عرُوبَة فِي (الْمَنَاسِك) عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان. وَقَالَ بَعضهم: وَجزم المُصَنّف بِوُجُوب الْعمرَة، وَهُوَ متابع فِي ذَلِك للمشهور عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا من أهل الْأَثر. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: الْعمرَة سنَّة لَا نعلم أحدا رخص فِي تَركهَا، لَيْسَ فِيهَا شَيْء ثَابت بِأَنَّهَا تطوع. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي لَا يُرِيد بِهِ أَنَّهَا لَيست بواجبة، بِدَلِيل قَوْله: لَا نعلم أحدا رخص فِي تَركهَا، لِأَن السنَّة الَّتِي يُرِيد بهَا خلاف الْوَاجِب يرخص فِي تَركهَا قطعا، والسنَّة تطلق وَيُرَاد بهَا الطَّرِيقَة، وَغير سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى. قلت: كَأَن شَيخنَا حمل قَول الشَّافِعِي: الْعمرَة سنة، على معنى أَنَّهَا سنّة لَا يجوز تَركهَا بِدَلِيل قَوْله: (لَيْسَ فِيهَا شَيْء ثَابت بِأَنَّهَا تطوع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا لم يثبت أَنَّهَا تطوع يكون معنى قَوْله: إنَّها سنَّة أَي: سنة وَاجِبَة لَا يرخض فِي تَركهَا، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي أَنه لَيْسَ بِثَابِت هُوَ مُرْسل أبي صَالح الْحَنَفِيّ، فقد روى الرّبيع عَن الشَّافِعِي أَن سعيد بن سَالم القداح قد احْتج بِأَن سُفْيَان الثَّوْريّ أخبرهُ عَن يَعْقُوب بن إِسْحَاق عَن أبي صَالح الْحَنَفِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْحَج جِهَاد وَالْعمْرَة تطوع) ، قلت: هَذَا مُنْقَطع، فصح قَوْله أَنه لَيْسَ بِثَابِت.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّها لَقَرِينَتُها فِي كِتَابِ الله {وأتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لله} (الْبَقَرَة: 691) .
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: (إِن الْعمرَة لقَرِينَة الْحجَّة فِي كتاب الله تَعَالَى) يَعْنِي: مذكورتان مَعًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة} (الْبَقَرَة: 691) . وَقد أَمر الله تَعَالَى بإتمامهما، وَالْأَمر للْوُجُوب، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق الشَّافِعِي فِي مُسْنده) عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار: سَمِعت طاووسا يَقُول: سَمِعت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: وَالله إِنَّهَا لقرينتها فِي كتاب الله: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَقَالَ المانعون للواجوب: ظَاهر السِّيَاق إِكْمَال أفعالها بعد الشُّرُوع فيهمَا، وَلِهَذَا قَالَ بعده: {فَأن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: صددتم عَن الْوُصُول إِلَى الْبَيْت، ومنعتم من أتمامهما، وَلِهَذَا اتّفق الْعلمَاء على أَن الشُّرُوع فِي الْحَج وَالْعمْرَة مُلْزم، سَوَاء قيل بِوُجُوب الْعمرَة أَو باستحبابها، وَقَالَ شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن أبي سَلمَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: أَن تحرم من دويرة أهلك، وَكَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، أَنه قَالَ: تمامهما أَن تحرم من أهلك لَا تُرِيدُ إلاَّ الْحَج وَالْعمْرَة، وتهل من الْمِيقَات، لَيْسَ أَن تخرج لتِجَارَة وَلَا لحَاجَة حَتَّى إِذا كنت قَرِيبا من مَكَّة. قلت: لَو احتججت أَو اعْتَمَرت، وَذَلِكَ يجزىء، وَلَكِن التَّمام أَن تخرج لَهُ وَلَا تخرج لغيره. وَقَرَأَ الشّعبِيّ: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . بِرَفْع الْعمرَة، قَالَ: وَلَيْسَت بواجبة.
وَمِمَّنْ قَالَ بفرضية الْعمرَة من الصَّحَابَة: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله بن عمر وَعبد الله بن مَسْعُود وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمن التَّابِعين وَغَيرهم: عَطاء وطاووس وَمُجاهد وَعلي بن الْحُسَيْن وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَعبد الله بن شَدَّاد وَابْن الحبيب وَابْن الجهم، وَاحْتج هَؤُلَاءِ أَيْضا بِأَحَادِيث أُخْرَى. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن مُسلم عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان لَا يَضرك بِأَيِّهِمَا بدأت) . قلت: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف، رَوَاهُ هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين عَن زيد. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة حبيب بن أبي عمْرَة عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله {على النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ: نعم} عَلَيْهِنَّ جِهَاد لَا قتال فِيهِ الْحَج وَالْعمْرَة) . قلت: أخرجه البُخَارِيّ وَلم يذكر فِيهِ الْعمرَة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة قُتَيْبَة عَن ابْن لَهِيعَة عَن عَطاء (عَن جَابر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان واجبتان) . قلت: قَالَ ابْن عدي: هُوَ عَن ابْن لَهِيعَة عَن عَطاء غير مَحْفُوظ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ ابْن لَهِيعَة: غير مُحْتَج بِهِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَمْرو بن أَوْس (عَن أبي رزين الْعقيلِيّ: أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِن أبي شيخ كَبِير لَا يَسْتَطِيع الْحَج وَالْعمْرَة، وَلَا الظعن، قَالَ: حج عَن أَبِيك وَاعْتمر) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأَبُو رزين اسْمه: لَقِيط بن عَامر قلت: أمره بِأَن يعْتَمر عَن غَيره. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة يُونُس بن مُحَمَّد عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه عَن يحيى بن يعمر عَن ابْن عمر (عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: بَينا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أنَاس، إِذْ جَاءَ رجل لَيْسَ عَلَيْهِ سحناء سفر) فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ: يَا مُحَمَّد(10/107)
مَا الأسلام؟ فَقَالَ) الْإِسْلَام أَن تشهد أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتحج وتعتمر) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إِسْنَاد ثَابت أخرجه مُسلم بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: زِيَادَة صَحِيحَة، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) والجوزقي وَالْحَاكِم أَيْضا قلت: المُرَاد بِإِخْرَاج مُسلم لَهُ أَنه أخرج الْإِسْنَاد هَكَذَا، وَلم يسق لفظ هَذِه الرِّوَايَة، وَإِنَّمَا أحَال بِهِ على الطّرق الْمُتَقَدّمَة إِلَى يحيى بن يعمر بقوله كنحو حَدِيثهمْ، وَذكر أَبُو عَمْرو عَن الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة: أَن الْعمرَة لَيست بواجبة وروى ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَعنهُ أَنَّهَا سنة. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الْعمرَة سنة وَيَنْبَغِي أَن يَأْتِي بهَا عقيب الْفَرَاغ من أَفعَال الْحَج، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث جَابر (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْعمرَة أَوَاجِبَة هِيَ قَالَ: لَا، وَإِن تَعْتَمِرُوا هُوَ أفضل) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَفِي تَصْحِيحه لَهُ نظر، فَإِن فِي سَنَده الْحجَّاج بن أَرْطَاة وَلم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) . وَقَالَ ابْن حبَان: تَركه ابْن الْمُبَارك وَيحيى الْقطَّان وَابْن معِين وَأحمد، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يحْتَج بِهِ، وَإِنَّمَا روى هَذَا الحَدِيث مَوْقُوفا على جَابر، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَفعه ضَعِيف. قلت: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد فِي كتاب (الإِمَام) : وَهَذَا الحكم بالتصحيح فِي رِوَايَة الْكَرْخِي لكتاب التِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: حسن لَا غير، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: لَعَلَّ التِّرْمِذِيّ إِنَّمَا حكم عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ لمجيئه من وَجه آخر، فقد رَوَاهُ يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله ابْن عمر عَن أبي الزبير، (عَن جَابر، قلت: يَا رَسُول الله {الْعمرَة فَرِيضَة كَالْحَجِّ؟ قَالَ: لَا، وَإِن تعتمر خير لَك) . ذكره صَاحب (الإِمَام) ، وَقَالَ: اعْترض عَلَيْهِ بِضعْف عبد الله بن عمر الْعمريّ. قلت: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة يحيى بن أَيُّوب عَن عبيد الله بن الْمُغيرَة عَن أبي الزبير (عَن جَابر، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله} الْعمرَة وَاجِبَة فريضتها كفريضة الْحَج؟ قَالَ: لَا، وَإِن تعتمر خير لَك) . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة يحيى بن أَيُّوب عَن عبيد الله غير مَنْسُوب عَن أبي الزبير، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ عبيد الله بن الْمُغيرَة، تفرد بِهِ عَن أبي الزبير، وَوهم الباغندي فِي قَوْله: عبيد الله بن عمر، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الْحَج جِهَاد وَالْعمْرَة تطوع) ، وروى عبد الْبَاقِي بن قَانِع من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحوه، وَكَذَا روى عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحوه. ثمَّ إعلم أَن الشَّافِعِي ذهب إِلَى اسْتِحْبَاب تكْرَار الْعمرَة فِي السّنة الْوَاحِدَة مرَارًا، وَقَالَ مَالك وَأَصْحَابه: يكره أَن يعْتَمر فِي السّنة الْوَاحِدَة أَكثر من عمْرَة وَاحِدَة، وَقَالَ ابْن قدامَة: قَالَ آخَرُونَ: لَا يعْتَمر فِي شهر أَكثر من عمْرَة وَاحِدَة، وَعند أبي حنيفَة: تكره الْعمرَة فِي خَمْسَة أَيَّام: يَوْم عَرَفَة، والنحر، وَأَيَّام التَّشْرِيق. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: تكره فِي أَرْبَعَة أَيَّام عَرَفَة، والتشريق.
3771 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنُ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمان عنْ أبي صالِحِ السَّمَّانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْعُمْرَةُ إلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا والحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةُ.
قد ذكرنَا أَن التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على وجوب الْعمرَة وفضلها، وَذكر مَا يدل على وُجُوبهَا، وهما الأثران الْمَذْكُورَان عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ ذكر هُنَا عَن أبي هُرَيْرَة مَا يدل على فَضلهَا، وَقد بوب التِّرْمِذِيّ بَابا فِي فضل الْعمرَة، فَقَالَ: بَاب مَا جَاءَ فِي فضل الْعمرَة، ثمَّ روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور عَن أبي كريب عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن سمي إِلَى آخِره، نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأخرجه مُسلم أَيْضا كَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَأخرجه أَيْضا النَّسَائِيّ من رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سمي، وَمن رِوَايَة سُهَيْل بن أبي صَالح عَن سمي، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن سمي، وَهُوَ مَشْهُور من حَدِيث سمي، وَهُوَ بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء، وَقد مر فِي الصَّلَاة.
وَأَبُو صَالح السمان هُوَ ذكْوَان الزيات، وَقد تكَرر ذكره. قَوْله: (الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا) ، أَي: من الذُّنُوب دون الْكَبَائِر كَمَا فِي قَوْله: (الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة كَفَّارَة لما بَينهمَا) . وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن تكون إِلَى بِمَعْنى: مَعَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَى أَمْوَالكُم} (النِّسَاء: 2) . و {من أَنْصَارِي إِلَى الله} (آل عمرَان: 25، الصَّفّ: 41) . فَإِن قلت: الَّذِي يكفر مَا بَين العمرتين: الْعمرَة الأولى أَو الْعمرَة الثَّانِيَة؟ قلت: ظَاهر الحَدِيث أَن الْعمرَة الأولى هِيَ المكفرة، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي(10/108)
وَقع الْخَبَر عَنْهَا أَنَّهَا تكفر، وَلَكِن الظَّاهِر من حَيْثُ الْمَعْنى أَن الْعمرَة الثَّانِيَة هِيَ الَّتِي تكفر مَا قبلهَا إِلَى الْعمرَة الَّتِي قبلهَا، فَإِن التَّكْفِير قبل وُقُوع الذَّنب خلاف الظَّاهِر. قَوْله: (وَالْحج المبرور) ، المبرور من: بره إِذا أحسن إِلَيْهِ ثمَّ قيل: بر الله عمله، إِذا قبله كَأَنَّهُ أحسن إِلَى عمله بِأَن قبله وَلم يردهُ. وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْحَجِّ المبرور، فَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يخالطه شَيْء من مأثم، وَقيل: هُوَ المتقبل، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ وَلَا سمعة وَلَا رفث وَلَا فسوق، وَقيل: الَّذِي لم يتعقبه مَعْصِيّة، وَقد ورد تَفْسِير الْحَج المبرور بِغَيْر هَذِه الْأَقْوَال، وَهُوَ مَا روى مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: الْحَج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إلاَّ الْجنَّة، فَقيل: يَا رَسُول الله! مَا بر الْحَج؟ قَالَ: إفشاء السَّلَام وإطعام الطَّعَام) . وَفِي رِوَايَة فِيهِ بدل (إفشاء السَّلَام: وَطيب الْكَلَام) ، وَفِي رِوَايَة: (ولين الْكَلَام) وَهُوَ فِي (مُسْند) أَحْمد. قَوْله: (لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة) أَي: لَا يقصر لصَاحبه من الْجَزَاء على تَكْفِير بعض ذنُوبه، بل لَا بُد أَن يدْخل الْجنَّة،
وَقد ورد فِي ثَوَاب الْحَج وَالْعمْرَة أَحَادِيث: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث شَقِيق عَن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تابعوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُمَا ينفيان الْفقر والذنُوب كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد وَالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَلَيْسَ للحجة المبرورة ثَوَاب إلاَّ الْجنَّة) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدِيث ابْن مَسْعُود حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، وَقَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر وعامر بن ربيعَة وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن حُبَيْش وَأم سَلمَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: حَدِيث عمر رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تابعوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِن الْمُتَابَعَة بَينهمَا تَنْفِي الْفقر والذنُوب كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد) . وَحَدِيث عَامر بن ربيعَة رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث عبد الله بن عَامر بن ربيعَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تابعوا) ، فَذكره. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الْجَمَاعَة خلا أَبَا دَاوُد من طرق عَن مَنْصُور. وَحَدِيث عبد الله بن حُبَيْش الْخَثْعَمِي رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَليّ الْأَزْدِيّ عَن عبيد بن عُمَيْر (عَن عبد الله بن حُبَيْش الْخَثْعَمِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: إِيمَان لَا شكّ فِيهِ، وَجِهَاد لَا غلُول فِيهِ، وَحجَّة مبرورة) . وَذكر الحَدِيث، وَأَصله عِنْد أبي دَاوُد رَحمَه الله. وَحَدِيث أم سَلمَة رَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة فِي (مُسْنده) : حَدثنَا يزِيد بن هَارُون حَدثنَا قَاسم بن الْفضل عَن أبي جَعْفَر عَن أم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْحَج جِهَاد كل ضَعِيف) ، وَأَبُو جَعْفَر هُوَ الباقر، اسْمه مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَلم يسمع من أم سَلمَة. وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر مَرْفُوعا: (تابعوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة) .
2 - (بابُ مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من اعْتَمر قبل أَن يحجّ، هَل يجْزِيه أم لَا؟
4771 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ أنَّ عِكْرَمَةَ بنَ خالِدٍ سألَ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الحَجِّ فَقَالَ لاَ بأسَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت عَن عُثْمَان بن مَسْعُود بن يزِيد أَبُو الْحسن الْخُزَاعِيّ الْمروزِي الْمَعْرُوف بِابْن شبويه، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: روى عَنهُ البُخَارِيّ، مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بطرسوس، قَالَه الْحَافِظ الدمياطي، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا أَحْمد بن مُحَمَّد هُوَ ابْن مرْدَوَيْه. قلت: هُوَ أَحْمد بن مُوسَى أَبُو الْعَبَّاس، يُقَال لَهُ مرْدَوَيْه السمسار الْمروزِي، وَذكره ابْن أبي خَيْثَمَة فِيمَن قدم بَغْدَاد، وَمَات فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وروى عَنهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عِكْرِمَة بن خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم، مَاتَ سنة أَربع عشرَة وَمِائَة. الْخَامِس: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج.(10/109)
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن مخلد بن يزِيد وَيحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن جريج.
قَوْله: (أَن عِكْرِمَة بن خَالِد سَأَلَ ابْن عمر) ، قيل: هَذَا السِّيَاق يَقْتَضِي أَن هَذَا الْإِسْنَاد مُرْسل، لِأَن ابْن جريج لم يدْرك زمَان سُؤال عِكْرِمَة لِابْنِ عمر. انْتهى. قلت: عدم إِدْرَاك ابْن جريج سُؤال عِكْرِمَة عَن ابْن عمر لَا يسْتَلْزم نفي سَماع ابْن جريج عَن عِكْرِمَة هَذَا. قَوْله: (لَا بَأْس) ، يَعْنِي: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء إِذا اعْتَمر قبل أَن يحجّ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَابْن خُزَيْمَة: لَا بَأْس على أحد أَن يعْتَمر قبل أَن يحجّ.
قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابنُ عُمَرَ اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ أنْ يَحُّجَّ
عِكْرِمَة هُوَ ابْن خَالِد الْمَذْكُور، وَهُوَ مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
وَقَالَ إبرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ إسْحَاقَ قَالَ حدَّثني عِكْرِمَةُ ابنُ خالِدٍ قَالَ سألْتُ ابنَ عُمَرَ مُثْلَهُ
إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ بِبَغْدَاد، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسبعين سنة، وَابْن إِسْحَاق هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار صَاحب (الْمَغَازِي) ذكر هَذَا التَّعْلِيق عَن ابْن إِسْحَاق الْمُصَرّح بالاتصال تَقْوِيَة لما قبلهَا، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَحْمد عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَفظه: (حَدثنِي عِكْرِمَة بن خَالِد بن الْعَاصِ المَخْزُومِي، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة فِي نفر من أهل مَكَّة فَلَقِيت عبد الله بن عمر، فَقلت: إِنَّا لم نحج قطّ، أفنعتمر من الْمَدِينَة؟ قَالَ: نعم، وَمَا يمنعكم من ذَلِك، فقد اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمْرَة كلهَا قبل حجه؟ قَالَ: فاعتمرنا) .
حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ عِكْرِمَةُ بنُ خالِدٍ سألْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مِثْلَهُ.
عَمْرو بن عَليّ بن بَحر بن كَبِير أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: الشَّيْبَانِيّ أَبُو عَاصِم النَّبِيل الْبَصْرِيّ، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهَذَا من ابْن عمر قد يدل أَن فرض الْحَج نزل قبل اعتماره، إِذْ لَو اعْتَمر قبله مَا صَحَّ استدلاله على مَا ذكره، وَيتَفَرَّع على ذَلِك فرض الْحَج: هَل هُوَ على الْفَوْر أَو التَّرَاخِي؟ وَالَّذِي جنح إِلَيْهِ ابْن عمر يدل على أَنه على التَّرَاخِي، وَهُوَ الَّذِي تعضده الْأُصُول أَن فِي فرض الْحَج سَعَة وفسحة، وَلَو كَانَ وقته مضيقا لوَجَبَ إِذا أَخّرهُ إِلَى سنة أُخْرَى أَن يكون قَضَاء لَا أَدَاء، فَلَمَّا ثَبت أَن يكون أَدَاء فِي أَي وَقت أَتَى بِهِ، علم أَنه لَيْسَ على الْفَوْر. انْتهى. قلت: هَذَا أَخذه من كَلَام ابْن بطال، وَفِي دَعْوَاهُ أَنه على التَّرَاخِي، بِمَا ذكره نظر لِأَنَّهُ يلْزم من صِحَة تَقْدِيم أحد النُّسُكَيْنِ على الآخر نفي الْفَوْرِيَّة، وَفِيه خلاف قد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْحَج، وَالله أعلم.
3 - (بابٌ كم اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: كم اعْتَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: كم لَهُ عمْرَة؟
5771 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عَن منْصُورٍ عنْ مجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْتُ أنَا وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذا عَبْدُ الله بنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا جالِسٌ إلَى حُجْرَةِ عائِشَةَ وإذَا أُناسٌ يُصَلُّونَ فِي المَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى قَالَ فَسَألْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ فَقال بِدْعَةٌ ثُمَّ قالَ لَهُ كَمِ اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرْبَعٌ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَكَرِهْنَا أنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ وسَمِعْنَا اسْتِنانَ عائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنينَ فِي الحُجْرَةِ فقالَ عُرْوَةُ يَا أُمَّاهُ يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ ألاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ قالَتْ مَا يَقُولُ قَالَ يَقُولُ إنَّ(10/110)
رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمَرَ أرْبَعَ عُمُرَاتٍ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ قالَتْ يَرْحَمُ الله أبَا عَبْدِ الرَّحْمانِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إلاَّ وهُوَ شَاهِدُهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَط.
مطابقته فِي قَوْله: (كم اعْتَمر؟) ، وَفِي قَوْله: (اعْتَمر أَربع عمرات) وَفِي كَونهَا ثَلَاثًا على قَول عَائِشَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير ... إِلَى آخِره نَحوه، غيران فِي رِوَايَته (وَالنَّاس يصلونَ صَلَاة الضحي) وَفِي هُنَا أَن نكذبه ونرد عَلَيْهِ) قَوْله (دخلت أَنا وعدوه) إِلَى آخِره فِيهِ دفع لما ذكره يحيى بن سعيد وَابْن معِين وَأَبُو حَاتِم فِي آخَرين أَن مُجَاهدًا لم يسمع من عَائِشَة. قَوْله: (الْمَسْجِد) ، يَعْنِي: مَسْجِد الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة. قَوْله: (فَإِذا) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، و: عبد الله، مُبْتَدأ، و: جَالس، خَبره وَكَذَلِكَ: وَإِذا، الثَّانِيَة للمفاجأة وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (نَاس) بِغَيْر ألف فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (وَإِذا أنَاس) بِالْألف وهما بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَن صلَاتهم) أَي: فسألنا ابْن عمر عَن صَلَاة هَؤُلَاءِ الَّذين يصلونَ فِي الْمَسْجِد. قَوْله: (بِدعَة) أَي: صلَاتهم بِدعَة، وَإِنَّمَا قَالَ: بِدعَة، وَإِنَّمَا الْبِدْعَة إِحْدَاث مَا لم يكن فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الضُّحَى فِي بَيت أم هانىء، وَقد مر فِي: بَاب صَلَاة الضُّحَى، لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لم تثبت عِنْده فَلذَلِك أطلق عَلَيْهَا الْبِدْعَة، وَقيل: أَرَادَ أَنَّهَا من الْبدع المستحسنة، كَمَا قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي صَلَاة التَّرَاوِيح، نعمت الْبِدْعَة هَذِه، وَقيل: أَرَادَ أَن إظهارها فِي الْمَسْجِد والاجتماع لَهَا هُوَ الْبِدْعَة، لَا أَن نفس تِلْكَ الصَّلَاة بِدعَة، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجه. قَوْله: (قَالَ أَربع) ، كَذَا هُوَ مَرْفُوعا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (أَرْبعا) ، وَلَقَد نقل الْكرْمَانِي وَغَيره عَن ابْن مَالك فِي وَجه هَذَا الرّفْع وَالنّصب مَا فِيهِ تعسف جدا، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن وَجه الرّفْع هُوَ أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: الَّذِي اعتمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع أَي: أَربع عمر، وَوجه النصب على أَن يكون خبر كَانَ محذوفا، تَقْدِيره: الَّذِي اعتمره كَانَ أَرْبعا قَوْله: (وَسَمعنَا استنان عَائِشَة) ، قيل: استنانها سواكها. وَقيل: اسْتِعْمَالهَا المَاء. قَالَ ابْن فَارس: سننت المَاء على وَجْهي إِذا أَرْسلتهُ إرْسَالًا إلاَّ أَن يكون اسْتنَّ، لم تستعمله الْعَرَب إلاَّ فِي السِّوَاك، وَقيل: مَعْنَاهُ سمعنَا حس مُرُور السِّوَاك على أسنانها. قلت: فِيهِ مَا فِيهِ، وَفِي رِوَايَة عَطاء عَن عُرْوَة عِنْد مُسلم، قَالَ: (وَإِنَّا لنسمع ضربهَا بِالسِّوَاكِ تستن) . قَوْله: (يَا أُمَّاهُ) ، كَذَا هُوَ بِالْألف وَالْهَاء الساكنة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (يَا أمه) ، بِحَذْف الْألف. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة قَوْله: (يَا أم الْمُؤمنِينَ) بعد أَن قَالَ (يَا أُمَّاهُ) أَرَادَ بقوله (يَا أُمَّاهُ) الْمَعْنى الْأَخَص لكَون عَائِشَة خَالَته وَأَرَادَ بقوله يَا أم الْمُؤمنِينَ الْمَعْنى الْأَعَمّ لكَونهَا أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (أَبُو عبد الرَّحْمَن) ، هُوَ كنية عبد الله بن عمر قَوْله: (عمرات) ، يجوز ضم الْمِيم فِيهَا وسكونها، وَبِضَمِّهَا كَمَا فِي عَرَفَات وحجرات. قَوْله: (إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَب) ، أَي: إِحْدَى العمرات كَانَت فِي شهر رَجَب. قَوْله: (يرحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن) ، ذكرته بكنيته تَعْظِيمًا لَهُ. قَوْله: (مَا اعْتَمر) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عمْرَة قطّ إلاَّ وَهُوَ) أَي: ابْن عمر شَاهده، أَي حَاضر مَعَه، وَقَالَت ذَلِك مُبَالغَة فِي نسبته إِلَى النسْيَان، وَلم تنكر عَائِشَة على ابْن عمر إلاَّ قَوْله: (إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَب) .
وَاعْلَم أَن إِحْدَى العمرات فِي رِوَايَة مَنْصُور عَن مُجَاهِد (كَانَت فِي رَجَب) ، وَخَالفهُ أَبُو إِسْحَاق فَرَوَاهُ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ: (اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرَّتَيْنِ، فَبلغ ذَلِك عَائِشَة، فَقَالَت: اعْتَمر أَربع مَرَّات) . أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد، فَجعل مَنْصُور الِاخْتِلَاف فِي شهر الْعمرَة وَأَبُو إِسْحَاق جعل الِاخْتِلَاف فِي عدد الاعتمار، وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي الْقعدَة قبل أَن يحجّ مرَّتَيْنِ، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد على شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث عَائِشَة: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر فِي شَوَّال: أخرجه مَالك فِي (موطئِهِ) أَيْضا، وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) من حَدِيثهَا: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر فِي رَمَضَان) ، وَهُوَ غَرِيب. قَالَ ابْن بطال: وَالصَّحِيح أَنه اعْتَمر ثَلَاثًا، وَالرَّابِعَة إِنَّمَا تجوز نسبتها إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمر النَّاس بهَا، وعملت بِحَضْرَتِهِ لَا أَنه اعْتَمَرَهَا بِنَفسِهِ، فَيدل على صِحَة ذَلِك أَن عَائِشَة ردَّتْ على ابْن عمر قَوْله، (وَقَالَت: مَا اعْتَمر فِي رَجَب قطّ) . وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: إِنَّه وهم من ابْن عمر لإِجْمَاع الْمُسلمين أَنه اعْتَمر ثَلَاثًا، وروى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن هِشَام بن عُرْوَة (عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر ثَلَاث عمر: عمْرَة فِي شَوَّال، وعمرتين فِي ذِي الْقعدَة) ، والْحَدِيث عِنْد أبي دَاوُد من رِوَايَة دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن عَن هِشَام، إلاَّ(10/111)
أَنه قَالَ: (اعْتَمر عمْرَة فِي ذِي الْقعدَة وَعمرَة فِي شَوَّال) وروى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عمر كلهَا فِي ذِي الْقعدَة) . وَقَالَ شَيخنَا: كَأَن عَائِشَة تُرِيدُ وَالله أعلم بِعُمْرَة شَوَّال عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَالصَّحِيح إِنَّمَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، كَمَا فِي حَدِيث أنس فِي الصَّحِيح، وَإِلَيْهِ ذهب الزُّهْرِيّ وَنَافِع مولى ابْن عمر وَقَتَادَة ومُوسَى بن عقبَة وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَغَيرهم، وَاخْتلف فِيهِ على عُرْوَة بن الزبير، فروى هِشَام ابْنه عَنهُ: أَنَّهَا كَانَت فِي شَوَّال، وروى ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَنهُ: أَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ الصَّحِيح، وَقد عد النَّاس هَذِه فِي عمْرَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ صد عَن الْبَيْت فَنحر الْهَدْي وَحلق.
وَأما الْعمرَة الثَّانِيَة، فَهِيَ أَيْضا فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِيمَا علمت، قَالَه نَافِع مولى ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَسليمَان التَّيْمِيّ وَعُرْوَة بن الزبير ومُوسَى بن عقبَة وَابْن شهَاب وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَغَيرهم، لَكِن ذكر ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : أَنَّهَا كَانَت فِي رَمَضَان، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي (كتاب العري) وَلم ينْقل ذَلِك أحد غَيره، وَالْمَشْهُور أَنَّهَا فِي ذِي الْقعدَة. وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (خرج مُعْتَمِرًا فِي رَمَضَان) . وَقَالَ الْمُحب: فلعلها الَّتِي فعلهَا فِي شَوَّال وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي رَمَضَان. وروى أَبُو بكر بن أبي دَاوُد فِي (فَوَائده) من حَدِيث ابْن عمر: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اعْتَمر قبل حجَّته عمرتين أَو ثَلَاثًا، إِحْدَى عُمَرِهِ فِي رَمَضَان) ، وَلَعَلَّه أَرَادَ ابْتِدَاء إِحْرَامه بهَا، وَتسَمى عمْرَة الْقَضَاء، وَعمرَة الْقَضِيَّة، وَعمرَة الْقصاص. وَسميت عمْرَة الْقَضَاء، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَاضِي أهل مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة على أَن يعْتَمر الْعَام الْمقبل، لِأَن الْمُسلمين قضوها عَن عمْرَة الْحُدَيْبِيَة. وَعَن ابْن عمر: لم تكن هَذِه الْعمرَة قَضَاء، وَلَكِن شرطا على الْمُسلمين أَن يعتمروا الْقَابِل فِي الشَّهْر الَّذِي صدهم الْمُشْركُونَ فِيهِ. وَسميت: عمْرَة الْقصاص، لِأَن الله، عز وَجل، أنزل فِي تِلْكَ الْعمرَة {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص} (الْبَقَرَة: 491) . فَاعْتَمَرَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الشَّهْر الْحَرَام الَّذِي صد فِيهِ، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون من الْقصاص الَّذِي هُوَ أَخذ الْحق، فكأنهم اقتصوا، أَي: اخذوا فِي السّنة الثَّانِيَة مَا مَنعهم الْمُشْركُونَ من الْحق فِي كَمَال عمرهم.
وَأما الْعمرَة الثَّالِثَة فَهِيَ فِي ذِي الْقعدَة أَيْضا سنة ثَمَان، وَهِي: عمْرَة الْجِعِرَّانَة، قَالَ ذَلِك عُرْوَة بن الزبير ومُوسَى بن عقبَة وَغَيرهمَا، وَهُوَ كَذَلِك. وَفِي (الصَّحِيح) من حَدِيث أنس: أَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : إِن عمْرَة الْجِعِرَّانَة كَانَت فِي شَوَّال. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَلم ينْقل ذَلِك أحد غَيره فِيمَا علمت، وَالْمَشْهُور أَنَّهَا فِي ذِي الْقعدَة. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: إِن الثَّلَاث كَانَت فِي ذِي الْقعدَة.
وَأما الْعمرَة الرَّابِعَة فَهِيَ الَّتِي مَعَ حجَّته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت أفعالها فِي الْحجَّة بِلَا خلاف، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدم مَكَّة فِي الرَّابِع من ذِي الْحجَّة. وَأما إحرامها فَالصَّحِيح أَنه كَانَ فِي ذِي الْقعدَة، لأَنهم خَرجُوا لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، كَمَا فِي (الصَّحِيح) . وَكَانَ إِحْرَامه فِيهَا فِي وَادي العقيق كَمَا فِي (الصَّحِيح) ، وَذَلِكَ قبل أَن يدْخل ذُو الْحجَّة. وَقيل: كَانَ إِحْرَامه لَهَا فِي ذِي الْحجَّة، لِأَن فِي بعض طرق الحَدِيث: (خرجنَا موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة) ، وَالصَّحِيح الأول، وَأسْقط بَعضهم عمرته هَذِه فَجَعلهَا ثَلَاث عمر، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ القَاضِي عِيَاض.
وَلَا شكّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْتَمر عَام حجَّة الْوَدَاع عمْرَة مُفْردَة لَا قبل الْحَج وَلَا بعده، أما قبله فَلِأَنَّهُ لم يحل حَتَّى فرغ من الْحَج، وَأما بعده فَلم ينْقل أَنه اعْتَمر، فَلم يبْق إلاَّ أَنه قرن الْحَج بِعُمْرَة، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب جمعا بَين الْأَحَادِيث، إلاَّ أَنه أحرم أَولا بِالْحَجِّ، ثمَّ أَدخل عَلَيْهِ الْعمرَة بالعقيق لما جَاءَهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ: صلِّ فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَقل: عمْرَة فِي حجَّة، وَلِهَذَا اخْتلفت الصَّحَابَة فِي عدد عمره، فَمن قَالَ: أَرْبعا فَهَذَا وَجهه، وَمن قَالَ: ثَلَاثًا أسقط الْأَخِيرَة لدُخُول أفعالها فِي الْحَج، وَمن قَالَ: اعْتَمر عمرتين أسقط الْعمرَة الأولى، وَهِي: عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، لكَوْنهم صدوا عَنْهَا، وَأسْقط الْأَخِيرَة لدخولها فِي أَعمال الْحَج، وَأثبت عمْرَة الْقَضِيَّة وَعمرَة الْجِعِرَّانَة.
7771 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطاءٌ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سألْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ مَا اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَجَبٍ.
(انْظُر الحَدِيث 6771 وطرفه) .
هَذَا من تَعْلِيق الحَدِيث السَّابِق لإنكار عَائِشَة على ابْن عمر فِي كَون عمرته فِي رَجَب، وَهنا أَيْضا أنْكرت اعتماره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(10/112)
فِي رَجَب بقولِهَا: وَمَا اعْتَمر فِي رَجَب قطّ، وَأوردهُ مُخْتَصرا عَن أبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك، بن مخلد عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح. وَأخرجه مُسلم مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا هَارُون بن عبد الله، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي، قَالَ: (أخبرنَا ابْن جريج، قَالَ: سَمِعت عَطاء يخبر، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير، قَالَ: كنت أَنا وَابْن عمر مستندين إِلَى حجرَة عَائِشَة، وَأَنا أسمع ضربهَا بِالسِّوَاكِ تستن، قَالَ: فَقلت: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن {اعْتَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رَجَب؟ قَالَ: نعم، فَقلت لعَائِشَة: أَي أُمَّاهُ} أَلا تسمعين مَا يَقُول أَبُو عبد الرَّحْمَن؟ قَالَت: وَمَا يَقُول؟ قلت: يَقُول: اعْتَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رَجَب. فَقَالَت: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، لعمري مَا اعْتَمر فِي رَجَب، وَمَا اعْتَمر فِي عمْرَة إلاَّ وَأَنه لمعه. قَالَ: وَابْن عمر يسمع، فَمَا قَالَ: لَا وَلَا نعم، سكت) . فَإِن قلت: نفت عَائِشَة وَأثبت ابْن عمر، وَالْقَاعِدَة تَقْدِيم الْإِثْبَات على النَّفْي، فَهَلا حكم لِابْنِ عمر على عَائِشَة؟ قلت: إِن إِثْبَات ابْن عمر كَونهَا فِي رَجَب يُعَارضهُ إِثْبَات آخر، وَهُوَ كَونهَا فِي ذِي الْقعدَة، فكلاهما نافٍ لوقت ومثبت لوقت آخر، فعائشة، وَإِن نفت رَجَب، فقد أَثْبَتَت كَونهَا فِي ذِي الْقعدَة، وَقد اتّفقت عَائِشَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس على نفي الزِّيَادَة فِي عدد عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَربع، وأثبتت عَائِشَة كَون الثَّلَاثَة فِي ذِي الْقعدَة خلا الَّتِي فِي حجَّته، فترجح إِثْبَات عَائِشَة لذَلِك، فَإِن إِثْبَات ابْن عَبَّاس أَيْضا كَذَلِك، وَانْفَرَدَ ابْن عمر بِإِثْبَات رَجَب، فَكَانَ إِثْبَات عَائِشَة مَعَ ابْن عَبَّاس أقوى من إِثْبَات ابْن عمر وَحده، وانضم لذَلِك كَون عَائِشَة أنْكرت عَلَيْهِ مَا أثْبته من الاعتمار فِي رَجَب، وَسكت، فَوَجَبَ الْمصير إِلَى قَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. فَإِن قلت: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا يدْخل فِي: بَاب كم اعْتَمر، وَإِنَّمَا يدْخل فِي: بَاب مَتى اعْتَمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن غَرَض البُخَارِيّ الطَّرِيق الأولى، وَإِنَّمَا أورد هَذَا لينبه على الْخلاف فِي السِّيَاق، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : بل دَاخل فِيهِ، وَالزَّمَان وَقع اسْتِطْرَادًا. قلت: الْأَوْجه فِي ذَلِك مَا ذكرته فِي أول شرح الحَدِيث أَنه من تَعْلِيق الحَدِيث السَّابِق، وداخل فِي عداده، فالترجمة تَشْمَل الْكل. فَافْهَم.
8771 - حدَّثنا حَسَّانُ بنُ حَسَّانَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ قَالَ سَألْتُ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَمِ اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرْبَعٌ عُمْرَةُ الحُدَيْبِيَّةِ فِي ذِي القَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ المُاشْرِكُونَ وعُمْرةٌ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ وعُمْرَةُ الجِعْرَانَةِ إذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ أُرَاهُ حُنَيْنٍ قُلْتُ كَمْ حَجَّ قَالَ واحِدَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَحسان بن حسان أَبُو عَليّ الْبَصْرِيّ، سكن مَكَّة وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَقَالَ: مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ.، وَهَمَّام، بتَشْديد الْمِيم: ابْن يحيى بن دِينَار العوزي الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة.
وَأخرجه أَيْضا عَن أبي الْوَلِيد فِيهِ، وَفِي الْجِهَاد وَفِي الْمَغَازِي عَن هذبة بن خَالِد، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن هدبة وَعَن أبي مُوسَى عَن عبد الصَّمد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد وهدبة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (أَربع) أَي: الَّذِي اعتمره أَربع عمر. قَوْله: (عمْرَة الْحُدَيْبِيَة) ، أَي: من الْأَرْبَع عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَهِي بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره هَاء، وَكثير من الْمُحدثين يشددون هَذِه الْيَاء، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هِيَ قَرْيَة كَبِيرَة من مَكَّة، سميت ببئر هُنَاكَ، وَقَالَ الصغاني: الْحُدَيْبِيَة، بتَخْفِيف الْيَاء: مِثَال دويهية، بِئْر على مرحلة من مَكَّة، مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة، وَقَالَ الْخطابِيّ: سميت الْحُدَيْبِيَة بشجرة حدباء هُنَاكَ. قَوْله: (حَيْثُ صده) ، أَي: مَنعه الْمُشْركُونَ من دُخُول مَكَّة، وَهُوَ فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَت فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ بِلَا خلاف، نَص على ذَلِك الزُّهْرِيّ وَآخَرُونَ. قَوْله: (وَعمرَة الْجِعِرَّانَة) فِيهَا لُغَتَانِ إِحْدَاهمَا: كسر الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء المخففة. وَبعد الْألف نون، وَالثَّانيَِة: كسر الْعين وَتَشْديد الرَّاء، وَإِلَى التَّخْفِيف ذهب الْأَصْمَعِي وَصَوَّبَهُ الْخطابِيّ، وَقَالَ فِي (تَصْحِيف الْمُحدثين) : إِن هَذَا مِمَّا ثقلوه وَهُوَ مخفف، وَحكى القَاضِي عَن ابْن الْمَدِينِيّ. قَالَ: أهل الْمَدِينَة يثقلونه، وَأهل الْعرَاق يخففونه، وَهِي(10/113)
مَا بَين الطَّائِف وَمَكَّة، وَهِي إِلَى مَكَّة أقرب. قَوْله: (إِذْ قسم) أَي: حِين قسم غنيمَة، وغنيمة مَنْصُوب بِلَا تَنْوِين بِلَفْظ قسم لِأَنَّهُ مُضَاف فِي نفس الْأَمر إِلَى حنين. قَوْله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ، معترض بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ، وَكَانَ الرَّاوِي طَرَأَ عَلَيْهِ شكّ فَأدْخل لفظ: أرَاهُ، بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ، وَقد رَوَاهُ مُسلم عَن هدبة عَن همام بِغَيْر شكّ، فَقَالَ: حَيْثُ قسم غَنَائِم حنين، وَيَوْم حنين كَانَت غَزْوَة هوَازن، وحنين وادٍ بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة أَمْيَال، وَكَانَت فِي سنة ثَمَان، وَهِي سنة غَزْوَة الْفَتْح، وَكَانَت غَزْوَة هوَازن بعد الْفَتْح فِي خَامِس شَوَّال. فَإِن قلت: سَأَلَ قَتَادَة عَن أنس: كم اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَأجَاب بقوله: أَربع، وَلَيْسَ فِي حَدِيثه إلاَّ ذكر ثَلَاث؟ قلت: سقط من هَذِه الرِّوَايَة أَعنِي: رِوَايَة حسان الْمَذْكُورَة ذكر الْعمرَة الرَّابِعَة، وَلِهَذَا روى البُخَارِيّ بعد رِوَايَة أبي الْوَلِيد، وفيهَا ذكر الرَّابِعَة، وَهُوَ قَوْله: (وَعمرَة مَعَ حجَّته) على مَا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق عبد الصَّمد عَن هِشَام، فَظهر بِهَذَا أَن التَّقْصِير فِيهِ من حسان شيخ البُخَارِيّ.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَيْن الرَّابِعَة؟ قلت: هِيَ دَاخِلَة فِي الْحَج، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا متمتع أَو قَارن أَو مُفْرد، وَأفضل الْأَنْوَاع الْإِفْرَاد. وَلَا بُد فِيهِ من الْعمرَة فِي تِلْكَ السّنة، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتْرك الْأَفْضَل. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ مَا ادّعى أَنه الْأَفْضَل مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء، فَكيف ينْسب فعل ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ انْتهى. قلت: مَا ادّعى الْكرْمَانِي الْأَفْضَلِيَّة عِنْد الْجَمِيع، وَإِنَّمَا مُرَاده أَن الْإِفْرَاد أفضل مُطلقًا بِنَاء على زَعمه ومعتقد إِمَامه، فَلَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْإِنْكَار. وَلَكِن ترديد الْكرْمَانِي بقوله: إِمَّا متمتع أَو قَارن أَو مُفْرد؟ غير موجه لأَنهم وَإِن كَانُوا اخْتلفُوا فِيهِ وَلَكِن أَكْثَرهم على أَفضَلِيَّة الْقرَان. وَكَيف لَا وَقد تظاهرت الرِّوَايَات وتكاثرت عَن قوم خُصُوصا عَن أنس بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل فِي الْعمرَة وَالْحج جَمِيعًا؟ وَهُوَ عين الْقرَان، فَكَانَ أفضل الْأَنْوَاع القِران. وَقد قَالَ ابْن حزم: سِتَّة عشر من الثِّقَات اتَّفقُوا على أنس على أَن لفظ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إهلالاً بِحجَّة وَعمرَة مَعًا. وصرحوا عَن أنس أَنه سمع ذَلِك مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، وَأَبُو قلَابَة، وَحميد الطَّوِيل، وَأَبُو قزعة وثابت الْبنانِيّ، وَحميد بن هِلَال، وَيحيى بن أبي إِسْحَاق، وَقَتَادَة، وَأَبُو أَسمَاء، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَمصْعَب بن سليم، وَمصْعَب بن عبد الله بن الزبْرِقَان، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، وَأَبُو قدامَة، وَزيد بن أسلم، وَعلي بن زيد. وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ عَن تِسْعَة مِنْهُم، وَقد شرحنا جَمِيع ذَلِك فِي شرحنا (شرح مَعَاني الْآثَار) فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَليرْجع إِلَيْهِ. وَمن جملَة من أخرج مِنْهُم الطَّحَاوِيّ رِوَايَة أبي أَسمَاء عَن أنس، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُميَّة، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن مُوسَى وَابْن نفَيْل، قَالَا: حَدثنَا أَبُو خَيْثَمَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي أَسمَاء (عَن أنس، قَالَ: خرجنَا نصرخ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَجْعَلهَا عمْرَة، وَقَالَ: لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لجعلتها عمْرَة، وَلَكِنِّي سقت الْهَدْي وقرنت الْحَج وَالْعمْرَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَأحمد أَيْضا نَحْو رِوَايَة الطَّحَاوِيّ، فَهَذَا مُصَرح بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر بِلَفْظ: أَنه كَانَ قَارنا، وَوَافَقَ قَوْله فعله، فَدلَّ قطعا أَن الْقرَان أفضل فَكيف يَدعِي الْكرْمَانِي وَغَيره مِمَّن نحى نَحوه بِأَن أفضل الْأَنْوَاع الْإِفْرَاد، وَلَيْسَ مَا وَرَاء عبادان قَرْيَة، وَالْوُقُوف على حَظّ النَّفس مُكَابَرَة.
9771 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتادَةَ قَالَ سألْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ رَدُّوهُ ومِنَ القَابِلِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَّةِ وعُمْرَةً فِي ذِي القَعْدَةِ وعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ..
هَذَا بِعَيْنِه هُوَ الحَدِيث الأول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَغير أَنه روى الأول عَن حسان عَن همام، وروى هَذَا عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، وَفِيه ذكر الْعُمر الْأَرْبَعَة بِخِلَاف الأول، فَإِن الرَّابِعَة فِيهِ سَاقِطَة، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَمن الْقَابِل) أَي: وَمن الْعَام الْقَابِل، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا أرَاهُ وهما، لِأَن الَّتِي ردُّوهُ فِيهَا هِيَ عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَأما الَّتِي من قَابل فَلم يردوه مِنْهَا، ورد عَلَيْهِ بِأَن كلا مِنْهُمَا كَانَ من الْحُدَيْبِيَة.
357 - (حَدثنَا هدبة قَالَ حَدثنَا همام وَقَالَ اعْتَمر أَربع عمر فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي اعْتَمر(10/114)
مَعَ حجَّته عمرته من الْحُدَيْبِيَة وَمن الْعَام الْمقبل وَمن الْجِعِرَّانَة حَيْثُ قسم غَنَائِم حنين وَعمرَة مَعَ حجَّته) هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس أخرجه عَن هدبة بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد الْقَيْسِي مر فِي كتاب الصَّلَاة عَن همام بن يحيى قَوْله " وَقَالَ اعْتَمر " أَي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَهُوَ عَن قَتَادَة عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأخرجه مُسلم عَن هداب بن خَالِد وَهُوَ هدبة الْمَذْكُور فَقَالَ حَدثنَا هداب بن خَالِد قَالَ حَدثنَا همام قَالَ حَدثنَا قَتَادَة أَن أنسا أخبرهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمر أَربع عمر كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته عمْرَة من الْحُدَيْبِيَة وزمن الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقعدَة وَعمرَة من الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة وَعمرَة من جعرانة حَيْثُ قسم غَنَائِم حنين فِي ذِي الْقعدَة وَعمرَة مَعَ حجَّته " قَوْله " أَربع عمر فِي ذِي الْقعدَة " يَعْنِي كُلهنَّ كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك عمرته الَّتِي كَانَت مَعَ حجَّته فَإِنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْحجَّة وَاعْترض ابْن التِّين فِي هَذَا الْإِسْنَاد فَقَالَ هُوَ كَلَام زَائِد لِأَنَّهُ عد الْعمرَة الَّتِي مَعَ حجَّته فِي الحَدِيث فَكيف يستثنيها أَولا وَأجِيب بِأَنَّهُ كَانَ قَالَ فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا ثَلَاث وَالرَّابِعَة عمرته فِي حجَّته انْتهى (قلت) لَا إِشْكَال فِيهِ وَلَا هَذَا الْجَواب بسديد وَإِنَّمَا الْجَواب أَنه اسْتثِْنَاء صَحِيح لِأَن الِاسْتِثْنَاء بعض مِمَّا يتَنَاوَلهُ صدر الْكَلَام وَصدر الْكَلَام يشْعر بِأَن عمره الْأَرْبَع كَانَت فِي ذِي الْقعدَة ثمَّ اسْتثْنى مِنْهُ عمرته الَّتِي كَانَت مَعَ حجَّته لِأَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْحجَّة ثمَّ بَين الْأَرْبَع الْمَذْكُورَة بقوله " عمرته من الْحُدَيْبِيَة " أَي أَولهَا عمرته من الْحُدَيْبِيَة قَوْله " وَمن الْعَام الْمقبل " أَي وَالثَّانيَِة عمرته من الْعَام الْمقبل قَوْله " وَمن الْجِعِرَّانَة " أَي وَالثَّالِثَة من الْجِعِرَّانَة وَهَذِه الثَّلَاث كَانَت فِي ذِي الْقعدَة قَوْله " وعمرته مَعَ حجَّته " أَي الرَّابِعَة عمرته الَّتِي كَانَت مَعَ حجَّته وَكَانَت فِي ذِي الْحجَّة -
1871 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ قَالَ حدَّثنا شُرَيْحُ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ يُوسُفَ عنْ أبِيهِ عَنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سألْتُ مَسْرُوقا وعَطاءً ومجاهِدا فَقالُوا اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي القَعْدَةِ قَبلَ أنُ يَحُجَّ وَقَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ بنَ عَازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي القَعْدَةِ قَبْلَ أنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة: الأول: أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم بن دِينَار أَبُو عبد الله الأودي، مَاتَ فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن مسلمة، بِفَتْح الميمين وَاللَّام. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي السبيعِي. الرَّابِع: أَبوهُ يُوسُف بن إِسْحَاق. الْخَامِس: أَبُو إِسْحَاق واسْمه عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. السَّادِس: مَسْرُوق ابْن الأجدع. السَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الثَّامِن: مُجَاهِد بن جُبَير. التَّاسِع: الْبَراء بن عَازِب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن هَؤُلَاءِ كلهم كوفيون إلاَّ عَطاء ومجاهدا فَإِنَّهُمَا مكيان. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق (عَن الْبَراء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر فِي ذِي الْقعدَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قلت: لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على عدد عمره فِي ذِي الْقعدَة، هَل اعْتَمر فِيهِ مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . وروى أَبُو يعلى من حَدِيث أبي إِسْحَاق (عَن الْبَراء قَالَ: اعْتَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن يحجّ) ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على عدد عمره، وَلَا مَا يدل على وَقت عمرته من أَي شهر، وَالصَّحِيح أَن عمره الثَّلَاث كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، وَقيل: اعْتَمر مرَّتَيْنِ فِي شَوَّال، وَعمرَة فِي ذِي الْقعدَة.(10/115)
4 - (بابُ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل عمْرَة تفعل فِي شهر رَمَضَان، دلّ على هَذَا حَدِيث البابد فَلهَذَا اقْتصر على هَذَا اتلقدر من التَّرْجَمَة، وَلم يُصَرح فِيهَا بِشَيْء، وَقَالَ بَعضهم: لم يُصَرح فِي التَّرْجَمَة بفضيلة وَلَا غَيرهَا، وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا رُوِيَ (عَن عَائِشَة، قَالَت: خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمْرَة فِي رَمَضَان فَأفْطر وَصمت، وَقصر وَأَتْمَمْت) الحَدِيث، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ إِسْنَاده حسن، وَقَالَ صَاحب (الْهَدْي) إِنَّه غلط لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْتَمر فِي رَمَضَان، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن حمله على أَن قَوْلهَا فِي رَمَضَان مُتَعَلق بقولِهَا: خرجت وَيكون المُرَاد سفر فتح مَكَّة، فَإِنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَان. انْتهى. قلت: هَذَا كُله تعسف وَتصرف بِغَيْر وَجه بطرِيق تخمين، فَمن قَالَ: إِن البُخَارِيّ وقف على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور حَتَّى يُشِير إِلَيْهِ، وَقَوله: وَيُمكن حَملَة إِلَى آخِره مستبعد جدا لِأَن ذكر الْإِمْكَان هُنَا غير موجه أصلا، لِأَن قَوْلهَا فِي رَمَضَان يتَعَلَّق بقولِهَا: خرجت قطعا، فَمَا الْحَاجة فِي ذكر ذَلِك بالإمكان؟ وَلَا يساعده أَيْضا قَوْله؟ فَإِنَّهُ أَي: فَإِن فتح مَكَّة كَانَ فِي رَمَضَان فِي اعتذاره عَن البُخَارِيّ فِي اقْتِصَاره فِي التَّرْجَمَة على قَوْله: عمْرَة فِي رَمَضَان لِأَن عمرته فِي تِلْكَ السّنة لم تكن فِي رَمَضَان، بل كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، فَإِنَّهُ أَيْضا صرح بقوله: وَاعْتمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي تِلْكَ السّنة من الْجِعِرَّانَة لَكِن فِي ذِي الْقعدَة.
2871 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يخْبِرُنا يَقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإِمْرَأةٍ مِنَ الأنْصَارِ سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَها مَا مَنَعَكَ أنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا قالَتْ كانَ لَنَا ناضِحٌ فَرَكِبَهُ أبُو فُلانٍ وابْنُهُ لِزَوْجِهَا وابْنِهَا وتَرَكَ ناضِحا نَنْضَحُ علَيْهِ قَالَ فإذَا كانَ رَمضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فإنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ أوْ نَحْوا مِمَّا قالَ.
(الحَدِيث 2871 طرفه فِي: 3681) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اعتمري فِيهِ) أَي: فِي رَمَضَان ... إِلَى آخِره.
وَرِجَاله: قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن سُفْيَان بن حبيب، وَفِي الصَّوْم عَن عمرَان بن يزِيد.
قَوْله: (عَن عَطاء) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أَخْبرنِي عَن عَطاء) . قَوْله: (يخبرنا يَقُول) جملتان وقعتا حَالا، و: يَقُول، من الْأَحْوَال المترادفة أَو المتداخلة. قَوْله: (فنسيت اسْمهَا) ، الْقَائِل هُوَ ابْن جريج، قَالَ شَيخنَا زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك مَعَ أَن الذِّهْن لَا يتَبَادَر إلاَّ إِلَى عَطاء أَنه هُوَ الْقَائِل، لِأَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب حج النِّسَاء، من طَرِيق حبيب الْمعلم عَن عَطاء، فسماها. وَلَفظه: (لما رَجَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حجَّته قَالَ لأم سِنَان الْأَنْصَارِيَّة: مَا مَنعك من الْحَج؟) الحَدِيث. فَعلم من هَذَا أَن الْمَرْأَة المبهمة فِي قَوْله (لامْرَأَة من الْأَنْصَار) هِيَ أم سِنَان الْأَنْصَارِيَّة، وَقد ورد فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ ذَلِك لأم سليم، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من رِوَايَة يَعْقُوب بن عَطاء عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: جَاءَت أم سليم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: حج أَبُو طَلْحَة وَابْنه، وتركاني، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أم سليم! عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) . وَيَعْقُوب هَذَا هُوَ ابْن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَفِي تَرْجَمته: روى ابْن عدي هَذَا الحَدِيث فِي (الْكَامِل) وروى قَول أَحْمد: فِيهِ ضعف، وَقَول ابْن معِين: ضَعِيف الحَدِيث، وَلَيْسَ بمتروك. قَوْله: (إِن تحجين مَعنا) ، هَكَذَا هُوَ بالنُّون فِي رِوَايَة كَرِيمَة، والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (أَن تحجي، بِحَذْف النُّون، وَهَذَا هُوَ الأَصْل، لِأَن: أَن، ناصبة فتحذف النُّون فِيهِ، وَقيل: كثيرا يسْتَعْمل بِدُونِ النصب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إلاَّ أَن يعفون أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} (الْبَقَرَة: 732) . على قِرَاءَة من قَرَأَ بِسُكُون الْوَاو فِي: يعْفُو، وَكَقَوْلِه: {أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 332) . بِالرَّفْع على قِرَاءَة مُجَاهِد. قَوْله: (نَاضِح) ، بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: هُوَ الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: الناضح: الْبَعِير أَو الثور أَو الْحمار الَّذِي يَسْتَقِي عَلَيْهِ، لَكِن المُرَاد هُنَا الْبَعِير(10/116)
لتصريحه فِي رِوَايَة بكر بن عبد الْمُزنِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أبي دَاوُد بِكَوْنِهِ جملا فَإِن قلت: وَلَو لم يُصَرح بذلك فِي الحَدِيث، فَإِن المُرَاد بِهِ الْبَعِير، لأَنهم لَا يستعملون غَالِبا فِي السواقي إلاَّ البعران. قَوْله: (وَابْنه) أَي: ابْن أبي فلَان. قَوْله: (لزَوجهَا وَابْنهَا) الضَّمِير فيهمَا يرجع إِلَى الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة من الْأَنْصَار، وَرِوَايَة مُسلم توضح معنى هَذَا، وَهِي قَوْله: (قَالَت: ناضحان كَانَا لأبي فلَان، زَوجهَا، حج هُوَ وَابْنه على أَحدهمَا، وَكَانَ الآخر يسْقِي نخلا لنا) . وَهُوَ معنى قَوْله: (وَترك ناضحا ننضح عَلَيْهِ) ، بِكَسْر الضَّاد، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (قَالَت: لم يكن لنا إلاَّ ناضحان، فحج أَبُو وَلَدهَا وَابْنهَا على نَاضِح، وَترك لنا ناضحا ننضح عَلَيْهِ) الحَدِيث، قَوْله: (فَإِن عمْرَة فِي رَمَضَان حجَّة) وارتفاع حجَّة على أَنه خبر ان تَقْدِيره كحجة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم وَهِي قَوْله: (فَإِن عمْرَة فِيهِ تعدل حجَّة) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: (فعمرة فِي رَمَضَان تقضي حجَّة، أَو حجَّة معي) . وَكَأن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى هَذَا بقوله: (أَو نَحوا مِمَّا قَالَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ظَاهره يَقْتَضِي أَن عمْرَة فِي رَمَضَان تقوم مقَام حجَّة الْإِسْلَام، فَهَل هُوَ كَذَلِك؟ قلت: مَعْنَاهُ: كحجة الْإِسْلَام فِي الثَّوَاب، والقرينة الْإِجْمَاع على عدم قِيَامهَا مقَامهَا. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: إِن الشَّيْء يشبه بالشَّيْء، وَيجْعَل عدله إِذا أشبهه فِي بعض الْمعَانِي لَا جَمِيعهَا، لِأَن الْعمرَة لَا يقْضى بهَا فرض الْحَج، وَلَا النّذر، وَنقل التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَن معنى هَذَا الحَدِيث نَظِير مَا جَاءَ أَن {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) . تعدل ثلث الْقُرْآن، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: حَدِيث الْعمرَة هَذَا صَحِيح، وَهُوَ فضل من الله ونعمة، فقد أدْركْت الْعمرَة منزلَة الْحَج بانضمام رَمَضَان إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ أَن ثَوَاب الْعَمَل يزِيد بِزِيَادَة شرف الْوَقْت، كَمَا يزِيد بِحُضُور الْقلب وبخلوص الْقَصْد. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَن عمْرَة فَرِيضَة فِي رَمَضَان كحجة فَرِيضَة، وَعمرَة نَافِلَة فِي رَمَضَان كحجة نَافِلَة، وَقَالَ ابْن التِّين. قَوْله: (كحجة) ، يحْتَمل أَن يكون على بَابه، وَيحْتَمل أَن يكون لبركة رَمَضَان، وَيحْتَمل أَن يكون مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَرْأَة. وَقد قَالَ بعض الْمُتَقَدِّمين: بِأَنَّهُ مَخْصُوص بِهَذِهِ الْمَرْأَة، فروى أَحْمد بن منيع فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير عَن امْرَأَة من الْأَنْصَار، يُقَال لَهَا أم سِنَان: أَنَّهَا أَرَادَت الْحَج، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ سعيد بن جُبَير: وَلَا نعلم لهَذِهِ الْمَرْأَة وَحدهَا) ، وَوَقع عِنْد أبي دَاوُد من حَدِيث يُوسُف بن عبد الله بن سَلام عَن أم معقل فِي آخر حَدِيثهَا: (فَكَانَت تَقول: الْحَج حجَّة وَالْعمْرَة عمْرَة، وَقد قَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لي، فَمَا أَدْرِي إليَّ خَاصَّة أَو للنَّاس عَامَّة؟) انْتهى. وَالظَّاهِر حمله على الْعُمُوم.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْأسود بن يزِيد عَن ابْن أم معقل عَن أم معقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد من وَجه آخر من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن مهَاجر (عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أَخْبرنِي رَسُول مَرْوَان الَّذِي أرسل إِلَى أم معقل، قَالَ: قَالَت أم معقل: كَانَ أَبُو معقل حَاجا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا قدم قَالَت أم معقل: قد علمت أَن عَليّ حجَّة) الحَدِيث، وَفِيه: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن امْرَأَة من بني أَسد يُقَال لَهَا: أم معقل، فَذكره وَلم يذكر رَسُول مَرْوَان، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فَجعله من مُسْند أبي معقل، وَلم يقل عَن أم معقل وَابْن أبي معقل الَّذِي لم يسم فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ اسْمه معقل كَذَا ورد مُسَمّى فِي كتاب الصَّحَابَة لِابْنِ مَنْدَه من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن معقل ابْن أبي معقل عَن أم معقل. قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) ، وَمَعْقِل هَذَا مَعْدُود فِي الصَّحَابَة من أهل الْمَدِينَة، قَالَ مُحَمَّد بن سعد: صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَنهُ، وَهُوَ معقل بن أبي معقل بن نهيك بن أساف بن عدي بن زيد ابْن جشم بن حَارِثَة، وَقيل: إِن اسْم أبي معقل الْهَيْثَم، وَأم معقل لم يدر اسْمهَا، وَهِي أسدية من بني أَسد بن خُزَيْمَة، وَقيل: أنصارية، وَقيل: أشجعية. قَالَ التِّرْمِذِيّ: بعد أَن روى حَدِيث أم معقل، وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَأنس ووهب بن خنبش وَيُقَال: هرم ابْن خنبش قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَقد مر. وَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَحَدِيث أنس رَوَاهُ أَبُو أَحْمد بن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (عمْرَة فِي رَمَضَان كحجة معي) وَفِي إِسْنَاده مقَال. وَحَدِيث وهب بن خنبش(10/117)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان عَن بَيَان وَجَابِر عَن الشّعبِيّ عَن وهب بن خنبش، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) .
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن يُوسُف بن عبد الله بن سَلام وَأبي طليق وَأم طليق. فَحَدِيث يُوسُف بن عبد الله أخرجه النَّسَائِيّ عَن حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت يُوسُف بن عبد الله بن سَلام قَالَ: (قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجل من الْأَنْصَار وَامْرَأَته اعتمرا فِي رَمَضَان: فَإِن عمْرَة فِيهِ كحجة) . وَحَدِيث أبي طليق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث طلق بن حبيب (عَن أبي طليق: أَن امْرَأَته أم طليق قَالَت: يَا نَبِي الله {مَا يعدل الْحَج مَعَك؟ قَالَ: عمْرَة فِي رَمَضَان) . وَحَدِيث أم طليق رَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي كتاب (معرفَة الصَّحَابَة) من رِوَايَة أبي كريب، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن الْمُخْتَار بن فلفل عَن طلق بن حبيب (عَن أبي طليق: أَن امْرَأَته وَهِي أم طليق قَالَت لَهُ، وَله جمل وناقة: أَعْطِنِي جملك أحج عَلَيْهِ} فَقَالَ: هُوَ حبيس فِي سَبِيل الله، ثمَّ إِنَّهَا سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يعدل الْحَج؟ فَقَالَ: عمْرَة فِي رَمَضَان) . قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَيجوز أَن يكون هَذَا الطَّرِيق أَيْضا من حَدِيث أبي طليق لَا من حَدِيثهَا، وَقد قيل: إِن أم طليق هِيَ أم معقل، لَهَا كنيتان حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن بَعضهم فِي تَرْجَمَة أم معقل، وَقَالَ شَيخنَا: وَقد رَأَيْت فِي كَلَام بَعضهم أَن أم سِنَان الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هِيَ أم معقل هَذِه، قَالَ: وَفِيه نظر قلت: يُمكن أَن يكون وَجه النّظر مَا قَالَه بَعضهم أَن أم سِنَان أنصارية، وَأم معقل أسدية، وَلَكِن قد قيل: إِنَّهَا أنصارية، فعلى هَذَا القَوْل تكون الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هِيَ أم عقيل.
5 - (بابُ العُمْرَةِ لَيْلَةَ الحَصْبَةِ وغَيْرِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة الْعمرَة لَيْلَة الحصبة، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي تلِي لَيْلَة النَّفر الْأَخير، وَالْمرَاد بهَا لَيْلَة الْمبيت بالمحصب. قَوْله: (وَغَيرهَا) أَي: وَغير لَيْلَة الحصبة، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن الْحَاج إِذا تمّ حجه بعد انْقِضَاء أَيَّام التَّشْرِيق يجوز لَهُ أَن يعْتَمر، وَاخْتلف السّلف فِي الْعمرَة فِي أَيَّام الْحَج، فروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد، قَالَ: سُئِلَ عمر وَعلي وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن الْعمرَة لَيْلَة الحصبة، فَقَالَ عمر: هِيَ خير من لَا شَيْء، وَقَالَ عَليّ: من مِثْقَال ذرة، وَنَحْوه، وَقَالَت عَائِشَة: الْعمرَة على قدر النَّفَقَة. انْتهى. كَأَنَّهَا أشارت بذلك إِلَى أَن الْخُرُوج لقصد الْعمرَة من الْبَلَد إِلَى مَكَّة أفضل من الْخُرُوج من مَكَّة إِلَى أدنى الْحل، وَذَلِكَ أَنه يحْتَاج إِلَى نَفَقَة كَثِيرَة فِي خُرُوجه من بَلَده إِلَى مَكَّة لأجل الْعمرَة، بِخِلَاف حَالَة خُرُوجه من مَكَّة إِلَى الْحل، وَعَن عَائِشَة أَيْضا، لِأَن أَصوم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أَتصدق على عشرَة مَسَاكِين أحب إِلَيّ من أَن أعتمر بِالْعُمْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرت من التَّنْعِيم. وَقَالَ طَاوُوس فِيمَن اعْتَمر بعد الْحَج: لَا أَدْرِي أيعذبون عَلَيْهَا أم يؤجرون؟ وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: اعتمرنا بعد الْحَج، فعاب ذَلِك علينا سعيد بن جُبَير، وَأَجَازَ ذَلِك آخَرُونَ. وروى ابْن عُيَيْنَة عَن الْوَلِيد بن هِشَام، قَالَ: سَأَلت أم الدَّرْدَاء عَن الْعمرَة بعد الْحَج، فأمرتني بهَا. وَسُئِلَ عَطاء عَن عمْرَة التَّنْعِيم قَالَ هِيَ تَامَّة وتجزيه وَقَالَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عمْرَة الْمحرم تَامَّة وَقد روى مثل هَذَا الْمَعْنى قَالَ تمت الْعمرَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم عَرَفَة والنحر، وَأَيَّام التَّشْرِيق للْحَاج وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْعمرَة جَائِزَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق. قلت: فَذهب أَصْحَابنَا أَن الْعمرَة تجوز فِي جَمِيع السّنة إلاَّ أَنَّهَا تكره فِي الْأَيَّام الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا تكره فِي وَقت مَا، وَعند مَالك: تكره فِي أشهر الْحَج.
