن قَالَ عقد جَائِز فَلهُ الرُّجُوع.
وَقَالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ إذَا كانَ يَوْمَ أحَالَ عَلَيْهِ مَليّا جازَ
أَي: إِذا كَانَ الْمحَال عَلَيْهِ يَوْم أحَال الْمُحِيل عَلَيْهِ. أَي: على الْمحَال عَلَيْهِ، مَلِيًّا، يَعْنِي: غَنِيا، من ملىء الرجل إِذا صَار مَلِيًّا. وَهُوَ مَهْمُوز اللَّام، وَلَيْسَ هُوَ من معتل اللَّام، وأصل: مَلِيًّا: مليئا على وزن: فعيلاً، فكأنهم قلبوا الْهمزَة يَاء وأدغموا الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (جَازَ) ، جَوَاب: إِذا، يَعْنِي: جَازَ هَذَا الْفِعْل وَهُوَ الْحِوَالَة، وَمَفْهُومه أَنه إِذا كَانَ مُفلسًا فَلهُ أَن يرجع، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة والأثرم، وَاللَّفْظ لَهُ، من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة وَالْحسن أَنَّهُمَا سئلا عَن رجل احتال على رجل فأفلس، قَالَ: إِذا كَانَ مَلِيًّا يَوْم احتال عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع، وَجُمْهُور الْعلمَاء على عدم الرُّجُوع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع صَاحب الدّين على الْمُحِيل إِذا مَاتَ الْمحَال عَلَيْهِ مُفلسًا أَو حكم بإفلاسه أَو جحد الْحِوَالَة، وَلم يكن لَهُ بَيِّنَة، وَبِه قَالَ شُرَيْح وَعُثْمَان البتي وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَآخَرُونَ، وَقَالَ الحكم: لَا يرجع مَا دَامَ حَيا حَتَّى يَمُوت وَلَا يتْرك شَيْئا، فَإِن الرجل يوسر مرّة ويعسر أُخْرَى. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَعبيد وَاللَّيْث وَأَبُو ثَوْر: لَا يرجع عَلَيْهِ وَإِن توى وَسَوَاء غره بالفلس أَو طول عَلَيْهِ أَو أنكرهُ. وَقَالَ مَالك: لَا يرجع على الَّذِي أَحَالهُ إلاَّ أَن يغره بفلس.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وأهْلُ المِيرَاثِ فيَأخُذُ هَذا عَيْنا وَهَذَا دَيْنا فإنْ تَوِيَ لأِحَدِهِما لَمْ يَرْجِعْ عَلى صاحِبِه.
يتخارج الشريكان أَي: يخرج هَذَا الشَّرِيك مِمَّا وَقع فِي نصيب صَاحبه، وَذَلِكَ الآخر كَذَلِك أَرَادَ أَن ذَلِك فِي الْقِسْمَة بِالتَّرَاضِي بِغَيْر قرعَة مَعَ اسْتِوَاء الدّين وَإِقْرَار من عَلَيْهِ وحضوره فَأخذ أَحدهمَا عينا وَالْآخر الدّين، ثمَّ إِذا توى الدّين أَي: إِذا هلك لم تنقضِ الْقِسْمَة لِأَنَّهُ رَضِي بِالدّينِ عوضا فَتْوَى فِي ضَمَانه، فَالْبُخَارِي أَدخل قسْمَة الدُّيُون وَالْعين فِي التَّرْجَمَة، وقاس الْحِوَالَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الحكم بَين الْوَرَثَة أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَأهل الْمِيرَاث) قَوْله: (فَإِن توى) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْوَاو على وزن: قوى، من: توى المَال يتوى من بَاب علم: إِذا هلك، وَيُقَال: توى حق فلَان على غَرِيمه إِذا ذهب توى وتواء، وَالْقصر أَجود فَهُوَ: تو وتاو، وَمِنْه: لَا توى على مَال امرىء مُسلم، وَتَفْسِيره فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْمُحْتَال عَلَيْهِ يَمُوت مُفلسًا، قَالَ: يعود الدّين إِلَى ذمَّة الْمُحِيل.
7822 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّناد عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ فإذَا اتْبِعَ أحَدُكُمْ على مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا أتبع) إِلَى آخِره، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَقد تكَرر ذكرهمَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة، والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم أربعتهم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحِوَالَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا وَابْن(12/109)
مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة يُونُس بن عبيد عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مطل الْغَنِيّ ظلم وَإِذا أُحِيل أحدكُم على ملي فَليَحْتَلْ) . وَعَن الشريد بن سُوَيْد أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مُحَمَّد بن مَيْمُون بن مُسَيْكَة عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لي: الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته، وَعَن جَابر أخرجه الْبَزَّار من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مطل الْغَنِيّ ظلم وَإِذا أتبع أحدكُم على ملي فَليتبعْ) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مطل الْغَنِيّ ظلم) ، المطل فِي الأَصْل من قَوْلهم: مطلت الحديدة أمطلها إِذا مددتها لتطول. وَفِي (الْمُحكم) : المطل التسويف بالعدة وَالدّين، مطله حَقه وَبِه يمطله مطلاً فأمطل. قَالَ الْقَزاز: وَالْفَاعِل ماطل ومماطل، وَالْمَفْعُول: ممطول ومماطل. تَقول: ماطلني ومطلني حَقي. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: المطل عدم قَضَاء مَا اسْتحق أَدَاؤُهُ مَعَ التَّمَكُّن مِنْهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: المطل المدافعة، وَإِضَافَة المطل إِلَى الْغَنِيّ إِضَافَة الْمصدر للْفَاعِل هُنَا وَإِن كَانَ الْمصدر قد يُضَاف إِلَى الْمَفْعُول، لِأَن الْمَعْنى أَنه يحرم على الْغَنِيّ الْقَادِر أَن يمطل بِالدّينِ بعد اسْتِحْقَاقه، بِخِلَاف الْعَاجِز، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه مُضَاف للْمَفْعُول، وَالْمعْنَى: أَنه يجب وَفَاء الدّين وَلَو كَانَ مُسْتَحقّه غَنِيا، وَلَا يكون غناهُ سَببا لتأخيره حَقه عَنهُ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فِي حق الْغَنِيّ فَهُوَ فِي حق الْفَقِير أولى، وَفِيه تكلّف وتعسف، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: المطل ظلم الْغَنِيّ، وَالْمعْنَى: أَنه من الظُّلم، أطلق ذَلِك للْمُبَالَغَة فِي التنفير عَن المطل، وَقد رَوَاهُ الجوزقي من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: إِن من الظُّلم مطل الْغَنِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه لُغَة، وَفِي الشَّرْع: هُوَ محرم مَذْمُوم، وَعَن سَحْنُون: ترد شَهَادَة الملي إِذا مطل لكَونه سمي ظَالِما. وَعند الشَّافِعِي: بِشَرْط التّكْرَار. قَوْله: (فَإِذا أتبع) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ بِضَم الْهمزَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة مَبْنِيا لما لم يسم فَاعله عِنْد الْجَمِيع. وَقَوله: (فَليتبعْ) ، بِالتَّخْفِيفِ من تبِعت الرجل بحقي أتبعه تباعة، بِالْفَتْح: إِذا طلبته، وَقيل: فَليتبعْ، بِالتَّشْدِيدِ وَالْأول أَجود عِنْد الْأَكْثَر. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِن أَكثر الْمُحدثين يَقُولُونَهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَالصَّوَاب التَّخْفِيف، وَمَعْنَاهُ: إِذا أُحِيل فَليَحْتَلْ، وَقد رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ: أَحْمد عَن وَكِيع عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي الزِّنَاد، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عمر بِلَفْظ: فإا أحلّت على ملي فَأتبعهُ وَهَذَا بتَشْديد التَّاء بِلَا خلاف. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْأَشْهر فِي الرِّوَايَات، وَإِذا اتبع، يَعْنِي بِالْوَاو، وَلِأَنَّهُمَا جملتان لَا تعلق لأحداهما بِالْأُخْرَى. وغفل عَمَّا فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) هُنَا فَإِنَّهُ بِالْفَاءِ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَهُوَ كالتوطئة وَالْعلَّة لقبُول الْحِوَالَة. فَإِن قلت: رَوَاهُ مُسلم بِالْوَاو، وَكَذَا البُخَارِيّ فِي الْبَاب الَّذِي بعده. قلت: نعم لَكِن قَالَ: وَمن اتبع، وَقَوله: لي الْوَاجِد، قَالَ ابْن التِّين: لي الْوَاجِد بِفَتْح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء أَي: مطله، يُقَال: لواه بِدِينِهِ ليا وليانا وأصل: لي لوى، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، والواجد، بِالْجِيم: الْغَنِيّ الَّذِي يجد مَا يقْضِي بِهِ دينه. قَوْله: يحل عرضه، أَي: لومه وعقوبته، أَي: حَبسه، هَذَا تَفْسِير سُفْيَان، وَالْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه أَو من يلْزمه أمره، وَقيل: هُوَ جَانِبه الَّذِي يصونه من نَفسه وحسبه ويحامي عَنهُ أَن ينتقص ويثلب، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض الرجل نَفسه وبدنه لَا غير، وَفِي (الفصيح) : الْعرض ريح الرجل الطّيبَة أَو الخبيثة. وَيُقَال: هُوَ نقي الْعرض، أَي: بَرِيء من أَن يشْتم أَو يعاب. وَقَالَ ابْن خالويه: الْعرض الْجلد، يُقَال: هُوَ نقي الْعرض، أَي: لَا يعاب بِشَيْء. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: يحل عرضه: يغلظ عَلَيْهِ وعقوبته يحبس بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الزّجر عَن المطل. وَاخْتلف: هَل يعد فعله عمدا كَبِيرَة أم لَا؟ فالجمهور على أَن فَاعله يفسق، لَكِن هَل يثبت فسقه بمطله مرّة وَاحِدَة أم لَا؟ قَالَ النَّوَوِيّ: مُقْتَضى مَذْهَبنَا اشْتِرَاط التّكْرَار، ورد عَلَيْهِ السُّبْكِيّ فِي (شرح الْمِنْهَاج) : بِأَن مُقْتَضى مَذْهَبنَا عَدمه، وَاسْتدلَّ بِأَن منع الْحق بعد طلبه وَانْتِفَاء الْعذر عَن أَدَائِهِ كالغصب، وَالْغَصْب كَبِيرَة، وتسميته ظلما يشْعر بِكَوْنِهِ كَبِيرَة، والكبيرة لَا يشْتَرط فِيهَا التّكْرَار. نعم، لَا يحكم عَلَيْهِ بذلك إلاَّ بعد أَن يظْهر عدم عذره انْتهى. وَفِيه: أَن الْعَاجِز عَن الْأَدَاء لَا يدْخل فِي المطل. وَفِيه: أَن الْمُعسر لَا يحبس وَلَا يُطَالب حَتَّى يوسر، وَقيل: لصَاحب(12/110)
الْحق أَن يحْبسهُ، وَقيل: يلازمه. وَفِيه: أَمر بِقبُول الْحِوَالَة، فمذهب الشَّافِعِي: يسْتَحبّ لَهُ الْقبُول. وَقيل: الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ الْوُجُوب وَالنَّدْب، وَالْجُمْهُور على أَنه ندب لِأَنَّهُ من بَاب التَّيْسِير على الْمُعسر، وَقيل: مُبَاح، وَلما سَأَلَ ابْن وهب مَالِكًا عَنهُ! قَالَ: هَذَا أَمر ترغيب وَلَيْسَ بإلزام، وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يُطِيع سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَرْط أَن يكون بدين وإلاَّ فَلَا حِوَالَة لِاسْتِحَالَة حَقِيقَتهَا إِذْ ذَاك، وَإِنَّمَا يكون حمالَة. وَفِي (التَّوْضِيح) ؛ وَمن شَرطهَا تَسَاوِي الدينَيْنِ قدرا ووصفا وجنسا كالحلول وَالتَّأْخِير، وَقَالَ ابْن رشد: وَمِنْهُم من أجازها فِي الذَّهَب وَالدَّرَاهِم فَقَط، ومنعها فِي الطَّعَام، وَأَجَازَ مَالك إِذا كَانَ الطعامان كِلَاهُمَا من قرض إِذا كَانَ دين الْمحَال حَالا، وَأما إِن كَانَ أَحدهمَا من سلم فَإِنَّهُ لَا يجوز إِلَّا أَن يكون الدينان حَالين، وَعند ابْن الْقَاسِم وَغَيره من أَصْحَاب مَالك: يجوز ذَلِك إِذا كَانَ الدّين الْمحَال بِهِ حَالا، وَلم يفرق بَين ذَلِك الشَّافِعِي لِأَنَّهُ كَالْبيع فِي ضَمَان الْمُسْتَقْرض. وَأما أَبُو حنيفَة، فَأجَاز الْحِوَالَة بِالطَّعَامِ وَشبهه بِالدَّرَاهِمِ، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن الْحِوَالَة ضد الْحمالَة فِي أَنه إِذا أفلس الْمحَال عَلَيْهِ لم يرجع صَاحب الدّين على الْمُحِيل بِشَيْء، وَعند أبي حنيفَة: يرجع صَاحب الدّين على الْمُحِيل إِذا مَاتَ الْمحَال عَلَيْهِ مُفلسًا أَو حكم بإفلاسه أَو جحد الْحِوَالَة وَلَا بَيِّنَة لَهُ، وَبِه قَالَ ابْن شُرَيْح وَعُثْمَان البتي وَجَمَاعَة، وَقد مر فِي أول الْبَاب وَفِي الرَّوْضَة للنووي: أما الْمحَال عَلَيْهِ فَإِن كَانَ عَلَيْهِ دين للْمُحِيل لم يعْتَبر رِضَاهُ على الْأَصَح، وَإِن لم يكن لم يَصح بِغَيْر رِضَاهُ قطعا وبإذنه وَجْهَان، وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية أما الْمحَال عَلَيْهِ فَلَا يشْتَرط رِضَاهُ، وَفِي بعض كتب الْمَالِكِيَّة: يشْتَرط رِضَاهُ إِذا كَانَ عدوا وإلاَّ فَلَا، وَأما الْمُحِيل فرضاه شَرط عندنَا وَعِنْدهم لِأَنَّهُ الأَصْل فِي الْحِوَالَة وَفِي الْعُيُون والزيادات لَيْسَ بِشَرْط، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : ورئي بِخَط بعض الْفُضَلَاء فِي قَوْله: مطل الْغَنِيّ ظلم، دلَالَة على أَن الْحِوَالَة إِنَّمَا تكون بعد حُلُول الْأَجَل فِي الدّين، لِأَن المطل لَا يكون إِلَّا بعد الْحُلُول. وَفِيه: مُلَازمَة المماطل وإلزامه بِدفع الدّين والتوصل إِلَيْهِ بِكُل طَرِيق وَأَخذه مِنْهُ قهرا.
2 - (بابٌ إِذا أحالَ على مُلِيٍّ فَليْسَ لَهُ رَدٌّ)
هَذَا الْبَاب وَقع فِي نُسْخَة الْفربرِي لَا غير أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحَال صَاحب الْحق على رجل ملي فَلَيْسَ لَهُ رد.
8822 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنُ ابنِ ذَكْوَانَ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ ومَنْ أُتْبِعَ علَى مَلِيٍّ فلْيَتَّبِعْ. (انْظُر الحَدِيث 7822 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَلَيْسَ هَذَا مُحَمَّد بن يُوسُف ابْن وَاقد أَبُو عبد الله الْفرْيَابِيّ، وَهُوَ أَيْضا شيخ البُخَارِيّ، روى عَنهُ فِي الْكتاب، وَذكر ابْن مَسْعُود أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف فِي كتاب الْحِوَالَة، وَكَذَا ذكره خلف وَأَبُو الْعَبَّاس الطرقي وَمن طَرِيقه أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن الثَّوْريّ وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. قَوْله: (عَن ابْن ذكْوَان) ، هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر عَن قريب.
3 - (بابٌ إِذا أحالَ دَيْنَ المَيِّتِ على رَجُلٍ جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِن أحَال دين الْمَيِّت على رجل جَازَ، أَي: هَذَا الْفِعْل، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا ترْجم بالحوالة، فَقَالَ: إِن أحَال دين الْمَيِّت، ثمَّ أَدخل حَدِيث سَلمَة، وَهُوَ فِي الضَّمَان لِأَن الْحِوَالَة وَالضَّمان متقاربان، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو ثَوْر لِأَنَّهُمَا ينتظمان فِي كَون كل مِنْهُمَا نقل ذمَّة إِلَى ذمَّة آخر، فِي هَذَا الحَدِيث نقل مَا فِي ذمَّة الْمَيِّت إِلَى ذمَّة الضَّامِن، فَصَارَ كالحوالة.
9822 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ حَدثنَا يَزيدُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ أُتَى بجَنَازَةٍ فَقَالُوا صَلِّ عليْها فَقالَ هلْ(12/111)
عَلَيْهِ دَيْنٌ قالُوا لَا قَالَ فَهَلْ ترَكَ شَيْئا قَالُوا لاَ فَصَلَّى عليهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا يَا رسولَ الله صلِّ عَلَيْهَا قَالَ هلْ عَلَيْها دَيْنٌ قَالَ نعَمْ قالْ فهَلْ تَرَكَ شَيْئا قَالُوا ثَلاثَةَ دَنانِيرَ فصَلَّى عَلَيْها ثُمَّ أُتِيَ بالثَّالِثَةِ فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْها قَالَ هَلْ تَرَكَ شَيئا قَالُوا لاَ قَالَ فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا ثَلاثَةُ دَنانِير قَالَ صلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتادَةَ صلِّ علَيْهِ يَا رسولَ الله وعلَيَّ دَيْنَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. (الحَدِيث 9822 طرفه فِي: 5922) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم مِمَّا نَقَلْنَاهُ عَن ابْن بطال الْآن.
وَرِجَاله ثَلَاثَة، وَهَذَا سَابِع ثلاثيات البُخَارِيّ. الأول: مكي بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد الْبَلْخِي أَبُو السكن، وروى مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد، بِضَم الْعين: مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، مَاتَ سنة سِتّ أَو سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة. الثَّالِث: سَلمَة بن الْأَكْوَع، هُوَ سَلمَة بن عَمْرو بن الْأَكْوَع، وَيَقُول: سَلمَة بن وهب بن الْأَكْوَع، واسْمه: سِنَان بن عبد الله الْمدنِي، شهد بيعَة الرضْوَان تَحت الشَّجَرَة وَبَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات، وَكَانَ يسكن الربذَة، وَكَانَ شجاعا راميا، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَسبعين وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْكفَالَة عَن أبي عَاصِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن عمر وَعلي وَمُحَمّد بن الْمثنى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جُلُوسًا) ، جمع: جَالس وانتصابه على أَنه خبر: كَانَ. قَوْله: (إِذْ) ، كلمة مفاجأة. قَوْله: (أُتِي) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول وَكَذَلِكَ آتِي، فِي الْمَوْضِعَيْنِ الآخرين. وَذكر ثَلَاثَة أَحْوَال: الأول: لم يتْرك مَالا وَلَا دينا. الثَّانِي: عَلَيْهِ دين وَترك مَالا. الثَّالِث: عَلَيْهِ دين وَلم يتْرك مَالا، وَلم يذكر الرَّابِع وَهُوَ: الَّذِي لَا دين عَلَيْهِ وَترك مَالا، وَهَذَا حكمه أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ أَيْضا، وَلم يذكرهُ إِمَّا لِأَنَّهُ لم يَقع، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ كثيرا. قَوْله: (ثَلَاثَة دَنَانِير) فِي الْأَخير، وروى الْحَاكِم من حَدِيث جَابر: وَفِيه دِينَارَانِ، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن جَابر، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد. فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين رِوَايَة الثَّلَاث وَرِوَايَة الْإِثْنَيْنِ؟ قلت: يحمل بِأَنَّهُ كَانَ دينارين وَنصفا، فَمن قَالَ: ثَلَاثَة، جبر الكُسر، وَمن قَالَ: دينارين، ألغى النّصْف، أَو كَانَ أصل ذَلِك ثَلَاثَة فوفى الْمَيِّت قبل مَوته دِينَارا وَبَقِي عَلَيْهِ دِينَارَانِ فَمن قَالَ ثَلَاثَة فباعتبار الأَصْل وَمن قَالَ دينارين فباعتبار مَا بَقِي من الدّين قَوْله " قَالَ أَبُو قَتَادَة " الْحَارِث بن ربعي الخزرجي الْأنْصَارِيّ فَارس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر فِي الْوضُوء وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن نفس أبي قَتَادَة فَقَالَ حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان قَالَ حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ أخبرنَا شُعْبَة عَن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب قَالَ سَمِعت عبد الله بن أبي قَتَادَة يحدث عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى بِرَجُل ليُصَلِّي عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صلوا على صَاحبكُم فَإِن عَلَيْهِ دينا قَالَ أَبُو قَتَادَة هُوَ عَليّ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوَفَاءِ فصلى عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة ابْن ماجة فَقَالَ ابْن قَتَادَة أَنا أتكفل بِهِ وَفِي رِوَايَة أَبُو دَاوُد هما عَليّ يَا رَسُول الله قَالَ بِالْوَفَاءِ وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول هما عَلَيْك وَفِي مَالك وَحقّ الرجل عَلَيْك وَالْمَيِّت مِنْهُمَا بَرِيء فَقَالَ نعم فصلى عَلَيْهِ وَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا لَقِي أَبَا قَتَادَة يَقُول مَا صنعت فِي الدينارين حَتَّى إِذا كَانَ آخر ذَلِك قَالَ قد قضيتهما يَا رَسُول الله قَالَ الْآن حِين بردت عَلَيْهِ جلدته وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد فَقَالَ على صَاحبكُم دين قَالُوا دِينَارَانِ قَالَ أَبُو قَتَادَة أَنا بِدِينِهِ يَا رَسُول الله وروى الدراقطني من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَطاء بن عجلَان عَن أبي اسحق عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أَتَى بِجنَازَة لم يسْأَل عَن شَيْء من عمل الرجل وَيسْأل عَن دينه فَإِن قيل عَلَيْهِ دين كف وَإِن قيل لَيْسَ عَلَيْهِ دين صلى فَأتى بِجنَازَة فَلَمَّا قَامَ ليكبر سَأَلَ هَل عَلَيْهِ قَالُوا دِينَارَانِ فَعدل عَنهُ وَقَالَ صلوا على صَاحبكُم فَقَالَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ هما عَليّ وَهُوَ بَرِيء مِنْهُمَا فصلى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لعَلي " جَزَاك الله خيرا وَفك الله رهانك كَمَا فَككت رهان أَخِيك إِنَّه لَيْسَ من ميت يَمُوت وَعَلِيهِ دين إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهن بِدِينِهِ وَمن فك رهان ميت فك الله رهانه يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ بَعضهم هَذَا لعَلي خَاصَّة أم للْمُسلمين عَامَّة قَالَ بل للمسمين عَامَّة " وروى عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ نَحوه وَفِيه أَن عليا قَالَ أَنا ضَامِن لدينِهِ وَفِي(12/112)
رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من حَدِيث شريك عَن عبد الله بن عقيل قَالَ إِن رجلا مَاتَ وَعَلِيهِ دين فَلم يصل عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى قَالَ أَبُو الْيُسْر أَو غَيره هُوَ عَليّ فصلى عَلَيْهِ فَجَاءَهُ من الْغَد يتقاضاه فَقَالَ أما كَانَ ذَلِك أمس ثمَّ أَتَاهُ من بعد الْغَد فَأعْطَاهُ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْآن بردت عَلَيْهِ جلدته (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ الْكفَالَة من الْمَيِّت وَقَالَ ابْن بطال اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن تكفل عَن ميت بدين فَقَالَ ابْن أبي ليلى وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ الْكفَالَة جَائِزَة عَنهُ وَإِن لم يتْرك الْمَيِّت شَيْئا وَلَا رُجُوع لَهُ فِي مَال الْمَيِّت إِن ثاب للْمَيت مَال وَكَذَلِكَ إِن كَانَ للْمَيت مَال وَضمن عَنهُ لم يرجع فِي قَوْلهم لِأَنَّهُ مُتَطَوّع وَقَالَ مَالك لَهُ أَن يرجع فِي مَاله كَذَلِك إِن قَالَ إِنَّمَا أدّيت لأرجع فِي مَال الْمَيِّت وَإِن لم يكن للْمَيت مَال وَعلم الضَّامِن بذلك فَلَا رُجُوع لَهُ إِن ثاب للْمَيت قَالَ ابْن الْقَاسِم لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْهَدِيَّة وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِن لم يتْرك الْمَيِّت شَيْئا فَلَا تجوز الْكفَالَة وَإِن ترك جَازَت بِقدر مَا ترك وَقَالَ الْخطابِيّ فِيهِ إِن ضَمَان الدّين عَن الْمَيِّت يبريه إِذا كَانَ مَعْلُوما سَوَاء خلف الْمَيِّت وَفَاء أَو لم يخلف وَذَلِكَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا امْتنع من الصَّلَاة لارتهان ذمَّته بِالدّينِ فَلَو لم يبرأ بِضَمَان أبي قَتَادَة لما صلى عَلَيْهِ وَالْعلَّة الْمَانِعَة قَائِمَة. وَفِيه فَسَاد قَول مَالك أَن الْمُؤَدى عَنهُ الدّين يملكهُ أَولا عَن الضَّامِن لِأَن الْمَيِّت لَا يملك وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا قبل أَن يكون للْمُسلمين بَيت مَال إِذْ بعده كَانَ الْقَضَاء عَلَيْهِ وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ لَعَلَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْتنع عَن الصَّلَاة عَن الْمَدْيُون الَّذِي لم يتْرك وَفَاء تحذيرا عَن الدّين وزجرا عَن المماطلة أَو كَرَاهَة أَن يُوقف دعاؤه عَن الْإِجَابَة بِسَبَب مَا عَلَيْهِ من مظْلمَة الْخلق وَقَالَ الْكرْمَانِي الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ قَالَ لَا يصلح الضَّمَان عَن الْمَيِّت إِذا لم يتْرك وَفَاء وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَخَالف أَبُو حنيفَة الحَدِيث قلت هَذَا إساءة الْأَدَب وحاشا من أبي حنيفَة أَن يُخَالف الحَدِيث الثَّابِت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد وُقُوفه عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَدَب أَن يَقُول ترك الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث ثمَّ تَركه فِي الْموضع الَّذِي ترك الْعَمَل بِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده أَو لم يقف عَلَيْهِ أَو ظهر عِنْده نسخه. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي يَأْتِي بعد أَرْبَعَة أَبْوَاب يدل على النّسخ وَهُوَ قَوْله أَنا أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم فَمن توفّي من الْمُؤمنِينَ فَترك دينا فعلي قَضَاؤُهُ وَمن ترك مَالا فلورثته وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ من ترك كلأ فإليه وَمن ترك مَالا فللوارث قَالَ أَبُو بشر يُونُس ابْن حبيب سَمِعت أَبَا الْوَلِيد يَقُول هَذَا نسخ تِلْكَ الْأَحَادِيث الَّتِي جَاءَت فِي ترك الصَّلَاة على من عَلَيْهِ الدّين وَقَالَ أَبُو بكر عبد الله بن أَحْمد الصفار حَدثنَا مُحَمَّد بن الْفضل الطَّبَرِيّ أَنبأَنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي أَنبأَنَا مُحَمَّد بن بكير الْحَضْرَمِيّ حَدثنَا خَالِد بن عبد الله عَن حُسَيْن بن قيس عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُصَلِّي على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين فَمَاتَ رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ عَلَيْهِ دين قَالُوا نعم فَقَالَ صلوا على صَاحبكُم فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ إِن الله عز وَجل يَقُول إِنَّمَا الظَّالِم عِنْدِي فِي الدُّيُون الَّتِي حملت فِي الْبَغي والإسراف وَالْمَعْصِيَة فَأَما الْمُتَعَفِّف ذُو الْعِيَال فَأَنا ضَامِن أَن أؤدي عَنهُ فصلى عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ بعد ذَلِك من ترك ضيَاعًا أَو دينا فَإِلَيَّ أَو عَليّ وَمن ترك مِيرَاثا فلأهله فصلى عَلَيْهِم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْتِزَامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدين الْمَوْتَى يحْتَمل أَن يكون تَبَرعا على مُقْتَضى كرم أخلاقه لَا أَنه أَمر وَاجِب عَلَيْهِ قَالَ وَقَالَ بعض أهل الْعلم يجب على الإِمَام أَن يقْضِي من بَيت المَال دين الْفُقَرَاء اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ قد صرح بِوُجُوب ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فعلي قَضَاؤُهُ وَلِأَن الْمَيِّت الْمَدْيُون خَافَ أَن يعذب فِي قَبره عَليّ ذَلِك الدّين لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْآن حِين بردت جلدته وكما أَن على الإِمَام أَن يسد رمقه ويراعي مصْلحَته الدُّنْيَوِيَّة فالأخروية أولى وَقَالَ ابْن بطال فَإِن لم يُعْط الإِمَام عَنهُ شَيْئا وَقع الْقصاص مِنْهُ فِي الْآخِرَة وَلم يحبس الْمَيِّت عَن الْجنَّة بدين لَهُ مثله فِي بَيت المَال إِلَّا أَن يكون دينه أَكثر مِمَّا لَهُ فِي بَيت المَال وَفِي شرح الْمُهَذّب قيل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْضِيه من مصَالح الْمُسلمين وَقيل من مَاله وَقيل كَانَ هَذَا الْقَضَاء وَاجِبا عَلَيْهِ وَقيل لم يصل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يكن للْمُسلمين يَوْمئِذٍ بَيت مَال فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِم وَصَارَ لَهُم بَيت مَال صلى على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين ويوفيه مِنْهُ(12/113)
(بَاب الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون بالأبدان وَغَيرهَا)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون أَي دُيُون الْمُعَامَلَات وَهُوَ من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص قَوْله " بالأبدان " يتَعَلَّق بِالْكَفَالَةِ قَوْله " وَغَيرهمَا " أَي وَغير الْأَبدَان وَهِي الْكفَالَة بالأموال وَفِي بعض النّسخ بَاب الْكفَالَة فِي القروض والديون وَوجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْحِوَالَة من حَيْثُ أَن الْحِوَالَة وَالْكَفَالَة الَّتِي هِيَ الضَّمَان متقاربان لِأَن كلا مِنْهُمَا نقل دين من ذمَّة إِلَى ذمَّة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب وَقَالَ الْمُهلب الْكفَالَة بالقرض الَّذِي هُوَ السّلف بالأموال كلهَا جَائِزَة وَحَدِيث الْخَشَبَة الملقاة فِي الْبَحْر أصل فِي الْكفَالَة بالديون من قرض كَانَت أَو بيع (وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ بَعثه مُصدقا فَوَقع رجلا على جَارِيَة امْرَأَته فَأخذ حَمْزَة من الرجل كَفِيلا حَتَّى قدم على عمر وَكَانَ عمر قد جلده مائَة جلدَة فَصَدَّقَهُمْ وعذره بالجهالة)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَخذه حَمْزَة من الرجل كَفِيلا) ، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الله بن ذكْوَان وَقد تكَرر ذكره، وَمُحَمّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ حجازي ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) ، وروى لَهُ النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَأَبُو دَاوُد والطحاويي وَأَبُو حَمْزَة بن عَمْرو بن عُوَيْمِر بن الْحَارِث الْأَعْرَج الْأَسْلَمِيّ، يكنى أَبَا صَالح، وَقيل: أَبَا مُحَمَّد مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَله صُحْبَة وَرِوَايَة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم، قَالَ: أخبرنَا ابْن أبي الزِّنَاد، قَالَ: حَدثنِي أبي عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَعثه مُصدقا على سعد ابْن هذيم، فَأتى حَمْزَة بِمَال ليصدقه، فَإِذا رجل يَقُول لامْرَأَته: أُدي صَدَقَة مَال مَوْلَاك، وَإِذا الْمَرْأَة تَقول لَهُ: بل أَنْت فأدِّ صَدَقَة مَال أَبِيك، فَسَأَلَهُ حَمْزَة عَن أمرهَا وقولهما: فَأخْبر أَن ذَلِك الرجل زوج تِلْكَ الْمَرْأَة، وَأَنه وَقع على جَارِيَة لَهَا، فَولدت ولدا فأعتقته امْرَأَته، قَالُوا: فَهَذَا المَال لِابْنِهِ من جاريتها، فَقَالَ لَهُ حَمْزَة لأرجمنك بِالْحِجَارَةِ، فَقيل لَهُ: أصلحك الله، إِن أمره قد رفع إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فجلده عمر مائَة وَلم ير عَلَيْهِ الرَّجْم، فَأخذ حَمْزَة بِالرجلِ كَفِيلا حَتَّى يقدم على عمر فيسأله عَمَّا ذكر من جلد عمر إِيَّاه وَلم ير عَلَيْهِ رجما، فَصَدَّقَهُمْ عمر بذلك، من قَوْلهم، وَقَالَ: إِنَّمَا دَرأ عَنهُ الرَّجْم عذره بالجهالة. انْتهى.
قَوْله: (مُصدقا) بتَشْديد الدَّال الْمَكْسُورَة على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التَّصْدِيق، أَي: أَخذ الصَّدَقَة عَاملا عَلَيْهَا، فَصَدَّقَهُمْ، بِالتَّخْفِيفِ أَي: صدق الرجل للْقَوْم واعترف بِمَا وَقع مِنْهُ، لكنه اعتذر بِأَنَّهُ لم يكن عَالما بِحرْمَة وطىء جَارِيَة امْرَأَته أَو بِأَنَّهَا جاريتها، لِأَنَّهَا التبست واشتبهت بِجَارِيَة نَفسه أَو بِزَوْجَتِهِ، أَو صدق عمر الكفلاء فِيمَا كَانُوا يَدعُونَهُ أَنه قد جلده مرّة لذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون الصدْق بِمَعْنى الْإِكْرَام كَقَوْلِه تَعَالَى: {فِي مقْعد صدق} (الْقَمَر: 55) . أَي: كريم، فَمَعْنَاه: فَأكْرم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الكفلاء وَعذر الرجل بِجَهَالَة الْحُرْمَة أَو الِاشْتِبَاه. قَوْله: (فَأخذ حَمْزَة من الرجل كَفِيلا) ، لَيْسَ المُرَاد من الْكفَالَة هَهُنَا الْكفَالَة الْفِقْهِيَّة، بل المُرَاد التعهد والضبط عَن حَال الرجل. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ ذَلِك على سَبِيل التَّرْهِيب على الْمَكْفُول بِبدنِهِ والاستيثاق، لَا أَن ذَلِك لَازم للْكَفِيل إِذا زَالَ الْمَكْفُول بِهِ، واستفيد من هَذِه الْقِصَّة مَشْرُوعِيَّة الْكفَالَة بالأبدان، فَإِن حَمْزَة بن عَمْرو صَحَابِيّ، وَقد فعله وَلم يُنكر عَلَيْهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَ كَثْرَة الصَّحَابَة حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا جلد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للرجل مائَة تعزيرا وَكَانَ ذَلِك بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ شَاهد لمَذْهَب مَالك فِي مُجَاوزَة الإِمَام فِي التَّعْزِير قدر الْحَد، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فعل صَحَابِيّ عَارضه مَرْفُوع صَحِيح فَلَا حجَّة فِيهِ.
قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء، فمذهب مَالك وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف فِي قَول الطَّحَاوِيّ: إِن التَّعْزِير لَيْسَ لَهُ مِقْدَار مَحْدُود، وَيجوز للْإِمَام أَن يبلغ بِهِ مَا رَآهُ وَأَن يتَجَاوَز بِهِ الْحُدُود. وَقَالَت طَائِفَة: التَّعْزِير مائَة جلدَة فَأَقل. وَقَالَت طَائِفَة: أَكثر التَّعْزِير مائَة جلدَة إلاَّ جلدَة. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره تِسْعَة وَتسْعُونَ سَوْطًا فَأَقل، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى، وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره ثَلَاثُونَ سَوْطًا. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره(12/114)
عشرُون سَوْطًا. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يتَجَاوَز بالتعزير تِسْعَة، وَهُوَ بعض قَول الشَّافِعِي. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره عشرَة أسواذ فَأَقل لَا يتَجَاوَز بِهِ أَكثر من ذَلِك، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الظَّاهِر، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يجلد فَوق عشر جلدات إلاَّ فِي حد من حُدُود الله) ، بِأَنَّهُ فِي حق من يرتدع بالردع، ويؤثر فِيهِ أدنى الزّجر كأشراف النَّاس وأشراف أَشْرَافهم، وَأما السفلة وأسقاط النَّاس فَلَا يُؤثر فيهم عشر جلدات وَلَا عشرُون، فيعزرهم الإِمَام بِحَسب مَا يرَاهُ، وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ حَدِيث حَمْزَة بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي: بَاب الرجل يَزْنِي بِجَارِيَة امْرَأَته، فروى فِي أول الْبَاب حَدِيث سَلمَة بن المحبق: أَن رجلا زنى بِجَارِيَة امْرَأَته، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن كَانَ استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا، وَإِن كَانَت طاوعة فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا) . ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الحكم فِيمَن زنى بِجَارِيَة امْرَأَته. قلت: أَرَادَ بالقوم: الشّعبِيّ وعامر بن مطر وَقبيصَة وَالْحسن، ثمَّ قَالَ الطحاويي: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: بل نرى عَلَيْهِ الرَّجْم إِن كَانَ مُحصنا، وَالْجَلد: إِن كَانَ غير مُحصن. قلت: أَرَادَ بالآخرين هَؤُلَاءِ جَمَاهِير الْفُقَهَاء من التَّابِعين، وَمن بعدهمْ مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم، ثمَّ أجابوا عَن حَدِيث سَلمَة بن المحبق أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَلَفظ أبي دَاوُد: أَن رجلا يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن حنين وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَرفع إِلَى النُّعْمَان بن بشير، وَهُوَ أَمِير على الْكُوفَة، فَقَالَ: لأقضين فِيك بقضية رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن كَانَت أحلَّتها لَك جلدتك مائَة، وَإِن لم تكن أحلَّتها لَك رَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ، فوجدوها أحلَّتها لَهُ، فجلده مائَة. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَثَبت بِهَذَا مَا رَوَاهُ سَلمَة بن المحبق، قَالُوا: قد عمل عبد الله بن مَسْعُود بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا فِي حَدِيث سَلمَة فَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا بقوله: وَخَالفهُ فِي ذَلِك حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، وسَاق حَدِيثه على مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَقَالَ أَيْضا: وَقد أنكر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا قَضَاءَهُ بِمَا قد نسخ، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْحسن، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد الْحذاء عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: ذكر لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شَأْن الرجل الَّذِي أَتَى ابْن مَسْعُود وَامْرَأَته، وَقد وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَلم ير عَلَيْهِ حدا، فَقَالَ عَليّ: لَو أَتَانِي صَاحب ابْن أم عبد لرضخت رَأسه بِالْحِجَارَةِ، لم يدرِ ابْن أم عبد مَا حدث بعده، فَأخْبر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن ابْن مَسْعُود تعلق فِي ذَلِك بِأَمْر قد كَانَ ثمَّ نسخ بعده، فَلم يعلم ابْن مَسْعُود بذلك، وَقد خَالف عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله ابْن مَسْعُود فِي الحكم الْمَذْكُور، وَذهب إِلَى قَول من خَالف عبد الله، وَالْحَال أَن عَلْقَمَة أعلم أَصْحَاب عبد الله بِعَبْد الله وأجلهم، فَلَو لم يثبت نسخ مَا كَانَ ذهب إِلَيْهِ عبد الله لما خَالف قَوْله، مَعَ جلالة قدر عبد الله عِنْده.
وَقَالَ جرِيرٌ والأشْعَثُ لِعَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ فِي المُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وكَفِّلْهُمْ فتابُوا وكَفَلَهُمْ عَشائِرُهُمْ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وكفلهم) وَلَا خلاف فِي جَوَاز الْكفَالَة بِالنَّفسِ، جرير هُوَ ابْن عبد الله البَجلِيّ، والأشعث بن قيس الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق مُخْتَصر من قصَّة أخرجَا الْبَيْهَقِيّ بِطُولِهَا من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن حَارِثَة بن مضرب، قَالَ: صليت الْغَدَاة مَعَ عبد الله بن مَسْعُود، فَلَمَّا سلم قَامَ رجل فَأخْبرهُ أَنه انْتهى إِلَى مَسْجِد بني حنيفَة، فَسمع مُؤذن عبد الله بن نواحة يشْهد أَن مُسَيْلمَة رَسُول الله، فَقَالَ عبد الله: عَليّ بِابْن النواحة وَأَصْحَابه، فجيء بهم، فَأمر قُرَيْظَة بن كَعْب فَضرب عنق ابْن النواحة، ثمَّ اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفر، فَأَشَارَ إِلَيْهِ عدي بن حَاتِم بِقَتْلِهِم، فَقَامَ جرير والأشعث فَقَالَا: بل استتبهم وكفلهم عَشَائِرهمْ، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم أَن عدَّة الْمَذْكُورين كَانُوا مائَة وَسبعين رجلا، وَمعنى التكفيل هُنَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي حديطث حَمْزَة بن عَمْرو: الضَّبْط والتعهد حَتَّى لَا يرجِعوا إِلَى الارتداد، لَا أَنه كَفَالَة لَازِمَة.
وَقَالَ حَمَّادٌ إذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمات فَلا شَيْءَ علَيْهِ وَقَالَ الحَكَمُ يَضْمَن
حَمَّاد هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان، واسْمه مُسلم الْأَشْعَرِيّ أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي الْفَقِيه، وَهُوَ أحد مَشَايِخ الإِمَام أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأكْثر الرِّوَايَة عَنهُ، وَثَّقَهُ يحيى بن معِين وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. وَالْحكم، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن عتيبة، ومذهبه أَن الْكَفِيل بِالنَّفسِ يضمن الْحق الَّذِي على الْمَطْلُوب، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ إِذا تكفل(12/115)
بِنَفسِهِ، وَعَلِيهِ مَال فَإِنَّهُ لم يأتِ بِهِ غرم المَال، وَيرجع بِهِ على الْمَطْلُوب، فَإِن اشْترط ضَمَان نَفسه أَو وَجهه وَقَالَ: لَا أضمن المَال فَلَا شَيْء عَلَيْهِ من المَال.
(قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ اللَّيْث حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أشهدهم فَقَالَ كفى بِاللَّه شَهِيدا قَالَ فأتني بالكفيل قَالَ كفى بِاللَّه كَفِيلا قَالَ صدقت فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مسلمى فَخرج فِي الْبَحْر فَقضى حَاجته ثمَّ التمس مركبا يركبهَا يقدم عَلَيْهِ للأجل الَّذِي أَجله فَلم يجد مركبا فَأخذ خَشَبَة فنقرها فَأدْخل فِيهَا ألف دِينَار وصحيفة مِنْهُ إِلَى صَاحبه ثمَّ زجج موضعهَا ثمَّ أَتَى بهَا إِلَى الْبَحْر فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي كنت تسلفت فلَانا ألف دِينَار فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقلت كفى بِاللَّه كَفِيلا فَرضِي بك وسألني شَهِيدا فَقلت كفى بِاللَّه شَهِيدا فَرضِي بك وَأَنِّي جهدت أَن أجد مركبا أبْعث إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلم أقدر وَإِنِّي أستودعكها فَرمى بهَا فِي الْبَحْر حَتَّى ولجت فِيهِ ثمَّ انْصَرف وَهُوَ فِي ذَلِك يلْتَمس مركبا يخرج إِلَى بَلَده فَخرج الرجل الَّذِي كَانَ أسلفه ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ بِمَالِه فَإِذا بالخشبة الَّتِي فِيهَا المَال فَأَخذهَا لأَهله حطبا فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة ثمَّ قدم الَّذِي كَانَ أسلفه فَأتى بِالْألف دِينَار فَقَالَ وَالله مَا زلت جاهدا فِي طلب مركب لآتيك بِمَالك فَمَا وجدت مركبا قبل الَّذِي أتيت فِيهِ قَالَ هَل كنت بعثت إِلَيّ بِشَيْء قَالَ أخْبرك أَنِّي لم أجد مركبا قبل الَّذِي جِئْت فِيهِ قَالَ فَإِن الله قد أدّى عَنْك الَّذِي بعثت فِي الْخَشَبَة فَانْصَرف بِالْألف الدِّينَار راشدا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَسَأَلَنِي كَفِيلا وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وعلقه عَن اللَّيْث بن سعد عَن جَعْفَر بن ربيعَة ابْن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي الْمصْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة وَمضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي بَاب مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر وعلقه فِيهِ أَيْضا عَن اللَّيْث عَن جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج وَلكنه مُخْتَصر وَكَذَلِكَ ذكره مُعَلّقا عَن اللَّيْث نَحوه مُخْتَصرا فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب التِّجَارَة فِي الْبَحْر وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرجه أَيْضا فِي الاستقراض واللقطة والشروط والاستئذان وَمر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصى وَنَذْكُر هُنَا أَيْضا أَشْيَاء لزِيَادَة التَّوْضِيح وَالْبَيَان وَقَالَ بَعضهم أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل لم أَقف على اسْمه لَكِن رَأَيْت فِي مُسْند الصَّحَابَة الَّذين نزلُوا مصر لمُحَمد بن الرّبيع الجيزي لَهُ بِإِسْنَاد لَهُ فِيهِ مَجْهُول عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ يرفعهُ أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّجَاشِيّ فَقَالَ لَهُ أَسْلفنِي ألف دِينَار إِلَى أجل فَقَالَ من الْحميل بك قَالَ الله فَأعْطَاهُ الْألف وَضرب بهَا الْأَجَل أَي سَافر بهَا فِي تِجَارَة فَلَمَّا بلغ الْأَجَل أَرَادَ الْخُرُوج إِلَيْهِ فحبسته الرّيح فَعمل تابوتا فَذكر الحَدِيث نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ هَذَا الْقَائِل واستفدنا مِنْهُ أَن الَّذِي أقْرض هُوَ النَّجَاشِيّ فَيجوز أَن يكون نسبته إِلَى بني إِسْرَائِيل بطرِيق الِاتِّبَاع لَهُم لَا أَنه من نسلهم انْتهى قلت انْتهى هَذَا الْكَلَام فِي الْبعد إِلَى حد السُّقُوط لِأَن السَّائِل والمسؤل مِنْهُ كِلَاهُمَا من بني إِسْرَائِيل على مَا يُصَرح بِهِ ظَاهر الْكَلَام وَبَين الْحَبَشَة وَبني إِسْرَائِيل بعد عَظِيم فِي النِّسْبَة وَفِي الأَرْض وَيبعد أَن يكون ذَلِك الانتساب إِلَى بني إِسْرَائِيل بطرِيق الِاتِّبَاع وَهَذَا يأباه من لَهُ نظر تَامّ فِي تصرفه فِي وُجُوه مَعَاني الْكَلَام على أَن الحَدِيث الْمَذْكُور ضَعِيف لَا يعْمل بِهِ فَافْهَم قَوْله " مركبا " أَي سفينة قَوْله " يقدم " بِفَتْح الدَّال وَهُوَ جملَة حَالية قَوْله " وصحيفة " أَي مَكْتُوبًا قَوْله " زحج " بالزاي وَالْجِيم قَالَ الْخطابِيّ أَي(12/116)
سوى مَوضِع النقر وَأَصْلحهُ وَهُوَ من تزجيج الحواجب وَهُوَ حذف زَوَائِد الشّعْر وَقَالَ عِيَاض وَمَعْنَاهُ سمرها بمسامير كالزج أَو حشي شقوق لصاقها بِشَيْء ورقعه بالزج قَوْله " تسلفت فلَانا " قَالَ بَعضهم كَذَا وَقع هُنَا وَالْمَعْرُوف تعديته بِحرف الْجَرّ كَمَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ استلفت من فلَان (قلت) تنظيره باستلفت غير موجه لِأَن تسلفت من بَاب التفعل واستسلفت من بَاب الاستفعال وَتفعل يَأْتِي للمتعدي بِلَا حرف الْجَرّ كتوسد التُّرَاب واستسلفت مَعْنَاهُ طلبت مِنْهُ السّلف وَلَا بُد من حرف الْجَرّ قَوْله " فَرضِي بذلك " هَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره " فَرضِي بِهِ " وَرِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " فَرضِي بك " قَوْله " جهدت " بِفَتْح الْجِيم وَالْهَاء قَوْله " حَتَّى ولجت " فِيهِ بتَخْفِيف اللَّام أَي حَتَّى دخلت فِي الْبَحْر من الولوج وَهُوَ الدُّخُول قَوْله " وَهُوَ فِي ذَلِك " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله " يلْتَمس " أَي يطْلب قَوْله " ينظر " جملَة حَالية قَوْله " فَإِذا بالخشبة " كلمة إِذا للمفاجأة قَوْله " حطبا " نصب على أَنه مفعول لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره فَأَخذهَا لأجل أَهله يَجْعَلهَا حطبا للإيقاد قَوْله " فَلَمَّا نشرها " أَي قطعهَا بِالْمِنْشَارِ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ " فَلَمَّا كسرهَا " وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة " وَغدا رب المَال يسْأَل عَن صَاحبه كَمَا كَانَ يسْأَل فيجد الْخَشَبَة فيحملها إِلَى أَهله فَقَالَ أوقدوا هَذِه فكسروها فانتثرت الدَّنَانِير مِنْهَا والصحيفة فقرأها وَعرف قَوْله " فَانْصَرف بِالْألف الدِّينَار " وَهَذَا على مَذْهَب الْكُوفِيّين وَرَاشِد أنصب على الْحَال من فَاعل انْصَرف (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز التحدث عَمَّا كَانَ فِي زمن بني إِسْرَائِيل وَقد جَاءَ " تحدثُوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج عَلَيْكُم " وَفِيه جَوَاز التِّجَارَة فِي الْبَحْر وَجَوَاز ركُوبه وَفِيه جَوَاز أجل الْقَرْض احْتج بِهِ من يرى بذلك وَمن مَنعه يَقُول الْقَرْض إِعَارَة والتأجيل فِيهَا غير لَازم لِأَنَّهَا تبرع وَأما الَّذِي فِي الحَدِيث فَكَانَ على سَبِيل الْمُسَامحَة لَا على طَرِيق الْإِلْزَام وَفِيه طلب الشُّهُود فِي الدّين وَطلب الْكَفِيل بِهِ وَفِيه فضل التَّوَكُّل على الله وَأَن من صَحَّ توكله تكفل الله بنصره وعونه قَالَ عز وَجل {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَفِيه أَن جَمِيع مَا يُوجد فِي الْبَحْر فَهُوَ لواجده مَا لم يُعلمهُ ملكا لأحد -
2 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمَانُكم فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (النِّسَاء: 33) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان معنى قَول الله تَعَالَى: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الْكفَالَة الْتِزَام بِغَيْر عوض تَطَوّعا فتلزم كَمَا لزم اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث بِالْحلف الَّذِي وجد على وَجه التَّطَوُّع، وَأول الْآيَة: {وَلكُل جعلنَا موَالِي مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا} (النِّسَاء: 33) . قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو صَالح وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم وَالسُّديّ وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حَيَّان: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . أَي: وَرَثَة. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَي عصبَة، وَقَالَ ابْن جرير: الْعَرَب تسمي ابْن الْعم مولى، وَقَالَ الزّجاج: الْمولى كل من يليك وكل من والاك فِي محبَّة فَهُوَ مولى لَك. قلت: لفظ الْمولى مُشْتَرك يُطلق على معانٍ كَثِيرَة، يُطلق على الْمُنعم والمعتِق والمعتَق وَالْجَار والناصر والصهر والرب وَالتَّابِع، وَزَاد ابْن الباقلاني فِي (مَنَاقِب الْأَئِمَّة) : الْمَكَان والقرار، وَأما بِمَعْنى الْوَلِيّ فكثير، وَلَا يعرف فِي اللُّغَة بِمَعْنى الإِمَام. قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير: عاقدت، هُوَ مولى الْيَمين وَهُوَ الْحلف، وَذكر ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة آخَرين أَنهم الحلفاء، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أَنبأَنَا الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . قَالَ: كَانَ هَذَا حلفا فِي الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: {عاقدت} (النِّسَاء: 33) . من المعاقدة، مفاعلة من عقد الْحلف، وقرىء: عقدت، هُوَ حلف الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يتوارثون بِهِ وَنسخ بِآيَة الْمَوَارِيث. وَفِي (تَفْسِير) عبد بن حميد من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن عبد الله بن عُبَيْدَة: العقد خَمْسَة: عقدَة النِّكَاح، وعقدة الشَّرِيك لَا يخونه وَلَا يَظْلمه، وعقدة البيع، وعقدة الْعَهْد. قَالَ الله عز وَجل: {أَوْفوا بِالْعُقُودِ} (الْمَائِدَة: 1) . وعقدة الْحلف، قَالَ الله عز وَجل: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . وَفِي (تَفْسِير) مقَاتل: كَانَ الرجل يرغب فِي الرجل فيحالفه ويعاقده على أَن يكون مَعَه وَله من مِيرَاثه كبعض وَلَده، فَلَمَّا نزلت آيَة الْمَوَارِيث جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر لَهُ ذَلِك، فَنزلت: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . الْآيَة، يَعْنِي: أعطوهم الَّذِي سميتم لَهُ من الْمَوَارِيث، وَعَن عِكْرِمَة: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . الْآيَة ... كَانَ الرجل يحالف الرجل لَيْسَ بَينهمَا نسب، فيرث أَحدهمَا(12/117)
الآخر، فنسخ ذَلِك فِي الْأَنْفَال: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} (الْأَنْفَال: 57) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر وَابْنه عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حِين أَبى الْإِسْلَام، فَحلف أَبُو بكر أَن لَا يورثه. فَلَمَّا أسلم أمره الله عز وَجل: أَن يورثه نصِيبه. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: الَّذِي يجب أَن يحمل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِي الْبَاب أَن يكون {وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . نَاسِخا لما كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَأَن يكون {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . غير نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: إِنَّهَا مَنْسُوخَة، وَمثله يرْوى عَن ابْن عَبَّاس. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا محكمَة: مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة: وَقَالَ: هَذَا الحكم باقٍ غير مَنْسُوخ، وَجمع بَين الْآيَتَيْنِ بِأَن جعل أولى الْأَرْحَام أولى من أَوْلِيَاء المعاقدة، فَإِذا فقد ذَوُو الْأَرْحَام ورث المعاقدون وَكَانُوا أَحَق بِهِ من بَيت المَال. قَوْله: {إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا} (النِّسَاء: 33) . يَعْنِي: إِن الله شَاهد بَيْنكُم فِي تِلْكَ العهود والمعاقدات وَلَا تنشؤا بعد نزُول هَذِه الْآيَة معاقدة.
2922 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسامَةَ عنْ إدْرِيسَ عنْ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّفٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا {ولِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (النِّسَاء: 33) . قَالَ ورَثَةً {والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمانُكُمْ} (النِّسَاء: 33) . قَالَ كانَ المُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهَاجِرُ الأنْصَاريَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُمْ فلَمَّا نَزَلَتْ {ولِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ} (النِّسَاء: 33) . نَسَخَتْ ثُمَّ قَالَ {والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمَانُكُمْ} (النِّسَاء: 33) . إلاَّ النَّصْرَ والرِّفَادَةَ والنَّصِيحَةَ وقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ ويُوصَى لَهُ.؟
وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي الْكفَالَة وَالْحوالَة مَا قيل: إِن الْكَفِيل والغريم الَّذِي وَقعت الْحِوَالَة عَلَيْهِ ينْتَقل الْحق عَلَيْهِ كَمَا ينْتَقل هَهُنَا حق الْوَارِث عَنهُ إِلَى الْحلف، فَشبه انْتِقَال الْحق على الْمُكَلف بانتقاله عَنهُ، أَو بِاعْتِبَار أَن أحد الْمُتَعَاقدين كَفِيل عَن الآخر، لِأَنَّهُ كَانَ من جملَة المعاقدة، لأَنهم كَانُوا يذكرُونَ فِيهَا: تطلب بِي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عَنْك، وَأما وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث فَظَاهر.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الصَّلْت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو همام الخاركي، مر فِي: بَاب إِذا لم يتم السُّجُود. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: إِدْرِيس بن يزِيد من الزِّيَادَة الأودي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة. الرَّابِع: طَلْحَة بن مصرف، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التصريف، بِمَعْنى: التَّغْيِير: ابْن عَمْرو اليامي من بني يام، مر فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا يتنزه من الشُّبُهَات. الْخَامِس: سعيد بن جُبَير. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَطَلْحَة بن مصرف روى عَن عبد الله بن أبي أوفى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد أَيْضا، وَفِي الْفَرَائِض عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي الْفَرَائِض عَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ: وَرَثَة) أَي: فسر ابْن عَبَّاس الموَالِي بالورثة، وَكَذَا فَسرهَا جمَاعَة من التَّابِعين، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ. . إِلَى آخِره. قَوْله: (دون ذَوي رَحمَه) ، أَي: ذَوي أقربائه. قَوْله: (للأخوة) أَي: لأجل الْأُخوة الَّتِي آخى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمد الْهمزَة، يُقَال: آخاه يؤاخيه مؤاخاة وإخاء بِالْكَسْرِ: إِذا جعل بَينهمَا أخوة، والأخوة مصدر يُقَال: أحوت تاخوا إخْوَة. قَوْله: (بَينهم) أَي: بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله: (فَلَمَّا نزلت) ، أَي: الْآيَة الَّتِي هِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . نسخت آيَة الموَالِي آيَة المعاقدة. قَوْله: (إِلَّا النَّصْر) ، مُسْتَثْنى من الْأَحْكَام الْمقدرَة فِي الْآيَة المنسوخة، أَي: تِلْكَ الْآيَة حكم نصيب الْإِرْث لَا النَّصْر والرفادة، بِكَسْر الرَّاء أَي: المعاونة، والرفادة أَيْضا شَيْء كَانَ تتوافد بِهِ قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، يخرج مَالا يشترى بِهِ للْحَاج طَعَام(12/118)
وزبيب للنبيذ، وَيجوز أَن يكون هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا أَي: لَكِن النَّصْر وَنَحْوه باقٍ ثَابت. قَوْله: (وَقد ذهب الْمِيرَاث) أَي: من الْمُتَعَاقدين. قَوْله: (ويوصى لَهُ) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم والمجهول، وَالضَّمِير فِي: لَهُ، يرجع إِلَى الَّذِي كَانَ يَرث الْمَيِّت بالأخوة، وَعَن ابْن الْمسيب: نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . فِي الَّذين كَانُوا يتبنون رجَالًا غير أبنائهم ويورثونهم، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم أَن يَجْعَل لَهُم نصيب فِي الْوَصِيَّة، ورد الْمِيرَاث إِلَى الموَالِي من ذَوي الرَّحِم والعصبة، وأبى أَن يَجْعَل للمدعين مِيرَاث من أدعاهم وتبناهم، وَلَكِن جعل لَهُم نَصِيبا فِي الْوَصِيَّة.
3922 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ فآخَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُ وبَيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيع. .
هَذَا الحَدِيث قد مضى فِي أَوَائِل كتاب الْبيُوع، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن حميد عَن أنس، وَهنا أخرجه: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير أبي إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمُؤَدب الْمَدِينِيّ عَن حميد الطَّوِيل ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
4922 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّاءَ قالَ حدَّثنا عاصِمٌ قَالَ قُلْتُ ل أِنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أبَلَغَكَ أنَّ النبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ حِلْفَ فِي الإسلامِ فَقَالَ قَدْ حالَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ والأنصَارِ فِي دارِي.
لذكر هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب وَجه ظَاهر، وَمُحَمّد بن الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو جَعْفَر الدولابي، أَصله هروي نزل بَغْدَاد وَإِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا أَبُو زِيَاد الْأَسدي الخلقاني الْكُوفِي، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام عَن مُسَدّد عَن عباد بن عباد. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن حَفْص ابْن غياث، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (أبلغك؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (لَا حلف) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، وَفِي آخِره فَاء، وَهُوَ الْعَهْد يكون بَين الْقَوْم، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يتعاهدون فِي الْإِسْلَام على الْأَشْيَاء الَّتِي كَانُوا يتعاهدون عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن إبيه عَن جُبَير ابْن مطعم مَرْفُوعا: لَا حلف فِي الأسلام، وَإِنَّمَا حلف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده الْإِسْلَام إلاَّ شدَّة، وَقَالَ ابْن سَيّده: معنى لَا حلف فِي الْإِسْلَام أَي: لَا تعاهد على فعل شَيْء كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتعاهدون، والمحالفة فِي حَدِيث أنس هِيَ الإخاء، قَالَه ابْن التِّين. قَالَ: وَذَلِكَ أَن الْحلف فِي الْجَاهِلِيَّة هُوَ بِمَعْنى النُّصْرَة فِي الْإِسْلَام. وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي (التَّهْذِيب) : فَإِن قيل: قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حلف فِي الْإِسْلَام) ، وَهُوَ يُعَارض قَول أنس: حَالف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار فِي دَاري بِالْمَدِينَةِ، قيل لَهُ: هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَالَ: وَالَّذِي قَالَ فِيهِ مَا كَانَ من حلف فَلَنْ يزِيدهُ الْإِسْلَام إلاَّ شدَّة، يَعْنِي: مَا لم ينسخه الْإِسْلَام وَلم يُبطلهُ حكم الْقُرْآن، وَهُوَ التعاون على الْحق والنصرة وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم.
3 - (بابُ مَنْ تَكَفَّلَ عنْ مَيِّتٍ دَيْنالله فلَيْسَ لَهُ أنْ يَرْجِعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من تكفل عَن ميت دينا كَانَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع عَن الْكفَالَة لِأَنَّهَا لَزِمته وَاسْتقر الْحق فِي ذمَّته. قيل يحْتَمل أَن يُرِيد فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع فِي التَّرِكَة بِالْقدرِ الَّذِي تكفل بِهِ. قلت: قد ذكرنَا أَن فِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء، فَقَالَ ابْن أبي ليلى: الضَّمَان لَازم سَوَاء ترك الْمَيِّت شَيْئا أم لَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، فَإِن ترك الْمَيِّت شَيْئا ضمن بِقدر مَا ترك، وَإِن ترك وَفَاء ضمن جَمِيع مَا تكفل بِهِ. وَلَا رُجُوع لَهُ فِي التَّرِكَة لِأَنَّهُ مُتَطَوّع. وَقَالَ مَالك: لَهُ الرُّجُوع إِذا ادَّعَاهُ.(12/119)
وَبِه قالَ الحَسَنُ
أَي: بِعَدَمِ الرُّجُوع قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء.
5922 - حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَع رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِجَنازَةٍ لِيُصَلِّي عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا نَعَمْ قَالَ صَلُّوا عَلى صاحِبِكُمْ. قَالَ أبُو قَتَادَةَ علَيَ دَيْنُهُ يَا رَسُول الله فَصَلَّى عليْهِ. (انْظُر الحَدِيث 9822) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ أَبُو قَتَادَة عَليّ دينه) ، والْحَدِيث قد مضى بأتم مِنْهُ فِي: بَاب إِذا أحَال دين الْمَيِّت على رجل جَازَ، قبل هَذَا الْبَاب ببابين، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم عَن يزِيد بن أبي عُبَيْدَة عَن سَلمَة إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن أبي عَاصِم وَهُوَ الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الحَدِيث ثامن ثلاثيات البُخَارِيّ. قلت: هَذَا الحَدِيث قد مر مرّة كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن فَلَا يكون هَذَا ثامنا، بل سابعا، وَذكر هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ فِي الْحِوَالَة وَذكره هَهُنَا فِي الْكفَالَة لِأَنَّهُمَا متحدان عِنْد الْبَعْض أَو متقاربان، ثمَّ إِنَّه اقْتصر فِي هَذَا الطَّرِيق على ذكر جنازتين من الْأَمْوَات، وَهنا ذكر ثَلَاثَة، وَقد سَاقه الْإِسْمَاعِيلِيّ هُنَا أَيْضا تَاما وَزَاد فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ثَلَاث كيات، وَكَأَنَّهُ ذكر ذَلِك لكَونه كَانَ من أهل الصّفة فَلم يُعجبهُ أَن يدّخر شَيْئا.
6922 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ ووقال سَمِعَ محَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ عنْ جابرِ ابنِ عَبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ قدْ جاءَ مالُ البَحْرَيْنِ قَدْ أعْطَيْتُكَ هَكَذَا وهَكذَا فَلَمْ يَجِيءْ مالُ البَحْرَيْنِ حتَّى قبِضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا جاءَ مالُ البَحْرَيْنِ أمَرَ أبُو بَكْرٍ فنَادَى منْ كانَ لَهُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِدَةٌ أوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فأتَيْتُهُ فَقُلْتُ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي كَذَا وكذَا فَحَثَى لِي حَثْيَهُ فَعَدَدْتُها فإذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَقَالَ خُذْ مِثْلَيْهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَمَا قَامَ مقَام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تكفل بِمَا كَانَ عَلَيْهِ من وَاجِب أَو تطوع، فَلَمَّا الْتزم ذَلِك لزمَه أَن يُوفي جَمِيع مَا عَلَيْهِ من دين وعدة، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الْوَفَاء بالوعد، وَنفذ أَبُو بكر ذَلِك.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مدنيان وسُفْيَان وَعَمْرو مكيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَعَمْرو بن دِينَار روى كثيرا عَن جَابر، وَهَهُنَا كَانَ بَينهمَا وَاسِطَة هُوَ: مُحَمَّد بن عَليّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْخمس عَن عَليّ بن عبد الله أَيْضا، وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَفِي الشَّهَادَات عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَو قد جَاءَ) ، وَمعنى: قد، هَهُنَا لتحَقّق الْمَجِيء. قَوْله: (مَال الْبَحْرين) ، وَالْمرَاد بِالْمَالِ مَال الْجِزْيَة، والبحرين على لفظ تَثْنِيَة الْبَحْر، مَوضِع بَين الْبَصْرَة وعمان، وَكَانَ الْعَامِل عَلَيْهَا من جِهَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ. قَوْله: (قد(12/120)
أَعطيتك هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) وَفِي الشَّهَادَات: فَبسط يَده ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (عدَّة) أَي: وأصل عدَّة وعد، فَلَمَّا حذفت الْوَاو عوضت عَنْهَا الْيَاء فِي آخِره فوزنه على هَذَا عِلّة. قَوْله: (فَحثى لي حثية) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، والحثية ملْء الْكَفّ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ الحفنة. وَقَالَ ابْن فَارس: هِيَ ملْء الْكَفَّيْنِ وَالْفَاء فِي: فَحثى، عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره: خُذ هَكَذَا، وَأَشَارَ بيدَيْهِ، وَفِي الْوَاقِع هُوَ تَفْسِير لقَوْله: خُذ هَكَذَا. قَوْله: (وَقَالَ خُذ مثليها) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر: خُذ أَيْضا مثلي خَمْسمِائَة، فالجملة ألف وَخَمْسمِائة، وَذَلِكَ لِأَن جَابِرا لما قَالَ: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي: كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: لَو قد جَاءَ مَال الْبَحْرين أَعطيتك هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، ثَلَاث مَرَّات، حثى لَهُ أَبُو بكر حثية، فَجَاءَت خَمْسمِائَة، ثمَّ قَالَ: خُذ مثليها، ليصير ثَلَاث مَرَّات تنفيذا لما وعده النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: هَكَذَا، ثَلَاث مَرَّات، وَكَانَ ذَلِك وَعدا من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ من خلقه الْوَفَاء بالعهد، ونفذه أَبُو بكر بعد وَفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد الْعدْل من الصَّحَابَة وَلَو جر ذَلِك نفعا لنَفسِهِ، لِأَن أَبَا بكر لم يلْتَمس من جَابر شَاهدا على صِحَة دَعْوَاهُ. انْتهى. قلت: إِنَّمَا لم يلْتَمس شَاهدا مِنْهُ لِأَنَّهُ عدل بِالْكتاب وَالسّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} (آل عمرَان: 01) . {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} (الْبَقَرَة: 341) . فَمثل جَابر إِن لم يكن من خير أمة فَمن يكون. وَأما السّنة: فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كذب عَليّ مُتَعَمدا. .) الحَدِيث، وَلَا يظنّ ذَلِك لمُسلم. فضلا عَن صَحَابِيّ، فَلَو وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة الْيَوْم فَلَا تقبل إلاَّ بِبَيِّنَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، علم بذلك فَقضى لَهُ بِعِلْمِهِ فيستدل بِهِ على جَوَاز مثل ذَلِك للْحَاكِم. انْتهى.
قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ تَفْصِيل وَلَيْسَ على الْإِطْلَاق، لِأَن علم القَاضِي على أَنْوَاع.
مِنْهَا: مَا يعلم بِهِ قبل الْبلُوغ وَقبل الْولَايَة من الْأَقْوَال الَّتِي يسْمعهَا وَالْأَفْعَال الَّتِي يشاهدها. وَمِنْهَا: مَا يعلمهَا بعد الْبلُوغ قبل الْولَايَة. وَمِنْهَا: مَا يُعلمهُ بعد الْولَايَة وَلَكِن فِي غير عمله الَّذِي وليه. وَمِنْهَا: مَا يُعلمهُ بعد الْولَايَة فِي عمله الَّذِي وليه. فَفِي الْفَصْل الأول: لَا يقْضِي بِعِلْمِهِ مُطلقًا. وَفِي الْفَصْل الثَّانِي: خلاف بَين أبي حنيفَة وصاحبيه، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: لَا يقْضِي، وَعِنْدَهُمَا: يقْضِي إلاَّ فِي الْحُدُود وَالْقصاص، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، وَفِي الثَّانِي: لَا يقْضِي أَيْضا، وَفِي الرَّابِع: يقْضِي بِلَا خلاف. وَقَالَ ابْن التِّين: فِي الحَدِيث جَوَاز هبة الْمَجْهُول والآبق وَالْكَلب، وَفِي (حاوي) الْحَنَابِلَة: وَتَصِح هبة الْمشَاع، وَإِن تَعَذَّرَتْ قسمته، وَفِي (الرَّوْضَة) للشَّافِعِيَّة: تجوز هبة الْمشَاع سَوَاء المنقسم أَو غَيره، وساء وهبه للشَّرِيك أَو غَيره، وَيجوز هبة الأَرْض المزروعة مَعَ زَرعهَا وَدون زَرعهَا وَعَكسه. انْتهى، وَعِنْدنَا: لَا تجوز الْهِبَة فِيمَا لَا يقسم إلاَّ محوزة أَي: مفرغة عَن أَمْلَاك الْوَاهِب حَتَّى لَا تصح هبة الثَّمر على الشّجر وَالزَّرْع على الأَرْض بِدُونِ الشّجر وَالْأَرْض، وَكَذَا الْعَكْس، وَهبة الْمشَاع فِيمَا لَا يقسم جَائِزَة.
وَفِيه: الْعدة، فجمهور الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على أَن إنجاز الْعدة مُسْتَحبّ، وأوجه الْحسن وَبَعض الْمَالِكِيَّة، وَقد اسْتدلَّ بعض الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على وجوب الْوَفَاء بالوعد فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنهم زَعَمُوا أَنه من خَصَائِصه، وَلَا دلَالَة فِيهِ أصلا لَا على الْوُجُوب وَلَا على الخصوصية.
(بابُ جُوَارِ أبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَقْدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جوَار أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِضَم الْجِيم وَكسرهَا وَالْمرَاد بِهِ: الزِّمَام والأمان. قَوْله: (فِي عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي زَمَنه. قَوْله: (وعقده) أَي: عقد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
7922 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابنُ شِهابٍ فأخبَرَنِي عُرْوَةُ ابنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ لَمْ أعْقل أبَوَيَّ إلاَّ وهُمَا يَدِينانِ الدِّين. وَقَالَ أَبُو صالحٍ حدَّثني عبدُ الله عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ(12/121)
الزُّبِيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمْ أعْقَلْ أبَوَيَّ قَطُّ إلاَّ وهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ولَمْ يَمُرَّ عَلَيْنا يَوْمٌ إلاَّ يأتِينَا فيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَرَفَيِّ النَّهَارِ بُكْرَةً وعَشيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ خرَجَ أبُو بَكْرٍ مُهَاجِرا قِبَلَ الحَبَشَةِ حتَّى إِذا بلَغَ بَرُكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ وهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أيْنَ تريدُ يَا أبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أخْرَجَنِي قَوْمِي فَأَنا أُرِيدُ أنْ أسِيحَ فِي الأرْضِ فأعْبُدَ رَبِّييي قَالَ ابنُ الدَّغِنَةِ إنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ ولاَ يَخْرُجُ فإنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ وتصِلْ الرَّحِمَ وتَحْمِلُ الْكَلَّ وتَقْرِي الضَّيْفَ وتُعينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ وَأَنا لَكَ جارٌ فارْجِعْ فاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلادِكَ فارْتَحَلَ ابنُ الدَّغِنَةِ فرَجَعَ معَ أبِي بَكْرٍ فَطافَ فِي أشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إنَّ أبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلَهُ ولاَ يخْرَجُ أتُخْرِجُونَ رجُلاً يَكْسِبُ المَعْدُومَ ويَصِلُ الرَّحِمَ ويَحْمِلُ الْكَلَّ ويقْرِي الضَّيْفَ ويُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ فأنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جوَارَ ابنِ الدَّغِنَةِ وآمَنُوا أبَا بَكْرٍ وقالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فلْيُصلِّ ولْيَقْرأ مَا شاءَ ولاَ يْؤْذِينا بِذَلِكَ ولاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ فإنَّا قَدْ خَشِينَايي أنْ يَفْتَنَ أبْناءَنا ونساءَنا قَالَ ذَلِكَ ابنُ الدَّغِنَةِ لأِبِي بَكْرٍ فطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاةِ ولاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دارِهِ ثُمَّ بدَا لأبِي بكْرٍ فابْتَنى مَسْجِدا بِفِناءِ دَارِهِ وبَرَزَ فَكانَ يُصَلِّي فِيهِ ويَقْرَأُ القُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِساءُ المُشْرِكِينَ وأبْناؤُهُمْ يَعْجَبُونَ ويَنْظُرُونَ إلَيْهِ وكانَ أبُو بَكْرٍ رَجلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يقرَأُ القُرآنَ فأفْزعَ ذَلِكَ أشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ فأرْسَلُوا إِلَى ابنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِم عَلَيْهِمْ فقالُوا لَهُ إنَّا كُنَّا أجرْنا أبَا بَكْرٍ عَلَى أنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وإنَّهْ جاوَزَ ذَلِكَ فابْتَنَى مَسْجِدا بِفناءِ دَارِهِ وأعْلَنَ الصَّلاَةَ والْقِراءَةَ وقدْ خَشِينا أنْ يَفْتِنَ أبْنَاءَنا ونِسَاءَنا فأْتِهِ فإنَّ أحَبَّ أنْ يَقْتَصِرَ علَى أنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فَي دَارِه فَعلَ وإنْ أبَى إلاَّ أَن يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أنْ يَرُدِّ إلَيْكَ ذِمَّتِكَ فإنَّا كَرِهْنَا أنْ نُخْفِرَكَ ولَسْنا مُقِرِّينَ لأِبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ قالتْ عائِشَةُ فأتَى ابنُ الدَّغِنَةِ أبَا بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فإمَّا أنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وإمَّا أنْ تَرُدَّ إلَيَّ ذِمَّتِي فإنِّي لَا أُحِبُّ أنْ تَسْمَعَ العَرَبُ أنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ قَالَ أبُو بَكْرٍ إنِّي أرُدُّ إلَيْكَ جِوَارَكَ وأرْضِي بِجَوَارِ الله ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ أُريتُ دارَ هِجْرَتِكُمْ رَأيْتُ سَبْخَةً ذاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ وهُما الحَرَّتَانِ فَهاجَرَ منْ هاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ بَعْضُ منْ كانَ هاجَرَ إلَى أرْضِ الحَبَشَةِ وتَجَهَّزَ أبُو بَكْرٍ مُهاجِرا فَقَالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى رِسْلِكَ فإنِّي أرْجُو أَن يُؤْذَنَ لِي قَالَ أبُو بَكْرٍ هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بأبِي أنْتَ قَالَ نَعَمْ فحَبَسَ أبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ علَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَصْحَبَهُ وعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كانَتَا(12/122)
عِنْدَهُ ورقَ السَّمُرِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن المجير مُلْتَزم للمجار أَن لَا يُؤْذِي من جِهَة من أَجَارَ مِنْهُ وَكَانَ ضمن لَهُ أَن لَا يُؤْذِي وَأَن تكون الْعهْدَة فِي ذَلِك عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَمَّا قيل، كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر هَذَا فِي كَفَالَة الْأَبدَان كَمَا ناسب {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . كَفَالَة الْأَمْوَال.
ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة: الأول: يحيى بن بكير، هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: أَبُو صَالح، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَقَالَ أَبُو نعيم والأصيلي والجياني وَآخَرُونَ: إِنَّه سُلَيْمَان ابْن صَالح ولقبه سلمويه وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ هُوَ أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث وَقَالَ الدمياطي: هُوَ أَبُو صَالح مَحْبُوب بن مُوسَى الْفراء. قيل: الْمُعْتَمد على الأول لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن عَن الْفربرِي عَن البُخَارِيّ، قَالَ: قَالَ أَبُو صَالح سلمويه: حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك. السَّابِع: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّامِن: يُونُس بن يزِيد. التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى جده، وَأَنه وَاللَّيْث وَأَبا صَالح على قَول من يَقُول: إِنَّه كَاتب اللَّيْث مصريون، وَعقيل إيلي وَالزهْرِيّ وَعُرْوَة مدنيان وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأَبُو صَالح، على قَول من يَقُول: إِنَّه سلمويه، مروزيان، وَعبد الله على قَول من يَقُول: أَبُو صَالح كَاتب اللَّيْث، هُوَ عبد الله بن وهب، مصري.
وَقد مضى صدر هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْمَسَاجِد فِي: بَاب الْمَسْجِد يكون فِي الطَّرِيق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: لم أَعقل أَبَوي إِلَّا وهما يدينان ... الحَدِيث مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي عُرْوَة) ، فِيهِ مَحْذُوف. وَقَوله: (فَأَخْبرنِي) ، عطف عَلَيْهِ تَقْدِيره: قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي كَذَا وَكَذَا، وعقيب ذَلِك أَخْبرنِي بِهَذَا. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو صَالح: حَدثنِي عبد الله) ، هَذَا تَعْلِيق سقط من رِوَايَة أبي ذَر، وسَاق الحَدِيث عَن عقيل وَحده. قَوْله: (لم أَعقل أَبَوي) ، أَي: لم أعرف، يَعْنِي مَا وجدتهما مُنْذُ عقلت إلاَّ متدينين بدين الْإِسْلَام. قَوْله: (قطّ) ، بتَشْديد الطَّاء الْمَضْمُونَة للنَّفْي فِي الْمَاضِي، تَقول مَا رَأَيْته قطّ. وَقَالَ أَبُو عَليّ: وَقد تجزم إِذا كَانَت بِمَعْنى التَّعْلِيل، وتضم وتثقل إِذا كَانَت فِي معنى الزَّمن والحين من الدَّهْر، تَقول: لم أر هَذَا قطّ، وَلَيْسَ عِنْدِي إلاَّ هَذَا فَقَط. قَوْله: (وهما يدينان الدّين) ، أَي: يطيعان الله، وَذَلِكَ أَن مولدها بعد الْبَعْث بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِخمْس، وَقيل: بِسبع، وَلَا وَجه لَهُ لإجماعهم أَنَّهَا كَانَت حِين هَاجر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنت ثَمَان، وَأكْثر مَا قيل أَن مقَامه بِمَكَّة بعد الْبَعْث ثَلَاث عشرَة سنة، وَإِنَّمَا يَصح خمس على قَول من يَقُول: أَقَامَ ثَلَاث عشرَة سنة، وسنتين على قَول من يَقُول: أَقَامَ عشرا بهَا، وَتَزَوجهَا وَهِي بنت سِتّ، وَقيل: سبع، وَبنى بهَا وَهِي بنت تسع، وَمَات عَنْهَا وَهِي بنت ثَمَانِي عشر سنة، وَعَاشَتْ بعده ثَمَان وَأَرْبَعين سنة. قَوْله: (فَلَمَّا ابتلى الْمُسلمُونَ) أَي: بإيذاء الْمُشْركين. قَوْله: (خرج أَبُو بكر مُهَاجرا) أَي: حَال كَونه مُهَاجرا. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أصل المهاجرة عِنْد الْعَرَب خُرُوج البدوي من الْبَادِيَة إِلَى المدن، يُقَال: هَاجر البدوي إِذا حضر وَأقَام كَأَنَّهُ ترك الأولى للثَّانِيَة. قَوْله: (حَتَّى إِذا بلغ برك الغماد) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة على الْأَكْثَر، ويروى بِكَسْرِهَا وبسكون الرَّاء وبالكاف، وَفِي (الْمطَالع) : وبكسر الْبَاء، وَقع للأصيلي وَالْمُسْتَمْلِي وَأبي مُحَمَّد الْحَمَوِيّ، قَالَ: وَهُوَ مَوضِع بأقاصي هجر، والغماد، بِكَسْر الْغَيْن وَضمّهَا. كَذَا ذكره ابْن دُرَيْد. وف (مُعْجم) الْبكْرِيّ، قَالَ أَحْمد بن يَعْقُوب الْهَمدَانِي: برك الغماد فِي أقْصَى الْيمن. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: برك ونعام موضعان فِي أَطْرَاف الْيمن. وَقَالَ الهجري: برك من الْيَمَامَة. وَقيل: إِن البرك والبريك مُصَغرًا لبني هِلَال بن عَامر. قَوْله: (ابْن الدغنة) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة(12/123)
وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون المخففة، على مِثَال الْكَلِمَة، وَيُقَال: بِضَم الدَّال والغين وَتَشْديد النُّون، وَيُقَال: بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْغَيْن، وَفِي الْمطَالع عِنْد الْمروزِي: الدغنة، بِفَتْح الدَّال وبفتح الْغَيْن. قَالَ الْأصيلِيّ: كَذَا قرأناه، وَعند الْقَابِسِيّ: الدغنة، بِفَتْح الدَّال وَكسر الْغَيْن وَتَخْفِيف النُّون، وَحكى الجياني فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَيُقَال: ابْن الدثنة أَيْضا، وتسكن الثَّاء أَيْضا، والدغنة: اسْم أمه، وَمَعْنَاهُ لُغَة: الْغَيْم الممطر، والدثنة الْكَثِيرَة اللَّحْم المسترخية. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: واسْمه ربيعَة بن رفيع. قَوْله: (وَهُوَ سيد القارة) ، بِالْقَافِ وَتَخْفِيف الرَّاء: قَبيلَة مَوْصُوفَة بجودة الرَّمْي. وَفِي (الْمطَالع) : القارة بَنو الْهون بن خُزَيْمَة. قلت: خُزَيْمَة بن مدركة بن الياس بن مُضر، سموا بذلك لأَنهم فِي بعض حربهم لبني بكر صفوا فِي قارة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: القارة أكمة سَوْدَاء فِيهَا حِجَارَة. قَوْله: (أَن أسيح) ، أَي: أَن أَسِير، يُقَال: ساح فِي الأَرْض يسيح سياحة إِذا ذهب فِيهَا، وَأَصله من السيح، وَهُوَ المَاء الْجَارِي المنبسط على الأَرْض. قَوْله: (لَا يَخرُج) ، على بِنَاء الْفَاعِل (وَلَا يُخرج) ، على بِنَاء الْمَفْعُول. قَوْله: (تكسب الْمَعْدُوم) أَي: تكسب معاونة الْفَقِير، وتحقيقه مر فِي كتاب الْإِيمَان. قَوْله: (وَتحمل الْكل) ، بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ الثّقل، أَي: ثقل العجزة، كَذَا فسره الْكرْمَانِي. وَفِي (الْمغرب) : الْكل الْيَتِيم، وَمن هُوَ عِيَال وَثقل على صَاحبه. قَوْله: (وتقرى الضَّيْف) ، بِفَتْح التَّاء من: قرى يقري، من بَاب: ضرب يضْرب، تَقول: قريت قرى، مثل: قليته قلى، وقراءً: أَحْسَنت إِلَيْهِ، إِذا كسرت الْقَاف قصرت، وَإِذا فتحت مددت. وَفِي (الْمطَالع) : الْقرى، بِالْكَسْرِ مَقْصُورا مَا يهيأ للضيف من طَعَام، وَنزل. وَقَالَ القالي: إِذا فتحت أَوله مددته. قَوْله: (على نَوَائِب الْحق) ، النوائب: جمع نائبة. وَهِي مَا يَنُوب الْإِنْسَان، أَي: ينزل بِهِ من الْمُهِمَّات والحوادث، من نابه ينوبه شَيْء إِذا نزل بِهِ واعتراه. قَوْله: (وَأَنا لَك جَار) ، أَي مجير، وَفِي (الصِّحَاح) : الْجَار الَّذِي أجرته من أَن يَظْلمه ظَالِم. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي جَار لكم} (الْأَنْفَال: 84) . وَالْمعْنَى هُنَا: أَنا مؤمنك مِمَّن أخافك مِنْهُم، وَفِي (الْمغرب) : أجاره يجيره إِجَارَة: إغاثة، والهمزة للسلب، وَالْجَار المجير والمجار. قَوْله: (فَرجع مَعَ أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: رَجَعَ أَبُو بكر مَعَه، عكس الْمَذْكُور، وَلَكِن هَذَا من إِطْلَاق الرُّجُوع وَإِرَادَة لَازمه الَّذِي هُوَ الْمَجِيء، أَو: هُوَ من قبيل المشاكلة، لِأَن أَبَا بكر كَانَ رَاجعا، وَأطلق الرُّجُوع بِاعْتِبَار مَا كَانَ قبله بِمَكَّة. قَوْله: (فَطَافَ) ، أَي: ابْن الدغنة (فِي أَشْرَاف كفار قُرَيْش) أَي: ساداتهم، وهم جمع شرِيف، وشريف الْقَوْم سيدهم وَكَبِيرهمْ. قَوْله: (أتخرجون؟) ، بِضَم التَّاء: من الْإِخْرَاج، والهمزة للاستفهام على سَبِيل الأنكار. قَوْله: (يكْسب الْمَعْدُوم) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: رجلا، وَمَا بعده عطف عَلَيْهَا. قَوْله: (فانفذت) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي: امضوا جواره وَرَضوا بِهِ (وآمنوا أَبَا بكر) أَي: جَعَلُوهُ فِي أَمن ضد الْخَوْف قَوْله: (مُر) ، أَمر من: يَأْمر. قَوْله: (فليعبد) ، قيل: الْفَاء، لَا معنى لَهَا هُنَا، وَقيل: تَقْدِيره: مر أَبَا بكر ليعبد ربه، فليعبد ربه، قَالَه الْكرْمَانِي قلت: هَذَا الَّذِي ذكره أَيْضا لَا معنى لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيد زِيَادَة شَيْء، بل تصلح الْفَاء أَن تكون جَزَاء شَرط، تَقْدِيره: مر أَبَا بكر إِذا قبل مَا تشْتَرط عَلَيْهِ فليعبد ربه فِي دَاره. قَوْله: (بذلك) ، إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من الصَّلَاة وَالْقِرَاءَة. قَوْله: (وَلَا يستعلن بِهِ) ، أَي: بالمذكور من الصَّلَاة وَالْقِرَاءَة، والاستعلان: الْجَهْر، وَلَكِن مُرَادهم الْجَهْر بِدِينِهِ وَصلَاته وقراءته. قَوْله: (أَن يفتن) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف من الْفِتْنَة، يُقَال: فتنته أفتنه فتنا وفتونا. وَيُقَال: أفتنه، وَهُوَ قَلِيل، والفتنة تسْتَعْمل على معانٍ كَثِيرة، وَأَصلهَا الامتحان، وَالْمرَاد هُنَا أَن يخرج أَبْنَاءَهُم ونساءهم مِمَّا هم فِيهِ من الضلال إِلَى الدّين. وَقَوله: (أبناءنا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: أَن يفتن (قَالَ ذَلِك) أَي: قَالَ ابْن الدغنة: وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا شرطت أَشْرَاف قُرَيْش عَلَيْهِ. قَوْله: (فَطَفِقَ أَبُو بكر) ، بِكَسْر الْفَاء، يُقَال: طفق يفعل كَذَا، مثل جعل يفعل كَذَا، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، وَلكنه من النَّوْع الَّذِي يدل على الشُّرُوع فِيهِ، وَيعْمل عمل كَانَ، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : يُقَال: طفق يفعل كَذَا، مثل: ظلّ. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن ظلّ من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : طفق مَا نسي طفوقا إِذا دَامَ فعله لَيْلًا وَنَهَارًا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَطَفِقَ مسحا} (ص: 33) . الْآيَة، وَفِيه نظر (ثمَّ بدا لأبي بكر) ، أَي: ظهر لَهُ رَأْي فِي أمره بِخِلَاف مَا كَانَ يَفْعَله. قَوْله: (فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره) ، بِكَسْر الْفَاء، وَهُوَ مَا امْتَدَّ من جَوَانِب الدَّار وَهُوَ أول مَسْجِد بني فِي الْإِسْلَام، قَالَه أَبُو الْحسن. قَالَ الدَّاودِيّ: بِهَذَا يَقُول مَالك وفريق من الْعلمَاء إِن من كَانَت لداره طَرِيقا متسعا لَهُ أَن يرتفق مِنْهَا بِمَا لَا يضر بِالطَّرِيقِ. قَوْله: (وبرز) ، أَي: ظهر من البروز. قَوْله:(12/124)
(فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ) ، أَي: فِي الْمَسْجِد الَّذِي بناه بِفنَاء دَاره. قَوْله: (فيتقصف) ، أَي: يزدحم حيضا حَتَّى يكسر بَعضهم بَعْضًا بالوقوع عَلَيْهِ، وأصل القصف الْكسر وَمِنْه ريح قاصفة، أَي: شَدِيدَة تكسر الشّجر. قَوْله: (بكَّاء) ، مُبَالغَة باكي من الْبكاء. قَوْله: (فأفزع ذَلِك) ، من الْفَزع وَهُوَ الْخَوْف، وَذَلِكَ فِي مَحل الرّفْع، فَاعله: وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا فعله أَبُو بكر من قِرَاءَة الْقُرْآن جَهرا وبكائه. وَقَوله: (أَشْرَاف قُرَيْش) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول أفزع. قَوْله: (وَإِن جَاوز ذَلِك) ، أَي: مَا شرطنا عَلَيْهِ. قَوْله: (وَإِن أَبى إلاَّ أَن يعلن ذَلِك) ، أَي: وَإِن امْتنع إلاَّ أَن يجْهر بِمَا ذكر من الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن. قَوْله: (ذمنك) ، أَي: عَهْدك، قَوْله: (أَن نخفرك) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالفاء: من الإخفار، بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ نقض الْعَهْد، يُقَال: خفرته إِذا أجرته وحميته، وأخفرته إِذا نقضت عَهده وَلم تف بِهِ، والهمزة فِيهِ للسلب. قَوْله: (إِنِّي أخفرت) على بِنَاء الْمَجْهُول. قَوْله: (أرْضى بجوار الله) ، أَي: حماه. قَوْله: (قد أريت) ، على بِنَاء الْمَجْهُول. قَوْله: (سبخَة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهِي الأَرْض تعلوها الملوحة وَلَا تكَاد تنْبت شَيْئا إلاَّ بعض الشّجر. قَوْله: (بَين لابتين) ، اللابتان تَثْنِيَة لابة بِالتَّخْفِيفِ وَهِي أَرض فِيهَا حِجَارَة سود كَأَنَّهَا احترقت بالنَّار، وَكَذَلِكَ الْحرَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء. قَوْله: (مُهَاجرا) حَال، أَي: طَالب الْهِجْرَة من مَكَّة. قَوْله: (على رسلك) ، بِكَسْر الرَّاء: على هينتك من غير عجلة، يُقَال: إفعل كَذَا على رسلك، أَي اتئد، وَفِي (التَّوْضِيح) : الرُّسُل، بِفَتْح الرَّاء: السّير السهل، وَضَبطه فِي الأَصْل بِكَسْر الرَّاء، وَبَعض الرِّوَايَات بِفَتْحِهَا. قَوْله: (أَن يُؤذن) على بِنَاء الْمَجْهُول من الْإِذْن. قَوْله: (بِأبي) ، أَي: مفدى بِأبي. قَوْله: (أَنْت) مُبْتَدأ وَخَبره: بِأبي، أَو: أَنْت، تَأْكِيد لفاعل ترجو، و: بِأبي، قسم. قَوْله: (ورق السمر) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم، قَالَ الْكرْمَانِي: شجر الطلح، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ ضرب من شجر الطلح، الْوَاحِد سَمُرَة. وَفِي (الْمغرب) : السمر من شجر العضاه، وَهُوَ كل شجر يعظم وَله شوك وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ: خَالص وَغير خَالص، فالخالص: الغرف والطلح وَالسّلم والسدر والسيال والسمر والينبوت والقتاد الْأَعْظَم والكهنبل والغرب والعوسج، وَمَا لَيْسَ بخالص: فالشوحط والنبع والشريان والسراء والنشم والعجرم والتالب، وَوَاحِد العضاه عضاهة وعضهة وعضة، بِحَذْف الْهَاء الْأَصْلِيَّة، كَمَا فِي الشّفة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْجَوَاز، وَكَانَ مَعْرُوفا بَين الْعَرَب، وَكَانَ وُجُوه الْعَرَب يجيرون من لَجأ إِلَيْهِم واستجار بهم، وَقد أَجَارَ أَبُو طَالب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكون الْجوَار إلاَّ لمن ظلم. وَفِيه: أَنه إِذا خشِي الْمُؤمن على نَفسه من ظَالِم أَنه مُبَاح لَهُ وَجَائِز أَن يستجير بِمن يمنعهُ ويحميه من الظُّلم، وَإِن كَانَ يجيره كَافِرًا، إِن أَرَادَ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ، وَإِن أَرَادَ الْأَخْذ بالشدة فَلهُ ذَلِك، كَمَا رد الصّديق الْجوَار وَرَضي بجوار الله وَرَسُوله، وَالصديق يَوْمئِذٍ كَانَ من الْمُسْتَضْعَفِينَ، فآثر الصَّبْر على مَا ناله من الْأَذَى محتسبا على الله تَعَالَى وإيفاء بِهِ فوفاه الله لَهُ مَا وثق بِهِ فِيهِ وَلم ينله مَكْرُوه حَتَّى أذن لَهُ فِي الْهِجْرَة فَخرج مَعَ حَبِيبه ونجاهما الله من كيد أعدائهما حَتَّى بلغ مُرَاده من الله من إِظْهَار النُّبُوَّة وإعلاء الدّين. وَفِيه: مَا كَانَ للصديق من الْفضل والصدق فِي نصْرَة رَسُوله وبذله نَفسه وَمَاله فِي ذَلِك مِمَّا لم يخف مَكَانَهُ وَلَا جهل مَوْضِعه. وَفِيه: أَن كل من ينْتَفع بإقامته لَا يخرج من بَلَده وَيمْنَع مِنْهُ إِن أَرَادَهُ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّد بن سَلمَة: إِن الْفَقِيه لَيْسَ لَهُ أَن يَغْزُو لِأَن ثمَّة من يَنُوب عَنهُ فِيهِ وَلَيْسَ يُوجد من يقوم مقَامه فِي التَّعْلِيم، وَيمْنَع من الْخُرُوج أَن أَرَادَهُ وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} الْآيَة.
5 - (بابُ الدَّيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الدّين، هَذَا هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت لَا بَاب وَلَا تَرْجَمَة، وَسقط الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَابْن شبويه: بَاب، بِغَيْر تَرْجَمَة وَبِه جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ وَذكر ابْن بطال هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا فِي آخر: بَاب من تكفل عَن ميت بدين، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق، لِأَن الحَدِيث لَا تعلق لَهُ بترجمة جوَار أبي بكر حَتَّى يكون مِنْهَا أَو يثبت: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون كالفصل مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِك، وَأما التَّرْجَمَة: بِبَاب الدّين فمحلها أَن يكون فِي كتاب الْفَرْض. فَافْهَم.(12/125)
8922 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُؤْتَى بالرَّجل المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْألَ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلا فإنْ حُدِّثَ أنَّهُ تَرَكَ لِدِينِهِ وَفَاء صلَّى وإلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صلُّوا على صاحِبِكُمْ فلَمَّا فَتَحَ الله عَليْهِ الفُتُوحَ قَالَ أَنا أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِم فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ فَتُرِكَ دَيْنا فعَلَيَّ قَضاؤُهُ ومنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَنه فِي بَيَان حكم الدّين. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم وَلَا سِيمَا بِهَذَا السَّنَد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن يحيى بن بكير. وَأخرجه: مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن عبد الْملك بن شُعَيْب، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن أبي الْفضل مَكْتُوم بن الْعَبَّاس.
قَوْله: (عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة) ، هَكَذَا رَوَاهُ عقيل، وَتَابعه يُونُس وَابْن أخي ابْن شهَاب وَابْن أبي ذِئْب، كَمَا أخرجه مُسلم، وَخَالفهُم معمر فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ. قَوْله: (الْمُتَوفَّى) ، أَي: الْمَيِّت. قَوْله: (عَلَيْهِ الدّين) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَيسْأَل) أَي: رَسُول الله. قَوْله: (هَل ترك لدينِهِ فضلا) أَي: قدرا زَائِدا على مؤونة تَجْهِيزه، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: قَضَاء، بدل: فضلا، وَكَذَا هُوَ عِنْد مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن. قَوْله: (وَفَاء) أَي: مَا يُوفي بِهِ دينه. قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يتْرك وَفَاء، قَالَ إِلَى آخِره، قَوْله: (الْفتُوح) ، يَعْنِي: من الْغَنَائِم وَغير ذَلِك. قَوْله: (أَنا أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم) ، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تكفل بدين من مَاتَ من أمته معدما. وَهُوَ قَوْله: (فعلي قَضَاؤُهُ) ، قَوْله: (فَترك دينا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة: (فَترك دينا أَو ضَيْعَة) ، أَي: عيالاً، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (ضيَاعًا) ، وَأَصله مصدر: ضَاعَ يضيع ضيَاعًا، بِفَتْح الضَّاد فَسمى الْعِيَال بِالْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَال: من مَاتَ وَترك فقرا أَي فُقَرَاء. قَوْله: (فعلي قَضَاؤُهُ) ، أَي: مِمَّا أَفَاء الله تَعَالَى عَلَيْهِ من الْغَنَائِم وَالصَّدقَات. قَوْله: (فلورثته) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَهُوَ لوَرثَته) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عمْرَة: (فليرثه عصبته) .
وَفِيه من الْفَوَائِد: تحريض النَّاس على قَضَاء الدُّيُون فِي حياتهم والتوصل إِلَى الْبَرَاءَة مِنْهَا، وَلَو لم يكن أَمر الدّين شَدِيدا لما ترك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّلَاة على الْمَدْيُون، وَاخْتلف فِي أَن صلَاته على الْمَدْيُون كَانَت حَرَامًا عَلَيْهِ أَو جَائِزَة؟ حكى فِيهِ وَجْهَان، وَقَالَ الثَّوْريّ: الصَّوَاب الْجَزْم بِجَوَازِهِ مَعَ وجود الضَّامِن، وَقَالَ ابْن بطال: قَوْله: (من ترك دينا فعلي) ، نَاسخ لتَركه الصَّلَاة على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين. وَفِيه: إِن الإِمَام يلْزمه أَن يفعل هَكَذَا فِيمَن مَاتَ وَعَلِيهِ دين، فَإِن لم يَفْعَله وَقع الْقصاص مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة وَالْإِثْم عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا إِن كَانَ حق الْمَيِّت فِي بَيت الْمَيِّت بَقِي بِقدر مَا عَلَيْهِ من الدّين وإلاَّ فبقسطه.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
04 - (كَتابُ الوكالَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَنْوَاع الْوكَالَة وأحكامها وَفِي بعض النّسخ: كتاب فِي الْوكَالَة، وَوَقعت التَّسْمِيَة عِنْد أبي ذَر بعد كتاب الْوكَالَة، بِفَتْح الْوَاو، وَجَاء بِكَسْرِهَا وَهِي التَّفْوِيض، يُقَال: وكلت الْأَمر إِلَيْهِ وكلا ووكولاً إِذا فوضته إِلَيْهِ، وَجَعَلته نَائِبا فِيهِ، وَالْوكَالَة هِيَ الْحِفْظ فِي اللُّغَة، وَمِنْه الْوَكِيل فِي أَسمَاء الله تَعَالَى، وَالتَّوْكِيل تَفْوِيض الْأَمر وَالتَّصَرُّف إِلَى الْغَيْر، وَالْوَكِيل الْقَائِم بِمَا فوض إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
1 - (بابٌ فِي وَكالَةِ الشَّرِيكِ الشَّرِيكِ فِي القِسْمَةِ وغَيْرِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وكَالَة الشَّرِيك فِي الْقِسْمَة. قَوْله: (الشَّرِيك فِي الْقِسْمَة) بدل من: الشَّرِيك، الأول. قَوْله: (أَو غَيرهَا) ، أَي: الشَّرِيك فِي غير الْقِسْمَة، وَلم يَقع عِنْد النَّسَفِيّ لفظ: بَاب، وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْده: كتاب الْوكَالَة ووكالة الشَّرِيك، بواو الْعَطف.(12/126)
وقدْ أشْرَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علِيّا فِي هَدْيهِ ثُمَّ أمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشرك عليا فِي قسْمَة الْهَدْي. فَإِن قلت: لَيْسَ من الْبَاب مَا يدل على الشّركَة فِي غير الْقِسْمَة. قلت: يُؤْخَذ هَذَا بطرِيق الْإِلْحَاق، ثمَّ فِي الحَدِيث شَيْئَانِ: أَحدهمَا: التَّشْرِيك فِي الْهَدْي، وَالْآخر: التَّشْرِيك فِي الْقِسْمَة. أما الأول: فَرَوَاهُ جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر عليا أَن يُقيم على إِحْرَامه وأشرك فِي الْهَدْي، وَسَيَأْتِي مَوْصُولا فِي الشّركَة. وَالْآخر: حَدِيث عَليّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يقوم على بدنه وَأَن يقسم بدنه كلهَا، وَقد مضى فِي كتاب الْحَج مَوْصُولا فِي: بَاب لَا يُعْطي الجزار من الْهَدْي شَيْئا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: يَعْنِي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَقُمْت على الْبدن فَأمرنِي فقسمت لحومها، ثمَّ أَمرنِي فقسمت جلالها وجلودها.
9922 - حدَّثنا قَبيصَةُ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ ابنِ أبِي نجيح عنْ مُجاهِدٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي لَيْلى عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أمَرَني رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ أتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ الَّتي نُحِرَتْ وبِجُلُودِها. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه علم أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أشركه فِي هَدْيه. والْحَدِيث مر فِي الْبَاب الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن الَّذِي أخرجه عَن مُحَمَّد بن كثير، وَهنا أخرجه عَن قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عقبَة العامري الْكُوفِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عبد الله بن أبي نجيح إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى، والجلال، بِكَسْر الْجِيم: جمع جلّ، وَالْبدن، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الدَّال وَضمّهَا: جمع بَدَنَة، وَقَالَ ابْن بطال: وكَالَة الشَّرِيك جَائِزَة كَمَا تجوز شركَة الْوَكِيل، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ فِي إِن ذَلِك مُبَاح مِنْهُ.
0032 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يَزيدَ عنْ أبي الخَيْرِ عنْ عُقْبَة بنِ عامِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعطاهُ غنَما يَقْسِمُها علَى صَحابَتِه فبَقِي عَتُودٌ فذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ضَحِّ أنْتَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا وَكله على قسْمَة الضَّحَايَا وَهُوَ شريك للْمَوْهُوب إِلَيْهِم، فتوكيله على ذَلِك كتوكيل شركائه الَّذين قسم بَينهم الْأَضَاحِي. قيل: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهب لكل وَاحِد من الْمَقْسُوم فيهم مَا صَار إِلَيْهِ فَلَا تتجه الشّركَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ سَيَأْتِي حَدِيث فِي الْأَضَاحِي من طَرِيق آخر بِلَفْظ: أَنه قسم بَينهم ضحايا، فَدلَّ على أَنه عين تِلْكَ الْغنم للضحايا فوهب لَهُم جُمْلَتهَا، ثمَّ أَمر عقبَة بقسمتها، فَيصح الِاسْتِدْلَال بِهِ لما ترْجم لَهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن خَالِد بن فروخ، مَاتَ بِمصْر فِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب أَبُو الرَّجَاء. الرَّابِع: أَبُو الْخَيْر ضد الشَّرّ مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عبد الله. الْخَامِس: عقبَة بن عَمْرو.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وكل الروَاة مصريون غير أَن شَيْخه حراني حزرى لكنه سكن مصر وَمَات فِيهَا كَمَا ذكرنَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الضحاياأيضا عَن عَمْرو بن خَالِد، فِي الشّركَة عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه مُسلم فِي الضَّحَايَا عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح.
قَوْله: (عتود) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَهُوَ من أَوْلَاد الْمعز(12/127)
صَغِير إِذا قوي، وَفِي (الصِّحَاح) : العتود مَا رعى وَقَوي وأتى عَلَيْهِ حول، وَقيل: إِذا قدر على السفاد، وَجمعه: أعتدة وعتان وعدان قَوْله: (ضحِّ أَنْت) ، ويروى: ضح بِهِ أَي: بالعتود، وَهُوَ أَمر من: ضحى يُضحي تضحية.
وَفِيه: الْأُضْحِية بِمَا يعْطى. وَفِيه: الِاخْتِصَار بالأضحية بالجذع من الْمعز، لِأَن العتود من أَوْلَاد الْمعز. وَفِيه: التَّوْكِيل بِالْقِسْمَةِ.
2 - (بابٌ إِذا وكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبيا فِي دارِ الحَرْبِ أوْ فِي دارِ الإسْلامِ جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وكَّل ... إِلَى آخِره. قَوْله: (وَفِي دَار الْإِسْلَام) أَي: أَو وكَّل حَرْبِيّا كَائِنا فِي دَار الْإِسْلَام، يَعْنِي: كَانَ الْحَرْبِيّ فِي دَار الْإِسْلَام بِأَمَان ووكَّله مُسلم. قَوْله: (جَازَ) ، أَي: التَّوْكِيل، يدل عَلَيْهِ قَوْله: (وكل) كَمَا فِي قَوْله: {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . أَي: الْعدْل أقرب ...
1032 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني يوسُفُ بنُ المَاجِشُونِ عنْ صالِحِ بنِ إبْرَاهِيمَ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ عنْ أبِيهِ عنْ جَدِّهِ عبدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوفٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كاتَبْتُ أُمَيَّةَ ابنَ خَلَفٍ كِتَابا بِأَن يَحْفَظَني فِي صاغِيَتِي بِمَكَّةَ وأحْفَظَهُ فِي صاغِيَتِهِ بالمَدِينَةِ فلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمانَ قَالَ لاَ أعْرِفُ الرَّحْمانَ كاتِبْنِي باسْمِكَ الذِي كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ فكَاتَبْتُهُ عبدُ عَمْرٍ وفلَمَّا كانَ فِي يَوْم بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لأحْرِزَهُ حينَ نامَ النَّاسُ فأبْصَرَهُ بلالٌ فخَرَجَ حتَّى وقَفَ علَى مَجْلِس مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجا أُمَيَّةُ فَخَرجَ معَهُ فَرِيقٌ منَ الأنصَارِ فِي آثَارِنا فلَمَّا خَشِيتُ أنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لأشْغلَهُمْ فقَتَلُوهُ ثمَّ أبَوْا حتَّى يَتْبَعُونا وكانَ رجُلاً ثَقيلاً فلمَّا أدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ ابْرُكْ فألْقَيْتُ علَيْهِ نَفْسِي لأِمْنَعَهُ فتَخَلَّلُوهُ بالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وأصَابَ أحَدُهُم رِجلي بِسَيْفِهِ: وكانَ عَبْدُ الرَّحْمانِ يُرِينَا ذَلِكَ الأثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ. (الحَدِيث 1032 طرفه فِي: 1793) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهُوَ مُسلم فِي دَار الْإِسْلَام كَاتب إِلَى أُميَّة بن خلف، وَهُوَ كَافِر فِي دَار الْحَرْب بتفويضه إِلَيْهِ لينْظر فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ، وَهُوَ معنى التَّوْكِيل، لِأَن الْوَكِيل إنماهو مرصد لمصَالح مُوكله وَقَضَاء حَوَائِجه، ورد بِهَذَا مَا قَالَه ابْن التِّين: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث، وكَالَة إِنَّمَا تعاقد أَن يجير كل وَاحِد مِنْهُمَا صاغية صَاحبه. فَإِن قلت: بِمُجَرَّد هَذَا يَصح تَوْكِيل مُسلم حَرْبِيّا فِي دَار الْحَرْب. قلت: الظَّاهِر أَن عبد الرَّحْمَن لم يفعل هَذَا إلاَّ باطلاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يُنكر عَلَيْهِ فَدلَّ على صِحَّته. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي شَيْئَيْنِ والْحَدِيث لَا يدل إلاَّ على أَحدهمَا، وَهُوَ: تَوْكِيل الْمُسلم حَرْبِيّا وَهُوَ فِي دَار الْحَرْب، قلت: إِذا صَحَّ هَذَا فتوكيله إِيَّاه فِي دَار الْإِسْلَام يكون بطرِيق الأولى أَن يَصح، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: تَوْكِيل الْمُسلم حَرْبِيّا مستأمنا وتوكيل الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن مُسلما لَا خلاف فِي جَوَاز ذَلِك.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عَمْرو أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي. الثَّانِي: يُوسُف ابْن يَعْقُوب بن عبد الله بن أبي سَلمَة الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا. الثَّالِث: صَالح بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي، يكنى أَبَا عَمْرو. الرَّابِع: أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، يكنى أَبَا إِسْحَاق، وَقيل: أَبَا مُحَمَّد، توفّي سنة سِتّ وَتِسْعين. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن عبد عَوْف الْقرشِي أَبُو مُحَمَّد، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدفن بِالبَقِيعِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَلَفظ الْمَاجشون هُوَ لقب يَعْقُوب وَهُوَ لفظ فَارسي وَمَعْنَاهُ: المورد. وَفِيه: أَن الروَاة(12/128)
كلهم مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي مُخْتَصرا عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كاتبت أُميَّة بن خلف) يَعْنِي: كتبت إِلَيْهِ كتابا، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَاهَدت أُميَّة بن خلف وكاتبته، وَأُميَّة، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْمِيم المخففة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن خلف، بِالْخَاءِ وَاللَّام المفتوحتين: ابْن وهب ابْن حذافة بن جمح بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر. وَقَالَ عُلَمَاء السّير: كَانَ أُميَّة بن خلف الجُمَحِي أَشد النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء فِي يَوْم بِعظم نخر فَفتهُ فِي يَده، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد تزْعم أَن رَبك هَذَا، ثمَّ نفخه فطار، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قَالَ: من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم} (يس: 87) . قَوْله: (صاغيتي) ، بصاد مُهْملَة وغين مُعْجمَة: هِيَ المَال، وَقيل: الْحَاشِيَة، يُقَال: صاغية الرجل: حَاشِيَته، وكل من يصغي إِلَيْهِ، أَي: يمِيل، وَعَن الْقَزاز: صاغية الرجل أَهله، يُقَال أكْرمُوا فلَانا فِي صاغيته، أَي: فِي أَهله، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: خالصته، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الصاغية هم الْقَوْم الَّذين يميلون إِلَيْهِ ويأتونه، أَي: أَتْبَاعه وحواشيه. قلت: فعلى هَذَا تكون الصاغية مُشْتَقَّة من: صغيت إِلَى فلَان، أَي: ملت بسمعي إِلَيْهِ، وَمِنْه: {ولتصغي إِلَيْهِ أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} (الْأَنْعَام: 311) . وكل مائل إِلَى شَيْء أَو مَعَه فقد صغى إِلَيْهِ، وأصغى. وَفِي حَدِيث الْهِرَّة: أَنه كَانَ يصغي لَهَا الْإِنَاء أَي: يميله إِلَيْهَا ليسهل عَلَيْهَا الشّرْب مِنْهُ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصاغية خاصية الْإِنْسَان، والمائلون إِلَيْهِ ذكره فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث، وَقيل: الْأَشْبَه أَن يكون هَذَا هُوَ الْأَلْيَق بتفسير هَذَا الحَدِيث، وَالله تَعَالَى أعلم، وَقَالَ ابْن التِّين: وَرَوَاهُ الدَّاودِيّ: ظاعنتي، بالظاء المشالة الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة بعْدهَا نون، ثمَّ فسره: بِأَنَّهُ الشَّيْء الَّذِي يسفر إِلَيْهِ، قَالَ: وَلم أر هَذَا لغيره. قَوْله: (لَا أعرف الرَّحْمَن) ، قَالَ بَعضهم: أَي: لَا أعترف بتوحيده. قلت: هَذَا الَّذِي فسره لَا يَقْتَضِيهِ قَوْله: (لَا أعرف الرَّحْمَن) ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه لما كتب إِلَيْهِ ذكر اسْمه بِعَبْد الرَّحْمَن، فَقَالَ: مَا أعرف الرَّحْمَن الَّذِي جعلت نَفسك عبدا لَهُ، أَلا ترى أَنه قَالَ: كاتبني بِاسْمِك الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: عبد عَمْرو، فَلذَلِك كَاتبه: عبد عَمْرو، وَقيل: كَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: عبد الْكَعْبَة فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عبد الرَّحْمَن، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح مَعْنَاهُ لَا أعبد من تعبده، وَهَذِه حمية الْجَاهِلِيَّة الَّتِي ذكرت حِين لم يقرؤا كِتَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة، لما كتب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن أكتب بِاسْمِك أللهم. قَوْله: (وَلما كَانَ يَوْم بدر) ، يَعْنِي: غَزْوَة يَوْم بدر، وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من رَمَضَان فِي السّنة الثَّانِيَة، قَالَه عُرْوَة بن الزبير وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَأَبُو جَعْفَر الباقر، وَقيل: غير ذَلِك، وَلَكِن لَا خلاف أَنَّهَا فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَبدر: بِئْر لرجل كَانَ يدعى بَدْرًا، قَالَه الشّعبِيّ. وَقَالَ البلاذري: بدر اسْم مَاء لخَالِد بن النَّضر، بَينه وَبَين الْمَدِينَة ثَمَانِيَة برد. قَوْله: (لأحرزه) ، بِضَم الْهمزَة من الْإِحْرَاز أَي: لأحفظه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لأحوزه من الْحِيَازَة أَي: الْجمع، وَفِي بَعْضهَا من: الْحَوْز، أَي: الضَّبْط وَالْحِفْظ، وَفِي بَعْضهَا: من التحويز أَي: التبعيد. قَوْله: (حِين نَام النَّاس) ، أَي: حِين رقدوا، وَأَرَادَ بذلك اغتنام غفلتهم ليصون دَمه. قَوْله: (فَأَبْصَرَهُ بِلَال) ، أَي: أبْصر أُميَّة بِلَال بن حمامة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: بِلَال. قَوْله: (أُميَّة بن خلف) ، بِالنّصب على الإغراء أَي: إلزموا أُميَّة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ أُميَّة. وَقَالَ بَعضهم: خبر مُبْتَدأ مُضْمر. قلت: لَا يُقَال لمثل هَذَا الْمَحْذُوف مُضْمر، وَلَيْسَ بمصطلح هَذَا، وَالْفرق بَين الْمُضمر والمحذوف قَائِم. قَوْله: (لَا نجوت إِن نجى أُميَّة) ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِلَال، لِأَن أُميَّة كَانَ يعذب بِلَالًا بِمَكَّة عذَابا شَدِيدا لأجل إِسْلَامه، وَكَانَ يُخرجهُ إِلَى الرمضاء إِذا حميت فيضجعه على ظَهره، ثمَّ يَأْخُذ الصَّخْرَة الْعَظِيمَة فَيَضَعهَا على صَدره، وَيَقُول: لَا تزَال هَكَذَا حَتَّى تفارق دين مُحَمَّد، فَيَقُول بِلَال: أحد أحد. قَوْله: (فَخرج مَعَه) ، أَي: فَخرج مَعَ بِلَال فريق من الْأَنْصَار، وَكَانَ قد استصرخ بالأنصار وأغراهم على قَتله. قَوْله: (خلفت لَهُم ابْنه) أَي: ابْن أُمِّيّه واسْمه عَليّ. قَوْله: (لأشغلهم) ، بِضَم الْهمزَة، من الأشغال يَعْنِي: يشتغلون بِابْنِهِ عَن أَبِيه أُميَّة. قَوْله: (فَقَتَلُوهُ) ، أَي: قتلوا ابْنه، وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: فَكنت بَين أُميَّة وَابْنه آخذ بأيديهما، فَلَمَّا رَآهُ بِلَال صرخَ بِأَعْلَى صَوته: يَا أنصار الله! رَأس الْكفْر أُميَّة بن خلف، فأحاطوا بِنَا، وَأَنا أذب عَنهُ، فَضرب رجل ابْنه بِالسَّيْفِ فَوَقع، وَصَاح أُميَّة صَيْحَة مَا سَمِعت مثلهَا قطّ، فَقلت: أَنْج نَفسك، فوَاللَّه لَا أُغني عَنْك شَيْئا. قَوْله: (ثمَّ أَبَوا) ، من الإباء بِمَعْنى: الِامْتِنَاع، ويروى: ثمَّ أَتَوا من الْإِتْيَان. قَوْله: (وَكَانَ رجلا ثقيلاً) ، أَي: كَانَ أُميَّة رجلا ضخما. قَوْله: (فَلَمَّا أدركونا) ، أَي: قَالَ(12/129)
عبد الرَّحْمَن: لما أدركنا الْأَنْصَار وبلال مَعَهم (قلت لَهُ) : أَي: لأمية (أبرك) أَمر من البروك (فبرك فألقيت عَلَيْهِ نَفسِي لأمنعه) مِنْهُم. قَوْله: (فتجللوه بِالسُّيُوفِ) ، بِالْجِيم أَي: غشوه بهَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، أَي: أدخلُوا أسيافهم خلاله حَتَّى وصلوا إِلَيْهِ وطعنوا بهَا من تحتي، من قَوْلهم: خللته بِالرُّمْحِ، وأختللته، إِذا طعنته بِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فتحلوه، بلام وَاحِدَة مُشَدّدَة، وَالَّذِي قتل أُميَّة رجل من الْأَنْصَار من بني مَازِن، وَقَالَ ابْن هِشَام: وَيُقَال قَتله معَاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف، اشْتَركُوا فِي قَتله، وَالَّذِي قتل عَليّ بن أُميَّة عمار بن يَاسر. قَوْله: (وَأصَاب أحدهم) أَي: أحد الَّذين باشروا قتل أُميَّة (رجْلي بِسَيْفِهِ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن قُريْشًا لم يكن لَهُم أَمَان يَوْم بدر، وَلِهَذَا لم يجز بِلَال وَمن مَعَه من الْأَنْصَار أَمَان عبد الرَّحْمَن، وَقد نسخ هَذَا بِحَدِيث: يجير على الْمُسلمين أَدْنَاهُم. وَفِيه: الْوَفَاء بالعهد، لِأَن عبد الرَّحْمَن كَانَ صديقا لأمية بِمَكَّة فوفي بالعهد الَّذِي كَانَ بَينهمَا. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن: وَكَانَ اسْمِي عبد عَمْرو، فسميت عبد الرَّحْمَن حِين أسلمت كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَكَانَ يلقاني بِمَكَّة فَيَقُول: يَا عبد عَمْرو أرغبت عَن اسْم سمَّاكَهُ أَبوك؟ فَأَقُول: نعم. فَيَقُول: إِنِّي لَا أعرف الرَّحْمَن، فَاجْعَلْ بيني وَبَيْنك شَيْئا أَدْعُوك بِهِ، فَسَماهُ عبد الإلَه، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر مَرَرْت بِهِ وَهُوَ وَاقِف مَعَ ابْنه عَليّ بن أُميَّة وَمَعِي أَدْرَاع وَأَنا أحملها، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا عبد عَمْرو، فَلم أجبه، ال: يَا عبد الإل هـ! قلت: نعم. قَالَ: هَل لَك فِي؟ فَأَنا خير لَك من هَذِه الأدراع الَّتِي مَعَك. قلت: نعم، فطرحت الأدراع من يَدي وَأخذت بِيَدِهِ وَيَد ابْنه، وَهُوَ يَقُول: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قطّ؟ فرآهما بِلَال، فَصَارَ أمره مَا ذكرنَا، وَكَانَ عبد الرَّحْمَن يَقُول: رحم الله بِلَالًا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري. وَفِيه: مجازاة الْمُسلم الْكَافِر على الْبر، يكون مِنْهُ للْمُسلمِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ على جميل فعله، وَالسَّعْي لَهُ فِي تخليصه من الْقَتْل وَشبهه. وَفِيه: أَيْضا: المجازاة على سوء الْفِعْل بِمثلِهِ، والانتقام من الظَّالِم. وَفِيه: أَن من أُصِيب حِين يَتَّقِي عَن مُشْرك أَنه لَا شَيْء فِيهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله سَمِعَ يوسُفُ صالِحا وإبْرَاهِيمُ أباهُ
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، سمع يُوسُف ... إِلَى آخِره، ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي: يُوسُف هُوَ ابْن الْمَاجشون الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث الْمَذْكُور، وَصَالح هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَفَائِدَة ذكر هَذَا، وَإِن كَانَ سماعهما علم من الْإِسْنَاد. تَحْقِيق لِمَعْنى السماع حَتَّى لَا يظنّ أَنه عنعن بِمُجَرَّد إِمْكَان السماع، كَمَا هُوَ مَذْهَب بعض الْمُحدثين، كمسلم وَغَيره.
3 - (بابُ الوَكالَة فِي الصَّرْفِ والمِيزَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي الصّرْف، يَعْنِي ف بيع النَّقْد بِالنَّقْدِ. قَوْله: (وَالْمِيزَان) أَي: الْوكَالَة فِي الْمِيزَان، أَي: فِي الْمَوْزُون.
وَقد وكَّل عُمَر وابنُ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ
هَذَانِ تعليقان. أما تَعْلِيق عمر فوصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق مُوسَى بن أنس عَن أَبِيه أَن عمر أعطَاهُ آنِية مموهة بِالذَّهَب، فَقَالَ لَهُ: إذهب فبعها، فَبَاعَهَا من يَهُودِيّ بِضعْف وَزنه، فَقَالَ لَهُ عمر: أردده. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ: أزيدك. فَقَالَ لَهُ عمر: لَا إلاَّ بوزنه. وَأما تَعْلِيق ابْن عمر فوصله سعيد بن مَنْصُور أَيْضا من طَرِيق الْحسن بن سعد قَالَ: كَانَت لي عِنْد ابْن عمر دَرَاهِم، فَأَصَبْت عِنْده دَنَانِير، فَأرْسل معي رَسُولا إِلَى السُّوق، فَقَالَ: إِذا قَامَت على سعرها فأعرضها عَلَيْهِ فَإِن أَخذهَا وإلاَّ فاشترِ لَهُ حَقه، ثمَّ: إقضه إِيَّاه.(12/130)
3032 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ المَجِيدِ بنِ سُهَيْلِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابْن عَوْفٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِي وَأبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعْمعلَ رجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فجاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنيبٍ فَقَالَ أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا فَقَالَ إنَّا لَنَأخُذُ الصَّاعَ مِنْ هذَا بالصَّاعَيْنِ والصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ فَقَالَ لاَ تفْعَلْ بِعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِينا وَقَالَ فِي المِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لعامل خَيْبَر: (بِعْ الْجمع بِالدَّرَاهِمِ ثمَّ ابتع) أَي: اشْتَرِ (بِالدَّرَاهِمِ جنيبا) وَهَذَا تَوْكِيل فِي البيع وَالشِّرَاء، وَبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ يدا بيد مثل الصّرْف سَوَاء، وَهُوَ شبهه فِي الْمَعْنى، وَيكون بيع الدِّرْهَم بالدرهم وَالدِّينَار بالدينار كَذَلِك، إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب إِذا أَرَادَ بيع تمر بِتَمْر خير مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة عَن مَالك عَن عبد الْمجِيد ... إِلَى آخِره نَحوه، غير أَنه لم يذكر هُنَاكَ: وَقَالَ فِي الْمِيزَان مثل ذَلِك، مَعْنَاهُ أَن الموزونات حكمهَا فِي الرِّبَا حكم المكيلات، فَلَا يُبَاع رَطْل برطلين. قَالَ الدَّاودِيّ: أَي لَا يجوز التَّمْر بِالتَّمْرِ إلاَّ كَيْلا بكيل، أَو وزنا بِوَزْن، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن التِّين بِأَن التَّمْر لَا يُوزن. قلت: هَذَا غير وَارِد عَلَيْهِ، لِأَن من التَّمْر تَمرا لَا يُبَاع إلاَّ بِالْوَزْنِ، وَهَذَا التَّمْر الْعِرَاقِيّ لَا يُبَاع فِي الْبِلَاد الشامية والمصرية إِلَّا بِالْوَزْنِ.
قَوْله: (عبد الْمجِيد) حكى ابْن عبد الْبر أَنه وَقع فِي رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف: عبد الحميد، بِالْحَاء الْمُهْملَة قبل الْمِيم، قَالَ: وَكَذَا وَقع ليحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ عَن مَالك، وَهُوَ خطأ، وَقد مر الْكَلَام فِي شرح الحَدِيث هُنَاكَ فَنَذْكُر بعض شَيْء وَهُوَ أَن اسْم ذَلِك الْعَامِل: سَواد بن غزيَّة، والجنيب، بِفَتْح الْجِيم وَكسر النُّون: الْخِيَار من التَّمْر، وَالْجمع، بِالْفَتْح: التَّمْر الْمُخْتَلط من الْجيد والرديء.
4 - (بابٌ إذَا أبْصَرَ الرَّاعِي أوِ الوَكِيلُ شَاة تَمُوتُ أوْ شَيْئا يَفْسُدُ ذَبَحَ وأصْلَحَ مَا يَخَافُ علَيْهِ الْفَسادَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (إِذا أبْصر الرَّاعِي) أَي: راعي الْغنم. قَوْله: (أَو الْوَكِيل) أَي: أَو أبْصر الْوَكِيل. قَوْله: (شَاة) أَي: أبْصر الرَّاعِي مِنْهَا شَاة تَمُوت، أَي: أشرفت على الْمَوْت. قَوْله: (أَو شَيْئا يفْسد) ، يرجع إِلَى الْوَكِيل أَي: أَو أبْصر الْوَكِيل شَيْئا يفْسد أَي أشرف على الْفساد. قَوْله: (ذبح) أَي: الرَّاعِي ذبح تِلْكَ الشَّاة لِئَلَّا تذْهب مجَّانا. قَوْله: (وَأصْلح) ، يرجع إِلَى الْوَكِيل، أَي: أصلح مَا يخَاف عَلَيْهِ الْفساد بإبقائه، مثلا إِذا كَانَت تَحت يَده فَاكِهَة أَو نَحْوهَا مِمَّا يخَاف عَلَيْهِ الْفساد فَإِنَّهُ يصلح ذَلِك بِوَجْه من الْوُجُوه الَّتِي لَا يحصل مِنْهُ ضَرَر للْمُوكل، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَين مَا ذكرت فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي بعض النّسخ: أَو أصلح مَا يخَاف الْفساد، وَهُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: فَأصْلح بدل: وَأصْلح، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة جَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: جَازَ، وَنَحْو ذَلِك، وعَلى رِوَايَة الْأصيلِيّ قَوْله: ذبح وَأصْلح، جَوَاب الشَّرْط.
4023 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعَ المُعْتَمِرَ قَالَ أنْبأنا عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ أنَّهُ سَمِعَ ابنَ كعْبِ بنِ مالِكٍ يُحَدِّثُ عنْ أبِيهِ أنَّهُ كانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسلْعٍ فأبْصَرَتْ جارِيةٌ لَنا بِشاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتا فكَسَرَتْ حَجَرا فذَبَحَتْها بِهِ فَقال لَهُمْ لاَ تأكُلُوا حتَّى أسألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ أُرْسِلَ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ يَسْألُهُ وأنَّهُ سألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَاكَ أوْ أرْسَلَ إلَيْهِ فأمَرَهُ بأكْلِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي مَسْأَلَة الرَّاعِي ظَاهِرَة، لِأَن الْجَارِيَة كَانَت راعية للغنم، فَلَمَّا رَأَتْ شَاة مِنْهَا تَمُوت ذبحتها، وَلما رفع(12/131)
أمرهَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بأكلها وَلم يُنكر على من ذَبحهَا، وَأما مَسْأَلَة الْوَكِيل فملحقة بهَا، لِأَن يَد كل من الرَّاعِي وَالْوَكِيل يَد أَمَانَة فَلَا يعملان إلاَّ بِمَا فِيهِ مصلحَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: الْجَارِيَة فِي الحَدِيث كَانَت ملكا لصَاحب الْغنم. قلت: لَا يضرنا ذَلِك لِأَن الْكَلَام فِي جَوَاز الذّبْح الَّذِي تتضمنه التَّرْجَمَة، وَلَيْسَ الْكَلَام فِي الضَّمَان، وَلِهَذَا رد على ابْن التِّين فِي قَوْله: لَيْسَ غَرَض البُخَارِيّ بِحَدِيث الْبَاب الْكَلَام فِي تَحْلِيل الذَّبِيحَة أَو تَحْرِيمهَا، وَإِنَّمَا غَرَضه إِسْقَاط الضَّمَان عَن الرَّاعِي وَالْوَكِيل. انْتهى. وَالْغَرَض الَّذِي نسبه إِلَى البُخَارِيّ لَا يدل عَلَيْهِ الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه. الثَّانِي: مُعْتَمر بن سُلَيْمَان. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر الْعمريّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: ابْن كَعْب. اخْتلف فِيهِ، ذكر الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) أَنه عبد الله بن كَعْب حَيْثُ قَالَ: وَمن مُسْند كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ عبد الله بن كَعْب ابْن مَالك عَن أَبِيه كَعْب بن مَالك، ثمَّ ذكر هَذَا الحَدِيث، وروى ابْن وهب عَن أُسَامَة بن زيد عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن ابْن كَعْب عَن مَالك عَن أَبِيه طرفا من هَذَا الحَدِيث. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنه عبد الرَّحْمَن، وَذكره البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر فَسَماهُ: عبد الرَّحْمَن. السَّادِس: كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ، هُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين نزل فيهم: {وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} (التَّوْبَة: 811) [/ ح.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: لفظ الإنباء بِصِيغَة الْجمع، وَلَا فرق بَين: أَنبأَنَا وَأخْبرنَا عِنْد الْبَعْض، وَقَالَ آخَرُونَ: يجوز فِي الإجازات أَن يَقُول: أَنبأَنَا، وَلَا يُقَال أخبرنَا. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول كتاب الْعلم. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ مروزي الأَصْل النَّيْسَابُورِي الدَّارِيّ والمعتمر بَصرِي والبقية مدنيون، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة ابْن عبد الْأَعْلَى: حَدثنَا الْمُعْتَمِر سَمِعت عبيد الله عَن نَافِع أَنه سمع ابْن كَعْب يخبر عبد الله بن عمر عَن أَبِيه بِهَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْن الْمُبَارك، عَن نَافِع: سمع رجال من الْأَنْصَار عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يقل عَن أَبِيه، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع وَعبيدَة بن حميد عَن عبيد الله عَن نَافِع سمع أبي بن كَعْب يخبر عبد الله: كَانَت لنا جَارِيَة ... لم يذكر أَبَاهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَلَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع عَن رجل من الْأَنْصَار عَن معَاذ بن سعد أَو سعد بن معَاذ: أَن جَارِيَة لكعب بِهَذَا ... وَالله أعلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن مُعْتَمر وَعَن صَدَقَة بن فضل وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الذَّبَائِح عَن هناد بن السّري.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّه) ، أَي: إِن الشان. قَوْله: (غنم) ، الْغنم يتَنَاوَل الشياه والمعز. قَوْله: (بسلع) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: فَوق الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن سهل: بِسُكُون اللَّام وَفتحهَا، وَذكر أَنه روى بالغين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (أَو أرسل) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (عَن ذَلِك) ، أَي: عَن ذبح الْجَارِيَة الشَّاة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَصْدِيق الرَّاعِي وَالْوَكِيل على مَا اؤتمن عَلَيْهِ حَتَّى يظْهر عَلَيْهِ دَلِيل الْخِيَانَة وَالْكذب، وَهُوَ قَول مَالك وَجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِذا خَافَ الْمَوْت على شَاة فذبحها لم يضمن، وَيصدق أَن جَاءَ بهَا مذبوحة، وَقَالَ غَيره: يضمن حَتَّى يبين، مَا قَالَ. وَاخْتلف ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب إِذا أنزى على إناث الْمَاشِيَة بِغَيْر أَمر أَرْبَابهَا فَهَلَكت؟ فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ من صَلَاح المَال ونمائه. وَقَالَ أَشهب: عَلَيْهِ الضَّمَان، وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ خمس فَوَائِد: جَوَاز ذَكَاة النِّسَاء وَالْإِمَاء، والذكاة بِالْحجرِ، وذكاة مَا أشرف على الْمَوْت، وذكاة غير الْمَالِك بِغَيْر وكَالَة. وَفِيه: الْإِرْسَال بالسؤال وَالْجَوَاب. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ فِي البُخَارِيّ على الشَّك، أرسل أَو سَأَلَ وَلَا حجَّة فِيمَا شكّ فِيهِ. قلت: وَرِوَايَة (الْمُوَطَّأ) صَرِيحَة(12/132)
بالسؤال، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَن ابْن وهب. وَفِيه: دَلِيل على إجَازَة ذَبِيحَة الْمَرْأَة بِغَيْر ضَرُورَة إِذا أَحْسَنت الذّبْح، وَكَذَا الصَّبِي إِذا طاقه، قَالَه ابْن عبد الْبر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَالْحسن ابْن حَيّ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ. وَفِيه: أَن الذّبْح بِالْحجرِ يجوز، لَكِن إِذا كَانَ حدا وأفرى الْأَوْدَاج وأنهر الدَّم. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار: أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري: على جَوَاز مَا ذبح بِغَيْر إِذن مَالِكه، وردوا بِهِ على من أَبى من أكل ذَبِيحَة السَّارِق وَالْغَاصِب، وهم دَاوُد وَأَصْحَابه ومقدمهم عِكْرِمَة، وَهُوَ قَول شَاذ. وَفِيه: جَوَاز أكل الْمَذْبُوح الَّذِي أشرف على الْمَوْت إِذا كَانَ فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة، وإلاَّ فَلَا يجوز. وَفِيه: جَوَاز الذّبْح بِكُل جارح إلاَّ السن وَالظفر فَإِنَّهُمَا مستثنيان.
قَالَ عُبَيْدُ الله فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أمَةٌ وأنَّها ذَبَحَتْ
عبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَيْهِ، وَفِي بعض النّسخ: فَأَعْجَبَنِي.
تابَعَهُ عَبْدَةُ عنْ عُبَيْدِ الله
أَي: تَابع الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان الْكُوفِي فِي رِوَايَة: عَن عبيد الله الْمَذْكُور، وَذكر البُخَارِيّ فِي الذَّبَائِح هَذِه الْمُتَابَعَة مَوْصُولَة عَن صَدَقَة بن الْفضل، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
5 - (بابٌ وكالَةُ الشَّاهِدِ والغَائِبِ جائِزَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ وكَالَة الشَّاهِد، أَي: الْحَاضِر، ووكالة الْغَائِب جَائِزَة. قَوْله: (وكَالَة) ، بِالرَّفْع مُبْتَدأ. قَوْله: (الْغَائِب) ، عطف على الشَّاهِد، وَقَوله: (جَائِزَة) ، خبر الْمُبْتَدَأ.
وكَتَبَ عَبْدُ الله بنُ عَمْرٍ وَإِلَى قَهْرَمانِهِ وهْوَ غائِبٌ عنْهُ أنْ يَزَكِّي عنْ أهْلِهِ الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ
عبد الله، قَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عبد الله هُوَ ابْن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَأَيْت النّسخ فِيهِ مُخْتَلفَة، فَفِي بَعْضهَا: عبد الله بن عَمْرو، بِالْوَاو، وَفِي بَعْضهَا: عبد الله بن عمر، بِلَا وَاو.
قَوْله: (إِلَى قهرمانه) ، القهرمان، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْهَاء وَفتح الرَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَفِي آخِره نون: وَهُوَ خَادِم الشَّخْص الْقَائِم بِقَضَاء حَوَائِجه، وَهُوَ لُغَة فارسية. قَوْله: (وَهُوَ غَائِب عَنهُ) أَي: وَالْحَال أَن قهرمانه غَائِب عَن عبد الله. قَوْله: (أَن يُزكي) ، أَرَادَ بِهِ أَن يُزكي زَكَاة الْفطر (عَن أَهله الصَّغِير وَالْكَبِير) وَهَذَا يدل على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: جَوَاز تَوْكِيل الْحَاضِر الْغَائِب، وَيَجِيء الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَالْآخر: وجوب صَدَقَة الْفطر على الرجل عَن أَهله الصَّغِير وَالْكَبِير، وَهَذَا ظَاهر الْأَثر.
وَفِيه: تَفْصِيل وَخلاف قد مر فِي: بَاب صَدَقَة الْفطر.
5032 - حدَّثنا أبُو نُعَيْم قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ سلَمَةَ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ لِرَجُلٍ علَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمَلٌ سِنٌّ مِن الإبِلِ فَجاءَهُ يَتقَاضَاهُ فَقَالَ أعْطُوهُ فطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلاَّ سِنَّا فَوْقَهَا فَقَالَ أعْطُوهُ فَقَالَ أوْفَيْتَنِي أوفَى الله بِكَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خَيَارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي وكَالَة الْحَاضِر، فِي قَوْله: (أَعْطوهُ) وَأما وكَالَة الْغَائِب فَقَالَ بَعضهم: وَأما الْغَائِب فيستفاد مِنْهُ بطرِيق الأولى. قلت: لَيْسَ فِيهِ شَيْء يدل على حكم الْغَائِب، فضلا عَن الْأَوْلَوِيَّة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: التَّرْجَمَة تستفاد من لفظ: (أَعْطوهُ) وَهُوَ، وَإِن كَانَ خطابا للحاضرين لكَونه بِحَسب الْعرف وقرائن الْحَال، شَامِل لكل وَاحِد من وكلاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غيبا وحضورا.(12/133)
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: سَلمَة بن كهيل، بِضَم الْكَاف وَفتح الْهَاء. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وسُفْيَان وَسَلَمَة كوفيون وَأَبُو سَلمَة مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاستقراض عَن أبي نعيم أَيْضا، وَعَن مُسَدّد وَعَن أبي الْوَلِيد ومسدد أَيْضا، وَفِي الْوكَالَة أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الْهِبَة عَن عَبْدَانِ وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن أبي كريب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ وَعَن أبي كريب بِهِ مُخْتَصرا، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم مُخْتَصرا. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سنّ) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون أَي: ذَات سنّ، وَهُوَ أحد أَسْنَان الْإِبِل، وَأَسْنَانهَا مَعْرُوفَة فِي كتب اللُّغَة إِلَى عشر سِنِين، فَفِي الْفَصْل الأول: حوار، ثمَّ الفصيل إِذا فصل، فَإِذا دخل فِي السّنة الثَّانِيَة فَهُوَ ابْن مَخَاض أَو ابْنة مَخَاض، فَإِذا دخل فِي الثَّالِثَة فَهُوَ ابْن لبون أَو بنت لبون، فَإِذا دخل فِي الرَّابِعَة فَهُوَ حق أَو حقة، فَإِذا دخل فِي الْخَامِسَة فَهُوَ جذع أَو جَذَعَة، فَإِذا دخل فِي السَّادِسَة فَهُوَ ثني أَو ثنية، فَإِذا دخل فِي السَّابِعَة فَهُوَ رباعي أَو ربَاعِية، فَإِذا دخل فِي الثَّامِنَة فَهُوَ سديس أَو سدس، فَإِذا دخل فِي التَّاسِعَة فَهُوَ بازل، فَإِذا دخل فِي الْعَاشِرَة فَهُوَ مخلف، ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم بعد ذَلِك، وَلَكِن يُقَال: بازل عَام، وبازل عَاميْنِ، ومخلف عَام، ومخالف عَاميْنِ، ومخلف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَى خمس سِنِين، حَكَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن النَّضر بن شُمَيْل وَأبي عبيد والرياشي. قَوْله: (يتقاضاه) يَعْنِي: يطْلب أَن يَقْضِيه. قَوْله: (أوفيتني) ، يُقَال: أوفاه حَقه إِذا أعطَاهُ وافيا، وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: أوفاك الله، فِي مُقَابلَته، وَلكنه زَاد الْبَاء فِي الْمَفْعُول توكيدا. قَوْله: (خياركم) ، يحْتَمل أَن يكون مُفردا بِمَعْنى الْمُخْتَار، وَأَن يكون جمعا. قَوْله: (أحسنكم) ، خبر لقَوْله: خياركم، وَالْأَصْل التطابق بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فِي الْإِفْرَاد وَغَيره، وَلكنه إِذا كَانَ الْخِيَار بِمَعْنى الْمُخْتَار، فالمطابقة حَاصِلَة وإلاَّ فأفعل التَّفْضِيل الْمُضَاف الْمَقْصُود مِنْهُ الزِّيَادَة يجوز فِيهِ الْإِفْرَاد والمطابقة لمن هُوَ لَهُ، وروى أَيْضا: أحاسنكم، وَهُوَ جمع: أحسن، وَورد: محاسنكم، بِالْمِيم. قَالَ عِيَاض: جمع محسن، بِفَتْح الْمِيم كمطلع ومطالع، وَالْأول أَكثر، وَفِي (الْمطَالع) : وَيحْتَمل أَن يكون سماهم بِالصّفةِ أَي: ذُو المحاسن. قَوْله: (قَضَاء) ، بِالنّصب على التَّمْيِيز.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: تَوْكِيل الْحَاضِر الصَّحِيح على قَول عَامَّة الْفُقَهَاء، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يجوز ذَلِك وَإِن لم يرض خَصمه إِذا لم يكن الْوَكِيل عدوا للخصم، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة فِي قَوْله: إِنَّه لَا يجوز تَوْكِيل الْحَاضِر بِالْبَلَدِ الصَّحِيح الْبدن إلاَّ برضى خَصمه أَو عذر مرض أَو سفر ثَلَاثَة أَيَّام، وَهَذَا الحَدِيث خلاف قَوْله، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَصْحَابه أَن يقضوا عَنهُ السن الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ، وَذَلِكَ تَوْكِيل مِنْهُ لَهُم على ذَلِك، وَلم يكن، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِبا وَلَا مَرِيضا وَلَا مُسَافِرًا؟ قلت: لَيْسَ الحَدِيث بِحجَّة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْجَوَاز، وَلَكِن يَقُول: لَا يلْزم، يَعْنِي: لَا يسْقط حق الْخصم فِي طلب الْحُضُور وَالدَّعْوَى وَالْجَوَاب بِنَفسِهِ، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى فِي الْأَصَح، وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا، وَاسْتحْسن بعض أَصْحَابنَا أَنَّهَا توكل إِذا كَانَت غير بَرزَة. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بِالدّينِ، وَلَا يخْتَلف الْعلمَاء فِي جَوَازه عِنْد الْحَاجة وَلَا يتَعَيَّن طَالبه. وَفِيه: حجَّة من قَالَ بِجَوَاز قرض الْحَيَوَان، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَقَالَ القَاضِي: أجَاز جُمْهُور الْعلمَاء استسلاف سَائِر الْأَشْيَاء من الْحَيَوَان وَالْعرُوض، واستثنيت من ذَلِك الْحَيَوَان لِأَنَّهُ قد يردهَا بِنَفسِهِ، فَحِينَئِذٍ يكون عَارِية الْفروج، وَأَجَازَ ذَلِك بعض أَصْحَابنَا بِشَرْط أَن يردهَا غَيرهَا، وَأَجَازَ استقراض الْجَوَارِي الطَّبَرِيّ والمزني، وَرُوِيَ عَن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ ابْن حبيب وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ: يجوز استقراض الْحَيَوَان كُله إلاَّ الْإِمَاء، وَعند مَالك: إِن اسْتقْرض أمة وَلم يَطَأهَا ردهَا بِعَينهَا(12/134)
وَإِن حملت ردهَا بعد الْولادَة وَقِيمَة وَلَدهَا إِن ولد حَيا، وَمَا نقصتها الْولادَة، وَإِن مَاتَت لزمَه مثلهَا، فَإِن لم يُوجد مثلهَا فقيمتها. وَقَالَ ابْن قدامَة: أما بَنو آدم، فَقَالَ أَحْمد: أكره قرضهم، فَيحْتَمل كَرَاهَة تَنْزِيه، وَيصِح قرضهم، وَهُوَ قَول ابْن جريج والمزني، وَيحْتَمل أَنه كَرَاهَة تَحْرِيم، فَلَا يَصح قرضهم، وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي (شرح الْمُهَذّب) : استقراض الْحَيَوَان فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب: مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وجماهير الْعلمَاء: جَوَازه إِلَّا الْجَارِيَة لمن ملك وَطأهَا، فَإِنَّهُ لَا يجوز، وَيجوز إقراضها لمن لَا يجوز لَهُ وطؤهما كمحرمها، وللمرأة وَالْخُنْثَى. الثَّانِي: مَذْهَب ابْن جرير وَدَاوُد، وَيجوز قرض الْجَارِيَة وَسَائِر الْحَيَوَان لكل أحد. الثَّالِث: مَذْهَب أبي حنيفَة والكوفيين وَالثَّوْري وَالْحسن بن صَالح، وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة مَنعه، وَقد مر الْجَواب عَمَّا قَالُوا من جَوَاز قرض الْحَيَوَان فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع العبيد وَالْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَفِيه مَا يدل أَن الْمقْرض إِذا أعطَاهُ الْمُسْتَقْرض أفضل مِمَّا اقْترض جِنْسا أَو كَيْلا أَو وزنا، أَن ذَلِك مَعْرُوف، وَأَنه يطيب لَهُ أَخذه مِنْهُ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثنى فِيهِ على من أحسن الْقَضَاء، وَأطلق ذَلِك وَلم يُقَيِّدهُ. قلت: هَذَا عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء إِذا لم يكن بِغَيْر شَرط مِنْهُمَا فِي حِين السّلف، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ نقلا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن اشْتِرَاط الزِّيَادَة فِي السّلف رَبًّا. وَفِيه: دَلِيل على أَن للْإِمَام أَن يستسلف للْمَسَاكِين على الصَّدقَات ولسائر الْمُسلمين على بَيت المَال، لِأَنَّهُ كالوصي لجميعهم وَالْوَكِيل، مَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يستسلف ذَلِك لنَفسِهِ لِأَنَّهُ قَضَاهُ من إبل الصَّدَقَة، وَمَعْلُوم أَن الصَّدَقَة مُحرمَة عَلَيْهِ، لَا يحل لَهُ أكلهَا وَلَا الِانْتِفَاع بهَا. فَإِن قلت: فلِمَ أعْطى من أَمْوَالهم أَكثر مِمَّا اسْتقْرض لَهُم؟ قلت: هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَنه جَائِز للْإِمَام إِذا اسْتقْرض للْمَسَاكِين أَن يرد من مَالهم أَكثر مِمَّا أَخذ على وَجه النّظر وَالصَّلَاح إِذا كَانَ على غير شَرط. فَإِن قلت: إِن الْمُسْتَقْرض مِنْهُ غنى، وَالصَّدَََقَة لَا تحل لَغَنِيّ؟ قلت: قد يحْتَمل أَن يكون الْمُسْتَقْرض مِنْهُ قد ذهبت إبِله بِنَوْع من حوائج الدُّنْيَا، فَكَانَ فِي وَقت صرف مَا أَخذ مِنْهُ إِلَيْهِ فَقِيرا تحل لَهُ الزَّكَاة، فَأعْطَاهُ النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيرا من بعيره بِمِقْدَار حَاجته، وَجمع فِي ذَلِك وضع الصَّدَقَة فِي موضعهَا وَحسن الْقَضَاء، وَيحْتَمل أَن يكون غارما أَو عَارِيا مِمَّن يحل لَهُ الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء. وَقيل: وَيحْتَمل أَنه كَانَ اقْترض لنَفسِهِ، فَلَمَّا جَاءَت إبل للصدقة اشْترى مِنْهَا بَعِيرًا مِمَّن اسْتَحَقَّه، فملكه بِثمنِهِ وأوفاه مُتَبَرعا بِالزِّيَادَةِ من مَاله، يدل عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم: (اشْتَروا لَهُ بَعِيرًا) . وَقيل: إِن الْمُقْتَرض كَانَ بعض المحتاجين، اقْترض لنَفسِهِ، فَأعْطَاهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الصَّدَقَة، وَهَذَا يرد قَول من قَالَ: إِنَّه كَانَ يَهُودِيّا. وَقيل يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ اقترضه لبَعض نَوَائِب الْمُسلمين، لِأَنَّهُ اقترضه لخاصة نَفسه، وَعبر الرَّاوِي عَن ذَلِك مجَازًا، إِذْ كَانَ هُوَ الْآمِر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما قَول من قَالَ: كَانَ استسلافه ذَلِك قبل أَن تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة ففاسد، لِأَنَّهُ لم ويزل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحرمَة عَلَيْهِ الصَّدَقَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَذَلِكَ من خَصَائِصه، وَمن عَلَامَات نبوته فِي الْكتب الْقَدِيمَة، بِدَلِيل قصَّة سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
6 - (بابُ الوَكَالَةِ فِي قَضاءِ الدُّيُونِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي قَضَاء الدُّيُون.
6032 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَة بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَقَاضاهُ فأغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مقَالاً ثُمَّ قَالَ أعْطُوهُ سِنّا مِثْلَ سِنِّهِ قالُوا يَا رسولَ الله لاَ نَجِدُ إلاَّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ أعْطُوهُ فإنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أحْسَنَكُمْ قَضاءً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَعْطوهُ سنا) ، لِأَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِعْطَاء السن وكَالَة فِي قَضَاء دينه، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، لكنه من وَجه آخر، وَبَينهمَا بعض تفَاوت فِي الْمَتْن بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن سَلمَة، وَهَهُنَا أخرجه: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأبي أَيُّوب الواشحي الْبَصْرِيّ، قَاضِي مَكَّة عَن شُعْبَة(12/135)
ابْن الْحجَّاج إِلَى آخِره.
قَوْله: (يتقاضاه) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (فَأَغْلَظ) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الإغلاظ التَّشْدِيد فِي الْمُطَالبَة من غير كَلَام يَقْتَضِي الْكفْر، أَو كَانَ المتقاضي كَافِرًا. قَوْله: (فهمَّ بِهِ أَصْحَابه) أَي: قصدوه ليؤذوه بِاللِّسَانِ أَو بِالْيَدِ أَو غير ذَلِك. قَوْله: (دَعوه) أَي: أتركوه وَلَا تتعرضوا لَهُ، وَهَذَا من غَايَة حلمه وَحسن خلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا) ، يَعْنِي: صولة الطّلب وَقُوَّة الْحجَّة، لَكِن على من يمطل أَو يسيء الْمُعَامَلَة، وَأما من أنصف من نَفسه فبذل مَا عِنْده وَاعْتذر عَمَّا لَيْسَ عِنْده فَلَا تجوز الاستطالة عَلَيْهِ بِحَال. قَوْله: (إلاَّ مثل) ، تَقْدِيره: لَا نجد سنا إلاَّ سنا أمثل، أَي: أفضل من سنه، وَقَالَ الْمُهلب: من آذَى السُّلْطَان بجفاء وَشبهه فَإِن لأَصْحَابه أَن يعاقبوه وينكروا عَلَيْهِ وَإِن لم يَأْمُرهُم السُّلْطَان بذلك.
7 - (بابٌ إِذا وهَبَ شَيْئا لوكِيلٍ أوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وهب أحد شَيْئا لوكيل، بِالتَّنْوِينِ أَي: لوكيل قوم، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى قوم الْمَذْكُور من قبيل قَوْله: بَين ذراعي وجبهة الْأسد، وَالتَّقْدِير: بَين ذراعي الْأسد وجبهته. قَوْله: (أَو شَفِيع قوم) ، عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: أَو وهب شَيْئا لشفيع قوم. قَوْله: (جَازَ) ، جَوَاب الشَّرْط.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سألُوهُ المَغَانِمَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَصِيبيي لَكُمْ
هَذَا تَعْلِيل للتَّرْجَمَة بَيَانه أَن وَفد هوَازن كَانُوا رسلًا أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا وكلاء وشفعاء فِي رد سَبْيهمْ الَّذِي سباه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الْمَغَانِم، فَقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاعتهم، فَرد إِلَيْهِم نصِيبه من السَّبي، وتوضيح ذَلِك فِيمَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحنين، فَلَمَّا أصَاب من هوَازن مَا أصَاب من أَمْوَالهم وسباياهم أدركهم وَفد هوَازن بالجعرانة، وَقد أَسْلمُوا، فَقَالُوا يَا رَسُول الله أمنن علينا منَّ الله عَلَيْك. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِسَاؤُكُمْ وأبناؤكم أحب إِلَيْكُم أم أَمْوَالكُم؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله خيرتنا بَين أحسابنا وَأَمْوَالنَا، بل أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا أحب إِلَيْنَا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما مَا كَانَ لي ولبني عبد الْمطلب فَهُوَ لكم، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَمَا كَانَ لنا فَهُوَ لرَسُول الله، وَقَالَت الْأَنْصَار: وَمَا كَانَ لنا فَهُوَ لرَسُول الله، فَردُّوا إِلَى النَّاس نِسَاءَهُمْ وأبناءهم، وَكَانَت قسْمَة غَنَائِم هوَازن قبل دُخُوله، عَلَيْهِ السَّلَام، مَكَّة مُعْتَمِرًا من الْجِعِرَّانَة. قَالَ إِبْنِ اسحاق: لما انْصَرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الطَّائِف وَنزل الْجِعِرَّانَة فِيمَن مَعَه من النَّاس، وَمَعَهُ من هوَازن سبي كثير، وَقد قَالَ لَهُ رجل من أَصْحَابه يَوْم ظعن من ثَقِيف: يَا رَسُول الله! أدع عَلَيْهِم. فَقَالَ: أللهم إهدِ ثقيفا وإيت بهم. قَالَ: ثمَّ أَتَاهُ وَفد هوَازن بالجعرانة. وَكَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سبي هوَازن سِتَّة آلَاف من الذَّرَارِي وَالنِّسَاء، وَمن الْإِبِل وَالشَّاة مَا لَا يدْرِي عدته. وَقَالَ غَيره: وَكَانَت عدَّة الْإِبِل أَرْبَعَة وَعشْرين ألف بعير، وَالْغنم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألف شَاة، وَمن الْفضة أَرْبَعَة آلَاف أُوقِيَّة. وَالْمَقْصُود أَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد إِلَيْهِم سَبْيهمْ، فَعِنْدَ ابْن إِسْحَاق: قبل الْقِسْمَة، وَعند غَيره بعْدهَا. وَكَانَت غَزْوَة هوَازن يَوْم حنين بعد الْفَتْح فِي خَامِس من شَوَّال سنة ثَمَان، وحنين وَاد بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة أَمْيَال، وهوازن فِي قيس غيلَان وَفِي خُزَاعَة، فَفِي قيس غيلَان: هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس غيلَان، وَفِي خُزَاعَة: هوَازن بن أسلم بن أقْصَى، وهوازن هَذَا بطن، وَفِي هوَازن قيس غيلَان بطُون كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: هوَازن ضرب من الطُّيُور، وَقَالَ غَيره: هُوَ جمع هوزن، وَقيل: الهوزون السراب ووزنه: فوعل. قلت: هَذَا يدل على أَن الْوَاو زَائِدَة، مثل وَاو جَهورِي الصَّوْت، أَي: شَدِيد عَال.
8032 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ قالَ وزَعَمَ عُرْوَةُ أنَّ مرْوَانَ بنَ الحَكَمِ والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ قَالَ أخْبَرَاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ حِينَ جاءَهُ وَفد هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فسَألُوهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِم أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(12/136)
أحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أصْدَقهُ فاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا السَّبْيَ وإمَّا المَالَ وقَدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ بِكُمْ وقَدْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ فلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قالُوا قالُوا فَإنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المُسْلِمِينِ فأثْنَى عَلى الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ هؤُلاءِ قَدْ جاؤُنا تَائِبِينَ وإنِّي قَدْ رَأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ بِذَلكَ فَلْيَفْعَلْ ومنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يَكونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُمْ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّا لاَ نَدْرِي منْ أذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأذَنْ فارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إلَيْنَا عُرَفَاءَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرُوهُ أنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وأذِنُوا ...
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِيهِ (إِنِّي أردْت أَن أرد إِلَيْهِم سَبْيهمْ) الحَدِيث ... وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن وَفد هوَازن كَانُوا وكلاء وشفعاء فِي رد سَبْيهمْ، فَهَذَا يُطَابق التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير أَبُو عُثْمَان. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ الْأمَوِي، قَالَ الْوَاقِدِيّ: إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يحفظ عَنهُ شَيْئا، وَتُوفِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين. السَّابِع: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره رَاء: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: ابْن نَوْفَل الزُّهْرِيّ، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع الرَّابِع هُوَ قَوْله: زعم، لِأَن زعم هَهُنَا بِمَعْنى: قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي: والزعم يسْتَعْمل فِي القَوْل الْمُحَقق. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى جده وَأَنه وَاللَّيْث مصريان وَأَن عقيلاً أيلي والبقية مدنيون وَأَن مَرْوَان من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْخمس وَفِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن عفير وَفِي الْعتْق وَالْهِبَة عَن سعيد بن أبي مَرْيَم وَفِي الْهِبَة والمغازي أَيْضا عَن يحيى بن بكير. وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن هَارُون بن مُوسَى بِقصَّة العرفاء مختصرة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَفد هوَازن) ، الْوَفْد هم الْقَوْم يَجْتَمعُونَ ويريدون الْبِلَاد، واحدهم وَافد، وَكَذَلِكَ الَّذين يقصدون الْأُمَرَاء لزيارة واسترفاد وانتجاع وَغير ذَلِك، تَقول: وَفد يفد فَهُوَ وَافد، وأوفدته فوفد، وأوفد على الشَّيْء فَهُوَ موفد إِذا أشرف، وهوازن مر تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله: (مُسلمين) حَال. قَوْله: (أحب الحَدِيث) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: أصدقة. قَوْله: (اسْتَأْنَيْت بهم) أَي: انتظرت بهم وتربصت، يُقَال: أنيت وتأنيت واستأنيت، وَيُقَال للمتمكث فِي الْأَمر: مستأنِ، ويروى: فقد كنت اسْتَأْنَيْت بكم. قَوْله: (فَلَمَّا تبين لَهُم) ، أَي: فحين ظهر لَهُم. وَقَوله: (أَن رَسُول الله) ، فِي مَحل الرّفْع فَاعل، تبين، قَوْله: (حِين قفل من الطَّائِف) ، أَي: حِين رَجَعَ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فتح مَكَّة فِي رَمَضَان لعشر بَقينَ مِنْهُ سنة ثَمَان، ثمَّ خرج إِلَى هوَازن فِي خَامِس شَوَّال لغزوهم، وَجرى مَا جرى، وَهزمَ الله تَعَالَى أعداءه، ثمَّ سَار إِلَى الطَّائِف حِين فرغ من حنين، وَهِي غَزْوَة هوَازن يَوْم حنين، وَنزل قَرِيبا من الطَّائِف، فَضرب بِهِ عسكره. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: حاصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الطَّائِف ثَلَاثِينَ لَيْلَة ثمَّ انْصَرف عَنْهُم لتأخر الْفَتْح إِلَى الْعَام الْقَابِل، وَلما انْصَرف عَن الطَّائِف(12/137)
نزل على الْجِعِرَّانَة فِيمَن مَعَه من النَّاس وَلما نزل على الْجِعِرَّانَة انْتظر وَفد هوَازن بضع عشرَة لَيْلَة، وَهُوَ معنى قَوْله فِي الحَدِيث: (انتظرهم بضع عشرَة لَيْلَة حِين قفل من الطَّائِف) ، ثمَّ جرى مَا ذكر فِي الحَدِيث. قَوْله: (أَن يطيب) من الثلاثي من طَابَ يطيب وَمن بَاب أطاب يطيب، وَمن بَاب التفعيل من طيب يطيب. قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي يرد السَّبي مجَّانا بِرِضا نَفسه وَطيب قلبه. وَفِي (التَّوْضِيح) : أَرَادَ أَن يطيب أنفسهم، لأهل هوَازن، بِمَا أَخذ مِنْهُم من الْعِيَال لرفع الشحناء والعداوة وَلَا تبقى إحْنَة الْغَلَبَة لَهُم فِي انتزاع السَّبي مِنْهُم فِي قُلُوبهم، فيولد ذَلِك اخْتِلَاف الْكَلِمَة. قلت: الْمَعْنى على كَونه من الثلاثي: أَن يطيب نَفسه بذلك أَي: يدْفع السَّبي إلهم فَلْيفْعَل، وَهُوَ جَوَاب: من المتضمنة معنى الشَّرْط، فَلذَلِك حصلت فِيهِ الْفَاء، وَالْفِعْل هُنَا لَازم وعَلى كَونه من بَاب الإفعال أَو التفعيل يكون الْفِعْل مُتَعَدِّيا وَالْمَفْعُول محذوفا تَقْدِيره: أَن يطيب نَفسه بذلك، بِضَم الْيَاء وَكسر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء، وَأَن يطيب، بِضَم الْيَاء وَفتح الطَّاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (على حَظه) أَي: على نصِيبه من السَّبي. قَوْله: (مَا يفِيء الله) من: أَفَاء يفِيء من بَاب: أفعل يفعل من الْفَيْء، وَهُوَ مَا يحصل للْمُسلمين من أَمْوَال الْكفَّار من غير حَرْب وَلَا جِهَاد، وأصل الْفَيْء: الرُّجُوع. يُقَال: فَاء يفِيء فيئة وفيوا كَأَنَّهُ كَانَ فِي الأَصْل لَهُم فَرجع إِلَيْهِم، وَمِنْه قيل للظل الَّذِي بعد الزَّوَال: فَيْء، لِأَنَّهُ يرجع من جَانب الغرب إِلَى جَانب الشرق. قَوْله: (قد طيبنَا ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: لأَجله، ويروى: يَا رَسُول الله. قَوْله: (حَتَّى يرفع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ) العرفاء جمع عريف، وَهُوَ الَّذِي يعرف أَمر الْقَوْم وأحوالهم، وَهُوَ النَّقِيب وَهُوَ دون الرئيس. وَفِي (التَّلْوِيح) : العريف: الْقيم بِأَمْر الْقَبِيلَة والمحلة يَلِي أَمرهم وَيعرف الْأَمِير حَالهم، وَهُوَ مُبَالغَة فِي اسْم من يعرف الْجند وَنَحْوهم، فعيل بِمَعْنى فَاعل، والعرافة عمله وَهُوَ النَّقِيب، وَقيل: النَّقِيب فَوق العريف وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَتَّى يرجع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ) للتقصي عَن أصل الشَّيْء فِي استطابة النُّفُوس، ويروى: حَتَّى يرفعوا إِلَيْنَا، على لُغَة أكلوني البراغيث. قَوْله: (أَخْبرُوهُ) أَي: وَأخْبر عُرَفَاؤُهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم قد طيبُوا ذَلِك وأذنوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يرد السَّبي إِلَيْهِم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الْغَنِيمَة إِنَّمَا يملكهَا الغانمون بِالْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، واستفيد ذَلِك من انْتِظَاره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: دَلِيل أَيْضا على استرقاق الْعَرَب وتملكهم كالعجم، إلاَّ أَن الْأَفْضَل عتقهم للترحم ومراعاتها، كَمَا فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي خِلَافَته، حِين ملك الْمُرْتَدين، وَهُوَ على وَجه النّدب لَا على الْوُجُوب. وَفِيه: أَن الْعِوَض إِلَى أجل مَجْهُول جَائِز، قَالَه ابْن التِّين: قَالَ: إِذْ لَا يدْرِي مَتى يفِيء الله عَلَيْهِم. قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يُقَاس عَلَيْهِ من أكره على بيع مَاله فِي حق عَلَيْهِ، قَالَ ابْن بطال: فِيهِ بيع الْمُكْره فِي الْحق جَائِز، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حكم دبر السَّبي، قَالَ: من أحب أَن يكون على حَظه وَلم يَجْعَل لَهُم الْخِيَار فِي إمْسَاك السَّبي أصلا وَإِنَّمَا خَيرهمْ فِي أَن يعوضهم من غَنَائِم أخر، وَلم يخيرهم فِي أَعْيَان السَّبي، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُم بعد أَن رد أهلهم: وَإِنَّمَا خَيرهمْ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لِئَلَّا تجحف بِالْمُسْلِمين فِي مغانمهم. وَفِيه: أَنه يجوز للامام إِذا جَاءَهُ أهل الْحَرْب مُسلمين بعد أَن غنم أَمْوَالهم وأهليهم أَن يرد عَلَيْهِم إِذا رأى فِي ذَلِك مصلحَة. وَفِيه: اتِّخَاذ العرفاء. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد. وَفِيه: من رأى قبُول إِقْرَار الْوَكِيل على مُوكله، لِأَن العرفاء كَانُوا كالوكلاء فِيمَا أقِيمُوا لَهُ من أَمرهم، فَلَمَّا سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مقَالَة العرفاء أنفذ ذَلِك وَلم يسألهم عَمَّا قَالُوهُ، وَكَانَ فِي ذَلِك تَحْرِيم فروج السبايا على من كَانَت حلت لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو يُوسُف، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِقْرَار الْوَكِيل جَائِز عِنْد الْحَاكِم، وَلَا يجوز عِنْد غَيره، وَقَالَ مَالك: لَا يقبل إِقْرَاره وَلَا إِنْكَاره إلاَّ أَن يَجْعَل ذَلِك إِلَيْهِ مُوكله. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يقبل إِقْرَاره عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
8 - (بابٌ إذَا وكِّل رَجُلٌ أنْ يُعْطِيَ شَيْئا ولَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِي فأعْطَى عَلَى مَا يتَعَارَفُهُ الناسُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وكل رجل رجلا أَن يُعْطي شَيْئا وَلم يعين أَي: الَّذِي وكل كم يُعْطي أَي: الْوَكِيل فَأعْطى أَي: الْوَكِيل على مَا يتعارفه النَّاس، أَي: على عرف النَّاس فِي هَذِه الصُّورَة، وَجَزَاء: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ جَائِز أَو نَحوه.(12/138)
9032 - حدَّثنا المَكِّيُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدثنَا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ عَطَاءِ بنِ أبِي رَبَاحٍ وغَيْرِهِ يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ولَمْ يُبَلِّغْهُ كُلُّهُمْ رَجُلٌ واحِدٌ مِنْهُمْ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَفالٍ إنَّما هُوَ فِي آخِرِ الْقَوْمِ فمَرَّ بِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالِ مَنْ هَذَا قُلْتُ جابِرُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ مَا لَكَ قلْتُ إنِّي على جَمَلٍ ثَفالٍ قَالَ أمَعَكَ قَضيبٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أعْطِنِيهِ فأعْطَيْتُهُ فَضَرَبهُ فزَجَرهُ فكانَ مِنْ ذَلِكَ المَكانِ مِنْ أوَّلِ الْقَوْمِ قَالَ بِعْنِيهِ فقُلْتُ بلْ هُوَ لكَ يَا رسولَ الله قَالَ بِعْنِيهِ قَدْ أخَذْتُهُ بأرْبَعَةِ دَنانِيرَ ولَكَ ظَهْرُهُ إِلَى المَدِينَةِ فلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ أخَذْتُ أرْتَحِلُ قَالَ أيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ تَزَوَّجْتُ امْرَأةً قَدْ خلاَ مِنْها زَوْجُها قَالَ فهَلاَّ جارِيةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ قلْتُ إنَّ أبي تُوَفِّيَ وتَرَكَ بَناتٍ فأردْتُ أنْ أنْكِحَ امرَأةً قَدْ جَرَّبَتْ خَلا مِنْها قَالَ فَذَلِكَ فلَمَّا قَدِمنا المَدِينَةِ قَالَ يَا بِلاَلُ إقْضِيه وزِدْهُ فأعْطَاهُ أرْبَعَةَ دَنانِيرَ وزَادَهُ قِيرَاطا قَالَ جابرٌ لاَ تُفَارِقُنِي زِيادَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمْ يَكنِ القِيرَاطُ يُفَارِقُ جِرَابَ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا بِلَال اقضِهِ وزده، فَأعْطَاهُ أَرْبَعَة دَنَانِير وزاده قيراطا) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر مِقْدَار مَا يُعْطِيهِ عِنْد أمره بِالزِّيَادَةِ، فاعتمد بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْعرف فِي ذَلِك، فزاده قيراطا.
وَرِجَال هَذَا الحَدِيث قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَنهُ عَن عَطاء عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: قد أخذت جملك بأَرْبعَة دَنَانِير، وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة لم يزدْ على هَذَا، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الْبيُوع: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا عبيد الله عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غزَاة فأبطأني جملي. . الحَدِيث مطولا، وَفِيه: فَأمر بِلَالًا أَن يزن لي أُوقِيَّة، فوزن لي بِلَال فأرجح. وَقَالَ بَعضهم: وَقد تقدم فِي الْحَج شَيْء من ذَلِك. قلت: لَيْسَ فِي الْحَج شَيْء من ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي تقدم فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الدَّوَابّ وَالْحمير، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَغَيره يزِيد بَعضهم على بعض وَلم يبلغهُ كلهم رجل وَاحِد مِنْهُم عَن جَابر) كَذَا وَقع فِي أَكثر نسخ البُخَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَغَيره يزِيد بَعضهم على بعض لم يبلغهُ كُله رجل مِنْهُم، ثمَّ قَالَ: كَذَا للْأَكْثَر، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ أَي: لَيْسَ جَمِيع الحَدِيث عِنْد وَاحِد مِنْهُم بِعَيْنِه، وَإِنَّمَا عِنْد بَعضهم مِنْهُ مَا لَيْسَ عِنْد الآخر. انْتهى. قلت: فِي (شرح عَلَاء الدّين صَاحب (التَّلْوِيح) بِخَطِّهِ وَضَبطه: عَن عَطاء وَغَيره إِلَى آخِره، مثل مَا ذَكرْنَاهُ الْآن بِعَيْنِه، ثمَّ قَالَ: كَذَا فِي أَكثر نسخ البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وَفِي الْإِسْمَاعِيلِيّ لم يبلغهُ كل رجل مِنْهُم عَن جَابر، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا لفظ حَدِيث حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، أَنبأَنَا ابْن جريج، وَعند أبي نعيم: لم يبلغهم كلهم إلاَّ رجل وَاحِد عَن جَابر، وَكَذَا هُوَ عِنْد أبي مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي كتاب (الْأَطْرَاف) وَتَبعهُ الْمزي، وَفِيه نظر، إِذْ ذكرَاهُ من (صَحِيح البُخَارِيّ) ثمَّ قَالَ الشَّيْخ عَلَاء الدّين الْمَذْكُور: وَفِي بعض النّسخ المقروءة على شَيخنَا الْحَافِظ أبي مُحَمَّد التوني على يبلغهُ، ضمة على الْيَاء وفتحة على الْبَاء وَشدَّة على اللَّام وجزمة على الْغَيْن. وَفِي أُخْرَى على الْيَاء فَتْحة وعَلى الْبَاء جزمة، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْن التِّين مَعْنَاهُ أَن بَعضهم بَينه وَبَين جَابر غَيره، قَالَ: وَفِي رِوَايَة لم يبلغهُ كلهم، وكل وَاحِد مِنْهُم عَن جَابر، وَفِي (التَّوْضِيح) : وبخط الدمياطي لم يبلغهُ بِضَم أَوله وَكسر ثالثه مشددا، ثمَّ قَالَ: وَذكر ابْن التِّين أَن فِي رِوَايَة: (وكل) ، بدل رجل، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَعضهم، الضَّمِير فِيهِ رَاجع إِلَى الْغَيْر، وَهُوَ فِي معنى الْجمع وَفِي: لم يبلغهُ، إِلَى الحَدِيث أَو إِلَى الرَّسُول، وَرجل يدل عَن الْكل، وَعَن جَابر مُتَعَلق بعطاء، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات لَفْظَة: الْغَيْر، بِالْجَرِّ، وَأما رَفعه(12/139)
فَهُوَ على الِابْتِدَاء، وَيزِيد خَبره، وَيحْتَمل أَن يكون: رجل، فَاعل فعل مُقَدّر نَحْو: بلغه، وعَلى التقادير: لَا يخفى مَا فِي هَذَا التَّرْكِيب من التعجرف، وَلَو كَانَ كلمة: كلهم، ضمير الْفَرد لَكَانَ ظَاهرا. انْتهى. قلت: التعجرف الَّذِي ذكره من الروَاة والتعجرف والعجرفة والعجرفيه بِمَعْنى: يُقَال فلَان يتعجرف على فلَان إِذا كَانَ يركبه بِمَا يكره، وَلَا يهاب شَيْئا، وَيُقَال: جمل فِيهِ تعجرف وعجرفة إِذا كَانَ فِيهِ خرق وَقلة مبالاة لسرعته، وَالصَّوَاب هُنَا التَّرْكِيب الَّذِي فِي رِوَايَة الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور فِي سَنَده. قَوْله: (وَغَيره) بِالْجَرِّ، أَي: وَعَن غير عَطاء. قَوْله: (يزِيد بَعضهم على بعض) ، حَال وَالضَّمِير فِي بَعضهم يرجع إِلَى لفظ غَيره، لِأَن غير عَطاء يحْتَمل أَن يكون جمعا. قَوْله: (وَلم يبلغهُ) ، أَيْضا حَال، أَي: وَالْحَال أَنهم لم يبلغُوا الحَدِيث، بل بلغه رجل وَاحِد مِنْهُم، فَلَا بُد من تَقْدِير عل قبل رجل ليستقيم الْمَعْنى، وَغير هَذَا الْوَجْه معجرف. قَوْله: (على ثفال) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْفَاء الْخَفِيفَة: وَهُوَ الْبَعِير البطيء السّير الثقيل الْحَرَكَة، والثفال، بِكَسْر الثَّاء جلد أَو كسَاء يوضع تَحت الرَّحَى، يَقع عَلَيْهِ الدَّقِيق. وَقَالَ ابْن التِّين: وَصوب كسر الثَّاء، هُنَاكَ قَالَه ابْن فَارس، (فَكَانَ من ذَلِك الْمَكَان) ، أَي: فَكَانَ الْجمل من مَكَان الضَّرْب من أَوَائِل الْقَوْم، وَفِي مباديهم ببركة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ تبدل ضعفه بِالْقُوَّةِ. قَوْله: (بل هُوَ لَك يَا رَسُول الله) أَي: بِغَيْر ثمن. قَوْله: (قَالَ: بل بعنيه) ، أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بل بِعني الْجمل بِالثّمن، وَذكر كلمة: بل، للإضراب عَن قَول جَابر إِنَّه لَا يَأْخُذهُ بِلَا ثمن. قَوْله: (قَالَ: قد أَخَذته بأَرْبعَة دَنَانِير) أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد أخذت الْجمل بأَرْبعَة دَنَانِير، فِيهِ ابْتِدَاء المُشْتَرِي بِذكر الثّمن، كَذَا هُوَ بِخَط الْحَافِظ الدمياطي، وَذكره الدَّاودِيّ الشَّارِح بِلَفْظ: أَربع الدَّنَانِير، وَقَالَ: سَقَطت التَّاء لما دخلت الْألف وَاللَّام، وَذَلِكَ جَائِز فِيمَا دون الْعشْرَة، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن التِّين بِأَنَّهُ قَول مخترع لم يقلهُ أحد غَيره. قَوْله: (وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة) أَي: لَك أَن تركب إِلَى الْمَدِينَة، وَهَذَا إِعَارَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَإِبَاحَة للِانْتِفَاع لَا أَنه كَانَ شرطا للْبيع. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِذا كَانَ على قرب مثل تِلْكَ الْمسَافَة، وَإِن كَانَ روى عَنهُ كَرَاهَة ذَلِك، وَلَا يجوز فِيمَا بعد عَنهُ، وَقَالَ قوم: ذَلِك جَائِز، وَإِن بعد، وَقَالَت فرقة: لَا يجوز وَإِن قرب. قَوْله: (قد خلا مِنْهَا) أَي: مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا. قَوْله: (فَهَلا جَارِيَة) ، انتصاب جَارِيَة بِفعل مُقَدّر، أَي: هلا تزوجت جَارِيَة. قَوْله: (قد جربت) أَي: اختبرت حوادث الدَّهْر وَصَارَت ذَات تجربة تقدر على تعهد إخواتي وتفقد أحوالهن. قَوْله: (قَالَ: فَذَلِك) ، أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَذَلِك، وَهُوَ مُبْتَدأ خبر مَحْذُوف أَي: فَذَلِك مبارك. وَنَحْوه. قَوْله: (إقضه) ، أَي: اقْضِ دينه، وَهُوَ ثمن الْجمل. قَوْله: (وزده) أَي: زد على الثّمن، وَهُوَ أَمر من زَاد يزِيد، نَحْو: بَاعَ يَبِيع، وَالْأَمر مِنْهُ: بِعْ، بِالْكَسْرِ. قَوْله: (فَلم يكن القيراط يُفَارق جراب جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، وَهَذَا من قَول عَطاء الرَّاوِي، كَذَا وَقع لفظ: جراب، بِالْجِيم فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: قرَاب، بِالْقَافِ وَهُوَ الَّذِي يدْخل فِيهِ السَّيْف بغمده، قَالَ الدَّاودِيّ: القراب خريطة، ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين: بِأَن الخريطة لَا يُقَال لَهَا: قرَاب، وَقد زَاد مُسلم فِي آخر هَذَا الحَدِيث، فَأَخذه أهل الشَّام يَوْم الْحرَّة.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هذاالحديث: أَن الْمُتَعَارف بَين النَّاس مثل النَّص عَلَيْهِ، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: والمأمور بِالصَّدَقَةِ إِذا أعْطى مَا يتعارفه النَّاس جَازَ وَنفذ، فَإِن أعْطى أَكثر مِمَّا يتعارفه النَّاس يتَوَقَّف ذَلِك على رضَا صَاحب المَال، فَإِن أجَاز ذَلِك وإلاَّ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِقْدَار ذَلِك، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه لَو أمره أَن يُعْطي فلَانا قَفِيزا فَأعْطَاهُ قفيزين ضمن الزِّيَادَة بِالْإِجْمَاع.
9 - (بابُ وكالَةِ الإمْرَأةِ الإمامَ فِي النِّكَاحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَوْكِيل الْمَرْأَة الإِمَام فِي عقد النِّكَاح وَالْوكَالَة يَعْنِي: التَّوْكِيل مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَالْإِمَام، بِالنّصب مَفْعُوله، وَفِي بعض النّسخ وكَالَة الْمَرْأَة.
0132 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ جاءَتْ امْرأةٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسولَ الله إنِّي قَدْ وهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي فَقالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا قَالَ قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا معَكَ مِنَ القُرآنِ. .(12/140)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَرْأَة لما قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد وهبت لَك نَفسِي، كَانَ ذَلِك كَالْوكَالَةِ على تَزْوِيجهَا من نَفسه أَو مِمَّن رأى تَزْوِيجهَا مِنْهُ، وَقد جَاءَ فِي كتاب النِّكَاح أَنَّهَا جعلت أمرهَا إِلَيْهِ صَرِيحًا، وَهُوَ طَرِيق من طرق حَدِيث الْبَاب، وَبِهَذَا يُجَاب عَمَّا قَالَه الدَّاودِيّ أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استأذنها، وَلَا أَنَّهَا وكلته. وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: اسْمه سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد وَفِي النِّكَاح عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن القعْنبِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة) ، اخْتلف فِي اسْمهَا، فَقيل: هِيَ خَوْلَة بنت حَكِيم، وَقيل: هِيَ أم شريك الْأَزْدِيَّة. وَقيل مَيْمُونَة، ذكر هَذِه الْأَقْوَال أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي كتاب (المبهمات) : وَالصَّحِيح أَنَّهَا خَوْلَة أَو أم شريك، لِأَنَّهُمَا، وَإِن كَانَتَا مِمَّن وهبت نفسهما للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه لم يتَزَوَّج بهما، وَأما مَيْمُونَة فَإِنَّهَا إِحْدَى زَوْجَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يَصح أَن تكون هَذِه، لِأَن هَذِه قد زَوجهَا لغيره، وَقد روى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: لم يكن عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة وهبت نَفسهَا لَهُ، لِأَنَّهُ لم يقبلهن وَإِن كن حَلَالا. قَوْله: (وهبت لَك من نَفسِي) ويروى: (وهبت لَك نَفسِي، بِدُونِ كلمة: من. قَالَ النَّوَوِيّ: قَول الْفُقَهَاء: وهبت من فلَان كَذَا، مِمَّا يُنكر عَلَيْهِم. قلت: لَا وَجه للإنكار لِأَن: من، تَجِيء زَائِدَة فِي الْمُوجب، وَهِي جَائِزَة عِنْد الْأَخْفَش والكوفيين. قَوْله: (فَقَالَ رجل: زوجنيها) ، وَلَفظه فِي النِّكَاح: (فَقَامَ رجل من أَصْحَابه فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها) . قَوْله: (قد زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) . وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذِه اللَّفْظَة، فَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: ملكتكها، وَفِي رِوَايَة لَهُ: أملكناكها، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر الْهَرَوِيّ: أمكناكها، وَفِي أَكثر رِوَايَات (الْمُوَطَّأ) : أنكحتكها، وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي أَكثر نسخه: ملكتكها، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَكَذَا نَقله القَاضِي عِيَاض عَن رِوَايَة الْأَكْثَرين لمُسلم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رِوَايَة من روى: ملكتكها، وهم، قَالَ: الصَّوَاب رِوَايَة من روى: زوجتكها، قَالَ: وهم أَكثر وأحفظ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيحْتَمل صِحَة اللَّفْظَيْنِ، وَيكون جرى لفظ التَّزْوِيج أَولا فملكها، ثمَّ قَالَ لَهُ: إذهب فقد ملكتكها بِالتَّزْوِيجِ السَّابِق. قلت: هَذَا هُوَ الْوَجْه، وَقد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي التَّوْحِيد، وَلكنه مُخْتَصر جدا. وَأخرجه فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب تَزْوِيج الْمُعسر، وَلَفظه: جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله} جِئْت أهب لَك نَفسِي. قَالَ: فَنظر إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طأطأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَة أَنه لم يقضِ فِيهَا شَيْئا، جَلَست، فَقَامَ رجل من أَصْحَابه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها. قَالَ: وَهل عنْدك من شَيْء؟ قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُول الله! فَقَالَ: إذهب إِلَى أهلك فَانْظُر. هَل تَجِد شَيْئا؟ فَذهب ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا وجدت شَيْئا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنظر وَلَو خَاتمًا من حَدِيد، وَلَكِن هَذَا إزَارِي. قَالَ: مَاله رادء فلهَا نصفه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تصنع بإزارك إِن لبسته لم يكن عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْء، وَإِن لبسته لم يكن عَلَيْك مِنْهُ شَيْء؟ فَجَلَسَ الرجل حَتَّى إِذا طَال مَجْلِسه، قَامَ فَرَآهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موليا، فَأمر بِهِ، فدعي، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ: مَاذَا مَعَك من الْقُرْآن؟ قَالَ: معي سُورَة كَذَا وَكَذَا، عَددهَا، قَالَ: تقرؤهن عَن ظهر قَلْبك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إذهب فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن. وَإِنَّمَا سقنا هَذَا هَهُنَا لِأَنَّهُ كالشرح لحَدِيث الْبَاب يُوضح مَا فِيهِ من الْأَحْكَام.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ يشْتَمل على أَحْكَام:
الأول فِيهِ: جَوَاز هبة الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من خَصَائِصه، لقَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} (الْأَحْزَاب:: 05) . الْآيَة ... قَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: لَا تحل الْهِبَة لأحد بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز أَن يطَأ فرجا وهب لَهُ وَطْؤُهُ دون رقبته بِغَيْر صدَاق.
الثَّانِي فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجوز لَهُ اسْتِبَاحَة من شَاءَ مِمَّن وهبت نَفسهَا لَهُ بِغَيْر صدَاق، وَهَذَا أَيْضا من الخصائص.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالْحسن بن حَيّ، على أَن النِّكَاح ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة، فَإِن سمى مهْرا لزمَه، وَإِن لم يسم فلهَا مهر الْمثل؟ قَالُوا: وَالَّذِي خص بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعرى الْبضْع من الْعِوَض لَا النِّكَاح، بِلَفْظ الْهِبَة: وَعَن الشَّافِعِي(12/141)
لَا ينْعَقد إلاَّ بِالتَّزْوِيجِ أَو الْإِنْكَاح، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَدَاوُد وَآخَرُونَ. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن وهب ابْنَته وَهُوَ يُرِيد إنكاحها فَلَا أحفظه عَن مَالك، وَهُوَ عِنْدِي جَائِز كَالْبيع، وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة الْمُتَأَخِّرين، ثمَّ قَالَ: الصَّحِيح أَنه لَا ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة نِكَاح كَمَا أَنه لَا ينْعَقد بِلَفْظ النِّكَاح هبة شَيْء من الْأَمْوَال وَفِي الْجَوَاهِر، أَرْكَان النِّكَاح أَرْبَعَة: الصِّيغَة: وَهِي كل لفظ يَقْتَضِي التَّمْلِيك على التَّأْبِيد فِي حَال الْحَيَاة كالإنكاح وَالتَّزْوِيج وَالتَّمْلِيك وَالْبيع وَالْهِبَة، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، قَالَ القَاضِي أَبُو الْحسن، وَلَفظ الصَّدَقَة، وَفِي (الرَّوْضَة) للنووي: وَلَا ينْعَقد بِغَيْر لفظ التَّزْوِيج والإنكاح، وَكَذَا قَالَ فِي (حاوي) الْحَنَابِلَة.
الرَّابِع فِيهِ: اسْتِحْبَاب عرض الْمَرْأَة نَفسهَا على الرجل الصَّالح ليتزوجها.
الْخَامِس: فِيهِ: أَنه يسْتَحبّ لمن طلبت إِلَيْهِ حَاجته وَهُوَ لَا يُرِيد أَن يَقْضِيهَا أَن لَا يخجل الطَّالِب بِسُرْعَة الْمَنْع، بل يسكت سكُوتًا يفهم السَّائِل ذَلِك مِنْهُ، أللهم إلاَّ إِذا لم يفهم السَّائِل ذَلِك إلاَّ بِصَرِيح الْمَنْع، فَيصح. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أبي حَازِم: التَّصْرِيح بِالْمَنْعِ، بقوله فَقَالَ مَالك: مَا لي الْيَوْم فِي النِّسَاء حَاجَة.
السَّادِس فِيهِ: أَن من طلب حَاجَة يُرِيد بهَا الْخَيْر فَسكت عَنهُ لَا يرجع من أول وهلة لاحْتِمَال قَضَائهَا فِيمَا بعد، وَفِي رِوَايَة للطبراني: فَقَامَتْ حَتَّى راقبنا لَهَا من طول الْقيام ... الحَدِيث، بل لَا بَأْس بتكرار السُّؤَال إِذا لم يجب.
السَّابِع فِيهِ: أَنه لَا بَأْس بِالْخطْبَةِ لمن عرضت نَفسهَا على غَيره إِذا صرح المعروض بِالرَّدِّ أَو فهم مِنْهُ بِقَرِينَة الْحَال.
الثَّامِن: فِيهِ: إنعقاد النِّكَاح بالاستيجاب وَإِن لم يُوجد بعد الْإِيجَاب قبُول، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ: بَاب إِذا قَالَ الْخَاطِب للْوَلِيّ: زَوجنِي فُلَانَة، فَقَالَ: زوجتكها بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاح وَإِن لم يقل الزَّوْج رضيت أَو قبلت، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِن هَذَا هُوَ النَّص، وَظَاهر الْمَذْهَب قَالَ وَحكى الإِمَام وَجها، أَن من الْأَصْحَاب من أثبت فِيهِ الْخلاف.
التَّاسِع: أَن التَّعْلِيق فِي الاستيجاب لَا يمْنَع من صِحَة العقد، وَقَالَ شَيخنَا: قد أطلق أَصْحَاب الشَّافِعِي تَصْحِيح القَوْل بِأَن النِّكَاح لَا يقبل التَّعْلِيق، قَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّه الْأَصَح الَّذِي ذكره الْأَكْثَرُونَ، وحكوا عَن أبي حنيفَة صِحَة النِّكَاح مَعَ التَّعْلِيق. قلت: مَذْهَب الإِمَام أَنه إِذا علق النِّكَاح بِالشّرطِ يبطل الشَّرْط وَيصِح النِّكَاح، كَمَا إِذا قَالَ: تَزَوَّجتك بِشَرْط أَن لَا يكون لَك مهر.
الْعَاشِر: فِيهِ: اسْتِحْبَاب تعْيين الصَدَاق، لِأَنَّهُ أقطع للنزاع وأنفع للْمَرْأَة، لِأَنَّهَا إِذا طلقت قبل الدُّخُول وَجب لَهَا نصف الْمُسَمّى، بِخِلَاف مَا إِذا لم يسم الْمهْر فَإِنَّهُ إِنَّمَا تجب الْمُتْعَة.
الْحَادِي عشر: فِيهِ: جَوَاز تَزْوِيج الْوَلِيّ وَالْحَاكِم الْمَرْأَة للمعسر إِذا رضيت بِهِ.
الثَّانِي عشر: فِيهِ: أَنه لَا بَأْس للمعسر المعدم أَن يتَزَوَّج امْرَأَة إِذا كَانَ مُحْتَاجا إِلَى النِّكَاح، لِأَن الظَّاهِر من حَال هَذَا الرجل الَّذِي فِي الحَدِيث أَنه كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ، وإلاَّ لما سَأَلَهُ مَعَ كَونه غير وَاجِد إلاَّ إزَاره، وَلَيْسَ لَهُ رِدَاء، فَإِن كَانَ غير مُحْتَاج إِلَيْهِ يكره لَهُ ذَلِك.
الثَّالِث عشر فِي قَوْله: إزارك إِن أَعْطيته جَلَست وَلَا إِزَار لَك، دَلِيل على أَن الْمَرْأَة تسْتَحقّ جَمِيع الصَدَاق بِالْعقدِ قبل الدُّخُول، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَنحن نقُول: لَا تسْتَحقّ إلاَّ النّصْف، وَبِه قَالَ مَالك، وَعنهُ كَقَوْل الشَّافِعِي.
الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ الشَّافِعِي بقوله: وَلَو خَاتمًا من حَدِيد، على أَنه يَكْتَفِي بِالصَّدَاقِ، بِأَقَلّ مَا يتمول بِهِ كخاتم الْحَدِيد وَنَحْوه. وَفِي (الرَّوْضَة) : لَيْسَ للصداق حد مُقَدّر بل كل مَا جَازَ أَن يكون ثمنا ومثمنا أَو أُجْرَة جَازَ جعله صَدَاقا، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَمذهب مَالك: أَنه لَا يرى فِيهِ عددا معينا، بل يجوز بِكُل مَا وَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق، غير أَنه يكون مَعْلُوما: وَعَن مَالك: لَا يجوز بِأَقَلّ من ربع دِينَار، وَقَالَ ابْن حزم: وَجَائِز أَن يكون صَدَاقا كل مَا لَهُ نصف، قل أَو كثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعير أَو غير ذَلِك، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أكره أَن يكون الْمهْر مثل أجر الْبَغي، وَلَكِن الْعشْرَة وَالْعشْرُونَ. وَعنهُ: السّنة فِي النِّكَاح الرطل من الْفضة، وَعَن الشّعبِيّ: أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ أَن يتَزَوَّج الرجل على أقل من ثَلَاث أواقي. وَعَن سعيد بن جُبَير: أَنه كَانَ يحب أَن يكون الصَدَاق خمسين درهما، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يكون الصَدَاق أقل من عشرَة دَرَاهِم. لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن شريك عَن دَاوُد الزعافري عَن الشّعبِيّ، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا مهر بِأَقَلّ من عشرَة دَرَاهِم، وَالظَّاهِر أَنه قَالَ ذَلِك توقيفا، لِأَنَّهُ بَاب لَا يُوصل إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس فَإِن قلت. قَالَ ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن عَليّ بَاطِلَة لِأَنَّهَا عَن دَاوُد بن يزِيد الزعافري الأودي وَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط، ثمَّ هِيَ مُرْسلَة لِأَن الشّعبِيّ لم يسمع من عَليّ حَدِيثا. قلت: قَالَ ابْن عدي: لم أر حَدِيثا مُنْكرا جَاوز الْحَد، إِذْ روى عَنهُ ثِقَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ بِقَوي فِي(12/142)
الحَدِيث فَإِنَّهُ يكْتب حَدِيثه وَيقبل إِذا روى عَنهُ ثِقَة، وَذكر الْمزي: أَن الشّعبِيّ سمع عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَئِن سلمنَا أَن رِوَايَته مُرْسلَة فقد قَالَ الْعجلِيّ: مُرْسل الشّعبِيّ صَحِيح، وَلَا يكَاد يُرْسل، إلاَّ صَحِيحا. وَأما الْجَواب عَن قَوْله: وَلَو خَاتمًا من جَدِيد، فَنَقُول: إِنَّه خَارج مخرج الْمُبَالغَة، كَمَا قَالَ: تصدقوا وَلَو بظلف محرق، وَفِي لفظ: وَلَو بفرسن شَاة، وَلَيْسَ الظلْف والفرسن مِمَّا ينْتَفع بهما وَلَا يتَصَدَّق بهما وَيُقَال: لَعَلَّ الْخَاتم كَانَ يُسَاوِي ربع دِينَار فَصَاعِدا، لِأَن الصواغ قَلِيل عِنْدهم كَذَا قَالَه بعض الْمَالِكِيَّة، لِأَن أقل الصَدَاق عِنْدهم ربع دِينَار. وَيُقَال: لَعَلَّ التماسه للخاتم لم يكن ليَكُون كل الصَدَاق بل شَيْء يعجله لَهَا قبل الدُّخُول.
الْخَامِس عشر: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، والظاهرية على أَن: التَّزْوِيج على سُورَة من الْقُرْآن مُسَمَّاة جَائِز، وَعَلِيهِ أَن يعلمهَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور: قد ذهب الشَّافِعِي إِلَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن لم يكن شَيْء يصدقها وَتَزَوجهَا على سُورَة من الْقُرْآن فَالنِّكَاح جَائِز، وَيعلمهَا السُّورَة من الْقُرْآن. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: النِّكَاح جَائِز وَيجْعَل لَهَا صدَاق مثلهَا. وَهُوَ قَول أهل الْكُوفَة وَأحمد وَإِسْحَاق. قلت: وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن الجووزي: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن تَعْلِيم الْقُرْآن يجوز أَن يكون صَدَاقا، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَالْأُخْرَى: لَا يجوز، وَإِنَّمَا جَازَ لذَلِك الرجل خَاصَّة. وَأَجَابُوا عَن قَوْله: قد زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، أَنه إِن حمل على ظَاهره يكون تَزْوِيجهَا على السُّورَة لَا على تعليمها، فالسورة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، فَحِينَئِذٍ يكون المعني: زوجتكها بِسَبَب مَا مَعَك من الْقُرْآن وبحرمته وببركته، فَتكون الْبَاء للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنكُمْ ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل} (الْبَقَرَة: 45) . وَقَوله تَعَالَى: {فكلاً أَخذنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 04) . وَهَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال. فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: على مَا مَعَك من الْقُرْآن. وَفِي مُسْند أَسد السّنة: مَعَ مَا مَعَك من الْقُرْآن؟ قلت: أما: على، فَإِنَّهُ يَجِيء للتَّعْلِيل أَيْضا كالباء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 581) . والمعني لهدايته إيَّاكُمْ وَيكون المعني زوجتها لأجل مَا مَعَك من الْقُرْآن يَعْنِي لأجل حرمته وبركته، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَيْضا تَسْمِيَة المَال. وَأما: مَعَ، فَإِنَّهَا للمصاحبة، وَالْمعْنَى: زوجتكها لمصاحبتك الْقُرْآن، فَالْكل يعود إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن التَّزْوِيج إِنَّمَا كَانَ على حُرْمَة السُّورَة وبركتها لَا أَنَّهَا صَارَت مهْرا، لِأَن السُّورَة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: الأَصْل فِي: الْبَاء، أَن تكون للمقابلة فِي مثل هَذَا الْموضع، كَمَا فِي نَحْو قَوْلك: بِعْتُك ثوبي بِدِينَار. قلت: لَا نسلم أَن الأَصْل فِي: الْبَاء، أَن تكون للمقابلة، بل الأَصْل فِيهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَة للإلصاق حَتَّى قيل: إِنَّه معنى لَا يفارقها، وَلَو كَانَت للمقابلة هَهُنَا للَزِمَ أَن تكون تِلْكَ الْمَرْأَة كالموهوبة، وَذَلِكَ لَا يجوز إلاَّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن فِي إِحْدَى رِوَايَات البُخَارِيّ: فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، فالتمليك هبة، وَالْهِبَة فِي النِّكَاح اخْتصَّ بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى: {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} (الْأَحْزَاب: 05) . فَإِن قلت: معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، بِأَن تعلمهَا مَا مَعَك من الْقُرْآن أَو مِقْدَارًا مِنْهُ وَيكون ذَلِك صَدَاقهَا، أَي: تعليمها إِيَّاه، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا جَاءَ فِي رِوَايَة لمُسلم: انْطلق فقد زوجتكها فعلمها من الْقُرْآن. وَجَاء فِي رِوَايَة عَطاء: فعلمها عشْرين آيَة. قلت: هَذَا عدُول عَن ظَاهر اللَّفْظ بِغَيْر دَلِيل، وَلَئِن سلمنَا هَذَا، فَهَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال، فَيكون قد زَوجهَا مِنْهُ مَعَ تحريضه على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيكون ذَلِك الْمهْر مسكوتا عَنهُ إِمَّا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أصدق عَنهُ كَمَا كفر عَن الواطىء فِي رَمَضَان إِذْ لم يكن عِنْده شَيْء، وودى الْمَقْتُول بِخَيْبَر إِذْ لم يخلف أَهله، كل ذَلِك رفقا بأمته وَرَحْمَة لَهُم، أَو يكون أبقى الصَدَاق فِي ذمَّته وأنكحها نِكَاح تَفْوِيض، حَتَّى يتَّفق لَهُ صدَاق، أَو حَتَّى يكْسب بِمَا مَعَه من الْقُرْآن صَدَاقا، فعلى جَمِيع التَّقْدِير لم يكن فِيهِ حجَّة على جَوَاز النِّكَاح بِغَيْر صدَاق من المَال.