3871 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا أبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرجْنَا معَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِي الحِجَّةِ فَقَالَ لَنَا مَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يِهِلَّ بِالحَجِّ فَلْيُهِلَّ ومَنْ أحَبَّ أنْ يِهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بَعُمْرَةٍ فَلَوْلاَ أنِّي أهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ قالَتْ فَمِنَّا مَنْ أهَلَّ بَعُمْرَةٍ ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وكُنْتُ مِمَّنْ أهَلَّ(10/118)
بِعُمْرَةٍ فأظَلَّنِي يَوْمَ عَرَفَةَ وأنَا حَائِضٌ فَشَكَوْتُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقال ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وانْقُضِي رَأسَكِ وامْتَشِطِي وأَهِلِّي بالحَجِّ فلَمَّا كانَ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ أرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمانِ إِلَى التَّنْعِيمِ فأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الحصبة) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث قد مر غير مرّة، وَذكره فِي كتاب الْحيض فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير الْبَصْرِيّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة، وَأَبُو عُرْوَة ابْن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (موافين) أَي: مكملين ذَا الْقعدَة مُسْتَقْبلين لهِلَال ذِي الْحجَّة. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: وافى فلَان: إِذا أَتَى. وَيُقَال: وفى: إِذا تمّ. وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى وَعند التَّرْجَمَة أَيْضا، وَمن حَدِيث الْبَاب اسْتحبَّ مَالك للْحَاج أَن يعْتَمر حَتَّى تغيب الشَّمْس من آخر أَيَّام التَّشْرِيق، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كَانَ وعد عَائِشَة بِالْعُمْرَةِ، وَقَالَ لَهَا: كوني فِي حجك، عَسى الله أَن يرزقكها، وَلَو اسْتحبَّ لَهَا الْعمرَة فِي أَيَّام التَّشْرِيق لأمرها بِالْعُمْرَةِ فِيهَا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَإِنَّمَا كرهت الْعمرَة فِيهَا للْحَاج خَاصَّة لِئَلَّا يدْخل عملا على عمل، لِأَنَّهُ لم يكمل عمل الْحَج بعد، وَمن أحرم بِالْحَجِّ فَلَا يحرم بِالْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ لَا تُضَاف الْعمرَة إِلَى الْحَج عِنْد مَالك وَطَائِفَة من الْعلمَاء. وَأما من لَيْسَ بحاج فَلَا يمْنَع من ذَلِك. فَإِن قلت: قد روى أَبُو مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة فِي هَذَا الْبَاب: (وَكنت مِمَّن أهلَّ بِعُمْرَة) ، وروى مثله يحيى الْقطَّان عَن هِشَام فِي الْبَاب بعد هَذَا وَهَذَا بِخِلَاف مَا تقدم عَن عَائِشَة أَنَّهَا أهلت بِالْحَجِّ. قلت: أَحَادِيث عَائِشَة قد أشكلت على الْأَئِمَّة قَدِيما، فَمنهمْ من جعل الِاضْطِرَاب فِيهَا من قبلهَا، وَمِنْهُم من جعله من قبل الروَاة عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى غير مرّة.
6 - (بابُ عُمْرَةِ التنْعِيمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعمرَة من التَّنْعِيم: هَل يتَعَيَّن لمن كَانَ بِمَكَّة أم لَا؟ وَإِذا لم يتَعَيَّن هَل لَهَا فضل على الاعتمار من غَيرهَا من جِهَات الْحل أَو لَا؟ وَتَفْسِير التَّنْعِيم مر غير مرّة.
4871 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفيانُ عَنْ عَمْرٍ وسَمِعَ عَمْرَو بنَ أوْسٍ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أخبرهُ أنَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَهُ أنْ يُرْدِفَ عائِشَةَ ويُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً سَمِعْتُ عَمْرا كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَمْرٍ و.
(الحَدِيث 4871 طرفه فِي: 5892) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويعمرها من التَّنْعِيم) ، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَمْرو بن أَوْس، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره سين مُهْملَة، الثَّقَفِيّ الْمَكِّيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد ابْن عبد الله بن نمير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى وَمُحَمّد بن يحيى بن أبي عَمْرو. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي قدامَة عبيد الله بن سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه، رَحمَه الله تَعَالَى فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن يردف) أَي: بِأَن يردف، وَأَن، مَصْدَرِيَّة أَي: بالإرداف، وَمَعْنَاهُ أمره أَن يركب عَائِشَة أُخْته وَرَاءه على نَاقَته. قَوْله: (ويعمرها) ، بِضَم الْيَاء من الإعمار، أَي: وَأَن يعمرها، وَقَالَ بَعضهم: ويعمرها من التَّنْعِيم، مَعْطُوف على قَوْله: (أمره أَن يردف) ، وَهَذَا يدل على أَن إعمارها من التَّنْعِيم كَانَ بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: هَذَا كَلَام عَجِيب، لِأَن كَون عطف: يعمرها على قَوْله: يردف لَا يشك فِيهِ أحد وَلَا نزاع فِيهِ. وَقَوله: وَهَذَا يدل على أَن إعمارها من التَّنْعِيم، كَأَن بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعجب من ذَاك، لِأَن قَوْله: (ويعمرها) دَاخل فِي حكم: أَن يردف بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيكون قَوْله: يعمرها أَيْضا بِأَمْر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا صَرِيح، وَلم يكتف هَذَا الْقَائِل بِهَذَا حَتَّى قَالَ: وأصرح مِنْهُ(10/119)
مَا أخرجه أَبُو اود من طَرِيق حَفْصَة بنت عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر عَن أَبِيهَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يَا عبد الرَّحْمَن، أرْدف أختك عَائِشَة، فأعمرها من التَّنْعِيم) الحَدِيث. قَوْله: (سَمِعت عمرا) إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن فِيهِ ثُبُوت السماع صَرِيحًا بِخِلَاف الَّذِي فِي السَّنَد الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ مُعَنْعَن حَيْثُ قَالَ سُفْيَان: عَن عَمْرو، مَعَ أَن جَمِيع معنعنات البُخَارِيّ مَحْمُولَة على السماع. وَوَقع عِنْد الْحميدِي عَن سُفْيَان، حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ سُفْيَان: هَذَا مِمَّا يعجب شُعْبَة، يَعْنِي التَّصْرِيح بالإخبار فِي جَمِيع الْإِسْنَاد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْمُعْتَمِر الْمَكِّيّ لَا بُد لَهُ من الْخُرُوج إِلَى الْحل ثمَّ يحرم مِنْهُ، وَإِنَّمَا عين التَّنْعِيم هُنَا دون الْمَوَاضِع الَّتِي خَارج الْحرم لِأَن التَّنْعِيم أقرب إِلَى الْحل من غَيرهَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : ويجزىء أقل الْحل وَهُوَ التَّنْعِيم، وأفضله عندنَا الْجِعِرَّانَة، ثمَّ الْحُدَيْبِيَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَذهب قوم إِلَى أَن الْعمرَة لمن كَانَ بِمَكَّة لَا وَقت لَهَا غير التَّنْعِيم، وَجعلُوا التَّنْعِيم خَاصَّة وقتا لعمرة أهل مَكَّة. وَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لَهُم أَن يُجَاوِزُوهُ، كَمَا لَا يَنْبَغِي لغَيرهم أَن يجاوزوا ميقاتا وقته لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: الْوَقْت لأهل مَكَّة الَّذِي يحرمُونَ مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ الحِلّ فَمن أَي الْحل أَحْرمُوا أجزاهم ذَلِك، والتنعيم وَغَيره عِنْدهم فِي ذَلِك سَوَاء، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قصد إِلَى التَّنْعِيم فِي ذَلِك لقُرْبه لَا أَن غَيره لَا يجزىء، وَقد رُوِيَ من حَدِيث عَائِشَة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لعبد الرَّحْمَن: (إحمل أختك فأخرجها من الْحرم) . قَالَت: وَالله مَا ذكر الْجِعِرَّانَة وَلَا التَّنْعِيم، فَكَانَ أدنى مَا فِي الْحرم التَّنْعِيم، فَأَهْلَلْت بِعُمْرَة، فَأخْبرت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْصد إلاَّ الْحل لَا موضعا معينا، وَقصد التَّنْعِيم لقُرْبه، فَثَبت أَن وَقت أهل مَكَّة لعمرتهم هُوَ الْحل، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ. وَمن ذَلِك: مَا اسْتدلَّ بِهِ على أَن أفضل جِهَات الْحل التَّنْعِيم، ورد بِأَن إِحْرَام عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من التَّنْعِيم إِنَّمَا وَقع لكَونه أقرب جِهَات الْحل إِلَى الْحرم، كَمَا ذكرنَا، لَا أَنه الْأَفْضَل. وَمن ذَلِك: جَوَاز الْخلْوَة بالمحارم سفرا أَو حضرا، وإرداف الْمحرم لمحرمه مَعَه. فَافْهَم.
5871 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبدُ الوَهَّابِ بنُ عَبْدِ المَجِيدِ عنْ حَبيبٍ المُعَلِّمِ عنْ عَطاءٍ قَالَ حدَّثني جابِرُ بنُ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهَلَّ وأصْحَابُهُ بالحَجِّ ولَيْسَ مَعَ أحَدٍ مِنْهُمْ هَديٌ غيْرَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطَلْحَةَ وكانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنَ اليَمَنِ ومَعَهُ الهَدْيُ فَقالَ أهْلَلْتُ بِما أَهَلَّ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذِنَ لأِصْحَابِهِ أنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا ويَحِلُّوا إلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيِ فقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنىً وذَكَرُ أحَدِنا يَقْطُرُ فبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ ولَوْلاَ أنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ وأنَّ عائِشَةَ حاضَتْ فَنَسَكَتْ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طهُرَتْ وطافَتْ قالَتْ يَا رَسُولَ الله أتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ وأنْطَلِقُ بِالحَجِّ فأمَرَ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي بَكْرٍ أنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ فِي ذِي الحَجَّةِ وأنَّ سُرَاقَةَ بنَ مَالِكٍ بنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ بالعَقَبةِ وهْوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ ألَكُمْ هاذِهِ خَاصَّةً يَا رسولَ الله قَالَ لاَ بَلْ لِلأبَدِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمر عبد الله بن أبي بكر أَن يخرج مَعهَا إِلَى التَّنْعِيم) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّمَنِّي عَن الْحسن بن عمر هُوَ ابْن شَقِيق عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن عَطاء، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج أَيْضا عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ.
قَوْله: (وَطَلْحَة) هُوَ ابْن عبيد الله بن عُثْمَان التَّيْمِيّ الْقرشِي الْمدنِي أَبُو مُحَمَّد، أحد الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، وَهُوَ عطف على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: وَغير طَلْحَة، وَالْحَاصِل أَنه لم يكن هدي إلاَّ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَ طَلْحَة فَقَط، فَإِن قلت: مَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد وَمُسلم وَغَيرهمَا(10/120)
من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة: إِن الْهَدْي كَانَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر وَذَوي الْيَسَار) ؟ وروى البُخَارِيّ أَيْضا، على مَا سَيَأْتِي، من طَرِيق أَفْلح عَن الْقَاسِم بِلَفْظ: (وَرِجَال من أَصْحَابه ذَوي قُوَّة) ، الحَدِيث. وَهَذَا يُخَالف مَا رَوَاهُ جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يحمل على أَن كلا مِنْهُمَا قد ذكر مَا شَاهده واطلع عَلَيْهِ، وَقد روى مُسلم أَيْضا من طَرِيق مُسلم القري، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء، عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ طَلْحَة مِمَّن سَاق الْهَدْي فَلم يحل، وَهَذَا يشْهد لحَدِيث جَابر فِي ذكر طَلْحَة فِي ذَلِك، وَيشْهد أَيْضا لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي أَن طَلْحَة لم ينْفَرد بذلك، وداخل فِي قَوْلهَا (وَذَوي الْيَسَار) ، وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر أَن الزبير كَانَ مِمَّن كَانَ مَعَه هدي. قَوْله: (وَكَانَ على قدم من الْيمن) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عَن عَطاء عِنْد مُسلم (من سعايته) . قَوْله: (وَمَعَهُ الْهَدْي) جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (أَهلَلْت بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله ت) ، ويروى (بِمَا أهل بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عَن عَطاء عَن جَابر وَعَن ابْن جريج عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الحَدِيث عِنْد البُخَارِيّ فِي الشّركَة: (فَقَالَ أَحدهمَا يَقُول: لبيْك بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الآخر: لبيْك بِحجَّة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمره أَن يُقيم على إِحْرَامه وإشراكه فِي الْهَدْي) وَقد مضى بَيَان ذَلِك فِي: بَاب من أهل فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإهلال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أذن لأَصْحَابه أَن يجعلوها عمْرَة) ، زَاد ابْن جريج عَن عَطاء فِيهِ (وأصيبوا النِّسَاء. قَالَ عَطاء: وَلم يعزم عَلَيْهِم، وَلَكِن أحلهن لَهُم) يَعْنِي إتْيَان النِّسَاء، لِأَن من لَازم الْإِحْلَال إِبَاحَة إتْيَان النِّسَاء، وَقد مضى الْبَحْث فِيهِ فِي آخر: بَاب التَّمَتُّع وَالْقرَان. قَوْله: (أَن يجعلوها) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْحَج فِي قَوْله: (أهلَّ وَأَصْحَابه بِالْحَجِّ) إِلَّا أَنه أنثه بِاعْتِبَار الْحجَّة. قَوْله: (يطوفوا بِالْبَيْتِ) . قَوْله: (ثمَّ يقصروا) عطف على: (يطوفوا) وَقَوله: (ويحلوا) عطف على مَا قبله إِلَّا من كَانَ مَعَه الْهَدْي، فَلَا يحل. وَفِي رِوَايَة مُسلم، (قَالَ عَطاء: قَالَ جَابر: فَقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صبح رَابِعَة مَضَت من ذِي الْحجَّة فَأمرنَا أَن نحل. قَالَ عَطاء: قَالَ: حلوا وأصيبوا النِّسَاء. قَالَ عَطاء: وَلم يعزم عَلَيْهِم وَلَكِن أحلهن لَهُم، فَقُلْنَا: لما لم يكن بَيْننَا وَبَين عَرَفَة إلاَّ خمس أمرنَا أَن نفضي إِلَى نسائنا فنأتي عَرَفَة تقطر مذاكيرنا بالمني، قَالَ: يَقُول جَابر بِيَدِهِ: كَأَنِّي أنظر إِلَى قَوْله بِيَدِهِ يحركها، قَالَ: فَقَامَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِينَا فَقَالَ: قد علمْتُم أَنِّي أَتْقَاكُم لله وأصدقكم وأبركم، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحللت كَمَا تحِلُّونَ، وَلَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهَدْي، فحلوا. فَحَلَلْنَا وَسَمعنَا وأطعنا) الحَدِيث. قَوْله: (فَقَالُوا) أَي: أَصْحَابه. قَوْله: (وَذكر أَحَدنَا يقطر) جملَة حَالية أَي: يقطر بالمني، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَنَّهُ شقّ عَلَيْهِم أَن يحلوا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرم، وَلم يعجبهم أَن يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم عَن نَفسه ويتركوا الِاقْتِدَاء بِهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ ولعلهم إِنَّمَا شقّ عَلَيْهِم لإفضائهم إِلَى النِّسَاء قبل انْقِضَاء الْمَنَاسِك. قَوْله: (فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بلغه مَا قَالُوا من القَوْل الْمَذْكُور. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تطييبا لقُلُوبِهِمْ: (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا أهديت) ، أَي: لَو علمت فِي الأول مَا علمت فِي الآخر مَا سقت الْهَدْي وأحللت وتمتعت، والمقدمة الأولى لِلتَّمَنِّي عَمَّا فَاتَ، وَالثَّانيَِة لحكم الْحَال، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَي لَو عنَّ لي هَذَا الرَّأْي الَّذِي رَأَيْته آخرا لأمرتكم بِهِ فِي أول أَمْرِي. قَوْله: (وَأَن عَائِشَة حَاضَت) ، عطف على أَن الْمَذْكُورَة فِي أول الحَدِيث، وَكَانَ حَيْضهَا بسرف قبل دُخُولهمْ مَكَّة، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي الزبير (عَن جَابر: أَن دُخُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا وشكواها ذَلِك لَهُ كَانَ يَوْم التَّرويَة) . وروى مُسلم أَيْضا من طَرِيق مُجَاهِد عَن عَائِشَة أَن طهرهَا كَانَ بِعَرَفَة، وَفِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْهَا: (وطهرت صَبِيحَة لَيْلَة عَرَفَة حِين قدمنَا منى) ، وَله من طَرِيق آخر: (فَخرجت فِي حجتي حَتَّى نزلنَا منى فتطرهت ثمَّ طفنا بِالْبَيْتِ. .) الحَدِيث، واتفقت الرِّوَايَات كلهَا على أَنَّهَا طافت طواف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وَأَن سراقَة) ، عطف على أَن الَّتِي قبله، وسراقة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالقاف: ابْن مَالك بن جعْشم، بِضَم الْجِيم والشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين بَينهمَا: الْكِنَانِي المدلجي، مر فِي: بَاب من أهلَّ فِي زمن النَّبِي(10/121)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَهُوَ بِالْعقبَةِ) جملَة حَالية أَي: وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بعقبة منى. قَوْله: (وَهُوَ يرميها) جملَة حَالية أَيْضا أَي: وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: سراقَة. قَوْله: (ألكم هَذِه؟) أَي: هَذِه الفعلة، وَهِي جعل الْحَج عمْرَة أَو الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، وَالْألف فِي: (ألكم؟) للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، أَرَادَ أَن هَذِه الفعلة مَخْصُوصَة بكم فِي هَذِه السّنة أَو لكم ولغيركم أبدا؟ فَأجَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: (لِلْأَبَد) وَفِي رِوَايَة يزِيد بن زُرَيْع (لنا هَذِه خَاصَّة؟) وَفِي رِوَايَة جَعْفَر عِنْد مُسلم: (فَقَامَ سراقَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله {ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ فشبك أَصَابِعه وَاحِدَة فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: دخلت الْعمرَة فِي الْحَج، مرَّتَيْنِ لَا بل لأبد الْأَبَد) .
وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي مَعْنَاهُ على أَقْوَال: أَصَحهَا، وَبِه قَالَ جمهورهم: مَعْنَاهُ أَن الْعمرَة يجوز فعلهَا فِي أشهر الْحَج. الثَّانِي: مَعْنَاهُ جَوَاز القِران، وَتَقْدِير الْكَلَام دخلت أَفعَال الْعمرَة فِي أَفعَال الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَالثَّالِث: تَأْوِيل بعض الْقَائِلين بِأَن الْعمرَة لَيست وَاجِبَة، قَالُوا: مَعْنَاهُ سُقُوط الْعمرَة، وَمعنى دُخُولهَا فِي الْحَج سُقُوط وُجُوبهَا، وَهَذَا ضَعِيف أَو بَاطِل، وَسِيَاق الحَدِيث يَقْتَضِي بُطْلَانه. وَالرَّابِع: تَأْوِيل بعض أهل الظَّاهِر أَن مَعْنَاهُ جَوَاز فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَهَذَا أَيْضا ضَعِيف، ورد هَذَا بِأَن سِيَاق السُّؤَال يُقَوي هَذَا التَّأْوِيل، بل الظَّاهِر أَن السُّؤَال وَقع عَن الْفَسْخ، وَفِيه نظر.
وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْفَسْخ هَل هُوَ خَاص للصحابة تِلْكَ السّنة خَاصَّة أم بَاقٍ لَهُم ولغيرهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَيجوز لكل من أحرم بِحَجّ وَلَيْسَ مَعَه هدي أَن يقلب إِحْرَامه عمْرَة ويتحلل بأعمالها؟ وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وجماهير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف: هُوَ مُخْتَصّ بهم فِي تِلْكَ السّنة، لَا يجوز بعْدهَا، وَإِنَّمَا أمروا بِهِ تِلْكَ السّنة ليخالفوا مَا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من تَحْرِيم الْعمرَة فِي أشهر الْحَج. وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ للجماهير حَدِيث أبي ذَر الَّذِي رَوَاهُ مُسلم كَانَت فِي الْحَج لأَصْحَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَاصَّة يَعْنِي: فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وروى النَّسَائِيّ عَن الْحَارِث بن بِلَال عَن أَبِيه، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله} فسخ الْحَج لنا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟ فَقَالَ: بل لنا خَاصَّة) . وَأما الَّذِي فِي حَدِيث سراقَة (ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ . فَقَالَ: لَا بل لِلْأَبَد) . فَمَعْنَاه جَوَاز الاعتمار فِي أشهر الْحَج وَالْقرَان كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور جَوَاز التَّمَتُّع وَتَعْلِيق الْإِحْرَام بِإِحْرَام الْغَيْر، وَجَوَاز قَول: لَو، فِي التأسف على فَوَات أُمُور الدّين، والمصالح. وَأما الحَدِيث فِي: أَن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان، فَمَحْمُول على التأسف فِي حظوظ الدُّنْيَا.
7 - (بابُ الاعْتِمَارِ بَعْدَ الحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الاعتمار فِي أشهر الْحَج بعد الْفَرَاغ من الْحَج بِغَيْر هدي يلْزمه.
6871 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشامٌ قَالَ أخْبَرَنِي أبي قَالَ أخْبَرَتْنِي عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَافِينَ لِهِلاَلٍ ذِي الحَجَّةِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أحَبَّ أنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ ومَنْ أحَبَّ أنْ يِهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ ولَوْلاَ أنِّي أهْدَيْتُ لأَهْلَلْتِ بِعُمْرَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ ومِنْهُمْ منْ أهَلَّ بِحَجَّةٍ وكُنْتُ مِمَّنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْلَ أنْ أدْخُلَ مَكَّةَ فأدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وأنَا حَائِضٌ فَشَكَوْتُ إلَى رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ دَعي عُمْرَتَكِ وانْقضِي رَأْسَكِ وامْتَشِطِي وأهِلِّي بالحَجِّ ففَعَلْتُ فَلَمَّا كانَتْ لَيْلَة الحَصْبَةِ أرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمانِ إلَى التَّنْعِيمِ فأرْدَفَهَا فأهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتها فقَضَى الله حَجَّهَا وعُمْرَتَها ولَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذالِكَ هَدْيٌ ولاَ صَدَقَةٌ ولاَ صَوْمٌ.
.(10/122)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأهلت بِعُمْرَة) إِلَى آخر الحَدِيث.
وَهَذَا الحَدِيث قد أخرجه فِي مَوَاضِع خُصُوصا بِعَين هَذَا الْمَتْن فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب نقض الْمَرْأَة شعرهَا عِنْد غسل الْمَحِيض، عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَهُوَ: بَاب امتشاط الْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض، عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَفِي: بَاب كَيفَ تهل الْحَائِض بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة، عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب إِذا حَاضَت الْمَرْأَة بَعْدَمَا أفاضت، عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الْعمرَة لَيْلَة الحصبة، عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب عمْرَة الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن حبيب الْمعلم عَن عَطاء عَن جَابر، وَفِيه قصَّة عَائِشَة، وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى الْقطَّان عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذِه الطّرق كلهَا مُسْتَوفى، ولنذكر بعض شَيْء من ذَلِك.
قَوْله: (موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة) ، أَي: قرب طلوعه، وَقد مضى أَنَّهَا قَالَت: (خرجنَا لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة) وَالْخمس قريبَة من آخر الشَّهْر فوافاهم الْهلَال وهم فِي الطَّرِيق لأَنهم دخلُوا مَكَّة فِي الرَّابِع من ذِي الْحجَّة. قَوْله: (لأهللت بِعُمْرَة) ، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: (لأحللت) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: بِحَجّ. قَوْله: (فأردفها) ، فِيهِ الْتِفَات لِأَن الأَصْل أَن يُقَال: فاردفني. قَوْله: (مَكَان عمرتها) ، يَعْنِي مَكَان عمرتها الَّتِي أَرَادَت أَن تكون مُنْفَرِدَة عَن الْحَج. قَوْله: (فَقضى الله حجتها وعمرتها) إِلَى آخِره، قيل: الظَّاهِر أَن ذَلِك من قَول عَائِشَة، لَكِن صرح فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب نقض الْمَرْأَة شعرهَا فِي آخر هَذَا الحَدِيث، قَالَ هِشَام: وَلم يكن فِي شَيْء من ذَلِك هدي وَلَا صَوْم وَلَا صَدَقَة. وَقَالَ ابْن بطال: قَوْله: (فَقضى الله حَجهَا) إِلَى آخِره، لَيْسَ من قَول عَائِشَة، وَإِنَّمَا هُوَ من كَلَام هِشَام بن عُرْوَة، حدث بِهِ هَكَذَا فِي الْعرَاق. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَلم يذكر ذَلِك أحد غَيره، وَلَا يَقُوله الْفُقَهَاء، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا أَن عَائِشَة لم تكن قارنة، إِذْ لَو كَانَت قارنة لوَجَبَ عَلَيْهَا الْهَدْي للقران. وَأجِيب: بِأَن هَذَا الْكَلَام مدرج من قَول هِشَام، كَأَنَّهُ نفى ذَلِك بِحَسب علمه، وَلَا يلْزم من ذَلِك نَفْيه فِي نفس الْأَمر، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: معنى قَوْله: (لم يكن فِي شَيْء من ذَلِك هدي) أَي: فِي تَركهَا لعمل الْعمرَة الأولى وإدراجها لَهَا فِي الْحَج وَلَا فِي عمرتها الَّتِي اعتمرتها من التَّنْعِيم أَيْضا. انْتهى. قلت: لِأَن عمرتها بعد انْقِضَاء الْحَج، وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن من اعْتَمر بعد انْقِضَاء الْحَج وَخُرُوج أَيَّام التَّشْرِيق أَنه لَا هدي عَلَيْهِ فِي عمرته، لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتمتع، وَإِنَّمَا الْمُتَمَتّع من اعْتَمر فِي أشهر الْحَج وَطَاف للْعُمْرَة قبل الْوُقُوف، وَأما من اعْتَمر بعد يَوْم النَّحْر، فقد وَقعت عمرته فِي غير أشهر الْحَج، فَلذَلِك ارْتَفع حكم الْهَدْي عَنْهَا فَإِن قلت: الصَّحِيح من قَول مَالك أَن أشهر الْحَج: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر لَيَال من ذِي الْحجَّة، وَمَعَ هَذَا لم يكن عَلَيْهَا هدي فِي حَجهَا؟ قلت: لِأَنَّهَا كَانَت مُفْردَة، على مَا رُوِيَ عَنْهَا الْقَاسِم وَعُرْوَة، وَلم يَأْخُذ بذلك مَالك، بل كَانَت عِنْده قارنة ولزمها لذَلِك هدي القِران، وَلم يَأْخُذ أَبُو حنيفَة أَيْضا بذلك لِأَنَّهَا كَانَت عِنْده رافضة لعمرتها، والرافضة عِنْده عَلَيْهَا دم للرفض، وَعَلَيْهَا عمر. وَالله المتعال أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
8 - (بابُ أجْرِ العُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن أجر الْعمرَة على قدر النصب، بِفَتْح النُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة: أَي التَّعَب.
7871 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ وعنِ ابنِ عَوْنٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ قالاَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا يَا رسولَ الله يَصْدُرُ النَّاسُ بنُسُكَيْنِ وأصْدُرُ بنُسُكٍ فَقيلَ لَهَا انْتَظِرِي فإذَا طَهُرْتِ فاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فأهِلِّي ثُمَّ ائتِينَا بِمَكَانِ كذَا وكَذَا ولَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أوْ نَصَبكِ.
.(10/123)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَأخرجه من طَرِيقين. أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع الْعَبْسِي الْبَصْرِيّ عَن عبد الله بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق عَن عَائِشَة. وَالْآخر: عَن مُسَدّد عَن يزِيد ابْن زُرَيْع عَن عبد الله بن عون عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود النَّخعِيّ عَن عَائِشَة. وَأخرجه مُسلم حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة. قَالَ: حَدثنَا ابْن علية عَن ابْن عون عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن أم الْمُؤمنِينَ، وَعَن الْقَاسِم (عَن أم الْمُؤمنِينَ قَالَت: قلت يَا رَسُول الله! يصدر النَّاس بنسكين وأصدر بنسكٍ واحدٍ؟ قَالَ: انتظري فَإِذا طهرت فاخرجي إِلَى التَّنْعِيم فأهلي مِنْهُ، ثمَّ ألقينا عِنْد كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أَظُنهُ قَالَ: غَدا، وَلكنهَا على قدر نصبك أَو نَفَقَتك) . وَحدثنَا ابْن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن ابْن عون عَن الْقَاسِم وَإِبْرَاهِيم، قَالَ: لَا أعرف حَدِيث أَحدهمَا من الآخر، إِن أم الْمُؤمنِينَ قَالَت: يَا رَسُول الله يصدر النَّاس بنسكين ... فَذكر الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج أَيْضا عَن أَحْمد بن منيع عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَنهُ بالإسنادين جَمِيعًا عَن أم الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ: لَا أحفظ حَدِيث هَذَا من حَدِيث هَذَا. وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي عَن حُسَيْن بن حسن عَن ابْن عون عَن الْقَاسِم وَإِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا، عَن أم الْمُؤمنِينَ، وَلم يذكر الْأسود.
قَوْله: (قَالَا) أَي: الْقَاسِم وَالْأسود. قَوْله: (يصدر النَّاس) ، أَي: يرجع النَّاس، من الصُّدُور وَهُوَ الرُّجُوع، وَفعله من بَاب نصر ينصر. قَوْله: (بنسكين) أَي: بِحجَّة وَعمرَة. قَوْله: (وأصدر بنسك؟) أَي: وأرجع أَنا بِحجَّة. قَوْله: (فَقيل لَهَا) أَي: لعَائِشَة، ويروى: (فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (فَإِذا طهرت) ، بِضَم الْهَاء وَفتحهَا. قَوْله: (ثمَّ ائتينا) ، بِصِيغَة الْمُؤَنَّث من الْإِتْيَان، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ ألقينا) كَمَا مر. قَوْله: (بمَكَان كَذَا وَكَذَا) ، وَأَرَادَ بِهِ الأبطح، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: بِحَبل كَذَا) ، بِالْحَاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَرِوَايَة غَيره بِالْجِيم. قَوْله: (وَلكنهَا) أَي: وَلَكِن عمرتك على قدر نَفَقَتك أَو نصبك أَي: أَو على قدر نصبك، أَي: تعبك. وَكلمَة أَو، إِمَّا للتنويع فِي كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو شكّ من الرَّاوِي، وَقد روى فِيهِ مَا يدل على كل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ، فَيدل على أَنَّهَا للشَّكّ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا من طَرِيق أَحْمد بن منيع عَن إِسْمَاعِيل: (على قدر نصبك أَو على قدر تعبك) . وَفِي رِوَايَة لَهُ من طَرِيق حُسَيْن بن حسن: (على قدر نَفَقَتك أَو نصبك) . أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيدل على أَنَّهَا للتنويع مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق هشيم عَن ابْن عون بِلَفْظ: (إِن لَك من الْأجر على قدر نصبك ونفقتك) ، بواو الْعَطف، ثمَّ معنى هَذَا الْكَلَام أَن الثَّوَاب فِي الْعِبَادَة يكثر بِكَثْرَة النصب وَالنَّفقَة.
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: هَذَا لَيْسَ بمطرد، فقد تكون بعض الْعِبَادَة أخف من بعض، وَهِي أَكثر فضلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَان كقيام لَيْلَة الْقدر بِالنِّسْبَةِ لقِيَام ليَالِي من رَمَضَان غَيرهَا. وبالنسبة للمكان كَصَلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِالنِّسْبَةِ لصَلَاة رَكْعَات فِي غَيره. وبالنسبة إِلَى شرف الْعِبَادَة الْمَالِيَّة والبدنية كَصَلَاة الْفَرِيضَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكثر من عدد ركعاتها أَو من قرَاءَتهَا، وَنَحْو ذَلِك من صَلَاة النَّافِلَة، وكدرهم من الزَّكَاة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكثر مِنْهُ من التَّطَوُّع. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَا يمْنَع الإطراد، لِأَن الْكَثْرَة الْحَاصِلَة فِي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَيست من ذَاتهَا، وَإِنَّمَا هِيَ بِحَسب مَا يعرض لَهَا من الْأُمُور الْمَذْكُورَة. فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالنّصب الَّذِي لَا يذمه الشَّرْع، وَكَذَا النَّفَقَة. وَفِي (التَّوْضِيح) أَفعَال الْبر كلهَا على قدر الْمَشَقَّة وَالنَّفقَة، وَلِهَذَا اسْتحبَّ الشَّافِعِي وَمَالك الْحَج رَاكِبًا، ومصداق ذَلِك فِي كتاب الله عز وَجل فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله} (التَّوْبَة: 02) . وَفِي هَذَا فضل الْغنى وإنفاق المَال فِي الطَّاعَات، وَلما فِي قمع النَّفس عَن شهواتها من الْمَشَقَّة على النَّفس، ووعد الله عز وَجل الصابرين فَقَالَ: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) . وبظاهر الحَدِيث الْمَذْكُور اسْتدلَّ على أَن الاعتمار لمن كَانَ بِمَكَّة من جِهَة الْحل الْقَرِيبَة أقل أجرا من الاعتمار من جِهَته الْبَعِيدَة. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْإِمْلَاء) : أفضل بقاع الْحل للاعتمار الْجِعِرَّانَة، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم مِنْهَا، ثمَّ التَّنْعِيم لِأَنَّهُ أذن لعَائِشَة مِنْهَا. انْتهى. قلت: اعتماره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجِعِرَّانَة لم يكن بِالْقَصْدِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ حِين رَجَعَ من الطَّائِف مجتازا إِلَى الْمَدِينَة، وَأذنه لعَائِشَة من التنيعم لكَونهَا أقرب وأسهل عَلَيْهَا من غَيرهَا.(10/124)
9 - (بابُ المُعْتَمِرِ إذَا طافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئهُ مِنْ طَوَافِ الوَدَاعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي باين حكم الْمُعْتَمِر إِذا طَاف إِلَى آخِره، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: يجْزِيه ويغني طواف الْعمرَة عَن طواف الْوَدَاع. وَقَالَ بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ لما لم يكن فِي حَدِيث عَائِشَة التَّصْرِيح بِأَنَّهَا مَا طافت للوداع بعد طواف الْعمرَة لم يثبت الحكم فِي التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: الحَدِيث يدل على أَن طواف الْعمرَة يُغني عَن طواف الْوَدَاع، وَإِن لم يدل على ذَلِك صَرِيحًا، إِذْ لَو كَانَ لَا بُد من طواف الْوَدَاع لذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث، وَلم يذكر إلاَّ طواف الْعمرَة.
8871 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا أفْلَحُ بنُ حُمَيْدٍ عنِ القَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بالحَجِّ فِي أشْهُرِ الحَجِّ وَفِي حُرُمِ الحَجِّ فنَزَلْنَا بِسَرِفَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِصْحَابِهِ منْ لَمْ يَكُنْ معَهُ هَدْيٌ فأحَبَّ أنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَة فَلْيَفْعَلْ ومنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ فلاَ وكانَ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورِجَالٌ مِنْ أصْحَابِهِ ذَوِي قُوِّةٍ الهَدْيَ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ عُمْرَةً فَدَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ قُلْتُ سَمِعْتِكَ تَقُولُ لأِصْحَابِكَ مَا قُلْتَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ قَالَ وَمَا شأنُك قُلْتُ لاَ أصَلِّي قَالَ فَلاَ يُضِرُّكِ أنْتِ مِنْ بَناتِ آدَمَ كُتِبَ عَلَيْكِ مَا كُتِبَ علَيْهِنَّ فَكونِي فِي حَجَّتِكِ عَسَى الله أَن يَرْزُقَكِهَا قالَتْ فكُنْتُ حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنىً فنَزَلْنَا المُحَصَّبَ فدَعَا عبْدَ الرَّحْمانِ فقالَ اخْرُجْ بِأُخْتِكَ إلَى الحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا أنْتَظِرْ كَمَا هَهُنَا فأتَيْنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فقالَ فرَغْتُمَا قُلْتُ نَعَمْ فَنادَى بالرَّحِيلِ فِي أصْحَابِهِ فارْتَحَلَ النَّاسُ ومنْ طافَ بالْبَيْتِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ ثُمَّ خَرَجَ مُتَوَجِّها إلَى المَدِينَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فلتهل بِعُمْرَة) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن نمير عَن إِسْحَاق بن سُلَيْمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري، وغالب مَا فِيهِ من الْأَحْكَام قد ذكر فِيمَا مضى مفرقا.
قَوْله: (وَفِي حرم الْحَج) بِضَم الْحَاء وَالرَّاء، وَهِي الْحَالَات والأماكن والأوقات الَّتِي لِلْحَجِّ، وَرُوِيَ، بِفَتْح الرَّاء جمع حُرْمَة أَي مُحرمَات الْحَج. قَوْله: (بسرف) أَي: فِي سرف، وَقد فسرناه غير مرّة، وَهُوَ مَكَان بِقرب مَكَّة. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت: (سرف) ، بِحَذْف الْبَاء، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق إِسْحَاق بن عِيسَى بن الطباع عَن أَفْلح. قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: من لم يكن مَعَه هدي) ظَاهره أَنه أَمر لأَصْحَابه بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. فَإِن قلت: قَوْله هَذَا كَانَ بسرف، وَفِي غير هَذِه الرِّوَايَة أَن قَوْله لَهُم ذَلِك كَانَ بعد دُخُوله مَكَّة؟ قلت: يحْتَمل التَّعَدُّد. قَوْله: (وَرِجَال) ، بِالْجَرِّ عطف على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (ذَوي قُوَّة) ، صفة لقَوْله: (أَصْحَابه) . قَوْله: (الْهَدْي) مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: كَانَ. قَوْله: (وَأَنا أبْكِي) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فمنعت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (الْعمرَة) ، مَنْصُوب على نزع الْخَافِض أَي: من الْعمرَة. قَوْله: (لَا أُصَلِّي) ، كِنَايَة عَن الْحيض، وَهِي من ألطف الْكِنَايَات. قَوْله: (كتب عَلَيْك) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (كتب الله عَلَيْك) . وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (فكوني فِي حجتك) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فِي حجك) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (فَعَسَى الله) ، ويروى (عَسى الله) ، بِدُونِ الْفَاء. قَوْله: (فنزلنا) المحصب وَهُوَ الأبطح، وَفِيه اخْتِصَار أظهرته رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ: (حَتَّى نزلنَا منى فتطهرت ثمَّ طفت بِالْبَيْتِ فَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المحصب) . قَوْله: (فَدَعَا عبد الرَّحْمَن) ، هُوَ ابْن أبي بكر أَخُو عَائِشَة، رَضِي(10/125)
الله تَعَالَى عَنْهُم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر. قَوْله: (اخْرُج بأختك إِلَى الْحرم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من الْحرم) وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (فأتينا فِي جَوف اللَّيْل) ، ويروى: (فَجِئْنَا من جَوف اللَّيْل) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (من آخر اللَّيْل) . قَوْله: (وَمن طَاف بِالْبَيْتِ) ، هَذَا من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن النَّاس أَعم من الطائفين، قيل: يحْتَمل أَن يكون: من طَاف صفة النَّاس، وتوسط العاطف بَينهمَا، وَهَذَا جَائِز. وَنقل عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه أجَاز: مَرَرْت بزيد وَصَاحِبك، إِذا أُرِيد بالصاحب زيد الْمَذْكُور، فَوَقع الْوَاو بَين الصّفة والموصوف، وَقيل: الظَّاهِر أَن فِيهِ تحريفا، وَالصَّوَاب فارتحل النَّاس ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ، أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل صَلَاة الصُّبْح، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق أبي بكر الْحَنَفِيّ عَن أَفْلح، بِلَفْظ: (فَأذن فِي أَصْحَابه بالرحيل، فارتحل فَمر بِالْبَيْتِ قبل صَلَاة الصُّبْح، فَطَافَ بِهِ حَتَّى خرج ثمَّ انْصَرف مُتَوَجها إِلَى الْمَدِينَة) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأذن فِي أَصْحَابه بالرحيل، فَخرج فَمر بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ قبل صَلَاة الصُّبْح ثمَّ خرج إِلَى الْمَدِينَة) ، وَقد أخرجه البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه فِي: بَاب: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) . بِلَفْظ: (فارتحل النَّاس مُتَوَجها إِلَى الْمَدِينَة) . قَوْله: (مُتَوَجها) من التَّوَجُّه من بَاب التفعل، هَذِه رِوَايَة ابْن عَسَاكِر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (موجها) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَتَشْديد الْجِيم: من التَّوْجِيه، وَهُوَ الِاسْتِقْبَال تِلْقَاء وَجه. فَافْهَم، وَالله تَعَالَى أعلم.
01 - (بابٌ يَفْعَلُ فِي العُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ فِي الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه يفعل فِي الْعمرَة من التروك مَا يفعل فِي الْحَج، أَو مَا يفعل فِي الْعمرَة بعض مَا يفعل فِي الْحَج لَا كلهَا، وَيفْعل، فِي الْمَوْضِعَيْنِ يجوز أَن يكون على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَأَن يكون على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذَا بِكَلِمَة: فِي الْعمرَة، وَفِي الْحَج، رِوَايَة المستميلي والكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا، يفعل بِالْعُمْرَةِ مَا يفعل بِالْحَجِّ.
9871 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا عَطاءٌ قَالَ حدَّثني صَفْوَانُ بنُ يَعْلَى ابنِ أميَّةَ يَعْنِي عَنْ أبِيهِ أنَّ رجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ بالجِعْرَانَةِ وعَلَيهِ جُبَّةٌ وعلَيْهِ أثَرُ الخَلُوقِ أوْ قَالَ صُفْرَةٌ فَقَالَ كَيْفَ تَأْمُرُنِي أنْ أصْنَعَ فِي عُمرَتِي فأنْزَلَ الله علَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَوَدِدْتُ أنِّي قَدْ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ أُنْزِلَ علَيْهِ الوَحْيُ فَقَالَ عُمَرُ تَعالَ أيَسُرُّكَ أنْ تَنْظُرَ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ أنْزَلَ الله علَيْهِ الوَحْيَ قُلْتُ نَعَمْ فرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ فنَظَرْتُ إلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ وأحْسِبُهُ قالَ كَغَطِيطِ البَكْرِ فلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قالَ أيْنَ السَّائِلُ عَنِ العُمْرَةِ اخْلَعْ عنْكَ الجُبَّةَ واغْسِلْ أثَرَ الْخُلُوقِ عَنْكَ وأنْقَ الصُّفُرَةَ واصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واصنع فِي عمرتك كَمَا تصنع فِي حجك) . وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي أَوَائِل الْحَج فِي: بَاب غسل الخلوق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى إِلَى آخِره، وَأخرجه هَهُنَا: عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن همام بن يحيى الْبَصْرِيّ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح. . إِلَى آخِره.
قَوْله: (الخلوق) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف اللَّام المضمومة وبالقاف ضرب من الطّيب. قَوْله: صفرَة، بِالْجَرِّ عطف على الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو الْمُضَاف. قَوْله: (فَأنْزل الله على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . على مَا روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : أَن الْمنزل حِينَئِذٍ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَجه الدّلَالَة على ذَلِك هُوَ أَن الله تَعَالَى أَمر بالإتمام، وَهُوَ يتَنَاوَل الهيئات وَالصِّفَات. قَوْله: (أَيَسُرُّك؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَضم السِّين. قَوْله: (وَقد أنزل الله) ، فِي مَوضِع الْحَال. قَوْله: (لَهُ غطيط) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَهُوَ: النخير وَالصَّوْت الَّذِي فِيهِ البحوحة. قَوْله: (وَأَحْسبهُ) أَي: وَأَظنهُ. قَوْله: (الْبكر) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ: الفتي من الْإِبِل، والبكرة الفتاة، والقلوص بِمَنْزِلَة الْجَارِيَة، وَالْبَعِير كالأنسان، والناقة كَالْمَرْأَةِ. قَوْله: (فَلَمَّا سُرِّي) بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة والمخففة أَي: كشف، وانسرى:(10/126)
أَي: انْكَشَفَ. قَوْله: (وأنقِ) أَمر من الأنقاء، وَهُوَ التَّطْهِير. وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (واتَّقِ) من الاتقاء، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الحذر. ويروى: (ألقِ) ، من الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي. قَوْله: (واصنع فِي عمرتك كَمَا تصنع فِي حجك) أَي: كصنعك فِي حجك من اجْتِنَاب الْمُحرمَات وَمن أَعمال الْحَج إلاَّ الْوُقُوف، فَلَا وقُوف فِيهَا وَلَا رمي، وأركانها أَرْبَعَة: الْإِحْرَام وَالطّواف وَالسَّعْي وَالْحلق أَو التَّقْصِير.
0971 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ أنَّهُ قَالَ قُلْتُ لِ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أرَأيْتِ قَوْلَ الله تبارَكَ وتَعَالى إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَلاَ أُرَى عَلَى أحَدٍ شَيْئا أنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقالَتْ عائِشَةُ كَلاَّ لَوْ كانَتْ كَما تَقُولُ كانَتْ فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِ أنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا إنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الأنْصَارِ كانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وكَانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وكانُوا يَتَحَرَّجُونَ أنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الإسْلامُ سَألُوا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَلِكَ فأنْزَلَ الله تَعالى إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أَنه يصنع فِي حجه من السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب وجوب الصَّفَا والمروة، بأطول مِنْهُ فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة ... إِلَى آخِره، وَقد مرت مباحثه هُنَاكَ مستوفاة. قَوْله: (وَأَنا يَوْمئِذٍ حَدِيث السن) يُرِيد لم يكن لَهُ بعد فِقْهٌ وَلَا علم من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يتَأَوَّل بِهِ نَص الْكتاب وَالسّنة. قَوْله: (كلاًّ) هِيَ كلمة ردع، أَي: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك. قَوْله: (كَمَا تَقول) أَي: عدم وجوب السَّعْي. قَوْله: (مَنَاة) ، بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف النُّون: اسْم صنم. قَوْله: (حَذْو قديد) ، أَي: محاذيه، و: قديد، بِضَم الْقَاف: مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (يتحرجون) ، يَعْنِي: يحترزون من الْإِثْم الَّذِي فِي الطّواف باعتقادهم، أَو يحترزونه لأجل الطّواف، أَو مَعْنَاهُ: يتكلفون الْحَرج فِي الطّواف ويرونه فِيهِ.
زَادَ سُفْيَانُ وَأبُو مُعَاوِيَةَ عنْ هِشَامٍ مَا أتَمَّ الله حَجَّ امْرِىءٍ ولاَ عُمْرَتَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ
أَي: زَاد سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي: الضَّرِير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: (مَا أتم الله حج امرىء. .) إِلَى آخِره. أما رِوَايَة سُفْيَان فوصلها الطَّبَرِيّ من طَرِيق وَكِيع عَنهُ عَن هِشَام، فَذكر الْوُقُوف فَقَط. وَأما رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة فوصلها مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، قَالَ: قلت لَهَا: إِنِّي لأَظُن رجلا لم يطف بَين الصَّفَا والمروة، مَا ضره؟ قَالَت: لِمَ قلت؟ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 891) . إِلَى آخر الْآيَة، قَالَت: (مَا أتم الله حج امرىء وَلَا عمرته لم يطف بَين الصَّفَا والمروة) الحَدِيث بِطُولِهِ.
11 - (بابٌ مَتَى يَحِلُّ المُعْتَمِرُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَتى يخرج الْمُعْتَمِر من إِحْرَامه، وَقد أبهم الحكم لِأَن فِي حل الْمُعْتَمِر من عمرته خلافًا، فمذهب ابْن عَبَّاس أَنه يحل بِالطّوافِ، وَإِلَيْهِ ذهب إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَعند الْبَعْض: إِذْ دخل الْمُعْتَمِر الْحرم حل وَإِن لم يطف وَلم(10/127)
يسع، وَله أَن يفعل كل مَا حرم على الْمحرم، وَيكون الطّواف وَالسَّعْي فِي حَقه كالرمي وَالْمَبِيت فِي حق الْحَاج، وَهَذَا مَذْهَب شَاذ. وَقَالَ ابْن بطال: لَا أعلم خلافًا بَين أَئِمَّة الْفَتْوَى: أَن الْمُعْتَمِر لَا يحل حَتَّى يطوف وَيسْعَى.
وَقَالَ عَطاءٌ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصْحَابَهُ أنْ يَجْعَلُوها عُمْرَةً ويَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا ويحِلُّوا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه فهم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمُعْتَمِر لَا يحل حَتَّى يطوف وَيقصر) . فَإِن قلت: لم يذكر السَّعْي هُنَا؟ قلت: مُرَاده من قَوْله (ويطوفوا) أَي: بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة لِأَن جَابر أَجْزم بِأَن الْمُعْتَمِر لَا يحل لَهُ أَن يخرج امْرَأَته حَتَّى يطوف بَين الصَّفَا والمروة، فَعلم من هَذَا أَن المُرَاد من الطّواف فِي قَوْله: (ويطوفوا) أَعم من الطّواف بِالْبَيْتِ وَمن الطّواف بَين الصَّفَا والمروة، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب عمْرَة التَّنْعِيم.
1971 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ جَريرٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي أوْفَى قَالَ اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واعْتَمَرْنَا مَعَهُ فلَمَّا دخَلَ مَكَّةَ وطُفْنَا مَعَهُ وأتَى الصَّفَا والمَرْوَةَ وأتيْنَاها معَهُ وكُنَّا نَسْتُرُهُ من أهلِ مكَّةَ أنْ يَرْمِيَهُ أحَدٌ فَقَالَ لَهُ صاحِبٌ لِي أكانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ لَا. قالَ فحَدِّثْنَا مَا قَالَ لِخَدِيحَةَ قَالَ بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنَ الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ ولاَ نَصَبَ.
(الحَدِيث 2971 طرفه فِي: 9183) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله أَرْبَعَة الأول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ الْكُوفِي، وَاسم أبي خَالِد سعد، وَيُقَال: هُرْمُز، وَيُقَال: كثير، مَاتَ سنة أَربع أَو خمس أَو سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: عبد الله بن أبي أوفى، وَاسم أبي أوفى عَلْقَمَة، مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ أحد من روى عَنهُ أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الْمُنكر المتعصب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُسَدّد، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن نمير، وَعَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَعَن تَمِيم بن الْمُنْتَصر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن ابْن نمير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن جرير) ، وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) : أخبرنَا جرير. قَوْله: (اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: عمْرَة الْقَضَاء. قَوْله: (وأتيناها) ، ويروى: (وأتيناهما) أَي: الصَّفَا والمروة، وَهَذَا هُوَ الأَصْل، وَوجه إِفْرَاد الضَّمِير على تَقْدِير: أَتَيْنَا بقْعَة الصَّفَا والمروة. قَوْله: (وأتى الصَّفَا والمروة) أَي: سعى بَينهمَا. قَوْله: (أَن يرميه أحد) أَي: مَخَافَة أَن يرميه أحد من الْمُشْركين. قَوْله: (قَالَ لَهُ صَاحب لي) أَي: قَالَ إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور لعبد الله بن أبي أوفى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (أَكَانَ) أَي: أَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (دخل الْكَعْبَة؟ قَالَ: لَا) أَي: لم يدْخل الْكَعْبَة فِي تِلْكَ الْعمرَة، وَلَيْسَ المُرَاد نفي دُخُوله مُطلقًا، لِأَنَّهُ ثَبت دُخُوله فِي غير هَذَا الْحَالة. قَوْله: (فحدثنا) بِلَفْظ الْأَمر. قَوْله: (لِخَدِيجَة) هِيَ: بنت خويلد زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِبَيْت) قَالَ الْخطابِيّ: أَي بقصر. قَوْله: (من الْجنَّة) ، ويروى: (فِي الْجنَّة) . بِكَلِمَة: فِي. قَوْله: (لَا صخب) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ الصياح (وَالنّصب) بالنُّون التَّعَب، وَمعنى نفي الصخب وَالنّصب أَنه مَا من بَيت فِي الدُّنْيَا يجْتَمع فِيهِ أَهله إلاَّ كَانَ بَينهم صخب وجلبة، وإلاَّ كَانَ فِي بنائِهِ وإصلاحه نصب وتعب، فَأخْبر أَن قُصُور أهل الْجنَّة بِخِلَاف ذَلِك لَيْسَ فِيهَا شَيْء من الْآفَات الَّتِي تعتري أهل الدُّنْيَا.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن الْعمرَة لَا بُد فِيهَا من الطّواف وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة. وَفِيه: بَيَان فَضِيلَة خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
369 - (حَدثنَا الْحميدِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ سَأَلنَا ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن رجل طَاف بِالْبَيْتِ فِي عمْرَة وَلم يطف بَين الصَّفَا والمروة أَيَأتِي امْرَأَته فَقَالَ قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(10/128)
فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ وَطَاف بَين الصَّفَا والمروة سبعا وَقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة قَالَ وَسَأَلنَا جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ لَا يقربنها حَتَّى يطوف بَين الصَّفَا والمروة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الْمُعْتَمِر لَا يحل حَتَّى يطوف بَين الصَّفَا والمروة سبعا بَعْدَمَا طَاف بِالْبَيْتِ سبعا كَمَا يخبر بِهِ حَدِيث ابْن عمر وَجَابِر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم والْحَدِيث مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب قَول الله عز وَجل {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد وبعين هَذَا الْمَتْن من غير زِيَادَة وَهَذَا نَادِر جدا والْحميدِي بِضَم الْحَاء وَفتح الْمِيم هُوَ عبد الله بن الزبير نِسْبَة إِلَى أحد أجداده حميد وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ قَوْله " فِي عمْرَة " وَفِي رِوَايَة أبي ذَر " فِي عمرته " قَوْله " أَيَأتِي امْرَأَته " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار أَي يُجَامِعهَا قَوْله " لَا يقربنها " أَي لَا يباشرنها بَينهمَا وَهُوَ بنُون التَّأْكِيد وَالْمرَاد نهي الْمُبَاشرَة بِالْجِمَاعِ ومقدماته لَا مُجَرّد الْقرب مِنْهَا قَوْله " فَطَافَ بَين الصَّفَا والمروة " أَي سعى بَينهمَا وَإِطْلَاق الطّواف على السَّعْي إِنَّمَا هُوَ للمشاكلة وَيجوز أَن يكون لكَونه نوعا من الطّواف قَوْله " إسوة " بِكَسْر الْهمزَة وَضمّهَا قَوْله " قَالَ وَسَأَلنَا جَابِرا " الْقَائِل هُوَ عَمْرو بن دِينَار. وَفِيه وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَصَلَاة رَكْعَتَيْنِ بعد الطّواف خلق الْمقَام
5971 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شعبَةُ عنْ قَيسِ بنِ مُسْلِمٍ عنْ طَارِقِ بنِ شِهَابٍ عنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَدِمْتُ على النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْبَطْحَاءِ وهُوَ مُنِيخٌ فَقَالَ أحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِما أهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإهْلاَلٍ كَإهْلاَلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أحْسَنْتَ طُفْ بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ أحلَّ فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ أتَيْتُ امْرَأةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأسِي ثُمَّ أهْلَلْتُ بالحَجِّ فكُنْتُ أُفْتِي بِهِ حَتَّى كانَ فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ فَقَالَ إنْ أخَذْنَا بِكِتَابِ الله فإنَّهُ يأمُرُنَا بالتَّمَامِ وإنْ أخذْنَا بِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإنَّهُ لَمُ يحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (طف بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثمَّ أحل) فَإِنَّهُ يخبر أَن الْمُعْتَمِر يحل بعد الطّواف بِالْبَيْتِ وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب من أهل فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق بن شهَاب عَن أبي مُوسَى، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
قَوْله: (منيخ) أَي: رَاحِلَته، وَهُوَ كِنَايَة عَن النُّزُول بهَا. قَوْله: (أحججت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام أَي: هَل أَحرمت بِالْحَجِّ أَو نَوَيْت الْحَج؟ قَوْله: (ففلت رَأْسِي) أَي: ففتشت رَأْسِي واستخرجت مِنْهُ الْقمل، وَهُوَ على وزن: رمت، وَأَصله، فليت، قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ: فَلت، على وزن: فعت، لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ لَام الْفِعْل، وَذَلِكَ كَمَا فعل فِي رمت وَنَحْوه من معتل اللَّام. قَوْله: (يَأْمُرنَا بالتمام) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (يَأْمر) . قَوْله: (حَتَّى يبلغ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حَتَّى بلغ) ، بِلَفْظ الْمَاضِي.
وَاحْتج الطَّبَرِيّ بِهَذَا الحَدِيث على أَن من زعم أَن الْمُعْتَمِر يحل من عمرته إِذا أكمل عمرته ثمَّ جَامع قبل أَن يحلق أَنه مُفسد لعمرته، فَقَالَ: أَلا ترى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي مُوسَى: (طف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة ثمَّ أحل) . وَلم يقل: طف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة وَقصر من شعرك أَو إحلق ثمَّ أحل، فَتبين بذلك أَن الْحلق وَالتَّقْصِير ليسَا من النّسك، وَإِنَّمَا هما من مَعَاني الْإِحْلَال، كَمَا أَن لبس الثِّيَاب وَالطّيب بعد طواف الْمُعْتَمِر بِالْبَيْتِ وسعيه من مَعَاني إحلاله، فَتبين فَسَاد قَول من زعم(10/129)
أَن الْمُعْتَمِر إِذا جَامع قبل الْحلق بعد طَوَافه وسعيه أَنه مُفسد عمرته، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أحفظ ذَلِك عَن غَيره. وَقَالَ مَالك وَالثَّوْري والكوفيون: عَلَيْهِ الْهَدْي، وَقَالَ عَطاء: يسْتَغْفر الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَفِي حَدِيث أبي مُوسَى بَيَان فَسَاد من قَالَ: إِن الْمُعْتَمِر إِن خرج من الْحرم قبل أَن يقصر أَن عَلَيْهِ دَمًا، وَإِن كَانَ طَاف وسعى قبل خُرُوجه مِنْهُ. وَفِيه: أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أذن لأبي مُوسَى بالإحلال من عمرته بعد الطّواف وَالسَّعْي، فَبَان بذلك أَن من حل مِنْهَا قبل ذَلِك فقد أَخطَأ وَخَالف السّنة. واتضح بِهِ فَسَاد قَول من زعم أَن الْمُعْتَمِر إِذا دخل الْحرم فقد حل، وَله أَن يلبس ويتطيب وَيعْمل مَا يعمله الْحَلَال. وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن الْمسيب وَعُرْوَة وَالْحسن، وَاخْتلف الْعلمَاء إِذا وطىء الْمُعْتَمِر بعد طَوَافه وَقبل سَعْيه، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: عَلَيْهِ الْهَدْي وَعمرَة أُخْرَى مَكَانهَا، وَيتم عمرته الَّتِي أفسدها. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَوَافَقَهُمْ أَبُو حنيفَة إِذا جَامع بعد أَرْبَعَة أَشْوَاط بِالْبَيْتِ، أَنه يقْضِي مَا بَقِي من عمرته وَعَلِيهِ دم، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهَذَا الحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ إلاَّ الدَّعْوَى قلت.
6971 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسَى قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخبرنَا عَمْرٌ وعنْ أبِي الأسْوَدِ أنَّ عَبْدَ الله مَوْلَى أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثَهُ أنَّهُ كانَ يَسْمَعُ أسْمَاءَ تَقُولُ كلَّمَا مَرَّتْ بالحَجُونِ صَلَّى الله على مُحَمَّدٍ لَقَدْ نَزَلْنَا معَهُ هاهُنا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ قَلِيلٌ ظَهْرُنا قَلِيلَةٌ أزْوَادُنا فاعْتَمَرْتُ أَنا وأُخْتِي عائشَةُ والزُّبَيرُ وفُلانٌ وفُلاَنٌ فلَمَّا مَسَحْنا الْبَيْتَ أحْلَلْنَا ثُمَّ أهْلَلْنَا مِنَ العَشِيِّ بالحَجِّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا مسحنا الْبَيْت أَحللنَا) ، لِأَن مَعْنَاهُ: لما طفنا بِالْبَيْتِ أَحللنَا أَي: صرنا حَلَالا. وَالطّواف ملزوم للمسح عرفا. فَإِن قلت: الْمُعْتَمِر إِنَّمَا يحل بعد الطّواف وَبعد السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَالْحلق أَيْضا، فَكيف يكون هَذَا؟ قلت: حذف ذَلِك مِنْهُ للْعلم بِهِ كَمَا يُقَال: لما زنى فلَان رجم، وَالتَّقْدِير لما أحصن وزني رجم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَحْمد بن عِيسَى، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: أَحْمد بن عِيسَى مَنْسُوبا وَهُوَ أَحْمد بن عِيسَى بن حسان أَبُو عبد الله التسترِي، مصري الأَصْل. كَانَ يتجر إِلَى تستر، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ ابْن قَانِع: مَاتَ بسر من رأى، تكلم فِيهِ يحيى بن معِين، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: حَدثنَا أَحْمد غير مَنْسُوب يحدث عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع، كَذَا من غير نِسْبَة، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ قوم: إِنَّه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي عبد الله بن وهب، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّه أَحْمد ابْن صَالح أَو أَحْمد بن عِيسَى، وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي، أَحْمد بن وهب هُوَ ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ أَبُو عبد الله ابْن مَنْدَه: كل مَا قَالَ البُخَارِيّ فِي الْجَامِع حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب هُوَ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ، وَلم يخرج البُخَارِيّ عَن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن فِي (الصَّحِيح) شَيْئا وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى نسبه، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا أَحْمد بن صَالح. وَقد أخرجه مُسلم عَن أَحْمد بن عِيسَى عَن ابْن وهب. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن الْحَارِث. الرَّابِع: أَبُو الْأسود هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْمَشْهُور بيتيم عُرْوَة بن الزبير. الْخَامِس: عبد الله بن كيسَان أَبُو عَمْرو، مولى أَسمَاء بنت أبي بكر. السَّادِس: أَسمَاء بنت أبي بكر.
السَّادِس أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رجال هَذَا الْإِسْنَاد نصفهم مصريون ونصفهم مدنيون. وَفِيه: أَن عبد الله الْمَذْكُور لَيْسَ لَهُ عِنْد البُخَارِيّ غير حديثين: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر مضى فِي: بَاب من قدم ضعفة أَهله فَافْهَم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَأحمد بن عِيسَى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالحجون) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الْجِيم المخففة وَفِي آخِره نون، قَالَ الْبكْرِيّ: الْحجُون على وزن: فعول، مَوضِع بِمَكَّة عِنْد المحصب، وَهُوَ الْجَبَل المشرف بحذاء الْمَسْجِد الَّذِي على شعب الجزارين إِلَى مَا بَين(10/130)
الحوضين اللَّذين فِي حَائِط عَوْف وعَلى الْحجُون سَقِيفَة زِيَاد بن عبد الله أحد بني الْحَارِث بن كَعْب، وَكَانَ على مَكَّة. وَيُقَال: الْحجُون مَقْبرَة أهل مَكَّة تجاه دَار أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ على ميل وَنصف من مَكَّة، وَأغْرب السُّهيْلي فَقَالَ: الْحجُون على فَرسَخ وَثلث من مَكَّة، وَهُوَ غلط ظَاهر، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ، وَعند الْمقْبرَة الْمَعْرُوفَة بالمعلاة على يسَار الدَّاخِل إِلَى مَكَّة وَيَمِين الْخَارِج مِنْهَا. وروى الْوَاقِدِيّ عَن إشياخه: أَن قصي بن كلاب لما مَاتَ دفن بالحجون فتدافن النَّاس بعده بِهِ. قَوْله: (صلى الله على مُحَمَّد) ، مقول قَوْله: (تَقول كلما مرت) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كلما مرت بالحجون تَقول: صلى الله تَعَالَى على رَسُوله وَسلم) . قَوْله: (خفاف) ، بِكَسْر الْخَاء جمع خَفِيف، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة: (خفاف الحقائب) ، وَهُوَ جمع حقيبة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالقاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي مَا احتقبه الرَّاكِب خَلفه من حوائحه فِي مَوضِع الرديف. قَوْله: (قَلِيل طهرنا) أَي: مراكبنا. قَوْله: (فاعتمرت أَنا وأختي) أَي: بعد أَن فسخوا الْحَج إِلَى الْعمرَة. قَوْله: (وَالزُّبَيْر) أَي: الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث صَفِيَّة بنت شيبَة (عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، قَالَت: خرجنَا محرمين، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من كَانَ مَعَه هدي فَليقمْ على إِحْرَامه، وَمن لم يكن مَعَه هدي فليحلل، فَلم يكن معي هدي فحللت، وَكَانَ مَعَ الزبير هدي فَلم يحل) الحَدِيث. فَهَذَا يُخَالف رِوَايَة عبد الله مولى أَسمَاء، لِأَنَّهُ ذكر الزبير مَعَ من أحل. قلت: أجَاب النَّوَوِيّ بِأَن إِحْرَام الزبير بِالْعُمْرَةِ وتحلله مِنْهَا كَانَ فِي غير حجَّة الْوَدَاع، واستبعده بَعضهم، وَقَالَ: الْمُرَجح عِنْد البُخَارِيّ رِوَايَة عبد الله مولى أَسمَاء، فَلذَلِك اقْتصر على إخْرَاجهَا دون رِوَايَة صَفِيَّة بنت شيبَة. قلت: هَذَا مُسلم قد أخرج كليهمَا مَعَ مَا فيهمَا من الِاخْتِلَاف، وَلَا وَجه فِي الْجمع بَينهمَا إلاَّ بِمَا قَالَه النَّوَوِيّ. فَإِن قلت: فِيهِ إِشْكَال آخر، وَهُوَ أَن أَسمَاء ذكرت عَائِشَة فِيمَن طَاف، وَالْحَال أَنَّهَا كَانَت حِينَئِذٍ حَائِضًا. قلت: قيل: يحْتَمل أَنَّهَا أشارت إِلَى عمْرَة عَائِشَة الَّتِي فعلتها بعد الْحَج مَعَ أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن من التَّنْعِيم. قَالَ القَاضِي: هَذَا خطأ، لِأَن فِي الحَدِيث التَّصْرِيح بِأَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، قيل: لَا وَجه فِي ذَلِك إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّمَا لم تستثن أَسمَاء عَائِشَة لشهرة قصَّتهَا، وَفِيه بُعد أَيْضا، نعم إِنَّمَا هَذَا يَتَأَتَّى إِذا قُلْنَا: كَانَت عَائِشَة طَاهِرَة حِين ذكرت أَسمَاء إِيَّاهَا وعطفتها على نَفسهَا فِي قَوْلهَا: (اعْتَمَرت أَنا وأختي عَائِشَة، ثمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الْحيض) ، ثمَّ إِنَّهَا لم تستثنها فِي قَوْلهَا: (فَلَمَّا مسحنا الْبَيْت) ، لشهرتها أَنَّهَا كَانَت حَائِضًا فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو نسيت أَن تستثنيها، فَافْهَم. قَوْله: (وَفُلَان وَفُلَان) ، كَأَنَّهَا سمَّت جمَاعَة عرفتهم مِمَّن لم يسق الْهَدْي، وَلم توقف على تعيينهم. قَوْله: (فَلَمَّا مسحنا الْبَيْت،) أَي: طفنا بِالْبَيْتِ، وَقد ذكرنَا أَن من لَازم الطّواف الْمسْح عَادَة، فَيكون من قبيل ذكر اللَّازِم وَإِرَادَة الْمَلْزُوم، وَقد ذكرنَا وَجه طي ذكر السَّعْي عَن قريب. فَإِن قلت: لَمْ تَذكر أَسمَاء الْحلق مَعَ أَنه نسك؟ قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهَا إِيَّاه ترك فعله، فَإِن الْقِصَّة وَاحِدَة، وَقد ثَبت الْأَمر بالتقصير فِي عدَّة أَحَادِيث. . وَالله أعلم.
21 - (بابُ مَا يَقُولُ إذَا رَجَعَ مِنَ الحَجِّ أوِ العُمْرَةِ أوِ الغَزْوِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَقُول الْحَاج إِذا رَجَعَ من حجه أَو عمرته. قَوْله: (أَو الْغَزْو) ، أَي: وَفِيمَا يَقُول الْغَازِي إِذا رَجَعَ من غَزوه.