السَّادِس عشر: فِيهِ: أَنه لَا بَأْس بِلبْس خَاتم الْحَدِيد، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّه لَا يكره لهَذَا الحَدِيث، وَلِحَدِيث معيقيب: كَانَ خَاتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَدِيد ملوي عَلَيْهِ فضَّة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمه وَتَحْرِيم الْخَاتم النّحاس أَيْضا لحَدِيث: أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ خَاتم من شبه، قَالَ: مَالِي أجد مِنْك ريح الْأَصْنَام؟ فطرحه، ثمَّ جَاءَ وَعَلِيهِ خَاتم من حَدِيد، فَقَالَ: مَا لي أرى عَلَيْك حلية أهل النَّار؟ فطرحه. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا.
السَّابِع عشر: اسْتدلَّ(12/143)
بِهِ البُخَارِيّ على ولَايَة الإِمَام للنِّكَاح، فَقَالَ: بَاب السُّلْطَان ولي، لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن.
الثَّامِن عشر فِيهِ: دلَالَة على أَنه لَيْسَ للنِّسَاء أَن تمْتَنع من تَزْوِيج أحد أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُزَوّجهَا مِنْهُ، غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا، شريفا كَانَ أَو وضيعا، صَحِيحا كَانَ أَو ضَعِيفا. وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا ... } (الْأَحْزَاب: 63) . الْآيَة، نزلت فِي زَيْنَب لما خطبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزيد بن حَارِثَة، فامتنعت، وَفِي إِسْنَاده ضعف.
التَّاسِع عشر: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز الْخطْبَة على الْخطْبَة مَا لم يتراكنا، لَا سِيمَا مَعَ مَا رأى من زهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا.
الْعشْرُونَ: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز النّظر للمتزوج وتكراره، والتأمل فِي محاسنها، فهم ذَلِك من قَوْله: فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ. وَأما النظرة الأولى فمباحة للْجَمِيع.
الْحَادِي والعشريون: فِيهِ دَلِيل على إجَازَة إنكاح الْمَرْأَة دون أَن يسْأَل: هَل هِيَ فِي عدَّة أم لَا، على ظَاهر الْحَال، والحكام يبحثون عَن ذَلِك احْتِيَاطًا، قَالَه الْخطابِيّ.
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: قَالَ القَاضِي: فِيهِ جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَهُوَ مَذْهَب كَافَّة الْعلمَاء، وَمنعه أَبُو حنيفَة إلاَّ للضَّرُورَة، وعَلى هَذَا اخْتلفُوا فِي أَخذ الْأُجْرَة على الصَّلَاة، وعَلى الْأَذَان وَسَائِر أَفعَال الْبر، فَروِيَ عَن مَالك كَرَاهَة جَمِيع ذَلِك فِي صَلَاة الْفَرْض وَالنَّفْل، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه إلاَّ أَن مَالِكًا أجازها على الْأَذَان، وَأَجَازَ الْإِجَازَة على جَمِيع ذَلِك ابْن عبد الحكم. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَمنع ذَلِك ابْن حبيب فِي كل شَيْء، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ: لَا صَلَاة لَهُ، وَرُوِيَ عَن مَالك إِجَازَته فِي النَّافِلَة، وَرُوِيَ عَنهُ إِجَازَته فِي الْفَرِيضَة دون النَّافِلَة.
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: قَالَ الإِمَام: قَالَ بعض الْأَئِمَّة، فِيهِ: دَلِيل على أَن الْهِبَة لَا تدخل فِي ملك الْمَوْهُوب لَهُ إلاَّ بِالْقبُولِ، لِأَن الْمَوْهُوبَة كَانَت جَائِزَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد وهبت هَذِه لَهُ نَفسهَا فَلم تصر زَوجته بذلك، قَالَه الشَّافِعِي.
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: قَالَ ابْن عبد الْبر. فِيهِ: دَلِيل على أَن الصَدَاق إِذا كَانَ جَارِيَة وَوَطئهَا الزَّوْج حد لِأَنَّهُ وطىء ملك غَيره. قلت: هُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَعند أَصْحَابنَا: إِذا أقرّ أَنه زنى بِجَارِيَة امْرَأَته حد، وَإِن قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تحل لي لَا يحد.
01 - (بَاب إذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلاً فتَرَكَ الوَكِيلُ شَيْئا فأجازَهُ المُوَكِّلُ فَهْوَ جائِزٌ وإنْ أقْرَضَهُ إلَى أجلٍ مُسَمَّى جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وكل رجل رجلا فَترك الْوَكِيل شَيْئا مِمَّا وكل فِيهِ فَأَجَازَهُ الْمُوكل جَازَ. قَوْله: (وَإِن أقْرضهُ) أَي: وَإِن أقْرض الْوَكِيل شَيْئا مِمَّا وكل فِيهِ جَازَ، يَعْنِي: إِذا أجَازه الْمُوكل. وَقَالَ الْمُهلب: مَفْهُوم التَّرْجَمَة أَن الْمُوكل إِذا لم يجز مَا فعله الْوَكِيل، مِمَّا لم يَأْذَن لَهُ فِيهِ، فَهُوَ غير جَائِز.
1132 - وَقَالَ عثْمانُ بنُ الهَيْثَمِ أبُو عَمْرٍ وحدَّثنا عَوْفٌ عَن مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عَن أبِي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ وكَّلَنِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِفْظِ زَكاةِ رَمَضانَ فأتَانِي آتٍ فجعَلَ يَحْثُو منَ الطَّعامِ فأخَذْتُهُ وقُلْتُ وَالله لأرْفَعَنَّكَ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي مُحْتاجٌ وعَلَيَّ عِيالٌ ولِي حاجَةٌ شَدِيدةٌ قَالَ فَخَلَّيْت عَنْهُ فأصْبَحْتُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فعَلَ أسِيرُكَ البارحَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رسولَ الله شَكا حاجَةً شَدِيدَةً وَعِيالاً فَرَحِمْتَهُ فخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ أما أنَّهُ قَدْ(12/144)
كَذَبَكَ وسَيَعُودُ فعَرَفْتُ أنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ سَيَعُودُ فرَصَدْتُهُ فَجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ فَأخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ دَعْنِي فإنِّي محْتَاجٌ وعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فأصْبَحْتُ فقالَ لِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أسِيرُكَ قُلْتُ يَا رسولَ الله شَكَا حاجَةً شدِيدَةً وعِيالاً فرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلهُ قَالَ أما أنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ: الثَّالِثةَ فجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ فأخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إلَى رسُولِ الله الله وهاذا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ إنَّكَ تَزْعَمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ قالَ دَعْنِي أُعلِّمْكَ كلِماتٍ يَنْفَعُكَ الله بِهَا قُلْتُ مَا هْوَ قَالَ إذَا أوَيْتَ إلَى فِرَاشِك فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيَّ {الله لَا إلاهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِم الآيَةَ فإنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ منَ الله حافِظُ ولاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فأصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا فَعَلَ إسِيرُكَ الْبَارِحَةِ قلْتُ يَا رسولَ الله زَعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمُني كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي الله بهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ مَا هِيَ قُلْتُ قَالَ لِي إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فاقْرَأ آيَةَ الكُرْسيَّ مِنْ أوَّلِها حتَّى تَخْتِمَ الله لَا إلاه إلاَّ هُو الحَيُّ القَيُّومُ وَقَالَ لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ الله حافِظٌ ولاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وكانُوا أحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَّا أنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وهْوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لاَ قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ وَكيلا لحفظ زَكَاة رَمَضَان، وَهُوَ صَدَقَة الْفطر، وَترك شَيْئا مِنْهَا حَيْثُ سكت حِين أَخذ مِنْهَا ذَلِك الْآتِي، وَهُوَ الشَّيْطَان، فَلَمَّا أخبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك سكت عَنهُ وَهُوَ إجَازَة مِنْهُ. فَإِن قلت: من أَيْن يُسْتَفَاد جَوَاز الْإِقْرَاض إِلَى أجل مُسَمّى؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: حَيْثُ أمهله إِلَى الرّفْع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأوجه مِنْهُ مَا قَالَه الْمُهلب: إِن الطَّعَام كَانَ مجموعا للصدقة، فَلَمَّا أَخذ السَّارِق وَقَالَ لَهُ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاج وَتَركه، فَكَأَنَّهُ أسلفه ذَلِك الطَّعَام إِلَى أجل، وَهُوَ وَقت قسمته وتفرقته على الْمَسَاكِين: لأَنهم كَانُوا يجمعونه قبل الْفطر بِثَلَاثَة أَيَّام للتفرقة، فَكَأَنَّهُ أسلفه إِلَى ذَلِك الْأَجَل.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عُثْمَان بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره مِيم: وكنيته أَبُو عَمْرو الْمُؤَذّن الْبَصْرِيّ، مَاتَ قَرِيبا من سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَقد مر فِي آخر الْحَج. الثَّانِي: عَوْف، بِالْفَاءِ: الْأَعرَابِي، وَقد مر فِي الْإِيمَان. الثَّالِث: مُحَمَّد بن سِيرِين. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: أَنه ذكره هَكَذَا مُعَلّقا وَلم يُصَرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ حَتَّى زعم ابْن الْعَرَبِيّ أَنه مُنْقَطع، وَكَذَا ذكره فِي فَضَائِل الْقُرْآن وَفِي صفة إِبْلِيس. وَأخرجه النَّسَائِيّ مَوْصُولا فِي: الْيَوْم وَاللَّيْلَة، عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب عَن عُثْمَان ابْن الْهَيْثَم بِهِ، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا من حَدِيث الْحسن بن السكن، وَأَبُو نعيم من حَدِيث هِلَال بن بشر عَنهُ، وَالتِّرْمِذِيّ نَحوه من حَدِيث أبي أَيُّوب وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَصَححهُ قوم وَضَعفه آخَرُونَ. . وَفِيه: أَن عُثْمَان من مشايخه وَمن أَفْرَاده، وَقَالَ فِي كتاب اللبَاس وَفِي الْإِيمَان وَالنُّذُور: حَدثنَا عُثْمَان بن الْهَيْثَم أَو مُحَمَّد عَنهُ. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يحفظ زَكَاة رَمَضَان) ، المُرَاد بِهِ صَدَقَة الْفطر، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (آتٍ) ، أَصله: آتِي، فَاعل إعلال قاضٍ. قَوْله: (يحثو) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي: ينثر الطَّعَام فِي وعائه. قلت: يُقَال: حثا يحثو وحثى يحثي، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: وَأَعْلَى اللغتين حثى يحثي، وَكله بِمَعْنى الغرف، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل عَن أبي هُرَيْرَة: أَنه كَانَ على تمر الصَّدَقَة فَوجدَ أثر كف كَأَنَّهُ قد أَخذ مِنْهُ، وَلابْن الضريس من هَذَا الْوَجْه، فَإِذا التَّمْر قد أَخذ مِنْهُ ملْء كف. قَوْله: (فَأَخَذته) ، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل زِيَادَة وَهِي: أَن أَبَا هُرَيْرَة شكا ذَلِك إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَولا، فَقَالَ لَهُ: (إِن أردْت أَن تَأْخُذهُ فَقل: سُبْحَانَ من سخرك لمُحَمد) . قَالَ: فقلتها فَإِذا أَنا بِهِ قَائِم بَين يَدي فَأَخَذته. قَوْله: (وَالله لأرفعنك) ، أَي: لأذهبن بك أشكوك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(12/145)
ليحكم عَلَيْك بِقطع الْيَد، يُقَال: رَفعه إِلَى الْحَاكِم إِذا أحضرهُ للشكوى. قَوْله: (وَعلي عِيَال) أَي: نَفَقَة عِيَال، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . وَقيل: عَليّ، بِمَعْنى، لي، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذته لأهل بَيت فُقَرَاء من الْجِنّ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَلَا أَعُود. قَوْله: (أسيرك) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قيل لَهُ: أَسِير، لِأَنَّهُ كَانَ ربطه بسير، وَهُوَ الْحَبل، وَهَذَا عَادَة الْعَرَب، كَانُوا يربطون الْأَسير بالقد، وَقَالَ ابْن التِّين: قَول الدَّاودِيّ: إِن السّير الْحَبل من الْجلد لم يذكرهُ غَيره، وَإِنَّمَا السّير الْجلد، فَلَو كَانَ مأخوذا مِمَّا ذكره لَكَانَ تصغيره: سيير، وَلم تكن الْهمزَة: فَاء. وَفِي (الصِّحَاح) : شدَّة بالإسار وَهُوَ الْقد. قَوْله: (قد كَذبك) أَي: فِي قَوْله: إِنَّه مُحْتَاج، وَسَيَعُودُ إِلَى الْأَخْذ. قَوْله: (فرصدته) أَي: رقبته. قَوْله: (فجَاء) ، هَكَذَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: فَجعل. قَوْله: (دَعْنِي) ، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: خلِّ عني. قَوْله: (ينفعك الله بهَا) وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: إِذْ قلتهن لم يقربك ذكر وَلَا أُنْثَى من الْجِنّ، وَفِي رِوَايَة ابْن الضريس من هَذَا الْوَجْه: لَا يقربك من الْجِنّ ذكر وَلَا أُنْثَى صَغِير وَلَا كَبِير. قَوْله: (فَقلت: مَا هُوَ؟) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، أَي: الْكَلَام أَو النافع أَو الشَّيْء، وَفِي رِوَايَة غَيره: مَا هِيَ، وَهَذَا ظَاهر، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات؟ قَوْله: (إِذا أويت) ، من الثلاثي يُقَال: أَوَى إِلَى منزله إِذا أَتَى إِلَيْهِ، وآويت غَيْرِي من الْمَزِيد. قَوْله: (آيَة الْكُرْسِيّ {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيُّوم} (الْبَقَرَة: 552)) ، حَتَّى تختم الْآيَة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي: ( {الله لَا إلاه إلاَّ هُوَ الْحَيّ القيوم} (الْبَقَرَة: 552) من أَولهَا حَتَّى تختمها) ، وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل زِيَادَة، وَهِي خَاتِمَة سُورَة الْبَقَرَة. قَوْله: (لن يزَال) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لم يزل، وَوَقع لَهُم عكس ذَلِك فِي فَضَائِل الْقُرْآن. قَوْله: (من الله) أَي: من جِهَة أَمر الله، وَقدرته، أَو من بَأْس الله ونقمته، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} (الرَّعْد: 11) . قَوْله: (وَلَا يقربك) ، بِفَتْح الرَّاء وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (وَكَانُوا) ، أَي: الصَّحَابَة: (أحرص النَّاس على تعلم الْخَيْر) قيل: هَذَا مدرج من كَلَام بعض رُوَاته، قلت: هَذَا يحْتَمل، وَالظَّاهِر أَنه غير مدرج، وَلَكِن فِيهِ الْتِفَات، لِأَن مُقْتَضى الْكَلَام أَن يُقَال: وَكُنَّا أحرص شَيْء عَن الْخَيْر. قَوْله: (وَهُوَ كذوب) ، هَذَا تتميم فِي غَايَة الْحسن، لِأَنَّهُ لما أثبت الصدْق لَهُ أوهم الْمَدْح، فاستدركه بِصِيغَة تفِيد الْمُبَالغَة فِي كذبه، وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل: صدق الْخَبيث وَهُوَ كذوب، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: أَو مَا علمت أَنه كَذَلِك؟ قَوْله: (مُنْذُ ثَلَاث) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مذ ثَلَاث. قَوْله: (ذَاك شَيْطَان) ، كَذَا وَقع هُنَا بِدُونِ الْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْجَمِيع، أَي: شَيْطَان من الشَّيَاطِين. وَوَقع فِي فَضَائِل الْقُرْآن: ذَاك الشَّيْطَان، بِالْألف وَاللَّام للْعهد الذهْنِي.
وَقد وَقع مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة لِمعَاذ بن جبل، وَأبي بن كَعْب، وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَأبي أسيد الْأنْصَارِيّ، وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث معَاذ بن جبل، فقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن شَيْخه يحيى بن عُثْمَان بن صَالح بِإِسْنَادِهِ إِلَى بُرَيْدَة. قَالَ: بَلغنِي أَن معَاذ بن جبل أَخذ الشَّيْطَان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَتَيْته فَقلت: بَلغنِي أَنَّك أخذت الشَّيْطَان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: نعم، ضم إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تمر الصَّدَقَة فَجَعَلته فِي غرفَة لي، فَكنت أجد فِيهِ كل يَوْم نُقْصَانا، فشكوت ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لي: هُوَ عمل الشَّيْطَان، فارصدْه، قَالَ: فرصدته لَيْلًا، فَلَمَّا ذهب هوى من اللَّيْل أقبل على صُورَة الْفِيل، فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْبَاب دخل من خلل الْبَاب على غير صورته، فَدَنَا من التَّمْر فَجعل يلتقمه، فشددت على ثِيَابِي فتوسطته، فَقلت: أشهد أَن لَا إلاه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، يَا عَدو الله، وَثَبت إِلَى تمر الصَّدَقَة فَأَخَذته وَكَانُوا أَحَق بِهِ مِنْك؟ لأرفعنك إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيفضحك، فعاهدني أَن لَا يعود، فَغَدَوْت إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ فَقلت: عاهدني أَن لَا يعود. قَالَ: إِنَّه عَائِد، فارصده. فرصدته اللَّيْلَة الثانة، فَصنعَ مثل ذَلِك، وصنعت مثل ذَلِك، وعاهدني أَن لَا يعود، فخليت سَبيله، ثمَّ غَدَوْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبره فَإِذا مناديه يُنَادي: أَيْن معَاذ؟ فَقَالَ لي: يَا معَاذ! مَا فعل أسيرك؟ قَالَ: فَأَخْبَرته، فَقَالَ لي: إِنَّه عَائِد فارصده، فرصدته اللَّيْلَة الثَّالِثَة فَصنعَ مثل ذَلِك، وصنعت مثل ذَلِك، فَقَالَ: يَا عَدو الله عاهدتني مرَّتَيْنِ وَهَذِه الثَّالِثَة، لأرفعنك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيفضحك، فَقَالَ: إِنِّي شَيْطَان ذُو عِيَال، وَمَا أَتَيْتُك إِلَّا من نَصِيبين، وَلَو أصبت شَيْئا(12/146)
دونه مَا أَتَيْتُك، وَلَقَد كُنَّا فِي مدينتكم هَذِه حَتَّى بعث صَاحبكُم، فَلَمَّا نزل عَلَيْهِ آيتان أنفرتانا مِنْهَا، فوقعنا بنصيبين، وَلَا تقرآن فِي بَيت إلاَّ لم يلج فِيهِ الشَّيْطَان ثَلَاثًا، فَإِن خليت سبيلي علمتكهما. قلت: نعم. قَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ وخاتمة سُورَة الْبَقَرَة أَمن الرَّسُول إِلَى آخرهَا، فخليت سَبيله ثمَّ غَدَوْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبره فَإِذا مناديه يُنَادي: أَيْن معَاذ بن جبل؟ فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَ لي: مَا فعل أسيرك؟ قلت: عاهدني أَن لَا يعود، وأخبرته بِمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق الْخَبيث وَهُوَ كذوب. قَالَ: فَكنت أقرؤهما عَلَيْهِ بعد ذَلِك فَلَا أجد فِيهِ نُقْصَانا.
وَأما حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فقد رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي: حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي حَدثنَا مُبشر عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عَبدة بن أبي لبَابَة عَن عبد الله ابْن أبي بن كَعْب أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَنه: كَانَ لَهُ جرن فِيهِ تمر، فَكَانَ يتعاهده فَوَجَدَهُ ينقص، قَالَ: فحرسه ذَات لَيْلَة فَإِذا هُوَ بِدَابَّة شبه الْغُلَام المحتلم، قَالَ: فَسلمت فَرد عَليّ السَّلَام، قَالَ: فَقلت: أَنْت جني أم أنسي؟ قَالَ: جني. قَالَ: قلت: ناولني يدك. قَالَ: فناولني فَإِذا يَده يَد كلب وَشعر كلب، فَقلت: هَكَذَا خلق الْجِنّ؟ قَالَ: لقد علمت الْجِنّ مَا فيهم أَشد مني. قلت: فَمَا حملك على مَا صنعت؟ قَالَ: بَلغنِي أَنَّك رجل تحب الصَّدَقَة فأحببنا أَن نصيب من طَعَامك. قَالَ فَقَالَ لَهُ أبي: فَمَا الَّذِي يجيرنا مِنْكُم؟ قَالَ: هَذِه الْآيَة، آيَة الْكُرْسِيّ، ثمَّ غَدا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق الْخَبيث) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) ، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم.
وَأما حَدِيث أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي (فَضَائِل الْقُرْآن) : (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن ابْن أبي ليلى عَن أَخِيه عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَنه كَانَت لَهُ سهوة فِيهَا تمر، فَكَانَت تَجِيء فتأخذ مِنْهُ الغول، قَالَ: فَشَكا ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إذهب فَإِذا رَأَيْتهَا فَقل: بِسم الله، أجيبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَخذهَا فَحَلَفت أَن لَا تعود، فأرسلها فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ قَالَ: حَلَفت أَن لَا تعود، فَقَالَ: كذبت وَهِي معاودة للكذب. قَالَ: فَأَخذهَا مرّة أُخْرَى فَحَلَفت أَن لَا تعود، فأرسلها، فجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ قَالَ: حَلَفت أَن لَا تعود. فَقَالَ: كذبت وَهِي معاودة للكذب، فَأَخذهَا فَقَالَ: مَا أَنا بتاركك حَتَّى أذهب بك إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: إِنِّي ذاكرة لَك شَيْئا، آيَة الْكُرْسِيّ اقرأها فِي بَيْتك فَلَا يقربك شَيْطَان وَلَا غَيره، فجَاء إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ فَأخْبرهُ بِمَا قَالَت. قَالَ: صدقت وَهِي كذوب) ، وَهَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
وَأما حَدِيث أَبُو سعيد الْأنْصَارِيّ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مَالك بن حَمْزَة بن أبي أسيد عَن أَبِيه عَن جده أبي أسيد السَّاعِدِيّ الخزرجي، وَله بِئْر فِي الْمَدِينَة، يُقَال لَهَا: بِئْر بضَاعَة، قد بَصق فِيهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهِيَ ينشر بهَا ويتيمن بهَا، قَالَ: فَقطع أَبُو أسيد تمر حَائِطه فَجَعلهَا فِي غرفَة، وَكَانَت الغول تخَالفه إِلَى مشْربَته فتسرق تمره وتفسده عَلَيْهِ، فَشَكا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا قَالَ تِلْكَ الغول: يَا أَبَا أسيد، فاستمع عَلَيْهَا، فَإِذا سَمِعت اقتحامها، فَقل: بِسم الله أجيبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت الغول: يَا أَبَا أسيد اعفني أَن تكلفني أَن أذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأعطيك موثقًا من الله أَن لَا أخالفك إِلَى بَيْتك وَلَا أسرق تمرك، وأدلك على آيَة تقرؤها فِي بَيْتك فَلَا تخَالف إِلَى أهلك، وتقرؤها على إنائك وَلَا تكشف غطاءه، فَأعْطَاهُ الموثق الَّذِي رَضِي بِهِ مِنْهَا، فَقَالَت: الْآيَة الَّتِي أدلك عَلَيْهَا آيَة الْكُرْسِيّ، ثمَّ حكت أستها تضرط، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة حَيْثُ ولت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صدقت وَهِي كذوب) .
وَأما حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا، وَفِيه: أَنه خرج إِلَى حَائِطه فَسمع جلبة فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ رجل من الْجِنّ: أصابتنا السّنة فَأَرَدْت أَن أُصِيب من ثماركم. قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي يعيذنا مِنْكُم؟ قَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ.
قَوْله: (جرن) ، بِضَمَّتَيْنِ جمع: جرين، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء، وَهُوَ مَوضِع تحفيف التَّمْر. قَوْله: (سهوة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْوَاو، وَهِي: الطاق فِي الْحَائِط يوضع فِيهَا الشَّيْء، وَقيل: هِيَ الصّفة، وَقيل: المخدع بَين الْبَيْتَيْنِ، وَقيل: هِيَ شَبيه بالرف، وَقيل: بَيت صَغِير كالخزانة الصَّغِيرَة. قَوْله: (الغول) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ شَيْطَان يَأْكُل النَّاس، وَقيل: هُوَ من يَتلون من الْجِنّ. قَوْله: (أَبُو أسيد) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين، واسْمه: مَالك بن ربيعَة. قَوْله: (ينشر بهَا) من النشرة، وَهِي ضرب من الرّقية والعلاج يعالج بِهِ من كَانَ يظنّ أَن بِهِ مسا من الْجِنّ، سميت نشرة لِأَنَّهُ ينشر بهَا عَنهُ مَا خامره من(12/147)
الدَّاء أَي: يكْشف ويزال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن السَّارِق لَا يقطع فِي مجاعَة، وَأَنه يجوز أَن يُعْفَى عَنهُ قبل أَن يبلغ الإِمَام. وَفِيه: أَن الشَّيْطَان قد يعلم علما ينْتَفع بِهِ إِذا صدق. وَفِيه: أَن الكذوب قد يصدق مَعَ الندرة. وَفِيه: عَلَامَات النُّبُوَّة لقَوْله: مَا فعل أسيرك البارحة. وَفِيه: تَفْسِير لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) . يَعْنِي: الشَّيَاطِين، إِن المُرَاد بذلك مَا هم عَلَيْهِ من خلقهمْ الروحانية، فَإِذا استحضروا فِي صُورَة الْأَجْسَام المدركة بِالْعينِ جَازَت رُؤْيَتهمْ، كَمَا شخص الشَّيْطَان لأبي هُرَيْرَة فِي صُورَة سَارِق. وَفِيه: أَن الْجِنّ يَأْكُلُون الطَّعَام، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سَأَلُونِي الزَّاد) . وَقَالَ ابْن التِّين: وَفِي شعر الْعَرَب أَنهم لَا يَأْكُلُون. وَفِيه: ظُهُور الْجِنّ وتكلمهم بِكَلَام الْإِنْس. وَفِيه: قبُول عذر السَّارِق. وَفِيه: وَعِيد أبي هُرَيْرَة بِرَفْعِهِ إِلَيْهِ وخدعة الشَّيْطَان. وَفِيه: فِي الثَّالِثَة بَلَاغ فِي الْإِعْذَار. وَفِيه: فضل آيَة الْكُرْسِيّ. وَفِيه: أَن للشَّيْطَان نَصِيبا مِمَّن ترك ذكر الله تَعَالَى عِنْد الْمَنَام. وَفِيه: أَن من أقيم فِي حفظ شَيْء يُسمى وَكيلا. وَفِيه: أَن الْجِنّ تسرق وتخدع. وَفِيه: جَوَاز جمع زَكَاة الْفطر قبل لَيْلَة الْفطر، وتوكيل الْبَعْض لحفظها وتفرقتها. وَفِيه: جَوَاز تعلم الْعلم مِمَّن لم يعْمل بِعِلْمِهِ.
11 - (بابٌ إذَا باعَ الوَكِيلُ شَيْئاً فاسِداً فَبَيعُهُ مَرْدُودٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا بَاعَ الْوَكِيل شَيْئا من الْأَشْيَاء الَّتِي وكل فِيهَا بيعا فَاسِدا فبيعه مَرْدُود.
2132 - حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ صَالِحٍ قَالَ حَدثنَا مُعَاوِيَةُ هوَ ابنُ سَلاَّمٍ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بنَ عبدِ الْغافِرِ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ جاءَ بِلالٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أيْنَ هَذَا قَالَ بِلالٌ كانَ عِنْدَنا تَمرٌ رَدِيءٌ فبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصاعٍ لِنُطْعِمَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ ذَلِكَ أوَّهُ أوهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبا لاَ تَفْعَلْ ولَكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْع آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (عين الرِّبَا لَا تفعل) لِأَن من الْمَعْلُوم أَن بيع الرِّبَا مِمَّا يجب رده. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِالرَّدِّ، بل فِيهِ إِشْعَار بِهِ، وَلَعَلَّه أَشَارَ بذلك إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه، فَعِنْدَ مُسلم من طَرِيق أبي نَضرة عَن أبي سعيد فِي نَحْو هَذِه الْقِصَّة فَقَالَ: هَذَا الرِّبَا فَردُّوهُ. انْتهى. قلت: الَّذِي يعلم بِالرَّدِّ من الحَدِيث فَوق الْعلم بتصريح الرَّد، لِأَن فِيهِ الرَّد بِمرَّة وَاحِدَة، وَالْمَفْهُوم من متن الحَدِيث بمرات. الأولى: قَوْله: (أوه أوه) ، بالتكرار، وَالثَّانِي: قَوْله: (عين الرِّبَا) ، وَالثَّالِثَة: قَوْله: (لَا تفعل) ، وَالرَّابِعَة: قَوْله: (وَلَكِن) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق، اخْتلف فِيهِ، فَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: إِسْحَاق هَذَا لم ينْسبهُ أحد من شُيُوخنَا فِيمَا بَلغنِي، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون إِسْحَاق بن مَنْصُور، فقد روى مُسلم عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور عَن يحيى بن صَالح هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ بَعضهم: وَجزم أَبُو عَليّ الجياني بِأَنَّهُ ابْن مَنْصُور. قلت: من أَيْن هَذَا الْجَزْم من أبي عَليّ الجياني؟ بل قَوْله يدل على أَنه مُتَرَدّد فِيهِ لقَوْله: وَيُشبه أَن يكون إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَلَا يلْزم من إِخْرَاج مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يحيى بن صَالح هَذَا الحَدِيث أَن يكون رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا كَذَلِك. الثَّانِي: يحيى ابْن صَالح أَبُو زَكَرِيَّا الوحاظي، ووحاظ بطن من حمير. الثَّالِث: مُعَاوِيَة بن سَلام، بتَشْديد اللَّام: أَبُو سَلام. الرَّابِع: يحيى ابْن أبي كثير، وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف: ابْن عبد الغافر العوذي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالذال الْمُعْجَمَة، قتل فِي الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعد بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(12/148)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ ابْن رَاهَوَيْه فَهُوَ مروزي سكن نيسابور، وَإِن كَانَ ابْن مَنْصُور فَهُوَ أَيْضا مروزي انْتقل بآخرة إِلَى نيسابور، وَيحيى بن صَالح حمصي وَمُعَاوِيَة بن سَلام الحبشي الْأسود، وَيحيى بن أبي كثير يمامي طائي. وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر غير مَنْسُوب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هِشَام بن عمار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (برني) ، بِفَتْح الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر النُّون بعْدهَا يَاء مُشَدّدَة: وَهُوَ ضرب من التَّمْر أصفر مدور، وَهُوَ أَجود التمور، قَالَه صَاحب (الْمُحكم) : قَالَ بَعضهم: قيل لَهُ ذَلِك لِأَن كل تَمْرَة تشبه البرنية. قلت: كَلَامه يشْعر أَن الْيَاء فِيهِ للنسبة، وَلَيْسَت الْيَاء فِيهِ للنسبة، فَكَأَنَّهُ مَوْضُوع، هَكَذَا مثل كرْسِي وَنَحْوه. قَوْله: (كَانَ عندنَا) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: كَانَ عِنْدِي. قَوْله: (رَدِيء) ، قَالَ بَعضهم: رَدِيء، بِالْهَمْزَةِ على وزن: عَظِيم. قلت: نعم هُوَ مَهْمُوز اللَّام من: ردىء الشَّيْء يردأ رداءة، فَهُوَ رَدِيء، أَي: فَاسد، وأردأته أَي: أفسدته، وَلَكِن لما كثر اسْتِعْمَاله حسن فِيهِ التَّخْفِيف بِأَن قلبت الْهمزَة يَاء لانكسار مَا قبلهَا وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَت: رديّ بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (لنطعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: لأجل أَن نطعم، وَاللَّام فِيهِ مَكْسُورَة وَالنُّون مَضْمُومَة من الْإِطْعَام، وَلَفظ النَّبِي مَنْصُوب بِهِ، هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: ليطعم، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْعين من: طعم يطعم، وَلَفظ النَّبِي مَرْفُوع بِهِ. قَوْله: (عِنْد ذَلِك) ، أَي: عِنْد قَول بِلَال. قَوْله: (أوه) مرَّتَيْنِ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْوَاو وَسُكُون الْهَاء، وَهِي كلمة تقال عِنْد الشكاية والحزن. وَقَالَ ابْن قرقول: بِالْقصرِ وَالتَّشْدِيد وَسُكُون الْهَاء، وَكَذَا روينَاهُ، وَقيل: بِمد الْهمزَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقد يُقَال بِالْمدِّ لتطويل الصَّوْت بالشكاية، وَقيل بِسُكُون الْوَاو وَكسر الْهَاء، وَمن الْعَرَب من يمد الْهمزَة وَيجْعَل بعْدهَا واوين: آووه، وَكله بِمَعْنى: التحزن، وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا تأوه ليَكُون أبلغ فِي الزّجر، وَقَالَهُ إِمَّا للتألم من هَذَا الْفِعْل، وَإِمَّا من سوء الْفَهم. قَوْله: (عين الرِّبَا) ، بالتكرار أَيْضا أَي: هَذَا البيع نفس الرِّبَا حَقِيقَة، وَوَقع فِي مُسلم مرّة وَاحِدَة. قَوْله: (وَلَكِن إِذا أردْت أَن تشتري) ، أَي: أَن تشتري التَّمْر الْجيد. قَوْله: (فبع التَّمْر) ، أَي: فبع التَّمْر الرَّدِيء بِبيع آخر، أَي: بِبيع شَيْء آخر، بِأَن تبيعه بحنطة أَو شعير مثلا. قَوْله: (ثمَّ اشتره) ، أَي: ثمَّ اشْتَرِ التَّمْر الْجيد، ويروى: ثمَّ اشْتَرِ بِهِ، أَي: بِثمن الرَّدِيء، فعلى هَذِه الرِّوَايَة مفعول: اشترِ مَحْذُوف تَقْدِيره: ثمَّ اشْتَرِ الْجيد بِثمن الرَّدِيء، وَيدل على مَا قُلْنَاهُ مَا قد رُوِيَ عَن بِلَال فِي هَذَا الْخَبَر: انْطلق فَرده على صَاحبه وَخذ تمرك وبعه بحنطة أَو شعير ثمَّ اشْتَرِ بِهِ من هَذَا التَّمْر، ثمَّ جئني بِهِ، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن بِلَال، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَلَكِن إِذا أردْت أَن تشتري التَّمْر فبعه بِبيع آخر ثمَّ اشترِه، أَي: إِذا أردْت أَن تشتري التَّمْر الْجيد فبع التَّمْر الرَّدِيء بِبيع آخر ثمَّ اشْتَرِ الْجيد، وَبَين التركيبين مُغَايرَة ظَاهرا، وَلَكِن فِي الْحَقِيقَة يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن لَا يَشْتَرِي الْجيد بِضعْف الرَّدِيء، بل إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِي الْجيد يَبِيع ذَلِك الردي، بِشَيْء، وَيَأْخُذ ثمنه، ثمَّ يَشْتَرِي بِهِ التَّمْر الْجيد، حَتَّى لَا يَقع الرِّبَا فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابه الْكَرِيم: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الربوا} . إِلَى قَوْله: {فلكم من رُؤُوس أَمْوَالكُم} (الْأَعْرَاف: 72) . قد أَمر الله برد عقد الرِّبَا، ورد رَأس المَال وَلَا خلاف أَيْضا أَن من بَاعَ بيعا فَاسِدا أَن بَيْعه مَرْدُود.
واستفيد من حَدِيث الْبَاب حُرْمَة الرِّبَا وَعظم أمره، وَقد تقدم الْبَحْث فِيهِ فِي: بَاب مَا إِذا أَرَادَ بيع تمر بِتَمْر خير مِنْهُ، وَهُوَ فِي كتاب الْبيُوع.
21 - (بابُ الوَكالَةِ فِي الوَقْفِ ونَفَقَتِهِ وأنْ يُطْعِمَ صَدِيقا لَهُ ويَأكُلَ بالمَعْرُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي الْوَقْف. قَوْله: (وَنَفَقَته) أَي: نَفَقَة الْوَكِيل، يدل عَلَيْهِ لفظ الْوكَالَة. قَوْله: (وَأَن يطعم) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: وإطعام الْوَكِيل صديقه من مَال الْوَقْف الَّذِي هُوَ وَكيل فِيهِ. قَوْله: (وَيَأْكُل) أَي: الْوَكِيل (بِالْمَعْرُوفِ) يَعْنِي: بِمَا يتعارفه الوكلاء فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حبس نَفسه لتصرف مُوكله وَالْقِيَام بأَمْره قِيَاسا على ولي الْيَتِيم؟ قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ:(12/149)
{وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (النِّسَاء: 6) . فَهَذَا مُبَاح عِنْد الْحَاجة، وَالْوَقْف كَذَلِك، وَلَيْسَ هَذَا مثل من اؤتمن على مَال غَيره لغير الصَّدَقَة فَأعْطى مِنْهُ فَقِيرا بِغَيْر إِذن ربه، فَإِنَّهُ لَا يجوز ذَلِك بِالْإِجْمَاع.
3132 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ فِي صدَقَةِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَيْسَ علَى الوَلِيِّ جُناحٌ أَن يأكُلَ ويُؤْكِلَ صَدِيقاً غَيْرَ مُتَأثِّلٍ فكانَ ابنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ يُهْدِي لِلنَّاسِ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة تَتَضَمَّن أَرْبَعَة أَشْيَاء، والْحَدِيث يشملها، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة الْمَكِّيّ وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار الْمَكِّيّ.
قَوْله: (قَالَ فِي صَدَقَة عمر) إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله: صَدَقَة، بِالتَّنْوِينِ، وَعمر، فَاعل، هَذَا على سَبِيل الْإِرْسَال، إِذْ هُوَ لم يدْرك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي بَعْضهَا: صَدَقَة عمر، بِالْإِضَافَة، وَفِي بَعْضهَا: عَمْرو، بِالْوَاو، فالقائل بِهِ هُوَ ابْن دِينَار، أَي: قَالَ ابْن دِينَار فِي الْوَقْف الْعمريّ ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم فِي صَدَقَة عمر، أَي: فِي رِوَايَته لَهَا عَن ابْن عمر كَمَا جزم بذلك الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) . قلت: لم يذكر الْمزي هَذَا فِي الْأَطْرَاف) أصلا، وَإِنَّمَا قَالَ بعد الْعَلامَة بِحرف الْخَاء الْمُعْجَمَة: حَدِيث عَمْرو بن دِينَار ... إِلَى آخِره، مَا ذكره البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: مَوْقُوف، وَالصَّوَاب الْمُحَقق مَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدره هَذَا الْقَائِل خلاف الأَصْل، وَلَا ثمَّة دَاع يَدعُوهُ إِلَى ذَلِك، وَقَوله، ويوضحه رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عمر: لَا يسْتَلْزم مَا ذكره من التَّقْدِير الْمَذْكُور بالتعسف. قَوْله: (لَيْسَ على الْوَلِيّ) أَي: الَّذِي يتَوَلَّى أَمر الْوَقْف، قَوْله: (جنَاح) أَي: إِثْم، قَوْله: (أَن يَأْكُل) ، أَي: بِأَن يَأْكُل مِنْهُ. قَوْله: (أَو يُؤْكَل) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْكَاف، وَهُوَ من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ. قَوْله: (صديقا) ، نصب على أَنه مفعول: يُؤْكَل. قَوْله: (لَهُ) ، أَي: للوالي، وَهُوَ جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: صديقا، قَوْله: (غير متاثل) ، نصب على الْحَال من بَاب التفعل، بِالتَّشْدِيدِ، أَي: غير جَامع، يُقَال: مَال مؤثل، ومجد مؤثل أَي: مَجْمُوع ذُو أصل، وَاثِلَة الشَّيْء أَصله، فالمتأثل من يجمع مَالا ويجعله أَلا. قَوْله: (مَالا) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (فَكَانَ) ، أَي: ابْن عمر إِلَى آخِره، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمزي أَنه مَوْقُوف، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قلت: قد ذكرنَا أَن الْكرْمَانِي صرح بِأَنَّهُ مُرْسل، فَكيف يكون الْمَعْطُوف على الْمُرْسل مَوْصُولا؟ قَوْله: (يهدي) ، بِضَم الْيَاء من الإهداء. قَوْله: (للنَّاس) ، ويروى: لناس بِدُونِ الْألف، وَاللَّام. قَوْله: (كَانَ) أَي: ابْن عمر: (ينزل عَلَيْهِم) أَي: على النَّاس، وَهَذِه الْجُمْلَة حَال بِتَقْدِير: قد، كَمَا فِي قَوْله: {أوجاؤكم حصرت} (النِّسَاء: 09) . أَي: قد حصرت.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز أكل الْوَلِيّ على الْوَقْف وإيكاله غَيره بِالْمَعْرُوفِ، وَقد أَخذ هَذَا من قَوْله تَعَالَى: {وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (النِّسَاء: 09) . وَهَذَا فِي مَال الْيَتِيم، وَفِي مَال الْوَقْف أَهْون من ذَلِك، وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا مُبَاح عِنْد الْحَاجة، وَهَذَا سنة الْوَقْف: أَن يَأْكُل مِنْهُ الْوَلِيّ ويؤكل لِأَن الْحَبْس لهَذَا حبس. وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ: أَن النَّاس فِي أوقافهم على شروطهم، وأهداه ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا للشّرط الَّذِي فِي الْوَقْف أَن يُؤْكَل صديقا لَهُ، وَالْآخر: أَنه كَانَ ينزل على الَّذين يهدى إِلَيْهِم مُكَافَأَة عَن طعامهم، فَكَأَنَّهُ هُوَ أكله. وَفِيه: الاستضافة ومكافأة الضَّيْف، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مستقصىً فِي كتاب الْوَقْف، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
31 - (بابُ الوَكالَة فِي الحُدودِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي إِقَامَة الْحُدُود.
4132
- 5132 حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ أخبرنَا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ وَأبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ واغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأةِ هذَا فإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا ...(12/150)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أغد يَا أنيس) إِلَى آخِره، فَإِن أمره بذلك تَفْوِيض لَهُ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة، وَزيد بن خَالِد يكنى أَبَا طَلْحَة الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع فِي الندور وَفِي الْمُحَاربين وَفِي الصُّلْح وَفِي الْأَحْكَام وَفِي الشُّرُوط وَفِي الِاعْتِصَام وَفِي خبر الْوَاحِد وَفِي الشَّهَادَات. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن قُتَيْبَة وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن أبي الطَّاهِر وحرملة وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى وَعَن نصر بن عَليّ وَغير وَاحِد كلهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي الرَّجْم عَن قُتَيْبَة وَفِي الْقَضَاء والشروط عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَفِي الرَّجْم عَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن عبد الْعَزِيز بن سَلمَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحُدُود من أبي بكر بن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ: واغد يَا أنيس) ، طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه فِي كتاب الْمُحَاربين فِي: بَاب الِاعْتِرَاف بِالزِّنَا، حَدثنَا عَليّ بن عبد الله أخبرنَا سُفْيَان، قَالَ: حفظناه من الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد الله أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة وَزيد ابْن خَالِد، قَالَ: كُنَّا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ رجل فَقَالَ: أنْشدك الله إلاَّ قضيت بَيْننَا بِكِتَاب الله، فَقَامَ خَصمه وَكَانَ أفقه مِنْهُ، فَقَالَ: اقْضِ بَيْننَا بِكِتَاب الله وإيذن لي، قَالَ: قل. قَالَ: إِن ابْني كَانَ عسيفاً على هَذَا فزنى بامرأته، فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَة شَاة وخادم، ثمَّ سَأَلت أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَن على ابْني جلد مائَة وتغريب عَام، وعَلى امْرَأَته الرَّجْم. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله، جلّ ذكره: الْمِائَة شَاة وَالْخَادِم مَرْدُود، وعَلى ابْنك جلد مائَة وتغريب عَام، وأغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت فارجمها. فغدا عَلَيْهَا فَاعْترفت فرجمها ... الحَدِيث، وَذكر هُنَا هَذِه الْقطعَة لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة. قَوْله: (واغدُ) أَمر من: غَدا يَغْدُو، وبالغين الْمُعْجَمَة من الغدو، وَهُوَ الذّهاب وَهُوَ عطف على مَا تقدم عَلَيْهِ فِي الحَدِيث. قَوْله: (يَا أنيس) تَصْغِير أنس، وَهُوَ أنيس بن الضَّحَّاك الْأَسْلَمِيّ، وَيُقَال: مكبرا، ذكر لَهُ عمر حَدِيثا، وَإِنَّمَا خصّه من بَين الصَّحَابَة قصدا إِلَى أَنه لَا يُؤمر فِي الْقَبِيلَة إلاَّ رجل مِنْهُم لنفورهم عَن حكم غَيرهم، وَكَانَت الْمَرْأَة أسلمية.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْوكَالَة فِي الْحُدُود وَالْقصاص، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف إِلَى أَنه لَا يجوز قبُولهَا فِي ذَلِك، وَلَا يُقَام الْحَد وَالْقصاص حَتَّى يحضر الْمُدَّعِي، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَجَمَاعَة: تقبل الْوكَالَة فِي ذَلِك، وَقَالُوا: لَا فرق بَين الْحُدُود وَالْقصاص والديون إلاَّ أَن يَدعِي الْخصم أَن صَاحبه قد عَفا عَنهُ فتوقف عَن النّظر فِيهِ حَتَّى يحضر.
6132 - حدَّثنا ابنُ سَلاَّمٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عنْ أيُّوبَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَة عنْ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ قالَ جِيءَ بالنُّعَيْمَانِ أَو ابنِ النُّعَيْمانِ أَو ابنِ النُّعَيْمَانِ شارِباً فأمرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ كانَ فِي البَيْتِ أنْ يَضْرِبوا قَالَ فكُنتُ أَنا فِيمَنْ ضَرَبَهُ فضَرَبناهُ بالنِّعالَ والجَرِيدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمر من كَانَ فِي الْبَيْت أَن يضربوه) ، لِأَن الإِمَام إِذا لم يتول إِقَامَة الْحَد بِنَفسِهِ وَولى غَيره كَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّوْكِيل.
وَرِجَاله: مُحَمَّد بن سَلام، قَالَ الْكرْمَانِي: الصَّحِيح البيكندي البُخَارِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَابْن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، وَعقبَة بن الْحَارِث بن عَامر الْقرشِي النَّوْفَلِي الْمَكِّيّ، لَهُ صُحْبَة، أسلم يَوْم فتح مَكَّة، روى لَهُ البُخَارِيّ ثَلَاثَة أَحَادِيث.
قَوْله: (بالنعيمان) ، بِالتَّصْغِيرِ. قَوْله: (أَو بِابْن النعيمان) ، شكّ من الرَّاوِي، وَوَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَة: جِيءَ بنعمان أَو نعيمان، فَشك هَل هُوَ بِالتَّكْبِيرِ أَو التصغير، وَفِي رِوَايَة: بالنعيمان، بِغَيْر شكّ، وَوَقع عِنْد الزبير بن بكار فِي النّسَب من طَرِيق أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجل يُقَال لَهُ النعيمان، يُصِيب الشَّرَاب ... فَذكر الحَدِيث نَحوه، وروى ابْن مَنْدَه من حَدِيث مَرْوَان بن قيس السّلمِيّ من صحابة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(12/151)
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مر بِرَجُل سَكرَان يُقَال لَهُ نعيمان، فَأمر بِهِ فَضرب ... الحَدِيث، وَهُوَ: النعيمان بن عَمْرو بن رِفَاعَة بن الْحَارِث بن سَواد بن مَالك بن غنم بن مَالك بن النجار الْأنْصَارِيّ الَّذِي شهد بَدْرًا، وَكَانَ مزاحا وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه كَانَ رجلا صَالحا، وَأَن الَّذِي حَده النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ ابْنه. قَوْله: (شارباً) ، حَال، يَعْنِي: متصفاً بالشرب، لِأَنَّهُ حِين جِيءَ بِهِ لم يكن شارباً حَقِيقَة، بل كَانَ سَكرَان، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الْحُدُود، وَهُوَ سَكرَان، وَزَاد عَلَيْهِ: فشق عَلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن حد الشّرْب أخف الْحُدُود، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه: أَن حد الْخمر لَا يستأنى فِيهِ الْإِقَامَة كَحَد الْحَامِل لتَضَع الْحمل. وَفِيه: إِقَامَة الْحُدُود وَالضَّرْب بالنعال والجريد، وَكَانَ ذَلِك فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رتبه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثَمَانِينَ.
41 - (بَاب الوَكالَةِ فِي الْبُدْنِ وتَعاهُدِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي أَمر الْبدن الَّتِي تهدى، وَهُوَ بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: بَدَنَة. قَوْله: (وتعاهدها) أَي: وَفِي بَيَان تعاهد الْبدن، وَهُوَ افتقاد أمرهَا.
7132 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عبْدِ الله قَالَ حدَّثَنِي مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بن أبِي بَكْرِ بنِ حَزْم عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّها أخبَرَتْهُ قَالَت عائِشةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنا فتَلْتُ قَلائِدَ هَدْي رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدَيَّ ثُمَّ قلَّدَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدَيْهِ ثُمَّ بعَثَ بِها معَ أبِي فلَمْ يَحْرُمْ على رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْءٌ أحَلَّهُ الله لَهُ حَتَّى نحِرَ الهدْيُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي كلا جزأيها ظَاهِرَة، أما فِي الْجُزْء الأول وَهُوَ قَوْله: (ثمَّ بعث بهَا مَعَ أبي) فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فوض أمرهَا لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين بعث بهَا. وَأما فِي الثَّانِي، وَهُوَ قَوْله: (قلدها بيدَيْهِ) ، لِأَنَّهُ تعاهد مِنْهُ فِي ذَلِك. وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس الْمدنِي، ابْن أُخْت مَالك بن أنس. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب من قلد القلائد بِيَدِهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره، بأتم مِنْهُ وأطول، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
51 - (بابٌ إِذا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ ضعْهُ حَيْث أرَاكَ الله وَقَالَ الوَكِيلُ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ الرجل لوَكِيله الَّذِي وَكله: ضع الشَّيْء الْفُلَانِيّ حَيْثُ أَرَاك الله، يَعْنِي فِي أَي مَوضِع شِئْت. وَقَالَ الْوَكِيل: قد سَمِعت مَا قلت لي وَوَضعه حَيْثُ أَرَادَ، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، يَعْنِي: جَازَ هَذَا الْأَمر.
8132 - حدَّثني يَحْيَى بنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأتُ علَى مالِكٍ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يقُولُ كانَ أبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأنْصَارِ بالمَدِينَةِ مَالا وكانَ أحَبَّ أمْوالِهِ إلَيْهِ بِيرُحاءَ وَكَانَت مُستَقْبِلَةَ المَسْجِدِ وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُها ويَشْرَبُ من ماءٍ فِيها طَيِّبٍ فلمَّا نَزَلَتْ لَنْ تَنالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مَمَّا تُحِبُّونَ قامَ أبُو طَلْحَةَ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ يَا رسولَ الله إنَّ الله تعَالى يَقولُ فِي كِتَابِهِ لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مَمَّا تُحِبُّونَ وإنَّ أحَبَ أمْوالِي إلَيَّ بِيرَحَاءَ وإنَّهَا صَدَقَةٌ لله أرْجُو بِرَّها وذَخْرَها عِنْدَ الله فَضَعْهَا يَا رسولَ الله(12/152)
حَيْثُ شِئْتَ فَقَالَ بَخٍ ذلِكَ مالٌ رَائِحٌ قدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيها وأرَى أنْ تَجْعَلَها فِي الأقْرَبِينَ قَالَ أفْعَلُ يَا رسولَ الله فَقَسَمَهَا أبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّه. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول أبي طَلْحَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّهَا صَدَقَة فضعها يَا رَسُول الله حَيْثُ شِئْت، فَإِنَّهُ لم يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك، وَإِن كَانَ مَا وَضعهَا بِنَفسِهِ بل أمره أَن يَضَعهَا فِي الْأَقْرَبين، وَيفهم مِنْهُ أَن الْوكَالَة لَا تتمّ إلاَّ بِالْقبُولِ، أَلا ترى أَن أَبَا طَلْحَة قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ضعها يَا رَسُول الله حَيْثُ شِئْت! فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يَجْعَلهَا فِي الْأَقْرَبين، بعد أَن قَالَ: قد سَمِعت مَا قلت فِيهَا، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه هُنَا: عَن يحيى بن يحيى بن بكر بن زِيَاد التَّمِيمِي الْحَنْظَلِي شيخ مُسلم أَيْضا، مَاتَ يَوْم الْأَرْبَعَاء سلخ صفر سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رائج) ، بِالْجِيم: من الرواج، وَقيل: بِالْحَاء، وَقيل: بِالْبَاء الْمُوَحدَة.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: دُخُول الشَّارِع حَوَائِط أَصْحَابه وشربه من المَاء العذب. وَفِيه: رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى.
تابَعَهُ إسْماعِيلُ عنْ مالِكٍ
يَعْنِي: تَابع يحيى بن يحيى إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن أنس، وَسَيَأْتِي مَوْصُولا فِي تَفْسِير آل عمرَان.
وَقَالَ روْحٌ عنْ مالِكٍ رابِحٌ
يَعْنِي: قَالَ روح بن عبَادَة فِي رِوَايَته عَن مَالك: رابح، بِالْبَاء الْمُوَحدَة من الرِّبْح، وَقد ذكرنَا الْآن أَن فِيهِ ثَلَاث رِوَايَات.
61 - (بابُ وَكالةِ الأمِينِ فِي الخِزَانَةِ ونَحْوِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وكَالَة الرجل الْأمين فِي الخزانة وَنَحْوهَا.
9132 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَازِنُ الأمِينُ الَّذِي يُنْفِقُ ورُبَّمَا قَالَ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كامِلاً مُوَفَّرا طَيِّبٌ نَفْسُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ بِهِ أحَدُ المُتَصَدِّقِينِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الخازن الْأمين مفوض إِلَيْهِ الْإِنْفَاق والإعطاء بِحَسب أَمر الْآمِر بِهِ، وَمُحَمّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب الْهَمدَانِي الْكُوفِي شيخ مُسلم أَيْضا، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَبُو بردة كَذَلِك بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه عَامر، وَقيل: الْحَارِث بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَاسم أبي مُوسَى: عبد الله بن قيس، والْحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب أجر الْخَادِم، بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن بعينهما، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
بِسم الله الرحمان
(كتاب المُزَارَعَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمُزَارعَة، وَهِي مفاعلة من الزَّرْع، والزراعة هِيَ الْحَرْث والفلاحة، وَتسَمى: مخابرة ومحاقلة، ويسميها أهل الْعرَاق: القراح، وَفِي الْمغرب: القراح من الأَرْض كل قِطْعَة على حيالها لَيْسَ فِيهَا شجر وَلَا شائب سبخ، وَتجمع على: أقرحة، كمكان وأمكنة. وَفِي الشَّرْع: الْمُزَارعَة عقد على زرع بِبَعْض الْخَارِج، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: كتاب الْحَرْث، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْحَرْث والزراعة.
1 - (بابُ فَضْلِ الزَّرْعِ والْغِرْسِ إذَا اكِلَ مِنه)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الزِّرَاعَة وغرس الْأَشْجَار إِذا أكل مِنْهُ، أَي: من كل وَاحِد من الزَّرْع وَالْغَرْس، وَهَذَا الْقَيْد لَا بُد مِنْهُ(12/153)
لحُصُول الْأجر، وَهَذِه التَّرْجَمَة كَذَا هِيَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ والكشميهني بعد قَوْله: كتاب الْمُزَارعَة، إلاَّ أَنَّهُمَا أخرا الْبَسْمَلَة عَن كتاب الْمُزَارعَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَرْث والمزارعة، وَفضل الزَّرْع، وَلم يذكر فِيهِ كتاب الْمُزَارعَة، قيل: هُوَ للأصيلي وكريمة.
وقَوْلِهِ تعالَى: {أفَرَأيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما} (الْوَاقِعَة: 36، 56) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فضل الزَّرْع، وَذكر هَذِه الْآيَة لاشتمالها على الْحَرْث وَالزَّرْع، وَأَيْضًا تدل على إِبَاحَة الزَّرْع من جِهَة الامتنان بِهِ، وفيهَا وَفِي الْآيَات الَّتِي قبلهَا رد وتبكيت على الْمُشْركين الَّذين قَالُوا: نَحن موجودون من نُطْفَة حدثت بحرارة كائنة، وأنكروا الْبَعْث والنشور بِأُمُور ذكرت فِيهَا، من جُمْلَتهَا قَوْله: أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ؟ أَي تثيرون فِي الأَرْض وتعملون فِيهَا وتطرحون البذار، أأنتم تزرعونه أَي تنبتونه وتردونه نباتاً ينمي إِلَى أَن يبلغ الْغَايَة. قَوْله تَعَالَى: {لَو نشَاء لجعلناه حطاماً} (الْوَاقِعَة: 36، 56) . أَي: هشيماً لَا ينْتَفع بِهِ وَلَا تقدرون على مَنعه، وَقيل: نبتاً لَا قَمح فِيهِ، فظللتم تفكهون أَي: تفجعون، وَقيل: تَحْزَنُونَ، وَهُوَ من الأضداد، تَقول الْعَرَب: تفكهت أَي تنعمت وتفكهت، أَي: حزنت، وَقيل: التفكه التَّكَلُّم فِيمَا لَا يَعْنِيك، وَمِنْه قيل للمزاح: فكاهة، وَأخذُوا من قَوْله: أم نَحن الزارعون؟ أَن لَا يَقُول أحد: زرعت، وَلَكِن يَقُول: حرثت، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَقُولَن أحدكُم: زرعت، وَليقل: حرثت) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (ألم تسمعوا قَول الله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} (الْوَاقِعَة: 36، 56) . قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَفِي تَفْسِير عبد ابْن حميد عَن أبي عبد الرَّحْمَن، يَعْنِي السّلمِيّ، أَنه كره أَن يُقَال: زرعت، وَيَقُول حرثت.
0232 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدثنَا أَبُو عَوَانَةَ ح وحدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ المُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا أَبُو عَوانَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنْ مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أوْ يَزْرَعُ زَرْعاً فَيأكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أوْ إنْسانٌ أوْ بَهِيمَةٌ إلاَّ كانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. (الحَدِيث 0232 طرفه فِي: 2106) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرجه بطريقين عَن شيخين: أَحدهمَا: عَن قُتَيْبَة عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن قَتَادَة. وَالْآخر: عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك بن عبد الله الْعَبْسِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، ويروي عَن قَتَادَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن قُتَيْبَة.
وَقَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي أَيُّوب، وَأم مُبشر، وَجَابِر، وَزيد بن خَالِد. قلت: أما حَدِيث: أبي أَيُّوب فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (مَا من رجل يغْرس غرساً إلاَّ كتب الله لَهُ من الْأجر قدر مَا يخرج من ثَمَر ذَلِك الْغَرْس) . وَأما حَدِيث أم مُبشر فَأخْرجهُ مُسلم فِي أَفْرَاده من رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر عَن أم مُبشر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَحْوِ حَدِيث عَطاء، وَأبي الزبير وَعَمْرو بن دِينَار عَن جَابر، وَلم يسق لَفظه. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ مُسلم أَيْضا فِي أَفْرَاده من رِوَايَة عبد الْملك بن سُلَيْمَان الْعَزْرَمِي عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول للهلله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُسلم يغْرس غرسا إلاَّ كَانَ مَا أكل مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا سرق مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أكل السَّبع فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أكلت الطير فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَلَا يزراه أحدا إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة) . وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة اللَّيْث عَن أبي الزبير عَن جَابر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على أم معبد(12/154)
أَو أم مُبشر الْأَنْصَارِيَّة فِي نخل لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من غرس هَذَا النّخل أمسلم أم كَافِر؟ فَقَالَت: بل مُسلم، فَقَالَ: (لَا يغْرس مُسلم غرساً، وَلَا يزرع زرعا فيأكل مِنْهُ إنس ان وَلَا دَابَّة وَلَا شَيْء إلاَّ كَانَت لَهُ صَدَقَة) . وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق أَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار أَنه سمع جَابر بن عبد الله، يَقُول: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أم معبد وَلم يشك، فَذكر نَحوه، قلت: أم مُبشر هَذِه هِيَ امْرَأَة زيد بن حَارِثَة، كَمَا ورد فِي (الصَّحِيح) فِي بعض طرق الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: يُقَال: إِنَّهَا أم بشر بنت البرار بن معْرور، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيُقَال: إِن فِيهَا أَيْضا أم بشير، قَالَ: فَحصل أَنه يُقَال لَهَا أم مُبشر وَأم معبد وَأم بشير، قيل: اسْمهَا خليدة، بِضَم الْخَاء وَلم يَصح. وَأما حَدِيث زيد بن خَالِد ... . .
... وَقَالَ شَيخنَا فِي شرح هَذَا الحَدِيث: وَفِي الْبَاب مِمَّا لم يذكرهُ التِّرْمِذِيّ عَن أبي الدَّرْدَاء والسائب بن خَلاد ومعاذ بن أنس وصحابي لم يسم. وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ: أَن رجلا مر بِهِ وَهُوَ يغْرس غرسا بِدِمَشْق، فَقَالَ: أتفعل هَذَا وَأَنت صَاحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا تعجل عَليّ، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من غرس غرساً لم يَأْكُل مِنْهُ آدَمِيّ وَلَا خلق من خلق الله إلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة) . وَأما حَدِيث السَّائِب بن خَلاد فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة خَلاد بن السَّائِب عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من زرع زرعا فَأكل مِنْهُ الطير أَو الْعَافِيَة كَانَ لَهُ صَدَقَة) . وَأما حَدِيث معَاذ بن أنس، فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من بنى بَيْتا فِي غير ظلم وَلَا اعتداء، أَو غرس غرساً فِي غير ظلم وَلَا اعتداء، كَانَ لَهُ أجرا جَارِيا مَا انْتفع من خلق الرَّحْمَن تبَارك وَتَعَالَى أحد) ، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوَكُّل. وَأما حَدِيث الصَّحَابِيّ الَّذِي لم يسم، فَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة: فنج، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد النُّون وبالجيم، قَالَ: كنت أعمل فِي الدينباد وأعالج فِيهِ، فَقدم يعلى بن أُميَّة أَمِيرا على الْيمن، وَجَاء مَعَه رجال من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجَاءَنِي رجل مِمَّن قدم مَعَه، وَأَنا فِي الزَّرْع، وَفِي كمه جوز، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه فَقَالَ رجل: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأذني هَاتين يَقُول: (من نصب شَجَرَة فَصَبر على حفظهَا وَالْقِيَام عَلَيْهَا حَتَّى تثمر كَانَ لَهُ فِي كل شَيْء يصاب من ثَمَرهَا صَدَقَة، عِنْد الله، عز وَجل) . قلت: وَعند يحيى بن آدم: حَدثنَا عبد السَّلَام بن حَرْب حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن أبي أسيد، يرفعهُ: (من زرع زرعا أَو غرس غرساً فَلهُ أجر مَا أَصَابَت مِنْهُ العوافي) وَذكر عَليّ بن عبد الْعَزِيز فِي (الْمُنْتَخب) بِإِسْنَاد حسن عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن قَامَت السَّاعَة وبيد أحدكُم فسيلة، فاستطاع أَن لَا تقوم حَتَّى يغرسها فليغرسها) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل الْغَرْس وَالزَّرْع، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن الزِّرَاعَة أفضل المكاسب، وَاخْتلف فِي أفضل المكاسب، فَقَالَ النَّوَوِيّ: أفضلهَا الزِّرَاعَة، وَقيل: أفضلهَا الْكسْب بِالْيَدِ، وَهِي الصَّنْعَة، وَقيل: أفضلهَا التِّجَارَة، وَأكْثر الْأَحَادِيث تدل على أَفضَلِيَّة الْكسْب بِالْيَدِ. وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث أبي بردة، قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الْكسْب أطيب؟ قَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ وكل بيع مبرور) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقد يُقَال: هَذَا أطيب من حَيْثُ الْحل، وَذَاكَ أفضل من حَيْثُ الِانْتِفَاع الْعَام، فَهُوَ نفع مُتَعَدٍّ إِلَى غَيره، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيَنْبَغِي أَن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك باخْتلَاف حَاجَة النَّاس، فَحَيْثُ كَانَ النَّاس مُحْتَاجين إِلَى الأقوات أَكثر، كَانَت الزِّرَاعَة أفضل، للتوسعة على النَّاس، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى المتجر لانْقِطَاع الطّرق كَانَت التِّجَارَة أفضل، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى الصَّنَائِع أَشد، كَانَت الصَّنْعَة أفضل، وَهَذَا حسن. وَفِيه: أَن الثَّوَاب الْمُتَرَتب على أَفعَال الْبر فِي الْآخِرَة يخْتَص بِالْمُسلمِ دون الْكَافِر، لِأَن الْقرب إِنَّمَا تصح من الْمُسلم، فَإِن تصدق الْكَافِر أَو بنى قنطرة للمارة أَو شَيْئا من وُجُوه الْبر لم يكن لَهُ أجر فِي الْآخِرَة، وَورد فِي حَدِيث آخر: أَنه يطعم فِي الدنيابذلك، ويجازى بِهِ من دفع مَكْرُوه عَنهُ، وَلَا يدّخر لَهُ شَيْء مِنْهُ فِي الْآخِرَة. فَإِن قلت: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: مَا من عبد وَهُوَ يتَنَاوَل الْمُسلم وَالْكَافِر. قلت: يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة تدخل فِي قَوْله: مَا من مُسلم، لِأَن هَذَا اللَّفْظ من الْجِنْس الَّذِي إِذا كَانَ الْخطاب بِهِ يدْخل فِيهِ الْمَرْأَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد بِهَذَا اللَّفْظ أَن الْمسلمَة إِذا فعلت هَذَا الْفِعْل لم يكن لَهَا هَذَا الثَّوَاب، بل الْمسلمَة فِي هَذَا الْفِعْل فِي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب مثل الْمُسلم سَوَاء. وَفِيه: حُصُول الْأجر للغارس والزارع، وَإِن لم يقصدا ذَلِك، حَتَّى لَو غرس وَبَاعه أَو زرع وَبَاعه كَانَ لَهُ بذلك صَدَقَة لتوسعته على النَّاس فِي أقواتهم، كَمَا ورد الْأجر للجالب، وَإِن كَانَ يَفْعَله للتِّجَارَة والاكتساب. فَإِن قلت: فِي بعض طرق حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم: إلاَّ كَانَت لَهُ صَدَقَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَقَوله: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، هَل يُرِيد بِهِ أَن أجره لَا يَنْقَطِع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن فني الزَّرْع وَالْغِرَاس؟ أَو يُرِيد مَا بَقِي من ذَلِك الزَّرْع وَالْغِرَاس مُنْتَفعا بِهِ، وَإِن بَقِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد الثَّانِي. وَزَاد النَّوَوِيّ:(12/155)
أَن مَا يُولد من الْغِرَاس وَالزَّرْع كَذَلِك، فَقَالَ فِيهِ: إِن أجر فَاعل ذَلِك مُسْتَمر مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع وَمَا يُولد مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: أَن الْغَرْس وَالزَّرْع واتخاذ الصَّنَائِع مُبَاح وَغير قَادِح فِي الزّهْد، وَقد فعله كثير من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ذهلب قوم من المتزهدة إِلَى أَن ذَلِك مَكْرُوه وقادح فِي الزّهْد، ولعلهم تمسكوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فتركنوا إِلَى الدُّنْيَا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) . وَأجِيب بِأَن هَذَا النَّهْي مَحْمُول على الاستكثار من الضّيَاع والانصراف إِلَيْهَا بِالْقَلْبِ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الركون إِلَى الدُّنْيَا. وَأما إِذا اتخذها غير مستكثر وقلل مِنْهَا، وَكَانَت لَهُ كفافاً وعفافاً، فَهِيَ مُبَاحَة غير قادحة فِي الزّهْد، وسبيلها كسبيل المَال الَّذِي اسْتَثْنَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (إلاَّ من أَخذه بِحقِّهِ وَوَضعه فِي حَقه) . وَفِيه: الحض على عمَارَة الأَرْض لنَفسِهِ وَلمن يَأْتِي بعده. . وَفِيه: جَوَاز نِسْبَة الزَّرْع إِلَى الْآدَمِيّ، والْحَدِيث الَّذِي ورد فِيهِ الْمَنْع غير قوي، وَفِيه: قَالَ الطَّيِّبِيّ: نكر مُسلما فاوقعه فِي سِيَاق النَّفْي، وَزَاد: من، الاستغراقية، وَعم الْحَيَوَان ليدل على سَبِيل الْكِنَايَة، على أَن أَي مُسلم كَانَ حرا أَو عبدا مُطيعًا أَو عَاصِيا يعْمل أَي عمل من الْمُبَاح ينْتَفع بِمَا عمله أَي حَيَوَان كَانَ، يرجع نَفعه إِلَيْهِ ويثاب عَلَيْهِ.
وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا أبانُ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَذَا وَقع: قَالَ لنا مُسلم، فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وكريمة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَآخَرين: وَقَالَ وَلمُسلم، بِدُونِ لفظ: لنا، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي مَوْلَاهُم القصاب الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبَان بن يزِيد الْعَطَّار، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه مُسلم بِغَيْر لفظ التحديث حَتَّى قَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّه مُعَلّق، وأبى ذَلِك الْحَافِظ أَبُو نعيم، فَزعم أَن البُخَارِيّ روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث. وأتى بِهِ لتصريح قَتَادَة فِيهِ بِسَمَاعِهِ من أنس ليسلم من تَدْلِيس قَتَادَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن عبد بن حميد: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أبان بن يزِيد الْعَطَّار حَدثنَا قَتَادَة (حَدثنَا أنس بن مَالك: أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل نخلا لأم مُبشر امْرَأَة من الْأَنْصَار فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من غرس هَذَا النّخل؟ مُسلم أَو كَافِر؟ قَالُوا: مُسلم) . بنحوهم، يَعْنِي: بِنَحْوِ حَدِيث جَابر وَأنس وَأم معبد، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقيل: إِن البُخَارِيّ لَا يخرج لأَبَان إلاَّ اسْتِشْهَادًا. وَأجِيب: بِأَنَّهُ ذكر هُنَا إِسْنَاده وَلم يسق مَتنه، لِأَن غَرَضه بَيَان أَنه صرح بِالتَّحْدِيثِ عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
2 - (بابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بآلَةِ الزَّرْعِ أوْ مُجَاوزَةِ الحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحذر ... إِلَى آخِره، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة. قَوْله: (أَو مُجَاوزَة الْحَد) ، أَي: فِي بَيَان مُجَاوزَة الْحَد الَّذِي أَمر بِهِ، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: أَو يُجَاوز الْحَد، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَأبي ذَر: أَو جَاوز الْحَد، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الَّذِي شرع سَوَاء كَانَ وَاجِبا أَو سنة أَو ندبا.
1232 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثنا عبدُ الله بنُ سالِمٍ الحِمْصِيِّ قَالَ حدَّثنا محَمَّدُابنُ زِيادٍ الألْهانِيُّ عنْ أبِي امَامَةَ الباهِليِّ قَالَ ورَأى سِكةً وشَيْئا مِنْ آلَةِ الحَرْثِ فَقَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ لاَ يَدْخُلُ هَذا بَيْتَ قَوْمٍ إلاَّ أُدْخِلَهُ الذُّلُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يدْخل هَذَا بَيت قوم إلاَّ أدخلهُ الذل) ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يَنْبَغِي الحذر من عواقب الِاشْتِغَال بِهِ، لِأَن كل مَا كَانَ عاقبته ذلاً يحذر عَنهُ، وَلما ذكر فضل الزَّرْع وَالْغَرْس فِي الْبَاب السَّابِق أَرَادَ الْجمع بَينه وَبَين حَدِيث هَذَا الْبَاب، لِأَن بَينهمَا مُنَافَاة بِحَسب الظَّاهِر. وَأَشَارَ إِلَى كَيْفيَّة الْجمع بشيئين أَحدهمَا: هُوَ قَوْله: مَا يحذر من عواقب الِاشْتِغَال بِآلَة الزَّرْع، وَذَلِكَ إِذا اشْتغل بِهِ فضيع بِسَبَبِهِ مَا أَمر بِهِ. وَالْآخر: هُوَ قَوْله: أَو مُجَاوزَة الْحَد، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا لم يضيع، وَلكنه جَاوز الْحَد فِيهِ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا لمن يقرب من الْعَدو فَإِنَّهُ إِذا اشْتغل بالحرث لَا يشْتَغل بالفروسية ويتأسد عَلَيْهِ الْعَدو، وَأما غَيرهم فالحرث(12/156)
مَحْمُود لَهُم. وَقَالَ عز وَجل: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم. .} (الْأَنْفَال: 06) . الْآيَة، وَلَا يقوم إلاَّ بالزراعة. وَمن هُوَ بالثغور المتقاربة لِلْعَدو لَا يشْتَغل بالحرث، فعلى الْمُسلمين أَن يمدوهم بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي أَبُو مُحَمَّد من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبد الله بن سَالم أَبُو يُوسُف الْأَشْعَرِيّ، مَاتَ سنة تسع وَسبعين وَمِائَة، وَمُحَمّد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون اللَّام: نِسْبَة إِلَى ألهان أَخُو هَمدَان بن مَالك بن زيد، هَذَا فِي كهلان، وألهان أَيْضا فِي حمير وَهُوَ: ألهان بن جشم بن عبد شمس، وَنسبَة مُحَمَّد بن زِيَاد إِلَى ألهان هَذَا. قَالَ ابْن دُرَيْد: ألهان، من قَوْلهم: لهنوا ضيوفهم أَي: أطعموهم مَا يتعلل بِهِ قبل الْغذَاء، وَكَانَ ألهان جمع: لَهُنَّ، وَاسم مَا يَأْكُلهُ الضَّيْف: لهنة، وَلَيْسَ لعبد الله بن سَالم ولمحمد بن زِيَاد فِي الصَّحِيح غير هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ بَعضهم: وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم شَامِيُّونَ وَكلهمْ حمصيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ. قلت: شيخ البُخَارِيّ أَيْضا أَصله من دمشق.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (عَن أبي أُمَامَة) ، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : سَمِعت أَبَا أُمَامَة. قَوْله: (وَرَأى سكَّة) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، و: السِّكَّة، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْكَاف: هِيَ الحديدة الَّتِي يحرث بهَا. قَوْله: (إلاَّ أدخلهُ الذَّال) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ دخله الذل، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم الْمَذْكُورَة إلاَّ أدخلُوا على أنفسهم ذلاً لَا يخرج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَوجه الذل مَا يلْزم الزَّارِع من حُقُوق الأَرْض فيطالبهم السُّلْطَان بذلك. وَقيل: إِن الْمُسلمين إِذا أَقبلُوا على الزِّرَاعَة شغلوا عَن الْعَدو، وَفِي ترك الْجِهَاد نوع ذل.
وَفِي الحَدِيث عَلامَة النُّبُوَّة، قَالَ ابْن بطال: وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَن من يَأْتِي آخر الزَّمَان يَجُورُونَ فِي أَخذ الصَّدقَات والعشور، وَيَأْخُذُونَ فِي ذَلِك أَكثر مِمَّا يجب لَهُم، لِأَنَّهُ ذل لمن أَخذ مِنْهُ بِغَيْر الْحق. انْتهى. قلت: قُوَّة الذل وكثرته فِي الزراعين فِي أَرَاضِي مصر، فَإِن أَصْحَاب الإقطاعات يتسلطون عَلَيْهِم وَيَأْخُذُونَ مِنْهُم فَوق مَا عَلَيْهِم بِضَرْب وَحبس وتهديد بَالغ، ويجعلونهم كالعبيد المشترين فَلَا يتخلصون مِنْهُم، فَإِذا مَاتَ وَاحِد مِنْهُم يُقِيمُونَ وَلَده عوضه بِالْغَصْبِ وَالظُّلم، وَيَأْخُذُونَ غَالب مَا تَركه ويحرمون ورثته.
قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) ، هُوَ: مُحَمَّد بن الزياد الرَّاوِي، وَاسم أبي أُمَامَة الَّذِي روى عَنهُ: صدي، بِضَم الصَّاد وَفتح الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْديد الْيَاء: ابْن عجلَان بن وهب الْبَاهِلِيّ نزل بحمص وَمَات فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا: دقوة، على عشرَة أَمْيَال من حمص سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وعمره إِحْدَى وَتسْعُونَ سنة، وَقد قيل: إِنَّه آخر من مَاتَ بِالشَّام من الصَّحَابَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر فِي الْأَطْعِمَة، وَآخر فِي الْجِهَاد من قَوْله: يدْخل فِي حكم الْمَرْفُوع، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَهَذَا وَقع للمستملي وَحده.
3 - (بابُ اقْتِناءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اقتناء الْكَلْب، والاقتناء بِالْقَافِ من بَاب الافتعال من اقتنى، يُقَال: قناه يقنوه واقتناه إِذا اتَّخذهُ لنَفسِهِ دون البيع، وَمِنْه الْقنية وَهِي مَا اقتنى من شَاة أَو نَاقَة أَو غَيرهمَا، يُقَال: غنم قنوة وقنية، وَيُقَال: قنوت الْغنم وَغَيرهَا قنوة وقنوة، وقنيت أَيْضا قنية وقنية إِذا اقتنيتها لنَفسك لَا للتِّجَارَة، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ إِبَاحَة الْحَرْث بِدَلِيل إِبَاحَة اقتناء الْكلاب الْمنْهِي عَن اتخاذها لأجل الْحَرْث، فَإِذا رخص من أجل الْحَرْث فِي الْمَمْنُوع من اتِّخَاذه كَانَ أقل درجاته أَن يكون مُبَاحا. قلت: هَذَا استنباط عَجِيب، لِأَن إِبَاحَة الْحَرْث بِالنَّصِّ وَلَو فرض مَوضِع لَيْسَ فِيهِ كلب لَا يُبَاح فِيهِ الْحَرْث.
2232 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثيرٍ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أمسَكَ كلْباً فإنَّهُ ينْقُصُ كلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إلاَّ كَلْبَ حَرْث أوْ ماشِيَةٍ. (الحَدِيث 2232 طرفه فِي: 4233) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ كلب حرث) . ومعاذ، بِضَم الْمِيم وبذال مُعْجمَة: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء: أَبُو زيد الْبَصْرِيّ، وَهِشَام الدستوَائي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن زُهَيْر بن حَرْب: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا هِشَام الدستوَائي حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من مسك كَلْبا فَإِنَّهُ ينقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط إلاَّ كلب حرث أَو كلب مَاشِيَة) . وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هيرة، قَالَ: قَالَ(12/157)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اتخذ كَلْبا إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو صيد أَو زرع انْتقصَ من أجره كل يَوْم قِيرَاط) . قَالَ الزُّهْرِيّ: فَذكر لِابْنِ عمر قَول أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: يرحم الله أَبَا هُرَيْرَة، كَانَ صَاحب زرع. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ ابْن عمر بقوله: يرحم الله أَبَا هُرَيْرَة كَانَ صَاحب زرع؟ قلت: قيل: أنكر زِيَادَة الزَّرْع عَلَيْهِ، والأحوط أَن يُقَال: إِنَّه أَرَادَ بذلك الْإِشَارَة إِلَى تثبيت رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَأَن سَبَب حفظه لهَذِهِ الزِّيَادَة دون غَيره أَنه كَانَ صَاحب زرع، مشتغلاً بِشَيْء يحْتَاج إِلَى معرفَة أَحْكَامه، وَمَعَ هَذَا جَاءَ لفظ: زرع، فِي حَدِيث ابْن عمر، فِي رِوَايَة مُسلم على مَا نذكرها الْآن، وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اقتنى كَلْبا، إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو ضارية، نقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط) . وروى أَيْضا من حَدِيث سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب صيد وماشية، نقص من أجره كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن دِينَار: أَنه سمع ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب ضارية أَو مَاشِيَة. نقص من عمله كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا أهل دَار اتَّخذُوا كَلْبا، إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو كلب صائد، نقص من عمله كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث أبي الحكم، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اتخذ كَلْبا، إلاَّ كلب زرع أَو غنم أَو صيد، نقص من أجره كل يَوْم قِيرَاط) . وروى أَيْضا من حَدِيث سعيد عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اقتنى كَلْبا، لَيْسَ بكلب صيد وَلَا مَاشِيَة وَلَا أَرض، فَإِنَّهُ ينقص من أجره كل يَوْم قيراطان) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُغفل: (مَا من أهل بَيت يربطون كَلْبا إلاَّ نقص من عَمَلهم كل يَوْم قِيرَاط، إلاَّ كلب صيد أَو كلب حرث أَو كلب غنم) . وَقَالَ: حَدِيث حسن.
قَوْله: (قِيرَاط) ، القيراط هُنَا مِقْدَار مَعْلُوم عِنْد الله، وَالْمرَاد نقص جُزْء من أَجزَاء عمله. فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين قَوْله: قِيرَاط، وَقَوله: قيرطان؟ قلت: يجوز أَن يَكُونَا فِي نَوْعَيْنِ من الْكلاب أَحدهمَا أَشد إِيذَاء. وَقيل: القيراطان فِي المدن والقرى، والقيراط فِي الْبَوَادِي. وَقيل: هما فِي زمانين، فَذكر القيراط أَولا ثمَّ زَاد التَّغْلِيظ فَذكر القيراطين، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب النَّقْص، فَقيل: امْتنَاع الْمَلَائِكَة من دُخُول بَيته، أَو مَا يلْحق المارين من الْأَذَى، أَو ذَلِك عُقُوبَة لَهُم لاتخاذهم مَا نهى عَن اتِّخَاذه، أَو لِكَثْرَة أكله للنجاسات، أَو لكَرَاهَة رائحتها، أَو لِأَن بَعْضهَا شَيْطَان، أَو لولوغه فِي الْأَوَانِي عِنْد غَفلَة صَاحبهَا. قَوْله: (أَو مَاشِيَة) ، كلمة: أَو، للتنويع أَي: أَو كلب مَاشِيَة، والماشية اسْم يَقع على الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي الْغنم، وَيجمع على مواشي.
وَاخْتلف فِي الْأجر الَّذِي ينقص: هَل هُوَ من الْعَمَل الْمَاضِي أَو الْمُسْتَقْبل؟ حكى الرَّوْيَانِيّ هَذَا، وَقَالَ ابْن التِّين: المُرَاد بِهِ أَنه لَو لم يَتَّخِذهُ لَكَانَ عمله كَامِلا، فَإِذا اقتناه نقص من ذَلِك الْعَمَل، وَلَا يجوز أَن ينقص من عمل مضى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه: لَيْسَ عمله فِي الْكَمَال عمل من لم يتَّخذ انْتهى. فَإِن قلت: هَل يجوز اتِّخَاذه لغير الْوُجُوه الْمَذْكُورَة؟ قلت: قَالَ ابْن عبد الْبر مَا حَاصله: إِن هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة تثبت بِالسنةِ، وَمَا عَداهَا فداخل فِي بَاب الْحَظْر، وَقيل: الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة إِبَاحَة اتِّخَاذه لحراسة الدَّرْب إِلْحَاقًا للمنصوص بِمَا فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ وَأَبُو صالِحٍ عَن أبِي هُرَيرَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ كَلْب غَنَم أوْ حَرْثٍ أوْ صَيْدٍ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَأَبُو صَالح) ، أَي: وَقَالَ أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان، وَوصل تَعْلِيقه أَبُو الشَّيْخ عبد الله بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب (التَّرْغِيب) لَهُ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح، وَمن طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، بِلَفْظ: (من اقتنى كَلْبا، إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو صيد أَو حرث، فَإِنَّهُ ينقص من عمله كل يَوْم قيراطان) ، وَلم يقل سُهَيْل: أَو حرث.
وَقَالَ أَبُو حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلْبَ صَيْدٍ أوْ ماشِيَةٍ
أَبُو حَازِم هَذَا هُوَ سلمَان الْأَشْجَعِيّ مولى عزة الأشجعية، ذكره الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) ؛ وَقَالَ أَبُو حَازِم: عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم(12/158)
يذكر شَيْئا غَيره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو الشَّيْخ من طَرِيق زيد بن أبي أنيسَة عَن عدي بن ثَابت عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: (أَيّمَا أهل دَار ربطوا كَلْبا، لَيْسَ بكلب صيد وَلَا مَاشِيَة، نقص من أجرهم كل يَوْم قِيرَاط) .
3232 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن يَزِيدَ بنِ خُصَيْفَةَ أنَّ السَّائِبَ بنَ يَزيدَ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بنَ أبِي زُهَيْرٍ رَجُلاً مِنْ أزْدِشَنُوءَةَ وكانَ مِن أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ مَنِ اقْتَنَى كلْباً لاَ يُغْنِي عنهُ زَرْعاً ولاَ ضرعاً نقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ قلْتُ أنْتَ سَمِعْتَ هَذَا منْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِي ورَبِّ هَذا المَسْجِدِ. (الحَدِيث 3232 طرفه فِي: 5233) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يُغني عَنهُ زرعا) ، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن خصيفَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء: تَصْغِير خصفة، مر فِي: بَاب رفع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد، والسائب بن يزِيد من الزِّيَادَة صَحَابِيّ صَغِير مَشْهُور، وسُفْيَان بن أبي زُهَيْر مصغر زهر واسْمه القرد، بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء: الْأَزْدِيّ الشنائي، وَهُوَ من السراة يعد فِي أهل الْمَدِينَة.
وَقَالَ بَعضهم: وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. قلت: عبد الله بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ تنيسي أَصله من دمشق، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن عَليّ بن حجر بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن خَالِد بن مخلد عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رجلا) ، بِالنّصب، ويروى بِالرَّفْع، وَجه النصب على تَقْدِير: أَعنِي أَو أخص، وَوجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ رجل من أَزْد شنُوءَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة، وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْهمزَة، قَالَ بَعضهم: وَهِي قَبيلَة مَشْهُورَة نسبوا إِلَى شنُوءَة، واسْمه الْحَارِث بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد. قلت: قَالَ ابْن هِشَام: وشنوءة هُوَ عبد الله بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد، فَدلَّ على أَن اسْم شنُوءَة: عبد الله، لَا: الْحَارِث، والمرجع فِيهِ إِلَى ابْن هِشَام وَأَمْثَاله، لَا إِلَى غَيرهم. قَالَ الرشاطي: وَإِنَّمَا قيل: أَزْد شنُوءَة، لشنآن كَانَ بَينهم، والشنآن: البغض. قَالَ يَعْقُوب: والنسبه إِلَيْهِ شنئي. قَالَ: وَيُقَال: شنوة، بتَشْديد الْوَاو غير مَهْمُوز، وينسب إِلَيْهِ: الشنوي. وَيُقَال أَيْضا فِي النِّسْبَة إِلَى شنُوءَة: شنائي، وَيُقَال: الشنيء، بِفَتْح الشين وَضم النُّون وَكسر الْهمزَة، وَيُقَال أَيْضا الشنوئي، بِفَتْح الشين وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو وَكسر الْهمزَة، فَهَذِهِ النِّسْبَة على أَرْبَعَة أوجه، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) . قَوْله: (لَا يُغني) ، من الإغناء. قَوْله: (عَنهُ) ، أَي: عَن الْكَلْب، ويروى: لَا يغنى بِهِ، أَي: لَا ينفع بِسَبَبِهِ أَو لَا يُقيم بِهِ. قَوْله: (وَلَا ضرعا) ، الضَّرع اسْم لكل ذَات ظلف. وخف، وَهَذَا كِنَايَة عَن الْمَاشِيَة. قَوْله: (أَنْت سَمِعت) هَذَا للتثبيت فِي الحَدِيث. قَوْله: (وَرب هَذَا الْمَسْجِد) ، قسم للتَّأْكِيد.
وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ بعض الْمَالِكِيَّة على طَهَارَة الْكَلْب الْجَائِز اتِّخَاذه، لِأَن فِي ملابسته مَعَ الِاحْتِرَاز عَنهُ مشقة شَدِيدَة. قَالُوا: الْإِذْن فِي اتِّخَاذه أذن فِي مكملات مَقْصُوده، قُلْنَا: وَهَذَا يُعَارضهُ حَدِيث الْأَمر من غسل مَا ولغَ فِيهِ الْكَلْب سبع مَرَّات. فَإِن قَالُوا: هَذَا أَمر تعبدي فَلَا يسْتَلْزم النَّجَاسَة {} قُلْنَا: الْخَبَر عَام، فبعمومه يدل على أَن الْغسْل لنجاسته. وَمن فَوَائده: الْحَث على تَكْثِير الْأَعْمَال الصَّالِحَة، والتحذير من الْأَعْمَال الَّتِي فِي ارتكابها نقص الْأجر.
4 - (بابُ اسْتِعْمالِ البَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِعْمَال الْبَقر للحراثة، الْبَقر اسْم جنس، وَالْبَقَرَة تقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَإِنَّمَا دَخلته الْهَاء على أَنه وَاحِد من جنس، وَالْجمع: بقرات، والباقر: جمَاعَة الْبَقر مَعَ رعاتها. وَفِي (الْمغرب) : الباقور والبيقور والأبقور: الْبَقر. وَعَن قطرب: الباقورة: الْبَقر، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الباقورة الْبَقر بلغَة أهل الْيمن، وَفِي الصَّدَقَة لأهل الْيمن فِي ثَلَاثِينَ باقورة: بقرة: وَقَالَ الْجَوْهَرِي: البقير، جمَاعَة الْبَقر.(12/159)
4232 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما رجُلٌ راكِبٌ علَى بَقَرةٍ الْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقالَتْ لَمْ أُخْلَقْ لِهَذا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ قَالَ آمَنْتُ بِهِ أَنا وأبُو بَكْرٍ وعُمَرَ وأخذَ الذِّئْبُ شَاة فتَبِعَها الرَّاعِي فَقَالَ الذِّئْبُ منْ لَها يَوْمَ السَّبُع يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَها غَيْرِي قَالَ آمَنْتُ بِهِ أَنا وَأَبُو بَكْرً وعُمَرُ قَالَ أبُو سلَمَةَ وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي القَوْمِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: خلقت للحراثة، وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، وَقد تكَرر ذكره، وَسعد هُوَ إِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَفِي بعض النّسخ: إِبْرَاهِيم مَذْكُور.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي المناقب عَن عَليّ عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن عباد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب مقطعا عَن مُحَمَّد ابْن بشار بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَصله: بَين، زيدت فِيهِ. مَا، ويضاف إِلَى جملَة، وَجَوَابه. قَوْله: (التفتت إِلَيْهِ) . قَوْله: (لهَذَا) ، أَي: للرُّكُوب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: رَاكب. قَوْله: (آمَنت بِهِ) ، أَي: بتكلم الْبَقَرَة. قَوْله: (أَنا) ، إِنَّمَا أضمره لصِحَّة الْعَطف على الضَّمِير الْمُتَّصِل على رَأْي الْبَصرِيين. قَوْله: (فَقَالَ الذِّئْب: من لَهَا؟) أَي: للشاة. قَوْله: (يَوْم السَّبع) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَكثر الْمُحدثين يرونه بِضَم الْبَاء، قَالَ: وَالْمعْنَى على هَذَا، أَي: إِذا أَخذهَا السَّبع لم يقدر على خلاصها فَلَا يرعاها حِينَئِذٍ غَيْرِي، أَي: إِنَّك تهرب وأكون أَنا قَرِيبا مِنْهَا أنظر مَا يفضل لي مِنْهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: يتركون الْمَدِينَة على خير مَا كَانَت لَا يَغْشَاهَا إلاَّ العوافي، يُرِيد السبَاع وَالطير. قَالَ: وَهَذَا لم نسْمع بِهِ، وَلَا بُد من وُقُوعه. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قِرَاءَة النَّاس، بِضَم الْبَاء، وَإِنَّمَا هُوَ بإسكانها وَالضَّم تَصْحِيف، وَيُرِيد بالساكن الْبَاء: الإهمال، وَالْمعْنَى من لَهَا يَوْم يهملها أَرْبَابهَا لعَظيم مَا هم فِيهِ من الكرب، أما بِمَعْنى: يحدث من فتْنَة، أَو يُرِيد بِهِ يَوْم الصَّيْحَة. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري عَن ابْن الْأَعرَابِي: السَّبع، بِسُكُون الْبَاء، هُوَ الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ الْمَحْشَر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لَهَا يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ ابْن قرقول: السَّاكِن الْبَاء؛ عيد لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانُوا يشتغلون بِهِ بلعبهم فيأكل الذِّئْب غَنمهمْ وَلَيْسَ بالسبع الَّذِي يَأْكُل النَّاس. وَقيل: يَوْم السَّبع بِسُكُون الْبَاء، أَي: يَوْم الْجُوع. وَقَالَ ابْن قرقول: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هُوَ يَوْم السَّبع، بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا، أَي: يَوْم الضّيَاع، يُقَال: أسعت، وأضعت، بِمَعْنى. وَقَالَ القَاضِي: الروايه بِالضَّمِّ وَإِمَّا بِالسُّكُونِ فَمن جعلهَا اسْما للموضع الَّذِي عِنْده الْمَحْشَر أَي من لَهَا يَوْم الْقِيَامَة وَقد أنكر عَلَيْهِ إِذْ يَوْم الْقِيَامَة لَا يكون الذِّئْب راعيها وَلَا لَهُ تعلق بهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ من لَهَا عِنْد الْفِتَن حِين يَتْرُكهَا النَّاس هملا لَا راعي لَهَا نهيبة للسباع فَيبقى لَهَا السَّبع رَاعيا أَي مُنْفَردا بهَا قَوْله " مَا هما " أَي لم يكونها يَوْمئِذٍ حاضرين وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثِقَة بهما لعلمه بِصدق إيمانهما وَقُوَّة يقينهما وَكَمَال معرفتهما بقدرة الله تَعَالَى (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة وَفِيه فضل الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لِأَنَّهُ نزلهما بِمَنْزِلَة نَفسه وَهِي من أعظم الخصائص وَقَالَ ابْن الْمُهلب فِيهِ بَيَان أَن كَلَام الْبَهَائِم من الخصائص الَّتِي خصت بهَا بَنو إِسْرَائِيل وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت فيهم وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ إِذْ خرجه فِي بَاب ذكر بني إِسْرَائِيل قلت لَا يلْزم من ذكر البُخَارِيّ هَذَا فِي بني إِسْرَائِيل اختصاصهم بذلك وَقد روى ابْن وهب أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب وَصَفوَان بن أُميَّة وجدا ذئبا أَخذ ظَبْيًا فاستنقذاه مِنْهُ فَقَالَ لَهما طعمة أطعمنيها الله تَعَالَى وَرُوِيَ مثل هَذَا أَيْضا أَنه جرى لأبي جهل وَأَصْحَاب لَهُ وَعند أبي الْقَاسِم عَن أنس قَالَ كنت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة تَبُوك فشردت على غنمي فجَاء الذِّئْب فَأخذ مِنْهَا شَاة فاشتدت الرُّعَاة خَلفه فَقَالَ الذِّئْب طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني فبهت الْقَوْم فَقَالَ مَا تعْجبُونَ (ح) وَذكر ابْن الْأَثِير أَن قصَّة الذِّئْب كَانَت أَيْضا فِي المبعث وَالَّذِي كَلمه الذِّئْب اسْمه أهبان بن أَوْس الْأَسْلَمِيّ أَبُو عقبَة سكن الْكُوفَة وَقيل أهبان بن عقبَة وَهُوَ عَم سَلمَة بن الْأَكْوَع وَكَانَ(12/160)
من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَعَن الْكَلْبِيّ هُوَ أهبان بن الْأَكْوَع واسْمه سِنَان بن عياذ بن ربيعَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ أهبان بن أَوْس الْأَسْلَمِيّ يكلم الذِّئْب أَبُو عقبَة كُوفِي وَقيل أَن مُكَلم الذِّئْب أهبان بن عياذ الْخُزَاعِيّ وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على من جعل عِلّة الْمَنْع من أكل الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير أَنَّهَا خلقت للزِّينَة وَالرُّكُوب لقَوْله عز وَجل {لتركبوها وزينة} وَقد خلقت الْبَقر للحراثة كَمَا أنطقها الله عز وَجل وَلم يمْنَع ذَلِك من أكل لحومها لَا فِي بني إِسْرَائِيل وَلَا فِي الْإِسْلَام قلت الْبَقر خلقت للْأَكْل بِالنَّصِّ كَمَا خلقت هَذِه الثَّلَاثَة للرُّكُوب بِالنَّصِّ وَالْبَقر لم تخلق للرُّكُوب فَلذَلِك قَالَت لراكبها لم أخلق لهَذَا وَقَوْلها خلقت للحراثة لَيْسَ بحصر فِيهَا وَلما كَانَت فِيهَا منفعتان الْأكل والحراثة ذكرت مَنْفَعَة الحراثة لكَونهَا أبعد فِي الذِّهْن من مَنْفَعَة الْأكل وَلِأَن الْأكل كَانَ مقررا عِنْد الرَّاكِب بِخِلَاف الحراثة بل رُبمَا كَانَ يظنّ أَنَّهَا غير متصورة عِنْده فنبهته عَلَيْهَا دون الْأكل
(بَاب إِذا قَالَ اكْفِنِي مُؤنَة النّخل أَو غَيره وتشركني فِي الثَّمر)
أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ صَاحب النخيل لغيره اكْفِنِي مُؤنَة النّخل والمؤنة هِيَ الْعَمَل فِيهِ من السَّقْي وَالْقِيَام عَلَيْهِ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ وتشركني فِي الثَّمر أَي الثَّمر الَّذِي يحصل من النّخل وَهَذِه صُورَة الْمُسَاقَاة وَهِي جَائِزَة قَوْله " أَو غَيره " أَي أَو غير النّخل مثل الْكَرم يكون لَهُ وَيَقُول لغيره اكْفِنِي مُؤنَة هَذَا الْكَرم وتشركني فِي الْعِنَب الَّذِي يحصل مِنْهُ وَهَذَا أَيْضا جَائِز وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره مَاذَا قَالَ اكْفِنِي إِلَى آخِره جَازَ هَذَا القَوْل قَوْله " النّخل " رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره النخيل وَهُوَ جمع نخل كالعبيد جمع عبد وَهُوَ جمع نَادِر قَوْله " وتشركني " قَالَ الْكرْمَانِي بِالرَّفْع وَالنّصب وَلم يبين وجههما وَجه الرّفْع على تَقْدِيره حذف الْمُبْتَدَأ أَي وَأَنت تشركني وَالْوَاو فِيهِ للْحَال وَوجه النصب على تَقْدِير كلمة أَن بعد الْوَاو أَي اكْفِنِي مُؤنَة النّخل وَأَن تشركني فِي الثَّمر أَي وعَلى أَن تشركني وَقد ذكر الْكُوفِيُّونَ أَن أَن بِالْفَتْح وَسُكُون النُّون يَأْتِي بِمَعْنى الشَّرْط كَانَ بِكَسْر الْهمزَة
6 - (حَدثنَا الحكم بن نَافِع قَالَ أخبرنَا شُعَيْب قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَت الْأَنْصَار للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْسمْ بَيْننَا وَبَين إِخْوَاننَا النخيل قَالَ لَا فَقَالُوا تكفوننا الْمُؤْنَة ونشرككم فِي الثَّمَرَة قَالُوا سمعنَا وأطعنا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " تكفوننا الْمُؤْنَة ونشرككم فِي الثَّمَرَة ". وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ أَبُو الْيَمَان الْحِمصِي وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط وَأخرجه النَّسَائِيّ مثله فِيهِ قَوْله " قَالَت الْأَنْصَار " يَعْنِي حِين قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة قَالُوا يَا رَسُول الله اقْسمْ بَيْننَا وَبَين إِخْوَاننَا يَعْنِي الْمُهَاجِرين النخيل وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن الْأَنْصَار لما بَايعُوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة الْعقبَة شَرط عَلَيْهِم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مواساة من هَاجر إِلَيْهِم فَلَمَّا قدم الْمُهَاجِرُونَ قَالَت الْأَنْصَار أقسم يَا رَسُول الله بَيْننَا وَبينهمْ وَيعْمل كل وَاحِد سَهْمه فَلم يفعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك وَهُوَ معنى قَوْله " قَالَ لَا " أَي قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أفعل ذَلِك يَعْنِي الْقِسْمَة لِأَنَّهُ كره أَن يخرج شَيْء من عقار الْأَنْصَار عَنْهُم وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيْضا أَن الْمُهَاجِرين لَا علم لَهُم بِعَمَل النّخل فَقَالَت الْأَنْصَار حِينَئِذٍ تكفوننا الْمُؤْنَة وَقد فسرناها ونشرككم فِي الثَّمَرَة وَهُوَ معنى قَوْله فَقَالُوا أَي الْأَنْصَار للمهاجرين تكفوننا الْمُؤْنَة ونشرككم فِي الثَّمَرَة قَالُوا أَي الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار كلهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا يَعْنِي امتثلنا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَهَذِه صُورَة الْمُسَاقَاة ثمَّ ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي عَمَلهم على النّصْف مِمَّا يخرج الثَّمَرَة لِأَن الشّركَة إِذا أبهمت وَلم يكن فِيهَا حد مَعْلُوم كَانَت نِصْفَيْنِ وَقَالَ الْمُهلب فِيهِ حجَّة على جَوَاز الْمُسَاقَاة ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين بِأَن الْمُهَاجِرين كَانُوا ملكوا من الْأَنْصَار نَصِيبا من الأَرْض وَالْمَال بِاشْتِرَاط النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(12/161)
على الْأَنْصَار مواساة الْمُهَاجِرين لَيْلَة الْعقبَة قَالَ فَلَيْسَ ذَلِك من الْمُسَاقَاة فِي شَيْء ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يلْزم من اشْتِرَاط الْمُوَاسَاة ثُبُوت الِاشْتِرَاك فِي الأَرْض إِذْ لَو ثَبت ذَلِك بِمُجَرَّد ذكر الْمُوَاسَاة لم يبْق لسؤالهم لذَلِك ورده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معنى -
6 - (بابُ قَطْعِ الشَّجَرِ والنخْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قطع الشّجر والنخيل، وَلم يذكر حكمه اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَحكمه أَنه يجوز إِذا كَانَ الْقطع لمصْلحَة مثل إنكاء الْعَدو وَنَحْوه، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَول الله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا} (الْحَشْر: 5) . قَالَ: اللينة النَّخْلَة {وليخزي الْفَاسِقين} (الْحَشْر: 5) . قَالَ: استنزلوهم من حصونهم، قَالَ: وَأمرُوا بِقطع النّخل، فحك فِي صُدُورهمْ، قَالَ الْمُسلمُونَ: قد قَطعنَا بَعْضًا وَتَركنَا بَعْضًا فلنسألن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لنا فِيمَا قَطعنَا من أجر؟ وَهل علينا فِيمَا تركنَا من وزر؟ فَأنْزل الله عز وَجل: {مَا قطعْتُمْ من لينَة} (الْحَشْر: 5) . الْآيَة، وَيَأْتِي عَن البُخَارِيّ الْآن من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرق نخل بني النَّضِير وَقطع، وَهِي البويرة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَذهب قوم من أهل الْعلم إِلَى هَذَا الحَدِيث وَلم يرَوا بَأْسا بِقطع الْأَشْجَار وتخريب الْحُصُون، وَكره بَعضهم ذَلِك، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: نهى أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يقطع شَجرا مثمراً أَو يخرب عَامِرًا، وَعمل بذلك الْمُسلمُونَ بعده. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا بَأْس بالتحريق فِي أَرض الْعَدو، وَقطع الْأَشْجَار وَالثِّمَار. وَقَالَ أَحْمد: وَقد يكون فِي مَوَاضِع لَا يَجدونَ مِنْهُ بدا، فَأَما بالعبث فَلَا يحرق. وَقَالَ إِسْحَاق: التحريق سنة إِذا كَانَ إنكاء فيهم، انْتهى كَلَام التِّرْمِذِيّ، وَذكر بعض أهل الْعلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قطع نَخْلهمْ ليغيظهم بذلك، وَنزل فِي ذَلِك: {وليخزي الْفَاسِقين} (الْحَشْر: 5) . فَكَانَ قطع النّخل وعقر الشّجر خزياً لَهُم. وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي: أَنه مَذْهَب الْجُمْهُور وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَقَالَ ابْن بطال: ذهب طَائِفَة إِلَى أَنه إِذا رجى أَن يصير الْبَلَد للْمُسلمين فَلَا بَأْس أَن يتْرك ثمارهم، فَإِن قلت: روى النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن حبشِي، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قطع سِدْرَة صوب الله رَأسه فِي النَّار) . وَعَن عُرْوَة مَرْفُوعا، نَحوه مُرْسلا. قلت: كَانَ عُرْوَة يقطعهُ من أرضه، وَيحمل الحَدِيث على تَقْدِير صِحَّته أَنه أَرَادَ سدر مَكَّة، وَقيل: سدر الْمَدِينَة، لِأَنَّهُ أنس وظل لمن جاءهما، وَلِهَذَا كَانَ عُرْوَة يقطعهُ من أرضه لَا أَنه كَانَ يقطعهُ من الْأَمَاكِن الَّتِي يسْتَأْنس بهَا، وَلَا يستظل الْغَرِيب بهَا هُوَ وبهيمته.
وَقَالَ أنَسُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّخْلِ فقُطِعَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ويوضح الحكم الَّذِي لم يذكر فِيهَا، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل قد ذكره فِي: بَاب نبش قُبُور الْجَاهِلِيَّة بَين أَبْوَاب الْمَسَاجِد فِي كتاب الصَّلَاة.
6232 - حدَّثنا موسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ عنْ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ حرَّقَ نَخْلَ بَني النَّضِيرِ وقَطَعَ وهْيَ البوَيْرَةُ ولَهَا يَقولُ حَسَّانُ.
(وهَانَ علَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَجُوَيْرِية بن أَسمَاء، وَعبد الله: هُوَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق بن حَيَّان.
قَوْله: (بني النَّضِير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وهم قوم من الْيَهُود، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: قُرَيْظَة وَالنضير والنحام وَعمر وَبَنُو الْخَزْرَج بن الصَّرِيح بن التومان بن السمط بن اليسع بن سعد بن لاوي ابْن خير بن النحام بن تخوم بن عازر بن عذر بن هَارُون بن عمرَان بن يصهر بن لاوي بن يَعْقُوب، وَهُوَ إِسْرَائِيل بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يسلم من بني النَّضِير إلاَّ رجلَانِ: يَامِين بن عُمَيْر بن عَمْرو بن جحاش،(12/162)
وَأَبُو سعيد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها، وَالنِّسْبَة إِلَى بني النَّضِير: النضيري، وَيُقَال فِيهِ: النضري أَيْضا. قَوْله: (وَهِي البويرة) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء مَوضِع مَعْرُوف من بلد بني النَّضِير. قَوْله: (وَلها) أَي: وللبويرة يَقُول حسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن حرَام الخزرجي الْأنْصَارِيّ: مَاتَ قبل الْأَرْبَعين فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْبَيْت الْمَذْكُور من الْمُتَوَاتر، وَلما أنْشدهُ حسان أَجَابَهُ سُفْيَان بن الْحَارِث بقوله:
(أدام الله ذَلِك من صنيعوحرق فِي نَوَاحِيهَا السعير)
قَوْله: (وَهَان) ، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: هان، بِلَا وَاو، فَيكون الْبَيْت مخروماً. قَوْله: (على سراة) ، بِفَتْح السِّين: السادات وَهُوَ جمع السّري على غير قِيَاس. قَوْله: (بني لؤَي) ، بِضَم اللَّام وَفتح الْهمزَة مصغر: لأي، اسْم رجل، وَالْمرَاد مِنْهُم: أكَابِر قُرَيْش. قَوْله: (مستطير) أَي: منتشر.
7 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر حَدِيث، وَكَذَا وَقع بِغَيْر تَرْجَمَة عِنْد الْجَمِيع، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله.
7232 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ حَنْظَلَة بنِ قَيْسٍ الأنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعَ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا أكْثَرَ أهْلِ المَدِينَةِ مُزْدَرَعاً كُنَّا نُكْرِي الأرْضَ بالنَّاحِيَةِ مِنْها مُسَمَّى لِسَيِّدِ الأرْضِ قَالَ فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وتَسْلَمُ الأرْضُ ومِمَّا يُصابُ الأرْضُ ويَسْلمُ ذَلِكَ فَنُهِينا وأمَّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فلَم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. .
قيل: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، وَلَعَلَّ النَّاسِخ غلط فَكَتبهُ فِي غير مَوْضِعه. وَأجِيب: بِأَن لَهُ وَجها، لَعَلَّ وَجههَا من حَيْثُ إِن من اكترى أَرضًا لمُدَّة فَلهُ أَن يزرع ويغرس فِيهَا مَا شَاءَ، فَإِذا تمت الْمدَّة فَلصَاحِب الأَرْض طلبه بقلعهما، فَهَذَا من بَاب إِبَاحَة قطع الشّجر. قلت: هَذَا الْمِقْدَار كَاف فِي طلب الْمُطَابقَة فِي ذكر متن الحَدِيث هُنَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: حَنْظَلَة بن قيس الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف: الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: رَافع بن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالجيم: ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه رازيان وَيحيى وحَنْظَلَة مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه ذكر مُجَردا عَن النِّسْبَة وَكَذَلِكَ عبد الله ذكر مُجَردا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَفِي الشُّرُوط عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن سُفْيَان وَعَن أبي الرّبيع وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الرَّازِيّ وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مزدرعاً) ، نصب على التَّمْيِيز، والمزدرع مَكَان الزَّرْع وَيجوز أَن يكون مصدرا، أَي: كُنَّا أَكثر أهل الْمَدِينَة زرعا، والمزدرع أَصله المزترع لِأَنَّهُ من بَاب الافتعال، وَلَكِن قلب التَّاء دَالا لِأَن مخرج التَّاء لَا يُوَافق الزَّاي لشدتها. قَوْله: (نكرِي الأَرْض) ، بِضَم النُّون من الإكراء. قَوْله: (مُسَمّى) ، الْقيَاس فِيهِ مُسَمَّاة لِأَنَّهُ حَال من النَّاحِيَة، وَلَكِن ذكر بِاعْتِبَار أَن نَاحيَة الشَّيْء بعضه، وَيجوز أَن يكون التَّذْكِير بِاعْتِبَار الزَّرْع، ويروى: تسمي، بِلَفْظ الْفِعْل، وَهُوَ أَيْضا حَال. قَوْله:(12/163)
(لسَيِّد الأَرْض) ، أَي: مَالِكهَا، جعل الأَرْض كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوك وَأطلق السَّيِّد عَلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: رَافع بن خديج. قَوْله: (فمما يصاب ذَلِك) ، أَي: فكثيراً مَا يصاب ذَلِك الْبَعْض، أَي: يَقع لَهُ مُصِيبَة وَيصير مؤوفاً فيتلف ذَلِك وَيسلم بَاقِي الأَرْض، وَبِالْعَكْسِ تَارَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَمِمَّا يصاب الأَرْض وَيسلم ذَلِك أَي: الْبَعْض، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فمهما، فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرِوَايَة الْأَكْثَرين أولى لِأَن: مهما، يسْتَعْمل لأحد معَان ثَلَاثَة: أَحدهَا: يتَضَمَّن معنى الشَّرْط فِيمَا لَا يعقل غير الزَّمَان. وَالثَّانِي: الزَّمَان وَالشّرط، والزمخشري يُنكر ذَلِك. وَالثَّالِث: الِاسْتِفْهَام، وَلَا يُنَاسب مهما هُنَا إلاَّ بالتعسف، يعلم ذَلِك من يتَأَمَّل فِيهِ، وَأما من لَا عَرَبِيَّة لَهُ فَلَا يفهم من ذَلِك شَيْئا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون: مهما، بِمَعْنى: رُبمَا، لِأَن حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض، سِيمَا، وَمن، التبعضية تناسب: رب، التقليلية، وعَلى هَذَا الِاحْتِمَال لَا يحْتَاج أَن يُقَال: إِن لفظ ذَلِك من بَاب وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر. قَوْله: (فنهينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: نهينَا عَن هَذَا الإكراء على هَذَا الْوَجْه لِأَنَّهُ مُوجب لحرمان أحد الطَّرفَيْنِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْأكل بِالْبَاطِلِ. قَوْله: (وَالْوَرق) ، بِكَسْر الرَّاء هُوَ الْفضة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الْفضة عوض الورث. قَوْله: (فَلم يكن يَوْمئِذٍ) ، يَعْنِي: فَلم يكن الذَّهَب وَالْفِضَّة يكرى بهما، لَا أَن مَعْنَاهُ فَلَيْسَ الذَّهَب وَالْفِضَّة موجودين.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن إكراء الأَرْض بِجُزْء مِنْهَا، أَي: بِجُزْء مِمَّا يخرج مِنْهَا مَنْهِيّ عَنهُ، وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَمُجاهد ومسروق وَالشعْبِيّ وطاووس وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَزفر، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث رَافع ابْن خديج الْمَذْكُور. وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا أخرجه الطَّحَاوِيّ. حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي جرير بن حَازِم عَن يعلى بن حَكِيم عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن رَافع بن خديج، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليزرعها أَخَاهُ وَلَا يكريها بِالثُّلثِ وَلَا بِالربعِ وَلَا بِطَعَام مُسَمّى) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي بعد عشرَة أَبْوَاب، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب، قَالَ: سَأَلت عبد الله ابْن مُغفل عَن الْمُزَارعَة، فَقَالَ: أَخْبرنِي ثَابت بن الضَّحَّاك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر بن عبد الله، وَسَيَأْتِي أَيْضا هَذَا بعد أَبْوَاب، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث سَالم: أَن عبد الله ابْن عمر، قَالَ: كنت أعلم فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الأَرْض تكرى ... الحَدِيث، وَسَيَأْتِي هَذَا أَيْضا بعد أَبْوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَلما كَانَت أَحَادِيث هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة مُخْتَلفَة الْأَلْفَاظ ومتباينة الْمعَانِي كثرت فِيهِ مَذَاهِب النَّاس وأقوال الْعلمَاء. قَالَ أَبُو عمر: لَا يجوز كِرَاء الأَرْض بِشَيْء من الطَّعَام مَأْكُولا كَانَ أَو مشروباً على حَال، لِأَن ذَلِك فِي معنى بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ نَسِيئَة، وَكَذَلِكَ: لَا يجوز كِرَاء الأَرْض بِشَيْء مِمَّا يخرج مِنْهَا وَإِن لم يكن طَعَاما وَلَا مشروباً سوى الْخشب والقصب والحطب، لِأَنَّهُ فِي معنى المراقبة، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَن مَالك وَأَصْحَابه. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف النَّاس فِي منع كِرَاء الأَرْض على الْإِطْلَاق، فَقَالَ بِهِ طَاوُوس وَالْحسن أخذا بِظَاهِر النَّهْي عَن المحاقلة، وفسرها الرَّاوِي بكرَاء الأَرْض، فَأطلق. وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: إِنَّمَا يمْنَع على التَّقْيِيد دون الْإِطْلَاق، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك، فعندهما أَن كراءها بالجزء لَا يجوز من غير خلاف، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ بعض الصَّحَابَة وَبَعض الْفُقَهَاء بِجَوَازِهِ تَشْبِيها بالقراض، وَأما إكراءها بِالطَّعَامِ مَضْمُونا فِي الذِّمَّة فَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن حزم: وَمِمَّنْ أجَاز إِعْطَاء الأَرْض بِجُزْء مُسَمّى مِمَّا يخرج مِنْهَا: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن عمر وَسعد وَابْن مَسْعُود وخباب وَحُذَيْفَة ومعاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن مُوسَى وَابْن أبي ليلى وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَابْن الْمُنْذر، وَاخْتلف فِيهَا عَن اللَّيْث، وأجازها أَحْمد وَإِسْحَاق، إلاَّ أَنَّهُمَا قَالَا إِن الْبذر يكون من عِنْد صَاحب الأَرْض، وَإِنَّمَا على الْعَامِل الْبَقر والآلة وَالْعَمَل، وَأَجَازَهُ بعض أَصْحَاب الحَدِيث، وَلم يبال مِمَّن جعل الْبذر مِنْهُمَا.
8 - (بابُ المُزَارَعَةِ بالشَّطْرِ ونَحْوِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُزَارعَة بالشطر، أَي: بِالنِّصْفِ، قَالَ بَعضهم: رَاعى المُصَنّف لفظ: الشّطْر، لوروده فِي الحَدِيث،(12/164)
وَألْحق غَيره لتساويهما فِي الْمَعْنى، وَلَوْلَا مُرَاعَاة لفظ الحَدِيث لَكَانَ قَوْله: الْمُزَارعَة بالجزء أخصر. قلت: قد يُطلق الشّطْر وَيُرَاد بِهِ الْبَعْض، فَاخْتَارَ لفظ الشّطْر لمراعاة لفظ الحَدِيث، ولكونه يُطلق على الْبَعْض وَالْبَعْض هُوَ الْجُزْء. فَإِن قلت: فعلى هَذَا لَا حَاجَة إِلَى قَوْله: وَنَحْوه؟ قلت: إِذا أُرِيد بِلَفْظ الشّطْر الْبَعْض يكون المُرَاد بِنَحْوِهِ الْجُزْء، فَلَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى التعسف بالإلحاق. فَافْهَم.
وَقل قيْسُ بنُ مُسْلِمً عَن أبِي جَعْفَرٍ قَالَ مَا بالمَدِينَةِ أهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إلاَّ يَزْرَعُونَ علَى الثُّلْثِ والرُّبْعِ
قيس بن مُسلم الجدلي أَبُو عَمْرو الْكُوفِي، مر فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان، وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الباقر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ، قَالَ: أَخْبرنِي قيس بن مُسلم عَن أبي جَعْفَر بِهِ. قَوْله: (أهل بَيت هِجْرَة) ، أَرَادَ بِهِ الْمُهَاجِرين. قَوْله: (وَالرّبع) ، الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى أَو، وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو عاطفة على الْفِعْل لَا على الْمَجْرُور، أَي: يزرعون على الثُّلُث ويزرعون على الرّبع. قلت: لَا يُقَال الْحَرْف يعْطف على الْفِعْل، وَإِنَّمَا الْوَاو هُنَا بِمَعْنى: أَو، كَمَا قُلْنَا، فَإِذا خليناها على أَصْلهَا يكون فِيهِ حذف تَقْدِيره: وإلاَّ يزرعون على الرّبع، وَنقل ابْن التِّين عَن الْقَابِسِيّ شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه أنكر رِوَايَة قيس بن مُسلم عَن أبي جَعْفَر، وَعلل بِأَن قيسا كُوفِي وَأَبا جَعْفَر مدنِي، وَلم يروه عَن قيس أحد من الْمَدَنِيين، ورد هَذَا بِأَن انْفِرَاد الثِّقَة الْحَافِظ لَا يضر. وَالْآخر: ذكر أَن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآثَار فِي هَذَا الْبَاب ليعلم أَنه لم يَصح فِي الْمُزَارعَة على الْجُزْء حَدِيث مُسْند، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ذهل عَن حَدِيث ابْن عمر الَّذِي فِي آخر الْبَاب، وَهُوَ الَّذِي احْتج بِهِ من قَالَ بِالْجَوَازِ.
وَزَارَعَ عَلِيٌّ وسَعْد بنُ مَالِكٍ وعَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ وعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ والْقَاسِمُ وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ وآلُ أبِي بَكْرٍ وآلِ عُمَرَ وآلُ عَلِيٍّ وابنُ سِيرينَ
وصل تَعْلِيق عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَمْرو بن صليعٍ عَنهُ أَنه: لم ير بَأْسا بالمزارعة على النّصْف. وَوصل تَعْلِيق سعد بن مَالك، وَهُوَ سعد بن أبي وَقاص، وَتَعْلِيق عبد الله بن مَسْعُود، الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا فَهد حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد أخبرنَا شريك عَن إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر، قَالَ: سَأَلت مُوسَى بن طَلْحَة عَن الْمُزَارعَة، فَقَالَ: أقطع عُثْمَان عبد الله أَرضًا، وأقطع سَعْدا أَرضًا، وأقطع خباباً أَرضًا وأقطع صهيباً أَرضًا فَكل جاري، فَكَانَا يزرعان بِالثُّلثِ وَالرّبع. انْتهى وَفِيه: خباب وصهيب أَيْضا. وَوصل تَعْلِيق عمر بن عبد الْعَزِيز ابْن أبي شيبَة من طَرِيق خَالِد الْحذاء: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كتب إِلَى عدي بن أَرْطَأَة أَن يزارع بِالثُّلثِ أَو الرّبع. وَوصل تَعْلِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد عبد الرَّزَّاق، قَالَ: سَمِعت هشاماً يحدث أَن ابْن سِيرِين أرْسلهُ إِلَى الْقَاسِم بن مُحَمَّد يسْأَله عَن رجل قَالَ لآخر: إعمل فِي حائطي هَذَا وَلَك الثُّلُث أَو الرّبع، قَالَ: لَا بَأْس. قَالَ: فَرَجَعت إِلَى ابْن سِيرِين فَأَخْبَرته، فَقَالَ: هَذَا أحسن مَا يصنع فِي الأَرْض، وَوصل تَعْلِيق عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام ابْن أبي شيبَة، قَالَه بَعضهم وَلم أَجِدهُ. وَوصل تَعْلِيق آل أبي بكر وَآل عمر فوصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَدِهِ إِلَى أبي شيبَة، بِسَنَدِهِ إِلَى أبي جَعْفَر الباقر: أَنه سُئِلَ عَن الْمُزَارعَة بِالثُّلثِ وَالرّبع؟ فَقَالَ: إِن نظرت فِي آل أبي بكر وَآل عمر وَجَدتهمْ يَفْعَلُونَ ذَلِك، قلت آل الرجل أهل بَيته، لِأَن الْآل الْقَبِيلَة ينْسب إِلَيْهَا فَيدْخل كل من ينْسب إِلَيْهِ من قبل آبَائِهِ إِلَى أقْصَى أَب لَهُ فِي الْإِسْلَام الْأَقْرَب والأبعد. وَوصل تَعْلِيق مُحَمَّد بن سِيرِين بن سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَادِهِ عَنهُ: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يَجْعَل الرجل للرجل طَائِفَة من زرعه أَو حرثه، على أَن يَكْفِيهِ مؤونتها وَالْقِيَام عَلَيْهَا.
وَقَالَ عبدُ الرَّحْمانُ بنُ الأسْوَدِ كُنْتُ أُشَارِكُ عبدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ
عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ أَبُو بكر الْكُوفِي، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ الْكُوفِي هُوَ أَخُو الْأسود بن يزِيد، وَابْن أخي عَلْقَمَة بن قيس، وَهُوَ أَيْضا أدْرك جمَاعَة من الصَّحَابَة. وَوصل تَعْلِيقه ابْن أبي شيبَة، وَزَاد فِيهِ، واحمله إِلَى عَلْقَمَة وَالْأسود، فَلَو رَأيا بِهِ بَأْسا لنهياني عَنهُ.(12/165)
وعامَلَ عُمَرُ الناسَ علَى إنْ جاءَ عُمَرُ بالبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فلَهُ الشَّطْرُ وإنْ جاؤُا بالبَذْرِ فلَهُمْ كذَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أجلى أهل نَجْرَان وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَاشْترى بَيَاض أَرضهم وكرومهم، فعامل عمر النَّاس: إِن هم جاؤا بالبقر وَالْحَدِيد من عِنْدهم فَلهم الثُّلُثَانِ ولعمر الثُّلُث، وَإِن جَاءَ عمر بالبذر من عِنْده فَلهُ الشّطْر، وعاملهم فِي النّخل على أَن لَهُم الْخمس، وَله الْبَاقِي وعاملهم فِي الْكَرم على أَن لَهُم الثُّلُث وَله الثُّلثَيْنِ.
وَقَالَ الحسَنُ لاَ بَأْسَ أنْ تَكُونَ الأرضُ لِأَحَدِهِمَا فيُنْفِقَانِ جَمِيعاً فَما خَرَجَ فَهْوَ بَيْنَهُمَا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، قَالَ بَعضهم: أما قَول الْحسن فوصله سعيد بن مَنْصُور نَحوه. قلت: لم أَقف على ذَلِك بعد الْكَشْف.
ورَأى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ
أَي: رأى مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ مَا قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ، يَعْنِي: يذهب إِلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: أما قَول الزُّهْرِيّ فوصله عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة نَحوه. قلت: لم أَجِدهُ عِنْدهمَا.
وقالَ الحَسَنُ لاَ بَأْسَ أنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ علَى النِّصْفِ
أَن يجتنى من: جنيت الثَّمَرَة إِذا أَخَذتهَا من الشَّجَرَة. وَقَالَ ابْن بطال: أما اجتناء الْقطن والعصفر ولقاط الزَّيْتُون والحصاد، كل ذَلِك غير مَعْلُوم، فَأَجَازَهُ جمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل قاسوه على الْقَرَاض، لِأَنَّهُ يعْمل بِالْمَالِ على جُزْء مِنْهُ مَعْلُوم لَا يدْرِي مبلغه، وَمنع من ذَلِك مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، لِأَنَّهَا عِنْدهم إِجَارَة بِثمن مَجْهُول لَا يعرف.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وابنُ سِيرينَ وعطَاءٌ والحَكَمُ والزُّهْرِيُّ وقَتادَةُ لَا بأسَ أنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بالثُّلْثِ أوِ الرُّبْعِ ونَحْوَهُ
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح وَالْحكم هُوَ ابْن عتيبة وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم وَقَتَادَة هُوَ ابْن دعامة، قَالُوا: لَا بَأْس أَن يعْطى للنساج الْغَزل لينسجه وَيكون ثلث المنسوج لَهُ وَالْبَاقِي لمَالِك الْغَزل، وَأطلق الثَّوْب على الْغَزل مجَازًا. أما قَول إِبْرَاهِيم فوصله أَبُو بكر الْأَثْرَم من طَرِيق الحكم أَنه: سَأَلَ إِبْرَاهِيم عَن الحواك يُعْطي الثَّوْب على الثُّلُث وَالرّبع، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، وَأما قَول ابْن سِيرِين فوصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق ابْن عون: سَأَلت مُحَمَّدًا هُوَ ابْن سِيرِين عَن الرجل يدْفع إِلَى النساج الثَّوْب بِالثُّلثِ أَو بِالربعِ أَو بِمَا تَرَاضيا عَلَيْهِ فَقَالَ لَا أعلم بِهِ بَأْسا وَقَالَ بَعضهم وَأما قَول عَطاء وَالْحكم فوصلهما ابْن أبي شيبَة. قلت: لم أجد ذَلِك عِنْده. وَأما قَول الزُّهْرِيّ فَلم أَقف عَلَيْهِ. وَأما قَول قَتَادَة فوصله ابْن أبي شيبَة بِلَفْظ: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يدْفع الثَّوْب إِلَى النساج بِالثُّلثِ. وَقَالَ أَصْحَابنَا: من دفع إِلَى حائك غزلاً لينسجه بِالنِّصْفِ فَهَذَا فَاسد، فللحائك أجر مثله. وَفِي (الْمَبْسُوط) : حكى الْحلْوانِي عَن أستاذه أبي عَليّ أَنه كَانَ يُفْتِي بِجَوَاز ذَلِك فِي دياره بنسف، لِأَن فِيهِ عرفا ظَاهرا، وَكَذَا مَشَايِخ بَلخ يفتون بِجَوَاز ذَلِك فِي الثِّيَاب للتعامل، وَكَذَا قَالُوا: لَا يجوز إِذا اسْتَأْجر حمارا يحمل طَعَاما بقفيز مِنْهُ، لِأَنَّهُ جعل الْأجر بعض مَا يخرج من عمله، فَيصير فِي معنى قفيز الطَّحَّان وَقد نهى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: نهى عَن عسب الْفَحْل وَعَن قفيز الطَّحَّان، وَتَفْسِير: قفيز الطَّحَّان: أَن يسْتَأْجر ثوراً ليطحن لَهُ حِنْطَة بقفيز من دقيقه، وَكَذَا إِذا اسْتَأْجر أَن يعصر لَهُ سمسماً بِمن من دهنه أَو اسْتَأْجر امْرَأَة لغزل هَذَا الْقطن أَو هَذَا الصُّوف برطل من الْغَزل، وَكَذَا اجتناء الْقطن بِالنِّصْفِ، ودياس الدخن بِالنِّصْفِ، وحصاد الْحِنْطَة بِالنِّصْفِ، وَنَحْو ذَلِك، وكل ذَلِك لَا يجوز.(12/166)
وَقَالَ مَعْمَرٌ لَا بأسَ أَن تكُونَ المَاشِيَةُ علَى الثُّلْثِ أوِ الرُّبْعِ إلَى أجَلٍ مُسَمًّى
معمر، بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد. قَوْله: (أَن تكون الْمَاشِيَة) ، ويروى: أَن يكْرِي الْمَاشِيَة، وَذَلِكَ: أَن يكْرِي دَابَّة تحمل لَهُ طَعَاما مثلا إِلَى مُدَّة مُعينَة، على أَن يكون ذَلِك بَينهمَا أَثلَاثًا أَو أَربَاعًا، فَإِنَّهُ لَا بَأْس. وَعِنْدنَا: لَا يجوز ذَلِك، وَعَلِيهِ أُجْرَة الْمثل لصَاحب الدَّابَّة.
8232 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِيَاضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ أنَّ عبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أخْبَرَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَر أوْ زَرْعٍ فَكانَ يُعْطِي أزْوَاجَهُ مِائَةَ وسْقٍ ثَمانُونَ وسْقَ تَمْرٍ وعِشْرُونَ وسْقَ شَعِيرٍ فقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ فَخَيَّرَ أزْوَاجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ المَاءِ والأرْضِ أوْ يُمْضِي لَهُنَّ فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأرْضَ ومِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الوَسْقَ وكانَتْ عائِشَةُ اخْتَارَتِ الأرْضَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَامل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من تمر أَو زرع) ، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ، والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أخبرهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ويروى: أخبرهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَامل خَيْبَر) أَي: أهل خَيْبَر، نَحْو: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . أَي: أهل الْقرْيَة. قَوْله: (بِشَطْر) ، أَي: بِنصْف مَا يخرج مِنْهَا. قَوْله: (من ثَمَر) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة إِشَارَة إِلَى الْمُسَاقَاة. قَوْله: (أَو زرع) ، إِشَارَة إِلَى الْمُزَارعَة. قَوْله: (فَكَانَ يُعْطي أَزوَاجه مائَة وسق) ، الوسق سِتُّونَ صَاعا بِصَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي كتاب الْخراج ضَبطه ابْن التِّين: الوسق، بِضَم الْوَاو، وَقَالَ غَيره: هُوَ بِالْفَتْح. قَوْله: (ثَمَانُون وسق تمر وَعِشْرُونَ وسق شعير) ، كذاا هُوَ: ثَمَانُون وَعِشْرُونَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ثَمَانِينَ وَعشْرين، وَجه الرّفْع على تَقْدِير: مِنْهَا ثَمَانُون وسق تمر، فَيكون ارْتِفَاع: ثَمَانُون، على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما لفظ: مِنْهَا. وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: وَعِشْرُونَ، أَي: وَمِنْهَا عشرُون، وَوجه النصب على تَقْدِير: أَعنِي ثَمَانِينَ وسق تمر وَعشْرين وسق شعير، وَقَالَ بَعضهم: الرّفْع على الْقطع، وَثَمَانِينَ على الْبَدَل، وَلَا يَصح شَيْء من ذَلِك يعرف بِالتَّأَمُّلِ، وَلَفظ: وسق، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَنْصُوب على التَّمْيِيز، وَكِلَاهُمَا بِالْإِضَافَة. قَوْله: (فقسم عمر) ، ويروى: وَقسم بِالْوَاو. وَقَالَ بَعضهم: وَقسم عمر أَي: خَيْبَر وَصرح بذلك أَحْمد فِي رِوَايَته عَن ابْن نمير عَن عبيد الله بن عمر. قلت: فِي كثير من النّسخ قلت: خَيْبَر، مَوْجُود فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير إلاَّ فِي نُسْخَة سقط مِنْهَا هَذَا اللَّفْظ. قَوْله: (أَن يقطع) ، بِضَم الْيَاء من الإقطاع بِكَسْر الْهمزَة، يُقَال: أقطع السُّلْطَان فلَانا أَرض كَذَا، إِذا أعطَاهُ وَجعله قطيعة لَهُ. قَوْله: (ويمضي لَهُنَّ) أَي: أَو يجْرِي لَهُنَّ قِسْمَتهنَّ على مَا كَانَ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا كَانَ من التَّمْر وَالشعِير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: هَذَا الحَدِيث عُمْدَة من أجَاز الْمُزَارعَة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي كِرَاء الأَرْض بِالشّرطِ وَالثلث وَالرّبع، فَأجَاز ذَلِك عَليّ وَابْن مَسْعُود وَسعد وَالزُّبَيْر وَأُسَامَة وَابْن عمر ومعاذ وخباب، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وطاووس وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد، وَهَؤُلَاء أَجَازُوا الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة. وكرهت ذَلِك طَائِفَة، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، قَالُوا: لَا تجوز الْمُزَارعَة، وَهُوَ كِرَاء الأَرْض بِجُزْء مِنْهَا، وَيجوز عِنْدهم الْمُسَاقَاة، ومنعها أَبُو حنيفَة وَزفر فَقَالَا: لَا تجوز الْمُزَارعَة وَلَا الْمُسَاقَاة بِوَجْه من الْوُجُوه، وَقَالُوا: الْمُزَارعَة مَنْسُوخَة بِالنَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِمَا يخرج، وَهِي إِجَارَة مَجْهُولَة، لِأَنَّهُ قد لَا تخرج الأَرْض شَيْئا. وأدعوا أَن الْمُسَاقَاة مَنْسُوخَة بِالنَّهْي عَن الْمُزَابَنَة، وَذكر الطَّحَاوِيّ حَدِيث رَافع: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمُزَارعَة، وَحَدِيث ابْن عمر: كُنَّا لَا نرى بَأْسا حَتَّى زعم رَافع أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن المخابرة، وَمثله: نهى عَن كِرَاء الأَرْض، وَحَدِيث ثَابت بن الضَّحَّاك: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة. وَحَدِيث جَابر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليزرعها أَخَاهُ وَلَا يؤاجرها) . وَفِي لفظ: (من لم يدع المخابرة فليؤذن(12/167)
بِحَرب من الله عز وَجل) .
وَأجَاب أَبُو حنيفَة عَن حَدِيث الْبَاب بِأَن مُعَاملَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل خَيْبَر لم كن بطرِيق الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة، بل كَانَت بطرِيق الْخراج على وَجه الْمَنّ عَلَيْهِم وَالصُّلْح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملكهَا غنيمَة، فَلَو كَانَ أَخذ كلهَا جَازَ وَتركهَا فِي أَيْديهم بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا فضلا، وَكَانَ ذَلِك خراج مقاسمة وَهُوَ جَائِز كخراج التوظيف، وَلَا نزاع فِيهِ، وَإِنَّمَا النزاع فِي جَوَاز الْمُزَارعَة والمعاملة، وخراج الْمُقَاسَمَة أَن يوظف الإِمَام فِي الْخَارِج شَيْئا مُقَدرا عشرا أَو ثلثا أَو ربعا وَيتْرك الْأَرَاضِي على ملكهم منا عَلَيْهِم، فَإِن لم تخرج الأَرْض شَيْئا فَلَا شَيْء عَلَيْهِم، وَهَذَا تَأْوِيل صَحِيح، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن أحد من الروَاة أَنه تصرف فِي رقابهم أَو رِقَاب أَوْلَادهم. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي (شَرحه لمختصر الطَّحَاوِيّ) : وَمِمَّا يدل على أَن مَا شَرط من نصف الثَّمر وَالزَّرْع كَانَ على وَجه الْجِزْيَة، أَنه لم يرو فِي شَيْء من الْأَخْبَار أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ مِنْهُم الْجِزْيَة إِلَى أَن مَاتَ، وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى أَن أجلاهم، وَلَو لم يكن ذَلِك لأخذ مِنْهُم الْجِزْيَة حِين نزلت آيَة الْجِزْيَة، وَالْخَرَاج الموظف أَن يَجْعَل الإِمَام فِي ذمتهم بِمُقَابلَة الأَرْض شَيْئا من كل جريب يصلح للزِّرَاعَة صَاعا ودرهماً. فَإِن قلت: رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم أَرَاضِي خَيْبَر على سِتَّة وَثَلَاثِينَ سَهْما، وَهَذَا على أَنَّهَا مَا كَانَت خراج مقاسمة؟ قلت: يجوز أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم خراج الْأَرَاضِي بِأَن جعل خراج هَذِه الأَرْض لفُلَان وخراج هَذِه لفُلَان. فَإِن قلت: رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أجلى أهل خَيْبَر وَلم يعطهم قيمَة الْأَرَاضِي، فَدلَّ ذَلِك على عدم الْملك. قلت: يجوز أَنه مَا أَعْطَاهُم زمَان الإجلاء، وَأَعْطَاهُمْ بعد ذَلِك.
وَفِيه: تَخْيِير عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَن يقطع لَهُنَّ من الأَرْض وَبَين إجرائهن على مَا كن عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير أَن يملكهن، لِأَن الأَرْض لم تكن موروثة عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا توفين عَادَتْ الأَرْض وَالنَّخْل على أَصْلهَا وَقفا مسبلاً، وَكَانَ عمر يعطيهن ذَلِك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا تركت بعد نَفَقَة نسَائِي فَهُوَ صَدَقَة) ، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقيل: إِن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يقطعهن سوى هَذِه الأوسق اثْنَي عشر ألفا لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ، وَمَا يجْرِي عَلَيْهِم فِي سَائِر السّنة.
9 - (بابٌ إِذا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنينَ فِي المُزَارَعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يشْتَرط رب الأَرْض سنيناً مَعْلُومَة فِي عقد الْمُزَارعَة، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، الَّذِي هُوَ: يجوز أَو لَا يجوز لَكَانَ الِاخْتِلَاف فِيهِ، قَالَ ابْن بطال: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُزَارعَة من غير أجل، فكرهها مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا لم يسم سِنِين مَعْلُومَة فَهُوَ على سنة وَاحِدَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَحكى عَن بَعضهم أَنه قَالَ: أُجِيز ذَلِك اسْتِحْسَانًا، وَادّعى الْقيَاس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نقركم مَا شِئْنَا) . قَالَ: فَيكون لصَاحب النّخل وَالْأَرْض أَن يخرج المساقي والمزارع من الأَرْض مَتى شَاءَ، وَفِي ذَلِك دلَالَة أَن الْمُزَارعَة تخَالف الْكِرَاء، لَا يجوز فِي الْكِرَاء أَن يَقُول: أخرجك عَن أرضي مَتى شِئْت، وَلَا خلاف بَين أهل الْعلم أَن الْكِرَاء فِي الدّور وَالْأَرضين لَا يجوز إلاَّ وقتا مَعْلُوما. قلت: لصِحَّة الْمُزَارعَة على قَول من يجيزها شُرُوط، مِنْهَا بَيَان الْمدَّة بِأَن يُقَال: إِلَى سنة أَو سنتَيْن، وَمَا أشبهه، وَلَو بَين وقتا لَا يدْرك الزَّرْع فِيهَا تفْسد الْمُزَارعَة، وَكَذَا لَو بَين مُدَّة لَا يعِيش أَحدهمَا إِلَيْهَا غَالِبا تفْسد أَيْضا، وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة: أَن الْمُزَارعَة تصح بِلَا بَيَان الْمدَّة، وَتَقَع على زرع وَاحِد، وَاخْتَارَهُ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَعَن أَحْمد: يجوز بِلَا بَيَان الْمدَّة لِأَنَّهَا عقد جَائِز غير لَازم، وَعند أَكثر الْفُقَهَاء: لَازم.
9232 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ عامَلَ النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَر أوْ زَرْعٍ. .
هَذَا الحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله عَن نَافِع، وَهنا أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع، وَأَعَادَهُ مُخْتَصرا لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، والمطابقة بَينهمَا ظَاهِرَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض إِلَى بَيَان الْمدَّة.(12/168)
01 - (بابٌ)
يجوز فِيهِ التَّنْوِين على تَقْدِير: هَذَا بَاب، وَيجوز تَركه على السّكُون فَلَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ فِي الْمركب، وَوَقع: بَاب، كَذَا بِغَيْر تَرْجَمَة عِنْد الْكل، وَقد ذكرنَا أَن: بَابا، كلما وَقع كَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله.
0332 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفيانُ قَالَ عَمْرٌ وقُلْتُ لِ طَاوُوسٍ لَوْ تَرَكتَ المُخَابَرَةَ فإنَّهُمْ يَزْعَمونَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْهُ قَالَ أيْ عمْرٌ وإنِّي أُعْطِيهمْ وأعِينُهُمْ وإنْ أعْلَمَهُمْ أخْبَرَنِي يَعْنِي ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَنْهَ عنْهُ ولَكنْ قَالَ أنْ يَمْنَحَ أحَدُكُمْ أخاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأخُذَ عَلَيْهِ خَرْجاً مَعْلُوماً.
وَجه دُخُوله فِي الْبَاب السَّابِق من حَيْثُ إِن لِلْعَامِلِ فِيهِ جُزْءا مَعْلُوما، وَهنا: لَو ترك رب الأَرْض هَذَا الْجُزْء لِلْعَامِلِ كَانَ خيرا لَهُ من أَن يَأْخُذهُ مِنْهُ، وَفِيه: جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة لِأَن الْأَوْلَوِيَّة فِي التّرْك لَا تنَافِي الْجَوَاز فَافْهَم.
وَرِجَاله أَرْبَعَة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد عَن يحيى بن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن ابْن أبي عمر عَن الثَّقَفِيّ بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد ابْن كثير عَن الثَّوْريّ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن أبي بكر بن خَلاد الْبَاهِلِيّ وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عَمْرو) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره: عَن سُفْيَان، حَدثنَا عَمْرو. قَوْله: (لَو تركت المخابرة) ، جَوَاب: لَو، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَو تركت المخابرة لَكَانَ خيرا، أَو يكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَفسّر الْكرْمَانِي المخابرة من جِهَة مَأْخَذ هَذَا اللَّفْظ، فَقَالَ: المخابرة من: الْخَبِير، وَهُوَ الأكار، أَو من: الْخِبْرَة، بِضَم الْخَاء، وَهِي النَّصِيب أَو، من: خَيْبَر، لِأَن أول هَذِه الْمُعَامَلَة وَقعت فِيهَا. انْتهى. وَالْمُخَابَرَة: هِيَ الْعَمَل فِي الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا، وَهِي الْمُزَارعَة لَكِن الْفرق بَينهمَا من وَجه، وَهُوَ أَن الْبذر من الْعَامِل فِي المخابرة، وَفِي الْمُزَارعَة من الْمَالِك، وَالدَّلِيل على أَن المخابرة هِيَ الْمُزَارعَة رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار بِلَفْظ: لَو تركت الْمُزَارعَة، يُخَاطب ابْن عَبَّاس بذلك. قَوْله: (فَإِنَّهُم) ، الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، لِأَن عمرا يُعلل كَلَامه فِي خطابه لطاووس بترك المخابرة، بقوله: فَإِنَّهُم، أَي: فَإِن النَّاس، وَمرَاده مِنْهُم: رَافع بن خديج وعمومته وَالثَّابِت بن الضَّحَّاك وَجَابِر بن عبد الله وَمن روى مِنْهُم. قَوْله: (يَزْعمُونَ) ، أَي: يَقُولُونَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ، أَي: عَن الزَّرْع على طَرِيق المخابرة. قَوْله: (قَالَ: أَي عَمْرو!) أَي: قَالَ طَاوُوس: يَا عَمْرو. قَوْله: (إِنِّي أعطيهم) ، من الْإِعْطَاء. قَوْله: (وأعينهم) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة: من الْإِعَانَة، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وأغنيهم، بالغين الْمُعْجَمَة الساكنة من الإغناء، وَالْأول أوجه، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره. قَوْله: (وَإِن أعلمهم) أَي: وَإِن أعلم هَؤُلَاءِ الَّذين يَزْعمُونَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ. قَوْله: (أَخْبرنِي) ، خبر: إِن، وَبَين المُرَاد من هَذَا الأعلم بقوله: يَعْنِي: ابْن عَبَّاس. قَوْله: (لم ينْه عَنهُ) أَي: عَن الزَّرْع على طَرِيق المخابرة، وَلَا مُعَارضَة بَين هَذَا وَبَين قَوْله: نهى عَنهُ، لِأَن النَّهْي كَانَ فِيمَا يشترطون شرطا فَاسِدا، وَعَدَمه فِيمَا لم يكن كَذَلِك، وَقيل: المُرَاد بالإثبات نهي التَّنْزِيه، وبالنفي نهي التَّحْرِيم. قَوْله: (أَن يمنح) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون، قَالَ بَعضهم: أَن يمنح، بِفَتْح الْهمزَة والحاء على أَنَّهَا تعليلية، وبكسر الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، وَالْأول أشهر. انْتهى. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل أَن بِفَتْح الْهمزَة مَصْدَرِيَّة، وَلَام(12/169)
الِابْتِدَاء مقدرَة قبلهَا تَقْدِيره: لِأَن يمنح، أَي: لمنح أحدكُم أَخَاهُ خير لكم، والمصدر مُضَاف إِلَى أحدكُم مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: خير لكم، وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ أَنه وَقع فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ بلام الِابْتِدَاء ظَاهِرَة، فَإِنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث، وَفِيه: لِأَن يمنح أحدكُم أَخَاهُ أرضه خير لَهُ من أَن يَأْخُذ عَلَيْهَا خراجاً مَعْلُوما. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: يمنح أحدكُم، بِدُونِ: أَن، وَاللَّام، وَقد جَاءَ: أَن، بِالْفَتْح بِمَعْنى: إِن، بِالْكَسْرِ الشّرطِيَّة، فيحنئذ يكون: يمنح، مَجْزُومًا بِهِ، وَجَوَاب الشَّرْط، خير، وَلَكِن فِيهِ حذف تَقْدِيره: هُوَ خير لكم. قَوْله: (من أَن يَأْخُذ) ، أَن هُنَا أَيْضا مَصْدَرِيَّة أَي: من أَخذه عَلَيْهِ، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: أَخَاهُ. قَوْله: (خرجا) أَي: أُجْرَة، وَالْغَرَض أَنه يَجْعَلهَا لَهُ منحة أَي عَطِيَّة عَارِية، لأَنهم كَانُوا يتنازعون فِي كِرَاء الأَرْض حَتَّى أفْضى بهم إِلَى التقاتل وَقد بَين الطَّحَاوِيّ عِلّة النَّهْي فِي حَدِيث رَافع، فَقَالَ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: حَدثنَا بشر بن الْمفضل عَن عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن أبي عُبَيْدَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر عَن الْوَلِيد بن أبي الْوَلِيد عَن عُرْوَة بن الزبير عَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: يغْفر الله لرافع بن خديج، أَنا وَالله كنت أعلم مِنْهُ بِالْحَدِيثِ، إِنَّمَا جَاءَ رجلَانِ من الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اقتتلا، فَقَالَ: (إِن كَانَ هَذَا شَأْنكُمْ فَلَا تكروا الْمزَارِع) . فَسمع قَوْله: لَا تكروا الْمزَارِع. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا زيد بن ثَابت يخبر أَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تكروا الْمزَارِع النَّهْي الَّذِي قد سَمعه رَافع لم يكن من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا كَانَ لكراهيته وُقُوع الشَّرّ بَينهم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس من الْمَعْنى الَّذِي ذكره زيد بن ثَابت من حَدِيث رَافع بن خديج شَيْء ثمَّ روى حَدِيث الْبَاب نَحوه.
11 - (بابُ المُزَارَعَةِ مَعَ اليَهُودِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُزَارعَة مَعَ الْيَهُود، وَأَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَنه لَا فرق فِي جَوَاز الْمُزَارعَة بَين الْمُسلمين وَأهل الذِّمَّة، وَإِنَّمَا خصص الْيَهُود بِالذكر، وَإِن كَانَ الحكم يَشْمَل أهل الذِّمَّة كلهم، لِأَن الْمَشْهُور فِي حَدِيث الْبَاب الْيَهُود، فَإِذا جَازَت الْمُزَارعَة مَعَ الْيَهُود جَازَت مَعَ غَيرهم من أهل الذِّمَّة كَذَلِك.
1332 - حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرَنا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَى خَيْبرَ الْيَهُودَ على أنْ يَعْمَلُوهَا ويَزْرَعُوها ولَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْها. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ. والْحَدِيث مضى فِيمَا قبل هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن عبيد الله عَن نَافِع إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
21 - (بابُ مَا يُكْرَه مِنَ الشُّرُوطِ فِي المُزَارَعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره إِلَى آخِره.
2332 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قَالَ أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعَ حَنْظلَةَ الزُّرَقِيَّ عنْ رافِعٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كنَّا أكْثَرَ أهْلِ المَدِينَةِ حَقْلاً وكانَ أحَدُنَا يُكْرِي أرْضَهُ فيَقُولُ هَذِهِ القِطْعَةُ لِي وهَذِهِ لَكَ فَرُبَّمَا أخْرَجَتْ ذِهْ ولَمْ تُخْرِجِ ذِهْ فنَهَاهُمْ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَيَقُول: هَذِه الْقطعَة لي) إِلَى آخِره. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة شَرط يُؤَدِّي إِلَى النزاع، وَهُوَ ظَاهر، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وحَنْظَلَة ابْن قيس الزرقي. والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الْمَذْكُور مُجَردا الملحق: بِبَاب قطع الشّجر والنخيل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِذكر هَذَا إِلَى(12/170)
أَن النَّهْي فِي حَدِيث رَافع مَحْمُول على مَا إِذا تضمن العقد شرطا فِيهِ جَهَالَة. قَوْله: (حقلاً) ، نصب على التَّمْيِيز، وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف أَي: زرعا، وَقيل: هُوَ الفدان الَّذِي يزرع. قَوْله: (ذه) ، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وبسكون الْهَاء إِشَارَة إِلَى الْقطعَة. وَفِيه: بَيَان عِلّة النَّهْي.
31 - (بابٌ إذَا زَرَعَ بِمالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وكانَ فِي ذَلكَ صَلاَحٌ لَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ بَيَان زرع أحد مَال قوم بِغَيْر إِذن مِنْهُم. قَوْله: (وَكَانَ) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فِي ذَلِك) ، أَي: فِي ذَلِك الزَّرْع (صَلَاح لَهُم) أَي: لهَؤُلَاء الْقَوْم.
3332 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضُمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَة عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما ثلاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أخَذَهُمُ المَطَرُ فأوُوْا إِلَى غارٍ فِي جَبَلٍ فانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غارِهِمْ صَخْرَةٌ مِن الجَبلِ فانْطَبَقتْ عليْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أعْمالاً عَمِلْتُموها صالِحَةً لله فادْعوا الله بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُها عنْكُمْ قَالَ أحَدُهُمْ اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَ لِي والِدَانِ شَيْخانِ كَبِيرانِ ولِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أرْعَى علَيْهِمْ فإذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فبَدَأتُ بِوَالِدَيَّ أسقِيهِما قَبْلَ بَنِيَّ وإنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَات يَوْمٍ فَلَم آتِ حتَّى أمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا فحَلَبْتُ كَما كُنْتُ أحلُبُ فقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِما أكْرَهُ أنْ أُوقِظَهُما وأكرَهُ أنْ أسْقِيَ الصِّبْيَةَ والصِّبْيَةُ يتَضَاغُونَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حتَّى طلَعَ الفَجْرُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ لَنا فَرْجَةً نَرى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ الله فَرَأوْا السَّماءَ وَقَالَ الآخَرُ أللَّهُمَّ إنَّها كانتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أحْبَبْتُها كأشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجالُ النِّساءَ فطَلَبْتُ مِنْها فأبَتْ حَتَّى أتَيْتُها بِمِائَةِ دِينارٍ فبَغَيْتُ حتَّى جَمَعْتُها فلَمَّا وقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْها قالَتْ يَا عَبْدَ الله اتَّقِ الله ولاَ تَفْتَحِ الخَاتَمَ إلاَّ بِحَقِّه فقُمْتُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ عنَّا فَرْجَةً ففَرَجَ. وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إنِّي اسْتأجَرْتُ أجيرابِفَرَقِ أرُزٍّ فلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أعْطِنِي حَقِّي فعَرَضْتُ عَلَيْهِ فرَغِبَ عنْهُ فلَمْ أزَلْ أزْرَعُهُ حتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرا ورَاعِيهَا فَجاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ الله فقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذالِكَ البَقَرِ ورُعَاتِها فَخُذْ فَقَالَ اتَّقِ الله ولاَ تسْتَهْزِىءْ بِي فَقُلْتُ إنِّي لَا أسْتَهْزِيءُ بِكَ فخُذْ فأخَذَهُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ الله. قَالَ أَبُو عَبْدِ الله. وَقَالَ ابنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ فَسَعَيْتُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُسْتَأْجر عيَّن للْأَجِير أُجْرَة، فَبعد إعراضه عَنهُ تصرف فِيهِ بِمَا فِيهِ صَلَاح لَهُ، فَلَو كَانَ تصرفه فِيهِ غير جَائِز لَكَانَ مَعْصِيّة، وَلَا يتوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى. فَإِن قلت: التوسل إِنَّمَا كَانَ برد الْحق إِلَى مُسْتَحقّه بِزِيَادَتِهِ النامية، لَا بتصرفه. كَمَا أَن الْجُلُوس مَعَ الْمَرْأَة كَانَ مَعْصِيّة والتوسل لم يكن إلاَّ بترك الزِّنَا. قلت: لما ترك صَاحب الْحق الْقَبْض وَوضع الْمُسْتَأْجر يَده ثَانِيًا على الْفرق كَانَ وضعا مستأنفاً على ملك الْغَيْر، ثمَّ تصرفه فِيهِ إصْلَاح لَا تَضْييع، فاغتفر ذَلِك وَلم يعد تَعَديا، فَلم يمْنَع عَن التوسل بذلك، مَعَ أَن جلّ قَصده خلاصه من الْمعْصِيَة وَالْعَمَل بِالنِّيَّةِ، وَمَعَ هَذَا لَو هلك الْفرق لَكَانَ ضَامِنا لَهُ لعدم الْإِذْن فِي زراعته، وَبِهَذَا يُجَاب عَن قَول من قَالَ: لَا تصح هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ أَن يكون الزَّارِع مُتَطَوعا، إِذْ لَا خسارة على صَاحب المَال، لِأَنَّهُ لَو هلك كَانَ من الزَّارِع، وَإِنَّمَا تصح على سَبِيل التفضل بِالرِّبْحِ وَضَمان رَأس المَال، وَقد مرت هَذِه الْقِصَّة فِي كتاب الْبيُوع(12/171)
فِي: بَاب إِذا اشْترى شَيْئا لغيره بِغَيْر إِذْنه فَرضِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا، وَأَنه أخرجه هُنَاكَ: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَأخرجه هُنَا: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أبي إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن أبي ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم، وَهُوَ أنس بن عِيَاض، مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت.
ولنذكر هُنَا بعض شَيْء. قَوْله: (يَمْشُونَ) ، حَال. قَوْله: (فأووا) ، بِفَتْح الْهمزَة بِلَا مد. قَوْله: (فِي جبل) ، صفة: غَار. أَي: كَائِن فِيهِ. قَوْله: (صَالِحَة) بِالنّصب صفة لقَوْله: أعمالاً، ويروى: خَالِصَة. قَوْله: (يفرجها) ، بِضَم الرَّاء. قَوْله: (أللهم إِنَّه) ، أَي: إِن الشَّأْن، وَفِي قَول الآخر: أللهم إِنَّهَا، أَي: إِن الْقِصَّة، إِذا الْجُمْلَة مؤنث، وَفِي قَول الثَّالِث: أللهم إِنِّي، أسْند إِلَيْهِ، وَهَذَا من بَاب التفنن الَّذِي فِيهِ يحلو الْكَلَام ويونق. قَوْله: (والصبية) ، جمع صبي، وَكَذَلِكَ الصبوة، وَالْوَاو الْقيَاس، وَلَكِن الْيَاء أَكثر اسْتِعْمَالا. قَوْله: (فَلم آتٍ) ، بِالْفَاءِ، ويروى: وَلم آتٍ، بِالْوَاو. قَوْله: (نَامَا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: نائمين. قَوْله: (يتضاغون) ، بالمعجمتين، أَي: يتصايحون، من ضغا يضغو ضغواً، وضغاء إِذا صَاح وضج. قَوْله: (فَأَبت عَليّ حَتَّى أتيتها) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَأَبت حَتَّى أتيتها، بِدُونِ لَفْظَة: عَليّ، قَوْله: (فرج) أَي: فُرْجَة أُخْرَى لَا كلهَا. قَوْله: (بفرق أرز) ، الْفرق بِفتْحَتَيْنِ إِنَاء يَأْخُذ سِتَّة عشر رطلا، وَذَلِكَ ثَلَاثَة أصوع كَذَا فِي (التَّهْذِيب) قَالَ الْأَزْهَرِي: والمحدثون على سُكُون الرَّاء، وَكَلَام الْعَرَب على التحريك. وَفِي (الصِّحَاح) : الْفرق مكيال مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا. قَالَ: وَقد يُحَرك. وَالْجمع: فرقان. كبطن وبطنان. وَقَالَ بَعضهم: الْفرق، بِالسُّكُونِ: أَرْبَعَة
أَرْطَال، وَفِي (نَوَادِر) هِشَام: عَن مُحَمَّد الْفرق سِتَّة وَثَلَاثُونَ رطلا، قَالَ صَاحب (الْمغرب) : وَلم أجد هَذَا فِي أصُول اللُّغَة. قلت: قَالَ فِي (الْمُحِيط) ؛ الْفرق سِتُّونَ رطلا، وَلَا يلْزم من عدم وجدانه هُوَ، وَأَن لَا يجد غَيره، فَإِن لُغَة الْعَرَب وَاسِعَة. قَوْله: (أرز) فِيهِ: لُغَات قد ذَكرنَاهَا هُنَاكَ، وَقد مر فِي الْبيُوع: فرق من ذرة، والتوفيق بَينهمَا من جِهَة أَنَّهُمَا كَانَا صنفين، فالبعض من أرز، وَالْبَعْض من ذرة. أَو كَانَ أجيران، لأَحَدهمَا: أرز وَللْآخر ذرة وَقَالَ بَعضهم: لما كَانَا حبين متقاربين أطلق أَحدهمَا على الآخر. قلت: هَذَا أَخذه من الْكرْمَانِي، وَالْوَجْه فِيهِ بعيد، وَلَا يَقع مثل هَذَا الْإِطْلَاق من فصيح قَوْله: (حَتَّى أتيتها) ، ويروى: حَتَّى آتيها. قَوْله: (فبغيت) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والغين الْمُعْجَمَة، أَي: طلبت، يُقَال: بغى يَبْغِي بغاءً، إِذا طلب. قَوْله: (قَالَ: أَعْطِنِي حَقي) ، ويروى: فَقَالَ، بِالْفَاءِ، قَوْله: (وراعيها) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة غَيره: ورعاتها، بِالْجمعِ. قَوْله: (فَقلت: إذهب إِلَى ذَلِك الْبَقر) ، ويروى: قلت إذهب، بِلَا فَاء. قَوْله: (إِلَى ذَلِك الْبَقر) ، ويروى إِلَى تِلْكَ الْبَقر، فالتذكير بِاعْتِبَار اللَّفْظ، والتأنيث بِاعْتِبَار معنى الجمعية فِيهِ. قَوْله: (فَقلت: إِنِّي لَا أستهزىء) ، ويروى: فَقَالَ: إِنِّي لَا أستهزىء. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، أَي: البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (قَالَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة عَن نَافِع: فسعيت) ، يَعْنِي: أَن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور رَوَاهُ عَن نَافِع كَمَا رَوَاهُ عَمه مُوسَى بن عقبَة، إِلَّا أَنه خَالفه فِي هَذِه اللَّفْظَة، وَهِي قَوْله: فبغيت، بِالْبَاء والغين الْمُعْجَمَة، فَقَالَهَا: سعيت، بِالسِّين وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ من السَّعْي. وَقَالَ الجياني: وَقع فِي رِوَايَة لأبي ذَر: وَقَالَ إِسْمَاعِيل عَن عقبَة، وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب: إِسْمَاعِيل بن عقبَة، وَهُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن عقبَة ابْن أخي مُوسَى. وَتَعْلِيق إِسْمَاعِيل وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب فِي: بَاب إِجَابَة دُعَاء من بر وَالِديهِ.
41 - (بابُ أوْقَافِ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأرْضِ الخَرَاجِ ومُزَارَعَتِهِمْ ومُعَامَلَتِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أوقاف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَيَان أَرض الْخراج، وَبَيَان مزارعتهم، وَبَيَان معاملتهم. قَالَ ابْن بطال: معنى هَذِه التَّرْجَمَة: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يزارعون أوقاف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد وَفَاته على مَا كَانَ عَلَيْهِ يهود خَيْبَر.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعُمَرَ تصَدَّقْ بأصْلِهِ لَا يُبَاعُ ولَكِنْ يُنْفِقُ ثَمرَهُ فتَصَدَّقَ بِهِ
مطابقته للصدر الأول من التَّرْجَمَة، وَهِي تظهر من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر: (تصدق بِأَصْلِهِ) إِلَى آخِره، وَهَذَا حكم وقف الصَّحَابِيّ،(12/172)
وَكَذَلِكَ يكون حكم أوقاف بَقِيَّة الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْوَصَايَا فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {وابتلوا الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 6) . الْآيَة، فَقَالَ: حَدثنَا هَارُون، حَدثنَا أَبُو سعيد مولى بني هَاشم، حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تصدق بِمَال لَهُ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُقَال لَهُ: ثمغ، وَكَانَ نخلا، فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله! إِنِّي اسْتَفَدْت مَالا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيس، فَأَرَدْت أَن أَتصدق بِهِ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تصدق بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث، وَلَكِن ينْفق ثمره) . فَتصدق بِهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فصدقته تِلْكَ فِي سَبِيل الله وَفِي الرّقاب وَالْمَسَاكِين والضيف وَابْن السَّبِيل وَلِذِي الْقُرْبَى، وَلَا جنَاح على من وليه أَن يَأْكُل مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ أَو يُؤْكَل صديقه غير مُتَمَوّل بِهِ. قَوْله: (تصدق بِأَصْلِهِ) ، هَذِه الْعبارَة كِنَايَة عَن الْوَقْف، وَلَفظ: تصدق، أَمر. قَوْله: (وَلَكِن ينْفق) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَتصدق بِهِ) ، أَي: فَتصدق عمر بِهِ، وَالضَّمِير يرجع إِلَى المَال الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَهُوَ المَال الَّذِي كَانَ يُقَال لَهُ: ثمغ، وَكَانَ نخلا، والثمغ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: وَقَالَ ابْن الْأَثِير: ثمغ، وصرمة بن الْأَكْوَع مالان معروفان بِالْمَدِينَةِ لعمر بن الْخطاب فوقفهما. وَفِي (مُعْجم الْبكْرِيّ) : ثمغ مَوضِع تِلْقَاء الْمَدِينَة كَانَ فِيهِ مَال لعمر بن الْخطاب، فَخرج إِلَيْهِ يَوْمًا ففاتته صَلَاة الْعَصْر، فَقَالَ: شغلتني ثمغ عَن الصَّلَاة، أشهدكم أَنَّهَا صَدَقَة.
4332 - حدَّثنا صَدَقَةُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّحْمانِ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَوْلاَ آخِرُ المُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أهْلِهَا كمَا قسَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ. .
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، بَيَان ذَلِك أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما فتح السوَاد لم يقسمها بَين أَهلهَا بل وضع على من بهم من أهل الذِّمَّة الْخراج فزارعهم وعاملهم، وَبِهَذَا يظْهر أَيْضا دُخُول هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الْمُزَارعَة.
وَرِجَاله سِتَّة: الأول: صَدَقَة بن الْفضل الْمروزِي وَهُوَ من أَفْرَاده. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: مَالك بن أنس. الرَّابِع: زيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة، مولى عمر بن الْخطاب الْعَدوي، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: أَبوهُ أسلم مولى عمر بن الْخطاب، يكنى أَبَا خَالِد، كَانَ من سبي الْيمن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أَبُو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة، كَانَ من سبي عين التَّمْر، اشْتَرَاهُ عمر بِمَكَّة سنة إِحْدَى عشرَة لما بَعثه أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليقيم للنَّاس الْحَج، مَاتَ قبل مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ صلى عَلَيْهِ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة وَمِائَة سنة. السَّادِس: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن أبي مَرْيَم وَمُحَمّد بن الْمثنى وَفِي الْجِهَاد عَن صَدَقَة بن الْفضل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَلَفظ أَحْمد: لَئِن عِشْت إِلَى هَذَا الْعَام الْمقبل لَا يفتح النَّاس قَرْيَة إلاَّ قسمتهَا بَيْنكُم.
قَوْله: (مَا فتحت) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْله: (قَرْيَة) ، مَرْفُوع بِهِ وَيجوز فتحت على بِنَاء الْفَاعِل، وقرية بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (إلاَّ قسمتهَا) ، زَاد ابْن إِدْرِيس الثَّقَفِيّ فِي رِوَايَة: مَا افْتتح الْمُسلمُونَ قَرْيَة من قرى الْكفَّار إلاَّ قسمتهَا سهماناً. قَوْله: (بَين أَهلهَا) ، أَي: الْغَانِمين. قَوْله: كَمَا قسم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد ابْن إِدْرِيس فِي رِوَايَته وَلَكِن أردْت أَن يكون جِزْيَة تجْرِي عَلَيْهِم، وَقد كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يعلم أَن المَال يعز، وَأَن الشُّح يغلب، وَأَن لَا ملك بعد كسْرَى يُقيم وتحرز خزائنه فيغنى بهَا فُقَرَاء الْمُسلمين، فأشفق أَن يبْقى آخر النَّاس لَا شَيْء لَهُم، فَرَأى أَن يحبس الأَرْض وَلَا يقسمها، كَمَا فعل بِأَرْض السوَاد نظرا للْمُسلمين وشفقة على آخِرهم بدوام نَفعهَا لَهُم ودر خَيرهَا عَلَيْهِم، وَبِهَذَا قَالَ مَالك فِي أشهر قوليه: إِن الأَرْض لَا تقسم.
51 - (بابُ منْ أحْيا أرْضاً مَوَاتاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أحيى أَرضًا مواتاً، بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الْوَاو، وَهُوَ الأَرْض الخراب، وَعَن الطَّحَاوِيّ هُوَ(12/173)
مَا لَيْسَ بِملك لأحد وَلَا هُوَ من مرافق الْبَلَد وَكَانَ خَارج الْبَلَد سَوَاء قرب مِنْهُ أَو بعد فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَعَن أبي يُوسُف: أَرض الْموَات هِيَ الْبقْعَة الَّتِي لَو وقف رجل على أدناه من العامر ونادى بِأَعْلَى صَوته لم يسمعهُ أقرب من فِي العامر إِلَيْهِ، وَقَالَ الْقَزاز: الْموَات الأَرْض الَّتِي لم تعمر، شبهت الْعِمَارَة بِالْحَيَاةِ وتعطيلها بفقد الْحَيَاة، وإحياء الْموَات أَن يعمد الشَّخْص لأرض لَا يعلم تقدم ملك عَلَيْهَا لأحد فيحييها بالسقي أَو الزَّرْع أَو الْغَرْس أَو الْبناء، فَيصير بذلك ملكه، سَوَاء فِيمَا قرب من الْعمرَان أم بعد، وَسَوَاء أذن لَهُ الإِمَام بذلك أم لم يَأْذَن عِنْد الْجُمْهُور، وَعند أبي حنيفَة: لَا بُد من إِذن الإِمَام مُطلقًا، وَعند مَالك فِيمَا قرب، وَضَابِط الْقرب مَا بِأَهْل الْعمرَان إِلَيْهِ حَاجَة من رعي وَنَحْوه، وَعَن قريب يَأْتِي بسط الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ورَأي ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ مَوَاتٌ
أَي: رأى الْإِحْيَاء عَليّ بن أبي طَالب فِي أَرض الخراب بِالْكُوفَةِ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: فِي أَرض الْموَات.
وَقَالَ عُمَرُ مَنْ أحْيَا أرْضاً مَيِّتَةً فَهْيَ لَهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه مثله، وروى أَبُو عبيد بن سَلام فِي كتاب الْأَمْوَال بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب أَن من أحيى مواتاً فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَعَن الْعَبَّاس بن يزِيد أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: من أحيى أَرضًا مواتاً لَيْسَ فِي يَد مُسلم وَلَا معاهد فَهِيَ لَهُ، وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَ النَّاس يتحجرون على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: من أحيى أَرضًا فَهِيَ لَهُ. قَالَ يحيى: كَأَنَّهُ لم يَجْعَلهَا لَهُ بالتحجير حَتَّى يُحْيِيهَا، وَفِي لفظ: وَذَلِكَ أَن قوما كَانُوا يتحجرون أَرضًا ثمَّ يدعونها وَلَا يحيونها، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب، قَالَ: أقطع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَاسا من مزينة أَو جُهَيْنَة أَرضًا، فعطلوها، فجَاء قوم فأحيوها، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَو كَانَت قطيعة مني أَو من أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لرددتها، وَلَكِن من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَقَالَ عِنْد ذَلِك: من عطل أَرضًا ثَلَاث سِنِين لم يعمر فجَاء غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ، وَفِي لفظ: حَتَّى يمْضِي ثَلَاث سِنِين فأحياها غَيره فَهُوَ أَحَق بهَا. قَوْله: (ميتَة) ، قَالَ شَيخنَا: هُوَ بتَشْديد الْيَاء، وَأَصله: ميوتة، اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، وَلَا يُقَال هُنَا: أَرضًا ميتَة، بِالتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَو خففت لحذف التَّأْنِيث، كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِي: أَنه يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، قَالَ الله تَعَالَى: {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} (الْفرْقَان: 94) . وَلم يقل: ميتَة.
ويُرْوَى عنْ عُمَرَ وابنِ عَوْفٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى عَن عَمْرو بن عَوْف بن يزِيد الْمُزنِيّ الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله.
وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ ولَيْسَ لِعِرْقٍ ظالِمٍ فِيهِ حَقٌّ
أَي: قَالَ عَمْرو بن عَوْف الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه زَاده، وَقَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فِي غير حق مُسلم فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم فِيهِ حق، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة كثير بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَفِي رِوَايَة لَهُ: من أحيى مواتاً من الأَرْض فِي غير حق مُسلم فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَرَوَاهُ أَيْضا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي عَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف حَدثنِي أبي أَن أَبَاهُ حَدثهُ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من أحيى أَرضًا مواتاً من غير أَن يكون فِيهَا حق مُسلم، فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَكثير هَذَا ضَعِيف، وَلَيْسَ لجده عَمْرو بن عَوْف فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ غير عَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ الْبَدِيِّ الَّذِي يَأْتِي حَدِيثه فِي الْجِزْيَة وَغَيرهَا، وَقَالَ(12/174)
الْكرْمَانِي عقيب قَوْله: وَقَالَ: أَي: عَمْرو، وَفِي بعض الرِّوَايَات: عمر، أَي ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن عَوْف، أَي: عبد الرَّحْمَن ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فَذكر عمر يكون تَكْرَارا. قلت: فِيهِ فَوَائِد. الأولى: أَنه تَعْلِيق بِصِيغَة الْقُوَّة وَهَذَا بِصِيغَة التمريض، وَهُوَ بِدُونِ الزِّيَادَة، وَهَذَا مَعهَا، وَهُوَ غير مَرْفُوع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مَرْفُوع، انْتهى. قلت: عمر، هُنَا بِدُونِ الْوَاو يَعْنِي: عمر بن الْخطاب، قَالُوا: إِنَّه تَصْحِيف، فَلَمَّا جعلُوا عمر بِدُونِ الْوَاو جعلُوا الْوَاو وَاو عطف، وَقَالُوا: وَابْن عَوْف، وَأَرَادُوا بِهِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَذكر الْكرْمَانِي مَا ذكره ثمَّ ذكر فِيهِ فَوَائِد: الأولى: الْمَذْكُورَة، فَلَا حَاجَة إِلَيْهَا لِأَن مَا ذكره لَيْسَ بِصَحِيح فِي الأَصْل، وَمَعَ هَذَا هُوَ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَالصَّحِيح هُوَ الأول، يَعْنِي أَنه: عَمْرو، بِالْوَاو، وَهُوَ: ابْن عَوْف الْمُزنِيّ لَا أَنه عمر بن الْخطاب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَوْله: (وَلَيْسَ لعرق ظَالِم فِيهِ حق) ، روى: لعرق، بِالتَّنْوِينِ وبالإضافة أَي: من غرس فِي أَرض غَيره بِدُونِ إِذْنه فَلَيْسَ لَهُ فِي الْإِبْقَاء فِيهَا حق، فَإِن أضيف فَالْمُرَاد بالظالم الغارس، وَسمي ظَالِما لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر بِلَا اسْتِحْقَاق، وَإِن وصف بِهِ فالمغروس سمي بِهِ لِأَنَّهُ الظَّالِم أَو لِأَن الظُّلم وصل بِهِ على الْإِسْنَاد الْمجَازِي، وَقيل: مَعْنَاهُ: لعرق ذِي ظلم، قَالَ ابْن حبيب: بَلغنِي عَن ربيعَة أَنه قَالَ: الْعرق الظَّالِم عرقان ظَاهر وباطن، فالباطن مَا احتفره الرجل من الْآبَار، وَالظَّاهِر الْغَرْس، وَعنهُ: الْعُرُوق أَرْبَعَة: عرقان فَوق الأَرْض وهما: الْغَرْس والنبات، وعرقان فِي جوفها: الْمِيَاه والمعادن. وَفِي (الْمعرفَة) للبيهقي: قَالَ الشَّافِعِي: جماع الْعرق الظَّالِم كل مَا حفر أَو غرس أَو بنى ظلما فِي حق امرىء بِغَيْر خُرُوجه مِنْهُ. وَفِي كتاب (الْخراج) لِابْنِ آدم: عَن الثَّوْريّ، وَسُئِلَ عَن الْعرق الظَّالِم، فَقَالَ: هُوَ المنتزى. قلت: من انتزى على أرضي إِذا أَخذهَا وَهُوَ من بَاب الافتعال من: النزو، بالنُّون وَالزَّاي، وَهُوَ: الوثبة، وَعند النَّسَائِيّ، عَن عُرْوَة بن الزبير: هُوَ الرجل يعْمل الأَرْض الخربة وَهِي للنَّاس وَقد عجزوا عَنْهَا فتركوها حَتَّى خربَتْ.
ويُرْوَى فيهِ عنْ جابِر عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى فِي هَذَا الْبَاب عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: وَإِنَّمَا لم يذكر الْمَرْوِيّ بِعَيْنِه لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِهِ، بل لَيْسَ صَحِيحا عِنْده، وَلِهَذَا قَالَ: يرْوى، ممرضاً. قلت: نفس الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى بن أَيُّوب بن إِبْرَاهِيم عَن الثَّقَفِيّ وَعَن عَليّ بن مُسلم عَن عباد بن عباد عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَلَفظه: من أحيى أَرضًا ميتَة فَلهُ فِيهَا أجر، وَمَا أكلت العوافي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن زيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أحَاط حَائِطا على أَرض فَهِيَ لَهُ، وروى ابْن عدي من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهُوَ أَحَق بهَا، وَإِسْنَاده ضَعِيف، وروى ابْن عدي أَيْضا من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من عمر أَرضًا خراباً فَأكل مِنْهَا سبع أَو طَائِر أَو شَيْء كَانَ لَهُ ذَلِك صَدَقَة، وَفِي إِسْنَاده سَلمَة بن سُلَيْمَان الضَّبِّيّ، قَالَ: ابْن عدي مُنكر الحَدِيث عَن الثِّقَات، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث مَرْوَان بن الحكم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْبِلَاد بِلَاد الله والعباد عباد الله. وَمن أحَاط على حَائِط فَهُوَ لَهُ. وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ من حَدِيث عبد الله بن عمر، وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أسمر بن مُضرس من رِوَايَة عقيلة بنت أسمر عَن أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من سبق إِلَى مَا لم يسْبقهُ إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ لَهُ.(12/175)
5332 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ جَعْفَرٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمانِ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أعْمرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أحَقُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله بن أبي جَعْفَر وَاسم أبي جَعْفَر: يسَار الْأمَوِي الْقرشِي الْمصْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْأسود يَتِيم عُرْوَة بن الزبير، وَقد تقدما فِي الْغسْل. وَنصف الْإِسْنَاد الأول مصريون وَالنّصف الثَّانِي مدنيون.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أعمر) بِفَتْح الْهمزَة من بَاب الْأَفْعَال من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَقَالَ عِيَاض: كَذَا وَقع، وَالصَّوَاب عمر ثلاثياً قَالَ تَعَالَى: {وعمروها أَكثر مِمَّا عمروها} (الرّوم: 9) . وَكَذَا قَالَ فِي (الْمطَالع) وَقَالَ ابْن بطال: وَيحْتَمل أَن يكون أَصله: من اعْتَمر أَرضًا، وَسَقَطت التَّاء من الأَصْل. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الْكَلَام مَعَ مَا فِيهِ من توهم الْغَلَط، لِأَن صَاحب (الْعين) ذكر: أعمرت الأَرْض، وَقَالَ غَيره: يُقَال: أعمر الله بَاب مَنْزِلك، فَالْمُرَاد من أعمر أَرضًا بِالْإِحْيَاءِ فَهُوَ أَحَق، أَي: أَحَق بِهِ من غَيره، وَإِنَّمَا حذف هَذَا الَّذِي قدرناه للْعلم بِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: من أعمر، على بِنَاء الْمَجْهُول أَي: من أعْمرهُ غَيره، فَالْمُرَاد من الْغَيْر الإِمَام، وَهَذَا يدل على أَن إِذن الإِمَام لَا بُد مِنْهُ، وَوَقع فِي (جمع الْحميدِي) : من عمر، ثلاثياً، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر: عَن يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ. قَوْله: (فَهُوَ أَحَق) ، زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَهُوَ أَحَق بهَا) ، أَي: من غَيره، وَاحْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على أَنه لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى إِذن الإِمَام فِيمَا قرب وَفِيمَا بعد، وَعَن مَالك: فِيمَا قرب لَا بُد من إِذن الإِمَام وَإِن كَانَ فِي فيافي الْمُسلمين والصحارى وَحَيْثُ لَا يتشاح النَّاس فِيهِ فَهِيَ لَهُ بِغَيْر إِذْنه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ لأحد أَن يحيي مواتاً إلاَّ بِإِذن الإِمَام فِيمَا بَعدت وَقربت، فَإِن أَحْيَاهُ بِغَيْر إِذْنه لم يملكهُ، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول مَكْحُول وَابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ.
وَاحْتج أَبُو حنيفَة بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) فِي (الصَّحِيحَيْنِ) والحمى: مَا حمي من الأَرْض فَدلَّ أَن حكم الْأَرْضين إِلَى الْأَئِمَّة لَا إِلَى غَيرهم. فَإِن قلت: احْتج الطَّحَاوِيّ لِلْجُمْهُورِ مَعَ حَدِيث الْبَاب بِالْقِيَاسِ على مَاء الْبَحْر وَالنّهر، وَمَا يصاد من طير وحيوان، فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن مَا أَخذه أَو صَاده ملكه، سَوَاء قرب أَو بعد، وَسَوَاء أذن الإِمَام أم لم يَأْذَن. قلت: هَذَا قِيَاس بالفارق، فَإِن الإِمَام لَا يجوز لَهُ تمْلِيك مَاء نهر لأحد، وَلَو ملك رجلا أَرضًا ملكه، وَلَو احْتَاجَ الإِمَام إِلَى بيعهَا فِي نَوَائِب الْمُسلمين جَازَ بَيْعه لَهَا، وَلَا يجوز ذَلِك فِي مَائِهِمْ وَلَا صيدهم وَلَا نهرهم، وَلَيْسَ للْإِمَام بيعهَا وَلَا تمليكها لأحد، وَإِن الإِمَام فِيهَا كَسَائِر النَّاس. وَاحْتج بَعضهم لأبي حنيفَة بِحَدِيث معَاذ يرفعهُ: (إِنَّمَا للمرء مَا طابت بِهِ نفس إِمَامه) . قلت: هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث بَقِيَّة عَن رجل لم يسمه عَن مَكْحُول عَنهُ، وَقَالَ: هَذَا مُنْقَطع فِيمَا بَين مَكْحُول وَمن فَوْقه، وَفِيه رجل مَجْهُول، وَلَا حجَّة فِي مثل هَذَا الْإِسْنَاد. فَإِن قلت: رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث عَمْرو بن وَاقد عَن مُوسَى بن يسَار عَن مَكْحُول عَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن معَاذ؟ قلت: قَالَ: عَمْرو مَتْرُوك بِاتِّفَاق.
وَأجِيب: عَن أَحَادِيث الْبَاب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهَا: من أَحْيَاهَا على شَرَائِط الْإِحْيَاء فَهِيَ لَهُ، وَمن شَرَائِطه: تحظيرها، وَإِذن لَهُ فِي ذَلِك، وتمليكه إِيَّاهَا. وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَعَن الطَّحَاوِيّ: عَن مُحَمَّد بن عبيد الله بن سعيد أبي عون الثَّقَفِيّ الْأَعْوَر الْكُوفِي التَّابِعِيّ، قَالَ: خرج رجل من أهل الْبَصْرَة يُقَال لَهُ: أَبُو عبد الله إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن بِأَرْض الْبَصْرَة أَرضًا لَا تضر بِأحد من الْمُسلمين وَلَيْسَ بِأَرْض خراج. فَإِن شِئْت أَن تقطعنيها اتخذها قضباً وَزَيْتُونًا! فَكتب عمر إِلَى أبي مُوسَى: إِن كَانَت حمى فاقطعها إِيَّاه، أفَلاَ تَرى أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يَجْعَل لَهُ أَخذهَا وَلَا جعل لَهُ ملكهَا إلاَّ بإقطاع خَليفَة ذَلِك الرجل إِيَّاهَا وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَقُول لَهُ: وَمَا حَاجَتك إِلَى إقطاعي إياك تحميها وتعمرها فتملكها فَدلَّ ذَلِك أَن الْإِحْيَاء عِنْد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَا أذن الإِمَام فِيهِ للَّذي يَتَوَلَّاهُ ويملكه إِيَّاه. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد دلّ على ذَلِك أَيْضا مَا حَدثنَا بِهِ ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا أَزْهَر السمان عَن ابْن عون عَن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لنا رِقَاب الأَرْض، فَدلَّ ذَلِك على أَن رِقَاب الْأَرْضين كلهَا إِلَى أَئِمَّة الْمُسلمين، وَأَنَّهَا لَا تخرج من أَيْديهم إلاَّ بإخراجهم إِيَّاهَا إِلَى من رَأَوْا على حسن النّظر(12/176)
مِنْهُم للْمُسلمين إِلَى عمَارَة بِلَادهمْ، وصلاحها. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، وَبِه نَأْخُذ.
قَالَ عُرْوَةُ قَضَىَ بِهِ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فِي خِلافَتِهِ
أَي: قَالَ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام: قضى بالحكم الْمَذْكُور وَهُوَ أَن من: أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَيَّام خِلَافَته، وَقد تقدم فِي أول الْبَاب عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ. وَقد ذكرنَا أَن مَالِكًا وَصله، وَهَذَا قَوْله، وَالَّذِي رَوَاهُ عُرْوَة فعله، وَفِي (كتاب الْخراج) ليحيى بن آدم: من طَرِيق مُحَمَّد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب: من أحيى مواتاً من الأَرْض فَهُوَ أَحَق بِهِ، وروى من وَجه آخر عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَو غَيره: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من عطل أَرضًا ثَلَاث سِنِين لم يعمرها فجَاء غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ، وَعنهُ قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّه إِذا حجر أَرضًا وَلم يعمرها ثَلَاث سِنِين أَخذهَا الإِمَام وَدفعهَا إِلَى غَيره، لِأَن التحجير لَيْسَ بإحياء ليتملكها بِهِ، لِأَن الإحيار هُوَ الْعِمَارَة، والتحجير للإعلام. وَذكر فِي (الْمُحِيط) أَنه يصير ملكا للمحجر، وَذكر خُوَاهَر زادة: أَن التحجير يُفِيد ملكا مؤقتاً إِلَى ثَلَاث سِنِين، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأَصَح، وَأحمد. وَالْأَصْل عندنَا: أَن من أحيى مواتاً هَل يملك رقبَتهَا؟ قَالَ بَعضهم: لَا يملك رقبَتهَا، وَإِنَّمَا يملك استغلالها، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول. وَعند عَامَّة الْمَشَايِخ، يملك رقبَتهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَثَمَرَة الْخلاف فِيمَن أَحْيَاهَا ثمَّ تَركهَا فزرعها غَيره، فعلى قَول الْبَعْض: الثَّانِي أَحَق بهَا، وعَلى قَول الْعَامَّة الأول يَنْزِعهَا من الثَّانِي كمن أخرب دَاره أَو عطل بستانه وَتَركه حَتَّى مرت عَلَيْهِ سنُون، فَإِنَّهُ لَا يخرج عَن ملكه، وَلَكِن إِذا حجرها وَلم يعمرها ثَلَاث سِنِين يَأْخُذهَا الإِمَام كَمَا ذكرنَا، وَتَعْيِين الثَّلَاث بأثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ عندنَا: يملكهُ الذِّمِّيّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسلمِ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة: لَا يملكهُ فِي دَار الْإِسْلَام، وَسَوَاء فِي ذَلِك الْحَرْبِيّ وَالذِّمِّيّ والمستأمن، وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي بِحَدِيث أسمر بن مُضرس، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِعُمُوم الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي طَاهِر: أَن الذِّمِّيّ يملك بِالْإِحْيَاءِ إِذا كَانَ بِإِذن الإِمَام.
61 - (177 بابٌ)
قد ذكرنَا غير مرّة أَن لَفْظَة بَاب، إِذا ذكرت مُجَرّدَة عَن التَّرْجَمَة تكون بِمَعْنى الْفَصْل من الْبَاب السَّابِق، وَلَيْسَ فِيهِ تَنْوِين، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، أللهم إلاَّ إِذا قُلْنَا: هَذَا بَاب، فَيكون حِينَئِذٍ منوناً مَرْفُوعا على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
6332 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرَ عنْ مُوسَى بنِ عقْبَةَ عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيَ وهْوَ فِي مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الوَادِي فَقِيلَ لَهُ إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ فَقَالَ موسَى وقَدْ أناخَ بِنا سالِمٌ بالمُناخِ الَّذِي كانَ عبدُ الله يُنِيخُ بِهِ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ أسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّرِيقِ وسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن ذَا الحليفة لَا يملك بِالْإِحْيَاءِ لما فِيهِ من منع النَّاس النُّزُول فِيهِ، وَأَن الْموَات يجوز الِانْتِفَاع بِهِ، وَأَنه غير مَمْلُوك لأحد، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي وَجه الْمُطَابقَة، وَقد تكلم الْمُهلب فِيهِ بِمَا لَا يجدي، ورد عَلَيْهِ ابْن بطال بِمَا لَا ينفع، وَجَاء آخر نصر الْمُهلب فِي ذَلِك، وَالْكل لَا يشفي العليل وَلَا يروي الغليل، فَلذَلِك تَرَكْنَاهُ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العقيق وادٍ مبارك، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن أبي(12/177)
بكر عَن فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة إِلَى آخِره. وَأخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أبي إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمُؤَدب الْمَدِينِيّ عَن مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أرى) على بِنَاء الْمَجْهُول من الْمَاضِي من الإراءة، والمناخ بِضَم الْمِيم. قَوْله: (أَسْفَل) بِالرَّفْع وَالنّصب، والمعرس، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة: مَوضِع التَّعْرِيس، وَهُوَ النُّزُول فِي آخر اللَّيْل.
7332 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبُ بنُ إسْحَاقَ عنِ الأوْزَاعِيِّ قَالَ حدَّثني يَحْيَى عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّيْلَةَ أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وهْوَ بالْعَقِيقِ أنْ صَلِّ فِي هذَا الوَادِي المُبَارَكِ وقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ. (انْظُر الحَدِيث 4351 وطرفه) .
هَذَا أَيْضا مضى فِي كتاب الْحَج فِي الْبَاب الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن الْوَلِيد وَبشر بن بكر التنيسِي، قَالَا: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ ... إِلَى آخِره، نَحوه وَهنا أخرجه: عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه عَن شُعَيْب بن إِسْحَاق الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
71 - (بابٌ إذَا قالَ رَبُّ الأرْضَ أُقِرُّكَ مَا أقَرَّكَ الله ولَمْ يَذْكُرْ أجَلاً مَعْلُوماً فَهُمَا علَى تَرَاضِيهِما)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ رب الأَرْض للمزارع: أقرك مَا أقرك الله، أَي مُدَّة إِقْرَار الله تَعَالَى إياك. قَوْله: (وَلم يذكر) ، أَي: وَالْحَال أَن رب الأَرْض لم يذكر أَََجَلًا مَعْلُوما، يَعْنِي: مُدَّة مَعْلُومَة. قَوْله: (فهما) ، أَي: رب الأَرْض والمزارع، (على تراضيهما) ، يَعْنِي: على مَا تَرَاضيا عَلَيْهِ.
8332 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ المقْدَامِ قَالَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا موسَى قَالَ أخْبرَنا نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ عبدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ حدَّثني موسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ أنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أجْلَى الْيَهُودَ والنَّصارَى مِنْ أرْضِ الحِجَازِ وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا ظَهَرَ علَى خَيْبَرَ أرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْها وكانَتِ الأرْضُ حِينَ ظَهَرَ علَيْها لله ولِرَسُولهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولِلْمُسْلِمينَ وأرَادَ إخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْها فَسأَلَتِ اليَهودُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُقِرَّهُمْ بِها أنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا ولَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ فَقَالَ لَهُم رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُقِرُّكُمْ بِها علَى ذَلِكَ مَا شِئْنا فقَرُّوا بِها حتَّى أجْلاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاءَ وأرِيحاءَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نقركم بهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن الْمِقْدَام، بِكَسْر الْمِيم: ابْن سُلَيْمَان أَبُو الْأَشْعَث الْعجلِيّ. الثَّانِي: فُضَيْل مصغر فضل بن سُلَيْمَان النميري، مضى فِي الصَّلَاة. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر. السَّادِس: عبد الرَّزَّاق بن همام الْحِمْيَرِي. السَّابِع: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار(12/178)
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه وفضيل ابْن سُلَيْمَان بصريان وَأَن مُوسَى بن عقبَة مدنِي. وَأَن عبد الرَّزَّاق يمامي وَأَن ابْن جريج مكي وَأَن نَافِعًا مدنِي. وَفِيه: أَنه أخرجه مَوْصُولا من طَرِيق فُضَيْل ومعلقاً من طَرِيق ابْن جريج، وَأَنه سَاقه على لفظ الرِّوَايَة الْمُعَلقَة. وَأخرج الْمُعَلق مُسْندًا فِي كتاب الْخمس، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْمِقْدَام حَدثنَا الفضيل بن سُلَيْمَان حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة أَخْبرنِي نَافِع، وَطَرِيق ابْن جريج أخرجه مُسلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن رَافع وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أجْلَى) قَالَ الْهَرَوِيّ: جلا الْقَوْم عَن مواطنهم، وَأجلى بِمَعْنى وَاحِد، والإسم: الْجلاء والإجلاء، يُقَال: جلاء عَن الوطن يجلو جلا، وأجلي يجلي إجلاء: إِذا خرج مفارقاً، وجلوته أَنا وأجليته، وَكِلَاهُمَا لَازم ومتعد. قَوْله: (من أَرض الْحجاز) ، قَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك، وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة، وَمن وَرَاء ذَلِك إِلَى مَشَارِق أَرض الْبَصْرَة، فَهُوَ نجد. وَمَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف نجد، وَمَا كَانَ من وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة، وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز، وَإِنَّمَا سمي حجازاً لِأَنَّهُ يحجز بَين تهَامَة ونجد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْحجاز هُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن ومخاليفها وعمارتها. قلت: لم أدر من أَيْن أَخذ الْكرْمَانِي أَن الْيمن من الْحجاز؟ نعم، هِيَ من جَزِيرَة الْعَرَب. قَالَ الْمَدِينِيّ: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن، وَلم يذكر أحد أَن الْيمن من أَرض الْحجاز. قَوْله: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) ، إِلَى آخِره، مَوْصُولا لِابْنِ عمر. قَوْله: (لما ظهر) أَي: غلب. قَوْله: (لله وَلِرَسُولِهِ وللمسلمين) ، كَذَا فِي الْأُصُول، وَكَذَا عِنْد ابْن السكن عَن الْفربرِي، وَفِي رِوَايَة فُضَيْل بن سُلَيْمَان الَّتِي تَأتي: وَكَانَت الأَرْض لما ظهر عَلَيْهَا للْيَهُود وَلِلرَّسُولِ وللمسلمين، ووفق الْمُهلب بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن رِوَايَة ابْن جريج مَحْمُولَة على الْحَال الَّتِي آل إِلَيْهَا الْأَمر بعد الصُّلْح، وَرِوَايَة فُضَيْل مَحْمُولَة على الْحَال الَّتِي كَانَت قبل، وَذَلِكَ أَن خَيْبَر فتح بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة، فَالَّذِي فتح عنْوَة كَانَ جَمِيعه لله وَلِرَسُولِهِ وللمسلمين، وَالَّذِي فتح صلحا كَانَ للْيَهُود ثمَّ صَار للْمُسلمين بِعقد الصُّلْح. قَوْله: (ليقرهم) أَي: ليسكنهم. قَوْله: (أَن يكفوا بهَا) أَي: بِأَن يكفوا بهَا، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: لكفاية عمل نخيلاتها ومزارعها وَالْقِيَام بتعهدها وعمارتها، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق: أَن يقرهم بهَا على أَن يكفوا، أَي: على كفايتها. قَوْله: (على ذَلِك) أَي: على مَا ذكر من كِفَايَة الْعَمَل وَنصف الثَّمر لَهُم. قَوْله: (فقروا بهَا) ، بِفَتْح الْقَاف، أَي: سكنوا بهَا أَي: بِخَيْبَر، وَضَبطه بَعضهم بِضَم الْقَاف، وَله وَجه. قَوْله: (إِلَى تيماء وأريحاء) ، تيماء بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالمد: من أُمَّهَات الْقرى على الْبَحْر من بِلَاد طَيء، وَمِنْهَا يخرج إِلَى الشَّام. قَالَه ابْن قرقول، وَفِي (الْمغرب) ؛ تيماء مَوضِع قريب من الْمَدِينَة. وأريحاء، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا حاء مُهْملَة، وبالمد، وَيُقَال لَهَا: أُرِيح أَيْضا، وَهِي قَرْيَة بِالشَّام. قَالَه الْبكْرِيّ: سميت بأريحاء بن لمك بن أرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: تمسك بعض أهل الظَّاهِر على جَوَاز الْمُسَاقَاة إِلَى أجل مَجْهُول بقوله: نقركم بهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على: أَنَّهَا لَا تجوز إلاَّ لأجل مَعْلُوم، قَالُوا: وَهَذَا الْكَلَام كَانَ جَوَابا لما طلبُوا حِين أَرَادَ إخراجهم مِنْهَا، فَقَالُوا: نعمل فِيهَا وَلكم النّصْف ونكفيكم مؤونة الْعَمَل، فَلَمَّا فهمت الْمصلحَة أجابهم إِلَى الْإِبْقَاء وَوَقفه على مَشِيئَته، وَبعد ذَلِك عاملهم على الْمُسَاقَاة، وَقد دلّ على ذَلِك قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: عَامل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل خَيْبَر على شطر مَا يخرج مِنْهَا، ففرد العقد بِالذكر دون ذكر الصُّلْح، وَزعم النَّوَوِيّ: أَن الْمُسَاقَاة جَازَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فِي أول الْإِسْلَام، يَعْنِي: بِغَيْر أجل مَعْلُوم. قَالَ: وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا أطلقا الْمُسَاقَاة اقْتضى ذَلِك سنة وَاحِدَة، قَالَ ابْن بطال: وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن. قلت: لَيْسَ هَذَا قَول مُحَمَّد بن الْحسن، وَهَذَا غلط، وَإِنَّمَا هُوَ قَول مُحَمَّد بن سَلمَة، فَإِنَّهُ قَالَ: تجوز الْمُزَارعَة بِلَا بَيَان الْمدَّة، فَكَذَلِك الْمُسَاقَاة تجوز لِأَنَّهَا كالمزارعة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَشرط بَيَان الْمدَّة فِي الْمُسَاقَاة لِأَنَّهَا كالمزارعة، وكل وَاحِد مِنْهُمَا كَالْإِجَارَةِ فَلَا يجوز إلاَّ بِبَيَان الْمدَّة، فَإِذا لم يبينا لم تجز، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، إلاَّ أَنه يَنْبَغِي أَن يكون أقل الْمدَّة مَا يُمكن إِدْرَاك الثَّمَرَة فِيهِ، وَبِه قَالَ أَحْمد.
وَاخْتلفت أَقْوَال الشَّافِعِي فِي(12/179)
أَكثر مُدَّة الْإِجَارَة وَالْمُسَاقَاة، فَقَالَ فِي مَوضِع: سنة، وَقَالَ فِي مَوضِع: إِلَى ثَلَاثِينَ سنة. وَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) ؛ وَهَذَا تحكم. وَقَالَ فِي مَوضِع: إِلَى مَا شَاءَ وَبِه قَالَ أَحْمد. وَقَالَ أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِحْسَان: إِذا لم يبين الْمدَّة يجوز، وَيَقَع على أول ثَمَر يخرج فِي تِلْكَ السّنة. فَإِن قلت: قد ذكرت الْآن: إِذا لم يبينا الْمدَّة لم يجز، وَهنا نقُول: يجوز؟ قلت: ذَاك قِيَاس وَهَذَا اسْتِحْسَان، وَيَقَع العقد على أول ثَمَرَة تخرج فِي تِلْكَ السّنة، لِأَن لإدراكها وقتا مَعْلُوما وَإِن تَأَخّر أَو تقدم، فَذَلِك يسير فَلَا يَقع بِسَبَبِهِ الْمُنَازعَة عَادَة، بِخِلَاف الزَّرْع فَإِنَّهُ لَا يجوز بِلَا ذكر الْمدَّة قِيَاسا واستحساناً، لِأَن ابتداءه يخْتَلف كثيرا خَرِيفًا وصيفاً وربيعاً، فَتَقَع الْجَهَالَة فِي الِابْتِدَاء والانتهاء بِنَاء عَلَيْهِ، وَلَو لم تخرج الثَّمَرَة فِي الْمُسَاقَاة فِي أول السّنة الَّتِي وَقع العقد فِيهَا بِدُونِ ذكر الْمدَّة تبطل الْمُسَاقَاة. وَفِي (التَّوْضِيح) : كل من أجَاز الْمُسَاقَاة فَإِنَّهُ أجازها إِلَى أجل مَعْلُوم، إلاَّ مَا ذكر ابْن الْمُنْذر عَن بَعضهم: أَنه يؤول الحَدِيث على جَوَازهَا بِغَيْر أجل، وأئمة الْفَتْوَى على خِلَافه، وَأَنَّهَا لَا تجوز إلاَّ بِأَجل مَعْلُوم. وَقَالَ مَالك: الْأَمر عندنَا فِي النّخل تساقي السنتين وَالثَّلَاث والأربع، والأقل وَالْأَكْثَر،، وأجازها أَصْحَابه فِي عشر سِنِين فَمَا دونهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَإِن قيل: لم ينص ابْن عمر وَلَا غَيره على مُدَّة مَعْلُومَة مِمَّن روى هَذِه الْقِصَّة، فَمن أَيْن لكم اشْتِرَاط الْأَجَل؟ فَالْجَوَاب: أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على منع الْإِجَارَة المجهولة. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقركم مَا أقره الله) ، لَا يُوجب فَسَاد عقده، وَيُوجب فَسَاد عقد غَيره بعده، لِأَنَّهُ كَانَ ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي بتقرير الْأَحْكَام ونسخها، فَكَانَ بَقَاء حكمه مَوْقُوفا على تَقْرِير الله تَعَالَى لَهُ، فَإِذا شَرط ذَلِك فِي عقده لم يُوجب فَسَاده، وَلَيْسَ كَذَلِك صورته من غَيره، لِأَن الْأَحْكَام قد ثبتَتْ وتقررت.