7971 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أوْ حَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثلاثَ تَكْبِيراتٍ ثُمَّ يَقُولُ لَا إلاهَ إلاَّ الله وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ علَى كُلَّ شيْءٍ قَدِيرُ آيِبُونَ تَائِبُونَ عابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حامِدُونَ صدق الله وعْدَهُ ونَصَرَ عَبْدَهُ وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة هِيَ أَنه تَفْسِير لَهَا، وَهُوَ ظَاهر.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه(10/131)
مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن ابْن أبي عمر عَن معن بن عِيسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، وَلَفظ مُسلم: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قفل من الجيوش أَو السَّرَايَا أَو الْحَج أَو الْعمرَة إِذا أوفى على ثنية أَو فدفد كبر ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: لَا إلاهَ إلاَّ الله) إِلَى آخِره، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْبَراء وَصَححهُ، وروى أَبُو نعيم الْحَافِظ (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لرجل يُرِيد سفرا: أوصيك بتقوى الله وَالتَّكْبِير على كل شرف) . وَعَن أنس: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا علا شرفا قَالَ: أللهم لَك الشّرف على كل شرف، وَلَك الْحَمد على كل حَال) . وَعَن ابْن عَبَّاس: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا رَجَعَ من سَفَره قَالَ: آيبون تائبون لربنا حامدون. فَإِذا دخل على أَهله قَالَ: توبا توبا أوبا أوبا، لَا يُغَادر علينا حوبا) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ (عَن جَابر: كُنَّا إِذا سافرنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صعدنا كبرنا، وَإِذا هبطنا سبَّحنا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قفل) ، قَالَ فِي (الْمُحكم) قفل الْقَوْم: يقفلون قفولاً، وَرجل قافل من قوم قفال، والقفول: الرُّجُوع. وَفِي (شرح الفصيح) لِابْنِ هِشَام: الْقَافِلَة الراجعة، فَإِن كَانَت خَارِجَة فَهِيَ الصائبة، سميت بذلك على وَجه التفاؤل كَأَنَّهَا تصيب كل مَا خرجت إِلَيْهِ. وَفِي (الْجَامِع) : يقفلون ويقفلون وَلَا يكون القافل إلاَّ الرَّاجِع إِلَى وَطنه. وَفِي (الفصيح) : أقفلت الْجند وقفلوا هم. وَفِي (النِّهَايَة) : يُقَال للسَّفر قفول فِي الذّهاب والمجيء. وَأكْثر مَا يستعملون فِي الرُّجُوع، وَيُقَال: قفل إِذا رَجَعَ، وَمِنْه تسمى الْقَافِلَة. قَوْله: (على كل شرف) ، بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْمَكَان العالي. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جبل مشرف عَال. وَقَالَ الْفراء: أشرف الشَّيْء علا وارتفع. وَفِي (الْمُحكم) أشرف الشَّيْء وَعلا الشَّيْء: علاهُ، وأشرف عَلَيْهِ. قَوْله: (آيبون) ، أَي: رَاجِعُون إِلَى الله، وَفِيه إِيهَام معنى الرُّجُوع إِلَى الوطن، يُقَال: آب إِلَى الشَّيْء أوبا وإيابا أَي: رَجَعَ، وأوبته إِلَيْهِ وأبت بِهِ. وَقيل: لَا يكون الإياب إلاَّ الرُّجُوع إِلَى أَهله لَيْلًا وَفِي (الْمعَانِي) عَن أبي زيد: آب يؤب إيابا وإيابة إِذا تهَيَّأ للذهاب وتجهز. وَقَالَ غَيره: آب يئيب آييبا وإيتيب إيتابا إِذا تهَيَّأ. وارتفاع (آيبون) على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: نَحن آيبون، وَكَذَا ارْتِفَاع (تائبون) و (عَابِدُونَ) و (ساجدون) . قَوْله: (تائبون) من التَّوْبَة، وَهُوَ رُجُوع عَمَّا هُوَ مَذْمُوم شرعا إِلَى مَا هُوَ مَحْمُود شرعا. قَوْله: (لربنا) إِمَّا خَاص بقوله: (ساجدون) ، وَإِمَّا عَام لسَائِر الصِّفَات على سَبِيل التَّنَازُع. قَوْله: (وَهزمَ الْأَحْزَاب) أَي: هَزَمَهُمْ يَوْم الْأَحْزَاب. والأحزاب هم الطَّائِفَة المتفرقة الَّذين اجْتَمعُوا على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على بَاب الْمَدِينَة، فَهَزَمَهُمْ الله تَعَالَى بِلَا مقاتلة وإيجاف خيل وَلَا ركاب. وَقَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن يُرِيد أحزاب الْكَفَرَة فِي جَمِيع الْأَيَّام والمواطن، وَيحْتَمل أَن يُرِيد الدُّعَاء كَأَنَّهُ قَالَ: أللهم افْعَل ذَلِك وَحدك، وَخص اسْتِعْمَال هَذَا الذّكر هُنَا لِأَنَّهُ أفضل مَا قَالَه النَّبِيُّونَ قبله.
وَفِيه من الْفِقْه: اسْتِعْمَال حمد الله تَعَالَى وَالْإِقْرَار بنعمه والخضوع لَهُ وَالثنَاء عَلَيْهِ عِنْد الْقدوم من الْحَج وَالْجهَاد على مَا وهب من تَمام الْمَنَاسِك، وَمَا رزق من النَّصْر على الْعَدو، وَالرُّجُوع إِلَى الوطن سَالِمين، وَكَذَلِكَ إِحْدَاث حمد الله تَعَالَى وَالشُّكْر لَهُ على مَا يحدث لِعِبَادِهِ من نعمه، فقد رَضِي من عباده بِالْإِقْرَارِ لَهُ بالوحدانية والخضوع لَهُ بالربوبية، وَالْحَمْد وَالشُّكْر عوضا عَمَّا وهبهم من نعمه تفضلاً عَلَيْهِم وَرَحْمَة لَهُم. وَفِيه: بَيَان أَن نَهْيه عَن السجع فِي الدُّعَاء على غير التَّحْرِيم لوُجُود السجع فِي دُعَائِهِ وَدُعَاء أَصْحَابه، وَيحْتَمل أَن يكون نَهْيه عَن السجع مُخْتَصًّا بِوَقْت الدُّعَاء خشيَة أَن يشْتَغل الدَّاعِي بِطَلَب الْأَلْفَاظ الْمُنَاسبَة للسجع ورعاية الفواصل عَن إخلاص النِّيَّة وإفراغ الْقلب فِي الدُّعَاء وَالِاجْتِهَاد فِيهِ.
31 - (بابُ اسْتِقْبَالِ الحَاجِّ القَادِمِينَ والثَّلاثَةَ علَى الدَّابَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِقْبَال الْحَاج القادمين. قَالَ الْكرْمَانِي: لفظ القادمين بِالْجمعِ صفة للْحَاج. لِأَن الْحَاج فِي معنى الْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى: {سامرا تهجرون} (الْمُؤْمِنُونَ: 76) . قلت: الْحَاج فِي الأَصْل مُفْرد، يُقَال: رجل جاج وَامْرَأَة حَاجَة وَرِجَال حجاج وَنسَاء حواج، وَرُبمَا أطلق الْحَاج على الْجَمَاعَة مجَازًا واتساعا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: السامر نَحْو الْحَاضِر فِي الْإِطْلَاق على الْجمع. قَوْله: (وَالثَّلَاثَة) : قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ الثَّلَاثَة عطف على الِاسْتِقْبَال. قلت: تَقْدِيره على هَذَا اسْتِقْبَال الثَّلَاثَة حَال كَونهم على الدَّابَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا الغلامين، أَي: وَفِي بعض النّسخ: بَاب اسْتِقْبَال الْحَاج الغلامين، ثمَّ قَالَ: وتوجيهه مَعَ إشكاله أَن يقْرَأ الْحَاج، بِالنّصب(10/132)
وَيكون الِاسْتِقْبَال مُضَافا إِلَى الغلامين، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {قتل أَوْلَادهم شركاؤهم} (الْأَنْعَام: 731) . بِنصب أولادَهم وجر الشُّرَكَاء، وَيكون الِاسْتِقْبَال مُضَافا إِلَى الغلامين، والحاج مفعول. فَإِن قلت: لفظ استقبله يُفِيد عكس ذَلِك؟ قلت: الِاسْتِقْبَال إِنَّمَا هُوَ من الطَّرفَيْنِ.
8971 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فحَملَ واحِدا بَيْنَ يَدَيْهِ وآخَرَ خَلْفَهُ.
التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على جزئين فمطابقة الحَدِيث للجزء الثَّانِي ظَاهِرَة، وَلِهَذَا وضع البُخَارِيّ تَرْجَمَة بالجزء الثَّانِي قبيل كتاب الْأَدَب، فَقَالَ: بَاب الثَّلَاثَة على الدَّابَّة، وَأورد فِيهَا هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه على مَا تقف عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأما مطابقته للجزء الأول فبطريق دلَالَة عُمُوم اللَّفْظ، وَلَيْسَ المُرَاد من طَرِيق الْعُمُوم مَا قَالَه بَعضهم بقوله لِأَن قدومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة أَعم من أَن يكون فِي حج أَو عمْرَة أَو غَزْو، لِأَن هَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ بداخل فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ كَلَام طائح. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَكَون التَّرْجَمَة لتلقي القادم من الْحَج، والْحَدِيث دَال على تلقي القادم لِلْحَجِّ وَلَيْسَ بَينهمَا تخَالف لاتِّفَاقهمَا من حَيْثُ المعني. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن كَون التَّرْجَمَة لنلقي القادم من الْحَج، بل هِيَ لتلقي القادم لِلْحَجِّ. والْحَدِيث يطابقه، وَهَذَا الْقَائِل ذهل وَظن أَن التَّرْجَمَة وضعت لتلقي القادم من الْحَج وَلَيْسَ كَذَلِك، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو علم أَن لفظ الِاسْتِقْبَال فيالترجمة مصدر مُضَاف إِلَى مَفْعُوله، وَالْفَاعِل ذكره مطوي لما كَانَ يحْتَاج إِلَى قَوْله: وَكَون التَّرْجَمَة ... إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعلى، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن أَسد أَبُو الْهَيْثَم الْعمي. الثَّانِي: يزِيد بن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: خَالِد الْحذاء. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عبد الله ابْن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن الثَّلَاثَة الأول بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُسَدّد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن يزِيد بن زُرَيْع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أغيلمة) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة. قَالَ الْخطابِيّ: هُوَ تَصْغِير غلمة، وَكَانَ الْقيَاس: غليمة، لكِنهمْ ردُّوهُ إِلَى أفعلة فَقَالُوا: أغيلمة، كَمَا قَالُوا: أصيبية، فِي تَصْغِير صبية. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْغُلَام جمعه: غلمة، وتصغيرها: أغيلمة، على غير مكبره وَكَأَنَّهُم صغروا أغلمة وَإِن كَانُوا لم يقولوه، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أغلمة، بِفَتْح الْألف جمع غُلَام، وَالْمرَاد بأغيلمة بني عبد الْمطلب صبيانهم. قَوْله: (فَحمل وَاحِدًا) أَي: فَحمل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاحِدًا من أغيلمة بني عبد الْمطلب بَين يَدَيْهِ (وَآخر) أَي: وَحمل آخر مِنْهُم خَلفه، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته.
وَفِيه: جَوَاز ركُوب الثَّلَاثَة فَأكْثر على دَابَّة عِنْد الطَّاقَة، وَمَا روى من كَرَاهَة ركُوب الثَّلَاثَة على دَابَّة لَا يَصح، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) . وَفِيه: تلقي القادمين من الْحَج إِكْرَاما لَهُم وتعظيما لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر تلقيهم، بل سر بِهِ لحمله مِنْهُم بَين يَدَيْهِ وَخَلفه. انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا ذهل مثل ذَاك الْقَائِل الْمَذْكُور عَن قريب، وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِيهِ تلقي القادمين من الْحَج، بل فِيهِ تلقي القادمين لِلْحَجِّ، كَمَا ذَكرْنَاهُ، نعم، يُمكن أَن يُؤْخَذ مِنْهُ تلقي القادمين من الْحَج، وَكَذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ من قدم من جِهَاد أَو سفر، لِأَن فِي ذَلِك تأنيسا لَهُم وتطييبا لقُلُوبِهِمْ.
41 - (بابُ القُدُومِ بِالغَدَاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب قدوم الْمُسَافِر إِلَى منزله بِالْغَدَاةِ أَي بغدوة النَّهَار.
9971 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ الحَجَّاجِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِيَاضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا خَرَجَ إلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ(10/133)
وإذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي وباتَ حَتَّى يُصْبِحَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على طَرِيق الشَّجَرَة فِي أَوَائِل كتاب الْحَج فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض ... إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن أَحْمد بن الْحجَّاج، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْجِيم الأولى، يكنى بِأبي الْعَبَّاس الذهلي الشَّيْبَانِيّ، مَاتَ يَوْم عَاشُورَاء من سنة ثِنْتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده.
51 - (بابُ الدُّخُولِ بِالعَشِيِّ)
أَي: هَذَا بَاب دُخُول الْمُسَافِر إِلَى أَهله بالْعَشي، وَهُوَ من وَقت الزَّوَال إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَيُطلق أَيْضا على مَا بعد الْغُرُوب إِلَى الْعَتَمَة، وَلَكِن المُرَاد هُنَا الأول، وَإِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة عقيب التَّرْجَمَة الأولى ليبين أَن الدُّخُول فِي الْغَدَاة لَا يتَعَيَّن، وَإِنَّمَا لَهُ الدُّخُول بِالْغَدَاةِ والعشي، والمنهي عَنهُ هُوَ الدُّخُول لَيْلًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَان الْعلَّة فِيهِ فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
0081 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَطْرُقُ أهْلَهُ كانَ لاَ يَدْخُلُ إلاَّ غُدْوَةً أوْ عَشِيَّةً
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو عَشِيَّة) ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَهَمَّام بن يحيى العوذي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن يزِيد بن هَارُون، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن هَارُون بن عبد الله.
قَوْله: (لَا يطْرق) ، بِضَم الرَّاء من الطروق، وَهُوَ الْإِتْيَان بِاللَّيْلِ، يَعْنِي: لَا يدْخل على أَهله لَيْلًا إِذا قدم من سفر، وَإِنَّمَا كَانَ يدْخل غدْوَة النَّهَار أَو عشيته وَقد مضى تَفْسِيرهَا. وَفِي بعض النّسخ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يطْرق أَهله لَيْلًا) وَالأَصَح: لَا يطْرق أَهله بِدُونِ لفظ لَيْلًا، لِأَن الطروق لَا يكون إلاَّ بِاللَّيْلِ، كَمَا ذكرنَا فَإِن قلت: فِي حَدِيث جَابر الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب: (نهى أَن يطْرق أَهله لَيْلًا؟) قلت: هَذَا يكون للتَّأْكِيد أَو يكون على لُغَة من قَالَ: إِن طرق يسْتَعْمل بِالنَّهَارِ أَيْضا، حَكَاهُ ابْن فَارس.
51 - (بابُ الدُّخُولِ بِالعَشِيِّ)
أَي: هَذَا بَاب دُخُول الْمُسَافِر إِلَى أَهله بالْعَشي، وَهُوَ من وَقت الزَّوَال إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَيُطلق أَيْضا على مَا بعد الْغُرُوب إِلَى الْعَتَمَة، وَلَكِن المُرَاد هُنَا الأول، وَإِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة عقيب التَّرْجَمَة الأولى ليبين أَن الدُّخُول فِي الْغَدَاة لَا يتَعَيَّن، وَإِنَّمَا لَهُ الدُّخُول بِالْغَدَاةِ والعشي، والمنهي عَنهُ هُوَ الدُّخُول لَيْلًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَان الْعلَّة فِيهِ فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
0081 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَطْرُقُ أهْلَهُ كانَ لاَ يَدْخُلُ إلاَّ غُدْوَةً أوْ عَشِيَّةً
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو عَشِيَّة) ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَهَمَّام بن يحيى العوذي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن يزِيد بن هَارُون، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن هَارُون بن عبد الله.
قَوْله: (لَا يطْرق) ، بِضَم الرَّاء من الطروق، وَهُوَ الْإِتْيَان بِاللَّيْلِ، يَعْنِي: لَا يدْخل على أَهله لَيْلًا إِذا قدم من سفر، وَإِنَّمَا كَانَ يدْخل غدْوَة النَّهَار أَو عشيته وَقد مضى تَفْسِيرهَا. وَفِي بعض النّسخ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يطْرق أَهله لَيْلًا) وَالأَصَح: لَا يطْرق أَهله بِدُونِ لفظ لَيْلًا، لِأَن الطروق لَا يكون إلاَّ بِاللَّيْلِ، كَمَا ذكرنَا فَإِن قلت: فِي حَدِيث جَابر الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب: (نهى أَن يطْرق أَهله لَيْلًا؟) قلت: هَذَا يكون للتَّأْكِيد أَو يكون على لُغَة من قَالَ: إِن طرق يسْتَعْمل بِالنَّهَارِ أَيْضا، حَكَاهُ ابْن فَارس.
61 - (بابٌ لاَ يَطْرُقُ أهْلَهُ إذَا بلَغَ المَدِينَةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن القادم من سفر لَا يطْرق أَهله إِذا بلغ الْمَدِينَة، أَي الْبَلَد الَّذِي يقْصد دُخُولهَا، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: إِذا دخل الْمَدِينَة يَعْنِي إِذا أَرَادَ دُخُولهَا لَا يطْرق لَيْلًا، وَالْحكمَة فِيهِ مبينَة فِي حَدِيث جَابر، ذكره البُخَارِيّ مطولا فِي: بَاب عشرَة النِّسَاء، وَهِي كَرَاهَة أَن يهجم مِنْهَا على مَا يقبح عِنْده اطِّلَاعه عَلَيْهِ، فَيكون سَببا إِلَى بغضها وفراقها، فنبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا تدوم بِهِ الإلفة بَينهم وتتأكد الْمحبَّة، فَيَنْبَغِي لمن أَرَادَ الْأَخْذ بأدب أَن يجْتَنب مُبَاشرَة أَهله فِي حَال البذاذة وَغير النَّظَافَة، وَأَن لَا يتَعَرَّض لرؤية عَورَة يكرهها مِنْهَا، ألاَ يُرَى أَن الله تَعَالَى أَمر من لم يبلغ الْحلم بالاستئذان فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة فِي الآبية، لما كَانَت هَذِه الْأَوْقَات أَوْقَات التجرد وَالْخلْوَة، خشيَة الإطلاع على العورات وَمَا يكره النّظر إِلَيْهِ.
1081 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ محَارِبٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ نهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَطْرُقَ أهْلَهُ لَيْلاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومحارب، بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن دثار ضد الشعار السدُوسِي الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن آدم، وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن حَفْص بن عمر وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن عَمْرو بن مَنْصُور.
قَوْله: (نهى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) النَّهْي للتنزيه لَا للتَّحْرِيم،(10/134)
وَذَلِكَ لِئَلَّا يكون كمن يتطلب عثراتها، أَو يُرِيد كشف أستارها. قَوْله: (أَن يطْرق) أَي: عَن أَن يطْرق، أَي: عَن الطروق وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وانتصاب لَيْلًا على الظَّرْفِيَّة.
71 - (بابُ مَنْ أسْرَعَ ناقَتَهُ إذَا بلغَ المَدِينَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أسْرع نَاقَته قَالَ الْكرْمَانِي: أَصله أسْرع بناقته، فنصب بِنَزْع الْخَافِض مِنْهُ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: أسْرع نَاقَته لَيْسَ بِصَحِيح، وَالصَّوَاب أسْرع بناقته، يَعْنِي: لَا يتَعَدَّى بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا يتَعَدَّى بِالْبَاء. قلت: كل مِنْهُمَا ذهل عَمَّا قَالَه صَاحب (الْمُحكم) إِن أسْرع يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وَيَتَعَدَّى بِالْبَاء، وَلم يطلعا على ذَلِك، فأوله الْكرْمَانِي بِمَا ذكره، وَخَطأَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، فَلَو وَقفا على ذَلِك لما تعسفا، وَفِي بعض النّسخ: بَاب من يسْرع نَاقَته، بِلَفْظ الْمُضَارع.
2081 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أخبرَنِي حُمَيْدٌ أنَّهُ سَمِعَ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يقُولُ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا قدِمَ مِنْ سَفَرٍ فأبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أوْضَعَ ناقَتَهُ وإنْ كانَتْ دَابَّةً حرَّكَهَا.
(الحَدِيث 2081 طرفه فِي: 6881) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أوضع نَاقَته) أَي: أسْرع السّير، وَمُحَمّد بن جَعْفَر هُوَ ابْن أبي كثير الْمدنِي أَخُو إِسْمَاعِيل، وَحميد هُوَ الطَّوِيل.
والْحَدِيث انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ نعم فِي مُسلم: (عَن أنس لما وصف فَقَوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من خَيْبَر: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا جدر الْمَدِينَة، غشينا إِلَيْهَا فرفعنا مطيتنا، وَرفع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مطيته.
قَوْله: (فأبصر دَرَجَات الْمَدِينَة) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَالرَّاء وَالْجِيم: جمع دَرَجَة، وَالْمرَاد: طرقها المرتفعة. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : يَعْنِي الْمنَازل، وَالْأَشْبَه الجدرات. والدرجات هِيَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (دوحات) ، بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا حاء مُهْملَة: جمع دوحة، وَهِي الشَّجَرَة الْعَظِيمَة المتسعة، وَيجمع أَيْضا على: دوح وأدواح جمع الْجمع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الدوائح العظائم وَكَأَنَّهُ جمع دائحة، وَإِن لم يتَكَلَّم بِهِ، والدوحة: المظلة الْعَظِيمَة، والدوح بِغَيْر هَاء الْبَيْت الضخم الْكَبِير من الشّعْر، وَفِي (شرح المعلقات) لأبي بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، يُقَال: شَجَرَة دوحة إِذا كَانَت عَظِيمَة كَثِيرَة الْوَرق والأغصان. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الدوح الْعِظَام من الشَّجَرَة من أَي نوع كَانَ من الشّجر. قَوْله: (أوضع نَاقَته) ، يُقَال: وضع الْبَعِير أَي أسْرع فِي مَشْيه، وأوضعه رَاكِبه أَي: حمله على السّير السَّرِيع. قَوْله: (وَإِن كَانَت دَابَّة) ، كَانَ فِيهِ تَامَّة، وَالدَّابَّة أَعم من النَّاقة وَقَوله: (حركها) جَوَاب: إِن.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله زَادَ الحَارِثُ بنُ عُمَيْرٍ عنْ حُمَيْدٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا
أَبُو عَبْد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، والْحَارث بن عُمَيْر مصغر عَمْرو الْبَصْرِيّ، نزل مَكَّة. وَأَرَادَ أَن الْحَارِث بن عُمَيْر روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن حميد الْمَذْكُور عَن أنس، وَزَاد فِي رِوَايَته: (حركها من حبها) أَي: حرك دَابَّته بِسَبَب حب الْمَدِينَة وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الإِمَام أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق حَدثنَا الْحَارِث بن عُمَيْر عَن حميد الطَّوِيل (عَن أنس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا قدم من سفر فَنظر إِلَى جدرات الْمَدِينَة أوضع نَاقَته، وَإِن كَانَ على دَابَّة حركها من حبها) . وروى هَذِه اللَّفْظَة أَيْضا التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن حجر: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد عَن أنس، وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب.
وَفِيه: دلَالَة على فضل الْمَدِينَة وعَلى مَشْرُوعِيَّة حب الوطن والحنة إِلَيْهِ.
حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ قَالَ جُدُرَاتٍ
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن جَعْفَر بن أبي كثير الْمدنِي، والجدرات، بِضَم الْجِيم وَالدَّال: جمع جدر، بِضَمَّتَيْنِ جمع: جِدَار. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: جدران، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الدَّال وَفِي آخِره نون، جمع جِدَار. وَقد أورد البُخَارِيّ طَرِيق قُتَيْبَة هَذَا فِي فَضَائِل الْمَدِينَة بِلَفْظ الْحَارِث بن عُمَيْر، إلاَّ أَنه قَالَ: رَاحِلَته، بدل: نَاقَته.(10/135)
تابَعَهُ الحَارِثُ بنُ عُمَيْرٍ
أَي: تَابع إِسْمَاعِيل الْحَارِث بن عُمَيْر فِي قَوْله: جدرات، وروى أَحْمد رِوَايَة الْحَارِث كَمَا ذَكرنَاهَا عَن قريب.
81 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وٍّ أتُوا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} (الْبَقَرَة: 981) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة.
3081 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ نَزَلَتْ هذهِ الآيَةُ فِينَا كانَتِ الأنْصَارُ إذَا حَجُّوا فَجَاؤا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أبْوَابِ بُيُوتِهِمْ ولَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا فَجاءَ رَجُلٌ منَ الأنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بابِهِ فَكَأنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ {ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا} (الْبَقَرَة: 981) .
(الحَدِيث 3081 طرفه فِي: 2154) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبيد الله السبيعِي الْكُوفِي رَحمَه الله.
قَوْله: (كَانَت الْأَنْصَار إِذا حجُّوا فجاؤا) ، قَالَ بَعضهم: هَذَا ظَاهر فِي اخْتِصَاص ذَلِك بالأنصار؟ قلت: لَا نسلم دَعْوَى الِاخْتِصَاص فِي ذَلِك، لِأَن هَذَا إِخْبَار عَن الْأَنْصَار أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي ذَلِك عَن غَيرهم، وَقد روى ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من طَرِيق عمار بن زُرَيْق عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان (عَن جَابر، قَالَ: كَانَت قُرَيْش تدعى الحمس، وَكَانُوا يدْخلُونَ من الْأَبْوَاب فِي الْإِحْرَام، وَكَانَت الْأَنْصَار وَسَائِر الْعَرَب لَا يدْخلُونَ من الْأَبْوَاب، فَبَيْنَمَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بُسْتَان فَخرج من بَابه، فَخرج مَعَه قُطْبَة بن عَامر الْأنْصَارِيّ، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِن قُطْبَة رجل فَاجر، فَإِنَّهُ خرج مَعَك من الْبَاب. فَقَالَ: مَا حملك على ذَلِك؟ قَالَ: رَأَيْتُك فعلته فَفعلت كَمَا فعلت، قَالَ: إِنِّي أحمس. قَالَ: فَإِن ديني دينك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة) . وَفِي (تَفْسِير) مقَاتل بن سُلَيْمَان: كَانَت الْأَنْصَار فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا أحرم أحدهم بِالْحَجِّ أَو الْعمرَة وَهُوَ من أهل الْمدر، وَهُوَ مُقيم فِي أَهله لم يدْخل منزله من قبل الْبَاب، وَلَكِن يوضع لَهُ سلم فيصعد عَلَيْهِ وينحدر مِنْهُ، أَو يتسور من الْجِدَار أَو ينقب بعض جدره، فَيدْخل مِنْهُ وَيخرج، فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يتَوَجَّه إِلَى مَكَّة محرما، وَإِن كَانَ من أهل الْوَبر دخل وَخرج من وَرَاء بَيته، وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل يَوْمًا نخلا لبني النجار، وَدخل مَعَه قُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ من قبل الْجِدَار، وَهُوَ محرم، فَلَمَّا خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبَاب وَهُوَ محرم خرج مَعَه قُطْبَة من الْبَاب، فَقَالَ رجل: هَذَا قُطْبَة! فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا حملك أَن تخرج من الْبَاب وَأَنت محرم؟ فَقَالَ: يَا نَبِي الله رَأَيْتُك خرجت من الْبَاب وَأَنت محرم، فَخرجت مَعَك، وديني دينك. فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خرجت لِأَنِّي من الحمس. فَقَالَ قُطْبَة: إِن كنت أحمس فَأَنا أحمس، وَقد رضيت بهداك. فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر} (الْبَقَرَة: 981) . قَوْله: (فجَاء رجل) ، قيل: إِنَّه هُوَ قُطْبَة بن عَامر الْمَذْكُور. وَقيل: هُوَ رِفَاعَة بن تَابُوت، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ عبد بن حميد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن قيس بن جرير أَن النَّاس كَانُوا إِذا أَحْرمُوا وَلم يدخلُوا حَائِطا من بَابه وَلَا دَارا من بَابهَا، فَدخل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه دَارا، وَكَانَ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ رِفَاعَة بن تَابُوت، فجَاء فتسور الْحَائِط، ثمَّ دخل على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا خرج من بَاب الدَّار خرج مَعَه رِفَاعَة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا حملك على ذَلِك؟ قَالَ: رَأَيْتُك خرجت مِنْهُ فَخرجت. فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي أحمس. فَقَالَ الرجل: إِن ديننَا وَاحِد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قلت: هَذَا مُرْسل، وَحَدِيث جَابر مُسْند وَهُوَ أقوى. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يحمل على التَّعَدُّد؟ قلت: لَا مَانع من هَذَا، وَلَكِن ثمَّة مَانع آخر لِأَن رِفَاعَة بن تَابُوت مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين، وَهُوَ الَّذِي هبت الرّيح الْعَظِيمَة لمَوْته، كَمَا وَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مُبْهما، وَفِي غَيره مُفَسرًا، فَيتَعَيَّن أَن يكون ذَلِك الرجل قُطْبَة بن عَامر، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا أَن فِي مُرْسل الزُّهْرِيّ عِنْد الطَّبَرِيّ: فَدخل رجل من الْأَنْصَار من بني سَلمَة، وَقُطْبَة من بني سَلمَة، بِخِلَاف رِفَاعَة. قَوْله: (من قبل بَابه) ، بِكَسْر الْقَاف(10/136)
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (فَكَأَنَّهُ عير) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة على صِيغَة الْمَجْهُول من التعيير. وَهُوَ التعييب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال، عيره كَذَا، والعامة تَقول: عيره بِكَذَا، قَوْله: (فَنزلت) أَي: هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} (الْبَقَرَة: 981) . الْآيَة. وَحَدِيث الْبَاب يدل على أَن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا ذكر فِيهِ. وروى عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا زيد بن حباب عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة: سَمِعت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ يَقُول: كَانَ الرجل إِذا اعْتكف لم يدْخل منزله من بَاب الْبَيْت، فَنزلت الْآيَة. وَحدثنَا عِصَام بن رواد حَدثنَا آدم عَن ابْن شيبَة عَن عَطاء، قَالَ: كَانَ أهل يثرب إِذا رجعُوا من عِنْدهم دخلُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا، ويريدون أَن ذَلِك أدنى إِلَى الْبر، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر} (الْبَقَرَة: 981) . الْآيَة. وَحدثنَا الْحسن بن أَحْمد حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن بشار، حَدثنِي سرُور بن الْمُغيرَة عَن عباد بن مَنْصُور عَن الْحسن، قَالَ: كَانَ أَقوام من أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا أَرَادَ أحدهم سفرا أَو خرج من بَيته يُرِيد سفرا، ثمَّ بدا لَهُ من بعد خُرُوجه أَن يُقيم ويدع سَفَره الَّذِي خرج لَهُ لم يدْخل الْبَيْت من بَابه، وَلَكِن يتسوره من قبل ظَهره تسورا، فَنزلت الْآيَة. وَقَالَ الزّجاج: كَانَ قوم من قُرَيْش وَجَمَاعَة مَعَهم من الْعَرَب إِذا خرج الرجل مِنْهُم فِي حَاجَة فَلم يقضها وَلم يَتَيَسَّر لَهُ رَجَعَ فَلم يدْخل من بَاب بَيته سنة يفعل ذَلِك طيرة، فأعلمهم الله تَعَالَى أَن هَذَا غير بر. وَقَالَ النَّسَفِيّ: كَانَت الحمس، وهم المشددون على أنفسهم من بني خُزَاعَة وَبني كنَانَة فِي الْجَاهِلِيَّة وبدء الأسلام، إِذا أَحْرمُوا أَو اعتكفوا لم يدخلُوا بُيُوتهم من أَبْوَابهَا، فَإِن كَانَت فِي بُيُوتهم من الْخيام رفعوا ذيولها، وَإِن كَانَت من الْمدر نقبوا فِي ظُهُور بُيُوتهم فَدَخَلُوا مِنْهَا، أَو من قبل السَّطْح. وَقَالُوا: لَا ندخل بُيُوتًا من الْبَاب حَتَّى ندخل بَيت الله، وَكَانَ مِنْهُم من لَا يستظل تَحت سقف بعد إِحْرَامه، وَلَا يدْخل بَيْتا من بَابه وَلَا من خَلفه، وَلَكِن يصعد السَّطْح فيأمر بحاجته من السَّطْح، وَهَذِه الْأَشْيَاء وضعوها من عِنْد أنفسهم من غير شرع، فعرفهم الله تَعَالَى أَن هَذَا التَّشْدِيد لَيْسَ ببر، وَلَا قربَة. وَفِي (التلويج) وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ من أهل التَّفْسِير: إِنَّهُم الحمس، وهم قوم من قُرَيْش، وَبَنُو عَامر بن صعصعة وَثَقِيف وخزاعة كَانُوا إِذا أَحْرمُوا لَا يأفطون الأقط، وَلَا يَنْتَفِعُونَ الْوَبر، وَلَا يسلون السّمن، وَإِذا خرج أحدهم من الْإِحْرَام لم يدْخل من بَاب بَيته، فَنزلت الْآيَة. فَإِن قلت: مَتى نزلت الْآيَة الْمَذْكُورَة؟ قلت: روى أَبُو جَعْفَر فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا عَمْرو بن هَارُون، حَدثنَا عَمْرو بن حَمَّاد حَدثنَا أَسْبَاط (عَن السّديّ: كَانَ نَاس من الْعَرَب إِذا حجُّوا لم يدخلُوا بُيُوتهم من أَبْوَابهَا، كَانُوا ينقبون من أدبارها، فَلَمَّا حج سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع، أقبل يمشي وَمَعَهُ رجل من أُولَئِكَ، وَهُوَ مُسلم، فَلَمَّا بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاب الْبَيْت احْتبسَ الرجل خَلفه، وَقَالَ يَا رَسُول الله! إِنِّي أحمس. يَقُول: محرم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أَيْضا أحمس، فَادْخُلْ فَدخل الرجل فَنزلت الْآيَة) وروى ابْن جرير من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْقِصَّة وَقعت أول مَا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَجَاء فِي مُرْسل الزُّهْرِيّ أَن ذَلِك وَقع فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة.
91 - (بابٌ السَّفرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب، قيل: أَشَارَ البُخَارِيّ بإيراد هَذِه التَّرْجَمَة فِي أَوَاخِر أَبْوَاب الْحَج وَالْعمْرَة إِلَى أَن الْإِقَامَة فِي الْأَهْل أفضل من المجاهدة، ورد بِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيث عَائِشَة، بِلَفْظ: (إِذا قضى أحدكُم حجه فليعجل إِلَى أَهله) . قلت: لَا وَجه لما ذكرُوا، بل الْوَجْه أَن الْمَذْكُور فِي الْأَبْوَاب السَّبْعَة الْمَذْكُورَة قبل هَذَا الْبَاب كلهَا وَاقع فِي ضمن السّفر، وَالسّفر لَا يَخْلُو عَن مشقة من كل وَجه، فَنَاسَبَ أَن يُنَبه على شَيْء من حَال السّفر، فَذكر هَذَا الحَدِيث. (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) ، وَترْجم عَلَيْهِ، وَرُوِيَ: (السّفر قِطْعَة من النَّار) ، وَلَا أعلم صِحَّته.
4081 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ونَوْمَهُ فإذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إلَى أهلِهِ.(10/137)
مطابقته للتَّرْجَمَة هِيَ أَنه جعل التَّرْجَمَة جُزْءا من الحَدِيث، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: القريشي المَخْزُومِي أَبُو عبد الله الْمدنِي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن يُوسُف. وَفِي الْأَطْعِمَة عَن أبي نعيم. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي، وَإِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس، وَأبي مُصعب الزُّهْرِيّ وَمَنْصُور بن أبي مُزَاحم، وقتيبة بن سعيد وَيحيى بن يحيى، كلهم عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَمُحَمّد بن الْمثنى، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعيد عَن مَالك بِهِ.
ذكر رجال هَذَا الحَدِيث قَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ مَالك عَن سمي، وَلَا يَصح لغيره، وَانْفَرَدَ بِهِ سمي أَيْضا فَلَا يحفظ عَن غَيره، وَهَكَذَا هُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) عِنْد جمَاعَة الروَاة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَرَوَاهُ ابْن مهْدي عَن بشر بن عمر عَن مَالك مُرْسلا، وَكَانَ وَكِيع يحدث بِهِ عَن مَالك حينا مُرْسلا، وحينا يسْندهُ كَمَا فِي (الْمُوَطَّأ) والمسند صَحِيح ثَابت احْتِيَاج النَّاس إِلَيْهِ عَن مَالك، وَلَيْسَ لَهُ غير هَذَا الْإِسْنَاد من وَجه يَصح، وروى عبيد الله بن المنتاب عَن سُلَيْمَان بن إِسْحَاق الطلحي عَن هَارُون الْفَروِي عَن عبد الْملك بن الْمَاجشون، قَالَ: قَالَ مَالك: مَا بَال أهل الْعرَاق يَسْأَلُونِي عَن حَدِيث: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) ، قيل لَهُ: لم يروه غَيْرك، فَقَالَ: لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا حدثت بِهِ، وَرَوَاهُ عِصَام بن رواد بن الْجراح عَن أَبِيه عَن مَالك عَن ربيعَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَعَن مَالك عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) قَالَ أَبُو عَمْرو: حَدِيث رواد عَن مَالك عَن ربيعَة عَن الْقَاسِم غير مَحْفُوظ، لَا أعلم رَوَاهُ عَن مَالك غَيره، وَهُوَ (خطأ) وَلَيْسَ رواد مِمَّن يحْتَج وَلَا يعول عَلَيْهِ، وَقد رَوَاهُ خَالِد بن مخلد وَمُحَمّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي عَن مَالك عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَا يَصح لمَالِك عَن سُهَيْل عِنْدِي إلاَّ أَنه لَا يبعد أَن يكون عَن سُهَيْل أَيْضا، وَلَيْسَ بِمَعْرُوف لمَالِك عَنهُ، وَقد روى عَن عَتيق بن يَعْقُوب عَن مَالك عَن أبي النَّضر مولى عمر بن عبيد الله عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَلَا يَصح أَيْضا عِنْدِي، وَإِنَّمَا هُوَ مَالك عَن سمي لَا عَن سُهَيْل وَلَا ربيعَة، وَلَا عَن أبي النَّضر. وَقد رَوَاهُ بعض الضُّعَفَاء عَن مَالك، فَقَالَ: وليتخذ لأَهله هَدِيَّة وَإِن لم يلق إلاَّ حجرا فليلقه فِي مخلاته. قَالَ: وَالْحِجَارَة يَوْمئِذٍ يضْرب بهَا القداح. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: هَذِه زِيَادَة مُنكرَة لَا تصح، وَرَوَاهُ ابْن سمْعَان عَن زيد بن أسلم عَن جمْهَان عَن أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) وَابْن سمْعَان كَانَ مَالك يرميه بِالْكَذِبِ، قَالَ: وَقد روينَاهُ عَن الدَّرَاورْدِي عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد صَالح، لَكِن لَا تقوى الْحجَّة بِهِ، وَفِيه: (وَإِذا عرستم فتجنبوا الطَّرِيق فَإِنَّهَا مأوى الْهَوَام وَالدَّوَاب) .
قَوْله: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) أَي: جُزْء مِنْهُ، وَالْمرَاد بِالْعَذَابِ الْأَلَم الناشيء عَن الْمَشَقَّة. قَوْله: (يمْنَع أحدكُم) ، جملَة استئنافية، فَلذَلِك فصلها عَمَّا قبلهَا، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَمَّا يُقَال: لم كَانَ السّفر كَذَلِك؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ يمْنَع أحدكُم طَعَامه، أَي لَذَّة طَعَامه. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد أَنه يمنعهُ الطَّعَام فِي الْوَقْت الَّذِي يَسْتَوْفِيه مِنْهُ لغدائه وعشائه، وَالنَّوْم كَذَلِك يمنعهُ فِي وقته، وَاسْتِيفَاء الْقدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ. وَقد ورد التَّعْلِيل فِي رِوَايَة سعيد المَقْبُري بِلَفْظ: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب لِأَن الرجل يشْتَغل فِيهِ عَن صلَاته وصيامه) الحَدِيث، وَالْمرَاد بِالْمَنْعِ فِي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَيْسَ منع حَقِيقَتهَا، وَإِنَّمَا المُرَاد منع كمالها على مَا لَا يخفى، وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (لَا يهنأ أحدكُم نَومه وَلَا طَعَامه وَلَا شرابه) ، وَفِي حَدِيث ابْن عمر عِنْد ابْن عدي: (فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَوَاء (إلاَّ سرعَة السّير) . قَوْله: (فَإِذا قضى نهمته) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء أَي: حَاجته، وَقَالَ ابْن التِّين: وضبطناه أَيْضا بِكَسْر النُّون. وَفِي (الموعب) : النهمة: بُلُوغ الهمة بالشَّيْء، وَهُوَ منهوم بِكَذَا، أَي مولع لَا ينشرح وَتقول: قضيت مِنْهُ نهمتي، أَي: حَاجَتي، وَعَن أبي زيد: المنهوم، الَّذِي يمتلىء بَطْنه، وَلَا تَنْتَهِي حَاجته وَعَن أبي الْعَبَّاس: نهم ونهم. بِمَعْنى. قَوْله: (فليعجل إِلَى أَهله) ، وَفِي رِوَايَة عَتيق ابْن يَعْقُوب، وَسَعِيد المَقْبُري: (فليعجل الرُّجُوع إِلَى أَهله) ، وَفِي رِوَايَة مُصعب (فليعجل الكرة إِلَى أَهله) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: (فليعجل الرحلة إِلَى أَهله فَإِنَّهُ أعظم لأجره) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: كَرَاهَة التغرب عَن الْأَهْل بِغَيْر حَاجَة، واستحباب استعجال الرُّجُوع، وَلَا سِيمَا من يخْشَى عَلَيْهِم الضَّيْعَة بالغيبة وَلما فِي الْإِقَامَة فِي الْأَهْل من الرَّاحَة الْمعينَة على صَلَاح الدّين وَالدُّنْيَا، وَلما فِيهَا من تَحْصِيل الْجَمَاعَات وَالْجمعَات وَالْقُوَّة على الْعِبَادَات. وَالْعرب تشبه الرجل فِي أَهله بالأمير. وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى:(10/138)
{وجعلكم ملوكا} (آل عمرَان: 02) . قَالَ: من كَانَ لَهُ دَار وخادم فَهُوَ دَاخل فِي معنى الْآيَة. وَقد أخبر الله تَعَالَى بلطف مَحل الْأزْوَاج من أَزوَاجهنَّ بقوله: {وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة} (الرّوم: 12) . فَقيل: الْمَوَدَّة الْجِمَاع وَالرَّحْمَة الْوَلَد. فَإِن قلت: روى وَكِيع عَن مَالك عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو يعلم النَّاس مَا لمسافر لأصبحوا على الظّهْر سفرا، إِن الله لينْظر إِلَى الْغَرِيب فِي كل يَوْم مرَّتَيْنِ) . وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَرْفُوعا: (سافروا تغنموا) . وَفِي رِوَايَة: (تُرْزَقُوا) . ويروى: (سافروا تصحوا) . فَهَذَا معَارض لحَدِيث الْبَاب. قلت: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا أصل لَهُ من حَدِيث مَالك وَلَا غَيره. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر فقد قَالَ ابْن بطال: لَا تعَارض بَينه وَبَين حَدِيث الْبَاب، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من الصِّحَّة بِالسَّفرِ لما فِيهِ من الرياضة أَن لَا يكون قِطْعَة من الْعَذَاب لما فِيهِ من الْمَشَقَّة فَصَارَ كالدواء المر المعقب للصِّحَّة، وَإِن كَانَ فِي تنَاوله الْكَرَاهَة.
واستنبط مِنْهُ الْخطابِيّ: تغريب الزَّانِي لِأَنَّهُ قد أَمر بتعذيبه، وَالسّفر من جملَة الْعَذَاب، وَفِيه مَا فِيهِ على مَا لَا يخفى.
02 - (بابُ المُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إلَى أهْلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمُسَافِر إِذا جد بِهِ السّير أَي: إِذا اهتم بِهِ وأسرع فِيهِ، يُقَال: جد يجد من بَاب نصر ينصر، وجد يجد من بَاب ضرب يضْرب. قَوْله: (يعجل إِلَى أَهله) جَوَاب: إِذا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي: (ويعجل إِلَى أَهله) . بِالْوَاو، وَالْجَوَاب حِينَئِذٍ مَحْذُوف، تَقْدِيره: مَاذَا يصنع؟ ويعجل، بِضَم الْيَاء من: بَاب التَّعْجِيل، ويروى: (تعجل) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من بَاب التعجل.
381 - (حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ أَخْبرنِي زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ كنت مَعَ عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بطرِيق مَكَّة فَبَلغهُ عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد شدَّة وجع فأسرع السّير حَتَّى إِذا كَانَ بعد غرُوب الشَّفق نزل فصلى الْمغرب وَالْعَتَمَة جمع يبنهما ثمَّ قَالَ إِنِّي رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا جد بِهِ السّير أخر الْمغرب وَجمع بَينهمَا) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب تَقْصِير الصَّلَاة فِي بَاب يُصَلِّي الْمغرب ثَلَاثًا فِي السّفر وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى وَصفِيَّة بنت أبي عبيد الثقفية زَوْجَة عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَكَانَت من الصَّالِحَات العابدات توفيت فِي حَيَاة عبد الله بن عَمْرو وَأَبُو عبيد بن مَسْعُود بن عَمْرو بن عُمَيْر بن عَوْف بن عُبَيْدَة بن غيرَة بن عَوْف بن ثَقِيف الثَّقَفِيّ وَذكر أَبُو عمر أَبَا عبيد هَذَا من الصَّحَابَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَبُو عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَالِد الْمُخْتَار الْكذَّاب وَصفِيَّة أسلم فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأمره عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على جَيش كثيف وَقَالَ لَا يبعد أَن يكون لَهُ رُؤْيَة وَكَانَ شَابًّا شجاعا خَبِيرا بِالْحَرْبِ والمكيدة مَاتَ فِي وقْعَة جسر الَّذِي يُسمى جسر أبي عبيد وَكَانَ اجْتمع جَيش كثير من الْفرس وَمَعَهُمْ أفيلة كَثِيرَة وَأمر أَبُو عبيد الْمُسلمين أَن يقتلُوا الفيلة أَولا فاحتوشوها فَقَتَلُوهَا عَن آخرهَا وَقد قدمت الْفرس بَين أَيْديهم فيلا أَبيض عَظِيما فَقدم إِلَيْهِ أَبُو عبيد فَضَربهُ بِالسَّيْفِ فَقطع زلومه فَحمل الْفِيل وَحمل عَلَيْهِ فتخبطه بِرجلِهِ فَقتله ووقف فَوْقه وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة وَابْنه الْمُخْتَار ولد عَام الْهِجْرَة وَلَيْسَت لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة حَدِيث وَكَانَ مَعَ أَبِيه يَوْم الجسر وَكَانَ خارجيا ثمَّ صَار زيد يَأْثَم صَار شِيعِيًّا وَكَانَ ممخرقا ابتدع أَشْيَاء كَانَ يزْعم أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَأْتِيهِ بِالْوَحْي وَكَانَ قد وَقع بَينه وَبَين مُصعب بن الزبير حروب فآخر الْأَمر قَتَلُوهُ وجاؤا بِرَأْسِهِ إِلَى مُصعب رَضِي الله عَنهُ وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ من الْهِجْرَة -(10/139)
72 - (كتابُ المُحْصَرِ وجَزَاءِ الصَّيْدِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمحصر وَأَحْكَام جَزَاء الصَّيْد الَّذِي يتَعَرَّض إِلَيْهِ الْمحرم، وَثبتت الْبَسْمَلَة لجَمِيع الروَاة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: أَبْوَاب، بِلَفْظ الْجمع وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب، بِالْإِفْرَادِ.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (الْبَقَرَة: 691) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (الْمحصر) ، أَي: وَفِي بَيَان المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم { (الْبَقَرَة: 691) .
الْكَلَام هَهُنَا على أَنْوَاع:
الأول فِي معنى الْحصْر والإحصار. الْإِحْصَار: الْمَنْع وَالْحَبْس عَن الْوَجْه الَّذِي يَقْصِدهُ، يُقَال: أحصره الْمَرَض أَو السُّلْطَان إِذا مَنعه عَن مقْصده، فَهُوَ محصر،، والحصر الْحَبْس، يُقَال: حصره إِذا حَبسه فَهُوَ مَحْصُور، وَقَالَ القَاضِي إِسْمَاعِيل: الظَّاهِر أَن الْإِحْصَار بِالْمرضِ والحصر بالعدو، وَمِنْه: فَلَمَّا حصر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . وَقَالَ الْكسَائي: يُقَال من الْعَدو: حصر فَهُوَ مَحْصُور، وَمن الْمَرَض: أحْصر فَهُوَ محصر، وَحكى عَن الْفراء أَنه أجَاز كل وَاحِد مِنْهُمَا مَكَان الآخر، وَأنكر الْمبرد والزجاج، وَقَالا: هما مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنى، وَلَا يُقَال فِي الْمَرَض: حصره، وَلَا فِي الْعَدو: أحصره، وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِهِم حَبسه إِذا جعله فِي الْحَبْس، وأحبسه أَي عرضه للحبس، وَقَتله أوقع بِهِ الْقَتْل، وأقتله أَي عرضه للْقَتْل، وَكَذَلِكَ حصره: حَبسه، وأحصره، عرضه للحصر.
النَّوْع الثَّانِي: فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة: ذكرُوا أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي سنة سِتّ، أَي: عَام الْحُدَيْبِيَة حِين حَال الْمُشْركُونَ بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْوُصُول إِلَى الْبَيْت، وَأنزل الله فِي ذَلِك سُورَة الْفَتْح بكمالها، وَأنزل لَهُم رخصَة أَن يذبحوا مَا مَعَهم من الْهَدْي، وَكَانَ سبعين بَدَنَة، وَأَن يتحللوا من إحرامهم، فَعِنْدَ ذَلِك أَمرهم، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن يذبحوا مَا مَعَهم من الْهَدْي وَأَن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا، فَلم يَفْعَلُوا انتظارا للنسخ، حَتَّى خرج فحلق رَأسه، فَفعل النَّاس، وَكَانَ مِنْهُم من قصّ رَأسه وَلم يحلقه، فَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رحم الله المحلقين! قَالُوا: والمقصرين يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَة: والمقصرين) ، وَقد كَانُوا اشْتَركُوا فِي هديهم ذَلِك كل سَبْعَة فِي بَدَنَة، وَكَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة، وَكَانَ منزلهم بِالْحُدَيْبِية خَارج الْحرم، وَقيل: بل كَانُوا على طرف الْحلم.
النَّوْع الثَّالِث فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: قَوْله: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: منعتم عَن تَمام الْحَج وَالْعمْرَة فحللتم: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: فَعَلَيْكُم مَا اسْتَيْسَرَ {من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: مَا تيَسّر مِنْهُ، يُقَال: يسر الْأَمر واستيسر، كَمَا يُقَال: صَعب واستصعب. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْهَدْي جمع هَدِيَّة، كَمَا يُقَال فِي جدية السرج جدي، وقرىء: من الْهَدْي، بِالتَّشْدِيدِ جمع هَدِيَّة، كمطية ومطي، وَحَاصِل الْمَعْنى: فَإِن منعتم من الْمُضِيّ إِلَى الْبَيْت وَأَنْتُم محرمون بِحَجّ أَو عمْرَة فَعَلَيْكُم إِذا أردتم التَّحَلُّل مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي من بعير أَو بقرة أَو شَاة. قَوْله: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم} (الْبَقَرَة: 691) . عطف على قَوْله: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَلَيْسَ مَعْطُوفًا على قَوْله: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . كَمَا زَعمه ابْن جرير، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَام الْحُدَيْبِيَة لما حصرهم كفار قُرَيْش عَن الدُّخُول إِلَى الْحرم حَلقُوا وذبحوا هديهم خَارج الْحرم، وَأما فِي حَال الْأَمْن والوصول إِلَى الْحرم فَلَا يجوز الْحلق حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، ويفرغ الناسك من أَفعَال الْحَج وَالْعمْرَة إِن كَانَ قَارنا أَو من فعل أَحدهمَا إِن كَانَ مُفردا أَو مُتَمَتِّعا.
النَّوْع الرَّابِع: اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْحصْر، بِأَيّ شَيْء يكون، وَبِأَيِّ معنى يكون، فَقَالَ قوم وهم عَطاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ: يكون الْحصْر بِكُل حَابِس من مرض أَو غَيره من عَدو وَكسر وَذَهَاب نَفَقَة وَنَحْوهَا مِمَّا يمنعهُ عَن الْمُضِيّ إِلَى الْبَيْت، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت. وَقَالَ آخَرُونَ، وهم اللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: لَا يكون الْإِحْصَار إِلَّا بالعدو فَقَط، وَلَا يكون بِالْمرضِ، وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر. وَقَالَ الْجَصَّاص فِي (كتاب الْأَحْكَام) وَقد اخْتلف السّلف فِي حكم الْمحصر على ثَلَاثَة أنحاء، رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: الْعَدو وَالْمَرَض سَوَاء، يبْعَث دَمًا، وَيحل بِهِ إِذا أنحر فِي الْحرم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالثَّانِي: قَول ابْن عمر إِن الْمَرِيض لَا يحل وَلَا يكون محصورا إِلَّا بالعدو، وَهُوَ قَول(10/140)
مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالثَّالِث: قَول ابْن الزبير وَعُرْوَة بن الزبير: إِن الْمَرَض والعدو سَوَاء لَا يحل إِلَّا بِالطّوافِ، وَلَا نعلم لَهما مُوَافقا من فُقَهَاء الْأَمْصَار. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) : مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن الْمحصر بِالْمرضِ لَا يحل دون الْبَيْت، وَسَوَاء عِنْد مَالك شَرط عِنْد إِحْرَامه التَّحَلُّل للمرض أَو لم يشْتَرط. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهُ شَرطه. وَقَالَ أَبُو عمر: الْإِحْصَار عِنْد أهل الْعلم على وُجُوه: مِنْهَا: الْمحصر بالعدو. وَمِنْهَا: بالسلطان الجائر. وَمِنْهَا: الْمَرَض وَشبهه. فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما: من أحصره الْمَرَض فَلَا يحله إِلَّا الطّواف بِالْبَيْتِ، وَمن حصر بعدو فَإِنَّهُ ينْحَر هَدْيه حَيْثُ حصر ويتحلل وينصرف وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ إلاَّ أَن تكون ضَرُورَة فيحج الْفَرِيضَة، وَلَا خلاف بَين الشَّافِعِي وَمَالك وأصحابهما فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن وهب وَغَيره: كل من حبس عَن الْحَج بَعْدَمَا يحرم بِمَرَض أَو حِصَار من الْعَدو أَو خَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاك فَهُوَ محصر، فَعَلَيهِ مَا على الْمحصر، وَلَا يحل دون الْبَيْت، وَكَذَلِكَ من أَصَابَهُ كسر وبطن متحرق. وَقَالَ مَالك: أهل مَكَّة فِي ذَلِك كَأَهل الْآفَاق، لِأَن الْإِحْصَار عِنْده فِي الْمَكِّيّ الْحَبْس عَن عَرَفَة خَاصَّة، قَالَ: فَإِن احْتَاجَ الْمَرِيض إِلَى دَوَاء تداوى بِهِ وافتدى، وَهُوَ على إِحْرَامه لَا يحل من شَيْء مِنْهُ حَتَّى يبرأ من مَرضه، فَإِذا برىء من مَرضه مضى إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ سبعا وسعى بَين الصَّفَا والمروة وَحل من حجه أَو عمرته. وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا كُله قَول الشَّافِعِي أَيْضا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: إِذا نحر الْمحصر هَدْيه هَل يحلق رَأسه أم لَا؟ فَقَالَ قوم: لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يحلق لِأَنَّهُ قد ذهب عَنهُ النّسك كُله، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد. وَقَالَ آخَرُونَ: بل يحلق فَإِن لم يحلق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهَذَا قَول أبي يُوسُف. وَقَالَ آخَرُونَ: يحلق وَيجب عَلَيْهِ مَا يجب على الْحَاج والمعتمر، وَهُوَ قَول مَالك.
النَّوْع الْخَامِس فِي الاحتجاجات فِي هَذَا الْبَاب: احْتج الشَّافِعِي وَمن تَابعه فِي هَذَا الْبَاب بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس وَابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس وَابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصر إلاَّ حصر الْعَدو، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصر إلاَّ حصر الْعَدو. فَأَما من أَصَابَهُ مرض أَو وجع أَو ضلال فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء. قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وطاووس وَالزهْرِيّ وَزيد بن أسلم نَحْو ذَلِك، وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن تَابعه فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يحيى بن سعيد حَدثنَا حجاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى، قَالَ: فَذكرت ذَلِك لِابْنِ عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، فَقَالَا: صدق) . فقد أخرجه الْأَرْبَعَة من حَدِيث يحيى بن أبي كثير بِهِ. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَابْن مَاجَه: (من عرج أَو كسر أَو مرض) ، فَذكر مَعْنَاهُ، وَرَوَاهُ عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) ، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وعلقمة وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء وَمُقَاتِل بن حبَان أَنهم قَالُوا: بالإحصار من عَدو أَو مرض أَو كسر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْإِحْصَار من كل شَيْء آذاه قلت: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث حَكَاهُ ابْن جرير وَغَيره، وَهُوَ أَنه: لَا حصر بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
النَّوْع السَّادِس: فِي حكم الْهَدْي: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: من الْأزْوَاج الثَّمَانِية من الْإِبِل وَالْبَقر والمعز والضأن. وَقَالَ الثَّوْريّ عَن حبيب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ شَاة، وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وطاووس وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حبَان مثل ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة وَابْن عمر أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي إلاَّ من الْإِبِل وَالْبَقر وَقد رُوِيَ عَن سَالم وَالقَاسِم وَعُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن جُبَير نَحْو ذَلِك، وَقيل: الظَّاهِر أَن مُسْتَند هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قصَّة الْحُدَيْبِيَة، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم إِنَّه ذبح فِي تحلله ذَاك شَاة، وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِل وَالْبَقر. فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (عَن جَابر، قَالَ: أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نشترك فِي الْإِبِل وَالْبَقر، كل سَبْعَة منَّا فِي بقرة) . وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: بِقدر يسارته. وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: إِن كَانَ مُوسِرًا فَمن الْإِبِل، وإلاَّ فَمن الْبَقر، وإلاَّ فَمن الْغنم.(10/141)
وَقَالَ عطَاءٌ الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ بِحَسَبِهِ
هَذَا التَّعْلِيق عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَصله ابْن أبي شيبَة حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج عَن عَطاء، قَالَ: لَا إحصار إلاَّ من مرض أَو عَدو أَو أَمر حَابِس.
قالَ أبُو عَبْدِ الله حَصُورا لاَ يَأتِي النِّسَاءَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. وَكَانَ دأبه أَنه إِذا ذكر: لفظا جَاءَ فِي الْقُرْآن من مَادَّة ذكر مَا هُوَ بصدده، وَكَانَ الْمَذْكُور هُوَ لفظ الْمحصر فِي التَّرْجَمَة، وَفِي الْآيَة لفظ: أحصرتم، وَذكر: حصورا، الَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآن أَيْضا. وَهُوَ فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 93) . ثمَّ إِنَّه فسر الحصور بقوله: {لَا يَأْتِي النِّسَاء} (آل عمرَان: 83) . وروى هَذَا التَّفْسِير ابْن مَسْعُود. وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد وَأبي الشعْثَاء وعطية الْعَوْفِيّ، وَعَن أبي الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس: هُوَ الَّذِي لَا يُولد لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ الَّذِي لَا يُولد لَهُ وَلَا مَال لَهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا يحيى بن الْمُغيرَة أخبرنَا جرير عَن قَابُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس فِي الحصور الَّذِي لَا ينزل المَاء، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم فِي هَذَا حَدِيثا غَرِيبا. فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو جَعْفَر بن غَالب الْبَغْدَادِيّ حَدثنِي سعيد بن سُلَيْمَان حَدثنَا عباد يَعْنِي ابْن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن الْعَاصِ لَا يدْرِي عبد الله أَو عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 93) . قَالَ: ثمَّ تنَاول شَيْئا من الأَرْض، فَقَالَ: كَانَ ذكره مثل هَذَا، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا أَحْمد بن دَاوُد السجسْتانِي حَدثنَا سُوَيْد بن سعيد حَدثنَا عَليّ بن مسْهر عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من عبد يلقى الله أَلا ذَا ذَنْب إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا فَإِن الله يَقُول: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 93) .) قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذكره مثل هدبة الثَّوْب، وَأَشَارَ بأنمله وَذبح ذبحا) . وروى ابْن أبي حَاتِم أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل ابْن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عَلَيْهِ إِن شَاءَ أَو يرحمه إلاَّ يحيى بن زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ {سيدا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 93) . ثمَّ أَهْوى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قذاة من الأَرْض فَأَخذهَا، وَقَالَ: كَانَ ذكره مثل هَذِه القذاة) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إعلم أَن ثَنَاء الله تَعَالَى على يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ كَمَا قَالَه بَعضهم: إِنَّه كَانَ هيوبا أَو لَا ذكر لَهُ، بل أنكر حذاق الْمُفَسّرين ونقاد الْعلمَاء، وَقَالُوا: هَذَا نقيصة وعيب، وَلَا يَلِيق بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه مَعْصُوم من الذُّنُوب، أَي: لَا يَأْتِيهَا كَأَنَّهُ حصر عَنْهَا. وَقيل: مَانِعا نَفسه عَن الشَّهَوَات، وَقيل: لَيست لَهُ شَهْوَة فِي النِّسَاء، وَالْمَقْصُود أَنه مدح يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ أَنه لَا يَأْتِي النِّسَاء كَمَا قَالَه بَعضهم، بل مَعْنَاهُ: أَنه مَعْصُوم عَن الْفَوَاحِش والقاذورات، وَلَا يمْنَع ذَلِك من تَزْوِيجه بِالنسَاء الْحَلَال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النَّسْل من دُعَاء زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: {هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة} (آل عمرَان: 83) . كَأَنَّهُ سَأَلَ ولدا لَهُ ذُرِّيَّة ونسل وعقب، وَالله تَعَالَى أعلم.
1 - (بابٌ إذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: إِن التَّحَلُّل بالإحصار يخْتَص بالحاج بِخِلَاف الْمُعْتَمِر فَإِنَّهُ لَا يتَحَلَّل بذلك، بل يسْتَمر على إِحْرَامه حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، لِأَن السّنة كلهَا وَقت للْعُمْرَة فَلَا يخْشَى فَوَاتهَا بِخِلَاف الْحَج. رُوِيَ ذَلِك عَن مَالك، وَهُوَ محكي عَن مُحَمَّد بن سِيرِين وَبَعض الظَّاهِرِيَّة، وَاحْتج لَهُم إِسْمَاعِيل القَاضِي بِمَا أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي قلَابَة، قَالَ: خرجت مُعْتَمِرًا فَوَقَعت عَن رَاحِلَتي فَانْكَسَرت، فَأرْسلت إِلَى ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، فَقَالَا: لَيْسَ لَهَا وَقت كَالْحَجِّ، يكون على إِحْرَامه حَتَّى يصل إِلَى الْبَيْت، وَقَضِيَّة الْحُدَيْبِيَة حجَّة تقضي عَلَيْهِم، وَالله أعلم.
382 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف أخبرنَا مَالك عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا حِين خرج إِلَى مَكَّة مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَة قَالَ إِن صددت عَن الْبَيْت صنعت كَمَا صنعنَا مَعَ(10/142)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأهل بِعُمْرَة من أجل أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أهل بِعُمْرَة عَام الْحُدَيْبِيَة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن ابْن عمر صنع فِي عمرته كَمَا صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْحُدَيْبِيَة وَهِي سنة سِتّ حِين صده الْمُشْركُونَ عَن إيصاله إِلَى الْبَيْت فَإِنَّهُ تحلل وَنحر وَحلق كَمَا ذكرنَا. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وفرقه وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى قَوْله " عَن نَافِع أَن عبد الله ابْن عمر " الحَدِيث فِيهِ اخْتِلَاف لِأَن هَذَا يدل على أَن نَافِعًا روى عَن عبد الله بِغَيْر وَاسِطَة وَإسْنَاد الْحَدِيثين الْمَذْكُورين فِي هَذَا الْبَاب عقيب هَذَا الْإِسْنَاد أَولهمَا يدل على أَن نَافِعًا روى عَن سَالم وَعبيد الله ابْني عبد الله بن عمر عَن أَبِيهِمَا فَذكر الحَدِيث وَالثَّانِي يدل على أَن نَافِعًا روى عَن بعض بني عبد الله فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف ذكر البُخَارِيّ الإسنادين الْمَذْكُورين عقيب الْإِسْنَاد الأول على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله " مُعْتَمِرًا " وَذكر فِي الْمُوَطَّأ من هَذَا الْوَجْه خرج إِلَى مَكَّة يُرِيد الْحَج فَقَالَ إِن صددت فَذكره وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ فَإِنَّهُ خرج أَولا يُرِيد الْحَج فَلَمَّا ذكرُوا لَهُ أَمر الْفِتْنَة أحرم بِالْعُمْرَةِ ثمَّ قَالَ مَا شَأْنهمَا إِلَّا وَاحِد فأضاف إِلَيْهَا الْحَج فَصَارَ قَارنا قَوْله " فِي الْفِتْنَة " أَرَادَ بهَا فتْنَة الْحجَّاج حِين نزل ابْن الزبير لقتاله وَقد مر فِي بَاب طواف الْقَارِن من طَرِيق اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ " حِين نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير " وَفِي لفظ مُسلم " حِين نزل الْحجَّاج لقِتَال ابْن الزبير " قَوْله " إِن صددت " أَي منعت وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول وَقَالَ هَذَا الْكَلَام جَوَابا لقَوْل من قَالَه لَهُ أَنا نَخَاف أَن يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت كَمَا أوضحته الرِّوَايَة الَّتِي بعد هَذِه قَوْله " كَمَا صنعنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة فَقَالَ " لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إِذا أصنع كَمَا صنع " وَزَاد فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع فِي بَاب طواف الْقَارِن كَمَا صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " فَأهل " أَي ابْن عمر وَالْمرَاد أَنه رفع صَوته بالإهلال والتلبية قَوْله " من أجل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِلَى آخِره ويروى " من أجل أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ أَنه أَرَادَ إِن صددت عَن الْبَيْت وأحصرت تحللت من الْعمرَة كَمَا تحلل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْعمرَة وَقَالَ القَاضِي عِيَاض يحْتَمل أَن المُرَاد أهل بِعُمْرَة كَمَا أهل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُمْرَة وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ الْأَمريْنِ أَي من الإهلال والإحلال وَهُوَ الْأَظْهر قَوْله " بِعُمْرَة " زَاد فِي رِوَايَة جوَيْرِية " من ذِي الحليفة " وَفِي رِوَايَة أَيُّوب الْمَاضِيَة " فَأهل بِعُمْرَة من الدَّار " وَالْمرَاد بِالدَّار الْمنزل الَّذِي نزله بِذِي الحليفة قيل يحْتَمل أَن يحمل على الدَّار الَّتِي بِالْمَدِينَةِ (قلت) فعلى هَذَا التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يُقَال أَنه أهل بِالْعُمْرَةِ من دَاخل بَيته ثمَّ أظهرها بعد أَن اسْتَقر بِذِي الحليفة -
7081 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ أنَّ عُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ الله وسَالِمَ بنَ عَبْدِ الله قالَ أخْبَرَاهُ أنَّهُمَا كَلَّما عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقالاَ لاَ يَضُرُّكَ أنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ وإنَّا نَخَافُ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وبَيْنَ الْبَيْتِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيَهُ وحَلَقَ رَأسَهُ واشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إنْ شَاَءَ الله أنْطَلِقُ فإنْ خُلِّيَ بَيْنِي وبَيْنَ البَيْتِ طُفْتُ وإنْ حِيلَ بَيْنِي وبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا معَهُ فأهَلَّ بِالعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سارَ ساعَةً ثُمَّ قالَ إنَّمَا شَأنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وأهْدَى وكانَ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوافا واحِدا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَإِن حيل بيني وَبَينه فعلت كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حل من عمرته حَتَّى أَنه نحر هَدْيه وَحلق، فَدلَّ أَن الْمُعْتَمِر إِذا أحْصر بِحل كَمَا يحل الْحَاج إِذا أحْصر، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب طواف الْقَارِن(10/143)
بأوضح مِنْهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي الْبَصْرِيّ ابْن أخي جوَيْرِية بن أَسمَاء، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم، وَهُوَ من الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء.
قَوْله: (أخبراه) أَي: عبيد الله وَسَالم ابْنا عبد الله بن عمر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا بدل عبيد الله: عبد الله مكبرا، وَهُوَ الْمُوَافق للرواية الَّتِي بعده فِي بَاب النَّحْر قبل الْحلق وهما أَخَوان، والمصغر أكبر مِنْهُ. قَوْله: (الْجَيْش) هُوَ جَيش الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، كَانَ نَائِب عبد الْملك بن مَرْوَان. قَوْله: (أشهدكم أَنِّي قد أوجبت) ، أَي: ألزمت نَفسِي ذَلِك، وَكَانَ أَرَادَ تَعْلِيم من يُرِيد الِاقْتِدَاء بِهِ، وإلاَّ فالتلفظ لَيْسَ بِشَرْط. قَوْله: (إِن شَاءَ الله) ، هَذَا تبرك وَلَيْسَ بتعليق، لِأَنَّهُ كَانَ جازكا بِالْإِحْرَامِ بِقَرِينَة: (أشهدكم) ، وَيحْتَمل أَن يكون مُنْقَطِعًا عَمَّا قبله، وَيكون ابْتِدَاء لشرط وَالْجَزَاء: انْطلق. قَوْله: (إِن شَأْنهمَا وَاحِد) أَي: أَن أَمر الْعمرَة وَالْحج وَاحِد فِي جَوَاز التَّحَلُّل مِنْهُمَا بالإحصار. قَوْله: (طَوافا وَاحِدًا) . قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: لَا يحْتَاج الْقَارِن إِلَى طوافين، بل يحل بِطواف وَاحِد. قلت: هَذَا التَّفْسِير لأجل نصْرَة مذْهبه، وَقد قَامَت دَلَائِل أُخْرَى أَن الْقَارِن يحْتَاج إِلَى طوافين وسعيين وتكلمنا فِي هَذَا الْبَاب فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة، فَلْينْظر فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يستعملون الْقيَاس ويحتجون بِهِ، وَأَن الْمحصر بالعدو جَازَ لَهُ التَّحَلُّل سَوَاء كَانَ عَن حجَّة أَو عمْرَة، وَأَنه ينْحَر هَدْيه ويحلق رَأسه أَو يقصر مِنْهُ. وَفِيه: جَوَاز إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، لَكِن شَرطه عِنْد الْجُمْهُور أَن يكون قبل الشُّرُوع فِي طواف الْعمرَة، وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ قبل مُضِيّ أَرْبَعَة أَشْوَاط صَحَّ، وَعند الْمَالِكِيَّة بعد تَمام الطّواف. وَنقل ابْن عبد الْبر أَن أَبَا ثَوْر شَذَّ فَمنع إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، قِيَاسا على منع إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج. وَفِيه: أَن الْقَارِن يهدي، وَقَالَ ابْن حزم: لَا هدي على الْقَارِن. وَفِيه: جَوَاز الْخُرُوج إِلَى النّسك فِي الطَّرِيق المظنون خَوفه إِذا رجى السَّلامَة، قَالَه أَبُو عمر بن عبد الْبر، رَحمَه الله.
8081 - حدَّثني مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قالَ حَدثنَا جُوَيْرِيَّةُ عنْ نافِعٍ أنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ الله قَالَ لَهُ لَوْ أقَمْتَ بِهاذا..
هَذَا وَجه آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن نَافِع أَن بعض بني عبد الله، وَهُوَ إِمَّا سَالم أَو عبد الله أَو عبيد الله أَبنَاء عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
قَوْله: (قَالَ لَهُ) ، أَي: قَالَ بعض بني عبد الله لعبد الله بن عمر. قَوْله: (لَو أَقمت بِهَذَا) ، أَي: لَو أَقمت بِهَذَا الْمَكَان أَو فِي هَذَا الْعَام، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك حِين أَرَادَ عبد الله أَن يعْتَمر، فَقَالُوا لَهُ: نَخَاف أَن يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت، لِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ السّنة نزُول الْحجَّاج بالجيش على ابْن الزبير، كَمَا ذَكرْنَاهُ. فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب لَو؟ قلت: مَحْذُوف تَقْدِيره: لَو أَقمت فِي هَذِه السّنة لَكَانَ خيرا، أَو نَحْو ذَلِك، وَيجوز أَن تكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب.
9081 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ صالِحٍ قَالَ حَدثنَا مُعَاوِيَةُ بنُ سَلاَّمٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبِي كَثيرٍ عنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قدْ أُحْصِرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحَلَقَ رَأسَهُ وجامَعَ نِسَاءَهُ ونَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعْتَمَرَ عَاما قابِلاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ يدل على أَن الْمُعْتَمِر يحصره، ذكر مُحَمَّد هَذَا غير مَنْسُوب فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْحَاكِم: هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ الذهلي، فَلذَلِك جزم الْحَاكِم بِهِ، وَقَالَ أَبُو مَسْعُود، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن واره، وَذكر الكلاباذي عَن ابْن أبي سعيد أَنه أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ، وَذكر أَنه رَآهُ فِي أصل عَتيق، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني. وَيحيى بن صَالح أَبُو زَكَرِيَّاء الْحِمصِي، وَمُعَاوِيَة ابْن سَلام، بتَشْديد: الحبشي، مر فِي أَوَائِل الْكُسُوف. وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ حذف يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن السكن فِي (كتاب الصَّحَابَة) ، قَالَ: حَدثنِي هَارُون بن عِيسَى وَحدثنَا الصغاني هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق أحد شُيُوخ مُسلم حَدثنَا يحيى بن صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة بن سَلام عَن يحيى ابْن أبي كثير قَالَ سَأَلت عِكْرِمَة فَقَالَ: قَالَ عبد الله بن رَافع مولى أم سَلمَة: أَنا سَأَلت الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ عَمَّن حبس(10/144)
وَهُوَ محرم، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عرج أَو كسر أَو حبس فليجزىء مثلهَا، وَهُوَ فِي حل، قَالَ: فَحدثت بِهِ أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ: صدق، وحدثته ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: قد حصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحلق وَنحر هَدْيه وجامع نِسَاءَهُ حَتَّى اعْتَمر قَابلا) ، فَعرف بِهَذَا الْمِقْدَار الَّذِي حذفه البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا حذفه لِأَن هَذَا الزَّائِد لَيْسَ على شَرطه، لِأَنَّهُ قد اخْتلف فِي حَدِيث الْحجَّاج بن عَمْرو على يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة مَعَ كَون عبد الله بن رَافع لَيْسَ من شَرط البُخَارِيّ، مَعَ أَن الَّذِي حذفه لَيْسَ بَعيدا عَن الصِّحَّة، لِأَن عبد الله بن رَافع ثِقَة، وَإِن لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ. وَحَدِيث الْحجَّاج بن عَمْرو هَذَا أخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد، قَالَ: حَدثنَا يحيى عَن حجاج الصَّواف، قَالَ لي يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة، قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، فَسَأَلت ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَا: صدق) . وَفِي لفظ لَهُ: (من عرج أَو كسر أَو مرض) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور أخبرنَا روح بن عبَادَة أخبرنَا حجاج الصَّواف حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة، قَالَ: حَدثنِي الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كسر أَو عرج فَقل حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى، فَذكرت ذَلِك لأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس، فَقَالَا: صدق) . وَفِي لفظ: (من عرج أَو كسر أَو مرض) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا أَحْمد بن مسْعدَة، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن الْحجَّاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من عرج أَو كسر فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى. فَسَأَلت ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَا: صدق. وَأخْبرنَا شُعَيْب بن يُوسُف النَّسَائِيّ وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَا: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن حجاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل) . وَسَأَلنَا ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة فَقَالَا: صدق وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن سعيد وَابْن علية عَن حجاج بن أبي عُثْمَان، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن كثير. قَالَ: حَدثنِي عِكْرِمَة، قَالَ: حَدثنِي الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى فَحدث بِهِ ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة، فَقَالَا: صدق.
قَوْله: (قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس) ، ويروى: (فَقَالَ ابْن عَبَّاس) . بفاء الْعَطف وَوَجهه أَن يكون عطفا على مُقَدّر تَقْدِيره سَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: قَوْله: (حَتَّى اعْتَمر) ويروى: (ثمَّ اعْتَمر. قَوْله: (عَاما) نصب على الظّرْف، (وقابلاً) صفته.
2 - (بابُ الإحْصَارِ فِي الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِحْصَار فِي الْحَج. قيل: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن الْإِحْصَار فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا وَقع فِي الْعمرَة، فقاس الْعلمَاء الْحَج على ذَلِك، وَهُوَ من الْإِلْحَاق بِنَفْي الْفَارِق، وَهُوَ من أقوى الأقيسة. قلت: لما بَين فِي الْبَاب السَّابِق الْإِحْصَار فِي الْعمرَة، بَين عَقِيبه الْإِحْصَار فِي الْحَج، وَذكر فِي كل مِنْهُمَا حَدِيثا، فَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات حكم الْإِحْصَار فِي الْحَج بِالْقِيَاسِ.
0181 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيَّ قَالَ أخبرَنِي سَالِمٌ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ ألَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْ حُبِسَ أحَدُكُمْ عنِ الحَجِّ طافَ بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَاما قابِلاً فَيُهْدِي أوْ يَصُومَ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن حبس أحدكُم عَن الْحَج) ، وَالْحَبْس عَن الْحَج هُوَ الْإِحْصَار فِيهِ، وَأحمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أَبُو الْعَبَّاس، يُقَال لَهُ: مرْدَوَيْه السمسار الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد عَن عَمْرو(10/145)
ابْن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب قَوْله: (أَلَيْسَ حسبكم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) أَي: أَلَيْسَ يكفيكم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ لِأَن معنى الْحسب الْكِفَايَة، وَمِنْه: حَسبنَا الله أَي: كافينا، وحسبكم مَرْفُوع لِأَنَّهُ إسم: لَيْسَ، وسنَّة رَسُول الله كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه خبر: لَيْسَ، وَقَالَ عِيَاض: ضَبطنَا سنة بِالنّصب على الإختصاص أَو على إِضْمَار فعل، أَي: تمسكوا، وَشبهه. وَقَالَ السُّهيْلي: من نصب سنة فَهُوَ بإضمار الْأَمر كَأَنَّهُ قَالَ: إلزموا سنة نَبِيكُم. وَقَالَ بَعضهم: خبر: حسبكم، فِي قَوْله: (طَاف بِالْبَيْتِ) . قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل خبر لَيْسَ على وَجه نصب سنة على قَول عِيَاض والسهيلي. قَوْله: (طَاف بِالْبَيْتِ) وَهُوَ أَيْضا سد مسد جَوَاب الشَّرْط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِذا كَانَ محصرا فَكيف يطوف بِالْبَيْتِ؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: (ان حبس) الْحَبْس عَن الْوُقُوف بِعَرَفَة قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير، لِأَن معنى: (طَاف بِالْبَيْتِ) أَي: إِذا أمكنه ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق: (إِن حبس أحدا مِنْكُم حَابِس عَن الْبَيْت فَإِذا وصل إِلَيْهِ طَاف بِهِ) . قَوْله: (وبالصفا والمروة) ، أَي: طَاف بهما، أَي: سعى بَين الصَّفَا والمروة. قَوْله: (فيهدي) أَي: يذبح شَاة، إِذْ التَّحَلُّل لَا يحصل إلاَّ بنية التَّحَلُّل وَالذّبْح وَالْحلق، وَإِن لم يجد الْهَدْي يَصُوم بدله بِعَدَد أَمْدَاد الطَّعَام الَّذِي يحصل من قِيمَته. قلت: هَكَذَا ذكره الْكرْمَانِي، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَمن تَابعه، فَإِن عِنْده حكم الْمَكِّيّ والغريب سَوَاء فِي الْإِحْصَار، فيطوف وَيسْعَى وَيحل وَلَا عمْرَة عَلَيْهِ على ظَاهر حَدِيث ابْن عمر، وأوجبها مَالك على الْمحصر الْمَكِّيّ وعَلى من أنشأ من مَكَّة، وَعند أبي حنيفَة: لَا يكون محصرا من بلغ مَكَّة، لِأَن الْمحصر عِنْده من منع الْوُصُول إِلَى مَكَّة وحيل بَينه وَبَين الطّواف وَالسَّعْي، فيفعل مَا فعل الشَّارِع من الْإِحْلَال من مَوْضِعه، وَأما من بلغَهَا فَحكمه عِنْده كمن فَاتَهُ الْحَج: يحل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، وَلَا هدي عَلَيْهِ لِأَن الْهَدْي لجبر مَا أدخلهُ على نَفسه، وَمن حبس عَن الْحَج فَلم يدْخل على نَفسه نقصا. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِذا أحْصر الْمَكِّيّ فَلَا بُد لَهُ من الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَإِن تعسر بعشي. وَفِي حَدِيث ابْن عمر رد عَلَيْهِ لِأَن الْمحصر لَو وقف بِعَرَفَة لم يكن محصرا، ألاَ يرى قَول ابْن عمر: طَاف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة، وَلم يذكر الْوُقُوف بِعَرَفَة.
وَعَن عَبْدِ الله قَالَ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سالِمٌ عنِ ابنِ عُمَرَ نَحْوَهُ
عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن عبد الله بن الْمُبَارك حدث بِهِ تَارَة عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، وَتارَة عَن معمر عَنهُ. فَإِن قلت: قَوْله: وَعَن عبد الله، مَعْطُوف على: مَاذَا؟ قلت: قيل: إِنَّه مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَلَيْسَ هُوَ بمعلق كَمَا ادَّعَاهُ بَعضهم. قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَعْضِ الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك أَخْبرنِي معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُول: أَلَيْسَ حسبكم سنة نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: يُرِيد بِهِ عدم الِاشْتِرَاط كَمَا هُوَ مُبين عِنْد النَّسَائِيّ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُول: أما حسبكم سنة نَبِيكُم أَنه لم يشْتَرط؟ وَهَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: (أما حسبكم سنة نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يشْتَرط؟) فَإِن قلت: روى مُسلم من رِوَايَة رَبَاح بن أبي مَعْرُوف عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لضباعة: حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) . وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَة أَيْضا، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عباد بن الْعَوام، وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة ثَبت بن يزِيد الْأَحول عَن هِلَال بن خباب، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن زِيَاد بن أَيُّوب الْبَغْدَادِيّ: حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن هِلَال بن خباب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: (أَن ضباعة بنت الزبير أَتَت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! إِنِّي أُرِيد الْحَج أفأشترط؟ قَالَ: نعم. قَالَت: كَيفَ أَقُول؟ قَالَ: قولي لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك محلي من الأَرْض حَيْثُ تحبسني) . وَأخرجه أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن طَاوُوس وَعِكْرِمَة كِلَاهُمَا (عَن ابْن عَبَّاس: أَن ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة، فَإِنِّي أُرِيد الْحَج فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهلِي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) ، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر وَأَسْمَاء بنت أبي بكر وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة هِشَام الدستوَائي عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لضباعة بنت الزبير: (حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) . وَأما(10/146)
حَدِيث أَسمَاء فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه على الشَّك من رِوَايَة عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي بكر بن عبد الله بن الزبير عَن جدته، قَالَ: لَا أَدْرِي أَسمَاء بنت أبي بكر أَو سعدى بنت عَوْف، (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على ضباعة بنت عبد الْمطلب فَقَالَ: مَا يمنعك يَا عمتاه من الْحَج؟ فَقَالَت: أَنا امْرَأَة سقيمة، وَأَنا أَخَاف الْحَبْس {قَالَ: فأحرمي واشترطي أَن محلك حَيْثُ حبست) . وَهَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ عَن جدته لم يسمهَا. وَأما حَدِيث عَائِشَة فمتفق عَلَيْهِ على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَحَدِيث ضباعة لَهُ طرق: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب (عَن ضباعة بنت الزبير، قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله} إِنِّي أُرِيد الْحَج فَكيف أهل بِالْحَجِّ؟ قَالَ: قولي: أللهم إِنِّي أهل بِالْحَجِّ إِن أَذِنت لي بِهِ، وأعنتني عَلَيْهِ، ويسرته لي، وَإِن حبستني فعمرة، وَإِن حبستني عَنْهُمَا فمحلي حَيْثُ حبستني) ، وضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب، وَهِي ابْنة عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه: ضباعة بنت عبد الْمطلب، وَذَلِكَ نِسْبَة إِلَى جدها، وَوَقع فِي (الْوَسِيط) للغزالي عِنْد ذكر هَذَا الحَدِيث: أَنَّهَا ضباعة الأسْلَمِيَّة، وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هِيَ هاشمية.
وَقد ضعف بعض لمالكية أَحَادِيث الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، فَحكى القَاضِي عِيَاض عَن الْأصيلِيّ قَالَ: لَا يثبت عِنْدِي فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: قَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم سَنَده عَن الزُّهْرِيّ غير معمر، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَمَا قَالَه الْأصيلِيّ غلط فَاحش، فقد ثَبت وَصَحَّ من حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَغَيرهمَا على مَا مر.
وَاخْتلفُوا فِي مَشْرُوعِيَّة الِاشْتِرَاط، فَقيل: وَاجِب لظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة. وَقيل: مُسْتَحبّ وَهُوَ قَول أَحْمد، وَغلط من حكى الْإِنْكَار عَنهُ. وَقيل: جَائِز، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد. وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ضباعة بنت الزبير، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم، يرَوْنَ الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُولُونَ: إِن اشْترط لغَرَض لَهُ كَمَرَض أَو عذر فَلهُ أَن يحل وَيخرج من إِحْرَامه، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقيل: هُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ قَالَ بِهِ عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَذهب بعض التَّابِعين وَمَالك وَأَبُو حنيفَة إِلَى أَنه: لَا يَصح الِاشْتِرَاط، وحملوا الحَدِيث على أَنه قَضِيَّة عين، وَأَن ذَلِك مَخْصُوص بضباعة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلم يَرَ بعض أهل الْعلم الِاشْتِرَاط فِي الْحَج. وَقَالُوا: إِن اشْترط فَلَيْسَ لَهُ أَن يخرج من إِحْرَامه فيرونه كمن لم يشْتَرط. قلت: حكى الْخطابِيّ ثمَّ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة الْخُصُوص بضباعة، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن مَعْنَاهُ: محلي حَيْثُ حَبَسَنِي الْمَوْت، أَي: إِذا أدركتني الْوَفَاة انْقَطع إحرامي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه ظَاهر الْفساد وَلم يبين وَجهه. وَالله أعلم.
3 - (بابُ النَّحْرِ قَبْلَ الحَلْقِ فِي الحَصْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز النَّحْر قبل الْحلق فِي حَال الْحصْر، وَلم يشر إِلَى بَيَان الحكم فِي التَّرْجَمَة اكْتِفَاء بِحَدِيث الْبَاب، فَإِنَّهُ يدل على جَوَاز النَّحْر قبل الْحلق فِي حَالَة الْإِحْصَار.
1181 - حدَّثنا مَحْمودٌ قالَ حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيَّ عنْ عُرْوَةَ عَنِ المِسْوَرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحَرَ قَبْلَ أنْ يَحْلِق وأمَرَ أصْحَابَهُ بِذالِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ومحمود هُوَ ابْن غيلَان أَبُو أَحْمد الْعَدوي الْمروزِي، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، والمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وبالراء: ابْن مخرمَة بن نَوْفَل الْقرشِي الزُّهْرِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن، لَهُ ولأبيه صُحْبَة، مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَصلى عَلَيْهِ ابْن الزبير بالحجون.
وَهَذَا الحَدِيث طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه البُخَارِيّ فِي الشُّرُوط على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَفظه فِي أَوَاخِر الحَدِيث: (فَلَمَّا فرغ من قَضِيَّة الْكتاب، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: قومُوا فَانْحَرُوا، ثمَّ احْلقُوا) الحَدِيث.
وَفِيه: أَن نحر الْمحصر قبل الْحلق يجوز، والْحَدِيث حجَّة على مَالك فِي قَوْله: إِنَّه لَا هدي على الْمحصر. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 691) . وَالْخطاب للمحصرين، وَمُقْتَضَاهُ أَن الْحلق لَا يقدم على النَّحْر فِي مَحَله. قلت: بُلُوغ الْهَدْي الْمحل إمَّا زَمَانا أَو مَكَانا لَا يسْتَلْزم نَحره، وَمحل هدي(10/147)
الْمحصر هُوَ حَيْثُ أحْصر فقد بلغ مَحَله، وَثَبت أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، تحلل بِالْحُدَيْبِية وَنحر بهَا، وَهِي من الْحل لَا من الْحرم. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: أَن دم الْإِحْصَار يتوقت بِالْحرم وَهُوَ الْمَكَان لَا بِيَوْم النَّحْر، وَهُوَ الزَّمَان لإِطْلَاق النَّص وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يتَوَقَّف بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان كَمَا فِي الْحلق، وَهَذَا الْخلاف فِي الْمحصر بِالْحَجِّ وَأما دم الْمحصر بِالْعُمْرَةِ فَلَا يتوقت بِالزَّمَانِ بِلَا خلاف بَينهم، وبالهدي لَا يتَحَلَّل الْمحصر عِنْد أبي يُوسُف، وَلَا بُد لَهُ من الْحلق بعد النَّحْر لِأَنَّهُ إِن عجر عَن أَدَاء الْمَنَاسِك لم يعجز عَن الْحلق، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: يتَحَلَّل بِالذبْحِ لإِطْلَاق النَّص.
2181 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرحِيمِ قَالَ أخبرنَا أبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بنُ الوَلِيدِ عنْ عُمْرَ بنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ قَالَ وحدَّثَ نافِعٌ أنَّ عَبْدَ الله وسَالِما كَلَّمَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمِرِينَ فَحال كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ البَيْتِ فنَحَرَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بُدْنَهُ وحَلَقَ رَأسَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَنحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدنه وَحلق رَأسه) ، والْحَدِيث قد مضى بأتم مِنْهُ فِي: بَاب إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر، قبل هَذَا الْبَاب بِبَاب، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى كَانَ يُقَال لَهُ: صَاعِقَة صَاحب السابري، وَهُوَ من أَفْرَاده وشجاع ابْن الْوَلِيد بن قيس الْكُوفِي سكن بَغْدَاد، وَعمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، مر فِي: بَاب من لم يتَطَوَّع فِي السّفر، وَعبد الله هُوَ ابْن عبد الله بن عمر. قَوْله: (بدنه) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: بَدَنَة.
4 - (بابُ منْ قَالَ لَيْسَ عَلىَ الْمُحْصَرِ بَدَلٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ: لَيْسَ على الْمحصر، بدل، أَي: عوض، أَي: قَضَاء لما أحْصر فِيهِ من حج أَو عمْرَة.
وَقَالَ رَوْحٌ عنِ ابنِ نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّما الْبَدَلُ عَلَى منْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فأمَّا منْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أوْ غيْرُ ذَلِكَ فإنَّهُ يَحِلُّ ولاَ يَرْجِعُ وإنْ كانَ معَهُ هِدْيٌ وهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إنْ كانَ لاَ يَسْتَطيعُ أنْ يَبعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا الْبَدَل على من نقص حجه) ، وروح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو: ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وشبل، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن عباد، بِفَتْح الْعين: الْمَكِّيّ تلميذ ابْن كثير فِي الْقِرَاءَة، وَكَانَ قدريا، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد الله بن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون، وَقد مر غير مرّة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (تَفْسِيره) عَن روح بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس.
قَوْله: (بالتلذذ) أَي: بِالْجِمَاعِ. قَوْله: (عذر) ، بِضَم الْعين وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: عَدو من الْعَدَاوَة، قَالَ الْكرْمَانِي: الْعذر الْوَصْف الطارىء على الْمُكَلف الْمُنَاسب للتسهيل عَلَيْهِ، وَلَعَلَّه أَرَادَ بِهِ هَهُنَا نوعا مِنْهُ كالمرض ليَصِح عطف (أَو غير ذَلِك) ، عَلَيْهِ نَحْو نفاد نَفَقَته أَو سرقتها. قَوْله: (وَلَا يرجع) أَي: وَلَا يقْضِي، وَهَذَا فِي النَّفْل، إِذْ الْفَرِيضَة بَاقِيَة فِي ذمَّته كَمَا كَانَت، وَعَلِيهِ أَن يرجع لأَجلهَا فِي سنة أُخْرَى، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو هَذَا، رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَفِيه: (فَإِن كَانَت حجَّة الْإِسْلَام فَعَلَيهِ قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَت غير الْفَرِيضَة فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين حج النَّفْل الَّذِي يفْسد بِالْجِمَاعِ، فَإِنَّهُ يجب قَضَاؤُهُ، وَالنَّفْل الَّذِي يفوت عَنهُ بِسَبَب الْإِحْصَار؟ قلت: ذَلِك بتقصير، وَهَذَا بِدُونِ تَقْصِيره، وَعند أبي حنيفَة: إِذا تحلل الْمحصر لزمَه الْقَضَاء سَوَاء كَانَ نفلا أَو فرضا، وَهَذِه مَسْأَلَة اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ. فَقَالَ الْجُمْهُور: يذبح الْمحصر الْهَدْي حَيْثُ يحل، سَوَاء كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يذبحه إِلَّا(10/148)
فِي الْحرم، وَفصل الْآخرُونَ كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس هُنَا. فَإِن قلت: مَا سَبَب الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك؟ قلت: منشأ الِاخْتِلَاف فِيهِ هَل نحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي بِالْحُدَيْبِية فِي الْحل أَو فِي الْحرم؟ وَكَانَ عَطاء يَقُول: لم ينْحَر يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم، وَوَافَقَهُ ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ غَيره من أهل الْمَغَازِي: إِنَّمَا نحر فِي الْحل وَأَبُو حنيفَة أَخذ بقول عَطاء، وَفِي (الاستذكار) : قَالَ عَطاء وَابْن إِسْحَاق: لم ينْحَر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيه يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم.
وَقَالَ مالِكٌ وغَيْرَهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ ويَحْلِقُ فِي أيِّ مَوْضِعٍ كانَ ولاَ قَضاءَ عَلَيْهِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحَابَهُ بالْحُدَيْبِيَّةِ نَحَرُوا وحلَقُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وقَبْلَ أنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَ أحَدا أنْ يَقْضُوا شَيْئا ولاَ يَعُودُوا لَهُ والْحُدَيْبِيَّةُ خارِجُ الحَرَمِ
الَّذِي قَالَ مَالك مَذْكُور فِي (موطئِهِ) وَلَفظه: (أَنه بلغه أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حل هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحُدَيْبِية فنحروا الْهَدْي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شَيْء قبل أَن يطوفوا بِالْبَيْتِ، وَقبل أَن يصل إِلَيْهِ الْهَدْي) . ثمَّ لم نعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أحدا من أَصْحَابه وَلَا مِمَّن كَانَ مَعَه أَن يقضوا شَيْئا، وَلَا أَن يعودوا لشَيْء. قَوْله: (وَغَيره) أَي غير مَالك، قَالَ بَعضهم: الَّذِي يظْهر لي أَنه عَنى بِهِ الشَّافِعِي لِأَن قَوْله فِي آخِره: (وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) هُوَ كَلَام الشَّافِعِي فِي (الام) . انْتهى. قلت: قَوْله: (وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) لَا يدل على أَن المُرَاد من الْغَيْر هُوَ الشَّافِعِي، لِأَن الشَّافِعِي نقل عَنهُ أَيْضا أَن بعض الْحُدَيْبِيَة فِي الْحل وَبَعضهَا فِي الْحرم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ يجوز أَن يتْرك الْموضع الَّذِي من الْحرم من الْحُدَيْبِيَة وينحر فِي الْحل، وَالْحَال أَن بُلُوغ الْكَعْبَة صفة للهدي فِي قَوْله تَعَالَى: {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} (الْمَائِدَة: 59) . وَقد قَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن أبي عُمَيْس عَن عَطاء قَالَ: كَانَ منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة فِي الْحرم، فَإِذا كَانَ منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحرم كَيفَ ينْحَر هَدْيه فِي الْحل؟ وَهَذَا محَال. قَوْله: (فِي أَي مَوضِع كَانَ) ، ويروى: (فِي أَي الْمَوَاضِع) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَانَ أَي: الْحصْر لَا الْحلق؟ قلت: إِنَّمَا فسر بِهَذَا لأجل مذْهبه وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الضَّمِير فِي: كَانَ، يرجع إِلَى الْحلق الَّذِي يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (ويحلق) . قَوْله: (وَلَا يعودوا لَهُ) كلمة: لَا، زَائِدَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} (الْأَعْرَاف: 21) . قَوْله: (وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه الْجُمْلَة يحْتَمل أَن تكون من تَتِمَّة كَلَام مَالك، وَأَن تكون من كَلَام البُخَارِيّ، وغرضه الرَّد على من قَالَ؛ لَا يجوز النَّحْر حَيْثُ أحْصر، بل يجب الْبَعْث إِلَى الْحرم، فَلَمَّا ألزموا بنحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجابوا بِأَن الْحُدَيْبِيَة إِنَّمَا هِيَ من الْحرم، فَرد ذَلِك عَلَيْهِم. انْتهى. قلت: هَذِه الْجُمْلَة، سَوَاء كَانَت من كَلَام مَالك أَو من كَلَام البُخَارِيّ، لَا تدل على غَرَضه، لِأَن كَون الْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ، وَقد روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن الْمسور: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِالْحُدَيْبِية خباؤه فِي الْحل وَمُصَلَّاهُ فِي الْحرم) . وَلَا يجوز فِي قَول أحد من الْعلمَاء لمن قدر على دُخُول شَيْء من الْحرم أَن ينْحَر هَدْيه دون الْحرم، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن مَرْوَان والمسور بن مخرمَة، قَالَا: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة فِي بضع عشرَة مائَة من أَصْحَابه) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وَكَانَ مضطربه فِي الْحل وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحرم) . انْتهى. قلت: المضطرب هُوَ الْبناء الَّذِي يضْرب ويقام على أوتاد مَضْرُوبَة فِي الأَرْض، والخباء بِكَسْر الْخَاء: بَيت من صوف أَو وبر، وَالْجمع: أخبية، وَإِذا كَانَ من شعر يُسمى: بَيْتا.
3181 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نافًعٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرا فِي الفِتْنَةِ إنْ صُدِدْتُ عنِ الْبَيْتِ صنَعْنا كَما صَنَعْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أجْلِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ أهَلَّ بِعُمْرَة عامَ الحُدَيْبِيَّةِ ثُمَّ أنَّ عَبْدَ الله(10/149)
ابنَ عُمَرَ نظَرَ فِي أمْرِهِ فَقَالَ مَا أمْرُهُمَا إلاَّ وَاحدٌ فالْتَفَتَ إلَى أصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ أشْهِدُكُمْ أنَّي قَدْ أوْجَبْتُ الحَجُ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ طافَ لَهُمَا طَوافا واحِدا ورَأى أنَّ ذَلِكَ مُجْزِيا عَنْهُ وأهْدَى..
قيل: مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفظه مَا يدل على التَّرْجَمَة. قلت: لما كَانَت قصَّة صده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحُدَيْبِية مَشْهُورَة وَأَنَّهُمْ لم يؤمروا بِالْقضَاءِ فِي ذَلِك علم من ذَلِك أَن الْبَدَل لَا يلْزم الْمحصر، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الْمُطَابقَة. وَهَذَا الحَدِيث وَمَا فِيهِ من المباحث قد مرا فِي: بَاب إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر.
قَوْله: (ثمَّ طَاف لَهما) أَي: لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة. قَوْله: (مجزئا عَنهُ) ، بِضَم الْمِيم: من الْإِجْزَاء وَهُوَ الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد، ومجزئا بِالنّصب رِوَايَة كَرِيمَة، وَوَجهه أَن يكون خبر كَانَ محذوفا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره: (مجزىء) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر: أَن، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي عِنْدِي أَن النصب من خطأ الْكَاتِب، فَإِن أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) اتَّفقُوا على رِوَايَته بِالرَّفْع على الصَّوَاب. قلت: نِسْبَة الْكَاتِب إِلَى الْخَطَأ خطأ، وَإِنَّمَا يكون خطأ لَو لم يكن لَهُ وَجه فِي الْعَرَبيَّة، واتفاق أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) على الرّفْع لَا يسْتَلْزم كَون النصب خطأ، على أَن دَعْوَى اتِّفَاقهم على الرّفْع لَا دَلِيل لَهَا.
5 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةِ أوْ نُسُكٍ} .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} (الْبَقَرَة: 691) . وَهَذِه قِطْعَة من آيَة أَولهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} (الْبَقَرَة: 691) . وَآخِرهَا: {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} (الْبَقَرَة: 691) . وتشتمل على أَحْكَام شَتَّى. مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . فَإِن هَذِه نزلت فِي كَعْب بن عجْرَة لما حمل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقمل يَتَنَاثَر فِي وَجهه، على مَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: من كَانَ بِهِ مرض يحوجه إِلَى الْحلق {أَو بِهِ أَذَى من الْحلق} (الْبَقَرَة: 691) . وَهُوَ الْقمل والجراحة. قَوْله: {ففدية} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: فَعَلَيهِ إِذا حلق فديَة من صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام، أَو صَدَقَة على سِتَّة مَسَاكِين لكل مِسْكين نصف صَاع من بر. قَوْله: {أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . جمع نسيكة، وَهِي الذَّبِيحَة، أَعْلَاهَا بَدَنَة، وأوسطها بقرة، وَأَدْنَاهَا شَاة. وَهل هِيَ على التَّخْيِير أَو لَا؟ فِيهِ خلاف، يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وهْوَ مُخَيَّرٌ وأمَّا الصَّوْمُ فَثَلاَثَةُ أيَّامٍ
الضَّمِير أَعنِي قَوْله: (هُوَ) يرجع إِلَى كل وَاحِد من الْمَرِيض وَمن بِهِ أَذَى فِي رَأسه. قَوْله: (مُخَيّر) يَعْنِي: بَين الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة وَهِي: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام، وَالصَّدَََقَة على سِتَّة مَسَاكِين، وَذبح شَاة. قَوْله: (وَأما الصَّوْم) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَأما الصّيام) ، على لفظ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَكلمَة: إِمَّا تفصيلية تَقْتَضِي القسيم وَهُوَ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَأما الصَّدَقَة فَهِيَ إطهام سِتَّة مَسَاكِين، وَأما النّسك فأقله شَاة.
4181 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفُ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ حُمَيْدِ بنِ قَيْسٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ يَا رسولَ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْلِقْ رَأسَكَ وصُمْ ثلاثَةَ أيَّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أوِ انْسُكُ بِشَاةٍ. .
مطابقته لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة ظَاهِرَة، وَحميد مصغر الْحَمد بن قيس أَبُو صَفْوَان مولى عبد الله بن الزبير الْأَعْرَج الْقَارِي، مَاتَ فِي خلَافَة السفاح، وَكَعب بن عجْرَة، بِضَم الْعين، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج عَن أبي نعيم وَعَن أبي الْوَلِيد وَعَن إِسْحَاق وَعَن مُحَمَّد بن يُوسُف، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة وَمَعَ عبد الله(10/150)
ابْن يُوسُف خَمْسَة أخرج عَنْهُم فِي الْحَج على التوالي، وَأخرجه أَيْضا فِي الطِّبّ عَن قبيصَة وَعَن أبي عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي عبد الله أَيْضا، وَفِي النذور عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن الْحسن بن خلف وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الطِّبّ أَيْضا عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن عبيد الله بن عمر القواريري وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي وَعَن عَليّ بن حجر وَزُهَيْر ابْن حَرْب وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ أَيْضا عَن وهب بن بَقِيَّة وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن قُتَيْبَة وَعَن القعْنبِي عَن مَالك وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن عمر، وَفِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة أُسَامَة بن زيد عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن كَعْب بن عجْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظه: قد مَضَت رِوَايَة البُخَارِيّ: (لَعَلَّك أذاك هوامك؟) وَفِي لفظ: (تؤذيك هوامك؟) وَفِي لفظ مُسلم: (أتؤذيك هوَام رَأسك؟) . وَفِي لفظ أبي دَاوُد: (قد أذاك هوَام رَأسك؟) . وَفِي لفظ: (أصابني هوَام فِي رَأْسِي وَأَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْحُدَيْبِيَة حَتَّى تخوفت على بَصرِي) ، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: (أتؤذيك هوامك هَذِه؟) . وَلَفظ النَّسَائِيّ: (أتؤذيك هوامك؟) وَفِي لفظ أَحْمد: (تؤذيك هوَام رَأسك؟) وَفِي لفظ لَهُ: (فَأرْسل إِلَيّ فدعاني، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: لقد أَصَابَك بلَاء وَنحن لَا نشعر، أدعوا إِلَى الْحجام، فحلقني) . وَمن لَفظه: (وَقع الْقمل فِي رَأْسِي ولحيتي حَتَّى حاجبي وشاربي) ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ (وقف عَليّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحُدَيْبِية ورأسي يتهافت قملاً) . وَفِي لفظ: (وَالْقمل يتهافت لماء جمعه وَفِي لفظ (فَقل رَأسه ولحيته) وَفِي لفظ يَتَنَاثَر على وَجْهي) ، وَفِي لفظ: (رَآهُ وقمله يسْقط على وَجهه) ، ولفط مُسلم رَأسه يتهافت قملاً وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: (وَالْقمل يَتَنَاثَر على وَجْهي أَو حاجبي) ، وَفِي لفظ: (ورأسي يتهافت قملاً) . وَفِي لفظ للطبراني (مر بِي وَعلي وفرة من أصل كل شَعْرَة إِلَى فرعها قمل وصيبان) ، وَفِي لفظ: (حَتَّى تخوفت على بَصرِي، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة) . وَفِي لفظ للطبري: (فحك رَأْسِي بإصبعه فانتثر مِنْهُ الْقمل) ، وَفِي لفظ فِي (مقامات التَّنْزِيل) : (فَوَقع الْقمل فِي رَأْسِي ولحيي حَتَّى وَقع فِي حاجبي) ، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: (أحلق رَأسك وصم) إِلَى آخِره، وَفِي لفظ لَهُ: (فَأمره أَن يحلق وَهُوَ بِالْحُدَيْبِية) ، وَفِي لفظ: (فَدَعَا الحلاق فحلقه ثمَّ أَمرنِي بِالْفِدَاءِ) ، وَفِي لفظ: (فَاحْلِقْ وصم ثَلَاثَة أَيَّام) ، وَفِي لفظ مُسلم: (فَاحْلِقْ رَأسك وَأطْعم فرقا بَين سِتَّة مَسَاكِين) وَفِي لفظ: (إحلق ثمَّ اذْبَحْ شَاة نسكا) ، وَفِي لفظ: (فَدَعَا الحلاف فحلق رَأسه) ، وَفِي لفظ أبي دَاوُد: (فدعاني رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لي: احْلق رَأسك وصم ثَلَاثَة أَيَّام) ، وَفِي لفظ لِلتِّرْمِذِي: (إحلق وَأطْعم فرقا) ، وَفِي لفظ للنسائي: (فَاحْلِقْ رَأسك وانسك نسيكة) ، وَفِي لفظ ابْن مَاجَه: (أَمرنِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين آذَانِي الْقمل أَن أحلق رَأْسِي وَأَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام) . وَفِي لفظ للطبراني: (إحلق واهد هَديا) ، وَفِي لفظ لَهُ: (اهد بقرة وأشعرها وقلدها فَافْتدى ببقرة) ، وَفِي لفظ: (مر بِهِ فَأمره أَن يحلق، وجاءه الْوَحْي فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن شِئْت فَصم ثَلَاثَة أَيَّام) . وَفِي لفظ: (أنسك مَا تيَسّر) . وَفِي لفظ: (أَو إذبح ذَبِيحَة) . وَفِي لفظ: (فَاحْلِقْ أَو جزه إِن شِئْت وَأطْعم سِتَّة مَسَاكِين) . وروى الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) من رِوَايَة الْمُغيرَة بن صقْلَابٍ، قَالَ: حَدثنَا عمر بن قيس الْمَكِّيّ عَن عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما نزلنَا الْحُدَيْبِيَة جَاءَ كَعْب بن عجْرَة، تنثر هوَام رَأسه على جَبهته، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! هَذَا الْقمل قد أكلني، قَالَ: إحلق وافده. قَالَ: فحلق كَعْب وَنحر بقرة، فَأنْزل الله عز وَجل فِي ذَلِك الْوَقْت: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الصّيام ثَلَاثَة أَيَّام والنسك شَاة وَالصَّدَََقَة الْفرق بَين سِتَّة مَسَاكِين لكل مِسْكين مدَّان) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: هَذَا حَدِيث شَاذ مُنكر، وَعمر بن قيس هُوَ الْمَعْرُوف بِسَنَد مُنكر الحَدِيث، وَلم ينْقل أَن ابْن عَبَّاس كَانَ فِي عمر الْحُدَيْبِيَة وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن ابْن عَبَّاس لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِحْرَام إلاَّ فِي حجَّة الْوَدَاع، وَمن الْمُنكر قَوْله: (وَنحر بقرة) ، فَفِي (الصَّحِيح) (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: أتجد شَاة؟ قَالَ: لَا، وَإنَّهُ أَمر بِالصَّوْمِ أَو الْإِطْعَام) . انْتهى. قلت: الحَدِيث يدل على أَن ابْن عَبَّاس(10/151)
كَانَ مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَالشَّافِعِيّ يَنْفِي، والمثبت مقدم. وَأما نحر الْبَقَرَة فقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَعَلَّك آذَاك؟) وَفِي لفظ لَهُ: (حملت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي لفظ: (وقف عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحُدَيْبِية) . وَفِي لفظ: (إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ وَأَنه يسْقط على وَجهه) ، وَفِي لفظ: (مرَّ بِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي لفظ لمُسلم: (قَالَ: فَأَتَيْته، قَالَ: أدنه) . وَفِي لفظ لَهُ: (مر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِالْحُدَيْبِية قبل أَن يدْخل مَكَّة وَهُوَ محرم) . فَإِن قلت: مَا الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات والقصة وَاحِدَة؟ قلت: لَا تعَارض فِي شَيْء من ذَلِك، أما لفظ: (لَعَلَّك آذَاك؟) فساكت عَن قيد، وَأما بَقِيَّة الْأَلْفَاظ فوجهها أَنه مر بِهِ وَهُوَ محرم فِي أول الْأَمر وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، ثمَّ حمل إِلَيْهِ ثَانِيًا بإرساله إِلَيْهِ، وَأما إِتْيَانه فَبعد الْإِرْسَال، وَأما رَأَيْته إِيَّاه فَلَا بُد مِنْهَا فِي الْكل. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي قَوْله: (لَعَلَّك آذَاك هوامك؟) هَذَا سُؤال عَن تَحْقِيق الْعلَّة الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم، فَلَمَّا أخبرهُ بالمشقة الَّتِي نالته أمره بِالْحلقِ، والهوام، بتَشْديد الْمِيم: جمع هَامة وَهِي مَا تدب من الأحناش، وَالْمرَاد بهَا ملا يلازم جَسَد الْإِنْسَان غَالِبا إِذا طَال عَهده بالتنظيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا يَقع هَذَا الإسم إلاَّ على الْمخوف من الأحناش، وَالْمرَاد بهَا الْقمل، لِأَنَّهُ يهم على الرَّأْس أَي: يدب قلت: إِنَّمَا قَالَ: وَالْمرَاد بهَا الْقمل، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُور فِي كثير من الرِّوَايَات. قَوْله: (إحلق رَأسك) ، أمره بِالْحلقِ وَهُوَ إِزَالَة شعر الرَّأْس، أَعم من أَن يكون بالوسى وبالمقص أَو بالنورة أَو غير ذَلِك. قَوْله: (أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين) لَيْسَ فِيهِ بَيَان قدر الْإِطْعَام، وَسَيَأْتِي الْبَيَان فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (أَو أنسك بِشَاة) ، هَكَذَا وَقعت رِوَايَة الْأَكْثَرين: بِشَاة، بِالْبَاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَو أنسك شَاة) ، بِغَيْر بَاء، وعَلى الأول تَقْدِيره: تقرب بِشَاة، فَلذَلِك عداهُ بِالْبَاء، وعَلى الثَّانِي تَقْدِيره: إذبح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام: مِنْهَا: جَوَاز الْحلق للْمحرمِ للْحَاجة مَعَ الْكَفَّارَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الْكَرِيمَة، وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ فِيهِ تعرض لغير حلق الرَّأْس من سَائِر شُعُور الْجَسَد، وَقد أوجب الْعلمَاء الْفِدْيَة بحلق سَائِر شُعُور الْبدن لِأَنَّهَا فِي معنى حلق الرَّأْس إلاَّ دَاوُد الظَّاهِرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تجب الْفِدْيَة إلاَّ بحلق الرَّأْس فَقَط، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الْمحَامِلِي: أَن فِي رِوَايَة عَن مَالك لَا تتَعَلَّق الْفِدْيَة بِشعر الْبدن.
وَمِنْهَا: أَنه أَمر بحلق شعر نَفسه، فَلَو حلق الْمحرم شعر حَلَال فَلَا فديَة على وَاحِد مِنْهُمَا عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: لَيْسَ للْمحرمِ أَن يحلق شعر الْحَلَال، فَإِن فعل فَعَلَيهِ صَدَقَة.
وَمِنْهَا: أَنه إِذا حلق رَأسه أَو لبس أَو تطيب عَامِدًا من غير ضَرُورَة، فقد حكى ابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) عَن أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، وَأَبُو ثَوْر: أَن عَلَيْهِ دَمًا لَا غير، وَأَنه لَا يُخَيّر إلاَّ فِي الضَّرُورَة، وَقَالَ مَالك: بئس مَا فعل وَعَلِيهِ الْفِدْيَة، وَهُوَ مُخَيّر فِيهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَمَا حَكَاهُ عَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه لَيْسَ بجيد، بل الْمَعْرُوف عَنْهُم وجوب الْفِدْيَة، كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ، كَمَا أوجبوا الْكَفَّارَة فِي الْيَمين الْغمُوس، بل أولى بِالْوُجُوب.
وَمِنْهَا: أَنه أطلق الْحلق لكعب بن عجْرَة وَلَكِن لضرورته، ولغير الضَّرُورَة لَا يجوز للْمحرمِ حَتَّى إِذا حلق من غير ضَرُورَة يلْزمه الْفِدْيَة، سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو عَالما أَو جَاهِلا، وَذهب إِسْحَاق وَدَاوُد إِلَى أَنه: لَا شَيْء على النَّاسِي.
وَمِنْهَا: أَنه قدم الْحلق على الصَّوْم وَالْإِطْعَام، وَفِي الْآيَة قدم الصَّوْم، فَهَل يفهم مِنْهُ وجوب التَّرْتِيب أَو المُرَاد الْأَفْضَلِيَّة فِيمَا قدم فِي الْآيَة والْحَدِيث؟ وَالْجَوَاب أَن الحَدِيث اخْتلفت أَلْفَاظه فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَفِي حَدِيث الْبَاب قدم الْحلق، وَفِي الحَدِيث الآخر قدم الصَّوْم، حَيْثُ قَالَ: (صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو تصدق بفرق بَين سِتَّة مَسَاكِين أَو أنسك مَا تيَسّر) . وَهَذَا مُوَافق لِلْآيَةِ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (قَالَ أَيُّوب: فَلَا أَدْرِي بِأَيّ ذَلِك بَدَأَ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (إذبح شَاة نسكا أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم. .) الحَدِيث، وعَلى هَذَا فَلَا فضل فِي تَقْدِيم أحد الْأَنْوَاع على بَعْضهَا من هَذَا الحَدِيث، لَكِن قد يسْتَدلّ بِتَقْدِيم الشَّاة فِي الْكَفَّارَة الْمرتبَة على أَفضَلِيَّة تَقْدِيم الذّبْح فِي غير الْمرتبَة.
وَمِنْهَا: أَنه خَيره بَين الصَّوْم وَالْإِطْعَام وَالذّبْح، وَقَالَ أَبُو عمر: عَامَّة الْآثَار عَن كَعْب وَردت بِلَفْظ التَّخْيِير، وَهُوَ نَص الْقُرْآن الْعَظِيم، وَعَلِيهِ مضى عمل الْعلمَاء فِي كل الْأَمْصَار، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) عَن أبي سعيد الْأَشَج: حَدثنَا حَفْص(10/152)
الْمحَاربي عَن لَيْث عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ إِذا كَانَ أَو، أَو بأية أخذت أجزأك. قَالَ: وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وطاووس والجنيد وَحميد الْأَعْرَج وَالنَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك نَحْو ذَاك، وَذهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى أَن التَّخْيِير لَا يكون إلاَّ فِي الضَّرُورَة، فَإِن فعل ذَلِك من غير ضَرُورَة فَعَلَيهِ دم، وَفِي (صَحِيح مُسلم) رِوَايَة عبد الْكَرِيم صَرِيحَة فِي التَّخْيِير حَيْثُ قَالَ: أَي ذَلِك فعلت أجزأك {كَذَا رِوَايَة أبي دَاوُد الَّتِي فِيهَا: إِن شِئْت وَإِن شِئْت، ووافقها رِوَايَة عبد الْوَارِث عَن أبي نجيح، أخرجهَا مُسَدّد فِي (مُسْنده) وَمن طَرِيقه الطَّبَرَانِيّ، لَكِن رِوَايَة عبد الله بن مُغفل الَّتِي تَأتي عَن قريب تَقْتَضِي أَن التَّخْيِير إِنَّمَا هُوَ بَين الْإِطْعَام وَالصِّيَام لمن لم يجد النّسك. وَلَفظه، (قَالَ: أتجد شَاة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصم أَو أطْعم) . وَلأبي دَاوُد فِي رِوَايَة أُخْرَى: (أَمَعَك دم؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن شِئْت فَصم) ، وَنَحْوه: للطبراني من طَرِيق عَطاء عَن كَعْب، وَوَافَقَهُمْ أَبُو الزبير عَن مُجَاهِد عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَزَاد بعد قَول: (مَا أجد هَديا. قَالَ: فأطعم} قَالَ: مَا أجد؟ قَالَ: صم) ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : فِيهِ دَلِيل على أَن من وجد نسكا لَا يَصُوم، يَعْنِي وَلَا يطعم، لَكِن لَا أعرف من قَالَ بذلك من الْعلمَاء إلاَّ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَغَيره عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: النّسك شَاة، فَإِن لم يجد قومت الشَّاة دَرَاهِم، وَالدَّرَاهِم طَعَاما فَتصدق بِهِ، أَو صَامَ لكل نصف صَاع يَوْمًا. أخرجه من طَرِيق الْأَعْمَش عَنهُ، قَالَ: فَذَكرته لإِبْرَاهِيم، فَقَالَ: سَمِعت عَلْقَمَة مثله، فَحِينَئِذٍ يحْتَاج إِلَى الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ، وَقد جمع بَينهمَا بأوجه: مِنْهَا مَا قَالَ: أَبُو عمر: إِن فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى تَرْجِيح التَّرْتِيب لَا لإيجابه، وَمِنْهَا مَا قَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ المُرَاد أَن الصّيام أَو الْإِطْعَام لَا يجزىء إلاَّ لفاقد الْهَدْي، بل المُرَاد بِهِ أَنه استخبره: هَل مَعَه هدي أَو لَا؟ فَإِن كَانَ واجده أعلمهُ أَنه مُخَيّر بَينه وَبَين الصّيام وَالْإِطْعَام، وَإِن لم يجده أعلمهُ أَنه مُخَيّر بَينهمَا. وَمِنْهَا مَا قَالَه بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أذن لَهُ فِي حلق رَأسه بِسَبَب أَذَى أفتاه بِأَن يكفر بِالذبْحِ على سَبِيل الإجتهاد مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بِوَحْي غير متلوٍّ، فَلَمَّا أعلمهُ أَنه لَا يجد نزلت الْآيَة بالتخيير بَين الذّبْح وَالْإِطْعَام وَالصِّيَام، فخيره حِينَئِذٍ بَين الصّيام وَالْإِطْعَام لعلمه بِأَنَّهُ لَا ذبح مَعَه، فصَام لكَونه لم يكن مَعَه مَا يطعمهُ، ويوضح ذَلِك رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عبد الله ابْن مُغفل حَيْثُ قَالَ: (أتجد شَاة؟ قَالَ: لَا، فَنزلت هَذِه الْآيَة: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . فَقَالَ: صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم) . وَفِي رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي، قَالَ: (صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين. قَالَ: وَكن قد علم أَنه لَيْسَ عِنْدِي مَا أنسك بِهِ) . وَنَحْوه فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن كَعْب. فَإِن قلت: سِيَاق الْآيَة يشْعر بِأَن يقدم الصّيام على غَيره؟ قلت: لَيْسَ ذَلِك لكَونه أفضل فِي هَذَا الْمقَام من غَيره، بل السرّ فِيهِ أَن الصَّحَابَة الَّذين خوطبوا شفاها بذلك كَانَ أَكْثَرهم يقدر على الصّيام أَكثر مِمَّا يقدر على الذّبْح وَالْإِطْعَام.
وَمِنْهَا: أَن الصَّوْم ثَلَاثَة أَيَّام، وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا ابْن أبي عمرَان حَدثنَا عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن أَشْعَث عَن الْحسن فِي قَوْله: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: إِذا كَانَ بالمحرم أَذَى من رَأسه حلق وافتدى بِأَيّ هَذِه الثَّلَاثَة شَاءَ، وَالصِّيَام عشرَة أَيَّام، وَالصَّدَََقَة على عشرَة مَسَاكِين لكل مِسْكين مكوكان مكوك من تمر ومكوك من بر، والنسك شَاة، وَقَالَ قَتَادَة عَن الْحسن وَعِكْرِمَة. فِي قَوْله: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: إطْعَام عشرَة مَسَاكِين، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ من سعيد بن جُبَير وعلقمة وَالْحسن وَعِكْرِمَة قَولَانِ غَرِيبَانِ فيهمَا نظر، لِأَنَّهُ قد ثبتَتْ السّنة فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة: (فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام لَا عشرَة، وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : رُوِيَ عَن الْحسن وَعِكْرِمَة وَنَافِع صَوْم عشرَة أَيَّام، قَالَ: وَلم يتابعهم أحد من الْعلمَاء على ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن الْإِطْعَام لسِتَّة مَسَاكِين، وَلَا يجزىء أقل من سِتَّة، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه: يجوز أَن يدْفع إِلَى مِسْكين وَاحِد، وَالْوَاجِب فِي الْإِطْعَام لكل لمسكين نصف صَاع من أَي شَيْء كَانَ الْمخْرج فِي الْكَفَّارَة قمحا أَو شَعِيرًا أَو تَمرا، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَحكي عَن الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة تَخْصِيص ذَلِك بالقمح، وَأَن الْوَاجِب من الشّعير وَالتَّمْر صَاع لكل مِسْكين. وَحكى ابْن عبد الْبر عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه كَقَوْل مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعند أَحْمد فِي رِوَايَة: إِن الْوَاجِب فِي الْإِطْعَام لكل مِسْكين مدَّ من قَمح أَو مدان من تمر أَو شعير.(10/153)
وَمِنْهَا: مَا احْتج بِعُمُوم الحَدِيث مَالك على أَن الْفِدْيَة يَفْعَلهَا حَيْثُ شَاءَ، سَوَاء فِي ذَلِك الصّيام وَالْإِطْعَام وَالْكَفَّارَة، لِأَنَّهُ لم يعين لَهُ موضعا للذبح أَو الْإِطْعَام، وَلَا يجوز تَأَخّر الْبَيَان عَن وَقت الْبَيَان، وَقد اتّفق الْعلمَاء فِي الصَّوْم أَن لَهُ أَن يَفْعَله حَيْثُ شَاءَ لَا يخْتَص ذَلِك بِمَكَّة وَلَا بِالْحرم، وَأما النّسك وَالْإِطْعَام فجوزهما مَالك أَيْضا كَالصَّوْمِ، وخصص الشَّافِعِي ذَلِك بِمَكَّة أَو بِالْحرم، وَاخْتلف فِيهِ قَول أبي حنيفَة، فَقَالَ مرّة: يخْتَص بذلك الدَّم دون الْإِطْعَام، وَقَالَ مرّة: يختصان جَمِيعًا بذلك، وَقَالَ هشيم: أخبرنَا لَيْث عَن طَاوُوس أَنه كَانَ يَقُول: مَا كَانَ من دم أَو إطْعَام فبمكة، وَمَا كَانَ من صِيَام فَحَيْثُ شَاءَ. وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وَالْحسن.
وَمِنْهَا: مَا قَالَ شَيخنَا زين الدّين: يسْتَثْنى من عُمُوم التَّخْيِير فِي كَفَّارَة الأذي حكم العَبْد إِذا احْتَاجَ إِلَى الْحلق، فَإِن فَرْضه الصَّوْم على الْجَدِيد سَوَاء أحرم بِغَيْر إِذن سَيّده أَو بِإِذْنِهِ، فَإِن الْكَفَّارَة لَا تجب على السَّيِّد كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ، وَلَو ملكه السَّيِّد لم يملكهُ على الْجَدِيد، وعَلى الْقَدِيم يملكهُ.
6 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالى {أوْ صَدقَةٍ} (الْبَقَرَة: 691) . وَهْيَ إطْعَامُ سِتَّةِ مَساكِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير الصَّدَقَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو صَدَقَة} (الْبَقَرَة: 691) . لِأَنَّهَا مُبْهمَة. وفسرها بقوله: (وَهِي إطْعَام سِتَّة مَسَاكِين) .
5181 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سَيْفٌ قَالَ حدَّثني مُجَاهِدٌ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى قَالَ أنَّ كَعْبَ بنَ عَجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ وقَفَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْحُدَيْبِيَّةِ ورَاسِي يَتَهَافَتُ قَمْلاً فَقَالَ يُؤْذِيكَ هَوَامُكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فاحْلِقْ رَأسَكَ أوْ قالَ احْلِقْ قَالَ فِيَّ نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أَذَى مِنْ رأسِهِ إِلَى آخِرهَا فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ أوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو تصدق بفرق بَين سِتَّة) فَإِنَّهُ تَفْسِير لقَوْله تَعَالَى: {أَو صَدَقَة} (الْبَقَرَة: 691) . فِي الْآيَة الْمَذْكُور، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره، وَسيف، بِلَفْظ الْآلَة القاطعة: ابْن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ تقدم فِي أَبْوَاب الْقبْلَة.
قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة، (وَرَسُول الله) ، بِالرَّفْع فَاعل: وقف، وَالْبَاء فِي: بِالْحُدَيْبِية، بِمَعْنى فِي ظرفية. قَوْله: (ورأسي يتهافت) جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَمعنى: يتهافت، بِالْفَاءِ يتساقط شَيْئا فَشَيْئًا، وَهُوَ مَأْخُوذ من: الهفت، بِسُكُون الْفَاء. وَفِي (الْمُحكم) : الهفت تساقط الشَّيْء قِطْعَة قِطْعَة كالثلج والرذاذ وَنَحْوهمَا، وتهافت الْفراش فِي النَّار تساقطه، وتهافت الْقَوْم تساقطوا موتا، وتهافتوا عَلَيْهِ: تتابعوا وانتصاب: قملاً، على التَّمْيِيز. قَوْله: (أَو احْلق) شكّ من الرَّاوِي ومفعوله مَحْذُوف. قَوْله: (فِي) ، بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة. قَوْله: (بفرق) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتحهَا: وَهُوَ مكيال مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: كَلَام الْعَرَب بِفَتْح الرَّاء، والمحدثون قد يسكنونه. وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح عِنْد أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا: (وَالْفرق: ثَلَاثَة آصَع) . وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي قلَابَة عَن ابْن أبي ليلى: (وَأطْعم ثَلَاثَة آصَع من تمر على سِتَّة مَسَاكِين) ، وآصع، بِمد الْهمزَة وَضم الصَّاد: جمع صَاع على الْقلب، لِأَن الْقيَاس فِي جمعه: أصوع، بقصر الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد بعْدهَا واوا مَضْمُومَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَإِن شِئْت أبدلت من الْوَاو المضمومة همزَة، فَقلت: أصؤع، وَحكى الْوَجْهَانِ كَذَلِك فِي آدور وآدر، جمع: دَار، وَذكر ابْن مكي فِي كتاب (تثقيف اللِّسَان) : أَن قَوْلهم: آصَع، بِالْمدِّ لحن من خطأ الْعَوام، وَأَن صَوَابه: آصوع، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا غلط مِنْهُ مَرْدُود وَذُهُول. قلت: الْقيَاس مَا ذكره ابْن مكي، وَأما الَّذِي ورد فَمَحْمُول على الْقلب، ووزنه على هَذَا: أعفل، فَافْهَم. وَفِي الصَّاع لُغَتَانِ: التَّذْكِير والتأنيث، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره.
قَوْله: (بَين سِتَّة) أَي بَين سِتَّة مَسَاكِين قَوْله: (أَو أنسك) على صِيغَة الْأَمر من نسك إِذا ذبح، وَهُوَ رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: (أَو نسك) ، بِلَفْظ الِاسْم وَالْأول هُوَ الْمُنَاسب لأخوته، أللهم إلاَّ أَن يُقَال: أَو أنسك بنسك، قَالَ الْكرْمَانِي: أَو هُوَ من بَاب:
(علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا)
قَوْله: (بِمَا تيَسّر) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره: (مِمَّا تيَسّر) ، وَأَصله(10/154)
من مَا تيَسّر، فحذفت النُّون وأدغمت الْمِيم فِي الْمِيم أَي: مِمَّا تيَسّر من أَنْوَاع الْهَدْي.
7 - (بابٌ الإطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفَ صَاعٍ)
أَي: هَذَا بَاب، التَّنْوِين، يذكر فِيهِ الْإِطْعَام فِي الْفِدْيَة نصف صَاع، فالإطعام مُبْتَدأ، وَنصف صَاع خَبره أَي: نصف لكل مِسْكين. وَقَالَ بَعضهم: يُشِير بذلك إِلَى الرَّد على من فرق فِي ذَلِك بَين الْقَمْح وَغَيره. قلت: لَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى ذَلِك. لِأَن قَوْله: (نصف صَاع) يُرَاد بِهِ نصف صَاع من قَمح، لِأَن نصف صَاع عِنْد الْإِطْلَاق ينْصَرف إِلَى الْقَمْح، وَلَا خلاف فِيهِ، وَيُؤَيّد هَذَا مَا فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث كَعْب أَيْضا: (أَو إطْعَام سِتَّة مَسَاكِين نصف صَاع نصف صَاع طَعَاما لكل مِسْكين) . فَقَوله: (طَعَاما) ، يبين أَن المُرَاد من نصف صَاع هُوَ الْقَمْح، وَبِه يفرق بَين الْقَمْح وَغَيره، وَيرد بِهَذَا على الْقَائِل الْمَذْكُور فِي قَوْله: يُشِير بذلك إِلَى الرَّد على من فرق بَين الْقَمْح وَغَيره.
6181 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بن الأصْبَهَانِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَعْقِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إلَى كَعْبٍ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فسَألْتُهُ عنِ الْفِدْيَةِ فَقَالَ نزَلَتْ فِيَّ خاصَّةٍ وَهْيَ لَكمْ عامَّةٍ حُمِلْتُ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْتُ أُرى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أرَى أوْ مَا كُنْتُ أرَى الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أرَى تَجِدُ شَاة فَقُلْتُ لاَ فَقَالَ صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لكل مِسْكين نصف صَاع) ، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن الْأَصْبَهَانِيّ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا وبالباء الْمُوَحدَة وَالْفَاء أَرْبَعَة أوجه: وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الْكُوفِي، وَأَصله من أَصْبَهَان، وَعبد الله ابْن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: ابْن مقرن، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة: التَّابِعِيّ الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر عَن عدي بن حَاتِم، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ من الْهِجْرَة.
قَوْله: (جَلَست إِلَى كَعْب بن عجْرَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق غنْدر عَن شُعْبَة: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِد) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن بهز: (قعدت إِلَى كَعْب بن عجْرَة فِي هَذَا الْمَسْجِد) ، وَزَاد فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن قرم عَن ابْن الْأَصْبَهَانِيّ: (يَعْنِي مَسْجِد الْكُوفَة) ، وَمعنى: جَلَست إِلَى كَعْب، انْتهى جلوسي إِلَى كَعْب. قَوْله: (نزلت فيَّ) بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: نزلت الْآيَة المرخصة لحلق الرَّأْس، ومقصوده أَنه من بَاب خُصُوص السَّبَب وَعُمُوم اللَّفْظ. قَوْله: (حملت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَالْقمل يَتَنَاثَر) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (أُرى الوجع) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظن. (وَأرى) الثَّانِي، بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أبْصر. قَوْله: (يبلغ بك) بِصِيغَة الْمُضَارع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي، وَعند غَيرهمَا: (بلغ بك) ، بِصِيغَة الْمَاضِي. قَوْله: (الْجهد) ، بِفَتْح الْجِيم: الْمَشَقَّة، وَفِيه شكّ من الرَّاوِي، هَل قَالَ: الوَجع أَو الجَهد؟ وَقَالَ النَّوَوِيّ: ضم الْجِيم لُغَة فِي الْمَشَقَّة أَيْضا. وَكَذَا حَكَاهُ عِيَاض عَن ابْن دُرَيْد. قَالَ صَاحب (الْعين) بِالضَّمِّ: الطَّاقَة، وبالفتح الْمَشَقَّة، فَتعين الْفَتْح هُنَا. قَوْله: (تَجِد شَاة؟) خطاب لكعب، وَالْمعْنَى: هَل تَجِد شَاة؟ قَوْله: (فَقلت: لَا) أَي: لَا أجد. قَوْله: (فَقَالَ: صم) أَي: فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ: صم، وَهُوَ أَمر من صَامَ يَصُوم. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْفَاء للتَّرْتِيب، وَلَكِن لفظ الْقُرْآن ورد على التَّخْيِير؟ قلت: التَّخْيِير إِنَّمَا هُوَ عِنْد وجود الشَّاة، وَأما عِنْد عدمهَا فَبين أحد الْأَمريْنِ لَا بَين الثَّلَاثَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَلَيْسَ المُرَاد أَن الصَّوْم لَا يجزىء إلاَّ لعادم الْهَدْي، بل هُوَ مَحْمُول على أَنه سَأَلَ عَن النّسك، فَإِن وجده أخبرهُ بِأَنَّهُ مُخَيّر بَين الثَّلَاث، وَإِن عَدمه فَهُوَ مُخَيّر بَين اثْنَيْنِ. قَوْله: (لكل مِسْكين نصف صَاع) أَي: من قَمح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه فِي رِوَايَة أَحْمد عَن بهز عَن شُعْبَة: (نصف صَاع طَعَام) وأصرح مِنْهُ مَا رَوَاهُ بشر بن عمر عَن شُعْبَة: (نصف صَاع حِنْطَة) ، فَهَذَا يدل على صِحَة الْفرق بَين الْقَمْح وَغَيره. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ عَن أبي الْوَلِيد، شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: (لكل مِسْكين نصف صَاع تمر) . قلت: الْمَحْفُوظ عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: فِي الحَدِيث (نصف صَاع من طَعَام) وَالِاخْتِلَاف عَلَيْهِ فِي كَونه تَمرا أَو غَيره، من تصرف الروَاة.(10/155)
8 - (بابٌ النُّسُكُ شَاةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن النّسك الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ شَاة، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْمُغيرَة عَن مُجَاهِد فِي آخر هَذَا الحَدِيث: فَأنْزل الله تَعَالَى: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . والنسك شَاة. وَقَالَ أَبُو عمر: كل من ذكر النّسك فِي هَذَا الحَدِيث مُفَسرًا فَإِنَّمَا ذكرُوا شَاة، وَهُوَ أَمر لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء. قَالَ بَعضهم: يُعَكر عَلَيْهِ مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق نَافِع عَن رجل من الْأَنْصَار عَن كَعْب بن عجْرَة أَنه أصَاب أَذَى، فحلق، فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهدي بقرة. وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عبد الْوَهَّاب بن بخت عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: حلق كَعْب بن عجْرَة رَأسه، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفتدي فَافْتدى ببقرة) . وروى عبد بن حميد من طَرِيق أبي معشر عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: افتدى كَعْب من أَذَى كَانَ بِرَأْسِهِ، فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها) . وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن أبي ليلى عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قيل لِابْنِ كَعْب بن عجْرَة: مَا صنع أَبوك حَيْثُ أَصَابَهُ الْأَذَى فِي رَأسه؟ قَالَ: ذبح بقرة. قلت: هَذَا كُله لَا يُسَاوِي مَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) من أَن الَّذِي أَمر بِهِ كَعْب وَفعله فِي النّسك إِنَّمَا هُوَ شَاة، وَقد قَالَ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله: لفظ الْبَقَرَة مُنكر شَاذ، وَقَالَ ابْن حزم: وَخبر كَعْب بن عجْرَة الصَّحِيح فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي ليلى، وَالْبَاقُونَ روايتهم مضطربة موهومة، فَوَجَبَ ترك مَا اضْطربَ فِيهِ وَالرُّجُوع إِلَى رِوَايَة عبد الرَّحْمَن الَّتِي لم تضطرب، وَلَو كَانَ مَا ذكر فِي هَذِه الْأَخْبَار عَن قضايا شَتَّى لوَجَبَ الْأَخْذ بجميعها وَضم بَعْضهَا ءلى بعض، وَلَا يُمكن هُنَا جمعهَا لِأَنَّهَا كلهَا فِي قصَّة وَاحِدَة فِي مقَام وَاحِد فِي رجل وَاحِد فِي وَقت وَاحِد، فَوَجَبَ أَخذ مَا رَوَاهُ أَبُو قلَابَة وَالشعْبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن عَن كَعْب، لثقتهما، وَلِأَنَّهَا مبينَة لسَائِر الْأَحَادِيث.
7181 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حَدثنَا رَوْحٌ قَالَ حدَّثنا شِبْلٌ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبي لَيْلَى عنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رآهُ وأنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقال أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ فأمَرَهُ أنْ يَحْلِقَ وهْوَ بِالْحُدَيْبِيَّةِ ولَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وهُمْ عَلَى طَمَعٍ أنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فأنْزَلَ الله الفِدْيَةَ فأمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُطْعِمَ فَرَقا بَيْنَ سَتَّةٍ أوْ يُهْدِي شَاةً أوْ يَصُومَ ثلاثَةَ أيَّامٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو يهدي شَاة) ، وَإِسْحَاق، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ ابْن مَنْصُور الكوسج، وَقيل: هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه وروح بن عبَادَة. وشبل، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عباد الْمَكِّيّ، وَابْن أبي نجيح: هُوَ عبد الله بن أبي نجيح الْمَكِّيّ.