وَفِيه: مساقاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على نصف الثَّمر تَقْتَضِي عُمُوم الثَّمر، فَفِيهِ حجَّة لمن أجازها فِي الْأُصُول كلهَا، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَمَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز إلاَّ فِي النّخل وَالْكَرم خَاصَّة، وجوزها فِي الْقَدِيم فِي سَائِر الْأَشْجَار المثمرة. وَقَالَ أَصْحَابنَا: تجوز الْمُسَاقَاة فِي النّخل وَالشَّجر وَالْكَرم والرطاب وأصول الباذنجان، وَلم يجوز الشَّافِعِي قولا وَاحِدًا فِي الرطاب، وَقَالَ دَاوُد: لَا يجوز إلاَّ فِي النّخل خَاصَّة، وَعَن مَالك: جَوَاز الْمُسَاقَاة فِي المقاثي والبطيخ والباذنجان. وَفِيه: إجلاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْيَهُود من الْحجاز، لِأَنَّهُ لم يكن لَهُم عهد من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على بقائهم فِي الْحجاز دَائِما، بل كَانَ ذَلِك مَوْقُوفا على مَشِيئَته، وَلما عهد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد مَوته بإخراجهم من جَزِيرَة الْعَرَب، وانتهت النّوبَة إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجهم إِلَى تيماء وأريحاء بِالشَّام.
81 - (بابُ مَا كانَ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوَاسي بَعْضُهُمْ بَعْضاً فِي الزِّرَاعَةِ والثَّمرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ، أَي: وجد، وَوَقع من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (يواسي) ، من الْمُسَاوَاة وَهِي الْمُشَاركَة فِي شَيْء بِلَا مُقَابلَة مَال، وَهِي جملَة وَقعت حَالا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9332 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ مُقاتِل قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا الأوْزَاعِيُّ عنْ أبِي النَّجاشِيِّ مَوْلَى رافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ سَمِعْتُ رَافِع بنَ خَديجِ بنِ رَافِعٍ عنْ عَمِّهِ ظهيرِ بنِ رافِعٍ قَالَ ظُهَيْرٌ لَقَدْ نَهانا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أمْرٍ كانَ بِنا رافِقاً قُلْتُ مَا قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهْوَ حَقٌّ قَالَ دَعانِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ قلْتُ نُؤَاجِرُها علَى الرُّبعِ وعَلى الأوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ والشَّعِيرِ قَالَ لاَ تَفْعَلُوا ازْرَعُوها أوْ أزْرِعُوها أوْ أمْسِكُوها قَالَ رَافِعٌ قُلْتُ سَمعاً وطَاعَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو أزرِعوها) يَعْنِي: أعطوها لغيركم يَزْرَعهَا بِغَيْر أُجْرَة، وَهَذِه هِيَ الْمُوَاسَاة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: أَبُو النَّجَاشِيّ، بِفَتْح النُّون وَتَخْفِيف الْجِيم وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء وتخفيفها: واسْمه عَطاء بن صُهَيْب، مولى رَافع بن خديج. الْخَامِس: هُوَ رَافع بن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره(12/180)
جِيم: ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ. السَّادِس: ظهير، بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْهَاء مصغر ظهر ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ، عَم رَافع بن خديج.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان وَالْأَوْزَاعِيّ شَامي والبقية مدنيون. وَفِيه: الْأَوْزَاعِيّ عَن أبي النَّجَاشِيّ عَطاء، وروى الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا، كَمَا فِي ثَانِي أَحَادِيث الْبَاب، معنى الحَدِيث عَن عَطاء عَن جَابر، وَهُوَ عَطاء بن أبي رَبَاح، فَكَانَ الحَدِيث عِنْده عَن كل مِنْهُمَا بِسَنَدِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من وَجه آخر إِلَى الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي أَبُو النَّجَاشِيّ. وَفِيه: سَمِعت رَافع بن خديج. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر عَن الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي أَبُو النَّجَاشِيّ: قَالَ: صَحِبت رَافع بن خديج سِتّ سِنِين ...
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن أبي مسْهر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن هِشَام بن عمار عَن يحيى بن حَمْزَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد ابْن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لقد نَهَانَا) ، بَينه فِي آخر الحَدِيث بقوله: لَا تَفعلُوا فَإِنَّهُ نهى صَرِيحًا. قَوْله: (رافقاً) أَي: ذَا رفق، وانتصابه على أَنه خبر كَانَ، واسْمه الضَّمِير الَّذِي فِي كَانَ الَّذِي يرجع إِلَى قَوْله: أَمر، وَيجوز أَن يكون إِسْنَاد الرِّفْق إِلَى الْأَمر بطرِيق الْمجَاز. قَوْله: (بمحاقلكم) ، بمزارعكم، جمع محقل من الحقل، وَهُوَ الزَّرْع. قَوْله: (على الرّبع) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْبَاء وَهِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: على الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْبَاء، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير أَي: على الزَّرْع الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: على الرّبيع، بِالتَّصْغِيرِ. قَوْله: (وعَلى الأوسق) ، جمع وسق، وَكلمَة: الْوَاو، بِمَعْنى: أَو، أَي: أَو الرّبيع، وَكَذَا: الأوسق، وَيحْتَمل أَن يكون عَن مؤاجرة الأَرْض بِالثُّلثِ أَو الرّبع مَعَ اشْتِرَاط صَاحب الأَرْض أوسقاً من الشّعير وَنَحْوه. قَوْله: (ازرعوها) ، بِكَسْر الْهمزَة: أَمر من زرع يزرع يَعْنِي: ازرعوها بِأَنْفُسِكُمْ. قَوْله: (أَو أزرِعوها) ، بِفَتْح الْهمزَة من: الإزراع، يَعْنِي: أزرِعوها غَيْركُمْ، يَعْنِي أعطوها لغيركم يزرعونها بِلَا أُجْرَة، وَكلمَة: أَو، للتَّخْيِير لَا للشَّكّ. وَقيل: كلمة: أَو، بِمَعْنى الْوَاو. قلت: بل هُوَ تَخْيِير من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الْأُمُور الثَّلَاثَة: أَن يزرعوا بِأَنْفسِهِم، أَو يجعلوها مزرعة للْغَيْر مجَّانا، أَو يمسكوها معطلة. قَوْله: (سمعا وَطَاعَة) ، بِالنّصب وَالرَّفْع، قَالَه الْكرْمَانِي وَلم يبين وَجهه. قلت: أما النصب فعلى أَنه مصدر لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره: أسمع كلامك سمعا، وأطيعك طَاعَة. وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: كلامك أَو أَمرك سمع أَي مسموع، وَفِيه مُبَالغَة، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي: طَاعَة، أَي: أَمرك طَاعَة، يَعْنِي: مُطَاع، أَو: أَنْت مُطَاع فِيمَا تَأمره.
وَاحْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور قوم، وكرهوا إِجَارَة الأَرْض بِجُزْء مِمَّا يخرج عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب ذكر مُجَردا عقيب: بَاب قطع الشّجر النخيل.
0432 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى قَالَ أخبرنَا الأوْزَاعِيُّ عنْ عَطاءٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كَانُوا يَزْرَعُونَها بالثُّلُثِ والرُّبُعِ والنِّصْفِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ كانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أوْ لِيَمْنَحْها فإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أرْضَهُ. (الحَدِيث 0432 طرفه فِي: 2362) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو ليمنحها) فَإِن المنحة هِيَ الْمُوَاسَاة، وَعبيد الله بن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن الحكم بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن هِشَام بن عمار عَن يحيى بن حَمْزَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن دُحَيْم.
قَوْله: (كَانُوا) ، أَي: الصَّحَابَة فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِالثُّلثِ وَالرّبع وَالنّصف) أَي: أَو الرّبع أَو النّصْف. وَكلمَة: الْوَاو فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنى: أَو. قَوْله: (أَو ليمنحها) ، من: منح يمنح من بَاب فتح يفتح، إِذا أعْطى، ومنح يمنح من بَاب ضرب(12/181)
يضْرب، وَالِاسْم: المنحة، بِالْكَسْرِ وَهِي: الْعَطِيَّة، والمنيحة منحة اللَّبن كالناقة أَو الشَّاة تعطيها غَيْرك يحتلبها، ثمَّ يردهَا عَلَيْك، واستمنحه: طلب منحته، وروى مُسلم من حَدِيث مطر الْوراق عَن جَابر بِلَفْظ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها، فَإِن عجز عَنْهَا فليمنحها أَخَاهُ الْمُسلم وَلَا يؤاجرها. وَبِه احْتج أَيْضا من كره إِجَارَة الأَرْض بِالثُّلثِ أَو الرّبع وَنَحْوهمَا.
1432 - وَقَالَ الرَّبِيعُ بنُ نافِعٍ أبُو تَوْبَةَ حَدثنَا مُعاوِيَةُ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ كانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَزْرَعْها أوْ لِيَمْنَحْها أخاهُ فَإِن أَبى فَلْيُمْسِكْ أرْضَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق. الرّبيع خلاف الخريف ابْن نَافِع ضد الضار وَأَبُو تَوْبَة كنيته بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْحلَبِي الْحَافِظ الثِّقَة كَانَ يعد من الأبدال، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ سكن طرسوس وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي الطَّلَاق، وَمُعَاوِيَة هُوَ ابْن سَلام، بتَشْديد اللَّام، مر فِي الْكُسُوف، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن حسن الْحلْوانِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي، كِلَاهُمَا عَن أبي تَوْبَة بِهِ.
2432 - حدَّثنا قَبِيصَةُ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ ذَكَرْتُهُ لِطاوُوسٍ فَقَالَ يُزْرِعُ قَالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَنْهَ عنْهُ ولَكِنْ قَالَ أنْ يَمْنَحَ أحَدُكُمْ أخاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأخُذَ شَيْئاً مَعْلوماً. .
قبيصَة، هُوَ بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عقبَة الْكُوفِي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
قَوْله: (ذكرته) أَي: قَالَ عَمْرو: ذكرت حَدِيث رَافع بن خديج الْمَذْكُور آنِفا لطاووس، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي فِيهِ النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض. قَوْله: (فَقَالَ: يزرع) أَي: فَقَالَ طَاوُوس: يزرع، بِضَم الْيَاء من الإزراع يَعْنِي: يزرع غَيره. قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس) إِلَى آخِره، فِي معرض التَّعْلِيل من جِهَة طَاوُوس، يَعْنِي: لِأَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه عَنهُ، أَي: لم ينْه عَن الزَّرْع، يَعْنِي: لم يحرمه، وَصرح بذلك التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى الشَّيْبَانِيّ حَدثنَا شريك عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحرم الْمُزَارعَة، وَلَكِن أَمر أَن يرفق بَعضهم بِبَعْض، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ: حَدِيث رَافع حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب، يرْوى هَذَا الحَدِيث عَن رَافع بن خديج عَن عمومته، وَرُوِيَ عَنهُ عَن ظهير بن رَافع وَهُوَ أحد عمومته، وَقد رُوِيَ عَنهُ هَذَا الحَدِيث على رِوَايَات مُخْتَلفَة، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد عقل ابْن عَبَّاس الْمَعْنى من الْخَبَر وَأَن لَيْسَ المُرَاد بِهِ تَحْرِيم الْمُزَارعَة بِشَطْر مَا يخرج من الأَرْض، فَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك أَن يتمانحوا أراضيهم وَأَن يرفق بَعضهم بَعْضًا. وَقد ذكر رَافع فِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب النَّوْع الَّذِي حرم مِنْهَا، وَالْعلَّة من أجلهَا نهى عَنْهَا، وَذَلِكَ قَوْله: كَانَ النَّاس يؤاجرون على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الماذيانات وإقبال الجداول وأسباع من الزَّرْع، فأعلمك فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمنْهِي عَنهُ هُوَ الْمَجْهُول مِنْهُ دون الْمَعْلُوم، وَأَنه كَانَ من عَادَتهم أَن يشترطوا فِيهَا شُرُوطًا فَاسِدَة، وَأَن يستثنوا من الزَّرْع مَا على السواني والجداول، وَيكون خَاصّا لرب الأَرْض، والمزارعة وَحِصَّة الشَّرِيك لَا يجوز أَن تكون مَجْهُولَة، وَقد يسلم مَا على السواني والجداول وَيهْلك سَائِر الزَّرْع فَيبقى الْمزَارِع لَا شَيْء لَهُ، وَهَذَا خطر. قَوْله: (وَلَكِن قَالَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس. قَوْله: (أَن يمنح أحدكُم) ، قد ذكرنَا وَجه هَذَا فِي لفظ: بَاب، الَّذِي ذكر مُجَردا عقيب: بَاب إِذا لم يشْتَرط السنين فِي الْمُزَارعَة، لِأَنَّهُ روى عَن ابْن عَبَّاس هُنَاكَ مثل هَذَا، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ.
3432 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى(12/182)
عَنْهُمَا كانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وصَدْراً مِنْ إمَارَةِ مُعاوِيَةَ. (الحَدِيث 3432 طرفه فِي: 5432) .
4432 - ثُمَّ حُدِّثَ عنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ فَذَهَبَ ابنُ عُمَرَ إِلَى رَافِعٍ فذَهَبْتُ مَعَهُ فسَألَهُ فقالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ قدْ عَلِمْتَ أنَّا كنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنا علَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِما على الأرْبِعاءِ وبِشيْءٍ مِنَ التِّبْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من حَيْثُ إِن رَافع بن خديج لما روى النَّهْي عَن كِرَاء الْمزَارِع يلْزم مِنْهُ عَادَة أَن أَصْحَاب الأَرْض إِمَّا يزرعون بِأَنْفسِهِم أَو يمنحون بهَا لمن يزرع من غير بدل فَتحصل فِيهِ الْمُوَاسَاة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَفِي بعض النّسخ هُوَ مَذْكُور باسم أَبِيه، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ. قَوْله: (كَانَ يكْرِي) ، بِضَم الْيَاء من الإكراء. قَوْله: (أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان) ، أَي: وَفِي عهد أبي بكر وعهد عمر وعهد عُثْمَان، وَالْمرَاد أَيَّام خلافتهم. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يَذكر عَليّ بن أبي طَالب؟ قلت: لَعَلَّه لم يزرع فِي أَيَّامه، وَهَذَا أحسن من قَول بَعضهم، وَإِنَّمَا لم يذكر ابْن عمر عليا لِأَنَّهُ لم يبايعه لوُقُوع الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ، وَفِي الْقلب من هَذَا حزازة. قَوْله: (وصدراً)
قَوْله: (من إِمَارَة مُعَاوِيَة) ، بِكَسْر الْهمزَة، قَالَ بَعضهم: أَي خِلَافَته. قلت: هَذَا التَّفْسِير لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي إمارته، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبَايع لمن لم يجْتَمع عَلَيْهِ النَّاس، وَمُعَاوِيَة لم يجْتَمع عَلَيْهِ النَّاس، وَلِهَذَا لم يُبَايع لِابْنِ الزبير وَلَا لعبد الْملك فِي حَال اخْتِلَافهمَا.
قَوْله: (ثمَّ حدث) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: ثمَّ حدث ابْن عمر، أَي: أخبر عَن رَافع، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَحدث، بِفَتْح الْحَاء على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكْرِي أرضه فَأَتَاهُ إِنْسَان فَأخْبرهُ عَن رَافع الحَدِيث. قَوْله: (فَذَهَبت مَعَه) ، الْقَائِل بِهَذَا نَافِع، أَي: ذهبت مَعَ ابْن عمر. قَوْله: (قد علمت) ، بِفَتْح التَّاء، خطاب لرافع. (على الْأَرْبَعَاء) جمع: ربيع، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير، وروى الطَّحَاوِيّ بِمثلِهِ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ: حَدثنَا ربيع الجيزي، قَالَ: حَدثنَا حسان بن غَالب، قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع، أَن رَافع بن خديج أخبر عبد الله بن عمر، وَهُوَ متكىء على يَدي: أَن عمومته جاؤوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رجعُوا فَقَالُوا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن كِرَاء الْمزَارِع، فَقَالَ ابْن عمر: قد علمنَا أَنه كَانَ صَاحب مزرعة يكريها على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَن لَهُ مَا فِي ربيع السواقي الَّذِي تفجر مِنْهُ المَاء وَطَائِفَة من التِّبْن وَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. انْتهى. حَاصِل حَدِيث ابْن عمر هَذَا أَنه يُنكر على رَافع إِطْلَاقه فِي النَّهْي عَن كِرَاء الْأَرَاضِي، وَيَقُول الَّذِي نَهَاهُ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ الَّذِي كَانُوا يدْخلُونَ فِيهِ الشَّرْط الْفَاسِد، وَهُوَ أَنهم يشترطون مَا على الْأَرْبَعَاء وَطَائِفَة من التِّبْن، وَهُوَ مَجْهُول، وَقد يسلم هَذَا ويصيب غَيره آفَة أَو بِالْعَكْسِ، فَتَقَع الْمُنَازعَة فَيبقى الْمزَارِع أَو رب الأَرْض بِلَا شَيْء، وَأما النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا إِذا كَانَ ثلثا أَو ربعا أَو مَا أشبه ذَلِك فَلم يثبت.
5432 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَن عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي سالِمٌ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أعْلَمُ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ الأرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عبدُ الله أنْ يَكُونَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ أحْدَث فِي ذَلِكَ شَيْئا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ فتَرَكَ كِرَاءَ الأرْضِ. (انْظُر الحَدِيث 3432) .
ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث استظهاراً لحَدِيث رَافع مَعَ علمه بِأَن الأَرْض كَانَت تكرى على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه(12/183)
خشِي أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أحدث فِي ذَلِك أَي: حكم بِمَا هُوَ نَاسخ لما كَانَ يُعلمهُ من جَوَاز ذَلِك، فَترك كِرَاء الأَرْض.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه مَوْصُولا، وأوله: أَن عبد الله كَانَ يكْرِي أرضه حَتَّى بلغه أَن رَافع بن خديج ينْهَى عَن كِرَاء الأَرْض فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا ابْن خديج! مَا هَذَا؟ قَالَ: سَمِعت عمي، وَكَانَا قد شَهدا بَدْرًا يحدثان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن كِرَاء الأَرْض، فَقَالَ عبد الله: قد كنت أعلم فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الأَرْض تكرى، ثمَّ خشِي عبد الله أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدث فِي ذَلِك شَيْئا لم يكن علمه، فَترك كِرَاء الأَرْض. وَقد احْتج بِهَذَا من كره إِجَارَة الأَرْض بِجُزْء مِمَّا يخرج مِنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
91 - (بابُ كِرَاءِ الأرْضِ بالذَّهَبِ والْفِضَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم كِرَاء الأَرْض بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن كِرَاء الأَرْض بِالذَّهَب وَالْفِضَّة غير مَنْهِيّ عَنهُ، وَإِنَّمَا النَّهْي الَّذِي ورد عَن كِرَاء الأَرْض فِيمَا إِذا أكريت بِشَيْء مَجْهُول، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، وَدلّ عَلَيْهِ أَيْضا حَدِيث الْبَاب، وَقد مر أَن طَائِفَة قَليلَة لم يجوزوا كِرَاء الأَرْض مُطلقًا.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ إنَّ أمْثَلَ مَا أنْتُمْ صانِعُونَ أنْ تَسْتَأْجِرُوا الأرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنَ السَّنةِ إلَى السَّنَةِ هَذَا التَّعْلِيق وَصله وَكِيع فِي (مُصَنفه) عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِن أمثل مَا أَنْتُم صانعون أَن تستأجروا الأَرْض الْبَيْضَاء بِالذَّهَب وَالْفِضَّة. قَوْله: (إِن أمثل) ، أَي: أفضل، وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة حكى جَوَاز ذَلِك عَن سعد بن أبي وَقاص، وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن جُبَير وَسَالم وَعُرْوَة وَمُحَمّد بن مُسلم وَإِبْرَاهِيم وَأبي جَعْفَر مُحَمَّد ابْن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَحكي جَوَاز ذَلِك عَن رَافع مَرْفُوعا. وَفِي حَدِيث سعيد بن زيد: وأمرنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نكريها بِالذَّهَب وَالْوَرق، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الصَّحَابَة على جَوَازه، وَقَالَ ابْن بطال: قد ثَبت عَن رَافع مَرْفُوعا أَن كِرَاء الأَرْض بالنقدين جَائِز، وَهُوَ خَاص يقْضِي على الْعَام الَّذِي فِيهِ النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِغَيْر اسْتثِْنَاء ذهب وَلَا فضَّة، وَالزَّائِد من الْأَخْبَار أولى أَن يُؤْخَذ بِهِ لِئَلَّا تتعارض الْأَخْبَار فَيسْقط شَيْء مِنْهَا. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا هناد حَدثنَا أَبُو بكر ابْن عَيَّاش عَن أبي حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن رَافع بن خديج، قَالَ: نَهَانَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أَمر كَانَ لنا نَافِعًا إِذا كَانَت لِأَحَدِنَا أَرض أَن نعطيها بِبَعْض خراجها أَو بِدَرَاهِم؟ وَقَالَ: إِذا كَانَت لأحدكم أَرض فليمنحها أَخَاهُ أَو ليزرعها. قلت: أَبُو بكر بن عَيَّاش فِيهِ مقَال، وَقَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ مُرْسل، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَإِن مُجَاهدًا لم يسمعهُ من رَافع، سقط بَينهمَا ابْن لرافع ابْن خديج كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار أَن مُجَاهدًا قَالَ لطاووس: انْطلق بِنَا إِلَى ابْن رَافع بن خديج فاسمع مِنْهُ الحَدِيث عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن مُجَاهِد، قَالَ: أخذت بيد طَاوُوس حَتَّى أدخلته على ابْن رَافع بن خديج فحدثه عَن أَبِيه، قَالَ شَيخنَا: وَيحْتَمل أَن الَّذِي سقط بَينهمَا أسيد بن ظهير ابْن أخي رَافع، فقد رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن أسيد بن ظهير عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة سعيد بن عبد الرَّحْمَن عَن مُجَاهِد عَن أسيد بن أبي رَافع.
7432 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيثُ عَن رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبدِ الرَّحْمان عنْ حَنْظَلَةَ ابنِ قَيْسٍ عنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ حدَّثنِي عَمَّايَ أنَّهُمْ كانُوا يُكْرُونَ الأرْضَ على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأرْبِعَاءِ أوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صاحبُ الأرْضِ فنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَلِكَ فقُلْتُ لِرَافِعٍ فَكَيْفَ هِيَ بالدِّينَارِ والدِّرْهَمِ فَقَالَ رَافِعٌ لَيْسَ بِها بأسٌ بالدِّينارِ والدِّرْهَمِ. (الحَدِيث 7432 طرفه فِي: 3104) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالَ رَافع: لَيْسَ بهَا) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن خَالِد بن فروخ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: ابْن أبي عبد الرَّحْمَن، واسْمه: فروخ، مولى الْمُنْكَدر بن عبد الله،(12/184)
ويكنى: أَبَا عُثْمَان، وَهُوَ الَّذِي يُسمى: ربيعَة الرَّأْي. الرَّابِع: حَنْظَلَة بن قيس الزرقي الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: رَافع بن خديج. السَّادِس وَالسَّابِع: عماه، فأحدهما، ظهير، وَالْآخر قَالَ الكلاباذي: لم أَقف على اسْمه. وَقيل: اسْمه مظهر، بِضَم الْمِيم وَفتح الظَّاء وَتَشْديد الْهَاء الْمَكْسُورَة، كَذَا ضَبطه عبد الْغَنِيّ وَابْن مَاكُولَا، وَقيل: اسْمه مهير، كَذَا ذكره فِي (مُعْجم الصَّحَابَة) لِلْبَغوِيِّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه حراني جزري سكن مصر، وَمَات بهَا سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَن اللَّيْث مصري، والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما ربيعَة وحَنْظَلَة. وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صحابيين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على الْأَرْبَعَاء) ، قد مر عَن قريب أَنه جمع: الرّبيع، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير. قَوْله: (يستثنيه صَاحب الأَرْض) ، كاستثناء الثُّلُث أَو الرّبع من المزروع لصَاحب الأَرْض. قَوْله: (فَقلت لرافع) الْقَائِل هُوَ حَنْظَلَة بن قيس. قَوْله: (كَيفَ هِيَ) ، ويروى: (فَكيف هِيَ) ، بِالْفَاءِ أَي: كَيفَ الْمُزَارعَة، يَعْنِي: كَيفَ حكمهَا بالدينار وَالدِّرْهَم؟ قَوْله: (فَقَالَ رَافع) إِلَى آخِره، فَقَوْل رَافع يحْتَمل أَن يكون بِاجْتِهَاد مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون علم ذَلِك بطرِيق التَّنْصِيص على جَوَازه، أوعلم أَن جَوَاز الْكِرَاء بالدينار وَالدِّرْهَم غير دَاخل فِي النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِجُزْء مِمَّا يخرج مِنْهَا، وَمِمَّا يدل على كَون مَا قَالَه مَرْفُوعا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن رَافع بن خديج، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن المحاقلة والمزابنة وَقَالَ: إِنَّمَا يزرع ثَلَاثَة: رجل لَهُ أَرض، وَرجل منح أَرضًا، وَرجل أَكْرِي أَرضًا بِذَهَب أَو فضَّة) . وَفِيه نظر، لِأَن النَّسَائِيّ قَالَ بعد أَن رَوَاهُ: إِن الْمَرْفُوع مِنْهُ النَّهْي عَن المحاقلة والمزابنة، وَإِن بَقِيَّته مدرجة من كَلَام سعيد بن الْمسيب.
وَقَالَ اللَّيْثُ أراهُ وَكَانَ الَّذِي نُهِيَ عنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الفَهْمِ بالحَلالِ والحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ المُخَاطَرَةِ
وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول إِلَى اللَّيْث، رَحمَه الله أَي: قَالَ اللَّيْث بن سعد: أرَاهُ أَي: أَظُنهُ، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى شَيْخه ربيعَة الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث، وَمعنى: أَظُنهُ أَنه لم يجْزم بِرِوَايَة شَيْخه لَهُ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر هُنَا: قَالَ أَبُو عبد الله، من هَهُنَا قَالَ أَبُو اللَّيْث: أرَاهُ، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (ذَوُو الْفَهم بالحلال وَالْحرَام لم يجيزوه) ، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَابْن شبويه: (ذُو الْفَهم) ، بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا وَقع: لم يجزه، بِالْإِفْرَادِ، قَوْله: (لما فِيهِ من المخاطرة) ، وَهِي الإشراف على الْهَلَاك، ثمَّ اخْتلفُوا فِي هَذَا النَّقْل عَن اللَّيْث: هَل هُوَ فِي نفس الحَدِيث أم مدرج، فَعِنْدَ النَّسَفِيّ وَابْن شبويه: مدرج، وَلِهَذَا سقط هَذَا عِنْدهمَا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الظَّاهِر من السِّيَاق أَنه من كَلَام رَافع، وَقَالَ التوربشتي شَارِح (المصابيح) لم يتَبَيَّن لي أَن هَذِه الزِّيَادَة من قَول بعض الروَاة، أَو من قَول البُخَارِيّ، وَقيل: أَكثر الطّرق فِي البُخَارِيّ تبين أنَّها من كَلَام اللَّيْث وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
(بابٌ)
كَذَا وَقع لفظ: بَاب، مُجَردا عَن التَّرْجَمَة عِنْد جَمِيع الروَاة، وَهُوَ كالفصل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ غير منون، لِأَن التَّنْوِين عَلامَة الْإِعْرَاب، وَالْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، أللهم إلاَّ إِذا قُلْنَا: تَقْدِيره: هَذَا بَاب، فَيكون حِينَئِذٍ معرباً على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
8432 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ قَالَ حدَّثنا هِلالٌ ح وحدَّثنا عَبدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو عامِرٍ قَالَ حَدثنَا فلَيْحٌ عنْ هِلاَلِ بنِ عَلِيٍّ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَوماً يُحَدِّثُ وعِنْدَهُ رجُلٌ مِنْ أهْلِ البَادِيَةِ أنَّ رَجُلاً مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ(12/185)
اسْتأذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ ألَسْتَ فِيما شِئْتَ قَالَ بَلى ولَكِنِّي أحِبُّ أنْ أزْرَعَ قَالَ فَبَذَرَ فبَادَرَ الطَّرْفَ نباتُهُ واسْتوَاؤُهُ واسْتِحْصَادُهُ فكَانَ أمْثال الجِبالِ فيَقُولُ الله تَعَالَى دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فإنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شيءٌ فَقَالَ الأعْرَابِيُّ وَالله لَا تَجِدُهُ إلاَّ قُرَشِيَّاً أوْ أنْصَاريَّاً فإنَّهُمْ أصْحابُ زَرْعٍ وأمَّا نَحْنُ فلَسْنَا بأصْحَابِ زَرْعٍ فضَحِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (الحَدِيث 8432 طرفه فِي: 9157) .
وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب يُمكن أَن يكون فِي قَوْله: فَإِنَّهُم أَصْحَاب زرع مَعَ التَّنْبِيه على أَن أَحَادِيث النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض إِنَّمَا هُوَ نهي تَنْزِيه لَا نهي تَحْرِيم، لِأَن الزَّرْع لَو لم يكن من الْأُمُور الَّتِي يحرض فِيهَا بالاستمرار عَلَيْهِ لما تمنى الرجل الْمَذْكُور فِيهِ الزَّرْع فِي الْجنَّة مَعَ عدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ فِيهَا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَفِي آخِره نون أَيْضا، وَقد تقدم فِي أول الْعلم. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَقد تقدم فِي أول الْعلم. الثَّالِث: هِلَال بن عَليّ، وَهُوَ هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي، وَيُقَال: هِلَال بن أُسَامَة. الرَّابِع: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَعْرُوف بالمسندي. الْخَامِس: أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو بن قيس الْعَقدي. السَّادِس: عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين تقدم فِي الْإِيمَان. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن فليحاً وهلالاً وَعَطَاء مدنيون، وَأَن عبد الْملك بَصرِي وَأَن شَيْخه عبد الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ، وَأَنه من أَفْرَاده، وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن سِنَان من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه سَاق الحَدِيث على لفظ الْإِسْنَاد الثَّانِي، وَفِي كتاب التَّوْحِيد على لفظ مُحَمَّد بن سِنَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن سِنَان وَهُوَ من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَعِنْده رجل) ، جملَة حَالية. قَوْله: (من أهل الْبَادِيَة) ، وَفِي رِوَايَة: من أهل البدو، وهما من غير همز، لِأَنَّهُ من: بدا الرجل يَبْدُو، إِذا خرج إِلَى الْبَادِيَة، وَالِاسْم: البداوة، بِفَتْح الْبَاء وَكسرهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحكى: بَدَأَ بِالْهَمْز يبْدَأ، وَهُوَ قَلِيل. قَوْله: (أَن رجلا) ، بِفَتْح همزَة: أَن، لِأَنَّهُ فِي مَحل المفعولية. قَوْله: (اسْتَأْذن ربه فِي الزَّرْع) أَي: فِي مُبَاشرَة الزَّرْع، يَعْنِي: سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يزرع. قَوْله: (أَلَسْت فِيمَا شِئْت؟) وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: أولست فِيمَا شِئْت، بِزِيَادَة الْوَاو، وَمعنى هَذَا اسْتِفْهَام على سَبِيل التَّقْرِير، يَعْنِي: أولست كَائِنا فِيمَا شِئْت من التشهيات، قَالَ: بلَى، الْأَمر كَذَلِك، وَلَكِن أحب الزَّرْع. قَوْله: (فبذر) ، يَعْنِي ألقِي الْبذر، وَفِيه حذف تَقْدِيره: فَأذن لَهُ بالزرع فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ وَرمى الْبذر على أَرض الْجنَّة فنبت فِي الْحَال واستوى، وَأدْركَ حَصَاده فَكَانَ كل حَبَّة مثل الْحَبل. قَوْله: (فبادر) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: فأسرع فتبادر. قَوْله: (الطّرف) ، مَنْصُوب بقوله: فبادر، و: نَبَاته، بِالرَّفْع فَاعله. قَالَ ابْن قرقول: الطّرف: بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الرَّاء: هُوَ امتداد لحظ الْإِنْسَان حَيْثُ أدْرك. وَقيل: طرف الْعين، أَي: حركتها، أَي: تحرّك أجفانها. قَوْله: (واستحصاده) ، من الحصد، وَهُوَ قلع الزَّرْع، وَالْمعْنَى: أَنه لما بزر لم يكن بَين ذَلِك وَبَين اسْتِوَاء الزَّرْع ونجاز أمره كُله من الْقلع والحصد والتذرية وَالْجمع إلاَّ قدر لمحة الْبَصَر. قَوْله: (دُونك) ، بِالنّصب على الإغراء، أَي: خُذْهُ. قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الشَّأْن لَا يشبعك شَيْء، من الإشباع، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: لَا يسعك، بِفَتْح الْيَاء وَالسِّين الْمُهْملَة وَضم الْعين، وَله معنى صَحِيح. قَوْله: (فَقَالَ الْأَعرَابِي) ، هُوَ ذَلِك الرجل الَّذِي كَانَ عِنْده من أهل الْبَادِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن فِي الْجنَّة يُوجد كل مَا تشْتَهي الْأَنْفس من أَعمال الدُّنْيَا ولذاتها، قَالَ الله تَعَالَى: {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} (الزخرف: 17) . وَفِيه: أَن من لزم طَريقَة أَو حَالَة من الْخَيْر أَو الشَّرّ أَنه يجوز وَصفه بهَا وَلَا حرج على واصفه. وَفِيه: مَا جبل الله نفوس بني آدم عَلَيْهِ من الاستكثار وَالرَّغْبَة فِي مَتَاع الدُّنْيَا إلاَّ أَن الله تَعَالَى أغْنى أهل الْجنَّة عَن نصب الدُّنْيَا وتعبها. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى فضل القناعة وذم الشره. وَفِيه: الْإِخْبَار عَن الْأَمر الْمُحَقق الْآتِي بِلَفْظ الْمَاضِي، فَافْهَم.(12/186)
12 - (بابُ مَا جاءَ فِي الْغَرْسِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَا جَاءَ فِي غرس مَا يغْرس من أصُول النباتات.
9432 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا يَعْقوبُ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قالَ إنَّا كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ كانَتْ لَنا عَجُوزٌ تأخُذُ مِنْ أصُولِ سِلْقٍ لَنا كُنَّا نَغرُسُهُ فِي أرْبِعَائِنَا فتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ لَا أعْلَمُ إلاَّ أنَّهُ قَالَ لَيسَ فِيهِ شَحْمٌ ولاَ ودَكٌ فإذَا صلَّيْنَا الجُمُعَةُ زُرْنَاهَا فقَرَّبَتْهُ إلَيْنَا فَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ وَمَا كُنَّا نتَغَدَّى ولاَ نَقِيلُ إلاَّ بَعْدَ الجُمُعَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: كُنَّا نغرسه فِي أربعائنا، وإدخاله هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْمُزَارعَة من حَيْثُ إِن الْغَرْس وَالزَّرْع من بَاب وَاحِد، وَقد مضى الحَدِيث فِي آخر الْجُمُعَة فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} (الْجُمُعَة: 01) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ مقطعاً بطريقين، وَفِيهِمَا اخْتِلَاف بِبَعْض زِيَادَة ونقصان. الطَّرِيق الأول: عَن سعيد ابْن أبي مَرْيَم عَن أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد. وَالثَّانِي: عَن عبد الله بن مسلمة عَن ابْن أبي حَازِم عَن سهل، وَهَهُنَا أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَارِي من قارة، حَيّ من الْعَرَب، أَصله مدنِي سكن الاسكندرية، عَن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج الْمدنِي، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي أربعائنا) ، قد مر عَن قريب أَن الْأَرْبَعَاء جمع: ربيع، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير، وَمَعْنَاهُ كُنَّا نغرسه على الْأَنْهَار والسلق، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة: والودك، بِفتْحَتَيْنِ، دسم اللَّحْم. قَوْله: (لَا أعلم إِلَّا أَنه قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحم وَلَا ودك) ، من قَول يَعْقُوب الرَّاوِي.
0532 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ يَقُولُونَ إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ وَالله المَوْعِدُ ويَقولُونَ مَا لِلْمُهَاجرينَ والأنْصارَ لاَ يُحدِّثونَ مِثْلَ أحادِيثِهِ وإنَّ إخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بالأسْوَاقِ وإنَّ إخْوَتِي مِنَ الأنْصَارِ كانَ يَشْغَلهمْ عَمَلُ أمْوَالِهِمْ وكُنْتُ امْرَءًا مِسْكِيناً ألْزَمُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى ملءِ بَطْنِي فأحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ وأعِي حِينَ يَنْسَوْنَ وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْماً لَنْ يَبْسُطَ أحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أقْضِي مقَالَتي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَهُ إلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئاً أبدا فبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرُها حتَّى قَضَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَتَهُ ثُمَّ جَمَعْتُها إلَى صَدْرِي فَوالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقالَتِهِ تِلْكَ إلَى يَوْمِي هَذا وَالله لَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتابِ الله مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئاً أبَداً {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ} إِلَى قوْلِه: {الرَّحِيمُ} (الْبَقَرَة: 951) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن إخْوَانِي من الْأَنْصَار كَانَ يشغلهم عمل أَمْوَالهم) ، فَإِن المُرَاد من ذَلِك عَمَلهم فِي الْأَرَاضِي(12/187)
بالزراعة وَالْغَرْس، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب حفظ الْعلم، أخصر من ذَلِك، فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل ابْن أبي سَلمَة الْمنْقري الْبَصْرِيّ الْمدنِي: يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي وَقد تكَرر ذكره عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف أبي إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمَدِينِيّ، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَالله الْموعد) ، إِمَّا مصدر ميمي، وَإِمَّا اسْم زمَان، أَو اسْم مَكَان، وعَلى كل تَقْدِير لَا يَصح أَن يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى، وَلَكِن لَا بُد من إِضْمَار تَقْدِيره فِي كَونه مصدرا. وَالله هُوَ الواعد، وَإِطْلَاق الْمصدر على الْفَاعِل للْمُبَالَغَة، يَعْنِي: الواعد فِي فعله بِالْخَيرِ وَالشَّر، والوعد يسْتَعْمل فِي الْخَيْر وَالشَّر، يُقَال: وعدته خيرا ووعدته شرا، فَإِذا أسقط الْخَيْر وَالشَّر يُقَال فِي الْخَيْر: الْوَعْد وَالْعدة، وَفِي الشَّرّ: الإيعاد والوعيد. وَتَقْدِيره فِي كَونه اسْم زمَان، و: عِنْد الله الْموعد يَوْم الْقِيَامَة وَتَقْدِيره فِي كَونه اسْم مَكَان، و: عِنْد الله الْموعد فِي الْحَشْر، وَحَاصِل الْمَعْنى على كل تَقْدِير: فَالله تَعَالَى يحاسبني إِن تَعَمّدت كذبا، وَيُحَاسب من ظن بِي ظن السوء. قَوْله: (عمل أَمْوَالهم) ، أَي: الزَّرْع وَالْغَرْس. قَوْله: (على ملْء بَطْني) ، بِكَسْر الْمِيم. قَوْله: (وأعي) ، أَي: أحفظ من: وعى يعي وعياً إِذا حفظ، وَفهم. وَأَنا واعٍ، وَالْأَمر مِنْهُ: عِ أَي: إحفظ. قَوْله: (ثمَّ يجمعه) ، بِالنّصب عطفا على قَوْله: لن يبسط، وَكَذَا قَوْله: فينسى، وَالْمعْنَى: إِن الْبسط الْمَذْكُور وَالنِّسْيَان لَا يَجْتَمِعَانِ، لِأَن الْبسط الَّذِي بعده الْجمع المتعقب للنسيان منفي، فَعِنْدَ وجود الْبسط يَنْعَدِم النسْيَان، وَبِالْعَكْسِ فَافْهَم. قَوْله: (نمرة) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم: وَهِي بردة من صوف يلبسهَا الْأَعْرَاب، وَالْمرَاد: بسط بَعْضهَا لِئَلَّا يلْزم كشف الْعَوْرَة. قَوْله: (فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ) أَي: فَحق الله الَّذِي بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات} (الْبَقَرَة: 951، 061) . هَذِه آيتان فِي سُورَة الْبَقَرَة {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلاَّ الَّذِي تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم وَأَنا التواب الرَّحِيم} (الْبَقَرَة: 951، 061) . هَذَا وَعِيد شَدِيد لمن كتم مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل من الدلالات الْبَيِّنَة الصَّحِيحَة، وَالْهَدْي النافع للقلوب من بعد مَا بَينه الله لِعِبَادِهِ فِي كتبه الَّتِي أنزلهَا على رسله، قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت فِي رُؤَسَاء الْيَهُود: كَعْب بن الْأَشْرَف وَكَعب بن أسيد وَمَالك بن الضَّيْف وَغَيرهم، كَانُوا يتمنون أَن يكون النَّبِي مِنْهُم، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَافُوا أَن تذْهب مأكلتهم من السفلة، فعمدوا إِلَى صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فغيروها فِي كِتَابهمْ ثمَّ أخرجوها إِلَيْهِم، فَقَالُوا: هَذَا نعت النَّبِي الَّذِي يبْعَث فِي آخر الزَّمَان، وَهُوَ لَا يشبه نعت النَّبِي الَّذِي بِمَكَّة، فَلَمَّا تطرق السلفة إِلَى صفة النَّبِي من الَّتِي غيروها جحدوه لأَنهم وجدوه مُخَالفا، فَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون} (الْبَقَرَة: 951، 061) . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: نزلت فِي أهل الْكتاب كتموا صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أخبر أَنهم يلعنهم كل شَيْء على صنيعهم ذَلِك، ولعنة الله على عباده عبارَة عَن طرده إيَّاهُم وإبعاده، ولعنة اللاعنين عبارَة عَن دُعَائِهِمْ باللعن قَوْله: {اللاعنون} (الْبَقَرَة: 951، 061) . جمع: لَاعن، يَعْنِي: دَوَاب الأَرْض، هَكَذَا قَالَ الْبَراء بن عَازِب، وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: اللاعنون كل دَابَّة وَالْجِنّ وَالْإِنْس، وَقَالَ مُجَاهِد: إِذا أجدبت الأَرْض قَالَت الْبَهَائِم: هَذَا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس: {يلعنهم اللاعنون} (الْبَقَرَة: 951، 061) . يَعْنِي: يلعنهم مَلَائِكَة الله والمؤمنون، ثمَّ اسْتثْنى الله تَعَالَى من هَؤُلَاءِ من تَابَ إِلَيْهِ بقوله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} (الْبَقَرَة: 951، 061) . الْآيَة.
وَفِيه: دلَالَة على أَن الداعية إِلَى كفر أَو بِدعَة إِذا تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ. قَوْله: {وبينوا} أَي: رجعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ وَأَصْلحُوا أَحْوَالهم وأعمالهم، وبينوا للنَّاس مَا كَانُوا كتموه. وَقد ورد أَن الْأُمَم السالفة لم تكن تقبل التَّوْبَة من مثل هَؤُلَاءِ، وَلَكِن هَذَا من شَرِيعَة نَبِي التَّوْبَة وَنَبِي الرَّحْمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
24 - (كِتابُ المساقاةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمُسَاقَاة، وَلم يَقع لفظ: كتاب الْمُسَاقَاة فِي كثير من النّسخ، وَوَقع فِي بعض النّسخ: كتاب الشّرْب، وَوَقع لأبي ذَر التَّسْمِيَة، ثمَّ قَوْله: فِي الشّرْب، ثمَّ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ أَفلا يُؤمنُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 03) .(12/188)
وَقَوله: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} (الْوَاقِعَة: 86) . إِلَى قَوْله: {فلولا تشكرون} (الْوَاقِعَة: 86) . وَوَقع فِي بعض النّسخ: بَاب فِي الشّرْب، وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ أَفلا يُؤمنُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 03) . وَقَوله: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} (الْوَاقِعَة: 86) . إِلَى قَوْله: {فلولا تشكرون} (الْوَاقِعَة: 86) . وَوَقع فِي شرح ابْن بطال: كتاب المياة خَاصَّة، وَأثبت النَّسَفِيّ لفظ: بَاب خَاصَّة.
أما الْمُسَاقَاة فَهِيَ: الْمُعَامَلَة بلغَة أهل المدنية، ومفهومها اللّغَوِيّ هُوَ الشَّرْعِيّ، وَهِي معاقدة دفع الْأَشْجَار والكروم إِلَى من يقوم بإصلاحهما، على أَن يكون لَهُ سهم مَعْلُوم من ثَمَرهَا، وَلأَهل الْمَدِينَة لُغَات يختصون بهَا، كَمَا قَالُوا للمساقاة: مُعَاملَة، وللمزارعة: مخابرة، وللإجارة: بيع، وللمضاربة: مقارضة، وللصلاة: سَجْدَة. فَإِن قلت: المفاعلة تكون بَين اثْنَيْنِ، وَهنا لَيْسَ كَذَلِك. قلت: هَذَا لَيْسَ بِلَازِم، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله: قَاتله الله، يَعْنِي: قَتله الله، وسافر فلَان، بِمَعْنى: سفر، أَو لِأَن العقد على السَّقْي صدر من اثْنَيْنِ، كَمَا فِي الْمُزَارعَة، أَو من بَاب التغليب، وَأما الشّرْب، فبكسر الشين الْمُعْجَمَة: النَّصِيب والحظ من المَاء، يُقَال: كم شرب أَرْضك، وَفِي الْمثل آخرهَا: شربا أقلهَا شرباً، وَأَصله فِي سقِِي المَاء، لِأَن آخر الْإِبِل يرد وَقد نزف الْحَوْض، وَقد سمع الْكسَائي عَن الْعَرَب أقلهَا شرباً على الْوُجُوه الثَّلَاثَة، يَعْنِي الْفَتْح وَالضَّم وَالْكَسْر، وسمعهم أَيْضا يَقُولُونَ: أعذب الله شربكم، بِالْكَسْرِ، أَي: ماءكم. وَقيل: الشّرْب أَيْضا وَقت الشّرْب، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الشّرْب، بِالْفَتْح الْمصدر وبالضم وَالْكَسْر، يُقَال: شرب شرباً وشرباً وشرباً، وقريء: فشاربون شرب الهيم بالوجوه الثَّلَاثَة.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {وجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 03) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: كتاب الْمُسَاقَاة، أَو على قَوْله: فِي الشّرْب، أَو على قَوْله: بَاب الشّرْب، أَو على قَوْله: بَاب الْمِيَاه، على اخْتِلَاف النّسخ، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ الله عزوجل: {وَجَعَلنَا من المَاء} (الْأَنْبِيَاء: 03) . الْآيَة، وَقَالَ قَتَادَة: كل حَيّ مَخْلُوق من المَاء. فَإِن قلت: قد رَأينَا مخلوقاً من المَاء غير حَيّ. قلت: لَيْسَ فِي الْآيَة: لم يخلق من المَاء إلاَّ حَيّ، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن كل حَيَوَان أرضي لَا يعِيش إلاَّ بِالْمَاءِ. وَقَالَ الرّبيع بن أنس: من المَاء، أَي: من النُّطْفَة، وَقَالَ ابْن بطال: يدْخل فِيهِ الْحَيَوَان والجماد، لِأَن الزَّرْع وَالشَّجر لَهَا موت إِذا جَفتْ ويبست، وحياتها خضرتها ونضرتها.
وقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أفَرَأَيْتُمْ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أنْتُمْ أنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْنَاهُ أجاجاً فلَوْلا تَشْكُرُونَ} (الْوَاقِعَة: 86) .
وَقَول، بِالْجَرِّ عطف على: قَوْله، الأول لما أنزل الله تَعَالَى: {نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا تصدقُونَ} (الْوَاقِعَة: 85) . ثمَّ خاطبهم بقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون} إِلَى قَوْله: {ومتاعاً للمقوين} (الْوَاقِعَة: 37) . وكل هَذِه الخطابات للْمُشْرِكين الطبيعيين لما قَالُوا: نَحن موجودون من نُطْفَة حدثت بحرارة كامنة، فَرد الله عَلَيْهِم بِهَذِهِ الخطابات، وَمن جُمْلَتهَا قَوْله: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: المَاء العذب الصَّالح للشُّرْب، {أأنتم أنزلتموه من المزن} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: السَّحَاب. قَوْله: {جَعَلْنَاهُ} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: المَاء {أجاجاً} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: ملحاً شَدِيد الملوحة زعافاً مرا لَا يقدرُونَ على شربه. قَوْله: {فلولا تشكرون} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: فَهَلا تشكرون.
الأُجاجُ: المُرُّ، المُزْنُ: السَّحابُ
هَذَا تَفْسِير البُخَارِيّ، وَهُوَ من كَلَام أبي عُبَيْدَة، لِأَن الأجاج المر، وَأخرجه ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة مثله، وَقد ذكرنَا الْآن أَنه الشَّديد الملوحة. وَقيل: شَدِيد المرارة، وَقيل: الْمَالِك، وَقيل: الْحَار، حَكَاهُ ابْن فَارس وَفِي (الْمُنْتَهى) : وَقد أج يؤج أجوجاً قَوْله: (المزن) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الزَّاي، جمع: مزنة، وَهِي السَّحَاب الْأَبْيَض، وَهُوَ تَفْسِير مُجَاهِد وَقَتَادَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: منصباً، قبل قَوْله: المزن، وَوَقع بعد قَوْله: السَّحَاب فراتاً عذباً، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفسّر الثجاج بقوله: منصباً، وَقد فسره ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة هَكَذَا، وَيُقَال: مطر ثجاج إِذا انصب جدا، والفرات أعذب العذوبة، وَهُوَ منتزع من قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عذب فرات} (الْفرْقَان: 35 وفاطر: 21) . وروى ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ: العذب الْفُرَات الحلو، وَمن عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا ترْجم لباب فِي شَيْء يذكر فِيهِ مَا يُنَاسِبه من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي الْقُرْآن ويفسرها تكثيراً للفوائد.(12/189)
1 - (بابٌ فِي الشُّرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الشّرْب، وَقد مر تَفْسِير الشّرْب عَن قريب.
ومنْ رَأى صَدَقَةَ المَاءِ وهِبَتَهُ ووَصِيَّتَهُ جائِزَةً مَقْسُوماً كانَ أوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ
أَي: فِي بَيَان من رأى ... إِلَى آخِره، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ بالترجمة الرَّد على من قَالَ: إِن المَاء لَا يملك. قلت: من أَيْن يعلم أَنه أَرَادَ بالترجمة الرَّد على من قَالَ: إِن المَاء لَا يملك، وَيحْتَمل الْعَكْس، وَأَيْضًا فَقَوله: إِن المَاء لَا يملك، لَيْسَ على الْإِطْلَاق، لِأَن المَاء على أَقسَام: قسم مِنْهُ لَا يملك أصلا، وكل النَّاس فِيهِ سَوَاء فِي الشّرْب وَسقي الدَّوَابّ وَكري النَّهر مِنْهُ إِلَى أرضه، وَذَلِكَ كالأنهار الْعِظَام مثل النّيل والفرات وَنَحْوهمَا، وَقسم مِنْهُ يملك، وَهُوَ المَاء الَّذِي يدْخل فِي قسْمَة أحد إِذا قسمه الإِمَام بَين قوم، فَالنَّاس فِيهِ شُرَكَاء فِي الشّرْب وَسقي الدَّوَابّ دون كري النَّهر، وَقسم مِنْهُ يكون محرزا فِي الْأَوَانِي كالجباب والدنان والجرار وَنَحْوهَا، وَهَذَا مَمْلُوك لصَاحبه بالإحراز، وَانْقطع حق غَيره عَنهُ كَمَا فِي الصَّيْد الْمَأْخُوذ حَتَّى لَو أتْلفه رجل يضمن قِيمَته، وَلَكِن شُبْهَة الشّركَة فِيهِ بَاقِيَة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي الثَّلَاث: المَاء والكلأ وَالنَّار) ، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن رجل من الصَّحَابَة وَأحمد فِي (مُسْنده) وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالْمرَاد شركَة إِبَاحَة لَا شركَة ملك، فَمن سبق إِلَى أَخذ شَيْء مِنْهُ فِي وعَاء أَو غَيره وأحرزه فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَهُوَ ملكه دون سواهُ، لكنه لَا يمْنَع من يخَاف على نَفسه من الْعَطش أَو مركبه، فَإِن مَنعه يقاتله بِلَا سلَاح، بِخِلَاف المَاء الثَّانِي فَإِنَّهُ يقاتله فِيهِ بِالسِّلَاحِ.
قَوْله: (من رأى صَدَقَة المَاء) إِلَى آخِره لم يبين المُرَاد مِنْهُ: هَل هُوَ جَائِز أم لَا؟ وَظَاهر الْكَلَام يحْتَمل الْجَوَاز وَعَدَمه، وَلَكِن فِيهِ تَفْصِيل، وَهُوَ: أَن الرجل إِذا كَانَ لَهُ شرب فِي المَاء وَأوصى أَن يسْقِي مِنْهُ أَرض فلَان يَوْمًا أَو شهرا أَو سنة أجيزت من الثُّلُث، فَإِن مَاتَ الْمُوصى لَهُ بطلت الْوَصِيَّة بِمَنْزِلَة مَا إِذا أوصى بِخِدْمَة عَبده لإِنْسَان فَمَاتَ الْمُوصى لَهُ بطلت الْوَصِيَّة، وَإِذا أوصى بِبيع الشّرْب وهبته أَو صدقته، فَإِن ذَلِك لَا يَصح للْجَهَالَة أَو للغرر فَإِنَّهُ على خطر الْوُجُود لِأَن المَاء يَجِيء وَيَنْقَطِع، وَكَذَا لَا يَصح أَن يكون مُسَمّى فِي النِّكَاح حَتَّى يجب مهر الْمثل وَلَا بدل الصُّلْح عَن الدَّعْوَى، وَلَا يُبَاع الشّرْب فِي دين صَاحبه بِدُونِ أَرض بعد مَوته، وَكَذَا فِي حَيَاته، وَلَو بَاعَ المَاء المحرز فِي إِنَاء أَو وهبه لشخص أَو تصدق بِهِ فَإِنَّهُ يجوز، وَلَو كَانَ مُشْتَركا بَينه وَبَين آخر فَلَا يجوز قبل الْقِسْمَة، فَافْهَم، هَذِه الْفَوَائِد الَّتِي خلت عَنْهَا الشُّرُوح.
وَقَالَ عُثْمانُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: منْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فيَكُونُ دَلْوُهُ فِيها كَدِلاَءِ المُسْلِمينَ فاشْتَرَاهَا عُثْمانُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
أَي: قَالَ عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق سقط من رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَوَصله التِّرْمِذِيّ: (حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر الرقي، قَالَ: حَدثنَا عبيد الله بن عَمْرو عَن زيد هُوَ ابْن أبي أنيسَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، قَالَ: لما حصر عُثْمَان أشرف عَلَيْهِم فَوق دَاره، ثمَّ قَالَ: أذكركم بِاللَّه {هَل تعلمُونَ أَن حراء حِين انتفض قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اثْبتْ حراء فَلَيْسَ عَلَيْك إلاَّ نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: أذكركم بِاللَّه} هَل تعلمُونَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي جَيش الْعسرَة: من ينْفق نَفَقَة متقبلة؟ وَالنَّاس مجهدون معسرون فجهزت ذَلِك الْجَيْش؟ قَالُوا: نعم، ثمَّ قَالَ: أذكركم بِاللَّه هَل تعلمُونَ أَن بِئْر رومة لم يكن يشرب مِنْهَا أحد إلاَّ بِثمن فابتعتها فجعلتها للغني وَالْفَقِير وَابْن السَّبِيل؟ قَالُوا: نعم. وَأَشْيَاء عدهَا) . ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بِئْر رومة) بِإِضَافَة: بِئْر، إِلَى: رومة، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وبالميم. ورومة علم على صَاحب الْبِئْر، وَهُوَ رومة الْغِفَارِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: بِئْر رومة كَانَت ليهودي، وَكَانَ(12/190)
يقفل عَلَيْهَا بقفل ويغيب فَيَأْتِي الْمُسلمُونَ ليشربوا مِنْهَا فَلَا يجدونه حَاضرا فيرجعون بِغَيْر مَاء، فَشَكا الْمُسلمُونَ ذَلِك، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يَشْتَرِيهَا ويمنحها للْمُسلمين وَيكون نصِيبه فِيهَا كنصيب أحدهم فَلهُ الْجنَّة؟ فاشتراها عُثْمَان. وَهِي بِئْر مَعْرُوفَة بِمَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اشْتَرَاهَا عُثْمَان بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فوقفها، وَزعم الْكَلْبِيّ أَنه كَانَ قبل أَن يَشْتَرِيهَا عُثْمَان يَشْتَرِي مِنْهَا كل قربَة بدرهم. قَوْله: (فَيكون دلوه فِيهَا) أَي: دلو عُثْمَان فِي الْبِئْر الْمَذْكُور كدلاء كل الْمُسلمين، يَعْنِي: يوقفها وَيكون حَظه مِنْهَا كحظ غَيره من غير مزية، وَظَاهره أَن لَهُ الِانْتِفَاع إِذا شَرطه، وَلَا شكّ أَنه إِذا جعلهَا للسقاة إِن لَهُ الشّرْب وَإِن لم يشْتَرط لدُخُوله فِي جُمْلَتهمْ.
وَفِيه: جَوَاز بيع الْآبَار. وَفِيه: جَوَاز الْوَقْف على نَفسه وَلَو وقف على الْفُقَرَاء ثمَّ صَار فَقِيرا جَازَ أَخذه مِنْهُ.
1532 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أبُو غسَّانَ قَالَ حدَّثني أَبُو حازِمٍ عنْ سَهْلِ ابنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فشَرِبَ مِنهُ وعنْ يَمِينهِ غلاَمٌ أصْغَرُ الْقَوْمِ والأشْيَاخُ عنْ يَسارِهِ فَقَالَ يَا غُلامُ أتَأذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَهُ الأشْياخَ قَالَ مَا كُنْتُ لِأُؤثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أحدا يَا رسولَ الله فأعْطَاهُ إيَّاهُ. .
وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ مَشْرُوعِيَّة قسْمَة المَاء، وَأَنه يملك، إِذْ لَو كَانَ لَا يُمكن لما جَاءَت فِيهِ الْقِسْمَة. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث أَن الْقدح كَانَ فِيهِ مَاء؟ قلت: جَاءَ مُفَسرًا فِي كتاب الْأَشْرِبَة بِأَنَّهُ كَانَ شرابًا، وَالشرَاب هُوَ المَاء أَو اللَّبن المشوب بِالْمَاءِ.
وَرِجَاله: سعيد بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: واسْمه مُحَمَّد بن مُضر اللَّيْثِيّ الْمدنِي نزل عسقلان، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج الْمدنِي، قَالَ أَبُو عَمْرو: روى أَبُو حَازِم هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه، وَقَالَ فِيهِ: وَعَن يسَاره أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذكر أبي بكر فِيهِ عِنْدهم خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظ فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَمْرو بن حَرْمَلَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: دخلت أَنا وخَالِد بن الْوَلِيد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على مَيْمُونَة، فجاءتنا بِإِنَاء فِيهِ لبن فَشرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مَعَه، وخَالِد عَن يسَاره، فَقَالَ لي: الشربة لَك، وَإِن شِئْت آثرت خَالِدا. فَقلت: مَا كنت لأوثر بسؤرك أحدا، ثمَّ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أطْعمهُ الله طَعَاما فَلْيقل: أللهم بَارك لنا فِيهِ وأطعمنا خيرا مِنْهُ، وَمن سقَاهُ الله لَبَنًا فَلْيقل: أللهم بَارك لنا فِيهِ وزدنا مِنْهُ.
قَوْله: (وَعَن يَمِينه غُلَام) ، هُوَ الْفضل بن عَبَّاس، حَكَاهُ ابْن بطال، وَحكى ابْن التِّين أَنه أَخُوهُ عبد الله. قَوْله: (بفضلي) ، ويروى: بِفضل.
وَفِيه: فَضِيلَة الْيَمين على الشمَال، وَقد أمروا بالشرب بهَا والمعاطاة دون الشمَال. وَفِيه: أَن من اسْتحق شَيْئا من الْأَشْيَاء لم يدْفع عَنهُ، صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، إِذا كَانَ مِمَّن يجوز إِذْنه.
2532 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّها حُلِبَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاةٌ داجِنٌ وهْوَ فِي دَارِ أنَسِ بنِ مالِكٍ وشِيبَ لَبَنُها بِماءٍ مِنَ البِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أنَسٍ فأعْطِيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القَدَحَ فشَرِبَ مِنْهُ حتَّى إذَا نَزَعَ الْقَدَحَ مِنْ فِيهِ وعَلَى يَسارهِ أبُو بَكْرٍ وعنْ يَمِينِهِ أعْرَابِيٌّ فَقَالَ عُمَرُ وخافَ أنْ يُعْطِيهِ الأعْرَابِيَّ أعْطِ أبَا بَكْرٍ يَا رسولَ الله عِنْدَكَ فأعْطَاهُ الأعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قالَ الأيْمَنَ فالأيْمَنَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وشيب لَبنهَا بِمَاء وَالْمَاء يجْرِي فِيهِ الْقِسْمَة وانه يملك وَهَذَا الاسناد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن ابي حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم والْحَدِيث(12/191)
أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار، ستتهم عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس.