قَوْله: (رَآهُ) أَي: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعْب بن عجْرَة. قَوْله: (وَأَنه) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْقمل، والسياق يدل عَلَيْهِ، قَالَه الْكرْمَانِي. وَقَالَ: إِمَّا يرجع إِلَى كَعْب، كَأَن نَفسه تسْقط مُبَالغَة فِي كَثْرَة الْقمل وَكَثْرَة الوجع والأذى، وَبَعْضهمْ جعل الضَّمِير فِي: يسْقط رَاجعا إِلَى الْقمل، وَأَنه مَحْذُوف وأكد كَلَامه بِمَا ثَبت كَذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات، يَعْنِي: (وَأَن كَعْبًا يسْقط الْقمل على وَجهه) ، وَله وَجه حسن دلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة عَن مُحَمَّد بن معمر عَن روح بِلَفْظ: (رَآهُ وقمله يسْقط على وَجهه) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي حُذَيْفَة عَن شبْل: (رأى قملاً يتساقط على وَجهه) . قَوْله: (يسْقط) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن وَأبي ذَر: (ليسقط) بِزِيَادَة لَام التَّأْكِيد. قَوْله: (وَلم يتَبَيَّن لَهُم) ، أَي: لم يظْهر لمن كَانُوا فِي الْحُدَيْبِيَة مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد فِي ذَلِك الْوَقْت أَنهم يحلونَ بهَا. أَي: بِالْحُدَيْبِية، لأَنهم كَانُوا على طمع أَن يدخلُوا مَكَّة. قيل: هَذِه الزِّيَادَة ذكرهَا الرَّاوِي لبَيَان أَن الْحلق كَانَ لاستباحة مَحْظُور بِسَبَب الْأَذَى لَا لقصد التَّحَلُّل بالحصر. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فِيهِ دَلِيل أَن من كَانَ على رَجَاء من الْوُصُول إِلَى الْبَيْت أَن عَلَيْهِ أَن يُقيم حَتَّى ييئس من الْوُصُول إِلَيْهِ فَيحل، وَاتَّفَقُوا على أَن من ييئس من الْوُصُول وَجَاز لَهُ أَن يحل فتمادى على إِحْرَامه ثمَّ أمكنه أَن يصل إِن عَلَيْهِ أَن يمْضِي إِلَى الْبَيْت ليتم نُسكه. قَوْله: (فَأنْزل الله الْفِدْيَة) ظَاهره(10/156)
أَن النُّزُول بعد الحكم. وَفِي رِوَايَة عبد الله بن معقل: أَن النُّزُول قبل الحكم. قَالَ عِيَاض: يحمل على أَنه حكم عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ بِوَحْي غير متلوٍ. ثمَّ نزل الْقُرْآن بِبَيَان ذَلِك. قَوْله: (أَن يطعم فرقا بَين سِتَّة) ، قد مر تَفْسِير الْفرق عَن قريب، أَي: أمره أَن يطعم من الطَّعَام قدر فرق مِنْهُ بَين سِتَّة مَسَاكِين. قَوْله: (أَو يهدي شَاة) أطلق على الْفِدْيَة بِالشَّاة اسْم الْهَدْي، وَبِه يرد على من منع ذَلِك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قد ذكرنَا فِي أول أَحَادِيث الْبَاب أحكاما كَثِيرَة من حَدِيث كَعْب، وَنَذْكُر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ، فَمن ذَلِك: مَا احْتج بِهِ مَالك فِي قَوْله: (وَلم يتَبَيَّن لَهُم) إِلَى آخِره، على وجوب الْكَفَّارَة على الْمَرْأَة تَقول فِي رَمَضَان، غَدا حيضتي. وعَلى الرجل يَقُول: غَدا يَوْم حماي، فيفطران ثمَّ ينْكَشف الْأَمر بالحمى وَالْحيض، كَمَا قَالَا إِن عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَة. لِأَن الَّذِي كَانَ فِي علم الله أَنهم يحلونَ بِالْحُدَيْبِية لم يسْقط عَن كَعْب الْكَفَّارَة الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِ بِالْحلقِ قبل أَن ينْكَشف الْأَمر.
وَمِنْه: أَن قَوْله: (إحلق) ، يحْتَمل النّدب وَالْإِبَاحَة. قَالَ ابْن التِّين: وَهَذَا يدل على أَن إِزَالَة الْقمل عَن الرَّأْس مَمْنُوعَة، وَيجب بِهِ الْفِدْيَة، وَكَذَلِكَ الْجَسَد عِنْد مَالك. ثمَّ قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِي: أَخذ القملة من الْجَسَد مُبَاح، وَفِي أَخذهَا من الرَّأْس الْفِدْيَة لأجل ترفهه لَا لأجل القملة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا غَرِيب، فَإِن الشَّافِعِي قَالَ: من قتل قملة تصدق بلقمة، وَهُوَ على وَجه الِاسْتِحْبَاب.
وَمِنْه: أَن النّسك هَهُنَا شَاة، فَلَو تبرع بِأَكْثَرَ من هَذَا جَازَ.
وَمِنْه: أَن صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجوز فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَبِه قَالَ عَطاء فِي رِوَايَة، وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) اخْتلف السّلف فِيمَن لم يجد الْهَدْي وَلم يصم الْأَيَّام الثَّلَاثَة قبل يَوْم النَّحْر، فَقَالَ عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وطاووس: لَا يجْزِيه إلاَّ الْهَدْي، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ ابْن عمر وَعَائِشَة: يَصُوم أَيَّام منى، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: يَصُوم بعد أَيَّام التَّشْرِيق، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
وَمِنْه: أَن السّنة مبينَة لمجمل الْكتاب لإِطْلَاق الْفِدْيَة فِي الْقُرْآن وتقييدها بِالسنةِ.
وَمِنْه: تلطف الْكَبِير بِأَصْحَابِهِ وعنايته بأحوالهم وتفقده لَهُم، وَإِذا رأى بِبَعْض أَصْحَابه ضَرَرا سَأَلَ عَنهُ وأرشده إِلَى الْمخْرج عَنهُ.
وَمِنْه: أَن بعض الْمَالِكِيَّة استنبطوا مِنْهُ إِيجَاب الْفِدْيَة على من تعمد حلق رَأسه بِغَيْر عذر، فَإِن إِيجَابهَا على الْمَعْذُور من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، لَكِن لَا يلْزم من ذَلِك التَّسْوِيَة بَين الْمَعْذُور وَغَيره، وَمن ثمَّة قَالَ الشَّافِعِي: وَجُمْهُور الْعلمَاء لَا يتَخَيَّر الْعَامِد، بل يلْزمه الدَّم، وَخَالف فِي ذَلِك أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَاحْتج لَهُم الْقُرْطُبِيّ، بقوله فِي حَدِيث كَعْب: (أَو اذْبَحْ نسكا) . قَالَ: فَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِهَدي. قَالَ: فعلى هَذَا يجوز أَن يذبحها حَيْثُ شَاءَ، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا دلَالَة فِيهِ، إِذْ لَا يلْزم من تَسْمِيَتهَا نسكا أَو نسيكة أَن لَا تسمى هَديا؟ أَو لَا يعْطى حكم الْهَدْي؟ وَقد وَقع تَسْمِيَتهَا: هَديا، فِي هَذَا الْبَاب حَيْثُ قَالَ: (وَيهْدِي شَاة) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (واهدِ هَديا) ، وَفِي رِوَايَة للطبراني: (هَل لَك هدي؟ قلت: لَا أجد) ، وَهَذَا يدل على أَن ذَلِك من تصرف الروَاة، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم: (أَو اذْبَحْ شَاة) .
8181 - وعَنْ محَمَّدِ بنِ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا ورْقَاءُ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي لَيْلَى عنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رآهُ وقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ مثْلَهُ..
ظَاهره التَّعْلِيق وَلكنه عطف على روح، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن إِسْحَاق رَوَاهُ عَن روح، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، وَكَذَا وَقع فِي تَفْسِير إِسْحَاق، وورقاء هُوَ ابْن عمر بن كُلَيْب أَبُو بشر الْيَشْكُرِي، وَيُقَال: الشَّيْبَانِيّ، أَصله من خوارزم، وَيُقَال:(10/157)
من الْكُوفَة نزل الْمَدَائِن، وَقد مر فِي الْوضُوء، وَفِي الأَصْل الورقاء تَأْنِيث الأورق. قَوْله: (وقمله) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (مثله) أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور.
9 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {فَلاَ رَفَثَ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الحَدِيث فِي الرَّفَث فِي قَول الله تَعَالَى: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفص وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) .
9181 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شعْبَةُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلم يرْفث) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب، ضد الصُّلْح أَبُو أَيُّوب الواشجي، وواشج حَيّ من الأزد قَاضِي مَكَّة. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو غياث. الرَّابِع: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، الْأَشْجَعِيّ، واسْمه سلمَان مولى عزة الأشجعية. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَمَنْصُور وَأَبُو حَازِم كوفيان، وَعلل بَعضهم هَذَا الْإِسْنَاد بالاختلاف على مَنْصُور لِأَن الْبَيْهَقِيّ أوردهُ من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مَنْصُور عَن هِلَال بن يسَاف عَن أبي حَازِم، زَاد فِيهِ رجلا، وَأجِيب: بِأَن منصورا صرح بِسَمَاعِهِ لَهُ من أبي حَازِم الْمَذْكُور فِي رِوَايَة صَحِيحَة حَيْثُ قَالَ: عَن مَنْصُور سَمِعت أَبَا حَازِم، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون مَنْصُور قد سَمعه أَولا من هِلَال عَن أبي حَازِم، ثمَّ لَقِي أَبَا حَازِم فَسَمعهُ مِنْهُ، فَحدث بِهِ على الْوَجْهَيْنِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن سعيد بن مَنْصُور وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن ابْن الْمثنى عَن غنْدر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي عمار الْمروزِي، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من حج هَذَا الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة جرير عَن مَنْصُور: (من أَتَى هَذَا الْبَيْت) . قيل: هُوَ أَعم من قَوْله: (من حج) . قلت: لفظ: حج، مَعْنَاهُ قصد وَهُوَ أَيْضا أَعم من أَن يكون لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة. قَوْله: (هَذَا الْبَيْت) يدل على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قَالَه وَهُوَ فِي مَكَّة، لِأَن: بِهَذَا، يشار إِلَى الْحَاضِر. قَوْله: (فَلم يرْفث) ، بِضَم الْفَاء وَكسرهَا وَفتحهَا، وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة وَعند أهل اللُّغَة: يرْفث، بِضَم الْفَاء من بَاب: نصر ينصر، وَيَرْفث بِكَسْر الْفَاء حَكَاهُ صَاحب (الْمَشَارِق) ، فَيكون من بَاب: ضرب يضْرب، وَيَرْفث بِفَتْح الْفَاء يكون من بَاب: علم يعلم، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: يرْفث، بِضَم الْيَاء وَكسر الْفَاء من: أرفث. حَكَاهُ ابْن الْقُوطِيَّة وَابْن طريف فِي (الْأَفْعَال) ، على أَنه جَاءَ على فعل وأفعل، والرفث، بِفَتْح الْفَاء الِاسْم، وَأَصله ذكر بِإِسْكَان الْفَاء، والرفث يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْجِمَاع، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور فِي قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} (الْبَقَرَة: 781) . وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْفُحْش، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ ذكر الْجِمَاع، وَقيل: المُرَاد بِهِ ذَلِك مَعَ النِّسَاء لَا مطلقه، وَقد اخْتلف فِي المُرَاد بالرفث فِي الحَدِيث على هَذِه الْأَقْوَال: قَالَ الْأَزْهَرِي: هِيَ كلمة جَامِعَة لكل مَا يُرِيد الرجل من الْمَرْأَة، وَالْفَاء فِي: (فَلم يرْفث) ، عطف على الشَّرْط، أَعنِي قَوْله: (من حج) ، وَجَوَابه قَوْله: (رَجَعَ) ، أَي: رَجَعَ إِلَى بَلَده. قَوْله: (وَلم يفسق) ، من الفسوق وَهُوَ الْخُرُوج عَن حُدُود الشَّرِيعَة، وَأَصله الْخُرُوج، يُقَال: فسقت الْخَشَبَة عَن مَكَانهَا إِذا زَالَت، فالفاسق خَارج عَن الطَّاعَة، وَقيل: لم يفسق أَي لم يذبح لغير الله تَعَالَى على الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رفث وَلَا فسوق} (الْبَقَرَة: 791) . وَقيل الْفسق مَا ؤصابه من محارم الله وَقيل قَول الزُّور قيل السباب (فَإِن قلت)
لم يذكر فِيهِ الْجِدَال مَعَ أَنه مَذْكُور فِي الْقُرْآن. قلت: لِأَن المجادلة ارْتَفَعت بَين الْعَرَب وقريش فِي مَوضِع الْوُقُوف(10/158)
بِعَرَفَة والمزدلفة، فَأسْلمت قُرَيْش وَارْتَفَعت المجادلة، ووقف الْكل بِعَرَفَة. قَوْله: (كَمَا وَلدته أمه) ، الْجَار وَالْمَجْرُور حَال، أَي مشابها لنَفسِهِ فِي الْبَرَاءَة عَن الذُّنُوب فِي يَوْم الْولادَة، أَو يكون معنى: رَجَعَ، صَار والظرف خَبره، وَقَوله فِي الحَدِيث الْآتِي: (كَيَوْم) بِالْفَتْح وَالْكَسْر جَائِز، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، وَمعنى اللَّفْظَيْنِ قريب، وَظَاهره الصَّغَائِر والكبائر. وَقَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : هَذَا يتَضَمَّن غفران الصَّغَائِر والكبائر والتبعات، وَيُقَال: هَذَا فِيمَا يتَعَلَّق بِحَق الله، لِأَن مظالم النَّاس تحْتَاج إِلَى استرضاء الْخُصُوم. فَإِن قلت: العَبْد مَأْمُور باجتناب مَا ذكر فِي كل الْحَالَات، فَمَا معنى تَخْصِيص حَالَة الْحَج؟ قلت: لِأَن ذَلِك مَعَ الْحَج أسمج وأقبح، كلبس الْحَرِير فِي الصَّلَاة.
01 - (بابُ قَولِ الله عزَّ وجلَّ {ولاَ فُسُوقَ ولاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} (الْبَقَرَة: 791) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي الحَدِيث فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَلَا فسوق} (الْبَقَرَة: 791) .
0281 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورِ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَم يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسقْ رَجَعَ كَيَومَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ..
هَذَا بِعَيْنِه هُوَ الحَدِيث السَّابِق قبل هَذَا الْبَاب غير أَنه أخرج ذَاك: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور، وَهَذَا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور إِلَى آخِره، وَغير أَن هُنَاكَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهنا: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَغير أَن هُنَاكَ: كَمَا وَلدته أمه، وَهنا: كَيَوْم وَلدته أمه. فَإِن قلت: من أَيْن قلت: إِن سُفْيَان فِي الْإِسْنَاد هُوَ الثَّوْريّ؟ وَقد أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور؟ قلت: نَص الْبَيْهَقِيّ على أَن سُفْيَان فِي رِوَايَة البُخَارِيّ هُوَ الثَّوْريّ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَن أبي الْحسن بن بَشرَان عَن أبي الْحسن عَليّ بن بكر الْمصْرِيّ عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور، فَذكر الحَدِيث وَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) عَن الْفرْيَابِيّ، وَكَذَا قَالَه أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ، فَإِذا كَانَ كَمَا نصا عَلَيْهِ فسفيان هُوَ الثَّوْريّ، قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) وَالله أعلم.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
82 - (كتاب جَزَاء الصَّيْد)
وقَوْلِ الله تعَالى {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بالبسملة أَولا، ثمَّ بِالْبَابِ الْمَذْكُور، ثمَّ بقوله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا الصَّيْد} (الْمَائِدَة: 59) . أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَزَاء الصَّيْد إِذا بَاشر الْمحرم قَتله، وَأَشَارَ بقوله: وَنَحْوه، أَي: وَنَحْو جَزَاء الصَّيْد إِلَى: تنفير صيد الْحرم، وَإِلَى عضد شَجَره، وَغير ذَلِك مِمَّا يُبينهُ بَابا بَابا، ولغير أبي ذَر هَكَذَا.
1 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ ومٍ نْ قتَلَهُ مِنْكْمْ مُتَعَمِّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما لِيَذُوقَ وبالَ أمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ ومنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ وَالله عَزِيزٌ ذِو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتاعا لَكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُما واتَّقُوا الله الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} )
سرد البُخَارِيّ من سُورَة الْمَائِدَة من قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) . إِلَى قَوْله: {إِلَيْهِ تحشرون} (الْمَائِدَة: 59) . وَلم يذكر فِيهِ حَدِيثا إِمَّا اكْتِفَاء بِمَا فِي الَّذِي ذكره، وَإِمَّا أَنه لم يظفر بِحَدِيث مَرْفُوع فِي جَزَاء الصَّيْد على شَرطه.
ثمَّ الْكَلَام هَهُنَا على أَنْوَاع:
الأول فِي سَبَب النُّزُول: قَالَ مقَاتل فِي (تَفْسِيره) : كَانَ أَبُو الْيُسْر، واسْمه عَمْرو بن مَالك الْأنْصَارِيّ، محرما فِي عَام الْحُدَيْبِيَة بِعُمْرَة(10/159)
فَقتل حمَار وَحش، فَنزلت فِيهِ: {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) . وَقَالَ ابْن إِسْحَاق ومُوسَى بن عقبَة والواقدي، وَآخَرُونَ: نزلت فِي كَعْب بن عَمْرو وَكَانَ محرما فِي عَام الْحُدَيْبِيَة، فَقتل حمَار وَحش.
النَّوْع الثَّانِي: فِي الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب: قَوْله: {وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) . جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَالْحرم جمع حرَام كردح جمع رداح، يُقَال رجل حرَام وَامْرَأَة حرَام. {مُتَعَمدا} نصب على الْحَال، والتعمد أَن يقْتله وَهُوَ ذَاكر لإحرامه، وعالم بِأَن مَا يقْتله مِمَّا حرم عَلَيْهِ قَتله. قَوْله: {فجزاء مثل مَا قتل} بِرَفْع: جَزَاء، وَمثل، جَمِيعًا بِمَعْنى: فعيله جَزَاء يماثل مَا قتل من الصَّيْد، وَقَرَأَ بَعضهم بِالْإِضَافَة أَعنِي بِإِضَافَة جَزَاء إِلَى قَوْله: {مثل} وَحكى ابْن جرير عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَهَا: {فَجَزَاؤُهُ مثل مَا قتل} وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء على الْإِضَافَة، وَأَصله: فجزاء مثل مَا قتل، بِنصب: مثلى، بِمَعْنى: فَعَلَيهِ أَن يجزىء مثل مَا قتل، ثمَّ أضيف كَمَا تَقول: عجبت من ضرب زيد، أَثم من ضرب زيد؟ وَقَرَأَ السّلمِيّ على الأَصْل، وَقَرَأَ مُحَمَّد بن مقَاتل، فجزاء مثل مَا قتل بنصبهما بِمَعْنى فليجز جَزَاء مثل مَا قتل. قَوْله: {من النعم} ، وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، فَإِن انْفَرَدت الْإِبِل وَحدهَا قيل لَهَا: نعم، قَالَ الْفراء:: هُوَ ذكر لَا يؤنث. وَقَرَأَ الْحسن: {من النعم} بِسُكُون الْعين استثقل الْحَرَكَة على حرف الْحلق فسكنه. قَوْله: يحكم بِهِ أَي بِالْمثلِ قَوْله ذُو عدل يَعْنِي حكمان عادلان من الْمُسلمين وذوا تَشْبِيه ذومعنى صَاحب قَوْله {هَديا} ، حَال عَن جَزَاء فِيمَن وَصفه بِمثل، لِأَن الصّفة خصصته فقربته من الْمعرفَة، أَو بدل عَن مثل فِيمَن نَصبه، أَو عَن مجله فِيمَن جَرّه، وَيجوز أَن ينْتَصب حَالا من الضَّمِير فِي: بِهِ، وَالْهَدْي: مَا يهدي إِلَى الْحرم من النعم. قَوْله: {بَالغ الْكَعْبَة} صفة لهديا، وَلَا يمْنَع من ذَلِك، لِأَن إِضَافَته غير حَقِيقِيَّة، وَمعنى: بُلُوغه الْكَعْبَة أَن يذبح بِالْحرم. قَوْله: {أَو كَفَّارَة} ، عطف على: {فجزاء} أَي: فَعَلَيهِ كَفَّارَة، وارتفاعه فِي الأَصْل على الِابْتِدَاء وَخَبره مقدما مُقَدّر، قَوْله: {طَعَام مَسَاكِين} مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ طَعَام مَسَاكِين، وَيجوز أَن يكون بَدَلا من كَفَّارَة، أَو عطف بَيَان وقرىء: {كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين} بِالْإِضَافَة كَأَنَّهُ قيل: أَو كَفَّارَة من طَعَام مَسَاكِين، كَقَوْلِك: خَاتم فضَّة، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: {أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين} بِالْإِضَافَة كَأَنَّهُ قيل: أَو كَفَّارَة من طَعَام مَسَاكِين، كَقَوْلِك: خَاتم فضَّة، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: {أَو كَفَّارَة طَعَام مِسْكين} ، بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ وَاحِد، دَال على الْجِنْس. قَوْله: {أَو عدل ذَلِك} عطف على مَا قبله، وقرىء (أَو عدل ذَلِك) ، بِكَسْر الْعين، وَالْفرق بَينهمَا أَن عدل الشَّيْء بِالْفَتْح مَا عادله من غير جنسه: كَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَام، وعدله بِالْكَسْرِ مَا عدل بِهِ فِي الْمِقْدَار، وَمِنْه: عدلا الْحمل لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عدل بِالْآخرِ حَتَّى اعتدلا، كَأَن المفتوح تَسْمِيَة بِالْمَصْدَرِ والمكسور بِمَعْنى الْمَفْعُول بِهِ، كالذبح، وَنَحْوهمَا الْحمل وَالْحمل. قَوْله: {ذَلِك} إِشَارَة إِلَى الطَّعَام. قَوْله: {صياما} نصب على التَّمْيِيز للعدل، كَقَوْلِك: لي مثله رجلا، قَوْله: {ليذوق وبال أمره} اللَّام تتَعَلَّق بقوله: {فجزاء} أَي: فَعَلَيهِ أَن يجازي أَو يكفر ليذوق سوق عَاقِبَة هتكه لحُرْمَة الْإِحْرَام، والوبال الضَّرَر وَالْمَكْرُوه الَّذِي ينَال فِي الْعَاقِبَة من عمل سوء لثقله عَلَيْهِ، قَوْله: {عَفا الله عَمَّا سلف} أَي عَمَّا سلف لكم من الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام قبل أَن تراجعوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتسألوه عَن جَوَازه وَقيل: {عَفا الله عَمَّا سلف} فِي زمَان الْجَاهِلِيَّة لمن أحسن فِي الْإِسْلَام وَاتبع شرع الله وَلم يرتكب الْمعْصِيَة. قَوْله: {وَمن عَاد} أَي: إِلَى قتل الصَّيْد وَهُوَ محرم بعد نزُول النَّهْي عَنهُ، فينتقم الله مِنْهُ. قَوْله: {فينتقم} خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ ينْتَقم الله مِنْهُ، فَلذَلِك دخلت الْفَاء، وَنَحْوه: {فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف} (الْجِنّ: 31) . يَعْنِي: ينْتَقم مِنْهُ فِي الْآخِرَة. وَقَالَ ابْن جريج: (قلت لعطاء: مَا عَفا الله عَمَّا سلف؟ قَالَ: عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة. قَالَ: قلت: وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ؟ قَالَ: وَمن عَاد فِي الْإِسْلَام فينتقم مِنْهُ، وَعَلِيهِ مَعَ ذَلِك الْكَفَّارَة، قَالَ: قلت: فَهَل للعود من حد تعلمه؟ قَالَ: لَا، قلت: ترى حَقًا على الإِمَام أَن يُعَاقِبهُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ ذَنْب أذنبه فِيمَا بَينه وَبَين الله عز وَجل، وَلَكِن يفتدي) رَوَاهُ ابْن جرير، وَقيل: مَعْنَاهُ. فينتقم الله مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَعَطَاء قَوْله: {وَالله عَزِيز ذُو انتقام} يَعْنِي) ذُو معاقبة لمن عَصَاهُ، على مَعْصِيَته إِيَّاه. قَوْله: {أحل لكم} أَي: أحل الْمَأْكُول مِنْهُ وَهُوَ السّمك. وَحده عِنْد أبي حنيفَة وَعند ابْن أبي ليلى: جَمِيع مَا يصاد فِيهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة، وَسَعِيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير فِي قَوْله: {أحل لكم صيد الْبَحْر} مَا يصاد مِنْهُ طريا، وَطَعَامه مَا يتزود مِنْهُ ملحا يَابسا. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي الْمَشْهُور عَنهُ: صَيْده: مَا أَخذ مِنْهُ حَيا، و: طَعَامه: مَا لَفظه مَيتا. وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق، وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعِكْرِمَة وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَقَالَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة: عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عِكْرِمَة عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: طَعَامه كل مَا فِيهِ، رَوَاهُ ابْن(10/160)
جرير وَابْن أبي حَاتِم، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: طَعَامه مَا لَفظه حَيا أَو حسر عَنهُ فَمَاتَ، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم، وَقَالَ ابْن جرير: وَقد ورد فِي ذَلِك خبر وَبَعْضهمْ يرويهِ مَوْقُوفا. حَدثنَا هناد بن السّري، قَالَ: حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد ابْن عَمْرو حَدثنَا أَبُو سَلمَة (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، {أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم} (الْمَائِدَة: 69) . قَالَ: طَعَامه مَا لَفظه مَيتا) . ثمَّ قَالَ: وَقد وَقفه بَعضهم على أبي هُرَيْرَة. قَوْله: {مَتَاعا لكم} (الْمَائِدَة: 69) . نصب على أَنه مفعول لَهُ، أَي: أحل لكم لأجل التَّمَتُّع لكم تَأْكُلُونَ طريا ولسيارتكم يتزودونه قديدا كَمَا تزَود مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْحُوت فِي مسيره إِلَى الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والسيارة: جمع سيار، وهم المسافرون، وَكَانَ بَنو مُدْلِج ينزلون سيف الْبَحْر فَسَأَلُوهُ عَمَّا نضب عَنهُ المَاء من السّمك، فَنزلت قَوْله: {وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر} (الْمَائِدَة: 69) . صيد الْبر مَا يفرح فِيهِ وَإِن كَانَ يعِيش فِي المَاء فِي بعض الْأَوْقَات كطير المَاء. قَوْله: {مَا دمتم حرما} (الْمَائِدَة: 69) . أَي: مَا دمتم محرمين أَي: حَال أحرامكم يحرم عَلَيْكُم الإصطياد وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر على بِنَاء الْفَاعِل وَنصب الصَّيْد حرم الله عَلَيْكُم، وقرىء: مَا دمتم، بِكَسْر الدَّال من: دَامَ يدام. قَوْله: {وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} (الْمَائِدَة: 69) . أَي: خَافُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تجمعون يَوْم الْقِيَامَة فيجازيكم بِحَسب أَعمالكُم.
النَّوْع الثَّالِث: فِي استنباط الْأَحْكَام وَبَيَان مَذَاهِب الْأَئِمَّة فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: فِي قتل الصَّيْد فِي حَالَة الْإِحْرَام، وَهُوَ حرَام بِلَا خلاف، وَيجب الْجَزَاء بقتْله لقَوْله تَعَالَى: {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 59) . وَسَوَاء فِي ذَلِك كَانَ الْقَاتِل نَاسِيا أَو عَامِدًا أَو مبتدئا فِي الْقَتْل أَو عَائِدًا إِلَيْهِ لِأَن الصَّيْد مَضْمُون بِالْإِتْلَافِ كغرامة الْأَمْوَال، فيستوي فِيهِ الْأَحْوَال وَقيد العمدية فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة، أما لِأَن مورد النَّص فِيمَن تعمد، أَو لِأَن الأَصْل فعل الْمُتَعَمد، وَالْخَطَأ مُلْحق بِهِ للتغليظ. قَالَ الزُّهْرِيّ: نزل الْكتاب بالعمد وَجَاءَت السّنة بالْخَطَأ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا ابْن علية (عَن أَيُّوب، قَالَ: نبئت عَن طَاوُوس قَالَ: لَا يحكم على من أصَاب صيدا خطأ، إِنَّمَا يحكم على من أَصَابَهُ متعمدر) ، وَهَذَا مَذْهَب غَرِيب وَهُوَ متمسك بِظَاهِر الْآيَة، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ مُجَاهِد: المُرَاد بالمتعمد القاصد إِلَى قتل الصَّيْد النَّاسِي لإحرامه، فَأَما الْمُتَعَمد لقتل الصَّيْد مَعَ ذكره لإحرامه فَذَاك أمره أعظم من أَن يكفر وَقد بَطل إِحْرَامه، رَوَاهُ ابْن جرير عَنهُ من طَرِيق ابْن أبي نجيح وَلَيْث بن أبي سليم وَغَيرهمَا عَنهُ، وَهُوَ قَول غَرِيب أَيْضا. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِن قَتله مُتَعَمدا قيل لَهُ: هَل قتلت قبله شَيْئا من الصَّيْد؟ فَإِن قَالَ: نعم، لم يحكم عَلَيْهِ، وَقيل لَهُ: إذهب فينتقم الله مِنْك. وَإِن قَالَ: لم أقتل حكم عَلَيْهِ، وَإِن قتل بعد ذَلِك لم يحكم عَلَيْهِ، ويملأ ظَهره وبطنه ضربا وجيعا، وَبِذَلِك حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صيدوج، وادٍ بِالطَّائِف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مَا ذَكرْنَاهُ.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي وجوب الْجَزَاء فِي قَوْله: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) . فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن: المُرَاد بِالْآيَةِ إِخْرَاج مثل الصَّيْد الْمَقْتُول من النعم إِن كَانَ لَهُ مثل، فَفِي النعامة بَدَنَة، وَفِي بقرة الْوَحْش وَحِمَاره بقرة، وَفِي الغزال عنزة وَفِي الأرنب عنَاق، وَفِي اليربوع جفرة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: الْوَاجِب الْقيمَة فَإِن كَانَ لَهُ مثل ثمَّة يُشترى بِتِلْكَ الْقيمَة هذي أَو طَعَام أَو يُتَصَدَّق بِقِيمَتِه، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) محتجا للشَّافِعِيّ وَمن مَعَه فِي قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) . على كل من الْقِرَاءَتَيْن دَلِيل لما ذهب إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْجُمْهُور من وجوب الْجَزَاء من مثل مَا قَتله الْمحرم إِذا كَانَ لَهُ مثل من الْحَيَوَان الأنسي، خلافًا لأبي حنيفَة حَيْثُ أوجب الْقيمَة سَوَاء كَانَ الصَّيْد الْمَقْتُول مِثْلَمَا أَو غير مثلي، وَهُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ تصدق بِثمنِهِ، وَإِن شَاءَ اشْترى بِهِ هَديا، وَالَّذِي حكم بِهِ الصَّحَابَة فِي الْمثْلِيّ أولى بالاتباع، فَإِنَّهُم حكمُوا فِي النعامة ببدنة، وَفِي بقر الْوَحْش ببقرة، وَفِي الغزال بعنز، وَأما إِذا لم يكن الصَّيْد مثلِيا فقد حكم ابْن عَبَّاس فِيهِ بِثمنِهِ يحمل إِلَى مَكَّة، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وروى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : أخبرنَا أَبُو الزبير عَن جَابر أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قضى فِي الضبع بكبش، وَفِي الغزال بعنز، وَفِي الأرنب بعناق، وَفِي اليربوع بجفرة. انْتهى. وَعَن مَالك، رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَعبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ، وَأخر رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَمن جِهَته الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) : عَن سعيد بن سَالم عَن ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي: أَن عمر(10/161)
وَعُثْمَان وعليا وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة قَالُوا فِي النعامة: يَقْتُلهَا الْمحرم بَدَنَة من الْإِبِل، وروى الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَعبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) قَالَا: أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه عبد الله بن مَسْعُود أَنه قضى فِي اليربوع بحفرة وروى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه أخبرنَا إِسْرَائِيل وَغَيره عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: (فِي الْبَقَرَة الوحشية بقرة) . وروى عبد الرَّزَّاق أَيْضا: أخبرنَا هشيم عَن مَنْصُور عَن ابْن سِيرِين أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَمر محرما مَا أصَاب ظَبْيًا يذبح شَاة عفراء) . وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي كتاب (غَرِيب الحَدِيث) : حَدثنَا عبد الله بن صَالح أخبرنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: فِي اليربوع حمل، ثمَّ نقل عَن الْأَصْمَعِي: أَن الْحمل ولد الضَّأْن الذّكر، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي حمامة الْحرم شَاة، وَفِي بيضتين دِرْهَم، وَفِي النعامة جزور، وَفِي الْبَقَرَة بقرة وَفِي الْحمار بقرة.
وَاحْتج أَبُو حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بالمعقول والأثر أَيْضا. أما الْمَعْقُول: فَهُوَ أَن الْحَيَوَان غير مَضْمُون بِالْمثلِ فَيكون مَضْمُونا بِالْقيمَةِ، كالمملوك، وَمثل الْحَيَوَان قِيمَته، لِأَن الْمثل الْمُطلق هُوَ الْمثل صُورَة وَمعنى، فَإِذا تعذر ذَلِك حمل على الْمثل الْمَعْنَوِيّ وَهُوَ الْقيمَة. وَأما الْأَثر: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه فسر الْمثل بِالْقيمَةِ، فَحمل على الْمثل معنى لكَونه معهودا فِي الشَّرْع، يُوضحهُ أَن الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس أبلغ مِنْهُ عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس، فَإِذا لم تكن النعامة مثلا للنعامة كَيفَ تكون الْبَدنَة مثلا للنعامة؟ والمثل من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة، فَمن ضَرُورَة كَون الشَّيْء مثلا لغيره أَن يكون ذَلِك الْغَيْر مثلا لَهُ، ثمَّ لَا تكون النعامة مثلا للبدنة عِنْد الْإِتْلَاف فَكَذَلِك لَا تكون الْبَدنَة مثلا للنعامة، وَإِذا تعذر اعْتِبَار الْمُمَاثلَة صُورَة وَجب اعْتِبَارهَا بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْقيمَة، وَلِأَن الْقيمَة أريدت بِهَذَا النَّص فِي الَّذِي لَا مثل لَهُ بِالْإِجْمَاع، فَلَا يبْقى غَيره مرَادا، لِأَن الْمثل مُشْتَرك والمشترك لَا عُمُوم لَهُ فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق.
وَأما الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِي وَمن جِهَته الْبَيْهَقِيّ، فضعيف ومنقطع لِأَن عَطاء الْخُرَاسَانِي فِيهِ مقَال وَلم يدْرك عمر وَلَا عُثْمَان وَلَا عليا وَلَا زيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لِأَن عَطاء الْخُرَاسَانِي ولد سنة خمسين، قَالَه ابْن معِين وَغَيره، وَكَانَ فِي زمن مُعَاوِيَة صَبيا، وَلم يثبت لَهُ سَماع من ابْن عَبَّاس مَعَ احْتِمَاله، فَإِن ابْن عَبَّاس توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، وَأما الَّذِي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة عَن أَبِيه عبد الله بن مَسْعُود فَإِنَّهُ لم يسمع من أَبِيه شَيْئا. فَإِن قلت: قَالَ ابْن جرير: حَدثنَا هناد وَأَبُو هَاشم الرِّفَاعِي، قَالَا: حَدثنَا وَكِيع بن الْجراح عَن المَسْعُودِيّ عَن عبد الْملك بن عُمَيْر: (عَن قبيصَة بن جَابر، قَالَ: خرجنَا حجاجا، فَكُنَّا إِذا صلينَا الْغَدَاة افتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحن ذَات غداء إِذْ سنح لنا ظَبْي، أَو برح، فَرَمَاهُ رجل كَانَ مَعنا بِحجر، فَمَا أَخطَأ حشاه، فَركب ردعه مَيتا، قَالَ: فمعظمنا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة خرجت مَعَه حَتَّى أَتَيْنَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، قَالَ: وَإِذا إِلَى جَانِبه رجل كَانَ وَجهه قلت فضَّة، يَعْنِي: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، فَالْتَفت إِلَى صَاحبه فَكَلمهُ، ثمَّ أقبل على الرجل فَقَالَ: أعمدا قتلته أم خطا، قَالَ الرجل: لقد تَعَمّدت رميه وَمَا أردْت قَتله، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَا أَرَاك إلاَّ قد أشركت بَين الْعمد وَالْخَطَأ، إعمد إِلَى شَاة فاذبحها فَتصدق بلحمها واستق إهابها. قَالَ: فقمنا من عِنْده، فَقلت لصاحبي: أَيهَا الرجل، عظِّم شَعَائِر الله فَمَا درى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا يفتيك حَتَّى سَأَلَ صَاحبه إعمد إِلَى نَاقَتك فانحرها فَلَعَلَّ ذَاك. قَالَ: فتبعته، وَلَا أذكر الْآيَة من سُورَة الْمَائِدَة: {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} (الْمَائِدَة: 59) . قَالَ: فَبلغ عمر مَقَالَتي فَلم يفجأ مِنْهُ إلاَّ وَمَعَهُ الدرة، قَالَ صَاحِبي: ضربا بِالدرةِ أقتلت فِي الْحرم، وسفهت الحكم؟ ثمَّ أقبل عَليّ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أحل الْيَوْم شَيْئا يحرم عَلَيْك مني، قَالَ: يَا قبيصَة بن جَابر إِنِّي لَا أَرَاك شَاب السن فسيح الصَّدْر بَين اللِّسَان، وَإِن الشَّاب يكون فِيهِ تِسْعَة أَخْلَاق حَسَنَة وَخلق سيء فَيفْسد الْخلق السيء الْأَخْلَاق الْحَسَنَة، فإياك وعثرات الشَّبَاب) . قلت: روى هشيم هَذِه الْقِصَّة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن قبيصَة بِنَحْوِهِ وَذكرهَا مُرْسلَة عَن عمر بن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَرَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) من حَدِيث ابْن سِيرِين مُخْتَصرا.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي حكم الحَكَمَيْنِ فِيهِ، قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَمُحَمّد بن الْحسن: الْخِيَار فِي تعْيين الْهَدْي أَو الْإِطْعَام أَو الصّيام إِلَى الْحكمَيْنِ العدلين، فَإِذا حكما بِالْهَدْي فَالْمُعْتَبر فِيمَا لَهُ مثل وَنَظِيره من حَيْثُ الْخلقَة مَا هُوَ مثل، كَمَا ذَكرْنَاهُ: وَالْمُعْتَبر فِيمَا لَا مثل لَهُ الْقيمَة لقَوْله تَعَالَى: {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا} (الْمَائِدَة: 59) . نصب هَديا لوُقُوع الحكم عَلَيْهِ، وَفِي وجوب الْمثل فِيمَا لَهُ مثل قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) . أوجب الْمثل من النعم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: الْخِيَار للْقَاتِل فِي أَن يَشْتَرِي بهَا، يَعْنِي(10/162)
بِقِيمَة الْمَقْتُول لِأَن الْوُجُوب عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْيَمين، فَالْخِيَار إِلَيْهِ وَحكم الْحكمَيْنِ لتقدير الْقيمَة، وهديا نصب على الْحَال، أَي: فِي حَال الإهداء فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْقَاتِل أحد الْحكمَيْنِ هَل يجوز؟ قلت: يجوز عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد، وَعند مَالك: لَا يجوز، لِأَن الْحَاكِم لَا يكون مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي صُورَة وَاحِدَة. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن حَدثنَا جَعْفَر هُوَ ابْن برْقَان (عَن مَيْمُون بن مهْرَان: أَن أَعْرَابِيًا أُتِي أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قتلت صيدا وَأَنا محرم، فَمَا ترى عَليّ من الْجَزَاء؟ فَقَالَ أَبُو بكر لأبي بن كَعْب، وَهُوَ جَالس عِنْده: مَا ترى فِيهَا؟ قَالَ: فَقَالَ الْأَعرَابِي: أَتَيْتُك وَأَنت خَليفَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَسأَلك، فَإِذا أَنْت تسْأَل غَيْرك؟ فَقَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَمَا تنكر بقول الله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل} (الْمَائِدَة: 59) . فشاورت صَاحِبي حَتَّى إِذا اتفقنا على أَمر أمرناك بِهِ) . وَهَذَا إِسْنَاد جيد لكنه مُنْقَطع بَين مَيْمُون وَبَين الصّديق، وَمثله يحْتَمل هَهُنَا. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا وَكِيع ابْن عُيَيْنَة عَن مُخَارق عَن طَارق قَالَ أرطأ: أُرِيد ظَبْيًا، فَقتله وَهُوَ محرم، فَأتى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليحكم عَلَيْهِ، فَقَالَ عمر: احكم معي، فحكما فِيهِ جديا قد جمع المَاء وَالشَّجر) . قلت: مُخَارق هُوَ ابْن خَليفَة الأحمسي الْكُوفِي، من رجال البُخَارِيّ، وَالْأَرْبَعَة، وطارق هُوَ ابْن شهَاب الأحمسي أَبُو عبد الله الْكُوفِي، رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدْركَ الْجَاهِلِيَّة، وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغزا فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ أَو ثَلَاثًا وَأَرْبَعين من غَزْوَة إِلَى سَرِيَّة، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ من الْهِجْرَة، وَقَالَ يحيى بن معِين: مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَهُوَ وهم، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي بَيَان الْكَفَّارَة إِذا لم يجد الْمحرم مثل مَا قتل من النعم، أَو لم يكن الصَّيْد الْمَقْتُول من ذَوَات الْأَمْثَال، أَو قُلْنَا بالتخيير فِي هَذَا الْمقَام من الْجَزَاء وَالْإِطْعَام وَالصِّيَام، كَمَا هُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد لظَاهِر، أَو بِأَنَّهَا للتَّخْيِير، وَالْقَوْل الآخر، أَنَّهَا على التَّرْتِيب، فصورة ذَلِك أَن يعدل إِلَى الْقيمَة فَيقوم الصَّيْد الْمَقْتُول عِنْد مَالك وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَحَمَّاد وَإِبْرَاهِيم. وَقَالَ الشَّافِعِي: يقوم مثله من النعم لَو كَانَ مَوْجُودا ثمَّ يَشْتَرِي بِهِ طَعَاما وَيتَصَدَّق بِهِ فَيصدق لكل مِسْكين مد مِنْهُ عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وفقهاء الْحجاز، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: يطعم لكل مِسْكين مَدين، وَهُوَ قَول مُجَاهِد. وَقَالَ أَحْمد: مد من حِنْطَة ومدان من غَيره، فَإِن لم يجد قُلْنَا بالتخيير، صَامَ عَن إطْعَام كل مِسْكين يَوْمًا. وَقَالَ ابْن جرير. وَقَالَ آخَرُونَ: يَصُوم مَكَان كل صَاع يَوْمًا، كَمَا فِي جَزَاء المترفة بِالْحلقِ وَنَحْوه، وَاخْتلفُوا فِي مَكَان هَذَا الْإِطْعَام، فَقَالَ الشَّافِعِي: مَحَله الْحرم وَهُوَ قَول عَطاء، وَقَالَ مَالك: يطعم فِي الْمَكَان الَّذِي أصَاب فِيهِ الصَّيْد أَو أقرب الْأَمَاكِن إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَاءَ أطْعم فِي الْحرم وَإِن شَاءَ فِي غَيره.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي صيد الْبَحْر، وَقد ذكرنَا فِي فصل الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب شَيْئا من ذَلِك، وَقد اسْتدلَّ جُمْهُور الْعلمَاء على حل ميتَة الْبَحْر بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة، وَبِحَدِيث العنبر على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد احْتج بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة من ذهب من الْفُقَهَاء إِلَى أَنه يُؤْكَل كل دَوَاب الْبَحْر، وَلم يسْتَثْن من ذَلِك شَيْئا. وَقد تقدم عَن الصّديق أَنه قَالَ: طَعَامه كل مَا فِيهِ، وَقد اسْتثْنى بَعضهم الضفادع، وأباح مَا سواهَا لما رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب: عَن سعيد بن خَالِد عَن سعيد بن الْمسيب (عَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن قتل الضفدع) . وَفِي رِوَايَة للنسائي (عَن عبيد الله بن عمر، وَقَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن قتل الضفدع. وَقَالَ: نقيقها تَسْبِيح) وَقَالَ آخَرُونَ: يُؤْكَل من صيد الْبَحْر السّمك، وَلَا يُؤْكَل الضفدع. وَاخْتلفُوا فِيمَا سواهُمَا، فَقيل: يُؤْكَل كل سَائِر ذَلِك. وَقيل: لَا يُؤْكَل، وَهَذِه كلهَا وُجُوه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُؤْكَل مَا مَاتَ فِي الْبَحْر كَمَا لَا يُؤْكَل مَا مَاتَ فِي الْبر لعُمُوم قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} (الْمَائِدَة: 3) . قلت: اسْتثْنى مِنْهُ الْجَرَاد، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَما الْمَيتَتَانِ فَالْحُوت وَالْجَرَاد،. وَأما الدمَان فَالْكَبِد وَالطحَال) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي صيد الْبَحْر للْمحرمِ، حَدثنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي المهزم (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حج أَو عمْرَة، فَاسْتقْبلنَا رجل من جَراد، فَجعلنَا نضربه بأسياطنا وعصينا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كلوا فَإِنَّهُ من صيد الْبَحْر) قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَأَبُو المهزم، بِضَم الْمِيم وَفتح الْهَاء وَكسر الزَّاي الْمُشَدّدَة اسْمه يزِيد بن سُفْيَان، وَقد تكلم فِيهِ(10/163)
شُعْبَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رخص قوم من أهل الْعلم للْمحرمِ أَن يصيد الْجَرَاد فيأكله، وَقد رأى بَعضهم عَلَيْهِ صَدَقَة إِذا اصطاده أَو أكله، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَقَوله: (من صيد الْبَحْر) ظَاهر أَنه من الْبَحْر.
وللعلماء فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
الأول: أَنه من صيد الْبَحْر، هُوَ قَول كَعْب الْأَحْبَار، وَقد روى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن زيد بن أسلم (عَن عَطاء بن يسَار: أَن كَعْب الْأَحْبَار أمره عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ركب محرمين، فَمَضَوْا حَتَّى إِذا كَانُوا بِبَعْض طَرِيق مَكَّة مر رجل من جَراد، فأفتاهم كَعْب أَن يأخذوه فيأكلوه، فَلَمَّا قدمُوا على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكرُوا لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لَهُ: مَا حملك على أَن أفتيتهم بِهَذَا؟ قَالَ: هُوَ من صيد الْبَحْر. قَالَ: وَمَا يدْريك؟ . قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ {وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن هُوَ إلاَّ نثرة حوت نثره فِي كل عَام مرَّتَيْنِ) . وَاخْتلف فِي قَوْله: (نثرة حوت) ، فَقيل: عطسته، وَقيل: هُوَ من تَحْرِيك النثرة، وَهُوَ طرف الْأنف، قَالَ شَيخنَا زين الدّين: فعلى هَذَا يكون بِالْمُثَلثَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَعَلِيهِ اقْتصر صَاحب (الْمَشَارِق) وَغَيره، وَأَنه من الرَّمْي بعنف من قَوْلهم فِي الِاسْتِنْجَاء: ينثر ذكره إِذا اسْتَبْرَأَ من الْبَوْل بِشدَّة وعنف، وَأَن الْجَرَاد يطرحه من أَنفه أَو من دبره بعنف وَشدَّة، وَقيل متولد من رَوْث السّمك.
القَوْل الثَّانِي: أَنه من صيد الْبر يجب الْجَزَاء بقتْله، وَهُوَ قَول عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الصَّحِيح الْمَشْهُور.
القَوْل الثَّالِث: أَنه من صيد الْبر وَالْبَحْر، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي (سنَنه) عَن هشيم عَن مَنْصُور عَن الْحسن.
وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَن الْجَرَاد من صيد الْبر وَفِيه الْجَزَاء فِي مِقْدَار الْجَزَاء على أَقْوَال: أَحدهَا: فِي كل جَرَادَة تَمْرَة، وَهُوَ قَول عَمْرو وَابْن عمر رَوَاهُ سعيد بن الْمَنْصُور فِي (سنَنه) بِسَنَدِهِ إِلَيْهِمَا، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَاخْتَارَهُ ابْن الْعَرَبِيّ. الثَّانِي: أَن فِي الجرادة الْوَاحِدَة قَبْضَة من طَعَام، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ، وَبِه قَالَ مَالك. الثَّالِث: أَن فِي الْوَاحِدَة درهما. وَهُوَ قَول كَعْب الْأَحْبَار. قيل: وَمن الدَّلِيل أَن الْجَرَاد نثرة الْحُوت مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنِي هَارُون بن عبد الله الْجمال حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم حَدثنَا زِيَاد بن عبد الله عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه (عَن جَابر وَأنس بن مَالك: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا دَعَا على الْجَرَاد، قَالَ: أللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وَخذ بأفواهه عَن معائشنا وارزقنا إِنَّك سميع الدُّعَاء. فَقَالَ خَالِد: يَا رَسُول الله} كَيفَ تَدْعُو على جند من أجناد الله بِقطع دابره؟ فَقَالَ: إِن الْجَرَاد نثرة الْحُوت فِي الْبَحْر، قَالَ هَاشم: قَالَ زِيَاد: فَحَدثني من رأى الْحُوت يَنْثُرهُ) . تفرد بِهِ ابْن مَاجَه.
الْوَجْه السَّادِس: فِي صيد الْبر وَهُوَ حرَام على الْمحرم لِأَنَّهُ فِي حَقه كالميتة وَكَذَا فِي حق غَيره من المحرمين والمحلين عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَهُوَ قَول عَطاء وَالقَاسِم وَسَالم، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، فَإِن أكله أَو شَيْئا مِنْهُ فَهَل يلْزمه جَزَاء ثَان؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: أَحدهمَا: نعم، وَإِلَيْهِ ذهبت طَائِفَة. وَالثَّانِي: لَا جَزَاء عَلَيْهِ بِأَكْلِهِ، نَص عَلَيْهِ مَالك. وَقَالَ أَبُو عمر: وعَلى هَذَا مَذَاهِب فُقَهَاء الْأَمْصَار وَجُمْهُور الْعلمَاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ قيمَة مَا أكل. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا قتل الْمحرم الصَّيْد فَعَلَيهِ جَزَاؤُهُ وحلال أكل ذَلِك الصَّيْد، إلاَّ أَنِّي أكرهه للَّذي قَتله، وَإِذا اصطاد حَلَال صيدا فأهداه إِلَى محرم فقد ذهبت جمَاعَة إِلَى إِبَاحَته مُطلقًا، وَلم يفصلوا بَين أَن يكون قد صَاده من أَجله أم لَا حكى أَبُو عمر هَذَا القَوْل عَن عمر بن الْخطاب وَأبي هُرَيْرَة وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَكَعب الْأَحْبَار وَمُجاهد وَعَطَاء فِي رِوَايَة، وَسَعِيد بن جُبَير قَالَ: وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ، قَالَ ابْن جرير: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيغ حَدثنَا بشر بن الْمفضل حَدثنَا سعيد عَن عبَادَة أَن سعيد بن الْمسيب حَدثهُ (عَن أبي هُرَيْرَة أَنه سُئِلَ عَن لحم صيد صَاده حَلَال أيأكله الْمحرم؟ قَالَ: فأفتاهم بِأَكْلِهِ، ثمَّ لَقِي عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ من أمره، فَقَالَ: لَو أفتيتهم بِغَيْر هَذَا لأوجعت لَك رَأسك) . وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يجوز أكل الصَّيْد للْمحرمِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمنعُوا من ذَلِك مُطلقًا لعُمُوم الْآيَة الْكَرِيمَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس وَعبد الْكَرِيم ابْن أبي أُميَّة عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس أَنه كره أكل لحم الصَّيْد للْمحرمِ، قَالَ: وَأَخْبرنِي معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكره أَن يَأْكُل لحم الصَّيْد على كل حَال، قَالَه أَبُو عمر، وَبِه قَالَ طَاوُوس وَجَابِر بن زيد، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه. وَقد رُوِيَ نَحوه عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة، وَالْجُمْهُور: إِن كَانَ(10/164)
الْحَلَال قد قصد للْمحرمِ بذلك الصَّيْد لم يجز للْمحرمِ أكله لحَدِيث الصعب بن جثامة، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَإِذا لم يَقْصِدهُ بالاصطياد يجوز لَهُ الْأكل مِنْهُ لحَدِيث أبي قَتَادَة على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2 - (بابٌ إذَا صَادَ الحَلاَلُ فأهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أكَلَهُ)
هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا ثبتَتْ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَسَقَطت فِي رِوَايَة غَيره، وَجعلُوا مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب من جملَة الَّذِي قبله. قَوْله: (بَاب) منون، تَقْدِيره: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا صَاد الْحَلَال صيدا فأهداه للْمحرمِ أكله الْمحرم، وَفِيه خلاف قد ذَكرْنَاهُ عَن قريب فِي آخر الْبَاب الَّذِي قبله.
ولمْ يَرَ ابنُ عَبَّاسٍ وأنَسٌ بالذَّبْحِ بَأسا
لَا يُطَابق ذكر هَذَا التَّعْلِيق فِي هَذِه التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا تتأتى الْمُطَابقَة بالتعسف فِي التَّرْجَمَة الَّتِي قبل هَذَا الْبَاب على رِوَايَة غير أبي ذَر. قَوْله: (بِالذبْحِ) ، أَي: بِذبح الْمحرم، وَظَاهر الْعُمُوم يتَنَاوَل ذبح الصَّيْد وَغَيره، وَلَكِن مُرَاده الذّبْح فِي غير الصَّيْد، أَشَارَ بقوله: (وَهُوَ فِي غير الصَّيْد) على مَا يَجِيء الْآن، وَوصل أثر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عبد الرَّزَّاق من طَرِيق عِكْرِمَة أَن ابْن عَبَّاس أمره أَن يذبح جزورا وَهُوَ محرم، وَأثر أنس وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الصَّباح البَجلِيّ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْمحرم يذبح؟ قَالَ: نعم.
وهْوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نحوُ الإِبِلِ والْغَنَمِ والْبَقَرِ والدَّجَاجِ والخَيْلِ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم الَّذِي يفهم من قَوْله: (بِالذبْحِ) ، قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الذّبْح، أَي المُرَاد من الذّبْح الْمَذْكُور فِي أثر ابْن عَبَّاس وَأنس هُوَ الذّبْح فِي الْحَيَوَان الأهلي، وَهُوَ الَّذِي ذكره بقوله: (نَحْو الْإِبِل) إِلَى آخِره. وَهَذَا كُله مُتَّفق عَلَيْهِ غير ذبح الْخَيل، فَإِن فِيهِ خلافًا مَعْرُوفا. وَذكر أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ فِي (كتاب الْمَنَاسِك) : يذبح الْمحرم الدَّجَاج الأهلي وَلَا يذبح الدَّجَاج السندي، ويذبح الْحمام المستأنس وَلَا يذبح الطيارة، ويذبح الأوز وَلَا يذبح البط الْبري، ويذبح الْغنم وَالْبَقر الْأَهْلِيَّة، وَيحمل السِّلَاح وَيُقَاتل اللُّصُوص وَيضْرب مَمْلُوكه، وَلَا يختضب بِالْحِنَّاءِ، ويصيد السّمك، وكل مَا كَانَ فِي الْبَحْر، ويجتنب صيد الضفادع.
يُقَالُ عَدْلُ ذَلِكَ مِثْلُ فإذَا كُسِرَتْ عِدْلٌ فَهْوَ زِنَةُ ذَلِكَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْفرق بَين الْعدْل بِفَتْح الْعين، وَالْعدْل بِكَسْرِهَا، وَذَلِكَ لكَون لفظ الْعدْل مَذْكُورا فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة، قَوْله: (يُقَال) ، يَعْنِي: فِي لُغَة الْعَرَب: (عدل ذَلِك) بِفَتْح الْعين، أَي: هَذَا الشَّيْء عدل ذَلِك الشَّيْء أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (مثل) أَي: مثل ذَلِك الشَّيْء. قَوْله: (فَإِذا كسرت) ، أَي: الْعين، تَقول: هَذَا عدل ذَاك، بِكَسْر الْعين، قَوْله: (فَهُوَ زنة ذَلِك) أَي: موازنة، أَرَادَ بِهِ فِي الْقدر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
قَيَاما قِوَاما
أَشَارَ بِهِ إِلَى الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى عقيب الْآيَة الْمَذْكُورَة: {جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما للنَّاس} (الْمَائِدَة: 79) . أَي: قواما، بِكَسْر الْقَاف. وَهُوَ نظام الشَّيْء وعماده، يُقَال: فلَان قيام أهل الْبَيْت وقوامه، أَي: الَّذِي يُقيم شَأْنهمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِير: قيَاما، فِي الْآيَة: أَي: جعل الله الْكَعْبَة بِمَنْزِلَة الرَّأْس الَّذِي يقوم بِهِ أَمر أَتْبَاعه، وَقَالَ بَعضهم: قيَاما قواما، هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة قلت: هَذَا لَيْسَ بمخصوص بِأبي عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا هُوَ قَول جَمِيع أهل اللُّغَة وَأهل التصريف بِأَن أصل: قيام، قوام لِأَن مادته من قَامَ يقوم قواما وَهُوَ أجوف واوي، قلبت الْوَاو فِي قواما، يَاء كَمَا قلبت فِي صِيَام، وَأَصله: صوام، لِأَنَّهُ من صَامَ يَصُوم صوما، وَهُوَ أَيْضا أجوف واوي، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ يَد فِي التصريف يتَصَرَّف هَكَذَا حَتَّى قَالَ: قَالَ الطَّبَرِيّ: أَصله الْوَاو، فَكَأَنَّهُ رأى أَن هَذَا أَمر عَظِيم حَتَّى نسبه إِلَى الطَّبَرِيّ.
يَعْدِلُونَ: يَجْعَلُونَ عَدْلاً
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْمَذْكُور فِي سُورَة الْأَنْعَام {ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ} (الْأَنْعَام: 1) . أَي: يجْعَلُونَ لَهُ عدلا، أَي: مثلا تَعَالَى الله عَن ذَلِك، ومناسبة ذكر هَذَا هَهُنَا كَونه من مَادَّة قَوْله تَعَالَى: {أَو عدل ذَلِك} (الْمَائِدَة: 59) . بِالْفَتْح، يَعْنِي مثله، وَهَذَا(10/165)
الَّذِي ذكره كُله من أول الْبَاب إِلَى هَهُنَا يُطَابق تَرْجَمَة الْبَاب السَّابِق، وَلَا يُنَاسب هَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي ثبتَتْ فِي رِوَايَة أبي ذَر، كَمَا ذكرنَا.
1281 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ قَالَ انْطَلَقَ أبِي عامَ الحُدَيْبِيَّةِ فأحْرَمَ أصْحَابُهُ ولَمْ يحْرِمْ وحُدِّثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ عَدُوَّا يَغْزُوهُ فانْطَلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَيْنَما أَنا مَعَ أصْحَابِهِ تضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فنَظَرْتُ فإذَا أنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ فأثْبَتُّهُ واسْتَعَنْتُ بِهِمْ فأبَوْا أنْ يُعِينُونِي فأكَلْنَا منْ لَحْمِهِ وخَشِينَا أنْ تُقْتَطَعَ فطَلبْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْفَعُ فَرَسِي شاوا وأسِيرُ شأوا فَلَقِيتُ رَجُلاً منْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُلْتُ أيْنَ تَرَكْتَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَرَكْتُهُ بِتَعْهُنَ وهُوَ قَايِلٌ السُّقْيَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أنَّ أهْلَكَ يَقْرَؤنَ عَلَيْكَ السَّلامَ ورَحْمَةَ الله إنهُمْ قَدْ خَشُوا أنُ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فانْتَطِرْهُمْ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وعِنْدِي مِنْهُ فاضِلَةٌ فَقالَ لِلْقَوْمِ كُلُوا وهُمْ مُحْرِمُونَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كلوا، وهم محرمون) . فَإِن الَّذِي صَاد الْحمار الْمَذْكُور كَانَ حَلَالا، وأهداه إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأباح النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أكله لأَصْحَابه الَّذين مَعَه وهم محرمون، فَدلَّ على أَن الَّذِي اصطاده الْحَلَال يجوز للْمحرمِ أَن يَأْكُل مِنْهُ، على خلاف فِيهِ، قد ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: معَاذ بن فضَالة أَبُو زيد الزهْرَانِي. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو قَتَادَة بِفَتْح الْقَاف، واسْمه الْحَارِث بن ربيع الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر فِي: بَاب النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ فِي كتاب الْوضُوء. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي، وَهِشَام ينْسب إِلَى دستوا من نواحي الأهواز، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا، وَلَكِن أَصله بَصرِي، وَيحيى طائي يمامي. قَوْله: (عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن يحيى: أَخْبرنِي عبد الله ابْن أبي قَتَادَة، وسَاق عبد الله هَذَا الْإِسْنَاد مُرْسلا حَيْثُ قَالَ: انْطلق أبي عَام الْحُدَيْبِيَة، وَهَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه، وَأخرجه أَحْمد عَن ابْن علية عَنهُ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن هِشَام عَن يحيى فَقَالَ: عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه أَنه انْطلق مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا مُسْند، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك عَن يحيى عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة أَن أَبَاهُ حَدثهُ قَالَ: انطلقنا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على مَا يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن الرّبيع عَن عَليّ بن الْمُبَارك، وَأخرجه فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الذَّبَائِح عَن إِسْمَاعِيل، كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَفِي الْحَج أَيْضا عَن سعيد بن الرّبيع وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعبد الله بن يُوسُف أَيْضا، وَفِي الْهِبَة عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْأَطْعِمَة أَيْضا عَن عبد الْعَزِيز بن عبيد الله، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن صَالح بن مِسْمَار عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن يحيى بن حسان عَن مُعَاوِيَة بن سَلام، الْكل عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة بن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن هِشَام بِهِ وَعَن عبيد الله بن فضَالة. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَام الْحُدَيْبِيَة) ، قيل، وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ من وَجه آخر عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة أَن ذَلِك كَانَ فِي عمْرَة الْقَضِيَّة قلت: رَوَاهُ عَن ابْن أبي سُبْرَة عَن مُوسَى بن ميسرَة عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه، قَالَ: سلكنا فِي عمْرَة(10/166)
الْقَضِيَّة على الْفَرْع، وَقد أحرم أَصْحَابِي غَيْرِي فَرَأَيْت حمارا ... الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو عمر: كَانَ ذَلِك عَام الْحُدَيْبِيَة أَو بعده بعام، عَام الْقَضِيَّة. قَوْله: (فَأحْرم أَصْحَابه) أَي: أَصْحَاب أبي قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أحرم أَصْحَابِي وَلم أحرم) وَقَالَ الْأَثْرَم: كنت أسمع أَصْحَاب الحَدِيث يتعجبون من حَدِيث أبي قَتَادَة، وَيَقُولُونَ: كَيفَ جَازَ لأبي قَتَادَة أَن يُجَاوز الْمِيقَات غير محرم، وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجهه حَتَّى رَأَيْته مُفَسرًا فِي رِوَايَة عِيَاض بن عبد الله عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قلت: روى الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا عَيَّاش بن الْوَلِيد الرقام حَدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن عبيد الله عَن عِيَاض بن عبد الله (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا قَتَادَة الْأنْصَارِيّ على الصَّدَقَة، وَخرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه وهم محرمون حَتَّى نزلُوا عسفان، فَإِذا هم بِحِمَار وَحش، قَالَ: وَجَاء أَبُو قَتَادَة وَهُوَ حل، فنكسوا رؤوسهم كَرَاهَة أَن يحدوا أَبْصَارهم، فتفطن، فَرَآهُ فَركب فرسه وَأخذ الرمْح، فَسقط مِنْهُ فَقَالَ: ناولونيه، فَقَالُوا: مَا نَحن بمعينك عَلَيْهِ بِشَيْء، فَحمل عَلَيْهِ فعقره، فَجعلُوا يشوون مِنْهُ، ثمَّ قَالُوا: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين أظهرنَا. قَالَ: وَكَانَ يتقدمهم فلحقوه فَسَأَلُوهُ، فَلم ير بذلك بَأْسا) . وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا. قَوْله: (على الصَّدَقَة) أَي: على أَخذ الزكوات، وَقَالَ الْقشيرِي فِي الْجَواب عَن عدم إِحْرَام أبي قَتَادَة، يحْتَمل أَنه لم يكن مرِيدا لِلْحَجِّ، أَو أَن ذَلِك قبل تَوْقِيت الْمَوَاقِيت، وَزعم الْمُنْذِرِيّ أَن أهل الْمَدِينَة أَرْسلُوهُ إِلَى سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعلمونه أَن بعض الْعَرَب يَنْوِي غَزْو الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَنه لم ينْو الدُّخُول إِلَى مَكَّة، وَإِنَّمَا صحب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليكْثر جمعه، وَقَالَ أَبُو عمر: يُقَال: إِن أَبَا قَتَادَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجهه على طَرِيق الْبَحْر مَخَافَة الْعَدو، فَلذَلِك لم يكن محرما إِذا اجْتمع مَعَ أَصْحَابه، لِأَن مخرجهم لم يكن وَاحِدًا. انْتهى. قلت: أحسن الْأَجْوِبَة مَا ذكر فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَحدث) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (يغزوه) أَي: يقصدوه. قَوْله: (فَبينا) ويروى: (فَبَيْنَمَا) . قَوْله: (يضْحك بَعضهم إِلَى بعض) ، جملَة حَالية، وَوَقع فِي رِوَايَة العذري فِي مُسلم: (فَجعل بَعضهم يضْحك إِلَيّ) بتَشْديد الْيَاء فِي: إِلَيّ، قَالَ عِيَاض: هُوَ خطأ وتصحيف وَإِنَّمَا سَقَطت عَلَيْهِ لَفْظَة: بعض، وَاحْتج لِضعْفِهَا بِأَنَّهُم لَو ضحكوا إِلَيْهِ لَكَانَ أكبر إِشَارَة مِنْهُم، وَقد صرح فِي الحَدِيث أَنهم لم يشيروا إِلَيْهِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يُمكن رد هَذِه الرِّوَايَة، فقد صحت هِيَ وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَلَيْسَ فِي وَاحِدَة مِنْهُم دلَالَة وَلَا إِشَارَة إِلَى الصَّيْد، وَأَن مُجَرّد الضحك لَيْسَ فِيهِ إِشَارَة مِنْهُم، وَإِنَّمَا كَانَ ضحكهم من عرُوض الصَّيْد وَلَا قدرَة لَهُم عَلَيْهِ ومنعهم مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن التِّين، يُرِيد أَنهم لم يخبروه بمَكَان الصَّيْد وَلَا أشاروا إِلَيْهِ. وَفِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي أَن ضحكهم لَيْسَ بِدلَالَة وَلَا إِشَارَة، بيَّن ذَلِك فِي حَدِيث عُثْمَان بن موهب، فَقَالَ: (أمنكم أحد أَشَارَ إِلَيْهِ؟ قَالُوا: لَا) . فَإِن قلت: مَا معنى: إِلَى، فِي قَوْله: (إِلَى بعض) ؟ قلت: مَعْنَاهُ منتهيا أَو نَاظرا إِلَيْهِ. قَوْله: (فَنَظَرت) ، فِيهِ الْتِفَات، فَإِن الأَصْل أَن يُقَال: فَنظر، لقَوْله: (فَبينا أبي مَعَ أَصْحَابه) ، فالتقدير: قَالَ أبي: فَنَظَرت، فَإِذا أَنا بِحِمَار وَحش، وَهَذِه الرِّوَايَة تَقْتَضِي أَن رُؤْيَته إِيَّاه مُتَقَدّمَة، وَرِوَايَة أبي حَازِم عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة تَقْتَضِي أَن رُؤْيَتهمْ إِيَّاه قبل رُؤْيَته، فَإِن فِيهَا: (فَأَبْصرُوا حمارا وحشيا وَأَنا مَشْغُول أخصف نَعْلي، فَلم يؤذنوني بِهِ، وأحبوا لَو أَنِّي أبصرته، والتفت فأبصرته) . قَوْله: (فَحملت عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر: (فَقُمْت إِلَى الْفرس فأسرجته ثمَّ ركبت ونسيت السَّوْط وَالرمْح، فَقلت لَهُم: ناولوني السَّوْط وَالرمْح، فَقَالُوا: لَا وَالله لَا نعينك عَلَيْهِ بِشَيْء، فَغضِبت فَنزلت فأخذتهما، ثمَّ ركبت) . وَفِي رِوَايَة فُضَيْل ابْن سُلَيْمَان: (فَركب فرسا لَهُ يُقَال لَهُ الجرادة، فَسَأَلَهُمْ أَن يناولوه سَوْطه فَأَبَوا) . وَفِي رِوَايَة أبي النَّضر: (وَكنت نسيت سَوْطِي، فَقلت لَهُم: ناولوني بسوطي، فَقَالُوا: لَا نعينك عَلَيْهِ، فَنزلت فَأَخَذته) . قَوْله: (فأثبته) ، أَي: تركته ثَابتا فِي مَكَانَهُ لَا يُفَارِقهُ وَلَا حراك بِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم: (فشددت على الْحمار فعقرته، ثمَّ جِئْت بِهِ وَقد مَاتَ) . وَفِي رِوَايَة أبي النَّضر: (حَتَّى عقرته فَأتيت إِلَيْهِم فَقلت لَهُم، قومُوا فاحتملوا، فَقَالُوا: لَا نمسه، فَحَملته حَتَّى جئتهم بِهِ) . (فأكلنا من لَحْمه) ، وَفِي رِوَايَة فُضَيْل عَن أبي حَازِم: (فَأَكَلُوا فَنَدِمُوا) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن أبي حَازِم: (فوقعوا يَأْكُلُون مِنْهُ، ثمَّ إِنَّهُم شكوا فِي أكلهم إِيَّاه وهم حرم، فرحنا وخبؤت الْعَضُد معي) ، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن أبي النَّضر: (فَأكل مِنْهُ بَعضهم وأبى بَعضهم) . وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (فَجعلُوا يشوون مِنْهُ) ، وَفِي رِوَايَة الْمطلب عَن أبي قَتَادَة عِنْد سعيد بن مَنْصُور: (فظللنا نَأْكُل(10/167)
مِنْهُ مَا شِئْنَا طبيخا وشواء ثمَّ تزودنا مِنْهُ.
وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث أبي قَتَادَة من خمس طرق صِحَاح.
الأول: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا قَتَادَة ... الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
الثَّانِي: عَن عباد بن تَمِيم (عَن أبي قَتَادَة أَنه كَانَ على فرس وَهُوَ حَلَال، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه محرمون، فَبَصر بِحِمَار وَحش، فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعينوه، فَحمل عَلَيْهِ فصرع أَتَانَا فَأَكَلُوا مِنْهُ) .
الثَّالِث: عَن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب (عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه أَنه كَانَ فِي قوم محرمين وَلَيْسَ هُوَ بِمحرم، وهم يَسِيرُونَ، فَرَأَوْا حمارا فَركب فرسه فصرعه، فَأتوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلُوهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ أشرتم أوصدتم أَو قتلتم؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا) .
الرَّابِع: عَن نَافِع مولى أبي قَتَادَة (عَن أبي قَتَادَة أَنه كَانَ مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى إِذا كَانَ بِبَعْض طرق مَكَّة تخلف مَعَ أَصْحَاب لَهُ محرمين وَهُوَ غير محرم، فَرَأى حمارا وحشيا فَاسْتَوَى على فرسه، ثمَّ سَأَلَ أَصْحَابه أَن يناولوه سَوْطه، فَأَبَوا، فَسَأَلَهُمْ رمحه فَأَبَوا، فَأَخذه ثمَّ شدّ على الْحمار فَقتله، فَأكل مِنْهُ بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَعضهم، فَلَمَّا أدركوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلُوهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طعمة أطعمكموها الله) .
الْخَامِس: عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي قَتَادَة مثله، وَزَاد: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء؟ فقد علمنَا أَن أَبَا قَتَادَة لم يصده فِي وَقت مَا صَاده إِرَادَة مِنْهُ أَن يكون لَهُ خَاصَّة، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يكون لَهُ ولأصحابه الَّذين كَانُوا مَعَه) .
قَوْله: (وخشينا أَن نقتطع) أَي: نصير مقطوعين عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منفصلين عَنهُ لكَونه سبقهمْ، وَعند أبي عوَانَة عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن يحيى بِلَفْظ: (وخشينا أَن يقتطعنا الْعَدو) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (وَأَنَّهُمْ خَشوا أَن يقتطعهم الْعَدو دُونك) . وَقَالَ ابْن قرقول: أَي يحوذنا الْعَدو عَنْك، وَمن حَملتك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَي: خفنا أَن يُحَال بَيْننَا وَبينهمْ ويقتطع بِنَا عَنْهُم. قَوْله: (ارْفَعْ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد أَي: أرفعه فِي سيره وأجربه. قَوْله: (شأوا) بالشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهمزَة: وَهُوَ الطلق والغاية، وَمَعْنَاهُ: أركضه شَدِيدا تَارَة وأسهل سيره تَارَة. قَوْله: (من بني غفار) ، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وَفِي آخِره رَاء، منصرف وَغير منصرف. قَوْله: (بتعهن) ، بِكَسْر الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتحهَا وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالنون، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِالْكَسْرِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِكَسْر أَوله وثالثه، وَفِي رِوَايَة غَيره بفتحهما، وَحكى أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ أَنه سَمعهَا من الْعَرَب بذلك الْمَكَان بِفَتْح الْهَاء، وَمِنْهُم من يضم التَّاء وَيفتح الْعين وَيكسر الْهَاء، وَضَبطه أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ بِضَم أَوله وثانيه وبتشديد الْهَاء، قَالَ: وَمِنْهُم من يكسر التَّاء، وَأَصْحَاب الحَدِيث يسكنون الْعين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (بدعهن) ، بِالدَّال الْمُهْملَة مَوضِع التَّاء. قلت: يُمكن أَن يكون ذَلِك من تصرف اللافظين لقرب مخرج التَّاء من الدَّال، وَهُوَ، عين مَاء على ثَلَاثَة أَمْيَال من السقيا، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَالْقصر، هِيَ قَرْيَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة من أَعمال الْفَرْع، بِضَم الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الْفَرْع من أَعمال الْمَدِينَة الواسعة والصفراء وأعمالها من الْفَرْض ومنضافة إِلَيْهَا. قَوْله: (وَهُوَ قَائِل) جملَة إسمية، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَائِل رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: أصَحهمَا: وأشهرهما من القيلولة يَعْنِي: تركته بتعهن، وَفِي عزمه أَن يقيل بالسقيا. الثَّانِي: بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ ضَعِيف غَرِيب، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيف فَإِن صَحَّ فَمَعْنَاه أَن تعهن مَوضِع مُقَابل السقيا، فعلى الْوَجْه الأول الضَّمِير فِي قَوْله: (وَهُوَ) يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى الْوَجْه الثَّانِي يرجع إِلَى قَوْله: (تعهن) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ قَوْله: (قَائِل) ، من القَوْل وَمن القائلة وَالْأول هُوَ المُرَاد هُنَا، والسقيا مفعول بِفعل مُضْمر، وَالضَّمِير: كَانَ بتعهن وَهُوَ يَقُول لأَصْحَابه اقصدوا السقيا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن علية عَن هِشَام: (وَهُوَ قَائِم بالسقيا) ، يَعْنِي من الْقيام، وَلكنه قَالَ: الصَّحِيح: قَائِل، بِاللَّامِ. قَوْله: (فَقلت) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فسرت فَأَدْرَكته فَقلت: يَا رَسُول الله! وتوضحه رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظ: (فلحقت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَيْته فَقلت: يَا رَسُول الله) . قَوْله: (أَن أهلك) أَرَادَ إِن أَصْحَابك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة أَحْمد وَمُسلم وَغَيرهمَا رِوَايَة أَحْمد وَمُسلم من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: (إِن أَصْحَابك) . قَوْله: (فانتظرهم) ، بِصِيغَة الْأَمر من الِانْتِظَار، أَي: انْتظر أَصْحَابك. وَفِي رِوَايَة مُسلم بِهَذَا الْوَجْه: فانتظرهم، بِصِيغَة الْمَاضِي أَي: انتظرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك: (فانتظرهم فَفعل) . قَوْله: (فاضلة) ، بِمَعْنى: فضلَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي قِطْعَة قد فضلت مِنْهُ فَهِيَ فاضلة أَي: بَاقِيَة معي.(10/168)
قَوْله: (فَقَالَ للْقَوْم: كلوا) ، هَذَا أَمر إِبَاحَة لَا أَمر إِيجَاب، قَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا وَقعت جَوَابا عَن سُؤَالهمْ عَن الْجَوَاز لَا عَن الْوُجُوب، فَوَقَعت الصِّيغَة على مُقْتَضى السُّؤَال. قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا كَانَ لمَنْفَعَة لَهُم، فَلَو كَانَ للْوُجُوب لصار عَلَيْهِم، فَكَانَ يعود إِلَى مَوْضُوعه بِالنَّقْضِ.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن لحم الصَّيْد مُبَاح للْمحرمِ إِذا لم يعن عَلَيْهِ وَقَالَ الْقشيرِي اخْتلف النَّاس فِي أكل الْمحرم لحم الصَّيْد على مَذَاهِب.
أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع مُطلقًا صيد لأَجله أَو لَا، وَهَذَا مَذْكُور عَن بعض السّلف، دَلِيله حَدِيث الصعب بن جثامة.
الثَّانِي: مَمْنُوع إِن صَاده أَو صيد لأَجله، سَوَاء كَانَ بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.
الثَّالِث: إِن كَانَ باصطياده أَو بِإِذْنِهِ أَو بدلالته حرم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ على غير ذَلِك لم يحرم، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة.
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يَأْكُل مَا صيد وَهُوَ حَلَال، وَلَا يَأْكُل مَا صيد بعد. وَحَدِيث أبي قَتَادَة هَذَا يدل على جَوَاز أكله فِي الْجُمْلَة، وعزى صَاحب (الإِمَام) إِلَى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي حنيفَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن جده الزبير، قَالَ: (كُنَّا نحمل الصَّيْد صفيفا ونتزوده وَنحن محرمون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْبَلْخِي فِي (مُسْند أبي حنيفَة) من هَذَا الْوَجْه عَن هِشَام، وَمن جِهَة إِسْمَاعِيل بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: حَدثنَا شيخ لنا (عَن طَلْحَة بن عبد الله أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَحل آثَار الصَّيْد أيأكله الْمحرم؟ قَالَ: نعم) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أهْدى لطلْحَة طَائِر وَهُوَ محرم فَقَالَ: أكلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطَاهُ حمَار وَحش وَأمره أَن يفرقه فِي الرقَاق) . قَالَ: ويروى عَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ رخصَة. ثمَّ قَالَ: عَائِشَة تكرههُ وَغير وَاحِد، وروى الْحَاكِم على شَرطهمَا من حَدِيث جَابر يرفعهُ: (لحم صيد الْبر لكم حَلَال وَأَنْتُم حرم مَا لم تصيدوه أَو يصاد لَكِن) . قَالَ مهنىء: ذكر أَبُو عبد الله، يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل، هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِلَيْهِ أذهب، وَلما ذكر لَهُ حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن قيس عَن الْحسن بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة: (أهْدى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وشيقة لحم وَهُوَ محرم فَأَكله) ، فَجعل أَبُو عبد الله يُنكره إنكارا شَدِيدا، وَقَالَ: سَماع مثلا، هَكَذَا ذكره صَاحب التَّلْوِيح بِخَطِّهِ، وَفِيه: فَأَكله. قلت: روى الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ، حَدثنَا سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَن قيس بن مُسلم الجدلي عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ عَن عَائِشَة: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أهْدى لَهُ وشيقة ظَبْي وَهُوَ محرم فَرده) ، وَرَوَاهُ أَيْضا أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا الثَّوْريّ عَن قيس بن مُسلم عَن الْحسن بن مُحَمَّد (عَن عَائِشَة قَالَت: أهدي لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ظَبْيَة فِيهَا وشيقة صيد، وَهُوَ حرَام فَأبى أَن يَأْكُلهُ) . انْتهى. وَهَذَا يُخَالف مَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) فَإِن فِي لَفظه: (فَأَكله) ، والطَّحَاوِي لم يذكر هَذَا الحَدِيث إلاَّ فِي صدد الِاحْتِجَاج لمن قَالَ: لَا يحل للْمحرمِ أَن يَأْكُل لحم صيد ذبحه حَلَال، لِأَن الصَّيْد نَفسه حرَام عَلَيْهِ، فلحمه أَيْضا حرَام عَلَيْهِ، فَإِذا كَانَ الحَدِيث على مَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا يكون حجَّة لَهُم، بل إِنَّمَا يكون حجَّة لمن قَالَ بِجَوَاز أكل الْمحرم صيد الْمحل، وَالَّذين منعُوا من ذَلِك للْمحرمِ هُوَ الشّعبِيّ وطاووس وَمُجاهد وَجَابِر بن زيد وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة. قَوْله: (وشيقة ظَبْي) . الوشيقة: أَن يُؤْخَذ اللَّحْم فيغلى قَلِيلا وَلَا ينضج وَيحمل فِي الْأَسْفَار، وَقيل: هِيَ القديد، وَقد وَشقت اللَّحْم أشقه وشقا، وَيجمع على وشق ووشائق.
وَذكر الطَّحَاوِيّ أَيْضا أَحَادِيث أخر لهَؤُلَاء المانعين. مِنْهَا: مَا قَالَه: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن قَالَ: حَدثنَا أَسد (ح) وَحدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَليّ بن زيد عَن عبد الله ابْن الْحَارِث بن نَوْفَل: أَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نزل قديدا، فَأتي بالحجل فِي الجفان شَائِلَة بأرجلها، فَأرْسل إِلَيّ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ يضفز بَعِيرًا لَهُ، فَجَاءَهُ وَالْخَيْط يتحات من يَدَيْهِ، فَأمْسك عَليّ وَأمْسك النَّاس، فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من هَهُنَا من أَشْجَع؟ هَل علمْتُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهُ أَعْرَابِي ببيضات نعام وتتمير وَحش، فَقَالَ: أطعمهن أهلك فَإنَّا حرم؟ قَالُوا: نعم) . وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير. قَالَ: أخبرنَا سُلَيْمَان بن كثير عَن حميد الطَّوِيل (عَن إِسْحَاق ابْن عبد الله بن الْحَارِث عَن أَبِيه، وَكَانَ الْحَارِث خَليفَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الطَّائِف، فَصنعَ لعُثْمَان طَعَاما وصنع(10/169)
فِيهِ من الحجل واليعاقيب وَلُحُوم الْوَحْش، قَالَ: فبعص إِلَى عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَجَاءَهُ الرَّسُول وَهُوَ يخيط الأباعر لَهُ وَهُوَ ينفض الْخَيط من يَده، فَقَالُوا لَهُ: كل. قَالَ: أطعموا قوما حَلَالا فَإنَّا حرم، قَالَ عَليّ: أنْشد الله من كَانَ هَهُنَا من أَشْجَع أتشهدون أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهدي إِلَيْهِ رجل حمَار وَحش وَهُوَ محرم فَأبى أَن يَأْكُلهُ؟ قَالُوا: نعم) . قَوْله: يضفز بالضاد وَالزَّاي المعجمتين بَينهمَا فَاء، يُقَال: ضفزت الْبَعِير إِذا أعلفته الضفائز، وَهِي اللقم الْكِبَار، واحدتها ضفيزة والضفيز شعير يجرش وتعلفه الْإِبِل.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَيْضا الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عمرَان، قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي ليلى عَن عبد الْكَرِيم عَن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل عَن ابْن عَبَّاس (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِلَحْم صيد وَهُوَ محرم، فَلم يَأْكُلهُ) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث ذكر عِلّة رده لحم الصَّيْد مَا هِيَ، فقد يحْتَمل ذَلِك لعِلَّة الْإِحْرَام، وَيحْتَمل أَن يكون لغير ذَلِك، فَلَا دلَالَة فِي هَذَا الحَدِيث لأحد.
وَقَالَ أبُو عَبْدِ الله شأوا مَرَّةً
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير شأوا فِي قَوْله: (أرفع فرسي شأوا وأسير شأوا) ، وَهُوَ بِمَعْنى مرّة. كَمَا ذَكرْنَاهُ، وانتصابه فِي الْمَوْضِعَيْنِ على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره: رفعر شأوا أَو أَسِيرًا شأوا، وَلَيْسَ هَذَا التَّفْسِير بموجود فِي كثير من النّسخ.
3 - (بابٌ إذَا رأى المُحْرِمُون صَيْدا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الحَلاَلُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا رأى الْقَوْم المحرمون صيدا وَفِيهِمْ رجل حَلَال، فَضَحِك المحرمون تَعَجبا من عرُوض الصَّيْد مَعَ عدم التَّعَرُّض لَهُ مَعَ قدرتهم على صَيْده، وفطن الْحَلَال الَّذِي فيهم بذلك، أَي فهم، من: فطنت للشَّيْء، بِفَتْح الطَّاء وَكسرهَا: فطنة وفطانة وفطانية، قَالَ الْجَوْهَرِي: كالفهم، وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يكون ضحكهم إِشَارَة مِنْهُم إِلَى الْحَلَال بالصيد حَتَّى إِذا اصطاد ذَاك الْحَلَال الصَّيْد الَّذِي رَآهُ المحرمون الَّذين ضحكوا لَا يلْزمهُم شَيْء.
2281 - حدَّثنا سعِيدُ بنُ الرَّبِيعِ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ الْمُبَارَكِ عنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ أنَّ أبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ انْطَلَقْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ الحُدَيْبِيَةِ فأحْرَمَ أصْحَابُهِ ولَمْ أُحْرِمُ فأُنْبِئْنَا بَعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ فبَصُرَ أصْحَابِي بِحِمَارَ وحْشٍ فجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إلَى بَعْضٍ فنَظَرْتُ فَرَأيْتُهُ فحَمَلْتُ عَلَيْهِ الفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ فأثْبَتُّهُ فاسْتَعَنْتُهُمْ فأبَوْا أنْ يُعِينُونِي فأكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخَشِينَا أنْ نُقْتَطَعَ أرْفَعُ فَرَسِي شأوا وأسِيرُ عَلَيْهِ شَأوا فَلَقِيتُ رجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فقُلْتُ أيْنَ تَرَكْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تركْتُهُ بِتَعْهُنَ وهُوَ قائِلٌ السُّقْيَا فلَحُقْتُ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أتَيْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسولَ الله إنَّ أصْحَابَكَ أرْسَلُوا يَقْرَؤُونَ عَلَيْكَ السَّلامَ ورَحْمَةَ الله وبَرَكاتِهِ وإنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أنْ يَقْتَطِعَهُمْ الْعَدُوُّ دُونَكَ فانْظُرْهُمْ فَفَعَلَ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله إنَّا اصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ وإنَّ عِنْدَنا مِنْهُ فاضِلةً فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِصْحَابِهِ كُلُوا وهُمْ مُحْرِمُونَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَبَصر أَصْحَابِي بِحِمَار وَحش، فَجعل بَعضهم يضْحك، فَنَظَرت) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن الرّبيع ضد الخريف أَبُو زيد الْهَرَوِيّ، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الهروية فنسب إِلَيْهَا، مَاتَ سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَليّ بن الْمُبَارك الْهنائِي، وَقد مر فِي: بَاب الْجُمُعَة. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو قَتَادَة الْحَارِث بن ربعي، وَقد مر عَن قريب.(10/170)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان، وروى مُسلم عَن شَيْخه بِوَاسِطَة وَيحيى طائي ويمامي.
وَقد ذكرنَا فِي الْبَاب السَّابِق تعدد مَوْضِعه، وَمن أخرجه غَيره، وَقد ذكر البُخَارِيّ أَحَادِيث أبي قَتَادَة هَهُنَا فِي أَرْبَعَة أَبْوَاب متناسقة. الأول: بَاب إِذا صَاد الْحَلَال. الثَّانِي: بَاب إِذا رأى المحرمون صيدا. الثَّالِث: بَاب لَا يعين الْمحرم الْحَلَال. الرَّابِع: لَا يُشِير الْمحرم إِلَى الصَّيْد، وَقد رويت أَحَادِيث أبي قَتَادَة بأسانيد مُخْتَلفَة وألفاظ متباينة.
قَوْله: (وَلم أحرم) أَي: لم أحرم أَنا. قَوْله: (فأنبئنا) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: أخبرنَا. قَوْله: (بغيقة) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفتح الْقَاف: مَوضِع من بِلَاد بني غفار بَين الْحَرَمَيْنِ، قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ مَوضِع فِي رسم رضوى لبني غفار بن مليل بن ضَمرَة بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، وَهُوَ بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (فَبَصر) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَضم الصَّاد. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَنظر) ، بنُون وظاء مشالة. فَإِن قلت: فعلى هَذِه الرِّوَايَة دُخُول الْبَاء فِي) بِحِمَار، مُشكل؟ قلت: يُمكن أَن يكون نظر حِينَئِذٍ بِمَعْنى: بصر، أَو تكون الْبَاء بِمَعْنى إِلَى لِأَن الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض. قَوْله: (فأثبته) من الْإِثْبَات، أَي: أحكمت الطعْن فِيهِ. قَوْله: (فاستعنتهم) ، من الِاسْتِعَانَة، وَهُوَ طلب العون. وَهُوَ طلب العون. قَوْله: (فانظرهم) ، بِمَعْنى انتظرهم، يُقَال: نظرت أَي: انتظرت. قَوْله: (قد خَشوا) أَصله خشيوا. كرضوا، أَصله: رضيوا، استثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد سلب حُرْمَة مَا قبلهَا، فَالتقى ساكنان فحذفت الْيَاء لِأَن الْوَاو ضمير الْجمع. قَوْله: (إِنَّا اصَّدنا) بوصل الْألف وَتَشْديد الصَّاد، وَأَصله: اصتدنا، من بَاب الافتعال، فقلبت التَّاء صادا وادغمت الصَّاد فِي الصَّاد، وَأَخْطَأ من قَالَ: أَصله اصطدنا فأبدلت الطَّاء مثناة ثمَّ ادغمت. ويروى: (اصدنا) . بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الصَّاد، يُقَال: أصدت الصَّيْد مخففا أَي: آثَرته، والإصادة إثارة الصَّيْد، وَأَخْطَأ أَيْضا من قَالَ: من الإصاد، ويروى: (اصطدنا) من الِاصْطِيَاد، ويروى: (صدنَا) ، من صَاد يصيد، وَتَفْسِير بَقِيَّة الْأَلْفَاظ قد مر فِيمَا قبله.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب إرْسَال السَّلَام إِلَى الْغَائِب، قَالَت جمَاعَة: تجب على الرَّسُول تبليغه، وعَلى الْمُرْسل إِلَيْهِ الرَّد بِالْجَوَابِ.
4 - (بابٌ لاَ يُعِينُ الْمُحْرِمُ الحَلاَلَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا يعين الْمحرم الْحَلَال بقول أَو فعل فِي قتل الصَّيْد، وَقَالَ بَعضهم: قيل: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على من فرق من أهل الرَّأْي بَين الْإِعَانَة الَّتِي لَا يتم الصَّيْد إلاَّ بهَا فَيحرم، وَبَين الْإِعَانَة الَّتِي يتم الصَّيْد بِدُونِهَا فَلَا يحرم. قلت: لَا وَجه لهَذَا الْكَلَام، لِأَن التَّرْجَمَة تَشْمَل كلا الْوَجْهَيْنِ.
3281 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ محَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا صَالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنْ أبِي مُحَمَّدٍ نافِعٍ موْلَى أبي قَتادَةَ سَمِعَ أبَا قَتادَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْقَاحَةِ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى ثَلاثٍ ح وحدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا صَالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنْ أبِي مُحَمَّدٍ عنْ أبِي قَتادَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْقاحَةِ ومِنَّا الْمُحْرِمُ ومِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِم فَرَأيْتُ أصْحَابِي يَتَراءَوْنَ شَيْئا فَنَظَرْتُ فإذَا حِمَارُ وَحْشٍ يَعْنِي وقَعَ سَوطُهُ فقالُوا لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشيءٍ إنَّا مُحْرِمُونَ فتَنَاوَلْتُهُ فأخَذْتُهُ ثُمَّ أتَيْتُ الحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أكَمَةٍ فَعَقَرْتُهُ فأتَيْتُ بِهِ لأصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَأكُلُوا فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ أمامَنَا فسَألْتُهُ فَقَالَ كُلُوهُ حَلالٌ قَالَ لَنا عَمْرٌ واذْهَبُوا إلَى صَالِحٍ فسَلُوهُ عنْ هَذَا وغَيْرِهِ وقَدِمَ علَيْنَا هَهُنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالُوا: لَا نعينك عَلَيْهِ بِشَيْء) . فَأخْرج هَذَا بطريقين أَحدهمَا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد أبي جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن صَالح بن كيسَان مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز عَن أبي مُحَمَّد نَافِع مولى أبي قَتَادَة الْمدنِي، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم عَن صَالح سَمِعت أَبَا مُحَمَّد مولى أبي قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من طَرِيق سعد(10/171)
ابْن إِبْرَاهِيم: سَمِعت رجلا كَانَ يُقَال لَهُ مولى أبي قَتَادَة، وَلم يكن مولى لأبي قَتَادَة، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن عبد الله ابْن أبي سَلمَة أَن نَافِعًا مولى بني غفار، فَظهر من ذَلِك أَنه لم يكن مولى أبي قَتَادَة حَقِيقَة، وَقد صرح بذلك ابْن حبَان، فَقَالَ: هُوَ مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، وَكَانَ يُقَال لَهُ: مولى أبي قَتَادَة نسب إِلَيْهِ وَلم يكن مَوْلَاهُ. قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يكون وَجه ذَلِك أَنه قيل: مولى أبي قَتَادَة لِكَثْرَة لُزُومه إِيَّاه وقيامه بِقَضَاء مَا يهمه من بَاب الْخدمَة، كَأَنَّهُ صَار مَوْلَاهُ، فَتكون نسبته بِهَذَا الْوَجْه على سَبِيل الْمجَاز. وَقد وَقع مثل ذَلِك كثيرا، فَمِنْهُ مَا وَقع لقاسم مولى ابْن عَبَّاس. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان إِلَى آخِره. وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا حول المُصَنّف الْإِسْنَاد إِلَى رِوَايَة عَليّ للتصريح فِيهِ عَن سُفْيَان بقوله: حَدثنَا صَالح بن كيسَان. قلت: فِي كثير من النّسخ: حَدثنَا صَالح، فِي الطَّرِيقَيْنِ فَلَا يحْتَاج إِلَى مَا قَالَه.
قَوْله: (بالقاحة) ، بقاف وحاء مُهْملَة خَفِيفَة: على ثَلَاثَة مراحل من الْمَدِينَة قبل السقيا بِنَحْوِ ميل: قَالَ عِيَاض: كَذَا قَيده النَّاس كلهم، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن البُخَارِيّ بِالْفَاءِ وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب بِالْقَافِ، وَزعم ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي أَنَّهَا بفاء وجيم، ورد ذَلِك عَلَيْهِ ابْن هِشَام: قيل: وَقع عِنْد الجوزقي من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن سُفْيَان: بالصفاح، بدل: القاحة، بِكَسْر الصَّاد بعْدهَا فَاء، وَنسب ذَلِك إِلَى التَّصْحِيف لِأَن الصفاح مَوضِع بِالرَّوْحَاءِ وَبَين الروحاء وَبَين السقيا مَسَافَة طَوِيلَة وَقَالَ الْبكْرِيّ الروحاء قَرْيَة جَامِعَة لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا والسقيا أَيْضا قَرْيَة جَامِعَة. قَوْله: (على ثَلَاث) أَي: ثَلَاث مراحل. قَوْله: (يتراؤن) على وزن يتفاعون صِيغَة جمع مُذَكّر من الرُّؤْيَة. قَوْله: (فَإِذا حمَار وَحش) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة وحمار مُضَاف إِلَى وَحش. قَوْله: (يَعْنِي: وَقع سَوْطه) قَالَ الْكرْمَانِي: لفظ: يَعْنِي، كَلَام الرَّاوِي تَفْسِير لما يدل عَلَيْهِ: (لَا نعينك عَلَيْهِ) يَعْنِي: قَالُوا: لَا نعينك على أَخذ السَّوْط حِين وَقع سَوْطك. قلت: هَذَا التَّرْكِيب لَا يَتَّضِح إلاَّ بأَشْيَاء مقدرَة، تَقْدِيره: فَإِذا حمَار وَحش، فركبت فرسي وَأخذت الرمْح وَالسَّوْط، فَسقط مني السَّوْط، فَقلت ناولوني! فَقَالُوا: لَا نعينك عَلَيْهِ. وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ. قَوْله: (فتناولته فَأَخَذته) . قَوْله: (من وَرَاء أكمة) بِفَتَحَات، وَهِي التل من حجر وَاحِد. قَوْله: (أمامنا) أَي: قدامنا. قَوْله: (حَلَال) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ حَلَال، وَقد ظهر الْمُبْتَدَأ فِي رِوَايَة أبي عوَانَة. (فَقَالَ: كلوه فَهُوَ حَلَال) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (هُوَ حَلَال فكلوه) ، ويروى: (حَلَالا) ، بِالنّصب. فَإِن صحت الرِّوَايَة بِهِ فَهُوَ مَنْصُوب على أَنه صفة مصدر مَحْذُوف، أَي: أكلا حَلَالا. قَوْله: (قَالَ لنا عَمْرو) أَي: عَمْرو بن دِينَار، وَصرح بِهِ أَبُو عوَانَة فِي رِوَايَته، وَالْقَائِل سُفْيَان، وَالْغَرَض بذلك تَأْكِيد ضَبطه لَهُ وسماعه لَهُ من صَالح وَهُوَ ابْن كيسَان. قَوْله: (فسلوه) أَصله: فَاسْأَلُوهُ. قَوْله: (وَقدم علينا هَهُنَا) ، يَعْنِي: مَكَّة، وَمرَاده أَن صَالح بن كيسَان مدنِي قدم مَكَّة، فَدلَّ عَمْرو بن دِينَار أَصْحَابه عَلَيْهِ ليسمعوا مِنْهُ هَذَا وَغَيره.
وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْمسَائِل الفرعية، وَالِاخْتِلَاف فِيهَا.
5 - (بابٌ لاَ يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الحَلاَلُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يُشِير ... إِلَى آخِره، وَاللَّام فِي قَوْله: (لكَي) ، للتَّعْلِيل، وَلَفْظَة: كي، بِمَنْزِلَة: أَن، المصدرية معنى وَعَملا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ صِحَة حُلُول أَن محلهَا، وَأَنَّهَا لَو كَانَت حرف تَعْلِيل لم يدْخل عَلَيْهَا حرف تَعْلِيل، فَافْهَم.
4281 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ قَالَ حدَّثنا عُثْمَانُ هُوَ ابنُ مَوْهَبٍ قَالَ أخبرَنِي عَبْدُ الله بنُ أبي قَتادَةَ أنَّ أبَاهُ أخبرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ حَاجا فخَرَجُوا معَهُ فصَرَفَ طائِفةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أبُو قتَادَةَ فَقال خُذُوا ساحِلَ البَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ فأخذُوا ساحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أحْرَمُوا كُلُّهُمْ إلاَّ أبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رأَوْا حُمُرَ(10/172)
وحْشٍ فَحَمَلَ أَبُو قَتادَةَ عَلَى الحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْها أَتَانَا فنَزَلُوا فأكلُوا مِنْ لَحْمِهَا وقالُوا أنأكُلُ لَحمَ صَيْدٍ ونَحْنُ محْرِمُونَ فحَمَلْنا مَا بَقِي مِنْ لَحمِ الأتانِ فلَمَّا أتَوْا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالُوا يَا رسولَ الله إنَّا كُنَّا أحْرَمْنَا وقَدْ كانَ أبُو قَتَادةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فحَمَلَ عَلَيْهَا أبُو قَتادَةَ فعَقَرَ مِنْهَا أَتَانَا فنَزَلْنَا فأكلْنا منْ لَحْمِهَا ثُمَّ قُلْنَا أنأكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ ونَحْنُ مُحْرِمُونَ فحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا قَالَ أمِنْكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْها أوْ أشَارَ إلَيْهَا قَالُوا لاَ قَالَ فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو أَشَارَ إِلَيْهَا) ، وَالْمَفْهُوم مِنْهُ أَن إِشَارَة الْمحرم للْحَلَال إِلَى الصَّيْد ليصطاده لَا تجوز، فَلَو أَشَارَ لَهُ وَقتل صيدا لَا يجوز للْمحرمِ أَن يَأْكُل مِنْهُ، وَقد ذكرنَا مَا فِيهِ من الْخلاف. ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل هُوَ الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة بِالْفَتْح هُوَ الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَعُثْمَان هُوَ ابْن عبد الله بن وهب، بِفَتْح الْمِيم وَالْهَاء: الْأَعْرَج الطلحي، وَقد مر فِي أول الزَّكَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة بدل عُثْمَان: غَسَّان، وَهُوَ خطأ قطعا. قلت: هُوَ من الْكَاتِب، فَإِنَّهُ طمس الْمِيم فَصَارَ عُثْمَان غسانا، وَعُثْمَان هَذَا تَابِعِيّ ثِقَة، روى عَنَّا عَن تَابِعِيّ.
قَوْله: (خرج حَاجا) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا غلط، فَإِن الْقِصَّة كَانَت فِي عمْرَة، وَأما الْخُرُوج إِلَى الْحَج فَكَانَ فِي خلق كثير، وَكَانُوا كلهم على الجادة لَا على سَاحل الْبَحْر، وَلَعَلَّ الرَّاوِي أَرَادَ: خرج محرما فَعبر عَن الْإِحْرَام بِالْحَجِّ غَلطا. وَقَالَ بَعضهم: لَا غلط فِي ذَلِك، بل هُوَ من الْمجَاز السائغ، وَأَيْضًا فالحج فِي الأَصْل قصد الْبَيْت، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خرج قَاصِدا للبيت، وَلِهَذَا يُقَال للْعُمْرَة الْحَج الْأَصْغَر. قلت: لَا نسلم أَنه من الْمجَاز، فَإِن الْمجَاز لَا بُد لَهُ من علاقَة، وَمَا العلاقة هَهُنَا؟ وَكَون معنى الْحَج فِي الأَصْل قصدا لَا يكون علاقَة لجَوَاز ذكر الْحَج، وَإِرَادَة الْعمرَة، فَإِن كل فعل مُطلقًا لَا بُد فِيهِ من معنى الْقَصْد، ثمَّ أيد هَذَا الْقَائِل كَلَامه بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن أبي عوَانَة بِلَفْظ: (خرج حَاجا أَو مُعْتَمِرًا) . انْتهى. وَأَبُو عوَانَة شكّ، وبالشك لَا يثبت مَا ادَّعَاهُ من الْمجَاز، على أَن يحيى بن أبي كثير الَّذِي هُوَ أحد رُوَاة حَدِيث أبي قَتَادَة قد جزم بِأَن ذَلِك كَانَ فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (فيهم أَبُو قَتَادَة) ، من بَاب التَّجْرِيد، وَكَذَا قَوْله: (إلاَّ أَبُو قَتَادَة) ، لِأَن مُقْتَضى الْكَلَام أَن يُقَال: وَأَنا فيهم، وإلاَّ أَنا، وَلَا يَنْبَغِي إِن يَجْعَل هَذَا من قَول ابْن أبي قَتَادَة، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم أَن يكون الحَدِيث مُرْسلا. قَوْله: (إلاَّ أَبُو قَتَادَة) ، هَكَذَا هُوَ بِالرَّفْع عِنْد الْأَكْثَرين، وَعند الْكشميهني (إلاَّ أَبُو قَتَادَة) بِالنّصب، وَكَذَا وَقع عِنْد مُسلم بِالنّصب، وَقَالَ ابْن مَالك: حق الْمُسْتَثْنى بإلاَّ من كَلَام تَامّ مُوجب أَن ينصب مُفردا، كَانَ، أَو مكملاً مَعْنَاهُ بِمَا بعده، فالمفرد نَحْو قَوْله تَعَالَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إلاَّ الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 76) . والمكمل نَحْو: {إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ إلاَّ امرأَتَه قَدرنَا أَنَّهَا لمن الغابرين} (الْحجر: 95، 06) . وَلَا يعرف أَكثر المتأخيرن من الْبَصرِيين فِي هَذَا النَّوْع إلاَّ النصب، وَقد اغفلوا وُرُوده مَرْفُوعا مَعَ ثُبُوت الْخَبَر وَمَعَ حذفه، فَمن أَمْثِلَة الثَّابِت الْخَبَر قَول ابْن أبي قَتَادَة: (أَحْرمُوا كلهم إلاَّ أَبُو قَتَادَة لم يحرم) ، فإلاَّ بِمَعْنى: لَكِن، وَأَبُو قَتَادَة مُبْتَدأ، و: لم يحرم، خَبره، وَنَظِيره من كتاب الله تَعَالَى: {وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إلاَّ امْرَأَتك أَنه مصيبها مَا أَصَابَهُم} (هود: 18) . فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يَجْعَل: امْرَأَتك، بَدَلا من: أحد، لِأَنَّهَا لم تسر مَعَهم فيتضمنها ضمير المخاطبين، وتكلف بَعضهم بِأَنَّهُ، وَإِن لم يسر بهَا، لَكِنَّهَا شَعرت بِالْعَذَابِ فتبعتهم ثمَّ التفتت فَهَلَكت. قَالَ: وَهَذَا على تَقْدِير صِحَّته لَا يُوجب دُخُولهَا فِي المخاطبين، وَمن أَمْثِلَة الْمَحْذُوف الْخَبَر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل أمتِي معافىً إلاَّ المجاهرون) . أَي: لَكِن المجاهرون بِالْمَعَاصِي لَا يعافون، وَمِنْه من كتاب الله تَعَالَى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} (الْبَقَرَة: 942) . أَي: لَكِن قَلِيل مِنْهُم لم يشْربُوا، قَالَ: وللكوفيين فِي هَذَا الثَّانِي مَذْهَب آخر، وَهُوَ أَن يجْعَلُوا الأحرف عطف وَمَا بعْدهَا مَعْطُوفًا على مَا قبلهَا. انْتهى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو هُوَ، أَي: الرّفْع على مَذْهَب من جوز أَن يُقَال: عَليّ بن أَبُو طَالب. قَوْله: (حمر وَحش) ، الْحمر بِضَمَّتَيْنِ جمع: حمَار. قَوْله: (أَتَانَا) هَذَا بَين أَن المُرَاد بالحمار فِي سَائِر الرِّوَايَات الْأُنْثَى مِنْهُ. قَوْله: (فحملنا مَا بَقِي من لحم الأتان) ، وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم فِي: بَاب الْهِبَة، سَيَأْتِي: (فرحنا وخبأت الْعَضُد معي) ، وَفِيه: (مَعكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ فناولته الْعَضُد فَأكلهَا حَتَّى تعرقها) . وللبخاري أَيْضا فِي الْجِهَاد سَيَأْتِي: (مَعنا رجله، فَأخذ فَأكلهَا) . وَفِي رِوَايَة الْمطلب: (قد رفعنَا لَك الذِّرَاع، فَأكل مِنْهَا) . قَوْله: (مِنْكُم أحد أمره؟) أَي: أمنكم أحد أمره؟ أَي: أَمر(10/173)
أَبَا قَتَادَة، ويروى: (أمنكم؟) بِإِظْهَار همزَة الِاسْتِفْهَام، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (هَل مِنْكُم أحد أمره أَو أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْء؟) وَلمُسلم فِي رِوَايَته من طَرِيق شُعْبَة عَن عُثْمَان: (هَل أشرتم أَو أعنتم أَو اضطررتم؟) وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من هَذَا الْوَجْه: (هَل أشرتم أَو اصطدتم أَو قتلتم؟) . قَوْله: (فَكُلُوا) ، قد ذكرنَا أَن الْأَمر للْإِبَاحَة لَا للْوُجُوب، وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أكل من لَحمهَا، وَذكره فِي روايتي أبي حَازِم عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة كَمَا ترَاهُ، وَلم يذكر ذَلِك من الروَاة عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة غَيره، وَوَافَقَهُ صَالح بن حسان عِنْد أَحْمد وَأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَأبي عوَانَة، وَلَفظه: (فَقَالَ: كلوا وأطعموا) . فَإِن قلت: روى إِسْحَاق وَابْن خُزَيْمَة وَالدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة معمر عَن يحيى بن أبي كثير هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: (فَذكرت شَأْنه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقلت: إِنَّمَا اصطدته لَك! فَأمر أَصْحَابه، فأكلوه وَلم يَأْكُل مِنْهُ حِين أخْبرته أَنِّي اصطدت لَهُ) . فَهَذِهِ الرِّوَايَة تضَاد روايتي أبي حَازِم. قلت: قَالَ ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو بكر النَّيْسَابُورِي وَالدَّارَقُطْنِيّ والجوزقي، تفرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة معمر، فَإِن كَانَت هَذِه الزِّيَادَة مَحْفُوظَة تحمل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل من لحم ذَلِك الْحمار قبل أَن يُعلمهُ أَبُو قَتَادَة أَنه اصطاده لأَجله، فَلَمَّا أعلمهُ بذلك امْتنع. فَإِن قلت: الرِّوَايَات متظاهرة بِأَن الَّذِي تَأَخّر من الْحمار هُوَ الْعَضُد، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكلهَا حَتَّى تغرقها، أَي: لم يبْق مِنْهَا إلاَّ الْعظم، وَوَقع للْبُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة، ستأتي: (حَتَّى نفدها) ، أَي فرغها) فَأَي شَيْء بَقِي مِنْهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَأْمر أَصْحَابه بِالْأَكْلِ؟ قلت: فِي رِوَايَة أبي مُحَمَّد فِي الصَّيْد ستأتي: (أُبْقِي مَعكُمْ شَيْء؟ قلت: نعم، فَقَالَ: كلوا فَهُوَ طعمة أطعمكموها الله) ، وَهَذَا يشْعر بِأَنَّهُ بَقِي مِنْهَا شَيْء غير الْعَضُد.
وَفِيه من الْفَوَائِد: تَفْرِيق الإِمَام أَصْحَابه للملحة، وَاسْتِعْمَال الطليعة فِي الْغَزْو. وَفِيه: جَوَاز صيد الْحمار الوحشي. وَجَوَاز أحكل الْمحرم من لحم الصَّيْد الَّذِي اصطاده الْحَلَال إِذا لم يدل عَلَيْهِ وَلم يشر إِلَيْهِ وَلم يَعْنِي صائده وَفِيه: أَن عقر الصَّيْد ذَكَاته. وَفِيه: جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اجْتِهَاد بِالْقربِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا فِي حَضرته، وَفِيه الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد، وَلَو تضَاد المجتهدان، وَلَا يعاب وَاحِد مِنْهُمَا على ذَلِك.
6 - (بابٌ إذَا أهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارا وَحْشِيا حَيّا لَمْ يَقْبَلْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أهْدى الْحَلَال للْمحرمِ حمارا وحشيا. قَوْله: (حَيا) ، صفة لحِمَار بعد صفة، وَلَيْسَت هَذِه الصّفة بموجودة فِي أَكثر النّسخ، وَقَالَ بَعضهم: كَذَا قَيده فِي التَّرْجَمَة بِكَوْنِهِ حَيا، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الرِّوَايَة الَّتِي تدل على أَنه كَانَ مذبوحا موهومة. انْتهى. قلت: لم يذكر هَذَا الْقَيْد فِي حَدِيث الْبَاب صَرِيحًا، وَلَكِن قَوْله: (أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمارا وحشيا) ، يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْحمار حَيا، وَيحْتَمل أَن يكون مذبوحا، وَلَكِن مُسلما صرح فِي إِحْدَى رواياته عَن الزُّهْرِيّ: من لحم حمَار وَحش، وَفِي رِوَايَة مَنْصُور عَن الحكم: (أهْدى رجل حمَار وَحش) . وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَن الحكم: (عجز حمَار وَحش يقطر دَمًا) ، وَفِي رِوَايَة زيد بن أَرقم: أهدي لَهُ عُضْو من لحم صيد، وَهَذِه الرِّوَايَات كلهَا تدل على أَن الْحمار غير حَيّ، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الرِّوَايَة الَّتِي تدل على أَنه كَانَ مذبوحا موهومة. قَوْله: (لم يقبلْ) ، بِمَعْنى: لَا يقبل.
400 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن عبد الله بن عَبَّاس عَن الصعب بن جثامة اللَّيْثِيّ أَنه أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمارا وحشيا وَهُوَ بالأبواء أَو بودان فَرده عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجهه قَالَ إِنَّا لم نرده عَلَيْك إِلَّا أَنا حرم) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِلَى قَوْله " فَرده عَلَيْهِ ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي وَمَالك بن أنس وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب وَعبد الله بن عَبَّاس وَكلهمْ قد ذكرُوا غير مرّة. السَّادِس الصعب ضد السهل ابْن جثامة بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة(10/174)
ابْن قيس اللَّيْثِيّ الْحِجَازِي أَخُو محلم بن جثامة مَاتَ فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ ينزل أَرض ودان بِأَرْض الْحجاز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَفِيه الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَهُوَ من مُسْند الصعب إِلَّا أَنه وَقع فِي موطأ ابْن وهب عَن ابْن عَبَّاس أَن الصعب بن جثامة أهْدى فَجعله من مُسْند ابْن عَبَّاس وَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أهْدى لَهُ الصعب وَكَذَا رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن أبي شيبَة وَعند مُسلم أَيْضا من حَدِيث طَاوس قَالَ قدم زيد بن أَرقم فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس يستذكره كَيفَ أَخْبَرتنِي عَن لحم صيد أهدي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ حرَام قَالَ أهدي لَهُ عضد من لحم صيد فَرده قَالَ إِنَّا لَا نأكله إِنَّا حرم " فَجعله من مُسْند طَاوس عَن زيد وَالْمَحْفُوظ هُوَ الأول وَسَيَأْتِي فِي كتاب الْهِبَة للْبُخَارِيّ من بُخَارى من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي عبيد الله أَن ابْن عَبَّاس أخبرهُ أَنه سمع الصعب وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخبر أَنه أهْدى لَهُ وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَن ابْن شهَاب كَمَا رَوَاهُ مَالك وَمعمر وَابْن جريج وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث وَصَالح بن كيسَان وَابْن أخي ابْن شهَاب وَاللَّيْث وَيُونُس وَمُحَمّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة كلهم قَالَ فِيهِ " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمَار وَحش " كَمَا قَالَ مَالك وَخَالفهُم ابْن عُيَيْنَة وَابْن اسحق فَقَالَا " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحم حمَار وَحش " قَالَ ابْن جريج فِي حَدِيثه قلت لِابْنِ شهَاب الْحمار عقير قَالَ لَا أَدْرِي فقد بَين ابْن جريج أَن ابْن شهَاب شكّ فَلم يدر أَكَانَ عقيرا أم لَا إِلَّا أَن فِي مساق حَدِيثه " أهديت لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمَار وَحش فَرده عَليّ " وروى القَاضِي إِسْمَاعِيل عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن صَالح بن كيسَان عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس " عَن الصعب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقبل حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد أهدي إِلَيْهِ بعض حمَار فَرده وَقَالَ إِنَّا حرم لَا نَأْكُل الصَّيْد " هَكَذَا قَالَ عَن صَالح عَن عبيد الله وَلم يذكر ابْن شهَاب وَقَالَ بعض حمَار وَحش وَعند حَمَّاد بن زيد فِي هَذَا أَيْضا عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس " عَن الصعب أَنه أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحِمَار وَحش " وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح عَن ابْن شهَاب كَمَا قدمنَا وَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ عِنْد أهل الْعلم وَقَالَ الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث مُضْطَرب قد رَوَاهُ قوم على مَا ذكرنَا وَالَّذِي ذكره هُوَ قَوْله حَدثنَا يُونُس قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عَبَّاس " عَن الصعب بن جثامة قَالَ مر بِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنا بالأبواء أَو بودان فأهديت لحم حمَار وَحش فَرده عَليّ فَلَمَّا رأى الْكَرَاهَة فِي وَجْهي قَالَ لَيْسَ بِنَا رد عَلَيْك وَلَكنَّا حرم " قَالَ وَرَوَاهُ آخَرُونَ فَقَالُوا " إِنَّمَا أهْدى إِلَيْهِ حمارا وحشيا " ثمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ " أَن الْحمار كَانَ مذبوحا " وروى أَيْضا أَنه " كَانَ عجز حمَار وَحش أَو فَخذ حمَار " وروى أَيْضا " عجز حمَار وَحش وَهُوَ بِقديد يقطر دَمًا فَرده " ثمَّ قَالَ فقد اتّفقت الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس فِي حَدِيث الصعب عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي رده الْهَدِيَّة عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَت فِي لحم صيد غير حَيّ فَذَلِك حجَّة لمن كره للْمحرمِ أكل لحم الصَّيْد وَإِن كَانَ الَّذِي تولى صَيْده وذبحه حَلَال وَقَالَ ابْن بطال اخْتِلَاف رِوَايَات حَدِيث الصعب تدل على أَنَّهَا لم تكن قَضِيَّة وَاحِدَة وَإِنَّمَا كَانَت قضايا فَمرَّة أهْدى إِلَيْهِ الْحمار كُله وَمرَّة عَجزه وَمرَّة رجله لِأَن مثل هَذَا لَا يذهب على الروَاة ضَبطه حَتَّى يَقع فِيهِ التضاد فِي النَّقْل والقصة وَاحِدَة وَقَالَ الطَّبَرِيّ بوب البُخَارِيّ على هَذَا الحَدِيث وَفهم مِنْهُ الْحَيَاة وَالرِّوَايَات الْأُخَر تدل على أَنه كَانَ مَيتا وَأَنه أَتَاهُ بعضو مِنْهُ وَطَرِيق الْجمع أَنه جَاءَ بالحمار مَيتا فَوَضعه بِقرب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قطع مِنْهُ ذَلِك الْعُضْو فَأَتَاهُ بِهِ فَصدق اللفظان أَو يكون أطلق اسْم الْحمار وَهُوَ يُرِيد بعضه وَهَذَا من بَاب التَّوَسُّع وَالْمجَاز أَو نقُول أَن الْحمار كَانَ حَيا فَيكون قد أَتَاهُ بِهِ فَلَمَّا رده وَأقرهُ بِيَدِهِ ذكاه ثمَّ أَتَاهُ بالعضو الْمَذْكُور وَلَعَلَّ الصعب ظن أَنه إِنَّمَا رده لِمَعْنى يخص الْحمار بجملته فَلَمَّا جَاءَ بجزئه أعلمهُ بامتناعه أَن حكم الْجُزْء من الصَّيْد لَا يحل للْمحرمِ وقبوله وَلَا تملكه (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَعَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح ثَلَاثَتهمْ عَن(10/175)
اللَّيْث وَعَن عمر بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار وَابْن أبي شيبَة. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأَصْل فِي أهْدى التَّعَدِّي بإلى وَقد تعدى بِاللَّامِ وَيكون بِمَعْنَاهُ قيل أَن يحْتَمل أَن تكون اللَّام بِمَعْنى أجل وَهُوَ ضَعِيف قَوْله " وَهُوَ بالأبواء " جملَة وَقعت حَالا والأبواء بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد جبل من عمل الْفَرْع بِضَم الْفَاء بَينهمَا وَبَين الْجحْفَة مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ميلًا وَفِي الْمطَالع سميت بذلك لما فِيهَا من الوباء وَلَو كَانَ كَمَا قيل لقيل الْأَبْوَاء أَو يكون مقلوبا مِنْهُ وَبِه توفيت أم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّحِيح أَنَّهَا سميت بذلك لتبوء السُّيُول بهَا قَالَه ثَابت قَوْله " أَو بودان " شكّ من الرَّاوِي وبالشك جزم أَكثر الروَاة وَجزم ابْن اسحق وَصَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ " بودان " وَجزم معمر وَعبد الرَّحْمَن بن اسحق وَمُحَمّد بن عَمْرو بالأبواء وَالظَّاهِر أَن الشَّك فِيهِ من ابْن عَبَّاس لِأَن الطَّبَرَانِيّ أخرج الحَدِيث من طَرِيق عَطاء عَنهُ على الشَّك أَيْضا وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون مَوضِع بِقرب الْجحْفَة وَيُقَال هُوَ قَرْيَة جَامِعَة من نَاحيَة الْفَرْع بَينه وَبَين الْأَبْوَاء ثَمَانِيَة أَمْيَال ينْسب إِلَيْهِ الصعب بن جثامة اللَّيْثِيّ الوداني وَفِي الْمطَالع هُوَ من عمل الْفَرْع بَينه وَبَين هرشي نَحْو سِتَّة أَمْيَال قَوْله " فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجهه " وَفِي رِوَايَة شُعَيْب " فَلَمَّا عرف فِي وَجْهي رده هديتي " وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عِنْد التِّرْمِذِيّ " فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجهه من الْكَرَاهَة " وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن جريج قَوْله " لم نردده عَلَيْك " هَذَا بفك الْإِدْغَام رِوَايَة الْكشميهني وَقَالَ عِيَاض ضَبطنَا فِي الرِّوَايَات لم نرده بِفَتْح الدَّال ورده محققوا شُيُوخنَا من أهل الْعَرَبيَّة وَقَالُوا لم نرده بِضَم الدَّال وَكَذَا وجدته بِخَط بعض الْأَشْيَاخ أَيْضا وَهُوَ الصَّوَاب عِنْدهم على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فِي مثل هَذَا فِي المضاعف إِذا دخله الْهَاء أَن يضم مَا قبلهَا فِي الْأَمر وَنَحْوه من المجزوم مُرَاعَاة للواو الَّتِي توجبها ضمة الْهَاء بعْدهَا لخفاء الْهَاء فَكَأَن مَا قبلهَا ولى الْوَاو وَلَا يكون مَا قبل الْوَاو إِلَّا مضموما هَذَا فِي الْمُذكر وَأما فِي الْمُؤَنَّث مثل لم تردها فمفتوح الدَّال مُرَاعَاة للألف (قلت) فِي مثل هَذِه الصِّيغَة قبل دُخُول الْهَاء عَلَيْهَا أَرْبَعَة أوجه الْفَتْح لِأَنَّهُ أخف الحركات وَالضَّم اتبَاعا لضمة عين الْفِعْل وَالْكَسْر لِأَنَّهُ الأَصْل فِي تَحْرِيك السَّاكِن والفك وَأما بعد دُخُول الْهَاء فَيجوز فِيهِ غير الْكسر قَوْله " إِلَّا أَنا حرم " بِفَتْح الْهمزَة فِي أَنا على أَنه تعدى إِلَيْهِ الْفِعْل بِحرف التَّعْلِيل فَكَأَنَّهُ قَالَ لأَنا وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي أَنا مكسور الْهمزَة لِأَنَّهَا ابتدائية وَقَالَ الْكرْمَانِي لَام التَّعْلِيل محذوفة والمستثنى مِنْهُ مُقَدّر أَي لَا نرده لعِلَّة من الْعِلَل إِلَّا لأننا حرم وَالْحرم بِضَمَّتَيْنِ جمع حرَام أَي محرمون وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من رِوَايَة صَالح بن كيسَان " إِلَّا أَنا حرم لَا نَأْكُل الصَّيْد " وَفِي رِوَايَة سعيد عَن ابْن عَبَّاس " لَوْلَا أَنا محرمون لقبلناه مِنْك ". (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) مِنْهُ أَنه احْتج بِهِ الشّعبِيّ وَطَاوُس وَمُجاهد وَجَابِر بن زيد وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَمَالك فِي رِوَايَة واسحق فِي رِوَايَة على أَن الْمحرم لَا يحل لَهُ أكل صيد ذبحه حَلَال قيل لِأَنَّهُ اقْتصر فِي التَّعْلِيل على كَونه محرما فَدلَّ على أَنه سَبَب الِامْتِنَاع خَاصَّة وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَقَالَ عَطاء فِي رِوَايَة وَسَعِيد ابْن جُبَير وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة الصَّيْد الَّذِي اصطاده الْحَلَال لَا يحرم على الْمحرم وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب قَالَ حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر " عَن معَاذ بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ عَن أَبِيه قَالَ كُنَّا مَعَ طَلْحَة بن عبيد الله وَنحن حرم فأهدى لَهُ طير وَطَلْحَة رَاقِد فمنا من أكل وَمنا من تورع فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَة وفْق من أكله قَالَ وأكلنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفْق من أكله " أَي دَعَا لَهُ بالتوفيق أَي قَالَ لَهُ وفقت أَي أصبت الْحق وَبِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلمَة وَابْن مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث عَن عِيسَى بن طَلْحَة " عَن عُمَيْر بن سَلمَة عَن الْبَهْزِي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج يُرِيد مَكَّة وَهُوَ محرم حَتَّى إِذا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ إِذا حمَار وَحش عقير فَذكر ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ دَعوه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يَأْتِي صَاحبه فجَاء الْبَهْزِي وَهُوَ صَاحبه فَقَالَ يَا رَسُول الله(10/176)
شَأْنكُمْ بِهَذَا الْحمار فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَسمهُ بَين الرفاق ثمَّ مضى حَتَّى إِذا كَانَ بالأثاية بَين الرُّوَيْثَة وَالْعَرج إِذا ظَبْي حَاقِف فِي ظلّ وَفِيه سهم فَزعم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر رجلا يقف عِنْده لَا يرِيبهُ أحد من النَّاس حَتَّى يُجَاوِزُوهُ " ثمَّ قَالَ تَابعه يزِيد بن هَارُون عَن يحيى بِهِ وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا وَغَيره وصححوه وَأخرجه الطوسي أَيْضا محسنا وَفِيه " فَلم يلبث أَن جَاءَ رجل من طَيء فَقَالَ يَا رَسُول الله هَذِه رميتي فشأنك بهَا " وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَلَفظه " فَإِذا هُوَ بِحِمَار وَحش عقير فِيهِ سهم وَهُوَ حَيّ قد مَاتَ " وَلَفظه أَيْضا " إِذا هُوَ بِظَبْيٍ مستظل فِي حقف جبل فِيهِ سهم وَهُوَ حَيّ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرجل قف هَهُنَا لَا يرِيبهُ أحد حَتَّى يمْضِي الرفاق " قلت عُمَيْر بن سَلمَة لَهُ صُحْبَة والبهزي بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء بعْدهَا الزَّاي نِسْبَة إِلَى بهز هُوَ تيم بن امريء الْقَيْس بن بهتة بن سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان وَقَالَ أَبُو عمر اسْمه زيد بن كَعْب السّلمِيّ ثمَّ الْبَهْزِي. قَوْله بِالرَّوْحَاءِ هُوَ مَوضِع بَينه وَبَين الْمَدِينَة ميل وَفِي حَدِيث جَابر " إِذا أذن الْمُؤَذّن هرب الشَّيْطَان بِالرَّوْحَاءِ " وَهِي من الْمَدِينَة يكون ميلًا رَوَاهُ أَحْمد وَقَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي كتاب الْمَمْدُود والمقصور الروحاء مَوضِع على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة وَفِي الْمطَالع الروحاء من عمل الْفَرْع على نَحْو من أَرْبَعِينَ ميلًا وَفِي مُسلم على سِتَّة وَثَلَاثِينَ وَفِي كتاب ابْن أبي شيبَة على ثَلَاثِينَ. قَوْله " بالأثاية " بِفَتْح الْهمزَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة مَوضِع بطرِيق الْجحْفَة بَينه وَبَين الْمَدِينَة سَبْعَة وَسَبْعُونَ ميلًا وَرَوَاهُ بَعضهم بِكَسْر الْهمزَة وَبَعْضهمْ يَقُول الأثاثة بثاءين وَبَعْضهمْ الأثانة بالنُّون بعد الْألف وَالصَّوَاب بِالْفَتْح وَالْكَسْر والرويثة بِضَم الرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره هَاء وَهُوَ منزل بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَالْعَرج بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء وبالجيم قَرْيَة جَامِعَة من عمل الْفَرْع على نَحْو من ثَمَانِيَة وَسبعين ميلًا من الْمَدِينَة وَهُوَ أول تهَامَة. قَوْله " حَاقِف " أَي نَائِم قد انحنى فِي نَومه والحقف بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف مَا اعوج من الرمل واستطال وَيجمع على أحقاف قَوْله " لَا يرِيبهُ أحد " أَي لَا يتَعَرَّض لَهُ أحد ويزعجه وَأَصله من رَابَنِي الشَّيْء وأرابني إِذا شككني وَأَجَابُوا عَن حَدِيث الْبَاب بِمَا ذَكرْنَاهُ عَن الطَّحَاوِيّ عَن قريب وَقَالَ عَطاء فِي رِوَايَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد واسحق وَأَبُو ثَوْر الصَّيْد الَّذِي لأجل الْمحرم حرَام على الْمحرم لم يجز أكله وَمَا لم يصد من أَجله جَازَ لَهُ أكله وروى هَذَا القَوْل عَن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي الإسْكَنْدراني الْقَارِي عَن عَمْرو عَن الْمطلب " عَن جَابر بن عبد الله قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول صيد الْبر حَلَال لكم مَا لم تصيدوه أَو يصد لكم " وَأخرجه التِّرْمِذِيّ حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب إِلَى آخِره وَلَكِن فِي رِوَايَته " حَلَال لكم وَأَنْتُم حرم " وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْمطلب لَا نَعْرِف لَهُ سَمَاعا من جَابر وَعنهُ أَنه لم يسمع من جَابر وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي وَقَالَ ابْن سعد كَانَ كثير الحَدِيث وَلَيْسَ يحْتَج بحَديثه وَقَالَ النَّسَائِيّ عَمْرو بن أبي عَمْرو لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث وَإِن كَانَ قد روى عَنهُ مَالك وَقَالَ مَالك مَا ذبحه الْمحرم فَهُوَ ميتَة لَا يحل لمحرم وَلَا لحلال وَقد اخْتلف قَوْله فِيمَا صيد لمحرم بِعَيْنِه كالأمير وَشبهه هَل لغير ذَلِك الَّذِي صيد لأَجله أَن يَأْكُلهُ وَالْمَشْهُور من مذْهبه عِنْد أَصْحَابه أَن الْمحرم لَا يَأْكُل مَا صيد لمحرم معِين أَو غير معِين. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب جَوَاز كل مَا صَاده الْحَلَال للْمحرمِ وَمِنْه جَوَاز الحكم بعلامة لقَوْله " فَلَمَّا رأى مَا فِي وَجْهي " وَمِنْه جَوَاز رد الْهَدِيَّة لعِلَّة. وَمِنْه الِاعْتِذَار عَن رد الْهَدِيَّة تطييبا لقلب الْمهْدي. وَمِنْه أَن الْهَدِيَّة لَا تدخل فِي الْملك إِلَّا بِالْقبُولِ. وَمِنْه أَن على الْمحرم أَن يُرْسل مَا فِي يَده من الصَّيْد الْمُمْتَنع عَلَيْهِ اصطياده -
7 - (بابُ مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشَّيْء الَّذِي يقتل الْمحرم، يَعْنِي: مَاله قَتله من الدَّوَابّ، وَهُوَ جمع دَابَّة، وَهِي مَا يدب على وَجه الأَرْض. وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) : كل ماشٍ على الأَرْض دَابَّة ودبيب، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة، وَالدَّابَّة فِي الَّتِي تركب أشهر. وَفِي (الْمُحكم) : الدَّابَّة تقع على(10/177)
الْمُذكر والمؤنث، وَحَقِيقَته الصّفة. قلت: الدَّابَّة فِي الأَصْل كَا مَا يدب على وَجه الأَرْض، ثمَّ نَقله الْعرف الْعَام إِلَى ذَات القوائم الْأَرْبَع من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَيُسمى هَذَا مَنْقُولًا عرفيا. فَإِن قلت: فِي أَحَادِيث الْبَاب الْغُرَاب والحداءة وليسا من الدَّوَابّ، وَلَو قَالَ من الْحَيَوَان لَكَانَ أصوب قلت: أَكثر مَا ذكر فِي أَحَادِيث الْبَاب الدَّوَابّ فَنظر إِلَى هَذَا الْجَانِب.
6281 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُناحٌ.
(الحَدِيث 6281 طرفه فِي: 5133) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَا للْمحرمِ قَتله من الدَّوَابّ، وَلَكِن أوردهُ مُخْتَصرا، وأحال بِهِ على طَرِيق سَالم على مَا يَأْتِي عَن قريب، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (خمس من الدَّوَابّ لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح: الْغُرَاب والحدءة وَالْعَقْرَب والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور) . وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي قتل خمس من الدَّوَابّ للْمحرمِ: الْغُرَاب والحدأة والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور وَالْعَقْرَب.
قَوْله: (خمس) ، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وتخصص بِالصّفةِ. وَهِي قَوْله: (من الدَّوَابّ) . قَوْله: (لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح) خَبره، والجناح: الْإِثْم والحرج، وارتفاع: جنَاح، على أَنه اسْم: لَيْسَ، تَأَخّر عَن خَبره.
وعَنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
وَعَن عبد الله عطف على نَافِع، أَي: قَالَ مَالك عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَأخرجه مُسلم بِتَمَامِهِ: حَدثنَا يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَابْن حجر، قَالَ يحيى: أخبرنَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عبد الله بن دِينَار أَنه سمع عبد الله بن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من قتلهن وَهُوَ حرَام فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فِيهِنَّ: الْفَأْرَة وَالْعَقْرَب وَالْكَلب الْعَقُور والغراب والحديا) . وَاللَّفْظ ليحيى.
قَوْله: (قَالَ) ، مقوله مَحْذُوف، تَقْدِيره: خمس من الدَّوَابّ ... إِلَى آخِره.
7281 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو عُوَانَةَ عنْ زَيْدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ حدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ.
(الحَدِيث 7281 طرفه فِي: 8281) .
هَذَا طَرِيق آخر سَاق مِنْهُ هَذَا الْقدر، وأحال بِهِ على الطَّرِيق الَّذِي بعده.
وَأخرجه عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن زيد بن جُبَير، بِضَم الحيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن حرمل الْجُشَمِي الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح رِوَايَة عَن غير ابْن عمر، وَلَا لَهُ فِيهِ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث آخر تقدم فِي الْمَوَاقِيت، وَقد خَالف نَافِعًا وَعبد الله بن دِينَار فِي إِدْخَال الْوَاسِطَة بَين ابْن عمر وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث، وَوَافَقَ سالما، إِلَّا أَن زيدا أبهم الْوَاسِطَة، وسالما سَمَّاهَا. وَأخرجه مُسلم: حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: (حَدثنَا زيد بن جُبَير إِن رجلا سَأَلَ ابْن عمر: مَا يقتل الْمحرم من الدَّوَابّ؟ فَقَالَ: أَخْبَرتنِي إِحْدَى نسْوَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر أَو أَمر: أَن تقتل الْفَأْرَة وَالْعَقْرَب والحدأة وَالْكَلب العقوب والغراب) . هُوَ من الرِّوَايَة عَن المجاهيل، لِأَنَّهُ بَينه فِي الطَّرِيق الآخر بقوله: حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالْأولَى أَن يُقَال: الْجَهْل فِي الصَّحَابَة لَا يضر، لِأَن كلهم عدُول.
8281 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أخبرنِي عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ حَفْصَةُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ الْغُرَابُ والحِدأةُ والفأرةُ والعَقْربُ والْكَلْبُ الْعَقُورُ.
(انْظُر الحَدِيث 7281) .(10/178)
هَذَا طَرِيق آخر فِيهِ تَمام مَا فِي الطّرق الْمُتَقَدّمَة، فَلذَلِك عطفه عَلَيْهَا بِالْوَاو. وَأخرجه عَن إصبغ بن الْفرج عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عبد الله عَن أُخْته حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمن لطائف إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وَرِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية، وَرِوَايَة الْأَخ عَن أُخْته.
قَوْله: (قَالَت حَفْصَة) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن حَفْصَة، وَهَذَا وَالَّذِي قبله قد يُوهم أَن عبد الله بن عمر مَا سمع هَذَا الحَدِيث من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن وَقع فِي بعض طرق نَافِع عَنهُ: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أخرجه مُسلم من طَرِيق ابْن جريج وَتَابعه مُحَمَّد بن إِسْحَاق، ثمَّ سَاقه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع كَذَلِك حَيْثُ قَالَ: وحدثنيه فُضَيْل بن سهل، قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع وَعبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عمر، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (خمس لَا جنَاح فِي قتل مَا قتل مِنْهُنَّ فِي الْحرم) الحَدِيث. وَظهر من هَذَا أَن ابْن عمر سمع هَذَا الحَدِيث من أُخْته حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا يحدث بِهِ حِين سُئِلَ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا: حَدثنِي حَرْمَلَة بن يحيى، قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب، أخبرنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله أَن عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَت حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من الدَّوَابّ كلهَا فَاسق لَا حرج على من قتلهن: الْعَقْرَب والغراب والحدأة والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْغُرَاب) أَي: إِحْدَى الْخمس من الدَّوَابّ الْغُرَاب، قَالَ أَبُو الْمعَانِي: هُوَ وَاحِد الْغرْبَان وَجمع الْقلَّة: أغربة، وَقيل: سمي غرابا لِأَنَّهُ نأى واغترب لما تفقده نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، يستخبر أَمر الطوفان، وَيجمع على: غرب، أَيْضا وعَلى أغرب. وَفِي (الْحَيَوَان) للجاحظ: الْغُرَاب الأبقع غَرِيب، وَهُوَ غراب الْبَين، وكل غراب فقد يُقَال لَهُ: غراب الْبَين إِذا أَرَادوا بِهِ الشؤم إلاَّ غراب الْبَين نَفسه غراب صَغِير، وَإِنَّمَا قيل لكل غراب: غراب الْبَين، لسقوطه فِي مَوَاضِع مَنَازِلهمْ إِذا باتوا. وناس يَزْعمُونَ أَن تسافدها على غير تسافد الطير، وَإِنَّهَا تزلق بالمناقير وتلقح من هُنَالك. وَقيل: إِنَّهُم يتسافدون كبني آدم، أخبر بذلك جمَاعَة شاهدوه. وَفِي (الموعب) : الْغُرَاب الأبقع هُوَ الَّذِي فِي صَدره بَيَاض. وَفِي (الْمُحكم) : غراب أبقع يخالط سوَاده بَيَاض، وَهُوَ أخبثهما، وَبِه يضْرب الْمثل لكل خَبِيث، وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ الَّذِي فِي بَطْنه وظهره بَيَاض. قَوْله: (والحدأة) بِكَسْر الْحَاء وَبعد الدَّال ألف ممدودة بعْدهَا همزَة مَفْتُوحَة، وَجَمعهَا: جدء، مثل عِنَب، وحدآن، كَذَا فِي (الدستور) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَلَا يُقَال: حداة، وَفِي (الْمطَالع) : الحدأة لَا يُقَال فِيهَا إلاَّ بِكَسْر الْحَاء، وَقد جَاءَ الحداء يَعْنِي بِالْفَتْح، وَهُوَ جمع حدأة، وَجَاء الحديا على وزن الثريا. قَوْله: (والفأرة) وَاحِدَة الفيران وفيرة، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) : أَكثر الْعَرَب على همزها. قَوْله: (وَالْعَقْرَب) قَالَ ابْن سَيّده: الْعَقْرَب يكون للذّكر وَالْأُنْثَى، وَقد يُقَال للْأُنْثَى عقربة، والعقربان الذّكر مِنْهَا. وَفِي (الْمُنْتَهى) : الْأُنْثَى عقرباء، مَمْدُود غير مَصْرُوف، وَقيل: العقربان دويبة كَثِيرَة القوائم غير الْعَقْرَب، وعقربة شَاذَّة، وَمَكَان معقرب بِكَسْر الرَّاء ذُو عقارب، وَأَرْض معقربة، وَبَعْضهمْ يَقُول: معقرة، كَأَنَّهُ رد الْعَقْرَب إِلَى ثَلَاثَة أحرف ثمَّ بنى عَلَيْهِ، وَفِي (الْجَامِع) : ذكر العقارب عقربان، وَالدَّابَّة الْكَثِيرَة القوائم عقربان، بتَشْديد الْبَاء. قَوْله: (وَالْكَلب الْعَقُور) ، قَالَ أَبُو الْمعَانِي: جمع الْكَلْب أكلب وكلاب وكليب، وَهُوَ جمع عَزِيز لَا يكَاد يُوجد إلاَّ الْقَلِيل، نَحْو: عبد وَعبيد، وَجمع الْأَكْلُب أكالب، وَفِي (الْمُحكم) : وَقد قَالُوا فِي جمع الْكلاب كلابات، والكالب كالجامل جمَاعَة الْكلاب، والكلبة أُنْثَى الْكلاب، وَجَمعهَا كلبات وَلَا يكسر، وَسَنذكر معنى الْعَقُور وَمَا المُرَاد مِنْهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: أَنه يُسْتَفَاد من الحَدِيث جَوَاز قتل هَذِه الْخَمْسَة من الدَّوَابّ للْمحرمِ، فَإِذا أُبِيح للْمحرمِ فللحلال بِالطَّرِيقِ الأولى، ثمَّ التَّقْيِيد بالخمس، وَإِن كَانَ مَفْهُومه اخْتِصَاص الْمَذْكُورَات بذلك، وَلكنه مَفْهُوم عدد، وَلَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَكْثَرين، وعَلى تَقْدِير اعْتِبَاره فَيحْتَمل أَن يكون قَالَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَولا ثمَّ بَين بعد ذَلِك أَن غير الْخمس يشْتَرك مَعهَا فِي الحكم فقد ورد فِي حَدِيث أخرجه مُسلم عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (أَربع كُلهنَّ فَاسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم: الحدأة، والغراب والفأرة وَالْكَلب الْعَقُور) . انْتهى. وَأسْقط الْعَقْرَب، وَورد عَنْهَا أَيْضا: سِتّ، أخرجه(10/179)
أَبُو عوَانَة فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق المحارمي عَن هِشَام عَن أَبِيه عَنْهَا، فَذكر الْخَمْسَة وَزَاد: الْحَيَّة. وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي غير كتاب مُسلم ذكر الأفعى فَصَارَت سبعا، وَفِيه نظر، لِأَن الأفعى تدخل فِي مُسَمّى الْحَيَّة، وروى ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر زِيَادَة على الْخمس، وَهِي: الذِّئْب والنمر، فَتَصِير بِهَذَا الإعتبار تسعر، وَلَكِن قَالَ ابْن خُزَيْمَة عَن الذهلي: أَن ذكر الذِّئْب والنمر من تَفْسِير الرَّاوِي للكلب الْعَقُور، وَقد جَاءَ حَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: يقتل الْمحرم الْحَيَّة وَالْعَقْرَب والسبع العادي وَالْكَلب الْعَقُور والفأرة الفويسقة. فَقيل لَهُ: لم قَالَ لَهَا: الفويسقة؟ قَالَ: لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَيْقَظَ لَهَا، وَقد أخذت الفتيلة لتحرق بهَا الْبَيْت، وَهَذَا لم يذكر فِيهَا الْغُرَاب والحدأة، وَذكر عوضهما الْحَيَّة والسبع العادي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَمَّا يقتل الْمحرم؟ قَالَ: الْحَيَّة وَالْعَقْرَب والفويسقة، وَيَرْمِي الْغُرَاب وَلَا يقْتله، وَالْكَلب الْعَقُور والحدأة، والسبع العادي. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا مَا أَبَاحَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْمحرمِ قَتله فِي إِحْرَامه، وأباح للْحَلَال قَتله فِي الْحرم، وعد ذَلِك خمْسا، فَذَلِك يَنْفِي أَن يكون إِشْكَال شَيْء من ذَلِك كَحكم هَذِه الْخمس إلاَّ مَا اتّفق عَلَيْهِ من ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عناه. قلت: الْحَاصِل مِمَّا قَالَه أَن التَّنْصِيص على الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة بِالْعدَدِ يُنَافِي أَن يكون أَمْثَاله وأنظاره كهذه الْخمس فِي الحكم، ألاَّ ترى أَنه ذكر الحدأة، والغراب وهما من ذَوي المخلب من الطُّيُور وعينهما؟ فَلَا يلْحق بهَا سَائِر ذَوي المخالب من الطُّيُور كالصقر والبازي والشاهين وَالْعِقَاب وَنَحْوهمَا، وَهَذَا بِلَا خلاف، إلاَّ أَن من علل بالأذى يَقُول: أَنْوَاع الْأَذَى كَثِيرَة مُخْتَلفَة، فَكَأَنَّهُ نبه بالعقرب على مَا يشاركها فِي الْأَذَى من السَّبع وَنَحْوه من ذَوَات السمُوم: كالحية والزنبور، وبالفأرة على مَا يشاركها فِي الْأَذَى بالنقب وَالْقَرْض: كَابْن عرس، وبالغراب والحدإة، على مَا يشاركهما فِي الْأَذَى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب الْعَقُور على مَا يُشَارِكهُ فِي الْأَذَى بالعدوان والعقر: كالأسد والفهد، وَمن علل بِتَحْرِيم الْأكل قَالَ: إِنَّمَا اقْتصر على الْخمس لِكَثْرَة ملابستها للنَّاس بِحَيْثُ يعم أذاها. فَإِن قلت: فعلى مَا ذكرت عَن الطَّحَاوِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يجوز قتل الْحَيَّة للْمحرمِ؟ قلت: قَوْله: إلاَّ مَا اتّفق عَلَيْهِ من ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عناه، أَشَارَ إِلَى جَوَاز قتل الْحَيَّة لِأَنَّهَا من جملَة مَا عناه من ذَلِك، وَكَيف وَقد جَاءَ عَن ابْن مَسْعُود أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم بقتل الْحَيَّة فِي منى، وَجَاء أَن إِحْدَى الْخمس هُوَ الْحَيَّة، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَقد ذَكرْنَاهُ؟
الْوَجْه الثَّانِي فِي حكم الْغُرَاب: فَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : المُرَاد بالغراب آكل الْجِيَف، وَهُوَ الأبقع، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي يُوسُف، وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم: الْحَيَّة والغراب الأبقع) ، وَقد مر عَن قريب تَفْسِير الإبقع. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا تَقْيِيد لمُطلق الرِّوَايَات الَّتِي لَيْسَ فِيهَا الأبقع، وَبِذَلِك قَالَت طَائِفَة، فَلَا يجيزون إلاَّ قتل الأبقع خَاصَّة، وَطَائِفَة رَأَوْا جَوَاز قتل الأبقع وَغَيره من الْغرْبَان، وَرَأَوا أَن ذكر الأبقع إِنَّمَا جرى لِأَنَّهُ الْأَغْلَب. قلت: الرِّوَايَات الْمُطلقَة مَحْمُولَة على هَذِه الرِّوَايَة الْمقيدَة الَّتِي رَوَاهَا مُسلم، وَذَلِكَ لِأَن الْغُرَاب إِنَّمَا أُبِيح قَتله لكَونه يبتدىء بالأذى، وَلَا يبتدىء بالأذى إلاَّ الْغُرَاب الأبقع، وَأما الْغُرَاب غير الأبقع فَلَا يبتدىء بالأذى، فَلَا يُبَاح قَتله: كالعقعقق وغراب الزَّرْع. وَيُقَال لَهُ: الزاغ، وافتوا بِجَوَاز أكله، فَبَقيَ مَا عداهُ من الْغرْبَان ملتحقا بالأبقع. وَمِنْهَا: الغداف، على الصَّحِيح فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، ذكره فِي (الرَّوْضَة) بِخِلَاف مَا ذكره الرَّافِعِيّ، وسمى ابْن قدامَة الغداف: غراب الْبَين، الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة أَنه الأبقع قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: المُرَاد بالغراب فِي الحَدِيث الغداف والأبقع لِأَنَّهُمَا يأكلان الْجِيَف، وَأما غراب الزَّرْع فَلَا، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي سعيد الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَفِيه: (وَيَرْمِي الْغُرَاب وَلَا يقْتله) ، وروى ابْن الْمُنْذر وَغَيره نَحوه عَن عَليّ وَمُجاهد، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَبَاحَ كل من يحفظ عَنهُ الْعلم قتل الْغُرَاب فِي الْإِحْرَام إلاَّ مَا جَاءَ عَن عَطاء، قَالَ فِي محرم كسر قرن غراب، قَالَ: إِن أدماه فَعَلَيهِ الْجَزَاء! وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يُتَابع أحد عَطاء على هَذَا. انْتهى. وَعند الْمَالِكِيَّة اخْتِلَاف آخر فِي الْغُرَاب والحدأة: هَل يتَقَيَّد جوازهما بِأَن يبتدئا بالأذى؟ وَهل يخْتَص ذَلِك بكبارهما؟ وَالْمَشْهُور عَنْهُم مَا قَالَه ابْن شاش: لَا فرق وفَاقا لِلْجُمْهُورِ.
وَمن أَنْوَاع الْغرْبَان: العقعق، وَهُوَ قدر الْحَمَامَة على شكل الْغُرَاب، وَقيل: سمي بذلك لِأَنَّهُ يعق فِرَاخه فيتركها بِلَا طعم، وَبِهَذَا يظْهر أَنه نوع من الْغرْبَان، وَالْعرب(10/180)
تتشاءم بِهِ أَيْضا، وَذكر فِي (فَتَاوَى قاضيخان) : من خرج لسفر فَسمع صَوت العقعق فَرجع كفر، وَقيل: حكمه حكم الأبقع. وَقيل: حكم غراب الزَّرْع، وَقَالَ أَحْمد: إِن أكل الْجِيَف وإلاَّ فَلَا بَأْس بِهِ. فَإِن قلت: قَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب لَا يعرف إلاَّ من حَدِيث سعيد، وَلم يروه عَنهُ غير قَتَادَة، وَهُوَ مُدَلّس، وثقات أَصْحَاب سعيد من أهل الْمَدِينَة لَا يُوجد عِنْدهم هَذَا الْقَيْد مَعَ مُعَارضَة حَدِيث ابْن عمر وَحَفْصَة، فَلَا حجَّة فِيهِ حِينَئِذٍ. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا تثبت هَذِه الزِّيَادَة أَعنِي: قَوْله: (والغراب الأبقع) ، وَقَالَ ابْن قدامَة: الرِّوَايَات الْمُطلقَة أصح. قلت: دَعْوَى التَّدْلِيس مَرْدُودَة لِأَن شُعْبَة لَا يروي عَن شُيُوخه المدلسين إلاَّ مَا هُوَ مسموع لَهُم، وَفِي الحَدِيث عَن شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يحدث عَن سعيد بن الْمسيب، بل صرح النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة بِسَمَاع قَتَادَة، وَنفي ثُبُوت الزِّيَادَة مَرْدُود أَيْضا بِإِخْرَاج مُسلم، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة من الثِّقَة الْحَافِظ، وَهُوَ كَذَلِك هُنَا.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي الحدأة: فَإِنَّهُ يجوز قَتلهَا سَوَاء كَانَ للْمحرمِ أَو للْحَلَال، لِأَنَّهَا تبتدىء بالأذى وتختطف اللَّحْم من أَيدي النَّاس، وَرُوِيَ عَن مَالك فِي الحدأة والغراب أَنه لَا يقتلهما إلاَّ أَن يبتدئا بالأذى، وَالْمَشْهُور من مذْهبه خِلَافه، وَعَن أبي مُصعب فِيمَا ذكره ابْن الْعَرَبِيّ قتل الْغُرَاب والحدأة، وَإِن لم يبتدئا بالأذى، ويؤكل لحمهما عِنْد مَالك. وَرُوِيَ عَنهُ الْمَنْع فِي الْحرم سدا لذريعة الِاصْطِيَاد. قَالَ أَبُو بكر: وأصل الْمَذْهَب أَن لَا يقتل من الطير إلاَّ مَا آذَى بِخِلَاف غَيره، فَإِنَّهُ يقتل ابْتِدَاء.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي الْفَأْرَة: فَإِنَّهُ يجوز قَتلهَا مُطلقًا، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر، لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز قتل الْمحرم الْفَأْرَة إلاَّ النَّخعِيّ، فَإِنَّهُ منع الْمحرم من قَتلهَا، وَهُوَ قَول شَاذ، وَقَالَ القَاضِي، وَحكى السَّاجِي عَن النَّخعِيّ أَنه لَا يقتل الْمحرم الْفَأْرَة، فَإِن قَتلهَا فداها، وَهَذَا خلاف النَّص وَخلاف جَمِيع أهل الْعلم، وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن حَمَّاد بن زيد، قَالَ: لما ذكرُوا لَهُ هَذَا القَوْل، قَالَ: مَا كَانَ بِالْكُوفَةِ أفحش ردا للآثار من إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لقلَّة مَا سمع مِنْهَا، وَلَا أحسن اتبَاعا لَهَا من الشّعبِيّ لِكَثْرَة مَا سمع، وَنقل ابْن شاش عَن الْمَالِكِيَّة خلافًا فِي جَوَاز قتل الصَّغِير مِنْهَا الَّذِي لَا يتَمَكَّن من الْأَذَى، والفأرة أَنْوَاع مِنْهَا: الجرذ، بِضَم الْجِيم على وزن: عمر، والخلد، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة. وَسُكُون اللَّام، وفأرة الْإِبِل، وفأرة الْمسك، وفأرة الغيط، وَحكمهَا فِي تَحْرِيم الْأكل وَجَوَاز قَتلهَا سَوَاء.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي الْعَقْرَب: فَإِنَّهُ يجوز قَتله مُطلقًا حَتَّى فِي الصَّلَاة، لِأَنَّهُ يقْصد اللدغ وَيتبع الْحس، وَذكر أَبُو عمر عَن حَمَّاد ابْن أبي سُلَيْمَان وَالْحكم أَن الْمحرم لَا يقتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب، رَوَاهُ عَنْهُمَا شُعْبَة، قَالَ: وحجتهما أَنَّهُمَا من هوَام الأَرْض، وَقَالَ القَاضِي: لم يخْتَلف فِي قتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب وَلَا فِي قتل الْحَلَال الوزغ فِي الْحرم، وَقَالَ أَبُو عمر: لَا خلاف عَن مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء فِي قتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب فِي الْحل وَالْحرم، وَكَذَلِكَ الأفعى.
الْوَجْه السَّادِس: فِي الْكَلْب الْعَقُور: أذكر أَبُو عمر أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: الْكَلْب الْعَقُور: كل سبع يعقر، وَلم يخص بِهِ الْكَلْب، قَالَ سُفْيَان، وَفَسرهُ لنا زيد بن أسلم، وَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد، وَعَن أبي هُرَيْرَة: الْكَلْب الْعَقُور الْأسد، وَعَن مَالك: هُوَ كل مَا عقر النَّاس وَعدا عَلَيْهِم مثل: الْأسد والنمر والفهد، فَأَما مَا كَانَ من السبَاع لَا يعدو مثل: الضبع والثعلب وشبههما، فَلَا يقْتله الْمحرم، وَإِن قَتله فدَاه. وَزعم النَّوَوِيّ أَن الْعلمَاء اتَّفقُوا على جَوَاز قتل الْكَلْب الْعَقُور للْمحرمِ والحلال فِي الْحل وَالْحرم، وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد بِهِ، فَقيل: هُوَ الْكَلْب الْمَعْرُوف، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض عَن أبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حَيّ، وألحقوا بِهِ الذِّئْب، وَحمل زفر الْكَلْب على الذِّئْب وَحده، وَذهب الشَّافِعِي وَالثَّوْري وَأحمد وَجُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَن المُرَاد كل مفترس غَالِبا. وَقَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : كل مَا عقر النَّاس وَعدا عَلَيْهِم وأخافهم مثل الْأسد والنمر والفهد وَالذِّئْب هُوَ الْعَقُور، وَكَذَا نقل أَبُو عبيد عَن سُفْيَان، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: المُرَاد بالكلب هُنَا الْكَلْب خَاصَّة، وَلَا يلْتَحق بِهِ فِي هَذَا الحكم سوى الذِّئْب، وَاحْتج أَبُو عبيد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أللهم سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك، فَقتله الْأسد) . وَهُوَ حَدِيث حسن أخرجه الْحَاكِم من طَرِيق أبي نَوْفَل بن أبي عقرب عَن أَبِيه، وَاحْتج بقول الله تَعَالَى: {وَمَا علَّمتم من الْجَوَارِح مكلبين} (الْمَائِدَة: 4) . فاشتقاقها من اسْم الْكَلْب، فَلهَذَا قيل لكل جارح: عقور. قلت: فِي (مَرَاسِيل) ذكر الْكَلْب من غير وَصفه بالعقور، فَعلم أَن المُرَاد بِهِ الْحَيَوَان الْخَاص لَا كل عَاقِر، وَقَالَ السرسقطي فِي (غَرِيبه) : الْكَلْب(10/181)
الْعَقُور اسْم لكل عَاقِر حَتَّى اللص الْقَاتِل، وعَلى هَذَا فيستقيم قِيَاس الشَّافِعِيَّة على الْخمس مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، وَلَكِن يُعَكر على هَذَا عدم إِفْرَاده بِالذكر، فَإِن قَالُوا: إِنَّه من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَهُوَ تَأْكِيد للخاص كَقَوْلِه تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 86) . قُلْنَا: قد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات مُؤخر الذّكر ومتوسطا، هَكَذَا فِي الصَّحِيح وَغَيره، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي غير الْعَقُور مِمَّا لم يُؤمر باقتنائه، فَصرحَ بِتَحْرِيمِهِ القاضيان حُسَيْن وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا، وَوَقع للشَّافِعِيّ فِي (الْأُم) الْجَوَاز، وَاخْتلف كَلَام النَّوَوِيّ، فَقَالَ فِي البيع من (شرح الْمُهَذّب) : لَا خلاف بَين أَصْحَابنَا فِي أَنه مُحْتَرم لَا يجوز قَتله، وَقَالَ فِي التَّيَمُّم وَالْغَصْب: إِنَّه غير مُحْتَرم، وَقَالَ فِي الْحَج: يكره قَتله كَرَاهَة تَنْزِيه، وَهَذَا اخْتِلَاف شَدِيد، وعَلى كارهة قَتله اقْتصر الرَّافِعِيّ، وَتَبعهُ فِي (الرَّوْضَة) وَزَاد: إِنَّهَا كَرَاهَة تَنْزِيه، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى إِلْحَاق غير الْخمس بهَا فِي هَذَا الحكم إلاَّ أَنهم اخْتلفُوا فِي الْمَعْنى، فَقيل: لكَونهَا مؤذية فَيجوز قتل كل مؤذ، وَقيل: كَونهَا مِمَّا لَا يُؤْكَل، فعلى هَذَا كل مَا يجوز قَتله لَا فديَة على الْحرم فِي قَتله، وَهَذَا قَضِيَّة مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَقد قسم هُوَ وَأَصْحَابه الْحَيَوَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمحرم ثَلَاثَة أَقسَام: قسم يسْتَحبّ: كالخمس وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يُؤْذِي. وَقسم: يجوز: كَسَائِر مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه. وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يحصل مِنْهُ نفع وضر فَيُبَاح لما فِيهِ من مَنْفَعَة الِاصْطِيَاد، وَلَا يكره لما فِيهِ من الْعدوان. وَقسم لَيْسَ فِيهِ نفع وَلَا ضرّ، فَيكْرَه قَتله وَلَا يحرم. وَالْقسم الثَّالِث: مَا أُبِيح أكله أَو نهى عَن قَتله، فَلَا يجوز وَفِيه الْجَزَاء إِذا قَتله الْمحرم.
قلت: أَصْحَابنَا اقتصروا على الْخمس إلاَّ أَنهم ألْحقُوا بهَا: الْحَيَّة لثُبُوت الْخَبَر، وَالذِّئْب لمشاركته للكلب فِي الْكَلْبِيَّة، وألحقوا بذلك مَا ابْتَدَأَ بالعدوان والأذى من غَيرهَا، وَقَالَ بَعضهم، وَتعقب بِظُهُور الْمَعْنى فِي الْخمس وَهُوَ: الْأَذَى الطبيعي والعدوان الْمركب، وَالْمعْنَى إِذا ظهر فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ تعدى الحكم إِلَى كل مَا وجد فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى. انْتهى. قلت: نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قتل خمس من الدَّوَابّ فِي الْحرم وَالْإِحْرَام، وَبَين الْخمس مَا هن، فَدلَّ هَذَا أَن حكم غير هَذَا الْخمس غير حكم الْخمس، وَإِلَّا لم يكن للتنصيص على الْخمس فَائِدَة. وَقَالَ عِيَاض: ظَاهر قَول الْجُمْهُور أَن المُرَاد أَعْيَان مَا سمى فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ ظَاهر قَول مَالك وَأبي حنيفَة، وَلِهَذَا قَالَ مَالك: لَا يقتل الْمحرم الوزغ، وَإِن قَتله فدَاه، وَلَا يقتل خنزيرا وَلَا قردا مِمَّا لَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْكَلْب فِي اللُّغَة إِذْ فِيهِ جعل الْكَلْب صفة لَا إسما، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس) فَلَيْسَ لأحد أَن يجعلهن سِتا وَلَا سبعا، وَأما قتل الذِّئْب فَلَا يحْتَاج فِيهِ أَن نقُول: إِنَّه يقتل لمشاركته للكلب فِي الْكَلْبِيَّة، بل نقُول: يجوز قَتله بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن نَافِع، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الذِّئْب والفأرة. قَالَ يزِيد بن هَارُون، يَعْنِي: الْمحرم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا ذكر الذِّئْب من حَدِيث ابْن الْمسيب مُرْسلا جيدا، كَأَنَّهُ يُرِيد قَول ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن عمر عَن حَرْمَلَة عَن سعيد حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابْن حَرْمَلَة عَن سعيد بِهِ، قَالَ: وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن سَالم عَن سعيد عَن وبرة عَن ابْن عمر: يقتل الْمحرم الذِّئْب، وَعَن قبيصَة: يقتل الذِّئْب فِي الْحرم، وَقَالَ الْحسن وَعَطَاء: يقتل الْمحرم الذِّئْب والحية، وَأما إِذا عدا على الْمحرم حَيَوَان، أَي حَيَوَان كَانَ، وصال عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يقْتله، لِأَن حكمه حِينَئِذٍ يصير كَحكم الْكَلْب الْعَقُور.
9281 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني ابْن وهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فاسِقٌ يَقْتُلُهُنَّ فِي الحَرَمِ. الْغُرَابُ والحِدَأةُ والْعَقْرَبُ والْفَأرَةُ والْكَلْبُ الْعَقُورُ. [/ نه
(الحَدِيث 9281 طرفه فِي: 4133) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن بن يحيى بن سعيد الْجعْفِيّ الْمقري، قدم مصر وَحدث بهَا، وَتُوفِّي بهَا سنة ثَمَان أَو سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه كُوفِي وَأَن ابْن وهب مصري وَأَن يُونُس أيلي وَأَن ابْن شهَاب(10/182)
وَعُرْوَة مدنيان. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ يروي عَن يحيى بن سُلَيْمَان بقوله: حَدثنَا، ويروي، وحَدثني، يحيى، بالْعَطْف وَصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: يروي ابْن وهب عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: يروي ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن عبد الله ابْن عمر عَن حَفْصَة، فَظهر من ذَلِك أَن لِابْنِ وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ إسنادين: سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة، وَعُرْوَة عَن عَائِشَة. وَقد كَانَ ابْن عُيَيْنَة يُنكر طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. قَالَ الْحميدِي عَن سُفْيَان: حَدثنَا وَالله الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، فَقيل لَهُ: فَإِن معمرا يرويهِ: عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، فَقَالَ: حَدثنَا وَالله الزُّهْرِيّ، وَلم يذكر عُرْوَة. انْتهى. وَطَرِيق معمر الَّذِي ذكره رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَنهُ، وَرَوَاهُ أَيْضا سعيد بن أبي حَمْزَة عِنْد أَحْمد وَأَبَان بن صَالح عِنْد النَّسَائِيّ، وَمن حفظ حجَّة على من لم يحفظ، وَقد تَابع الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن هِشَام بن عُرْوَة. وَأخرجه مُسلم عَن الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خمس فواسق يقتلن فِي الْحرم: الْعَقْرَب والفأرة والحديا والغراب وَالْكَلب الْعَقُور.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، كلهم عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَالح عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (خمس كُلهنَّ فاسقة يقتلهن الْمحرم ويقتلن فِي الْحرم: الْحَيَّة والفأرة. .) الحَدِيث. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يقتل الْمحرم السَّبع العادي وَالْكَلب الْعَقُور والفأرة وَالْعَقْرَب والحدأة والغراب) . وروى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن الْأسود (عَن ابْن مَسْعُود: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر محرما بقتل حَيَّة بمنى) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَاسق) ، مَرْفُوع على أَنه خبر لمبتدأ، وَهُوَ قَوْله: (كُلهنَّ) ، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر لقَوْله: (خمس) ، وَهُوَ قد تخصص بِالصّفةِ. قَوْله: (يقتلن) ، الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (خمس) ، وَلَيْسَ يرجع إِلَى معنى: كل، كَمَا قَالَه بَعضهم. وَفِي رِوَايَة مُسلم من هَذَا الْوَجْه: (كلهَا فواسق) ، وَفِي رِوَايَته الَّتِي تَأتي فِي بَدْء الْخلق: (خمس فواسق) . قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بِإِضَافَة: خمس، لَا بتنوينه، وَجوز ابْن دَقِيق الْعِيد الْوَجْهَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيح الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: رِوَايَة الْإِضَافَة تشعر بالتخصيص فيخالفها غَيرهَا فِي الخكم من طَرِيق الْمَفْهُوم، وَرِوَايَة التَّنْوِين تَقْتَضِي وصف الْخمس بِالْفِسْقِ من جِهَة الْمَعْنى، فيشعر بِأَن الحكم الْمُرَتّب على ذَلِك وَهُوَ الْقَتْل مُعَلل بِمَا جعل وَصفا وَهُوَ الْفسق فَيدْخل فِيهِ كل فَاسق من الدَّوَابّ. قلت: هَذَا مَبْنِيّ على معرفَة معنى الْفسق، فَإِن كَانَ الْمَعْنى فِي وصف الدَّوَابّ الْمَذْكُورَة بِالْفِسْقِ خُرُوجهَا عَن حكم غَيرهَا من الْحَيَوَان فِي تَحْرِيم قَتله يكون معنى الْكَلْبِيَّة فِيهِ ظَاهرا. وَإِن كَانَ الْمَعْنى خُرُوجهَا عَن حكم غَيرهَا بالإيذاء والإفساد لَا يكون معنى الْكَلْبِيَّة فِيهِ ظَاهرا. فَافْهَم. وَالْفِسْق فِي أصل كَلَام الْعَرَب: الْخُرُوج، وَمِنْه فسقت الرّطبَة إِذا خرجت عَن قشرها، وَقَوله تَعَالَى: {ففسق عَن أَمر ربه} (الْكَهْف: 05) . أَي: خرج، وَسمي الرجل فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ عَن طَاعَة ربه، وَهُوَ خُرُوج مَخْصُوص، وَسميت هَذِه الْخمس فواسق لخروجها عَن الْحُرْمَة الَّتِي لغيرهن وَأَن قتلهن للْمحرمِ وَفِي الْحرم مُبَاح، فالغراب ينقر ظهر الْبَعِير وَينْزع عينه إِذا كَانَ مسيرًا، ويختلس أَطْعِمَة النَّاس، والحدأة كَذَلِك تختلس اللَّحْم والفراريج، وَالْعَقْرَب تلدغ وتؤلم، والفأرة تسرق الْأَطْعِمَة وتفسدها وتقرض الثِّيَاب وَتَأْخُذ الفتيلة من السراج وتضرم بهَا الْبَيْت، وَالْكَلب الْعَقُور يجرح النَّاس. قَوْله: (يقتلن فِي الْحرم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد تقدم فِي رِوَايَة نَافِع فِي أول الْبَاب: (لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح) ، وَفِي رِوَايَة زيد بن جُبَير: (يقتل الْمحرم) ، وَفِي رِوَايَة حَفْصَة: (لَا حرج على من قتلهن) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بِلَفْظ: (يقتلن فِي الْحل وَالْحرم) ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد أبي دَاوُد: (خمس قتلهن حَلَال) ، وَعند مُسلم فِي حَدِيث زيد بن جُبَير أَنه أَي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَمر أَو أَمر أَن تقتل الْفَأْرَة) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كَانَ يَأْمر بقتل الْكَلْب الْعَقُور) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (خمس من قتلهن وَهُوَ حرَام فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فِيهِنَّ: الْفَأْرَة) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ: (إِذن) ، وَحَاصِل الْكل يرجع إِلَى أَن قتل هَذِه الْخَمْسَة فَلَيْسَ فِيهِ إِثْم على الْمحرم وَفِي الْحرم، وعَلى الْحَلَال بِالطَّرِيقِ الأولى، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت عَن قريب.(10/183)
0381 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غَيَاثٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ بَيْنَما نَحْنُ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غارٍ بِمِنىً إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ {والمُرْسَلاَتِ} (المرسلات: 1) . وإنَّهُ لَيَتْلُوهَا وإنِّي لأتلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتُلُوها فابْتَدَرْنَاها فذَهَبَتْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اقتلوها) فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِيمَا يقتل الْمحرم وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه أَمر بقتل الْحَيَّة فِي حَالَة الْإِحْرَام؟ قلت: كَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة عَرَفَة، وَبِذَلِك صرح الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق ابْن نمير عَن حَفْص بن غياث. وَقَوله: (فِي غَار بمنى) ، يدل على أَنه كَانَ فِي الْحرم، وَعند ابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة أبي كريب (عَن حَفْص بن غياث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر محرما بقتل حَيَّة فِي الْحرم بمنى) .
وَرِجَال الحَدِيث قد مروا غير مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَالْأسود هُوَ ابْن يزِيد، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة عَن جرير وَعَن عمر بن حَفْص أَيْضا. وَقَالَ فِي التَّفْسِير وَغَيره، وَقَالَ حَفْص وَأَبُو مُعَاوِيَة وَسليمَان بن قرم أربعتهم عَن الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن عمر بن حَفْص بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَعُثْمَان بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَفِي الْحَج عَن أبي كريب عَن حَفْص بن غياث بِبَعْضِه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل حَيَّة بمنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج، وَفِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان الرهاوي عَن يحيى بن آدم عَن حَفْص بن غياث بِهِ.
قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن: بَيْنَمَا، وَبينا، ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَابه هُنَا هُوَ قَوْله: (إِذْ نزل عَلَيْهِ) ، والأفصح أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا، وَقد جَاءَ أَحدهمَا فِي الْجَواب كثيرا. قَوْله: (إِذْ نزل عَلَيْهِ) أَي: على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: {والمرسلات} (المرسلات: 1) . أَي سُورَة {والمرسلات} (المرسلات: 1) . وَهُوَ فَاعل لقَوْله: (نزل) ، وَالْفِعْل إِذا أسْند إِلَى مؤنث غير حَقِيقِيّ يجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث. قَوْله: (وَإِنِّي لأتلقاها) أَي: لأتلقنها. قَوْله: (من فِيهِ) أَي: من فَمه قَوْله: (وَإِن فَاه) أَي: وَإِن فَمه. قَوْله: (لرطب بهَا) أَي: لم يجِف رِيقه بهَا. وَقَالَ التَّيْمِيّ: الرطب عبارَة عَن الغض الطري، كَأَن مَعْنَاهَا: قبل أَن يجِف رِيقه بهَا. قَوْله: (إِذْ وَثَبت) كلمة إِذْ، للمفاجأة. قَوْله: (فابتدرناها) أَي: أَسْرَعنَا إِلَى أَخذهَا، وَهُوَ من بدرت إِلَى الشَّيْء أبدر بدورا: أسرعت، وَكَذَلِكَ: بادرت إِلَيْهِ، وَيُقَال: ابتدروا السِّلَاح، أَي: تسارعوا إِلَى أَخذه. قَوْله: (وقيت) ، أَي: حفظت ومنعت. قَوْله: (شركم) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان للْفِعْل الْمَجْهُول، أَي: إِن الله سلمهَا مِنْكُم كَمَا سلمكم مِنْهَا، وَلم يلْحقهَا ضرركم كَمَا لم يلحقكم ضررها. قَوْله: (كَمَا وقيتم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا، (وشرها) بِالنّصب مفعول ثَان لَهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْأَمر بقتل الْحَيَّة سَوَاء كَانَ محرما أَو حَلَالا أَو فِي الْحرم، وَالْأَمر مُقْتَضَاهُ الْوُجُوب. وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على جَوَاز قتل الْحَيَّة فِي الْحل وَالْحرم، قَالَ: وَأَجَازَ مَالك قتل الأفعى وَهِي دَاخِلَة عِنْده فِي معنى الْكَلْب الْعَقُور، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلمهُمْ اخْتلفُوا فِي جَوَاز قتل الْعَقْرَب، وَقَالَ نَافِع: لما قيل: فالحية لَا يخْتَلف فِيهَا، وَفِي رِوَايَة: وَمن يشك فِيهَا؟ ورد عَلَيْهِ ابْن عبد الْبر بِمَا أخرجه ابْن أبي شيبَة من طَرِيق شُعْبَة: أَنه سَأَلَ الحكم وحمادا فَقَالَا: لَا يقتل الْمحرم الْحَيَّة وَلَا الْعَقْرَب. قَالَ: وَمن حجتهما أَنَّهُمَا من هوَام الأَرْض، فَيلْزم من أَبَاحَ قَتلهمَا مثل ذَلِك فِي سَائِر الْهَوَام. قلت: نعم، يُبَاح قتل سَائِر الْهَوَام القتَّالة: كالرتيلاء وَأم الْأَرْبَعَة وَالْأَرْبَعِينَ، والسام الأبرص، والوزغة، والنمل المؤذية وَنَحْوهَا. وَأما نَهْيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن قتل حيات الْبيُوت فقد اخْتلف السّلف قبلنَا فِي ذَلِك، فَقَالَ بَعضهم: بِظَاهِر الْأَمر، يقتل الْحَيَّات كلهَا من غير اسْتثِْنَاء شَيْء مِنْهَا، كَمَا روى أَبُو إِسْحَاق عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اقْتُلُوا الْحَيَّات كُلهنَّ فَمن خَافَ ثأرهن فَلَيْسَ مني) ، وروى أَيْضا هَذَا عَن عَمْرو ابْن مَسْعُود، وَقَالَ أَبُو عمر: روى شُعْبَة عَن مُخَارق بن عبد الله عَن طَارق بن شهَاب، قَالَ: اعْتَمَرت فمررت بالرمال، فَرَأَيْت حيات فَجعلت أقتلهن، وَسَأَلت عمر فَقَالَ: هن عدونا فاقتلوهن) . قَالَ ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت الزُّهْرِيّ يحدث عَن سَالم عَن أَبِيه أَن عمر سُئِلَ عَن الْحَيَّة يَقْتُلهَا الْمحرم؟ فَقَالَ:(10/184)
هِيَ عَدو فاقتلوها حَيْثُ وجدتموها. وَقَالَ زيد بن أسلم: أَي كلب أعقر من الْحَيَّة؟ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَنْبَغِي أَن تقتل عوامر الْبيُوت وسكانها إلاَّ بعد مناشدة الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِنَّ، فَإِن ثَبت بعد إنشاده قتل، وَذَلِكَ حذار الْإِصَابَة فيلحقه مَا لحق الْفَتى المعرس بأَهْله، حَيْثُ وجد حَيَّة على فرَاشه فَقَتلهَا قبل مناشدته إِيَّاهَا، وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (أَن بِالْمَدِينَةِ جنا قد أَسْلمُوا، فَإِن رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فآذنوه ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن بدا لكم بعد ذَلِك فَاقْتُلُوهُ) . وَلَا تخَالف بَينهمَا، وَرُبمَا تمثل بعض الْجِنّ بِبَعْض صور الْحَيَّات فَيظْهر لأعين بني آدم، كَمَا روى ابْن أبي مليكَة (عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة أَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَأَتْ فِي مغتسلها حَيَّة فقتلتها، فَأتيت فِي منامها، فَقيل لَهَا: إِنَّك قتلت مُسلما، فَقَالَت: لَو كَانَ مُسلما مَا دخل على أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟ فَقيل: مَا دخل عَلَيْك إلاَّ وَعَلَيْك ثِيَابك، فَأَصْبَحت فزعة، ففرقت فِي الْمَسَاكِين إثني عشر ألفا) . قَالَ ابْن نَافِع: لَا تنذر عوامر الْبيُوت إلاَّ بِالْمَدِينَةِ خَاصَّة على ظَاهر الحَدِيث، وَقَالَ مَالك: تنذر بِالْمَدِينَةِ وَغَيرهَا، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أوجب، وَلَا تنذر فِي الصحارى، وَقَالَ غَيره: بِالسَّوِيَّةِ بَين الْمَدِينَة وَغَيرهَا، لِأَن الْعلَّة إِسْلَام الْجِنّ، وَلَا يحل قتل مُسلم جني وَلَا أنسي. وَمِمَّا يُؤَكد قتل الْحَيَّة مَا ذكره البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن مَسْعُود، وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ذَر (عَن عبد الله: من قتل حَيَّة أَو عقربا فقد قتل كَافِرًا) . وَقَالَ: الْمَوْقُوف أشبه بِالصَّوَابِ.
1381 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ ولَمْ أسْمَعْهُ أمَرَ بِقَتْلِهِ.
(الحَدِيث 1381 طرفه فِي: 6033) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فويسق) ، لِأَن تَسْمِيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه فويسقا يَقْتَضِي أَن يكون قَتله مُبَاحا. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس عبد الله أَبُو عَامر الْأَشْجَعِيّ الْمدنِي، ابْن أُخْت مَالك بن أنس.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن وهب بن بَيَان عَن ابْن وهب عَن مَالك بِهِ مُخْتَصرا: (الوزغ فويسق) .
قَوْله: (قَالَ للوزغ) اللَّام فِيهِ بِمَعْنى: (عَن، نَحْو: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} (مَرْيَم: 37، وَالْعَنْكَبُوت: 21، يس: 74، والأحقاف: 11) . أَي: عَن الَّذين آمنُوا، وَالْمعْنَى هُنَا، قَالَ عَن الوزغ: فويسق. قلت: وَيجوز أَن يكون للتَّعْلِيل، وَالْمعْنَى: قَالَ لأجل الوزغ: فويسق، والوزغ، بِفَتْح الْوَاو وَالزَّاي وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: جمع وزغة، وَيجمع أَيْضا على: وزغان وأزغان على الْبَدَل. وَقَالَ ابْن سَيّده: عِنْدِي أَن الوزغان إِنَّمَا هُوَ جمع وزغ الَّذِي هُوَ جمع وزغة، كورل وورلان. وَفِي (الصِّحَاح) : وَالْجمع أوزاغ وَفِي (المغيث) : وَالْجمع أوزاغ. قَوْله: (فويسق) ، تَصْغِير: فَاسق، تَصْغِير تحقير. وهوانٍ، وَمُقْتَضَاهُ الذَّم لَهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الوزغ دَابَّة لَهَا قَوَائِم تعدو فِي أصُول الْحَشِيش، قيل: إِنَّهَا تَأْخُذ ضرع النَّاقة وتشرب من لَبنهَا، وَقيل: كَانَت تنفخ فِي نَار إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لتلتهب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الوزغة دويبة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَهِي الَّتِي يُقَال: سَام أبرص. قلت: هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَهِي الَّتِي تكون فِي الجدران والسقوف وَلها صَوت تصيح بِهِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (لما أحرق بَيت الْمُقَدّس كَانَت الأوزاغ تنفخه) . قَوْله: (وَلم أسمعهُ أَمر بقتْله) ، هُوَ كَلَام عَائِشَة أَي: لم أسمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر بقتل الوزغ، وَإِنَّمَا ذكرت الضَّمِير فِي: بقتْله، نظرا إِلَى ظَاهر اللَّفْظ وَإِن كَانَ جمعا فِي الْمَعْنى، وَقَول عَائِشَة هَذَا لَا يدل على منع قَتله، لِأَنَّهُ قد سَمعه غَيرهَا. وَفِي مُسلم من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا (أَمر بقتل الأوزاغ) . وَفِي حَدِيث عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتْله) . وَقَالَ أَبُو الْحسن الباغندي فِي (علله) : أَنه وهم، وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، وروى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعد بن أبي وَقاص أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتْله، وَفِيه انْقِطَاع بَين الزُّهْرِيّ وَسعد، وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز عَن مَالك، قَالَ: سَمِعت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل الوزغ، وَعَن أم شريك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتلها، على مَا سَيَأْتِي، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (من قتل وزغا فَلهُ صَدَقَة) . وَقَالَ ابْن عمر: (اقْتُلُوا الوزغ فَإِنَّهُ شَيْطَان) ، وَعَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تقتل الوزغ فِي بَيت الله تَعَالَى، وَسَأَلَ إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَطاء عَن قَتله فِي الْحرم؟ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَنقل ابْن عبد الْبر الِاتِّفَاق على جَوَاز قَتله فِي الْحل وَالْحرم، لَكِن نقل ابْن عبد الحكم(10/185)
وَغَيره عَن مَالك: لَا يقتل الْمحرم الوزغ، زَاد ابْن الْقَاسِم: وَإِن قَتله يتَصَدَّق لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْخمس الْمَأْمُور بقتلها، وَذكر ابْن بزيزة فِي (أَحْكَامه) : قَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يقتل الْمحرم الْحَيَّة وَلَا الوزغ شَيْئا غير الحدأة والغراب وَالْكَلب الْعَقُور والفأرة وَالْعَقْرَب. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنه قَالَ: للْمحرمِ قتل الْحَيَّة، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من قتل وزغة فِي أول ضَرْبَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة، وَمن قَتلهَا فِي الثَّانِيَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة، دون الأولى، وَمن قَتلهَا فِي الضَّرْبَة الثَّالِثَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة دون الثَّانِيَة) . وَفِي لفظ: (من قتل وزغا فِي أول ضَرْبَة كتب لَهُ مائَة حَسَنَة، وَفِي الثَّانِيَة دون ذَلِك، وَفِي الثَّالِثَة دون ذَلِك) . وَفِي لفظ: (فِي أول ضَرْبَة سبعين حَسَنَة) ، وَقَالَ أَبُو عمر: الوزغ مجمع على تَحْرِيم أكله، وَقَالَ ابْن التِّين: أَبَاحَ مَالك قَتله فِي الْحرم، وَكره للْمحرمِ. وَقَالَ ابْن حزم، من طَرِيق سُوَيْد بن غَفلَة، قَالَ: أمرنَا عمر بن الْخطاب بقتل الزنبور وَنحن محرمون، وَعَن حبيب الْمعلم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: (لَيْسَ فِي الزنبور جَزَاء) .
وَقَالَ ابْن حزم: وَأما النَّمْل فَلَا يحل قَتله وَلَا قتل الهدهد وَلَا الصرد وَلَا النَّحْل وَلَا الضفدع لما روينَا من طَرِيق عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل أَربع من الدَّوَابّ: النملة والنحلة والهدهد والصرد) ، وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث سعيد بن خَالِد عَن سعيد بن الْمسيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان: (أَن طَبِيبا سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ضفدع يَجْعَلهَا فِي دَوَاء فَنَهَاهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، عَن قَتلهَا) . وَفِي (التَّوْضِيح) : اخْتلف المدنيون فِي الزنبور فشبهه بَعضهم بالحية وَالْعَقْرَب، فَإِن عرض لأنسان فَدفعهُ عَن نَفسه لم يكن فِيهِ شَيْء، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَأْمر بقتْله. وَقَالَ أَحْمد وَعَطَاء: لَا جَزَاء فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: يطعم شَيْئا، قَالَ إِسْمَاعِيل: وَإِنَّمَا لم يدْخل أَوْلَاد الْكَلْب الْعَقُور فِي حكمه لِأَنَّهُنَّ لَا يعقرن فِي صغرهن وَلَا فعل لَهُنَّ.
8 - (بابٌ لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يعضد شجر الْحرم، أَي: لَا يقطع، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من: عضدت الشّجر عضدا، من: بَاب ضرب يضْرب إِذا قطعته، والعضد، بِفتْحَتَيْنِ: مَا يكسر من الشّجر أَو يقطع. وَفِي (الْمُحكم) : وَالشَّجر معضود وعضيد واستعضده قطعه. وَفِي (المتهى) : أَي قطعه بالمعضد، يَعْنِي: بِالسَّيْفِ الممتهن فِي قطع الشّجر، وَالشَّجر معضود وعضد بِالتَّحْرِيكِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا عَن أبي شُرَيْح فِي هَذَا الْبَاب، وَذكره كَذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، وَسَنذكر مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
407 - (حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي أَنه قَالَ لعَمْرو بن سعيد وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير أحَدثك قولا قَامَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للغد من يَوْم الْفَتْح فَسَمعته أذناي ووعاه قلبِي وأبصرته عَيْنَايَ حِين تكلم بِهِ إِنَّه حمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِن مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس فَلَا يحل لامرىء يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقولُوا لَهُ إِن الله أذن لرَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَأْذَن لكم وَإِنَّمَا أذن لي سَاعَة من نَهَار وَقد عَادَتْ حرمتهَا الْيَوْم كحرمتها بالْأَمْس وليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فَقيل لأبي شُرَيْح مَا قَالَ لَك عَمْرو قَالَ أَنا أعلم بذلك مِنْك يَا أَبَا شُرَيْح إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا وَلَا فَارًّا بِدَم وَلَا فَارًّا بجزية: خربة بلية)(10/186)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة " وَهَذَا الحَدِيث قد مر بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْعلم فِي بَاب ليبلغ الْعلم الشَّاهِد الْغَائِب وَقد ذكر هُنَاكَ أَكثر مَا يتَعَلَّق بِهِ ونستوفي هَهُنَا جَمِيع مَعَانِيه وَإِن وَقع فِيهِ تكْرَار فَإِن التّكْرَار يُفِيد النَّاظر فِيهِ خُصُوصا إِذا لم يقدر على مَا ذكر هُنَاكَ إِمَّا لبعد الْمسَافَة أَو لوجه آخر وَهَذَا الحَدِيث قد أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد وَهنا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن سعيد قَوْله " عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي " زَاد هُنَا الْعَدوي قيل نظر فِيهِ لِأَنَّهُ خزاعي من بني كَعْب بن ربيعَة بن لحي بطن من خُزَاعَة وَلِهَذَا يُقَال لَهُ الكعبي أَيْضا لَا عدوي وَلَيْسَ هُوَ من بني عدي لَا عدي قُرَيْش وَلَا عدي مُضر (قلت) يحْتَمل أَنه كَانَ حليفا لبني عدي بن كَعْب من قُرَيْش قَوْله " عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي شُرَيْح " وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب " عَن سعيد سَمِعت أَبَا شُرَيْح " أخرجه أَحْمد وَاخْتلف فِي اسْمه فَالْمَشْهُور أَنه خويلد بن عَمْرو أسلم قبل الْفَتْح وَسكن الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وحديثين آخَرين قَوْله " لعَمْرو بن سعيد " هُوَ عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْمَعْرُوف بالأشدق لطيم الشَّيْطَان لَيست لَهُ صُحْبَة وَعرف بالأشدق لِأَنَّهُ صعد الْمِنْبَر فَبَالغ فِي شتم عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأَصَابَهُ لقُوَّة ولاه يزِيد بن مُعَاوِيَة الْمَدِينَة وَكَانَ أحب النَّاس إِلَى أهل الشَّام وَكَانُوا يسمعُونَ لَهُ ويطيعونه وَكتب إِلَيْهِ يزِيد أَن يُوَجه إِلَى عبد الله بن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جَيْشًا فوجهه وَاسْتعْمل عَلَيْهِم عَمْرو بن الزبير بن الْعَوام وَقَالَ الطَّبَرِيّ كَانَ قدوم عَمْرو بن سعيد واليا على الْمَدِينَة من قبل يزِيد بن مُعَاوِيَة فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتِّينَ وَقيل قدمهَا فِي رَمَضَان مِنْهَا وَهِي السّنة الَّتِي ولي فِيهَا يزِيد الْخلَافَة فَامْتنعَ ابْن الزبير من بيعَته وَأقَام بِمَكَّة فَجهز إِلَيْهِ عَمْرو بن سعيد جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِم عَمْرو بن الزبير وَكَانَ معاديا لِأَخِيهِ عبد الله وَكَانَ عَمْرو بن سعيد قد ولاه شرطة ثمَّ أرْسلهُ إِلَى قتال أَخِيه فجَاء مَرْوَان إِلَى عَمْرو بن سعيد فَنَهَاهُ فَامْتنعَ وجاءه أَبُو شُرَيْح فَذكر الْقِصَّة فَلَمَّا نزل الْجَيْش ذَا طوى خرج إِلَيْهِم جمَاعَة من أهل مَكَّة فهزموهم وَأسر عَمْرو بن الزبير فسجنه أَخُوهُ بسجن عَارِم وَكَانَ عَمْرو بن الزبير قد ضرب جمَاعَة من أهل الْمَدِينَة مِمَّن اتهمهم بالميل إِلَى أَخِيه فأقادهم عبد الله مِنْهُ حَتَّى مَاتَ عَمْرو من ذَلِك الضَّرْب قَوْله " وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث " جملَة حَالية والبعوث جمع الْبَعْث وَهُوَ الْجَيْش بِمَعْنى مَبْعُوث وَهُوَ من تَسْمِيَة الْمَفْعُول بِالْمَصْدَرِ وَالْمرَاد بِهِ الْجَيْش المجهز لِلْقِتَالِ قَوْله " إيذن " أَصله اأذن بهمزتين فقلبت الثَّانِيَة يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا قَوْله " أَيهَا الْأَمِير " أَصله يَا أَيهَا الْأَمِير فَحذف حرف النداء مِنْهُ قَوْله " قَامَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله " قولا " وانتصاب قولا على المفعولية قَوْله " الْغَد " بِالنّصب أَي الثَّانِي من يَوْم الْفَتْح قَوْله " سمعته أذناي " أَي حَملته عَنهُ بِغَيْر وَاسِطَة وَذكر الْأُذُنَيْنِ للتَّأْكِيد قَوْله " ووعاه قلبِي " أَي حفظه وَهُوَ تَحْقِيق لفهمه وتثبته قَوْله " وأبصرته عَيْنَايَ " زِيَادَة تَأْكِيد فِي تحقق ذَلِك قَوْله " حِين تكلم بِهِ " أَي بِذَاكَ القَوْل الْمَذْكُور وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سَمَاعه مِنْهُ لم يكن مُقْتَصرا على مُجَرّد الصَّوْت بل كَانَ مَعَ الْمُشَاهدَة والتحقق بِمَا قَالَه قَوْله " إِنَّه حمد الله " بَيَان لقَوْله " تكلم " قَوْله " حرمهَا الله " أَي حكم بتحريمها وقضاه بِهِ وَفِيه حجَّة لمن يرى الملتجىء إِلَى مَكَّة مِمَّن عَلَيْهِ دم لَا يقتل فِيهَا لِأَن معنى تَحْرِيم الله إِيَّاهَا أَن لَا يُقَاتل أَهلهَا ويؤمن من استجار بهَا وَلَا يتَعَرَّض لَهُ وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {وَمن دخله كَانَ آمنا} (فَإِن قلت) جَاءَ فِي حَدِيث أنس أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حرم مَكَّة وَسَيَجِيءُ فِي الْجِهَاد (قلت) قيل إِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حرم مَكَّة بِأَمْر الله تَعَالَى لَا بِاجْتِهَادِهِ وَقيل إِن الله تَعَالَى قضى يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سيحرم مَكَّة وَقيل أَن إِبْرَاهِيم أول من أظهر تَحْرِيمهَا بَين النَّاس وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ مَعْنَاهُ أَن الله حرم مَكَّة ابْتِدَاء من غير سَبَب ينْسب لأحد وَلَا لأحد فِيهِ مدْخل قَالَ وَلأَجل هَذَا أكد الْمَعْنى بقوله " وَلم يحرمها النَّاس " وَالْمرَاد بقوله " وَلم يحرمها النَّاس " أَن تَحْرِيمهَا ثَابت بِالشَّرْعِ لَا مدْخل لِلْعَقْلِ فِيهِ وَقيل المُرَاد أَنَّهَا من مُحرمَات الله فَيجب امْتِثَال ذَلِك وَلَيْسَ من مُحرمَات النَّاس يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّة كَمَا حرمُوا أَشْيَاء من عِنْد أنفسهم وَقيل مَعْنَاهُ أَن حرمتهَا مستمرة من أول الْخلق وَلَيْسَت مِمَّا اخْتصّت بِهِ شَرِيعَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَلَا يعضد " بِصِيغَة الْمَعْلُوم وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى امرىء أَي وَلَا يقطع قَوْله " بهَا " أَي بِمَكَّة وَوَقع فِي رِوَايَة معمر بن شبة بِلَفْظ " لَا يخضد " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة بدل الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ يرجع إِلَى معنى يعضد لِأَن أصل الخضد الْكسر وَيسْتَعْمل فِي الْقطع وَكلمَة لَا فِي " وَلَا يعضد " زَائِدَة لتأكيد النَّفْي قَوْله " فَإِن أحد(10/187)
ترخص " ارْتِفَاع أحد بِفعل مُضْمر يفسره مَا بعده وَتَقْدِيره فَإِن ترخص أحد وَقَوله " ترخص " على وزن تفعل من الرُّخْصَة وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عِنْد أَحْمد " فَإِن ترخص مترخص " وَهُوَ الْمُتَكَلف للرخصة قَوْله " لقِتَال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يتَعَلَّق بقوله " ترخص " أَي لأجل قتال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا يَعْنِي لَا يَقُول أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتل وَأَنا أَيْضا أقتل فَإِذا قَالَ كَذَلِك فَقولُوا لَهُ أَن الله أذن لرَسُوله وَلم يَأْذَن لَك قَوْله " وَإِنَّمَا أذن لي " بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الذَّال على بِنَاء الْفَاعِل وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الله ويروى بِضَم الْهمزَة على الْبناء للْمَجْهُول قَوْله " سَاعَة من نَهَار " قد مضى فِي كتاب الْعلم أَن مِقْدَار هَذِه السَّاعَة مَا بَين طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة الْعَصْر وَكَانَ قتل من قتل بِإِذن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَابْن خطل وَقع فِي هَذَا الْوَقْت الَّذِي أُبِيح فِيهِ الْقِتَال للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يحمل الحَدِيث على ظَاهره حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْجَواب عَن قصَّة ابْن خطل قَوْله " الْيَوْم " المُرَاد بِهِ الزَّمن الْحَاضِر يَعْنِي عَادَتْ حرمتهَا كَمَا كَانَت بالْأَمْس حَرَامًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلم يبين غَايَة الْحُرْمَة هُنَا وَبَينهَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي يَأْتِي بعد بَاب بقوله " فَهُوَ حرَام بِحرْمَة الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَوْله " فَقيل لأبي شُرَيْح " لم يدر هَذَا الْقَائِل لأبي شُرَيْح الْمَذْكُور من هُوَ وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَق أَنه بعض قومه من خُزَاعَة قَوْله " مَا قَالَ لَك عَمْرو " وَهُوَ عَمْرو بن سعيد الْمَذْكُور فِي السَّنَد قَوْله " قَالَ أَنا أعلم " أَي قَالَ عَمْرو بن سعيد أَنا أعلم بذلك أَي بالمذكور من قَول أبي شُرَيْح أَن مَكَّة حرمهَا الله تَعَالَى إِلَى قَوْله فَقيل لأبي شُرَيْح وَالْعجب من عَمْرو بن سعيد حَيْثُ سَاق الحكم مساق الدَّلِيل وخصص الْعُمُوم بِلَا دَلِيل قَوْله " لَا يعيذ " بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي لَا يجير عَاصِيا وَلَا يعصمه قَوْله " وَلَا فَارًّا " بِالْفَاءِ من الْفِرَار وَهُوَ الهروب وَالْمرَاد من وَجب عَلَيْهِ الْحَد لقَتله ثمَّ هرب إِلَى مَكَّة مستجيرا بِالْحرم قَوْله " بخربة " بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتحهَا وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي الْمُحكم الخربة يَعْنِي بِالْفَتْح والخربة يَعْنِي بِالضَّمِّ والخرب والخرب الْفساد فِي الدّين والخربة الذلة يُقَال مَا لفُلَان خربة قَالَ أَبُو الْمعَانِي الخارب اللص والخرابة اللصوصية وَقَالَ الْأَصْمَعِي الخارب سَارِق الْبَعِير خَاصَّة وَالْجمع خراب وَخرب فلَان بِإِبِل فلَان يخرب خرابة مثل كتب يكْتب كِتَابَة والخربة الفعلة مِنْهُ وَقَالَ اللحياني خرب فلَان بِإِبِل فلَان يخرب بهَا خربا وخروبا وخرابا وخرابا أَي سَرَقهَا كَذَا حَكَاهُ مُتَعَدِّيا بِالْبَاء وَقَالَ مرّة خرب فلَان أَي صَار لصا وَأَشَارَ ابْن الْعَرَبِيّ إِلَى ضَبطه بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الزَّاي بدل الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف بدل الْبَاء الْمُوَحدَة قيل الْمَعْنى صَحِيح وَلَكِن لَا تساعده على ذَلِك الرِّوَايَة (قلت) لم يظْهر لي صِحَة الْمَعْنى مَعَ عدم الرِّوَايَة وَحكى الْكرْمَانِي جِزْيَة بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الزَّاي وَهُوَ أَيْضا بعيد قَوْله " قَالَ أَبُو عبد الله " هُوَ البُخَارِيّ نَفسه فسر الخربة بقوله " بلية " قَالَ بَعضهم هُوَ تَفْسِير من الرَّاوِي ثمَّ قَالَ وَالظَّاهِر أَنه المُصَنّف " قلت " صرح بقوله " قَالَ أَبُو عبد الله " وَلم يبْق وَجه أَن يُقَال تَفْسِير من الرَّاوِي على الْإِبْهَام وَمن الْفَوَائِد هُنَا أَن تعلم أَن من عد كَلَام عَمْرو بن سعيد الْمَذْكُور حَدِيثا وَاحْتج بِمَا تضمنه كَلَامه فقد وهم وهما فَاحِشا وَعَن هَذَا قَالَ ابْن حزم لَا كَرَامَة للطيم الشَّيْطَان أَن يكون أعلم من صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) أَرَادَ من لطيم الشَّيْطَان هُوَ عَمْرو بن سعيد فَإِنَّهُ كَانَ يلقب بِهِ وَأَرَادَ بِصَاحِب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ أَبُو شُرَيْح الْعَدوي الْمَذْكُور فِيهِ (فَإِن قلت) قَالَ ابْن بطال سكُوت أبي شُرَيْح عَن جَوَاب عَمْرو بن سعيد يدل على أَنه رَجَعَ إِلَيْهِ فِي التَّفْصِيل الْمَذْكُور (قلت) يرد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده أَنه قَالَ فِي آخِره " قَالَ أَبُو شُرَيْح فَقلت لعَمْرو قد كنت شَاهدا وَكنت غَائِبا وَقد أمرنَا أَن يبلغ شاهدنا غائبنا وَقد بلغتك " فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَنه لم يُوَافقهُ وَإِنَّمَا ترك المشافهة مَعَه لعَجزه عَنهُ لأجل شوكته وَقَالَ ابْن بطال أَيْضا لَيْسَ قَول عَمْرو جَوَابا لأبي شُرَيْح لِأَنَّهُ لم يخْتَلف مَعَه أَن من أصَاب حدا فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ أَنه يجوز إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ فِي الْحرم فَإِن أَبَا شُرَيْح أنكر بعث عمر والجيش إِلَى مَكَّة وَنصب الْحَرْب عَلَيْهَا فَأحْسن فِي استدلاله بِالْحَدِيثِ وحاد عَمْرو عَن جَوَابه وأجابه عَن غير سُؤَاله وَاعْترض الطَّيِّبِيّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يحد فِي جَوَابه وَإِنَّمَا أجَاب بِمَا يَقْتَضِيهِ القَوْل بِالْمُوجبِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ صَحَّ سماعك وحفظك لَكِن الْمَعْنى المُرَاد بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكرته خلاف مَا فهمته مِنْهُ قَالَ فَإِن ذَلِك التَّرَخُّص كَانَ بِسَبَب الْفَتْح وَلَيْسَ بِسَبَب قتل من اسْتحق الْقَتْل خَارج الْحرم(10/188)
ثمَّ استجار بِالْحرم وَالَّذِي أَنا فِيهِ من الْقَبِيل الثَّانِي. وَمن فَوَائده أَن لَا يجوز قطع أَغْصَان شجر مَكَّة الَّتِي أَنْشَأَهَا الله فِيهَا مِمَّا لَا صنع فِيهِ لبني آدم وَإِذا لم يجز قطع أَغْصَانهَا فَقطع شَجَرهَا أولى بِالنَّهْي وَقَامَ الْإِجْمَاع كَمَا قَالَ ابْن الْمُنْذر على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم. وَاخْتلفُوا فِيمَا يجب على قاطعها فَقَالَ مَالك لَا شَيْء عَلَيْهِ غير الاسْتِغْفَار وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَذكر الطَّبَرِيّ عَن عمر مثل مَعْنَاهُ وَقَالَ الشَّافِعِي عَلَيْهِ الْجَزَاء فِي الْجَمِيع الْمحرم فِي ذَلِك والحلال سَوَاء فِي الشَّجَرَة الْكَبِيرَة بقرة وَفِي الصَّغِيرَة شَاة وَفِي الْخشب وَمَا أشبهه فِيهِ قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ خص الْفُقَهَاء الشّجر الْمنْهِي عَن قطعه بِمَا ينبته الله تَعَالَى من غير صنع آدَمِيّ فَأَما مَا ينْبت بمعالجة آدَمِيّ فَاخْتلف فِيهِ وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْجَمِيع الْجَزَاء وَرجحه ابْن قدامَة وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اتَّفقُوا على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم إِلَّا أَن الشَّافِعِي أجَاز قطع السِّوَاك من فروع الشَّجَرَة كَذَا نَقله أَبُو ثَوْر عَنهُ وَأَجَازَ أَيْضا أَخذ الْوَرق وَالثَّمَر إِذا كَانَ لَا يَضرهَا وَلَا يهلكها وَبِهَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وَغَيرهمَا وأجازوا قطع الشوك بِكَوْنِهِ يُؤْذِي بطبعه فَأشبه الفواسق وَمنعه الْجُمْهُور وَقَالَ ابْن قدامَة وَلَا بَأْس بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ من الأغصان وَانْقطع من الشّجر بِغَيْر صنع آدَمِيّ وَلَا بِمَا يسْقط من الْوَرق نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا انْتهى وَأجْمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة أَخذ كل مَا ينبته النَّاس فِي الْحرم من الْبُقُول والزروع والرياحين وَغَيرهَا وَفِي التَّلْوِيح وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم فروينا عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعمر بن عُمَيْر أَنهم رخصوا فِي ذَلِك. وَمن فَوَائده جَوَاز إِخْبَار الرجل عَن نَفسه بِمَا يَقْتَضِي بِهِ ثقته وَضَبطه لما سَمعه. وَمِنْهَا إِنْكَار الْعَالم على الْحَاكِم مَا يُغَيِّرهُ من أَمر الدّين وَالْمَوْعِظَة بلطف وتدريج. وَمِنْهَا الِاقْتِصَار فِي الْإِنْكَار على اللِّسَان إِذا لم يسْتَطع بِالْيَدِ. وَمِنْهَا وُقُوع التَّأْكِيد فِي الْكَلَام البليغ. وَمِنْهَا جَوَاز المجادلة فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة. وَمِنْهَا الْخُرُوج عَن عُهْدَة التَّبْلِيغ وَالصَّبْر على المكاره إِذا لم يسْتَطع بدا من ذَلِك. وَمِنْهَا جَوَاز قبُول خبر الْوَاحِد لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن كل من شهد الْخطْبَة قد لزمَه الإبلاغ وَأَنه لم يَأْمُرهُم بإبلاغ الْغَائِب عَنْهُم أَلا وَهُوَ لَازم لَهُ فرض الْعَمَل بِمَا أبلغه كَالَّذي لزم السَّامع سَوَاء وَإِلَّا لم يكن بِالْأَمر بالتبليغ فَائِدَة. وَمِنْهَا أَن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا. وَفِيه القَوْل للْعُلَمَاء وحجج قد ذَكرنَاهَا فِي كتاب الْعلم وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآل
9 - (بابٌ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُ الحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا ينفر صيد الْحرم، وينفر على صِيغَة الْمَجْهُول من التنفير، قيل: هُوَ كِنَايَة عَن الِاصْطِيَاد، وَقيل: على ظَاهره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحرم التنفير وَهُوَ الإزعاج عَن مَوْضِعه، فَإِن نفره عصي، سَوَاء تلف أَو لَا، فَإِن تلف فِي نفاره قبل سكونه ضمن، وإلاَّ فَلَا، وَيُسْتَفَاد من النَّهْي عَن التنفير تَحْرِيم الْإِتْلَاف بِالطَّرِيقِ الأولى.