قَوْله: (شَاة دَاجِن) ، الدَّاجِن شَاة ألفت الْبيُوت وأقامت بهَا، وَالشَّاة تذكر وتؤنث، فَلذَلِك قَالَ: دَاجِن، وَلم يقل: داجنة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الدَّاجِن الشَّاة الَّتِي يعلفها النَّاس فِي مَنَازِلهمْ، يُقَال: دجنت تدجن دجوناً. قَوْله: (وشيب) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: خلط من شَاب يشوب شوباً، وأصل الشوب الْخَلْط. قَوْله: (وعَلى يسَاره) إِنَّمَا قَالَ هُنَا: بعلى، وَفِي يَمِينه: بعن، لِأَن لَعَلَّ يسَاره كَانَ موضعا مرتفعاً فَاعْتبر استعلاؤه، أَو كَانَ الْأَعرَابِي بَعيدا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَعَن يَمِينه أَعْرَابِي) ، قيل: إِنَّه خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَكَاهُ ابْن التِّين، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُقَال لَهُ: أَعْرَابِي. قيل: الْحَامِل لَهُ على ذَلِك أَنه رأى فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، الَّذِي مضى ذكره عَن قريب، وَهُوَ أَنه قَالَ: دخلت أَنا وخَالِد ابْن الْوَلِيد على مَيْمُونَة ... الحَدِيث، فَظن أَن الْقِصَّة وَاحِدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن هَذِه الْقِصَّة فِي بَيت مَيْمُونَة، وقصة أنس فِي دَاره، وَبَينهمَا فرق. قَوْله: (وَخَافَ أَن يُعْطِيهِ) ، جملَة حَالية، وَالضَّمِير فِي: خَافَ، يرجع إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: (أعْط أَبَا بكر) تذكيراً لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإعلاماً للأعراب بجلالة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَذَا وَقع: أعطِ أَبَا بكر، لجَمِيع أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، وشذ معمر فِيمَا رَوَاهُ وهب عَنهُ، فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، بدل: عمر، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالَّذِي فِي البُخَارِيّ هُوَ الصَّحِيح. قيل: إِن معمراً لما حدث بِالْبَصْرَةِ حدث من حفظه فَوَهم فِي أَشْيَاء، فَكَانَ هَذَا مِنْهَا. قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: يحْتَمل أَن يكون مَحْفُوظًا أَن يكون كل من عمر وَعبد الرَّحْمَن قَالَ ذَلِك. لتوفر دواعي الصَّحَابَة على تَعْظِيم أبي بكر، وَهَذَا أحسن من أَن يُنسب معمراً إِلَى الشذوذ وَالوهم. قَالَ النَّسَائِيّ: معمر بن رَاشد الثِّقَة الْمَأْمُون، وَقَالَ الْعجلِيّ: بَصرِي رَحل إِلَى صنعاء وَسكن بهَا وَتزَوج، ورحل إِلَيْهِ سُفْيَان وَسمع مِنْهُ هُنَاكَ، وَسمع هُوَ أَيْضا من سُفْيَان. قَوْله: (الْأَيْمن فالأيمن) بِالنّصب على تَقْدِير: أعْط الْأَيْمن، وبالرفع على تَقْدِير: الْأَيْمن أَحَق، وَيدل على تَرْجِيح رِوَايَة الرّفْع قَوْله فِي بعض لَعَلَّهَا طرقه: الأيمنون الأيمنون. قَالَ أنس: فَهِيَ سنة فَهِيَ سنة فَهِيَ سنة. هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي طوالة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة تَقْدِيم من هُوَ على يَمِين الشَّارِب فِي الشّرْب وَإِن كَانَ مفضولاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى من كَانَ على يسَار الشَّارِب، لفضل جِهَة الْيَمين على جِهَة الْيَسَار، وَهل هُوَ على جِهَة الِاسْتِحْبَاب أَو أَنه حق ثَابت للجالس على الْيَمين؟ فَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّه سنة. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّهَا سنة وَاضِحَة، وَخَالف فِيهِ ابْن حزم فَقَالَ: لَا بُد من مناولة الْأَيْمن كَائِنا من كَانَ، فَلَا يجوز مناولة غير الْأَيْمن إلاَّ بِإِذن الْأَيْمن. قَالَ: وَمن لم يرد أَن يناول أحدا فَلهُ ذَلِك. فَإِن قلت: فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه أَبُو يعلى بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سقى قَالَ: (ابدأوا بالكبراء، أَو قَالَ: بالأكابر) . فَكيف الْجمع بَين أَحَادِيث الْبَاب؟ قلت: يحْتَمل هَذَا الحَدِيث على مَا إِذا لم يكن على جِهَة يَمِينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ الْحَاضِرُونَ تِلْقَاء وَجهه مثلا، أَو وَرَاءه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما تَقْدِيم الأفاضل والكبار فَهُوَ عِنْد التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَاف، وَلِهَذَا يقدم الأعلم والأقرأ على الأسن النسيب فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة. وَفِيه: أَن غير المشروب، مثل: الْفَاكِهَة وَاللَّحم وَنَحْوهمَا، هَل حكمه حكم المَاء؟ فَنقل عَن مَالك تَخْصِيص ذَلِك بالشرب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يشبه أَن يكون قَول مَالك: إِن السّنة وَردت فِي الشّرْب خَاصَّة، وَإِنَّمَا يقدم الْأَيْمن فالأيمن فِي غَيره بِالْقِيَاسِ، لِأَن السّنة منصوصة فِيهِ وَكَيف مَا كَانَ فَالْعُلَمَاء متفقون على اسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي الشّرْب وأشباهه. وَفِيه: جَوَاز شوب اللَّبن بِالْمَاءِ لنَفسِهِ وَلأَهل بَيته ولأضيافه، وَإِنَّمَا يمْتَنع شوبه بِالْمَاءِ إِذا أَرَادَ بَيْعه لِأَنَّهُ غش. وَفِيه: أَن الجلساء شُرَكَاء فِي الْهَدِيَّة، وَذَلِكَ على جِهَة الْأَدَب والمروءة وَالْفضل والأخوة، لَا على الْوُجُوب، لإجماعهم على أَن الْمُطَالبَة بذلك غير وَاجِبَة لأحد. فَإِن قلت رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (جلساؤكم شركاؤكم فِي الْهَدِيَّة) : رويي أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: جلساؤكم شركاؤكم فِي الْهَدِيَّة. فَإِن قلت: مَحْمُول على مَا ذكرنَا مَعَ أَن إِسْنَاده فِيهِ لين. وَفِيه: دلَالَة أَن من قدم إِلَيْهِ شَيْء من الْأكل أَو الشّرْب فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يسْأَل من أَيْن هُوَ وَمَا أَصله؟ إِذا علم طيب مكسب صَاحبه فِي الْأَغْلَب.(12/192)
الأسئلة والأجوبة فِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب:
الأول: مَا الْحِكْمَة فِي كَون ابْن عَبَّاس لم يُوَافق اسْتِئْذَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فِي أَن يقدم فِي الشّرْب من هُوَ أولى مِنْهُ بذلك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمُرهُ بذلك بقوله: أترك لَهُ حَقك، وَلَو أمره لأطاعه، فَلَمَّا لم يَقع مِنْهُ إلاَّ اسْتِئْذَانه لَهُ فِي ذَلِك فَقَط لم يفوت نَفسه حَظه من سُؤْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الثَّانِي: مَا الْحِكْمَة فِي كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اسْتَأْذن ابْن عَبَّاس أَن يُعْطي خَالِد بن الْوَلِيد، قبله، وَلم يسْتَأْذن الْأَعرَابِي فِي أَن يُعْطي أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قبله؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَأْذن الْغُلَام دون الْأَعرَابِي إدلالاً على الْغُلَام، وَهُوَ ابْن عَبَّاس، ثِقَة بِطيب نَفسه بِأَصْل الأستئذان، والأشياخ أَقَاربه، وَأما الْأَعرَابِي فَلم يَسْتَأْذِنهُ مَخَافَة من إيحاشه فِي اسْتِئْذَانه فِي صرفه إِلَى أَصْحَابه، وَرُبمَا سبق إِلَى قلب ذَلِك الْأَعرَابِي شَيْء يأنف بِهِ لقرب عَهده بالجاهلية.
الثَّالِث: هَل من سبق إِلَى مجْلِس عَالم أَو كَبِير أَو إِلَى مَوضِع من الْمَسْجِد إو إِلَى مَوضِع مُبَاح فَهُوَ أَحَق بِهِ مِمَّن يَجِيء بعده أم لَا؟ أُجِيب: بِأَن الْحِكْمَة حكم الشّرْب، فِي أَن الْقَاعِد على الْيَمين أَحَق، كَائِنا من كَانَ، فَكَذَلِك هُنَا السَّابِق أَحَق كَائِنا من كَانَ، وَلَا يُقَام أحد من مجْلِس جلسه.
2 - (بابُ منْ قالَ إنَّ صاحِبَ المَاءِ أحَقُّ بالمَاءِ حتَّى يَرْوَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (يرْوى) ، بِفَتْح الْوَاو: من الرّيّ، وَقَالَ ابْن بطال: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن صَاحب المَاء أَحَق بِالْمَاءِ حَتَّى يَروى.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ
هَذَا تَعْلِيل للتَّرْجَمَة، وَوَجهه أَن منع فضل المَاء إِنَّمَا يتَوَجَّه إِذا فضل عَن حَاجَة صَاحبه، فَهَذَا يدل على أَنه أَحَق بمائه عِنْد عدم الْفضل، وَالْمرَاد من: حَاجَة صَاحبه، حَاجَة نَفسه وَعِيَاله وزرعه وماشيته، وَهَذَا فِي غير المَاء المحرز فِي الْإِنَاء، فَإِن المحرز فِيهِ لَا يجب بذل فَضله إلاَّ للْمُضْطَر، وَهُوَ الصَّحِيح. ثمَّ قَوْله: (لَا يمْنَع) على صِيغَة الْمَجْهُول، وبالرفع لِأَنَّهُ نفي بِمَعْنى النَّهْي، وَذكر عِيَاض أَنه فِي رِوَايَة أبي ذَر بِالْجَزْمِ بِلَفْظ النَّهْي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ عَقِيبه، كَمَا يجيىء الْآن.
3532 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلأُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن منع فضل المَاء يدل على أَن صَاحب المَاء أَحَق بِهِ عِنْد عدم الْفضل، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي ترك الْحِيَل عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي إحْيَاء الْموَات عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، أربعتهم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ البُخَارِيّ، وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: لَا يمْنَع أحدكُم فضل المَاء يمْنَع بِهِ الْكلأ. وَفِي لفظ بِهَذَا الْإِسْنَاد: ثَلَاث لَا يمنعن: المَاء والكلأ وَالنَّار. وَأخرج ابْن مَاجَه أَيْضا من رِوَايَة حَارِث عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يمْنَع فضل المَاء وَلَا يمْنَع نفع الْبِئْر. وَأخرج أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من منع فضل مَائه أَو فضل كلائه مَنعه الله عز وَجل فَضله. وَأخرج أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من منع فضل مَائه مَنعه الله فَضله يَوْم الْقِيَامَة. وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من رِوَايَة مَكْحُول عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تمنعوا عباد الله فضل المَاء وَلَا كلأ وَلَا نَارا فَإِن الله جعلهَا مَتَاعا للموقين وَقُوَّة للمستضعفين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يمْنَع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ليمنع بِهِ) ، اللَّام هَذِه، وَإِن كَانَ النُّحَاة يَقُولُونَ إِنَّهَا لَام كي(12/193)
فَهِيَ لبَيَان الْعَاقِبَة والمآل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزناً} (الْقَصَص: 8) . قَوْله: (الْكلأ) ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام وبالهمزة: العشب، سَوَاء كَانَ يَابسا أَو رطبا. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ اسْم للنوع وَلَا وَاحِد لَهُ، وَمعنى هَذَا الْكَلَام مَا قَالَه الْخطابِيّ: هَذَا فِي الرجل يحْفر الْبِئْر فِي الْموَات فيملكها بِالْإِحْيَاءِ، وبقرب الْبِئْر موَات فِيهِ كلأ ترعاه الْمَاشِيَة، وَلَا يكون لَهُم مقَام إِذا منعُوا المَاء، فَأمر صَاحب المَاء أَن لَا يمْنَع الْمَاشِيَة فضل مائَة لِئَلَّا يكون مَانِعا للكلأ. قلت: توضيح ذَلِك الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَن يكون حول بِئْر رجل كلأ لَيْسَ عِنْده مَاء غَيره، وَلَا يُمكن أَصْحَاب الْمَوَاشِي رعيه إِلَّا إِذا مكنوا من سقِِي بهائمهم من تِلْكَ الْبِئْر لِئَلَّا يتضرروا بالعطش بعد الرَّعْي، فيستلزم مَنعهم من المَاء مَنعهم من الرَّعْي، وعَلى هَذَا يخْتَص الْبَذْل بِمن لَهُ مَاشِيَة، وَيلْحق بِهِ الرُّعَاة إِذا احتاجوا إِلَى الشّرْب لأَنهم إِذا منعُوا مِنْهُ امْتَنعُوا من الرَّعْي هُنَاكَ. وَقَالَ ابْن بزيزة: منع المَاء بعد الرّيّ من الْكَبَائِر، ذكره يحيى فِي (خراجه) .
4532 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ وأبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلأ. (انْظُر الحَدِيث 3532 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، ويروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة هِلَال بن أُسَامَة عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا يمْنَع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة اللَّيْث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَن هَذَا النَّهْي للتَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه؟ فَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وبنوا ذَلِك على أَن المَاء يملك أم لَا؟ فَالْأولى حمله على الْكَرَاهَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَالنَّهْي فِيهِ على التَّحْرِيم عِنْد مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ، وَنَقله الْخطابِيّ وَابْن التِّين عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واستحبه بَعضهم وَحمله على النّدب، وَالأَصَح عندنَا أَنه يجب بذله للماشية لَا للزَّرْع. قلت: كَذَلِك مَذْهَب الْحَنَفِيَّة: الِاخْتِصَاص بالماشية، وَفرق الشَّافِعِي فِيمَا حَكَاهُ الْمُزنِيّ عَنهُ بَين الْمَوَاشِي وَالزَّرْع بِأَن الْمَاشِيَة ذَات أَرْوَاح يخْشَى من عطشها مَوتهَا بِخِلَاف الزَّرْع.
وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن صَاحب المَاء أَحَق بِهِ حَتَّى يُروى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع فضل المَاء، فَأَما من لَا يفضل لَهُ فَلَا يدْخل فِي هَذَا النَّهْي، لِأَن صَاحب الشَّيْء أولى بِهِ. وَتَأْويل الْمَنْع عِنْد مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وَغَيره: مَعْنَاهُ فِي آبار الْمَاشِيَة فِي الصَّحرَاء يحفرها الْمَرْء وبقربها كلأ مُبَاح، فَإِذا منع المَاء اخْتصَّ بالكلأ، فَأمر أَن لَا يمْنَع فضل المَاء لِئَلَّا يكون مَانِعا للكلأ. وَقَالَ القَاضِي فِي (إشرافه) فِي حافر الْبِئْر فِي الْموَات: لَا يجوز لَهُ منع مَا زَاد على قدر حَاجته لغيره بِغَيْر عوض، وَقَالَ قوم: يلْزمه بِالْعِوَضِ، أما حافرها فِي ملكه فَلهُ منع مَا عمل من ذَلِك، وَيكون أَحَق بِمَائِهَا حَتَّى يرْوى، وَيكون للنَّاس مَا فضل إلاَّ من مر بهم لشفاههم ودوابهم فَإِنَّهُم لَا يمْنَعُونَ كَمَا يمْنَع من سواهُم. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَهُ أَن يمْنَع من دُخُول أرضه وَأخذ مَائه لَا أَن لَا يكون لشفاههم ودوابهم مَاء فيسقيهم، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سقِِي زرعهم. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ، نَاقِلا عَن القَاضِي بعلامة (قض) : اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فروى البُخَارِيّ: لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ فضل الْكلأ، مَعْنَاهُ: من كَانَ لَهُ بِئْر فِي موَات من الأَرْض لَا يمْنَع مَاشِيَة غَيره أَن ترد فضل مَائه الَّذِي زَاد على مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ليمنعها بذلك عَن فضل الْكلأ، فَإِنَّهُ إِذا مَنعهم عَن فضل مَاء من الأَرْض لَا مَاء بهَا (مَا شيته) ، سواهُ لم يُمكن لَهُم الرَّعْي بهَا، فَيصير الْكلأ مَمْنُوعًا بِمَنْع المَاء. وروى مُسلم: لَا يُبَاع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ. وَالْمعْنَى: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ، أَي: لَا يُبَاع فضل المَاء ليصير بِهِ البَائِع لَهُ كالبائع للكلأ، فَإِن من أَرَادَ الرَّعْي فِي حوالي مَائه إِذا مَنعه من الْوُرُود على مَائه، إلاَّ بعوض اضْطر إِلَى شِرَائِهِ، فَيكون بَيْعه للْمَاء بيعا للكلأ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يجب على صَاحب الْبِئْر بذل الْفَاضِل عَن حَاجته لزرع غَيره فِيمَا يملكهُ من(12/194)
المَاء، وَيجب بذله للماشية، وللوجوب شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يجد صَاحب الْمَاشِيَة مَاء مُبَاحا. وَالثَّانِي: إِن يكون الْبَذْل لحَاجَة الْمَاشِيَة. وَالثَّالِث: أَن يكون هُنَاكَ مرعى، وَأَن يكون المَاء فِي مستقره، فالماء الْمَوْجُود فِي إِنَاء لَا يجب بذل فَضله على الصَّحِيح، ثمَّ عابروا السَّبِيل يبْذل لَهُم ولمواشيهم، وَلمن أَرَادَ الْإِقَامَة فِي الْموضع وَجْهَان، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة فِي الْإِقَامَة، وَالأَصَح الْوُجُوب، وَإِذا أَوجَبْنَا الْبَذْل هَل يجوز أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ أجرا كإطعام الْمُضْطَر؟ وَجْهَان وَالصَّحِيح: لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع فضل المَاء.
3 - (بابٌ منْ حَفَرَ بِئْراً فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من حفر بِئْرا فِي ملكه، فَإِنَّهُ لَا يضمن، لِأَن لَهُ التَّصَرُّف فِي ملكه.
5532 - حدَّثنا مَحْمُودٌ قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله عنْ إسْرَائِيلَ عنْ أبِي حَصِينٍ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَعْدِنُ جُبَارٌ والْبِئْرُ جُبَارٌ والْعَجْماءُ جُبارٌ وَفِي الرِّكازِ الخُمْسُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والبئر جَبَّار) ، يَعْنِي: هدر لَا شَيْء فِيهِ، وَالْمرَاد من جَبَّار الْبِئْر أَنه إِذا حفرهَا فِي مَوضِع يسوغ لَهُ حفرهَا، فَسقط فِيهَا أحد لَا ضَمَان عَلَيْهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ أَن يسْتَأْجر من يحْفر لَهُ بِئْرا فانهارت عَلَيْهِ الْبِئْر فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب فِي الرِّكَاز الْخمس، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: العجماء جَبَّار والبئر جَبَّار والمعدن جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس، هَهُنَا أخرجه: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة: واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم، عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات السمان ... إِلَى آخِره.
وَعبيد الله بن مُوسَى هُوَ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا، روى عَنهُ بِدُونِ وَاسِطَة فِي أول الْإِيمَان، وَهنا بِوَاسِطَة مَحْمُود.
قَوْله: (حَدثنَا مَحْمُود أخبرنَا عبيد الله) ، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنِي مَحْمُود وَأَخْبرنِي عبيد الله، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
4 - (بابُ الخُصُومَةِ فِي البِئْرِ والقَضَاءِ فِيها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخُصُومَة فِي الْبِئْر، وَفِي بَيَان الْقَضَاء، أَي: الحكم فِيهَا، أَي: فِي الْبِئْر.
6532
- 7532 حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبي حَمْزَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ شَقيقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ حَلَفَ عَلى يَمينٍ يَقْتَطِعُ بِها مالَ امْرِىءٍ هُوَ عَلَيْها فاجِرٌ لَقِيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ فأنزلَ الله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمانِهِمْ ثَمناً قَلِيلاً} (آل عمرَان: 77) . الْآيَة فَجَاءَ الأشْعَثُ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أبُو عبدِ الرَّحْمانِ فيَّ أُنْزِلَتْ هذِه الآيةُ كانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أرْضِ ابنِ عَمٍّ لِي فَقَالَ لِي شُهُودَكَ قُلْتُ مَا لِي شُهودٌ قَالَ فَيَمِينُهُ قُلْتُ يَا رسولَ الله إِذا يَحْلِف فَذَكَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ...
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم فِي الْبِئْر الْمَذْكُورَة بِطَلَب الْبَيِّنَة من الْمُدَّعِي وبيمين الْمُدعى عَلَيْهِ. عِنْد عجز الْمُدَّعِي عَن إِقَامَة الْبَيِّنَة، وعبدان لقب عبد الله الْمروزِي، وَقد مر غير مرّة. وَأَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: مُحَمَّد ابْن مَيْمُون السكرِي، وَقد مر فِي: بَاب نفض الْيَدَيْنِ فِي الْغسْل، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وشقيق بن سَلمَة أَبُو وَائِل الْأَسدي الْكُوفِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، والأشعث بن قيس أَبُو مُحَمَّد الْكِنْدِيّ، وَفد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر من الْهِجْرَة فِي وَفد كِنْدَة، وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا فأسلموا، وَكَانَ مِمَّن ارْتَدَّ بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أسلم وَله قصَّة طَوِيلَة.(12/195)
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَشْخَاص وَفِي الشَّهَادَات عَن مُحَمَّد بن سَلام، وَفِي الْأَشْخَاص أَيْضا عَن بشر بن خَالِد، وَفِي النذور عَن مُوسَى، وَفِي التَّفْسِير عَن حجاج بن الْمنْهَال، وَفِي الشّركَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي النذور أَيْضا عَن بنْدَار، وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق بن نصر، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن أبي بكر وَإِسْحَاق وَابْن نمير، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع وَعَن ابْن نمير عَن أَبِيه وَعَن إِسْحَاق عَن جرير بهوأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن عيس وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع وَفِي التَّفْسِير عَن هُنَا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن هناد وَفِي التَّفْسِير عَن الْهَيْثَم بن أَيُّوب وَعَن مُحَمَّد بن قدامَة، وَلم يذكر حَدِيث عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعلي بن مُحَمَّد، وَفِي بعض الْأَلْفَاظ اخْتِلَاف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يقتطع بهَا) ، أَي: بِالْيَمِينِ أَي: بِسَبَبِهَا، وَمعنى يقتطع: يَأْخُذ قِطْعَة بِسَبَب الْيَمين من مَال امرىء. قَوْله: (هُوَ عَلَيْهَا فَاجر) ، أَي: كَاذِب، وَهِي جملَة إسمية وَقعت حَالا بِلَا وَاو، كَمَا فِي قَوْلك: كَلمته فوه إِلَى فِي. قَوْله: (لَقِي الله تَعَالَى) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا على الأَصْل. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يَعْنِي بِالْغَضَبِ، إِرَادَة عُقُوبَة أَو عُقُوبَة نَفسهَا، إِذْ يعبر بِالْغَضَبِ عَن الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذا لقِيه وَهُوَ يُرِيد عِقَابه أَو قد عاقبه جَازَ بعد ذَلِك أَن لَا يُرِيد عِقَابه وَأَن يدْفع عَنهُ تماديه إِن كَانَ أنزلهُ بِهِ، بِشَرْط أَن لَا يكون مُتَعَلق إِرَادَته عَذَاب واصب. وَقَالَ شَيخنَا: الظَّاهِر أَن المُرَاد بغضب الله مُعَامَلَته بمعاملة المغضوب عَلَيْهِ من كَونه لَا ينظر إِلَيْهِ وَلَا يكلمهُ، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا ينظر إِلَيْهِم، فَذكر مِنْهُم: وَرجل حلف على يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر ليقتطع بهَا مَال امرىء مُسلم) الحَدِيث، وَأما كَون المُرَاد بِالْغَضَبِ إِرَادَة الْعقُوبَة أَو الْعقُوبَة نَفسهَا فَإِنَّهُ يردهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس مَرْفُوعا: من حلف على يَمِين صبرا ليقتطع بهَا مَال امرىء مُسلم لَقِي الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ مُجْتَمع عَلَيْهِ غَضبا، عَفا الله عَنهُ أَو عاقبه) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، فَهَذَا يدل على أَنه لم يرد بِالْغَضَبِ إِرَادَة الْعقُوبَة أَو الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ عُقُوبَته لوقعت الْعقُوبَة على وفْق الْإِرَادَة.
ذكر اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ: فَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود والأشعث بن قيس وَمَعْقِل بن يسَار: لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، وَفِي بعض طرق حَدِيث الْأَشْعَث: لَقِي الله وَهُوَ أَجْذم، وَفِي رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن والْحَارث بن برصاء وَجَابِر بن عبد الله: فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار، وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة وَجَابِر بن عتِيك: أوجب الله لَهُ النَّار وَحرم عَلَيْهِ الْجنَّة. وَفِي حَدِيث أبي سَوْدَة: إِن ذَلِك يعقم الرَّحِم، وَفِي حَدِيث سعيد بن زيد: إِنَّه لَا يُبَارك لَهُ فِيهَا، وَفِي حَدِيث ثَعْلَبَة بن صد مُغيرَة: نُكْتَة سَوْدَاء فِي قلبه، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عبد الله بن أنيس. فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مُنَافَاة بَين شَيْء من ذَلِك، فقد يجْتَمع لَهُ جَمِيع ذَلِك كُله نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَإِنَّمَا يشكل مِنْهُ رِوَايَة: حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار، فَيحمل ذَلِك على المستحل لذَلِك، أَو على تَقْدِير: أَن ذَلِك جَزَاؤُهُ إِن جازاه، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} (النِّسَاء: 39) . وَالله أعلم.
ذكر بَيَان من خرج هَذِه الْأَحَادِيث: أما حَدِيث ابْن مَسْعُود فقد مضى الْآن. وَأما حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس فَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَأخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة. وَأما حَدِيث معقل بن يسَار فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة شُعْبَة عَن عِيَاض عَن أبي خَالِد، قَالَ: رَأَيْت رجلَيْنِ يختصمان عِنْد معقل بن يسَار، فَقَالَ معقل: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على يَمِين ليقتطع بهَا مَال رجل لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان) ، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَأما حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على يَمِين مصبورة كَاذِبًا فَليَتَبَوَّأ بِوَجْهِهِ مَقْعَده من النَّار) ، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ. وَأما حَدِيث الْحَارِث بن برصاء فَأخْرجهُ الْحَاكِم من رِوَايَة عبيد بن جريج عَن الْحَارِث بن برصاء، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من اقتطع مَال أَخِيه الْمُسلم بِيَمِين فاجرة فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار، ليبلغ شاهدكم غائبكم، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . وَقَالَ: هَذَا صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا السِّيَاق. وَأما حَدِيث جَابر بن عبد الله فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن نسطاس عَن جَابر(12/196)
ابْن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على منبري هَذَا على يَمِين آثمة فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) الحَدِيث، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة بن ثَعْلَبَة، واسْمه: إِيَاس، وَقيل: ثَعْلَبَة، وَالأَصَح أَنه إِيَاس، فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الله بن كَعْب بن مَالك عَن أبي أُمَامَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من اقتطع حق امرىء مُسلم بِيَمِينِهِ فقد أوجب الله لَهُ النَّار وَحرم عَلَيْهِ الْجنَّة، فَقَالَ لَهُ رجل: وَإِن كَانَ شَيْئا يَسِيرا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَإِن كَانَ قَضِيبًا من أَرَاك) . وَأما حَدِيث جَابر بن عتِيك فَأخْرجهُ الْحَاكِم من رِوَايَة أبي سُفْيَان بن جَابر بن عتِيك عَن أَبِيه أَنه سمع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من اقتطع مَال امرىء مُسلم بِيَمِينِهِ حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأدْخلهُ النَّار، قَالُوا: يَا رَسُول الله {وَإِن كَانَ شَيْئا يَسِيرا؟ قَالَ: وَإِن كَانَ سواكاً، وَإِن كَانَ سواكاً) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَأما حَدِيث أبي سَوْدَة فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة معمر عَن شيخ من بني تَمِيم عَن أبي سَوْدَة، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: الْيَمين الْفَاجِرَة الَّتِي يقتطع بهَا الرجل مَال الْمُسلم يعقم الرَّحِم. وَأما حَدِيث سعيد بن زيد فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سَلمَة أَن مَرْوَان قَالَ: إذهبوا فأصلحوا بَين هذَيْن، لسَعِيد بن زيد، وروى الحَدِيث وَفِيه: من اقتطع مَال امرىء مُسلم بِيَمِين فَلَا بَارك الله لَهُ فِيهَا، وَأخرجه الْحَاكِم وَصَححهُ. وَأما حَدِيث ثَعْلَبَة بن مُغيرَة فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك أَنه سمع ثَعْلَبَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من اقتطع مَال امرىء مُسلم بِيَمِين كَاذِبَة كَانَت نُكْتَة سَوْدَاء فِي قلبه لَا يغيرها شَيْء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَصَححهُ. وَأما حَدِيث عبد الله بن أنيس فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير من رِوَايَة مُحَمَّد بن زيد المُهَاجر عَن أبي أُمَامَة الْأنْصَارِيّ عَن عبد الله بن أنيس الْجُهَنِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَمَا حلف حَالف بِاللَّه يَمِين صَبر فَأدْخل فِيهَا مثل جنَاح الْبَعُوضَة إلاَّ جعلهَا الله نُكْتَة فِي قلبه يَوْم الْقِيَامَة، وَأخرجه الْحَاكِم وَصَححهُ.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي ذَر، وَعبد الله ابْن أبي أوفى وَأبي قَتَادَة، وَعبد الرَّحْمَن بن شبْل، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَوَائِل بن حجر، وَأبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ اسْمه: صدي ابْن عجلَان وَأَبُو مُوسَى، وعدي بن عميرَة.
أما حَدِيث أبي ذَر فَأخْرجهُ مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة خَرشَة بن قُتَيْبَة الْحر عَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثَلَاثَة لَا ينظر الله إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم. قلت: من هم يَا رَسُول الله فقد خابوا وخسروا؟ فَقَالَ: المنان والمسبل إزَاره والمنفق سلْعَته بِالْحلف الْكَاذِب. وَأما حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي أَفْرَاده على مَا يَأْتِي. وَأما حَدِيث أبي قَتَادَة فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة معبد بن كَعْب ابْن مَالك عَن أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إيَّاكُمْ وَكَثْرَة الْحلف فِي البيع فَإِنَّهُ ينْفق ثمَّ يمحق. وَأما حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن شبْل فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَن زيد بن سَلام عَن أبي سَلام عَن أبي رَاشد عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل، رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن التُّجَّار هم الْفجار، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله} ألم يحل الله البيع؟ قَالَ: بلَى، وَلَكنهُمْ يحلفُونَ ويأثمون، وَزَاد أَحْمد: وَيَقُولُونَ فيكذبون) . وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَن زيد بن سَلام عَن أبي سَلام عَن أبي رَاشد الحبراني عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل: أَن مُعَاوِيَة قَالَ: إِذا أتيت فسطاطي فَقُمْ فِي النَّاس فَأخْبرهُم مَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن التُّجَّار ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، هَكَذَا أسْندهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند مُعَاوِيَة، وَكَأن الرِّوَايَة عِنْده فِيهِ: مَا سَمِعت، بِالضَّمِّ، وَأما حَدِيث وَائِل بن حجر فَأخْرجهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَلْقَمَة بن وَائِل (عَن أَبِيه، قَالَ: جَاءَ رجل من حضر موت وَرجل من كِنْدَة إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ الْحَضْرَمِيّ: يَا رَسُول الله! إِن هَذَا قد غلبني على أَرض لي ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أدبر: أما لَئِن حلف على مَال ليأكله ظلما ليلقين الله وَهُوَ عَنهُ معرض) . وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ فَأخْرجهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي (التَّرْغِيب والترهيب) من رِوَايَة خصيب الْجَزرِي عَن أبي غَالب عَن أبي أُمَامَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: إِن التَّاجِر إِذا كَانَ فِيهِ أَربع خِصَال طَابَ كَسبه: إِذا اشْترى لم يذم، وَإِذا(12/197)
بَاعَ لم يمدح، وَلم يُدَلس فِي البيع، وَلم يحلف فِيمَا بَين ذَلِك) وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَأخْرجهُ الْبَزَّار من حَدِيث ثَابت بن الْحجَّاج عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى: أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أَرض، أَحدهمَا من حَضرمَوْت فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُدَّعى عَلَيْهِ: أتحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ؟ فَقَالَ الْمُدَّعِي: يَا رَسُول الله لَيْسَ لي إلاَّ يَمِينه. قَالَ: نعم. قَالَ: إِذا يذهب بأرضي، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن حلف كَاذِبًا لم ينظر الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة وَلم يزكه وَله عَذَاب أَلِيم) ، قَالَ فتورع الرجل عَنْهَا فَردهَا عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث عدي بن عميرَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رجلَانِ يختصمان فِي أَرض ... وَفِيه، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على مَال امرىء مُسلم لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، قَالَ: فَمن تَركهَا؟ قَالَ: لَهُ الْجنَّة) . وَفِي رِوَايَة: بَين امرىء الْقَيْس وَرجل من حَضرمَوْت، وَفِيه: فَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: يَا رَسُول الله! فَمَا لمن تَركهَا وَهُوَ يعلم أَنَّهَا حق؟ قَالَ: لَهُ الْجنَّة) .
(قَوْله مَا حَدثكُمْ أَبُو عبد الرَّحْمَن أَي أَي شَيْء حَدثكُمْ أَبُو عبد الرَّحْمَن وَهُوَ كنية عبد بن مَسْعُود
قَوْله: (فِي) ، بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (فَأنْزل الله {إِن الَّذين يشْتَرونَ ... } (آل عمرَان: 77)) الْآيَة، هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة آل عمرَان: {إِن الَّذين يشْتَرونَ} (آل عمرَان: 77) . يَعْنِي: إِن الَّذين يعتاضون عَمَّا هدَاهُم الله عَلَيْهِ من اتِّبَاع مُحَمَّد وَذكر صفته للنَّاس وَبَيَان أمره عَن أَيْمَانهم الكاذبة الْفَاجِرَة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وَهِي عرُوض هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا الفانية الزائلة {أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم} (آل عمرَان: 77) . أَي: لَا نصيب لَهُم {فِي الْآخِرَة} (آل عمرَان: 77) . وَلَا حَظّ لَهُم مِنْهَا {وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة} (آل عمرَان: 77) . بِعَين رَحمته {وَلَا يزكيهم} (آل عمرَان: 77) . أَي: وَلَا يطهرهم من الذُّنُوب والأدناس، بل يَأْمر بهم إِلَى النَّار {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} (آل عمرَان: 77) . ثمَّ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة فِي الْأَشْعَث بن قيس كَمَا ذكره فِي حَدِيث الْبَاب، وَذكر البُخَارِيّ لسَبَب نُزُولهَا وَجها آخر عَن عبد الله بن أبي أوفى: أَن رجلا أَقَامَ سلْعَة فِي السُّوق، فَحلف لقد إعطي بهَا مَا لم يُعْطه، ليوقع فِيهَا رجلا من الْمُسلمين. فَنزل {إِن الَّذين يشْتَرونَ ... } (آل عمرَان: 77) . الْآيَة. وَذكر الواحدي أَن الْكَلْبِيّ قَالَ: إِن نَاسا من عُلَمَاء الْيَهُود أولي فاقة اقتحموا إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف، لَعنه الله، فَسَأَلَهُمْ: كَيفَ تعلمُونَ هَذَا الرجل يَعْنِي: سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كتابكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا تعلمه أَنْت؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: نشْهد أَنه عبد الله وَرَسُوله، فَقَالَ كَعْب: لقد حرمكم الله خيرا كثيرا، فَقَالُوا: رويداً فَإِنَّهُ شبه علينا وَلَيْسَ هُوَ بالنعت الَّذِي نعت لنا، ففرح كَعْب لَعنه الله، فمارهم وَأنْفق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَالَ عِكْرِمَة: نزلت فِي أبي رَافع وكنانة بن أبي الْحقيق وحيي بن أَخطب وَغَيرهم من رُؤُوس الْيَهُود، كتموا مَا عهد الله، عز وَجل، إِلَيْهِم فِي التَّوْرَاة فِي شَأْن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبدلوه وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِم غَيره، وحلفوا أَنه من عِنْد الله، لِئَلَّا يفوتهُمْ الرشاء والمأكل الَّتِي كَانَت لَهُم على أتباعهم. قَوْله: (كَانَت لي بِئْر فِي أَرض) زعم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن أَبَا حَمْزَة تفرد بِذكر الْبِئْر عَن الْأَعْمَش قَالَ: وَلَا أعلم فِيمَن رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش إلاَّ قَالَ فِي أَرض، وَالْأَكْثَرُونَ أولى بِالْحِفْظِ من أبي حَمْزَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن أَبَا حَمْزَة لم ينْفَرد بِهِ، لِأَن أَبَا عوَانَة رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش فِي كتاب الْأَيْمَان وَالتَّفْسِير عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، وَفِيه: قَالَ الْأَشْعَث: كَانَت لي بِئْر فِي أَرض ابْن عَم لي، وسيجىء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ من حَدِيث عَليّ بن مسْهر عَن الْأَعْمَش، وَقَالَ الطرقي: رَوَاهُ عَن أبي وَائِل مَنْصُور وَالْأَعْمَش، فمنصور لم يرفع قَول عبد الله إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَعْمَش يَقُول: قَالَ عبد الله، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا ذكره الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَقَالَ الطرقي: رَوَاهُ عبد الْملك بن أَيمن وجامع بن أبي رَاشد وَمُسلم البطين عَن أبي وَائِل عَن عبد الله مَرْفُوعا، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْأَشْعَث، وَرَوَاهُ كرْدُوس التغلبي عَن الْأَشْعَث ابْن قيس الْكِنْدِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ الْمزي: وَمن مُسْند الْأَشْعَث بن قيس أبي مُحَمَّد الْكِنْدِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَقْرُونا بِعَبْد الله بن مَسْعُود، وَرُبمَا جَاءَ الحَدِيث عَن أَحدهمَا مُفردا. قَوْله: (ابْن عَم لي) واسْمه معدان بن الْأسود بن سعد بن معدي كرب الْكِنْدِيّ، والأشعث بن قيس بن معدي كرب، وَقيس وَالْأسود أَخَوان، ولقبه الجفشيش على وزن فعليل بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْفَاء وبالشينين المعجمتين أولاهما مَكْسُورَة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة. وَقيل: بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَبَقِيَّة الْحُرُوف على حَالهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: إسمه جرير، وكنيته أَبُو الْخَيْر. قلت: الْأَصَح هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَقَالَ لي: شهودك) ، أَي: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وشهودك، بِالنّصب(12/198)
على تَقْدِير: أقِم أَو أحضر شهودك، وَكَذَا: يَمِينه، بِالنّصب أَي: فاطلب يَمِينه، ويروى بِالرَّفْع فيهمَا، وَالتَّقْدِير: فالمثبت لدعواك شهودك أَو فالحجة القاطعة بَيْنكُمَا يَمِينه، فَيكون إرتفاعهما على أَنَّهُمَا خَبرا مبتدأين محذوفين. قَوْله: (إِذا يحلف) قَالَ الْكرْمَانِي: و: يحلف، بِالنّصب لَا غير. قلت: كلمة إِذا حرف جَوَاب وَجَزَاء ينصب الْفِعْل الْمُسْتَقْبل، مثل مَا يُقَال: أَنا آتِيك، فَيَقُول: إِذا أكرمك، وَإِنَّمَا قَالَ: بِالنّصب لَا غير، لِأَنَّهَا تصدرت فَيتَعَيَّن النصب، بِخِلَاف مَا إِذا وَقعت بعد الْوَاو وَالْفَاء فَإِنَّهُ يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: أَن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا أنكر، وَبِه اسْتدلَّ من يَقُول: إِنَّه إِذا اعْترف الْمُدَّعِي أَنه لَا بَينه لَهُ لم يقبل دَعْوَاهُ بعد ذَلِك، ورد بِأَنَّهُ: لَيْسَ فِيهِ حجَّة على ذَلِك لِأَن الْأَشْعَث لم يدعِ بعد ذَلِك أَن لَهُ بَينه. وَفِيه: أَن للْحَاكِم أَن يطْلب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد عدم الْبَيِّنَة، وَإِن لم يَطْلُبهُ صَاحب الْحق، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بِالْحلف. وَفِيه: إبِْطَال مَسْأَلَة الظفر، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ردده بَين الْبَيِّنَة وَالْيَمِين، فَدلَّ على عدم الْأَخْذ بِغَيْر ذَلِك، وأصرح من هَذَا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث وَائِل بن حجر عِنْد مُسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إلاَّ ذَلِك.
5 - (بابُ إثْمِ مِنْ مَنَعَ ابنَ السَّبِيلِ مِنَ المَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من منع ابْن السَّبِيل أَي: الْمُسَافِر من المَاء الْفَاضِل عَن حَاجته، وَهَذَا الْقَيْد لَا بُد مِنْهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب: رجل لَهُ فضل مَاء بِالطَّرِيقِ فَمَنعه من ابْن السَّبِيل، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دلَالَة على أَن صَاحب الْبِئْر أولى من ابْن السَّبِيل عِنْد الْحَاجة، فَإِذا أَخذ حَاجته لم يجز لَهُ منع ابْن السَّبِيل.
7 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش قَالَ سَمِعت أَبَا صَالح يَقُول سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَة لَا ينظر الله إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم رجل كَانَ لَهُ فضل مَاء بِالطَّرِيقِ فَمَنعه من ابْن السَّبِيل وَرجل بَايع إِمَامًا لَا يبايعه إِلَّا لدُنْيَا فَإِن أعطَاهُ مِنْهَا رَضِي وَإِن لم يُعْطه مِنْهَا سخط وَرجل أَقَامَ سلْعَته بعد الْعَصْر فَقَالَ وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره لقد أَعْطَيْت بهَا كَذَا وَكَذَا فَصدقهُ رجل ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله رجل كَانَ لَهُ فضل مَاء بِالطَّرِيقِ فَمَنعه من ابْن السَّبِيل فَإِنَّهُ أحد الثَّلَاثَة الَّذين أخبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن الله لَا ينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم وَلَو لم يَأْثَم مَانع ابْن السَّبِيل من المَاء الْفَاضِل عَنهُ لما اسْتحق هَذَا الْوَعيد. وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف الْبَصْرِيّ وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان قَوْله " ثَلَاثَة " أَي ثَلَاثَة أشخاص وارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ وَقَوله لَا ينظر الله إِلَيْهِم خَبره وَهَذَا عبارَة عَن عدم الْإِحْسَان إِلَيْهِم قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ هُوَ كِنَايَة عَنهُ فِيمَن يجوز عَلَيْهِ النّظر مجَاز فِيمَا لَا يجوز عَلَيْهِ والتنصيص على الْعدَد لَا يُنَافِي الزَّائِد فَالَّذِي ذكره من الْوَعيد لَا ينْحَصر فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قَوْله " وَلَا يزكيهم " أَي يثني عَلَيْهِم أَولا يطهرهم من الذُّنُوب قَوْله " رجل " مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره من الثَّلَاثَة رجل قَوْله " كَانَ لَهُ فضل مَاء " جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لرجل قَوْله " فَمَنعه " أَي فَمنع الْفَاضِل من المَاء قَوْله " وَرجل " أَي الثَّانِي من الثَّلَاثَة رجل بَايع إِمَامًا المُرَاد هُوَ الإِمَام الْأَعْظَم وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره بَايع إِمَامه وَالْمرَاد من الْمُبَايعَة هُنَا هُوَ المعاقدة عَلَيْهِ والمعاهدة فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره قَوْله " إِلَّا لدُنْيَا " أَي إِلَّا لأجل شَيْء يحصل لَهُ من مَتَاع الدُّنْيَا وَكلمَة دنيا غير منون واضمحل مِنْهَا معنى الوصفية لغَلَبَة الإسمية عَلَيْهَا فَلَا تحْتَاج إِلَى من وَنَحْوه وَالْفَاء فِي قَوْله فَإِن أعطَاهُ تفسيرية تفسر مبايعته للْإِمَام للدنيا قَوْله " أَقَامَ " من قَامَت السُّوق إِذا نفقت قَوْله " سلْعَته " أَي مَتَاعه قَوْله بعد الْعَصْر هَذَا لَيْسَ بِقَيْد وَإِنَّمَا خرج هَذَا مخرج(12/199)
الْغَالِب إِذْ كَانَت عَادَتهم الْحلف بِمثلِهِ وَذَلِكَ لِأَن الْغَالِب أَن مثله كَانَ يَقع فِي آخر النَّهَار حَيْثُ أَرَادوا الانعزال عَن السُّوق والفراغ عَن معاملتهم وَقيل خصص الْعَصْر بِالذكر لما فِيهِ من زِيَادَة الجراءة إِذْ التَّوْحِيد هُوَ أساس التنزيهات وَالْعصر هُوَ وَقت صعُود مَلَائِكَة النَّهَار وَلِهَذَا يغلظ فِي إِيمَان اللّعان بِهِ وَقيل لِأَن وَقت الْعَصْر وَقت تعظم فِيهِ الْمعاصِي لارْتِفَاع الْمَلَائِكَة بِالْأَعْمَالِ إِلَى الرب تَعَالَى فيعظم أَن يرتفعوا بِالْمَعَاصِي وَيكون آخر عمله هُوَ الْمَرْفُوع فالخواتم هِيَ المرجوة وَإِن كَانَت الْيَمين الْفَاجِرَة مُحرمَة كل وَقت قَوْله " لقد أَعْطَيْت " على صِيغَة الْمَجْهُول وَقد أكد يَمِينه الْفَاجِرَة بمؤكدات وَهِي بتوحيد الله تَعَالَى وباللام وَكلمَة قد الَّتِي للتحقيق هُنَا قَوْله " فَصدقهُ رجل " أَي المُشْتَرِي وَاشْتَرَاهُ بذلك الثّمن الَّذِي حلف أَنه أعْطِيه بِكَذَا اعْتِمَادًا على حلفه (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) مَا ذكرنَا أَن صَاحب المَاء أولى بِهِ عِنْد حَاجته وَفِي التَّوْضِيح فَإِذا كَانَ المَاء مِمَّا يحل مَنعه منع إِلَّا بِالثّمن إِلَّا أَن لَا يكون مَعَهم وَأما الْمَوَاشِي والسقاة الَّتِي لَا يحل منع مَائِهَا فَلَا يمْنَعُونَ فَإِن منعُوا قوتلوا وَكَانَ هدرا وَإِن أُصِيب طَالب المَاء كَانَت دِيَته على صَاحب المَاء مَعَ الْعقُوبَة والسجن كَذَا قَالَه الدَّاودِيّ وَقَالَ ابْن التِّين أَنَّهَا على عَاقِلَته إِن مَاتَ عطشا وَإِن أُصِيب أحد من الْمُسَافِرين أَخذ بِهِ جَمِيع مَا نعى وَقتلُوا بِهِ -
6 - (بابُ سكْرِ الأنْهارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم سكر الْأَنْهَار، السكر، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف: سد المَاء وحبسه، يُقَال: سكرت النَّهر إِذا سددته. وَقَالَ صَاحب (الْعين) السكر، اسْم ذَلِك السد، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: وَأَصله من: سكرت الرّيح: سكن هبوبها، وَفِي (الْمغرب) : السكر، بِالْكَسْرِ الِاسْم وَقد جَاءَ فِيهِ الْفَتْح على تَسْمِيَته بِالْمَصْدَرِ.
حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَبد لله بنِ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ حدَّثَهُ أنَّ رجُلاً مِنَ الأنْصَارِ خاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فأبَى عَلَيْهِ فاخْتَصَمَا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أرْسِلِ المَاءَ إلَى جارِكَ فغَضِبَ الأنْصَارِيُّ فقالَ إنْ كانَ ابنِ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قَالَ إسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتَّى يَرْجِعَ إلَى الجَدْرِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَالله إنِّي لأحْسِبُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ ورَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النِّسَاء: 56) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (سرح المَاء يمر فَأبى عَلَيْهِ) أَي: امْتنع عَلَيْهِ وَلم يسرح المَاء بل سكره. والْحَدِيث صورته صُورَة الْإِرْسَال وَلكنه مُتَّصِل فِي الْمَعْنى.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
قَوْله: (رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير) يَعْنِي: الزبير بن الْعَوام أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، قَالَ شَيخنَا: لم يَقع تَسْمِيَة هَذَا الرجل فِي شَيْء من طرق الحَدِيث فِيمَا وقفت عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ الزبير وَبَقِيَّة الروَاة أَرَادوا ستره لما وَقع مِنْهُ، وَحكى الدَّاودِيّ فِيمَا نَقله القَاضِي عِيَاض عَنهُ: أَن هَذَا الرجل كَانَ منافقاً. فَإِن قلت: ذكر فِيهِ أَنه من الْأَنْصَار؟ قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: لَا يُخَالف هَذَا قَوْله فِيهِ: أَنه من الْأَنْصَار، لِأَنَّهُ يكون من قبيلتهم لَا من أنصار الْمُسلمين. قلت: يُعَكر على هَذَا قَول البُخَارِيّ فِي كتاب الصُّلْح: أَنه من الْأَنْصَار قد شهد بَدْرًا، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله فِي الحَدِيث فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَغَيره: فَغَضب الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَلم يكن غير الْمُسلمين يخاطبونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقَوْلهمْ: يَا رَسُول الله، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد، وَلَكِن أجَاب الدَّاودِيّ عَن هَذَا الرجل بعد أَن جزم أَنه كَانَ منافقاً، بِأَنَّهُ وَقع مِنْهُ ذَلِك قبل شُهُوده(12/200)
بَدْرًا لانْتِفَاء النِّفَاق عَمَّن شهد بَدْرًا، وَأما قَوْله: من الْأَنْصَار، فَيحمل على الْمَعْنى اللّغَوِيّ، يَعْنِي: مِمَّن كَانَ ينصر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا بِمَعْنى أَنه كَانَ من الْأَنْصَار الْمَشْهُورين، وَقد أجَاب التوربشتي عَن هَذَا بقوله: قد اجترأ جمع بِنِسْبَة هَذَا الرجل إِلَى النِّفَاق وَهُوَ بَاطِل، إِذْ كَونه أَنْصَارِيًّا وصف مدح، وَالسَّلَف احترزوا أَن يطلقوا على من اتهمَ بالنفاق الْأنْصَارِيّ، فَالْأولى أَن يُقَال: هَذَا قَول أزله الشَّيْطَان فِيهِ عِنْد الْغَضَب، وَلَا يستبدع من الْبشر الِابْتِلَاء بأمثال ذَلِك. قلت: هَذَا اعْتِرَاف مِنْهُ أَن الَّذِي خَاصم الزبير هُوَ حَاطِب، وَلكنه أبطل اتصافه بالنفاق، واعتراف مِنْهُ أَنه أَنْصَارِي، وَلَيْسَ بِأَنْصَارِيِّ إلاَّ إِذا حملنَا ذَلِك على الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.
وَقد سَمَّاهُ الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) وَقَالَ: إِنَّه حَاطِب بن أبي بلتعة، وَكَذَا سَمَّاهُ مُحَمَّد بن الْحسن النقاش ومكي والمهدوي، ورد عَلَيْهِم بِأَن حَاطِبًا مُهَاجِرِي وَلَيْسَ من الْأَنْصَار، وَلَكِن يحسن حمله على الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الواحدي: وَقيل: إِنَّه ثَعْلَبَة بن حَاطِب، وَقَالَ ابْن بشكوال فِي (المبهمات) ؛ وَقَالَ شَيخنَا أَبُو الْحسن مغيث مرَارًا: إِنَّه ثَابت بن قيس بن شماس، قَالَ: وَلم يَأْتِ على ذَلِك بِشَاهِد ذكره.
وَذكر أَبُو بكر بن الْمقري فِي (مُعْجَمه) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة: أَن حميدا رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير فِي شراج الْحرَّة ... الحَدِيث. قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح لَهُ طرق وَلَا أعلم فِي شَيْء مِنْهَا ذكر حميد إلاَّ فِي هَذِه الطَّرِيق. وَقَالَ: حميد، بِضَم الْحَاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة. قلت: روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، سمعته من الزُّهْرِيّ: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} (النِّسَاء: 56) . الْآيَة، قَالَ: نزلت فِي الزبير بن الْعَوام وحاطب بن أبي بلتعة اخْتَصمَا فِي مَاء ... الحَدِيث، فَهَذَا إِسْنَاده قوي، وَإِن كَانَ مُرْسلا، وَإِن كَانَ ابْن الْمسيب سَمعه من الزبير يكون مَوْصُولا فَهَذَا يُقَوي قَول من قَالَ: إِن الَّذِي خَاصم الزبير حَاطِب بن أبي بلتعة، وَهُوَ بَدْرِي وَلَيْسَ من الْأَنْصَار. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: لَو صدر مثل هَذَا الْكَلَام الْيَوْم من إِنْسَان جرت على قَائِله أَحْكَام الْمُرْتَدين فَيجب قَتله بِشَرْطِهِ، قَالُوا: وَأما ترك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام يتألف النَّاس وَيدْفَع بِالَّتِي هِيَ أحسن ويصبر على أَذَى الْمُنَافِقين الَّذين فِي قُلُوبهم مرض.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: فَلَمَّا خرجا يَعْنِي: الزبير وحاطباً مرا على الْمِقْدَاد، فَقَالَ: لمن كَانَ الْقَضَاء يَا أَبَا بلتعة؟ فَقَالَ: قضى لِابْنِ عمته، ولوى شدقه، فطن لَهُ يَهُودِيّ كَانَ مَعَ الْمِقْدَاد فَقَالَ: قَاتل الله هَؤُلَاءِ، يشْهدُونَ أَنه رَسُول الله ثمَّ يَتَّهِمُونَهُ فِي قَضَاء يقْضِي بَينهم، وأيم الله! لقد أَذْنَبْنَا مرّة فِي حَيَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَدَعَانَا مُوسَى إِلَى التَّوْبَة مِنْهُ، فَقَالَ: اقْتُلُوا أَنفسكُم، فَقَتَلْنَا، فَبلغ قَتْلَانَا سبعين ألفا فِي رَبنَا حَتَّى رَضِي عَنَّا. قلت: هَذَا مَوضِع تَأمل.
قَوْله: (فِي شراج الْحرَّة) ، الشراج، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره جِيم، قيل: هُوَ وَاحِد، وَقيل: هُوَ جمع شرج، مثل: رهن ورهان وبحر وبحار. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: الشرج مسيل المَاء من الْحزن إِلَى السهل، وَالْجمع شراج وشروج وشرج، وَقيل: الشرج جمع شراج والشراج جمع شرج. وَفِي (الْمُحكم) : وَيجمع على أشراج، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: شريج الْحرَّة، وَإِنَّمَا أضيف إِلَى الْحرَّة لكَونهَا فِيهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الشراج نهر عِنْد الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا غَرِيب وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ نهر، والحرة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: من الأَرْض الصلبة الغليظة الَّتِي أفنيتها كلهَا حِجَارَة سود نخرة، كَأَنَّهَا مطرَت، وَالْجمع: حرات وحرار، وَفِي (مثلث) ابْن سَيّده: وَيجمع أَيْضا على حرون، وبالمدينة حرتان: حرَّة واقم وحرة لبلى، زَاد ابْن عديس فِي (الْمثنى والمثلث) : وحرة الْحَوْض من الْمَدِينَة والعقيق، وحرة قبا فِي قبْلَة الْمَدِينَة، وَزَاد ياقوت: وحرة الْوَبرَة بِالتَّحْرِيكِ، وأوله وَاو بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، على أَمْيَال من الْمَدِينَة، وحرة النَّار قرب الْمَدِينَة. قَوْله: (الَّتِي يسقون بهَا) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: كَانَا يسقيان بِهِ كِلَاهُمَا. قَوْله: (سرح المَاء) ، أَمر من التسريح: أَي: أرْسلهُ وسيِّبه، وَمِنْه: سرحوا المَاء فِي الخَنْدَق. قَوْله: (يمر) ، جملَة وَقعت حَالا من المَاء، وَقَالَ بَعضهم: وَضبط الْكرْمَانِي: فَأمره، بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على أَنه فعل أَمر من الإمرار. قَالَ: وَهُوَ مُحْتَمل. قلت: لم أرَ ذَلِك فِي شرح الْكرْمَانِي، فَإِن كَانَت النّسخ مُخْتَلفَة فَلَا يبعد. قَوْله: (فَأبى عَلَيْهِ) ، أَي: امْتنع الزبير على الَّذِي خاصمه من إرْسَال المَاء، وَإِنَّمَا قَالَ الْأنْصَارِيّ ذَلِك لِأَن المَاء كَانَ يمر بِأَرْض الزبير قبل أَرض الْأنْصَارِيّ فحبسه لإكمال سقِِي أرضه، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى أَرض جَاره، فالتمس مِنْهُ الْأنْصَارِيّ تَعْجِيل ذَلِك فَأبى عَلَيْهِ. قَوْله: (إسق يَا زبير) ، بِكَسْر الْهمزَة: من سقى يسْقِي، من بَاب ضرب يضْرب، وَحكى ابْن التِّين بِفَتْح الْهمزَة(12/201)
من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ من: أسْقى يسْقِي إسقاء، وَقَالَ بَعضهم: حكى ابْن التِّين بِهَمْزَة قطع من الرباعي. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصطلح فَلَا يُقَال: رباعي إلاَّ لكلمة أصُول حروفها أَرْبَعَة أحرف، وَسَقَى ثلاثي مُجَرّد، فَلَمَّا زيد فِيهِ الْألف صَار ثلاثياً مزيداً فِيهِ. قَوْله: (إِن كَانَ ابْن عَمَّتك) ، بِفَتْح همزَة: أَن، وَأَصله: لِأَن كَانَ فَحذف اللَّام، وَمثل هَذَا كثير، وَالتَّقْدِير: حكمت لَهُ بالتقديم لأجل أَنه ابْن عَمَّتك؟ وَكَانَت أم الزبير صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب وَهِي عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن مَالك: يجوز فِيهِ الْفَتْح وَالْكَسْر لِأَنَّهَا وَاقعَة بعد كَلَام تَامّ مُعَلل بمضمون مَا صدر بهَا، فَإِذا كسرت قدر قبلهَا ألفا، وَإِذا فتحت قدر اللَّام قبلهَا، وَقد ثَبت الْوَجْهَانِ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَدْعُوهُ إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} (الطّور: 82) . بِالْفَتْح، قَرَأَ نَافِع وَالْكسَائِيّ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ بَعضهم: وَحكى الْكرْمَانِي: إِن كَانَ، بِكَسْر الْهمزَة على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، وَالْجَوَاب مَحْذُوف، قَالَ: وَلَا أعرف هَذِه الرِّوَايَة، نعم وَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، فَقَالَ: إعدل يَا رَسُول الله، وَإِن كَانَ ابْن عَمَّتك؟ وَالظَّاهِر أَن هَذِه بِالْكَسْرِ. انْتهى. قلت: لم يذكر الْكرْمَانِي هَذَا فِي شَرحه، وَإِن ذكره فَلهُ وَجه موجه يدل عَلَيْهِ رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، لِأَن: إِن، فِيهَا بِالْكَسْرِ جزما فَلَا يحْتَاج إلاَّ أَن يُقَال: وَالظَّاهِر أَن هَذِه بِالْكَسْرِ، وَأَيْضًا عدم مَعْرفَته بِهَذِهِ الرِّوَايَة لَا يسْتَلْزم الْعَدَم مُطلقًا. فَافْهَم. قَوْله: (فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: تغير، وَهَذَا كِنَايَة عَن الْغَضَب، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق: حَتَّى عرفنَا أَن قد سَاءَهُ مَا قَالَ. قَوْله: (ثمَّ احْبِسْ المَاء) ، لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أمسك المَاء، بل أمسك نَفسك عَن السَّقْي حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، أَي: حَتَّى يصير إِلَيْهِ، والجدر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة، وَهُوَ: جر الْجِدَار الَّذِي هُوَ الْحَائِل بَين المشارب وَهُوَ الحواجز الَّتِي تحبس المَاء. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: وَرَوَاهُ بَعضهم حَتَّى يبلغ الْجدر، بِضَم الْجِيم وَالدَّال: جمع جِدَار، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي أَكثر الرِّوَايَات بِفَتْح الدَّال، وَفِي بَعْضهَا بِالسُّكُونِ، وَهُوَ الَّذِي فِي اللُّغَة، وَهُوَ أصل الْحَائِط. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لم يَقع فِي الرِّوَايَة إلاَّ بِالسُّكُونِ، وَالْمعْنَى: أَن يصل المَاء إِلَى أصُول النّخل، قَالَ: ويروى بِكَسْر الْجِيم وَهُوَ الْجِدَار، وَالْمرَاد بِهِ: جدران الشربات، وَهِي الْحفر الَّتِي تحفر فِي أصُول النّخل، والشربات، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة: جمع شربة بالفتحات، قَالَ ابْن الْأَثِير: هِيَ حَوْض يكون فِي أصل النَّخْلَة وحولها يمْلَأ بِمَاء لتشربه، وَحكى الْخطابِيّ: الجذر، بِسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، وَهُوَ جذر الْحساب، وَالْمعْنَى: حَتَّى يبلغ تَمام الشّرْب. قَوْله: (فَقَالَ الزبير: وَالله إِنِّي لأحسب هَذِه الْآيَة نزلت فِي ذَلِك: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} (النِّسَاء: 56) .) . وَزَاد شُعَيْب فِي رِوَايَته: {ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} (النِّسَاء: 56) . قَوْله هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى قَوْله: {فَلَا وَرَبك} (النِّسَاء: 56) . قَوْله: (فِي ذَلِك) أَي: فِيمَا ذكر من أمره مَعَ خَصمه، وَقَالَ بَعضهم: الزبير كَانَ لَا يجْزم بذلك. قلت: قَوْله: وَالله، يَقْتَضِي الْجَزْم وَيرد معنى الظَّن فِي قَوْله: لأحسب، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لأعد هَذِه الْآيَة أَنَّهَا نزلت فِي ذَلِك، وَلَا سِيمَا قَالَ الزبير فِي رِوَايَة ابْن جريج الَّتِي تَأتي عَن قريب: وَالله إِن هَذِه الْآيَة أنزلت فِي ذَلِك، فَانْظُر كَيفَ أكد كَلَامه بالقسم وَبِأَن وَبِالْجُمْلَةِ الإسمية، وَكَيف لَا يكون الْجَزْم بِهَذِهِ المؤكدات مَعَ أَن هَذَا الْقَائِل قَالَ: لَكِن وَقع فِي رِوَايَة أم سَلمَة عِنْد الطَّبَرِيّ وَالطَّبَرَانِيّ الْجَزْم بذلك، وَأَنَّهَا نزلت فِي قصَّة الزبير وخصمه.
قلت: رَوَاهُ الواحدي أَيْضا فِي (أَسبَاب النُّزُول) من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة: عَن عَمْرو بن دِينَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن أبي سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن أم سَلمَة: أَن الزبير بن الْعَوام خَاصم رجلا، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للزبير، وَقَالَ الرجل: إِنَّمَا قضى لَهُ لِأَنَّهُ ابْن عمته، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن دُحَيْم حَدثنَا أَحْمد بن حَازِم حَدثنَا الْفضل بن دُكَيْن حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سَلمَة رجل من آل أبي سَلمَة قَالَ: خَاصم الزبير رجلا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى للزبير، فَقَالَ الرجل: إِنَّمَا قضى لَهُ لِأَنَّهُ ابْن عمته فَنزلت: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة.
وَهنا سَبَب آخر غَرِيب جدا قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي عبد الله بن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود، قَالَ: اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى بَينهمَا، فَقَالَ الَّذِي قضى عَلَيْهِ: ردنا إِلَى عمر بن الْخطاب، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنطلقا إِلَيْهِ، قَالَ الرجل: يَا ابْن الْخطاب قضى لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على هَذَا، فَقَالَ: ردنا إِلَى عمر فَرَدَّنَا إِلَيْك، فَقَالَ: أَكَذَلِك؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَكَانكُمَا حَتَّى أخرج(12/202)
إلَيْكُمَا فأقضي بَيْنكُمَا، فَخرج إِلَيْهِمَا مُشْتَمِلًا على سَيْفه، فَضرب الَّذِي قَالَ: ردنا إِلَى عمر، فَقتله وَأدبر الآخر فَارًّا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! قتل عمر وَالله صَاحِبي، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْجَزته لَقَتَلَنِي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا كنت أَظن أَن يجترىء عمر على قتل رجل مُؤمن. فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة، فَهدر دم ذَلِك الرجل وبرىء عمر من قَتله، فكره الله أَن يسن ذَلِك بعد فَقَالَ: {وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم} إِلَى قَوْله: {وَأَشد تثبيتاً} (النِّسَاء: 66) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود بِهِ، قَالَ ابْن كثير: وَهُوَ أثر غَرِيب ومرسل، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف.
طَرِيق أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن دُحَيْم فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا شُعَيْب بن شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة حَدثنَا عتبَة بن ضَمرَة حَدثنِي أبي: أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى للمحق على الْمُبْطل، فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: لَا أرْضى، فَقَالَ صَاحبه: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَن نَذْهَب إِلَى أبي بكر الصّديق،؟ ، وَقد ذَهَبا إِلَيْهِ فَقَالَ الَّذِي قضي لَهُ: قد اختصمنا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقضي لي، فَقَالَ أَبُو بكر: فأنتما على مَا قضى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأبى صَاحبه أَن يرضى، قَالَ: فاتيا عمر بن الْخطاب فَأتيَاهُ، فَقَالَ الْمقْضِي لَهُ: قد اختصمنا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى لي عَلَيْهِ فَأبى أَن يرضى، ثمَّ أَتَيْنَا أَبَا بكر فَقَالَ: أَنْتُمَا على مَا قضى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأبى أَن يرضى، فَسَأَلَهُ عمر، فَقَالَ كَذَلِك، فَدخل عمر منزله وَخرج وَالسيف فِي يَده قد سَله، فَضرب بِهِ رَأس الَّذِي أَبى أَن يرضى فَقتله، فَأنْزل الله {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} (النِّسَاء: 56) . إِلَى آخر الْآيَة.
قَوْله: {فَلَا وَرَبك} (النِّسَاء: 56) . أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا وهم يخالفون حكمك، ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم فَقَالَ: لَا يُؤمنُونَ، وَقيل: هِيَ مُتَّصِلَة بِقصَّة الْيَهُودِيّ. قَوْله: {فِيمَا شجر بَينهم} (النِّسَاء: 56) . أَي: اخْتلف وَاخْتَلَطَ من أَمرهم والتبس عَلَيْهِم حكمه، وَمِنْه الشّجر لاخْتِلَاف أغصانه. قَوْله: {حرجاً} (النِّسَاء: 56) . أَي: شكا وضيقاً. قَوْله: {ويسلموا تَسْلِيمًا} (النِّسَاء: 56) . أَي: فِيمَا أَمرتهم بِهِ وَلَا يعارضوه، ودلت الْآيَة على أَن من لم يرض بِحكم الرَّسُول فَهُوَ غير مُؤمن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن مَاء الأودية الَّتِي لم تستنبط بِعَمَل فِيهَا مُبَاح، وَمن سبق إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ. وَفِيه: أَن أهل الشّرْب الْأَعْلَى يقدَّم على من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ وَيحبس الأول المَاء حَتَّى يبلغ إِلَى جِدَار حَائِطه، ثمَّ يُرْسل المَاء إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ فيسقي كَذَلِك وَيحبس المَاء كَذَلِك، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ، وَهَكَذَا، وَفِي حَدِيث الْبَاب: إحبس المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو الَّذِي أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِي سبل المهزور أَن يمسك حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ. ثمَّ يُرْسل الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل، والمهزور بالزاي ثمَّ بالراء وَادي بني قُرَيْظَة، قَالَه ابْن الْأَثِير، وَفِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قضى فِي شرب النّخل من السَّيْل: أَن الْأَعْلَى يشرب قبل الْأَسْفَل وَيتْرك المَاء فِيهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ يُرْسل المَاء إِلَى أَسْفَل الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِي الحواشط، وَفِي حَدِيث ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا عَنهُ، قَالَ: قضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سيل مهزور الْأَعْلَى قبل الْأَسْفَل. فيسقي الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ لَا مُخَالفَة بَين التَّقْدِيرَيْنِ، لِأَن المَاء إِذا بلغ الكعب بلغ أصل الْجِدَار، وَقَالَ ابْن شهَاب: فقدرت الْأَنْصَار وَالنَّاس قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إسق يَا زبير ثمَّ احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، كَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ: لَيْسَ التَّقْدِير بِالْبُلُوغِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ على عُمُوم الْأَزْمَان والبلدان، لِأَنَّهُ يَدُور بِالْحَاجةِ، وَالْحَاجة تخْتَلف باخْتلَاف الأَرْض، وباختلاف مَا فِيهَا من زرع وَشَجر وبوقت الزِّرَاعَة وَوقت السَّقْي وَحمل بعض الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين قَول الْفُقَهَاء فِي أَنه: يسْقِي الأول أرضه ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى الثَّانِي ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى الثَّالِث أَن المُرَاد بِالْأولِ من تقدم إحياؤه، وَبِالثَّانِي الَّذِي أحيى بعد الأول، وَهَكَذَا قَالَه صَاحب الْمُهِمَّات، وَحمل كَلَام الرَّافِعِيّ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَيْسَ المُرَاد الْأَقْرَب إِلَى أصل النَّهر فَالْأَقْرَب لَا بِالسَّبقِ، فَلذَلِك اعتبرناه انْتهى. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء وَلَيْسَ مُرَاد الرَّافِعِيّ وَغَيره من الْفُقَهَاء بِالْأولِ الَّذِي هُوَ أقرب إِلَى أصل المَاء، لأَنا إِذا اعْتبرنَا هَذَا يضيع حق الأول، وَذَلِكَ لِأَن المَاء إِذا نزل من علو فَلم يسق الأول حَتَّى نزل المَاء إِلَى الْأَسْفَل وَسَقَى بِهِ الْأَسْفَل، وَبعد ذَلِك كَيفَ يعود المَاء إِلَى الأول(12/203)