3381 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الله حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لأِحَدٍ قَبْلِي ولاَ تَحِلُّ لأِحَدٍ بَعْدِي وَإنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلاَهَا ولاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا ولاَ يُنَفَّرْ صَيْدُهَا ولاَ تُلْتَقَطُ لُقَطتُهَا إلاَّ لِمُعَرِّفٍ وَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ الله إلاَّ الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وقُبُورِنا فَقَالَ إلاَّ الأذْخِرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا ينفر صيدها) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الْإِذْخر والحشيش فِي الْقَبْر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب عَن عبد الْوَهَّاب وَهُوَ الثَّقَفِيّ عَن خَالِد هُوَ الْحذاء، وَهَهُنَا أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ. قَوْله: (فَلم تحل لأحد بعدِي) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَلَا تحل) وَفِي الْبَاب الَّذِي بعده: (وَأَنه لم يحل الْقِتَال فِيهِ لأحد بعدِي) . وَعند البُخَارِيّ فِي أَوَائِل البيع من طَرِيق خَالِد الطَّحَّان عَن خَالِد الْحذاء بِلَفْظ: (فَلم تحل لأحد قبلي وَلَا تحل لأحد بعدِي) ، وَمثله عِنْد أَحْمد من طَرِيق وهب عَن خَالِد، وَقَالَ ابْن بطال:(10/189)
المُرَاد بقوله: (وَلَا تحل لأحد بعدِي) الْإِخْبَار عَن الحكم فِي ذَلِك لَا الْإِخْبَار بِمَا سيقع، لوُقُوع خلاف ذَلِك فِي الشَّاهِد كَمَا وَقع من الْحجَّاج وَغَيره. قَوْله: (لَا يختلي) أَي: لَا يجز وَلَا يُؤْخَذ. قَوْله: (خَلاهَا) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة مَقْصُور: الرطب من الْكلأ. قَوْله: (وَلَا تلْتَقط) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وضعن لَا تلْتَقط معنى: لَا يحل الِالْتِقَاط، وَيجوز أَن يكون: لَا تلْتَقط، على صِيغَة الْمَعْلُوم فَتكون اللَّام حِينَئِذٍ فِي الْمُعَرّف زَائِدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حكم جَمِيع الْبِلَاد هَذَا، وَهُوَ أَن لَا تلْتَقط إلاَّ للتعريف. قلت: هَذَا للتعريف الْمُجَرّد أَي: لَا يتملكها بعد التَّعْرِيف، بل يعرفهَا أبدا. قَوْله: (لصاغتنا) جمع صائغ. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) ، بِكَسْر الْهمزَة، نبت مَعْرُوف والمستثنى مِنْهُ هُوَ قَوْله: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) ، وَمثله يُسمى بِالِاسْتِثْنَاءِ التلقيني.
وعنْ خَالِدٍ عَنْ عكْرِمَةَ قَالَ هَلْ تَدْري مَا لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا هُوَ أنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنزِلُ مَكَانَهُ
وَعَن خَالِد، عطف على قَوْله: حَدثنَا خَالِد عَن عِكْرِمَة دَاخل فِي الْإِسْنَاد الْمَذْكُور. قَوْله: (قَالَ: هَل تَدْرِي) هَذَا خطاب من عِكْرِمَة لخَالِد، يُرِيد أَن يُنَبه عِكْرِمَة بذلك على الْمَنْع من الْإِتْلَاف وَسَائِر أَنْوَاع الْأَذَى، وَهَذَا تَنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقل لَهما أفٍ} (الْإِسْرَاء: 32) . فَإِذا كَانَ الشَّخْص مَمْنُوعًا عَن القَوْل بأفٍّ لوَالِديهِ فَمَنعه عَن سبهما بطرِيق الأولى. وَقد خَالف فِي ذَلِك عَطاء وَمُجاهد عِكْرِمَة فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا بَأْس بطرده مَا لم يفض إِلَى قَتله، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، وروى أَيْضا من طَرِيق الحكم عَن شيخ من أهل مَكَّة أَن حَماما كَانَ على الْبَيْت، فذرق على يَد عمر، فَأَشَارَ عمر بِيَدِهِ فطار فَوَقع على بعض بيُوت مَكَّة، فَجَاءَت حَيَّة فأكلته، فَحكم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على نَفسه بِشَاة. وروى من طَرِيق آخر عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. نَحوه. قَوْله: (مَا لَا ينفر؟) ، أَي: مَا الشَّيْء الَّذِي ينفر صيد مَكَّة، وَكلمَة: مَا، استفهامية فيستفهم بهَا عَن مَضْمُون الْجُمْلَة الَّتِي بعْدهَا أَي: مَا الْغَرَض من لفظ: مَا لَا ينفر صيدها؟ قَوْله: (هُوَ) أَي: التنفير، دلّ عَلَيْهِ قَوْله: (ينفر) من قبيل قَوْله تَعَالَى: {اعدلوا هُوَ} (الْمَائِدَة: 8) . أَي: الْعدْل {أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . قَوْله: (أَن ينحيه) من التنحية، وَهُوَ الإبعاد من نحى ينحي بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ على صِيغَة الْغَائِب وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى المنفر الَّذِي يدل عَلَيْهِ لفظ ينفر، ويروى: تنحية بِالْخِطَابِ. وَقَوله: (ينزل) بِالْوَجْهَيْنِ أَيْضا، وَمعنى: ينزل، مَكَانَهُ، أَي: مَكَان الصَّيْد، وَهَذِه جملَة وَقعت حَالا.
01 - (بابُ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا يحل الْقِتَال بِمَكَّة أَي فِي مَكَّة. قَوْله: (الْقِتَال) ، هَكَذَا وَقع فِي لفظ الحَدِيث، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة أُخْرَى بِلَفْظ: (الْقَتْل) ، وَالْفرق بَين الْقَتْل والقتال ظَاهر، أما الْقَتْل فَنقل بَعضهم الِاتِّفَاق على جَوَاز إِقَامَة حد الْقَتْل فِيهَا على من أوقعه فِيهَا، وَخص الْخلاف بِمن قتل فِي الْحل، ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم. وَمِمَّنْ نقل الْإِجْمَاع على ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ، وَأما الْقِتَال فَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص مَكَّة أَن لَا يحارب أَهلهَا، فَلَو بغوا على أهل الْعدْل فَإِن أمكن ردهم بِغَيْر قتال لم يجز، وَإِن لم يُمكن إلاَّ بِالْقِتَالِ. فَقَالَ الْجُمْهُور: يُقَاتلُون لِأَن قتال الْبُغَاة من حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا يجوز إضاعتها، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يجوز قِتَالهمْ بل يضيق عَلَيْهِم إِلَى أَن يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة.
وَقَالَ أبُو شُرَيْحٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُسْفَكُ بِهَا دَما
أَبُو شُرَيْح: هُوَ الصَّحَابِيّ الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق، وَقد مضى فِيهِ هَذَا التَّعْلِيق مَوْصُولا.
4381 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طَاوُوس عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ ولَكنْ جِهَادً ونِيَّةٌ وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفُرُوا فإنَّ هذَا بَلَدٌ حَرَّمَ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وهْوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وإنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأِحَدٍ قَبْلِي ولَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمةِ الله إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ولاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ(10/190)
إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ولاَ يُخْتَلَى خَلاهَا. قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رسولَ الله إلاَّ الإذْخِرُ فإنَّهُ لِقَيُنِهِم ولِبُيُوتِهِمْ قَالَ إلاَّ الإذْخِرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَهُوَ حرَام بِحرْمَة الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) وَعُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ عُثْمَان بن مُحَمَّد ابْن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان أَبُو الْحسن الْعَبْسِي الْكُوفِي وَهُوَ أَخُو أبي بكر عبد الله بن أبي شيبَة، مَاتَ فِي الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أكبر من أبي بكر بِثَلَاث سِنِين، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر يروي عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، كَذَا يرويهِ مَوْصُولا، وَخَالفهُ الْأَعْمَش فَرَوَاهُ عَن مُجَاهِد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن أبي معمر عَنهُ، وَمَنْصُور ثِقَة حَافظ فَالْحكم لوصله. .
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَفِي الْجِزْيَة: عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْجِهَاد: عَن آدم عَن شَيبَان وَعَن عَليّ بن عبد الله وَعَمْرو بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج وَالْجهَاد عَن عُثْمَان بِهِ مُنْقَطِعًا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (يَوْم افْتتح مَكَّة) مَنْصُوب لِأَنَّهُ ظرف: لقَالَ. قَوْله: (لَا هِجْرَة) ، أَي: بعد الْفَتْح، وَكَذَا جَاءَ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ فِي رِوَايَته عَن جرير فِي كتاب الْجِهَاد وَالْهجْرَة من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام: بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَلم تبقَ هِجْرَة من مَكَّة بعد أَن صَارَت دَار الْإِسْلَام، وَهَذَا يتَضَمَّن معْجزَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَنَّهَا تبقى دَار الْإِسْلَام لَا يتَصَوَّر مِنْهَا الْهِجْرَة. قَوْله: (وَلَكِن جِهَاد) ، أَي: لَكِن لكم طَرِيق إِلَى تحصل الْفَضَائِل الَّتِي فِي معنى الْهِجْرَة، وَذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَنِيَّة الْخَيْر فِي كل شَيْء من لِقَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَحْوه. وارتفاع: جِهَاد، على الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف مقدما، تَقْدِيره: لكم جِهَاد. قَوْله: (وَإِذا استنفرتم) أَي: إِذا دعَاكُمْ الإِمَام إِلَى الْخُرُوج إِلَى الْغَزْو فاخرجوا إِلَيْهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (وَلَكِن جِهَاد) ، عطف على مَحل مَدْخُول: (وَلَا هِجْرَة) أَي: الْهِجْرَة من الأوطان إِمَّا هِجْرَة الْفِرَار من الْكفَّار، وَإِمَّا إِلَى الْجِهَاد، وَإِمَّا إِلَى غير ذَلِك كَطَلَب الْعلم، وانقطعت الأولى وَبقيت الأخريان فاغتنموهما وَلَا تقاعدوا عَنْهُمَا، وَإِذا استنفرتم فانفروا. قَوْله: (فَإِن هَذَا بلد) الْفَاء فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا علمْتُم ذَلِك فاعلموا أَن هَذَا بلد حرَام. قَوْله: (حرم الله) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حرمه الله) بِالْهَاءِ، قَوْله: (بِحرْمَة الله) ، أَي: بِتَحْرِيمِهِ، وَهَذَا تَأْكِيد للتَّحْرِيم. قَوْله: (وَإنَّهُ) أَي: إِن الشَّأْن (لم يحل الْقِتَال فِيهِ) هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بِلَفْظ: (لم يحل) ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (لَا يحل) ، بِلَفْظ: لَا، وَالْأول أشبه. لقَوْله: (قبلي) . قَوْله: (وَلَا يلتقط) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم وفاعله هُوَ قَوْله: (من عرفهَا) . قَوْله: (خَلاهَا) بِالْقصرِ كَمَا ذكرنَا، وَذكر ابْن التِّين أَنه وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْمدِّ، وَهُوَ: الرطب من النَّبَات، واختلاؤه وقطعه واحتشاشه، وَتَخْصِيص التَّحْرِيم بالرطب إِشَارَة إِلَى جَوَاز رعي الْيَابِس واختلائه، وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة، لِأَن النبت الْيَابِس كالصيد الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن قدامَة: لَكِن فِي اسْتثِْنَاء الْإِذْخر إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم الْيَابِس من الْحَشِيش، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (وَلَا يحتش حشيشها) . قَوْله: (قَالَ الْعَبَّاس) ، هُوَ ابْن عبد الْمطلب، كَمَا وَقع كَذَلِك فِي المغاوي من وَجه آخر. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) ، قد ذكرنَا أَنه اسْتثِْنَاء تلقيني وَالِاسْتِثْنَاء التلقيني هُوَ أَن الْعَبَّاس لم يرد بِهِ أَن يَسْتَثْنِي هُوَ بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَن يلقن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز الْفَصْل بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ، وَمذهب الْجُمْهُور اشْتِرَاط الِاتِّصَال إِمَّا لفظا وَإِمَّا حكما كجواز الْفَصْل بالتنفس مثلا، وَقد اشْتهر عَن ابْن عَبَّاس الْجَوَاز مُطلقًا، وَاحْتج لَهُ بِظَاهِر هَذِه القة. وَأجَاب الْجُمْهُور عَنهُ بِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء فِي حكم الْمُتَّصِل لاحْتِمَال أَن يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادَ أَن يَقُول: إلاَّ الْإِذْخر، فَشَغلهُ الْعَبَّاس بِكَلَامِهِ، فوصل كَلَامه بِكَلَام نَفسه، فَقَالَ: إلاَّ الْإِذْخر، وَقد قَالَ مَالك: يجوز الْفَصْل مَعَ إِضْمَار الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ. فَإِن قلت: هَل كَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إلاَّ الْإِذْخر؟) بِاجْتِهَاد أَو وَحي؟ قلت: اخْتلفُوا فِيهِ(10/191)
فَقيل: أوحى الله قبل ذَلِك أَنه إِن طلب أحد اسْتثِْنَاء شَيْء من ذَلِك فأجب سُؤَاله، وَقيل: كَانَ الله تَعَالَى فوض لَهُ الحكم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُطلقًا. وَحكى ابْن بطال عَن الْمُهلب: أَن الِاسْتِثْنَاء هُنَا للضَّرُورَة كتحليل أكل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة، وَقد بَين الْعَبَّاس ذَلِك بِأَن الْإِذْخر لَا غنى لأهل مَكَّة عَنهُ، ورد عَلَيْهِ بِأَن الَّذِي يُبَاح للضَّرُورَة يشْتَرط حُصُولهَا فِيهِ، فَلَو كَانَ الْإِذْخر مثل الْميتَة لامتنع اسْتِعْمَاله إلاَّ فِيمَن تحققت ضَرُورَته فِيهِ، وَالْإِجْمَاع على أَنه مُبَاح مُطلقًا بِغَيْر قيد الضَّرُورَة، وَقيل: الْحق أَن سُؤال الْعَبَّاس كَانَ على معنى الضراعة وترخيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تبليغا عَن الله تَعَالَى، إِمَّا بطرِيق الإلهام أَو بطرِيق الْوَحْي، وَمن ادّعى أَن نزُول الْوَحْي يحْتَاج إِلَى أمد متسع فقد وهم، وَيجوز فِي الْإِذْخر الرّفْع على أَنه بدل مِمَّا قبله، وَيجوز النصب لكَونه اسْتثِْنَاء وَقع بعد النَّهْي، وَقَالَ ابْن مَالك: وَالْمُخْتَار النصب لكَون الِاسْتِثْنَاء وَقع متراخيا عَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فبعدت المشاكلة بالبدلية، لكَون الِاسْتِثْنَاء أَيْضا عرض فِي آخر الْكَلَام، وَلم يكن مَقْصُودا. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الْإِذْخر. قَوْله: (لِقَيْنِهِم) ، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء فِي آخر الْحُرُوف بعْدهَا نون، وَهُوَ الْحداد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْقَيْن عِنْد الْعَرَب كل ذِي صناعَة يعالجها بِنَفسِهِ. قَوْله: (ولبيوتهم) يَعْنِي: لسقوف بُيُوتهم حَيْثُ يجعلونه فَوق الْخشب، وَقَالَ التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ يوقدونه فِي بُيُوتهم، وَفِي رِوَايَة الْمَغَازِي: (فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ للقين والبيوت) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة: (فَإِنَّهُ لصاغتنا وَقُبُورنَا) . وَوَقع فِي مُرْسل مُجَاهِد عِنْد عمر بن شبة الْجمع بَين الثَّلَاثَة، وَوَقع عِنْده أَيْضا، (فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله! إِن أهل مَكَّة لَا صَبر لَهُم عَن الْإِذْخر لِقَيْنِهِم وَبُيُوتهمْ) .
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز مُرَاجعَة الْعَالم فِي الْمصَالح الشَّرْعِيَّة والمبادرة إِلَى ذَلِك فِي المجامع والمشاهد. وَمِنْهَا: عظم منزلَة الْعَبَّاس عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا عنايته بِأَمْر مَكَّة لكَونه كَانَ مِنْهَا أَصله ومنشؤه. وَمِنْهَا: رفع وجوب الْهِجْرَة عَن مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وإبقاء حكمهَا من بِلَاد الْكفْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَمِنْهَا: أَنه يشْتَرط الْإِخْلَاص للْجِهَاد وَلكُل نِيَّة فِيهَا خير، وَالله أعلم.
11 - (بابُ الحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحجامَة للْمحرمِ، هَل يمْنَع مِنْهَا أَو يُبَاح لَهُ مُطلقًا أَو للضَّرُورَة؟ وَالْمرَاد فِي ذَلِك كُله المحجوم لَا الحاجم.
وكَوَى ابنُ عُمَرَ ابْنَهُ وهْوَ مُحْرُمٌ
يسْتَأْنس مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن كلاًّ من الْحجامَة والكي يسْتَعْمل للتداوي عِنْد الضَّرُورَة، وَابْن عمر هُوَ عبد الله، وَاسم ابْنه وَاقد بِالْقَافِ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق مُجَاهِد، قَالَ: أصَاب وَاقد بن عبد الله بن عمر برسام فِي الطَّرِيق وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى مَكَّة، فكواه ابْن عمر.
ويَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ
أَي: ويتداوى الْمحرم بدواء مَا لم يكن فِيهِ طيب، وَفِي بعض النّسخ: بِمَا لم يكن فِيهِ طيب، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا من تَتِمَّة التَّرْجَمَة وَلَيْسَ فِي أثر ابْن عمر كَمَا ترى، وَأما قَول الْكرْمَانِي: يتداوى، فَاعله إِمَّا الْمحرم وَإِمَّا ابْن عمر، فَكَلَام من لم يقف على أثر ابْن عمر. انْتهى. قلت: أما قَول هَذَا الْقَائِل: هَذَا من تَتِمَّة التَّرْجَمَة، فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن أثر ابْن عمر فَأصل يمْنَع أَن يكون هَذَا من التَّرْجَمَة، وَأما قَول الْكرْمَانِي: وَأما ابْن عمر فَكَذَلِك، لَيْسَ بِشَيْء لوُقُوع هَذَا أَيْضا بعد أثر ابْن عمر فِي غير مَحَله، وَمَعَ هَذَا أَشَارَ بِهِ إِلَى جَوَاز التَّدَاوِي للْمحرمِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ طيب، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي أَوَائِل الْحَج فِي: بَاب الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يشم الْمحرم الريحان، وَينظر فِي الْمرْآة ويتداوى وَيَأْكُل الزَّيْت وَالسمن، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْحسن، قَالَ: إِن أصَاب الْمحرم شجة فَلَا بَأْس بِأَن يَأْخُذ مَا حولهَا من الشّعْر ثمَّ يداويها بِمَا لَيْسَ فِيهِ طيب.
5381 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌ وأولُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ احْتَجَمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ حدَّثني طاوُوسٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.(10/192)
الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: طَاوُوس الْيَمَانِيّ. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن مُسَدّد، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور وَفِي الْبَاب عَن أنس وَعبد الله بن بُحَيْنَة وَجَابِر وَابْن عمر. أما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة معمر (عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم على ظهر الْقدَم من وجع كَانَ بِهِ) رَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن حميد (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ محرم من وجع كَانَ فِي رَأسه) . وَأما حَدِيث عبد الله بن بُحَيْنَة فمتفق عَلَيْهِ على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة ابي الزبير (عَن جَابر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ محرم من وثي كَانَ بِهِ) . وَقَالَ ابْن مَاجَه من رهصة أَخَذته. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة مُسلم بن سَالم الْبَلْخِي عَن عبيد الله الْعمريّ (عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم صَائِم وَأعْطى الْحجام أجره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عَمْرو) أَي: عَمْرو بن دِينَار. قَوْله: (أول شَيْء) أَي: أول مرّة بِقَرِينَة، ثمَّ سمعته يَقُول: أَي روى عَطاء أَولا عَن ابْن عَبَّاس بِدُونِ الْوَاسِطَة وَثَانِيا بِوَاسِطَة طَاوُوس، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي ورد عَلَيْهِ بَعضهم، فَقَالَ: هَذَا كَلَام من لم يقف على طرق الحَدِيث، وَلَا يعلم مَعَ ذَلِك لعطاء عَن طَاوُوس رِوَايَة أصلا. قلت: الردّ لَهُ وَجه، لِأَن إِثْبَات الْوَاسِطَة ونفيها فِي رِوَايَة عَطاء لَا دخل لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَن عَمْرو بن دِينَار تَارَة يَقُول: سَمِعت عَطاء يَقُول: سَمِعت ابْن عَبَّاس، وَتارَة يَقُول: سَمِعت طاووسا عَن ابْن عَبَّاس، فَهَذَا يدل على أَن عمرا سمع من عَطاء وطاووس، وَهُوَ كَذَلِك على مَا نذكرهُ عَن مُسلم وَغَيره. قَوْله: (وَهُوَ محرم) ، جملَة حَالية. قَوْله: (ثمَّ سمعته يَقُول) ، مقول سُفْيَان وَالضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى عَمْرو، وَكَذَا قَوْله: (فَقلت لَعَلَّه سَمعه) ، أَي: لَعَلَّ عمرا سمع الحَدِيث مِنْهُمَا، أَي: من عَطاء وطاووس، وَقد بَين ذَلِك الْحميدِي عَن سُفْيَان فَقَالَ: حَدثنَا بِهَذَا الحَدِيث عَمْرو مرَّتَيْنِ فَذكره، لَكِن قَالَ: فَلَا أَدْرِي أسمعهُ مِنْهُمَا أَو كَانَت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وهما؟ وَزَاد أَبُو عوَانَة: قَالَ سُفْيَان: ذكر لي أَنه سَمعه مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن طَاوُوس وَعَطَاء عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن سُفْيَان يَعْنِي ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: قَالَ لنا عَمْرو، يَعْنِي: ابْن دِينَار: سَمِعت عَطاء قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَقُول: (احْتجم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ محرم) . ثمَّ قَالَ بعد: أَخْبرنِي طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: (احْتجم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ محرم) وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة نَحْو رِوَايَة عَليّ بن عبد الله، وَقَالَ فِي آخِره، فَظَنَنْت أَنه رَوَاهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: دلّ الحَدِيث على جَوَاز الْحجامَة للْمحرمِ مُطلقًا، وَبِه قَالَ عَطاء ومسروق وَإِبْرَاهِيم وطاووس وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَأخذُوا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: مَا لم يقطع الشّعْر. وَقَالَ قوم: لَا يحتجم الْمحرم إلاَّ من ضَرُورَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر، وَبِه قَالَ مَالك، وَحجَّة هَذَا القَوْل أَن بعض الروَاة يَقُول: (إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم لضَرَر كَانَ بِهِ) . رَوَاهُ هِشَام بن حسان عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا احْتجم وَهُوَ محرم فِي رَأسه لأَذى كَانَ بِهِ) . وَرَوَاهُ حميد الطَّوِيل (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وجع كَانَ بِهِ) . وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنه لَا يجوز لَهُ حلق شَيْء من شعر رَأسه حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر إلاَّ من ضَرُورَة، وَأَنه إِن حلقه من ضَرُورَة فَعَلَيهِ الْفِدْيَة الَّتِي قضى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كَعْب بن عجْرَة، فَإِن لم يحلق المحتجم شعرًا فَهُوَ كالعرق يقطعهُ، أَو الدمل يبطه، أَو القرحة ينكؤها، وَلَا يضرّهُ ذَلِك وَلَا شَيْء عَلَيْهِ عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء. وَعند الْحسن الْبَصْرِيّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ ابْن التِّين: الْحجامَة ضَرْبَان: مَوضِع يحْتَاج إِلَى(10/193)
حلق الشّعْر فيفتدى من فعله، وَالْأَصْل جَوَازه لهَذَا الْخَبَر، وَفِي الْفِدْيَة قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} (الْبَقَرَة: 481 و 691) . الْآيَة، وَمَوْضِع يحْتَاج إِلَى حلق فِي غير الرَّأْس فيفتدى، قَالَ عبد الْملك فِي (الْمَبْسُوط) : شعر الرَّأْس والجسد سَوَاء، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أهل الظَّاهِر: لَا فديَة عَلَيْهِ إلاَّ أَن يحلق رَأسه، وَإِن كَانَت الْحجامَة فِي مَوضِع لَا يحْتَاج إِلَى حلق فَإِن كَانَت لضَرُورَة جَازَت وَلَا فديَة، وَإِن كَانَت لغير ضَرُورَة فَمَنعه مَالك وَأَجَازَهُ سَحْنُون، وَرُوِيَ نَحوه عَن عَطاء.
6381 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ عنْ علْقَمَةَ بنِ أبِي عَلقَمَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ الأعْرَجِ عنِ ابنِ بُحَيْنَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ احْتَجَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وسطِ رأسِهِ.
(الحَدِيث 6381 طرفه فِي: 8965) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: البَجلِيّ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو محكد الْقرشِي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة واسْمه بِلَال مولى عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، مَاتَ فِي أول خلَافَة أبي جَعْفَر. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج. الْخَامِس: عبد الله بن بُحَيْنَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: وَهُوَ عبد الله بن مَالك بن القشب، وبحينة أمه وَهِي بنت الْأَرَت.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي والبقية مدنيون. وَفِيه: أَن عَلْقَمَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، لِأَن عَلْقَمَة تَابِعِيّ صَغِير سمع أنسا. وَفِيه: سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عَلْقَمَة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد ابْن خَالِد عَن سُلَيْمَان أَخْبرنِي عَلْقَمَة. وَفِيه: عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَن ابْن بُحَيْنَة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الطِّبّ: عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن أبي أويس عَن سُلَيْمَان عَن عَلْقَمَة أَنه سمع عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج أَنه سمع عبد الله بن بُحَيْنَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن أسماعيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هِلَال بن بشر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ محرم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (بِلحي جمل) ، بِفَتْح اللامويروى بِكَسْرِهَا وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف، وَفتح الْجِيم بعْدهَا مِيم وَلَام، وَهُوَ اسْم مَوضِع بَين الْمَدِينَة وَمَكَّة، وَهُوَ إِلَى الْمَدِينَة أقرب، وَقد وَقع مُبينًا فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل (بِلحي جمل من طَرِيق مَكَّة) . وَذكر الْبكْرِيّ فِي (مُعْجَمه) فِي رسم العقيق قَالَ: هِيَ بِئْر جمل الَّتِي ورد ذكرهَا فِي حَدِيث أبي جهم، وَهُوَ الَّذِي مضى فِي التَّيَمُّم، وَقَالَ غَيره: هِيَ عقبَة الْجحْفَة على سَبْعَة أَمْيَال من السقيا، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: (بلحيي جمل) ، بِصِيغَة التَّثْنِيَة، وَوَقع لغيره بِالْإِفْرَادِ، وَمن زعم أَنه فكَّا الْجمل الْحَيَوَان الْمَعْرُوف، وَأَنه كَانَ آلَة الحجم فقد أَخطَأ، وَجزم الْحَازِمِي وَغَيره بِأَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (فِي وسط رَأسه) ، بِفَتْح السِّين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَشْهُور أَن الْوسط بِفَتْح السِّين هُوَ كمركز الدائرة، وبسكونها أَعم من ذَلِك، وَالْأول اسْم وَالثَّانِي ظرف. وَفِي حَدِيث (الْمُوَطَّأ) : (احْتجم فَوق رَأسه بِلحي جمل) ، وَرُوِيَ أَنه قَالَ: إِنَّهَا شِفَاء من النعاس والصداع والأضراس، وَقَالَ اللَّيْث: لَيست فِي وسط الرَّأْس إِنَّمَا هِيَ فِي فأس الرَّأْس، وَأما الَّتِي فِي وسط الرَّأْس فَرُبمَا أعمت، وَفِي (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد: حجمه أَبُو ظَبْيَة ليماني عشرَة من شهر رَمَضَان نَهَارا من حَدِيث جَابر، وَمن حَدِيث ابْن عَبَّاس: احْتجم بالقاحة وَهُوَ صَائِم محرم، وَفِي لفظ: (محرم من أَكلَة أكلهَا من شَاة سمتها امْرَأَة من أهل خَيْبَر) ، وَفِي حَدِيث بكير بن الْأَشَج: احْتجم فِي القمحدودة، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يسميها منقدا، وَفِي حَدِيث أنس: المغيثة، وَفِي (الْمُسْتَدْرك) على شَرطهمَا: (عَن أنس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ محرم على ظهر الْقدَم من وجع كَانَ بِهِ) . وَقد مر عَن قريب، وَفِي تَعْلِيق البُخَارِيّ: (من شَقِيقَة كَانَت بِهِ) .
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على جَوَاز الفصد وبط الْجرْح والدمل وَقطع الْعرق وَقلع الضرس وَغير ذَلِك من وُجُوه التَّدَاوِي إِذا لم يكن فِي ذَلِك ارْتِكَاب مَا نهى الْمحرم عَنهُ من تنَاول الطّيب وَقطع الشّعْر، وَلَا فديَة عَلَيْهِ فِي شَيْء من ذَلِك.(10/194)
21 - (بابُ تَزْوِيجِ المحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَزْوِيج الْمحرم، وَلم يبين هَل هُوَ جَائِز أَو غير جَائِز اكْتِفَاء بِمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب فَإِنَّهُ يدل على أَنه يجوز، وَإِشَارَة إِلَى أَنه لم يثبت عِنْده النَّهْي عَن ذَلِك، وَلَا ثَبت أَنه من الخصائص.
7381 - حدَّثنا أبُو المُغِيرَةِ عَبْدُ القُدُّوسِ بنُ الحَجَّاجِ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني عطَاءُ بنُ أبِي رَباحٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وهْوَ مُحْرِمٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ تَزْوِيج الْمحرم، وَفِيه بَيَان أَيْضا لما أبهمه فِي التَّرْجَمَة، وَهُوَ أَنه جَائِز.
وَأَبُو الْمُغيرَة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا: عبد القدوس بن الْحجَّاج الْحِمصِي، مَاتَ سنة ثِنْتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ. وَالْأَوْزَاعِيّ: عبد الرَّحْمَن بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن صَفْوَان بن عَمْرو الْحِمصِي، وَفِيه وَفِي الصَّوْم عَن شُعَيْب بن شُعَيْب وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن أَيُّوب مُرْسلا، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث هِشَام بن حسان عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: سَمِعت أَبَا الشعْثَاء يحدث (عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأَبُو الشعْثَاء اسْمه جَابر بن زيد، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه كلهم من رِوَايَة سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار نَحوه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قلت: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج وَهُوَ محرم) ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَلَفظه: (تزوج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعض نِسَائِهِ وَهُوَ محرم) ، وَأَبُو عوَانَة الوضاح، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة كَامِل أبي الْعَلَاء عَن أبي صَالح (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: تزوج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) . وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحكم بن عتيبة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعِكْرِمَة ومسروق وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، قَالُوا: لَا بَأْس للْمحرمِ أَن ينْكح، وَلكنه لَا يدْخل بهَا حَتَّى يحل، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَسَالم وَالقَاسِم وَسليمَان بن يسَار وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: لَا يجوز للْمحرمِ أَن يَنكَحَ وَلَا يُنكِحَ غَيره، فَإِن فعل ذَلِك فَالنِّكَاح بَاطِل، وَهُوَ قَول عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن نَافِع عَن نبيه بن وهب: أَن عمر بن عبد الله أَرَادَ أَن يُزَوّج طَلْحَة بن عمر بنت شيبَة بن جُبَير، فَأرْسل إِلَى أبان بن عُثْمَان يحضر ذَلِك وَهُوَ أَمِير الْحَاج، فَقَالَ أبان: سَمِعت عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا ينْكح الْمحرم وَلَا ينْكح وَلَا يخْطب) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَلَا ينْكح) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْكَاف من الْإِنْكَاح، وَمَعْنَاهُ: لَا ينْكح غَيره، أَي: لَا يعْقد على غَيره، وَوَجهه أَنه لما كَانَ مَمْنُوعًا من نِكَاح نَفسه مُدَّة الْإِحْرَام، كَانَ معزولاً تِلْكَ الْمدَّة أَن يعْقد لغيره، وشابه الْمَرْأَة الَّتِي لَا تعقد على نَفسهَا وعَلى غَيرهَا. قَوْله: (وَلَا يخْطب) ، لما فِي الْخطْبَة من التَّعَرُّض إِلَى النِّكَاح، ثمَّ قَالُوا لأهل الْمقَالة الأولى: من يتابعكم أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، وَهَذَا أَبُو رَافع ومَيْمُونَة يذكران أَن ذَلِك كَانَ مِنْهُ وَهُوَ حَلَال؟ فَذكرُوا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن مطر الْوراق عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سُلَيْمَان بن يسَار (عَن أبي رَافع، قَالَ: (تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال، وَكنت أَنا الرَّسُول فِيمَا بَينهمَا) .
وَحَدِيث مَيْمُونَة رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن آدم، قَالَ: حَدثنَا جرير بن حَازِم، قَالَ: حَدثنَا أَبُو فَزَارَة (عَن يزِيد ابْن الْأَصَم، قَالَ: حَدَّثتنِي مَيْمُونَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال، قَالَ: وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس) . وَأخرجه(10/195)
التِّرْمِذِيّ وَفِي آخِره: (وَبنى بهَا حَلَالا، وَمَاتَتْ بسرف ودفنها فِي الظلة الَّتِي بنى فِيهَا) . وَأجَاب أهل الْمقَالة الأولى عَن هَذَا بِأَن فِي حَدِيث أبي رَافع مَطَرا الْوراق، وَهُوَ عِنْدهم لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بحَديثه، وَقد رَوَاهُ مَالك وَهُوَ أضبط مِنْهُ وأحفظ، فَقَطعه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا حَدِيث حسن وَلَا نعلم أحدا أسْندهُ غير حَمَّاد بن زيد عَن مطر الْوراق عَن ربيعَة، وَرَوَاهُ مَالك ابْن أنس (عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال) ، رَوَاهُ مَالك مُرْسلا، قَالَ: رَوَاهُ أَيْضا سُلَيْمَان ابْن بِلَال عَن ربيعَة مُرْسلا، وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث مَالك عَن ربيعَة فِي هَذَا الْبَاب غير مُتَّصِل، وَقد رَوَاهُ مطر الْوراق فوصله، رَوَاهُ حَمَّاد بن زيد عَن مطر الْوراق عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن أبي رَافع، وَهَذَا عِنْدِي غلط فِي مطر، لِأَن سُلَيْمَان بن يسَار ولد سنة أَربع وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة تسع وَعشْرين. وَمَات أَبُو رَافع بِالْمَدِينَةِ بعد قتل عُثْمَان بِيَسِير، وَكَانَ قتل عُثْمَان فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ، وَغير جَائِز وَلَا مُمكن أَن يسمع سُلَيْمَان من أبي رَافع، فَلَا معنى لرِوَايَة مطر، وَمَا رَوَاهُ مَالك أولى، وَالْعجب من الْبَيْهَقِيّ يعرف هَذَا الْمِقْدَار فِي هَذَا الحَدِيث ثمَّ يسكت عَنهُ، وَيَقُول: مطر بن طهْمَان الْوراق قد احْتج بِهِ مُسلم بن الْحجَّاج. قُلْنَا: وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَهُوَ لَيْسَ كرواة حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَلَا قَرِيبا مِنْهُم. وَقد قَالَ النَّسَائِيّ: مطر لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَعَن أَحْمد: كَانَ فِي حفظه سوء، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث مَيْمُونَة بِأَن عَمْرو بن دِينَار قد ضعف يزِيد ابْن الْأَصَم فِي خطابه لِلزهْرِيِّ، وَترك الزُّهْرِيّ الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَأخرجه من أهل الْعلم وَجعله أَعْرَابِيًا بوالاً على عَقِبَيْهِ، وهم يضعفون الرجل بِأَقَلّ من هَذَا الْكَلَام، وبكلام من هُوَ أقل من عَمْرو بن دِينَار، وَالزهْرِيّ، وَمَعَ هَذَا فَالَّذِينَ رووا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم نَحْو سعيد بن جُبَير وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد أَعلَى وَأثبت من الَّذين رووا أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال، وَمَيْمُون بن مهْرَان وحبِيب بن الشهير وَنَحْوهمَا لَا يلحقون هَؤُلَاءِ الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن جريج (عَن عَطاء، قَالَ: تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) .
وَفِي (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد أَنبأَنَا أَبُو نعيم حَدثنَا جَعْفَر بن برْقَان عَن مَيْمُون بن مهْرَان. قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد عَطاء فَسَأَلَهُ رجل: هَل يتَزَوَّج الْمحرم؟ فَقَالَ عَطاء: مَا حرم الله النِّكَاح مُنْذُ أحله، قَالَ مَيْمُون: فَذكرت لَهُ حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال. قَالَ: فَقَالَ عَطاء: مَا كُنَّا نَأْخُذ هَذَا إِلَّا عَن مَيْمُونَة، وَكَذَا نسْمع أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ محرم) . وأنبأنا ابْن نمير وَالْفضل بن دُكَيْن عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة (عَن الشّعبِيّ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) ، وأنبأنا جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد وأنبأنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا قُرَّة بن خَالِد حَدثنَا أَبُو يزِيد الْمَدِينِيّ، قَالَا: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم) . وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر. قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن نِكَاح الْمحرم؟ فَقَالَ: مَا بِهِ بَأْس هَل هُوَ إلاَّ كَالْبيع؟ وَذكره أَيْضا ابْن حزم عَن معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: يَقُول من أجَاز نِكَاح الْمحرم لَا يعدل يزِيد بن الْأَصَم أعز أبي بِابْن عَبَّاس، قَالُوا: وَقد يخفى على مَيْمُونَة كَون سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما، فالمخبر بِكَوْنِهِ كَانَ محرما مَعَه زِيَادَة علم، قَالُوا: وَخبر ابْن عَبَّاس وَارِد بِزِيَادَة حكم فَهُوَ أولى. وَقَالُوا فِي خبر عُثْمَان: مَعْنَاهُ لَا يوطىء غَيره وَلَا يطَأ. قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ ابْن حزم وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء أما تأويلهم فِي خبر عُثْمَان فقد بَينه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَا يخْطب) ، فصح أَنه أَرَادَ النِّكَاح الَّذِي هُوَ العقد. وَأما ترجيحهم ابْن عَبَّاس على يزِيد فَنعم، وَالله لَا يقرن يزِيد بِعَبْد الله وَلَا كَرَامَة، وَهَذَا تمويه مِنْهُم لِأَن يزِيد إِنَّمَا رَوَاهُ عَن مَيْمُونَة وروى أَصْحَاب ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس، وَنحن لَا نقرن ابْن عَبَّاس صَغِير من الصَّحَابَة إِلَى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ، لَكِن نعدل يزِيد إِلَى أَصْحَاب ابْن عَبَّاس، وَلَا نقطع بفضلهم عَلَيْهِ، وَأما قَوْلهم: قد يخفى على مَيْمُونَة إِحْرَامه إِذا تزَوجهَا، فيعارضون بِأَن يُقَال لَهُم: قد يخفى على ابْن عَبَّاس إحلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِحْرَامه، فالمخبرة بِكَوْنِهِ قد أحل زَائِدَة عَاما، وَأما قَوْلهم: خبر ابْن عَبَّاس وَارِد بِحكم زَائِد، فَلَيْسَ كَذَلِك بل خبر عُثْمَان هُوَ الزَّائِد الحكم، فَبَقيَ أَن يرجح خبر عُثْمَان وَخبر مَيْمُونَة على خبر ابْن عَبَّاس.
فَنَقُول: خبر يزِيد عَنْهَا هُوَ الْحق، وَقَول ابْن عَبَّاس وهم لَا شكّ فِيهِ لوجوه: أَولهَا: أَنَّهَا على علم بِنَفسِهَا مِنْهُ، ثَانِيهَا: أَنَّهَا كَانَت إِذْ ذَاك امْرَأَة كَامِلَة، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَوْمئِذٍ ابْن عشرَة أَعْوَام وَأشهر، فَبين الضبطين فرق لَا يخفى. ثَالِثهَا: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا تزَوجهَا فِي عمْرَة الْقَضَاء هَذَا مِمَّا لَا يخْتَلف فِيهِ اثْنَان وَمَكَّة يَوْمئِذٍ دَار حَرْب،(10/196)
وَإِنَّمَا هادنهم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَن يدخلهَا مُعْتَمِرًا وَيبقى فِيهَا ثَلَاثَة أَيَّام فَقَط، ثمَّ يخرج فَأتى من الْمَدِينَة محرما بِعُمْرَة، وَلم يقدم شَيْئا إِذْ دخل على الطّواف وَالسَّعْي، وَتمّ إِحْرَامه فِي الْوَقْت وَلم يشك أحد فِي أَنه إِنَّمَا تزَوجهَا بِمَكَّة حَاضرا بهَا لَا بِالْمَدِينَةِ، فصح أَنَّهَا بِلَا شكّ إِنَّمَا تزَوجهَا بعد تَمام إِحْرَامه لَا فِي حَال طَوَافه وسعيه، فارتفع الْإِشْكَال جملَة وَبَقِي خبر عُثْمَان ومَيْمُونَة لَا معَارض لَهما، ثمَّ لَو صَحَّ خبر ابْن عَبَّاس بِيَقِين وَلم يَصح خبر مَيْمُونَة لَكَانَ خبر عُثْمَان هَذَا الزَّائِد الْوَارِد بِحكم لَا يحل خِلَافه، لِأَن النِّكَاح قد أَبَاحَهُ الله تَعَالَى فِي كل حَال، ثمَّ لما أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا ينْكح الْمحرم كَانَ بِلَا شكّ نَاسِخا للْحَال الْمُتَقَدّمَة من الْإِبَاحَة لَا يُمكن غير هَذَا أصلا، وَكَانَ يكون خبر ابْن عَبَّاس مَنْسُوخا بِلَا شكّ لموافقته للْحَال المنسوخة بِيَقِين انْتهى. قلت: الْجَواب عَن كل فصل. أما عَن قَوْله: يزِيد إِنَّمَا رَوَاهُ عَن مَيْمُونَة وَهِي امْرَأَة عافلة، وَابْن عَبَّاس صَغِير فلقائل أَن يَقُول: إِن كَانَ يزِيد رَوَاهُ عَن خَالَته فَابْن عَبَّاس من الْجَائِز غير الْمُنكر أَن يرويهِ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو يرويهِ عَن أَبِيه الَّذِي ولي عقد النِّكَاح بمشهد عَنهُ ومرأى، أَو يرويهِ عَن خَالَته الْمَرْأَة الْعَاقِلَة وإيّا مَا كَانَ فَلَيْسَ صَغِيرا، فروايته مُقَدّمَة على رِوَايَة يزِيد بن الْأَصَم، وَلِأَن لعبد الله متابعين وَلَيْسَ ليزِيد عَن خَالَته متابع مِنْهُم عَطاء بقوله بِسَنَد صَحِيح: مَا كُنَّا نَأْخُذ هَذَا إلاَّ من مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ومسروق بِسَنَد صَحِيح، وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول: لَعَلَّ عَطاء ومسروقا أخذاه عَن ابْن عَبَّاس لتصريح عَطاء بِأَخْذِهِ إِيَّاه من مَيْمُونَة. وَأما مَسْرُوق فَلَا نعلم لَهُ رِوَايَة عَن عبد الله، فَدلَّ أَنه أَخذه عَن غَيره. وَأما عَن قَوْله: نعدل يزِيد إِلَى أَصْحَاب عبد الله وَلَا نقطع بفضلهم عَلَيْهِ، فَكيف يكون شخص وَاحِد حَدِيثه عِنْد مُسلم وَحده يعدل بعطاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي الشعْثَاء وَعِكْرِمَة فِي آخَرين من أَصْحَاب عبد الله الَّذين رووا عَنهُ هَذَا الحَدِيث؟ وَأما عَن قَوْله: هِيَ أعلم بِنَفسِهَا من عبد الله، فَنَقُول بِمُوجبِه: نعم، هِيَ أعلم بِنَفسِهَا إِذْ حدثت عَطاء وَابْن أُخْتهَا بِمَا هِيَ أعلم بِهِ من غَيرهَا. وَأما عَن قَوْله: إِنَّمَا تزَوجهَا بِمَكَّة حَاضرا بهَا فَيردهُ، مَا رَوَاهُ مَالك عَن ربيعَة عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أَبَا رَافع ورجلاً من الْأَنْصَار بزوجاته: مَيْمُونَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ قبل أَن يخرج. انْتهى. فَيُشبه أَنَّهُمَا زوجاه إِيَّاهَا وَهُوَ ملتبس بِالْإِحْرَامِ فِي طَرِيقه إِلَى مَكَّة، وَلما حل بنى بهَا، وَذكر مُوسَى بن عقبَة (عَن ابْن شهَاب: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا بلغ موضعا ذكره بعث جَعْفَر بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَين يَدَيْهِ إِلَى مَيْمُونَة يخطبها عَلَيْهِ، فَجعلت أمرهَا إِلَى الْعَبَّاس فَزَوجهَا مِنْهُ) . وَقد أوضح ذَلِك أَبُو عُبَيْدَة فِي كِتَابه (الزَّوْجَات) : توجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة مُعْتَمِرًا سنة سبع، وَقدم جَعْفَر يخْطب عَلَيْهِ مَيْمُونَة، فَجعلت أمرهَا إِلَى الْعَبَّاس، فَأَنْكحهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم، وَبنى بهَا بسرف وَهُوَ حَلَال. وَأما عَن قَوْله وَبَقِي خبر عُثْمَان ومَيْمُونَة لَا معَارض لَهما، فَنَقُول: الْمُعَارضَة لَا تكون إِلَّا مَعَ التَّسَاوِي، والتساوي هُنَا غير مُمكن لِأَن حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ عَنهُ من ذَكَرْنَاهُمْ من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وَحَدِيث عُثْمَان رَوَاهُ نبيه بن وهب وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَلَيْسَ لَهُ من الْحِفْظ وَالْعلم مَا يُسَاوِي أحدا مِنْهُم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف تصح دَعْوَى النّسخ فِيهِ؟ فَإِن قلت: قَالَ قوم مِمَّن رد حَدِيث ابْن عَبَّاس على تَسْلِيم صِحَّته: إِن معنى تزَوجهَا محرما أَي: فِي الْحرم، وَهُوَ حَلَال لِأَنَّهُ يُقَال لمن هُوَ فِي الْحرم محرم وَإِن كَانَ حَلَالا، وَهِي لُغَة شائعة مَعْرُوفَة، وَمِنْه الْبَيْت الْمَشْهُور:
(قتلوا ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما)
قلت: أَجمعُوا على أَن كسْرَى قتل بِالْمَدَائِنِ من بِلَاد فَارس، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(قتلوا كسْرَى بلَيْل محرما)
أفتراه كَانَ يسكن الْحرم أَو أحرم بِالْحَجِّ؟ فَإِن قلت: قَالُوا: قد تعَارض معنى فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَوله: وَالرَّاجِح القَوْل لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى الْغَيْر، وَالْفِعْل قد يكون مَقْصُورا عَلَيْهِ. قلت: قد فهم الْجَواب من قَوْلنَا الْآن أَن التَّعَارُض قد يكون عِنْد التَّسَاوِي. فَإِن قلت: قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِن هَذَا من خَصَائِصه وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ عِنْدهم: قلت: دَعْوَى التَّخْصِيص تحْتَاج إِلَى دَلِيل. فَإِن قلت: يحْتَمل أَنه زَوجهَا حَلَالا وَظهر أَمر تزَوجهَا وَهُوَ محرم. قلت: هَذَا لَا يُسَاوِي شَيْئا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة محرما لَا حَلَالا، فَكيف يتَصَوَّر ذَلِك؟
31 - (بابُ مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ والمُحْرِمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى عَنهُ من اسْتِعْمَال الطّيب للْمحرمِ والمحرمة، يَعْنِي أَنَّهُمَا فِي ذَلِك سَوَاء، وَلم تخْتَلف(10/197)
الْأَئِمَّة فِي ذَلِك وَالْحكمَة فِي مَنعه من الطّيب أَنه من دواعي الْجِمَاع ومقدماته الَّتِي تفْسد الْإِحْرَام، وَفِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْبَزَّار (الْحَاج الشعث التفل) ، والتفل بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَكسر الْفَاء: الَّذِي ترك اسْتِعْمَال الطّيب من التفل وَهِي الرّيح الكريهة.
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَا تَلْبَسُ المُحْرِمَةُ ثَوْبا بِوَرْسٍ أوْ زَعْفَرَانٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالورس والزعفران تفوح لَهُ رَائِحَة مثل مَا تفوح رَائِحَة الطّيب من أَنْوَاع مَا يتطيب بِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو عمر بن مطر حَدثنَا يحيى بن مُحَمَّد عَن عبيد الله بن معَاذ حَدثنَا أبي حَدثنَا حبيب عَن يزِيد الرشك، (عَن معَاذَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: الْمُحرمَة تلبس من الثِّيَاب مَا شَاءَت إلاَّ ثوبا مَسّه ورس أَو زعفران) . والورس، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، نبت أصفر تصبغ بِهِ الثِّيَاب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب مَا لَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب.
8381 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قامَ رجلٌ فقالَ يَا رسولَ الله ماذَا تأمُرُنَا أنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الإحْرَامِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ ولاَ السَّرَاوِيلاتِ ولاَ العَمَائِمَ ولاَ البَرَانِسَ إلاَّ أنْ يَكُونَ أحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ ولْيَقْطَعْ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ ولاَ تَلْبَسُوا شَيئا مَسَّهُ زَعْفرَانٌ ولاَ الوَرْسُ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأةُ المُحْرِمَة ولاَ تَلْبَسُ الْقُفَازَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تلبسوا شَيْئا مَسّه زعفران وَلَا الورس) ، وَعبد الله بن يزِيد من الزِّيَادَة المقريء، مولى آل عمر، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي آخر كتاب الْعلم فِي: بَاب من أجَاب السَّائِل بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ: عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع وَذكره أَيْضا فِي أَوَائِل الْحَج فِي: بَاب مَا لَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع وَزَاد فِيهِ هَهُنَا: (وَلَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين) . قَوْله: (القفازين) ، تَثْنِيَة قفاز، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء وَبعد الْألف زَاي، وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ ضرب من الْحلِيّ، وتقفزت الْمَرْأَة نقشت يَديهَا ورجليها بِالْحِنَّاءِ، وَقَالَ الْقَزاز: القفاز تلبس فِي الْكَفّ، وَقَالَ ابْن فَارس وَابْن دُرَيْد: هُوَ ضرب من الْحلِيّ تتخذه الْمَرْأَة فِي يَديهَا ورجليها، وَفِي (الصِّحَاح) : بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد شَيْء يعْمل لِلْيَدَيْنِ يحشى بِقطن. وَيكون لَهُ أزرار تزر على الساعدين من الْبرد تلبسه الْمَرْأَة فِي يَديهَا. وَفِي (الغريبين) : تلبسه نسَاء الْأَعْرَاب فِي أَيْدِيهنَّ لتغطية الْأَصَابِع والكف. وَفِي (الْمغرب) : هُوَ شَيْء يَتَّخِذهُ الصَّائِد فِي يَدَيْهِ من جلد أَو لبد. وَهَذَا الحَدِيث يشْتَمل على أَحْكَام قد ذَكرنَاهَا فِي آخر كتاب الْعلم. فَقَوله: (الْقَمِيص) ويروى: القمص، بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُون الْمِيم أَيْضا: جمع قَمِيص. (والبرانس) جمع: برنس وَهُوَ ثوب رَأسه ملتزق. قَوْله: (وليقطع أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) ، وَعَن أَحْمد: لَا يلْزمه قطعهمَا، فِي الْمَشْهُور عَنهُ. قَالَ ابْن قدامَة: وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبِه قَالَ عَطاء وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن سَالم القداح، احْتج أَحْمد بِحَدِيث ابْن عَبَّاس من عِنْد البُخَارِيّ: (من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ) ، وَحَدِيث جَابر مثله رَوَاهُ مُسلم عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله ت: (من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ، وَمن لم يجد إزارا فليلبس من سَرَاوِيل) . وَعند أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرين: لَا يجوز لبسهما إلاَّ بعد قطعهمَا، كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس وَجَابِر مُطلق يحمل على الْمُقَيد، لِأَن الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة. وَقَالَ ابْن التِّين: ابْن عَبَّاس حفظ لبس الْخُفَّيْنِ وَلم ينْقل صفة اللّبْس، بِخِلَاف ابْن عمر فَهُوَ أولى، وَقد قيل: فليقطعهما من كَلَام نَافِع، كَذَا فِي أمالى أبي الْقَاسِم بن بَشرَان بِسَنَد صَحِيح: أَن نَافِعًا قَالَ، بعد رِوَايَته الحَدِيث: وليقطع الْخُفَّيْنِ أَسْفَل الْكَعْبَيْنِ، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ وَابْن التِّين أَن جَعْفَر بن برْقَان فِي رِوَايَته: قَالَ نَافِع، وَيقطع الْخفاف أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: وروى ابْن أبي مُوسَى عَن صَفِيَّة بنت أبي عبيد عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص للْمحرمِ أَن يلبس الْخُفَّيْنِ وَلَا يقطعهما، وَكَانَ ابْن عمر يُفْتِي بقطعهما، قَالَت صَفِيَّة: فَلَمَّا أخْبرته بذلك رَجَعَ، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَيحْتَمل أَن يكون(10/198)
الْأَمر بقطعهما قد نسخ فَإِن عَمْرو بن دِينَار قد روى الْحَدِيثين جَمِيعًا. وَقَالَ: انْظُرُوا أَيهمَا كَانَ قبل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: حَدِيث ابْن عمر قبل لِأَنَّهُ قد جَاءَ فِي بعض رواياته: (نَادَى رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد) يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ فَكَأَنَّهُ كَانَ قبل الْإِحْرَام، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يَقُول: سمعته يخْطب بِعَرَفَات ... الحَدِيث، فَيدل على تَأَخره عَن حَدِيث ابْن عمر، فَيكون نَاسِخا لَهُ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْقطع وَاجِبا لبينه للنَّاس، إِذْ لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: روى حَدِيث ابْن عمر مَالك وَعبيد الله وَأَيوب فِي آخَرين فوقفوه على ابْن عمر، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس سَالم من الْوَقْف مَعَ مَعَ عضده من حَدِيث جَابر، وَيحمل قَوْله: وليقطعهما، على الْجَوَاز من غير كَرَاهَة لأجل الْإِحْرَام، وَينْهى عَن ذَلِك فِي غير الْإِحْرَام لما فِيهِ من الْفساد، فَأَما إِذا لبس الْخُف الْمَقْطُوع من أَسْفَل الكعب مَعَ وجود النَّعْل فعندنا أَنه لَا يجوز وَيجب عَلَيْهِ الْفِدَاء، خلافًا لأبي حنيفَة وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَالْأولَى قطعهمَا عملا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح، وخروجا من الْخلاف وأخذا بِالِاحْتِيَاطِ.
تابَعَهُ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ وإسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ عُقْبَةَ وجُوَيْرِيَةُ وابنُ إسْحَاقَ فِي النِّقَابِ والْقُفَازَيْنِ
أَي: تَابع اللَّيْث هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة فِي الرِّوَايَة عَن نَافِع. أما مُتَابعَة مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمدنِي فقد وَصلهَا النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن مُوسَى عَن نَافِع، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث حَاتِم بن إِسْمَاعِيل وَيحيى بن أَيُّوب عَن مُوسَى مَرْفُوعا. وَأما مُتَابعَة إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بن أبي عَيَّاش، وَهُوَ ابْن أخي مُوسَى الْمَذْكُور، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، فوصلها عَليّ بن مُحَمَّد الْمصْرِيّ فِي فَوَائده من رِوَايَة الْحَافِظ السلَفِي عَن الثَّقَفِيّ: عَن ابْن بَشرَان عَنهُ عَن يُوسُف بن يزِيد عَن يَعْقُوب بن أبي عباد عَن إِسْمَاعِيل عَن نَافِع بِهِ. وَأما مُتَابعَة جوَيْرِية بن أَسمَاء فوصلها أَبُو يعلى الْموصِلِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء عَنهُ عَن نَافِع. وَأما مُتَابعَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق فوصلها أَحْمد وَالْحَاكِم من حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن ابْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنِي نَافِع بِهِ مَرْفُوعا.
قَوْله: (فِي النقاب والقفازين) أَي: فِي ذكرهمَا، والنقاب الْخمار الَّذِي يشد على الْأنف أَو تَحت المحاجر، وَظَاهره اخْتِصَاص ذَلِك بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِن الرجل فِي القفاز مثلهَا لكَونه فِي معنى الْخُف فَإِن كلاًّ مِنْهُمَا مُحِيط بِجُزْء من الْبدن، وَأما النقاب فَلَا يحرم على الرحل من جِهَة الْإِحْرَام لِأَنَّهُ لَا يحرم عَلَيْهِ تَغْطِيَة وَجهه.
وَقَالَ عُبَيْدُ الله ولاَ ورْسٌ وكانَ يَقُولُ لاَ تَتَنَقَّبُ المُحْرِمَةُ ولاَ تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ
عبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ: قَوْله: (وَلَا ورس) ، يَعْنِي قَالَ عبيد الله فِي الحَدِيث الْمَذْكُور إِلَى قَوْله: (وَلَا ورس) ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن عبيد الله هَذَا وَافق الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين فِي رِوَايَة الحَدِيث الْمَذْكُور عَن نَافِع حَيْثُ جعل الحَدِيث إِلَى قَوْله: (وَلَا ورس) مَرْفُوعا ثمَّ فصل بَقِيَّة الحَدِيث فَجعله من قَول ابْن عمر، وَهُوَ معنى قَوْله: (وَكَانَ يَقُول) أَي: وَكَانَ ابْن عمر يَقُول: (لَا تنتقب الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين) وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: كَانَ يَقُول: فَإِن قلت: لم قَالَ أَولا بِلَفْظ: قَالَ؟ وَثَانِيا قَالَ: كَانَ يَقُول؟ قلت: لَعَلَّه قَالَ ذَلِك مرّة، وَهَذَا كَأَن يَقُول دَائِما مكررا، وَالْفرق بَين الْمَرَّتَيْنِ إِمَّا من جِهَة حذف لفظ الْمَرْأَة وَإِمَّا من جِهَة أَن الأول بِلَفْظ لَا تنتقب من التفعل، وَالثَّانِي من الافتعال، وَإِمَّا من جِهَة أَن الثَّانِي، بِضَم الْبَاء على سَبِيل النَّفْي لَا غير، وَالثَّانِي بِالضَّمِّ وَالْكَسْر نفيا ونهيا. انْتهى قلت: قَوْله: كَانَ يَقُول، دَائِما مكررا كَأَنَّهُ أَخذه من قَول من قَالَ: إِن: كَانَ، يدل على الدَّوَام والاستمرار. قَوْله من التفعل، يَعْنِي: من بَاب التفعل، يُقَال من هَذَا: تنقبت المرأت تنتقب تنقبا. قَوْله: من الافتعال، أَي: من بَاب الافتعال، يُقَال من هَذَا: انتقبت الْمَرْأَة تنتقب انتقابا.
قَوْله: (وَقَالَ عبيد الله) إِلَى آخِره مُعَلّق وَصله إِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) عَن مُحَمَّد بن بشر وَحَمَّاد بن مسْعدَة وَابْن خُزَيْمَة من طَرِيق بشر بن الْمفضل، ثَلَاثَتهمْ عَن عبيد الله ابْن عمر عَن نَافِع، فساق الحَدِيث إِلَى قَوْله: (وَلَا ورس) ، قَالَ: وَكَانَ عبد الله يَعْنِي: ابْن عمر: (يَقُول: وَلَا تنتقب الْمُحرمَة وَلَا تلبس القفازين) وَمعنى: لَا تنتقب لَا تستر وَجههَا، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك فَمَنعه الْجُمْهُور وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ(10/199)
رِوَايَة عَن الشَّافِعِيَّة والمالكية.
وَقَالَ مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ لاَ تَتَنَقَّبِ المُحْرِمَةُ
هَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) كَمَا قَالَ مَالك، وَهُوَ اقتصره على الْمَوْقُوف فَقَط، وَقد اخْتلف فِي قَوْله: لَا تنتقب الْمَرْأَة فِي رَفعه وَوَقفه، فَنقل الْحَاكِم عَن شَيْخه على النَّيْسَابُورِي أَنه من قَول ابْن عمر، أدرج فِي الحَدِيث. وَقَالَ الْخطابِيّ فِي (المعالم) : وعللوه بِأَن ذكر القفازين، إِنَّمَا هُوَ قَول ابْن عمر لَيْسَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعلق الشَّافِعِي القَوْل فِي ذَلِك، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : أَنه رَوَاهُ اللَّيْث مدرجا وَقد اسْتشْكل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (الإِمَام) الحكم بالإدراح فِي هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن. الأول: لوُرُود النَّهْي عَن النقاب والقفازين مُفردا مَرْفُوعا، فروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد الْمدنِي عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمُحرمَة لَا تنتقب وَلَا تلبس القفازين) . وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه جَاءَ النَّهْي عَن القفازين مُبْتَدأ بِهِ فِي صدر الحَدِيث مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَابِقًا على النَّهْي عَن غَيره. قَالَ: وَهَذَا يمْنَع من الإدراج وَيُخَالف الطَّرِيق الْمَشْهُورَة، فروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، قَالَ: فَإِن نَافِعًا مولى عبد الله بن عمر، حَدثنِي (عَن عبد الله بن عمر أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى النِّسَاء فِي إحرامهن عَن القفازين والنقاب وَمَا مس الورس والزعفران من الثِّيَاب، ولتلبس بعد ذَلِك مَا أحبت من ألوان الثِّيَاب معصفرا أَو خَزًّا أَو حليا وَسَرَاويل أَو قمصا) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: فِي الْوَجْه الأول قرينَة تدل على عدم الإدراج، فَإِن الحَدِيث ضَعِيف لِأَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْمدنِي مَجْهُول، وَقد ذكره ابْن عدي مُقْتَصرا على ذكر النقاب، وَقَالَ: لَا يُتَابع إِبْرَاهِيم بن سعيد هَذَا على رَفعه، قَالَ: وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن نَافِع من قَول ابْن عمر، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (الْمِيزَان) : أَن إِبْرَاهِيم بن سعيد هَذَا مُنكر الحَدِيث غير مَعْرُوف، ثمَّ قَالَ: لَهُ حَدِيث وَاحِد فِي الْإِحْرَام أخرجه أَبُو دَاوُد، وَسكت عَنهُ، فَهُوَ مقارب الْحَال. وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: إِبْنِ إِسْحَاق وَهُوَ لَا شكّ دون عبيد الله بن عمر فِي الْحِفْظ والإتقان، وَقد فصل الْمَوْقُوف من الْمَرْفُوع. وَقَول الشَّيْخ: إِن هَذَا يمْنَع من الإدراج مُخَالف لقَوْله فِي الاقتراح: إِنَّه يضعف لَا يمنعهُ، فَلَعَلَّ بعض من ظَنّه مَرْفُوعا قدمه، والتقديم وَالتَّأْخِير فِي الحَدِيث سَائِغ بِنَاء على جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى.
وتابَعَهُ لَيْثُ بنُ أبِي سُلَيْمٍ
أَي: وتابع مَالِكًا فِي وَقفه لَيْث بن أبي سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام بن زنيم الْقرشِي الْكُوفِي، وَاسم أبي سليم أنس مولى عَنْبَسَة ابْن أبي سُفْيَان، مَاتَ فِي شعْبَان سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَكَانَ من الْعباد، وَاخْتَلَطَ فِي آخر عمره حَتَّى لَا يكَاد يدْرِي مَا يحدث بِهِ.
9381 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنِ الحَكَمِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا قَالَ وقَصَتْ بِرَجُلٍ محْرِمٍ ناقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ فأُتِيَ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اغْسِلُوهُ وكَفِّنُوهُ ولاَ تغَطُّوا رَأسَهُ ولاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبا فإنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تقربوه طيبا فَإِنَّهُ مَاتَ محرما) وَالْمحرم مَمْنُوع عَن الطّيب، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَالْحكم هُوَ ابْن عتيبة.
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب كَيفَ يُكفن الْمحرم من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. وَالْآخر: عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو وَأَيوب عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ: عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الحنوط للْمَيت عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الْمحرم يَمُوت بِعَرَفَة من وَجْهَيْن: الأول: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير. وَالثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب أَيْضا عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب سنة الْمحرم إِذا مَاتَ: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن هشيم عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى مستقصىً.
قَوْله: (وقصت)(10/200)
فعل مَاض وفاعله قَوْله: (نَاقَته) أَي: كسرت رقبته. قَوْله: (وَلَا تقربوه) ، بتَشْديد الرَّاء. قَوْله: (يهل) ، بِضَم الْيَاء أَي: يرفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ، وَهِي جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: يبْعَث احتجت الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث على بَقَاء إِحْرَام الْمَيِّت فِي إِحْرَامه وَلَا يجوز أَن يلبس الْمخيط وَلَا يخمر رَأسه، وَلَا يمس طيبا، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة والمالكية: يَنْقَطِع الْإِحْرَام بِمَوْتِهِ، وَيفْعل بِهِ مَا يفعل بالحي، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا، وجوابهم عَنهُ أَنه وَاقعَة عين لَا عُمُوم فِيهَا لِأَنَّهُ علل ذَلِك بقوله: (لِأَنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا) ، وَهَذَا الْأَمر لَا يتَحَقَّق وجوده فِي غَيره، فَيكون خَاصّا بذلك الرجل، وَلَو اسْتمرّ بَقَاؤُهُ على إِحْرَامه لأمر بِقَضَاء بَقِيَّة مَنَاسِكه، وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْقصار: لَو أُرِيد تَعْمِيم هَذَا الحكم فِي كل محرم لقَالَ: فَإِن الْمحرم، كَمَا جَاءَ: (إِن الشَّهِيد يبْعَث وجرحه يقطر دَمًا) .
41 - (بابُ الاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاغْتِسَال إِمَّا لأجل التَّطْهِير من الْجَنَابَة، وَإِمَّا لأجل التَّنْظِيف. قَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن للْمحرمِ أَن يغْتَسل من الْجَنَابَة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الحَمَّامَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَنهُ، قَالَ: يدْخل الْمحرم الْحمام وَينْزع ضرسه، وَإِذا انْكَسَرَ ظفره طَرحه، وَيَقُول: أميطوا عَنْكُم الْأَذَى إِن الله لَا يصنع بأذاكم شَيْئا. وروى الْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس (أَنه دخل حَماما بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ محرم، وَقَالَ: إِن الله لَا يعبأ بأوساخكم شَيْئا) . وَحكى ابْن أبي شيبَة كَرَاهَة ذَلِك عَن الْحسن وَعَطَاء، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق للْمحرمِ دُخُول الْحمام. وَقَالَ مَالك: إِن دخله فتدلك وانقى الْوَسخ فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، وَحكى عَن سعيد بن عبَادَة مثل قَول مَالك، وَكَانَ أَشهب وَابْن وهب يتغامسان فِي المَاء وهما محرمان، مُخَالفَة لِابْنِ الْقَاسِم، وَكَانَ ابْن الْقَاسِم يَقُول: إِن غمس رَأسه فِي المَاء أطْعم شَيْئا من طَعَام، خوفًا من قتل الدَّوَابّ، وَلَا تجب الْفِدْيَة إلاَّ بِيَقِين. وَعَن مَالك اسْتِحْبَابه، وَلَا بَأْس عِنْد جَمِيع أَصْحَاب مَالك أَن يصب الْمحرم على رَأسه المَاء لحر يجده، وَقَالَ أَشهب: لَا أكره غمس الْمحرم رَأسه فِي المَاء، وَنقل ابْن التِّين أَن انغماس الْمحرم فِيهِ مَحْظُور. وروى عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس إِجَازَته. وَأما إِن غسل رَأسه بالخطمي والسدر فَإِن الْفُقَهَاء يكرهونه، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَأوجب مَالك وَالشَّافِعِيّ عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقد رخص عَطاء وطاووس وَمُجاهد لمن لبد رَأسه فشق عَلَيْهِ الْحلق أَن يغسل بالخطمى حِين يُلَبِّي، وَكَانَ ابْن عمر يفعل ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَذَلِكَ جَائِز.
ولَمْ يَرَ ابنُ عُمَرَ وعائِشَةُ بِالحَكِّ بَأْسا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي الحك من إِزَالَة الْأَذَى كَمَا فِي الْغسْل، وَأثر ابْن عمر وَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي مجلز. قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يحك رَأسه وَهُوَ محرم، ففطنت لَهُ، فَإِذا هُوَ يحك بأطراف أنامله، وَأثر عَائِشَة وَصله مَالك عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه، وَاسْمهَا مرْجَانَة، سَمِعت عَائِشَة تسْأَل عَن الْمحرم: أيحك جسده؟ قَالَت: نعم، وليشدد. وَقَالَت عَائِشَة: لَو ربطت يداي وَلم أجد إلاَّ أَن أحك برجلي لحككت.
0481 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ إبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ الله بنِ حُنَيْنٍ عنْ أبِيهِ أنَّ عَبْدَ الله بنَ العَبَّاسِ والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ وَقَالَ المِسْوَرُ لاَ يَغْسِلُ المُحْرِمُ رأسَهُ فأرْسلَنِي عَبْدُ الله ابنُ العَبَّاسِ إلَى أَي أيُّوبَ الأنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرْنَيْنِ وهْوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هاذا فَقُلْتُ أَنا عَبْدُ الله بنُ حُنَيْنٍ إرْسَلَنِي إلَيْكَ عَبْدُ الله بنُ الْعَبَّاسِ أسْألُكَ كَيْفَ(10/201)
كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْسِلُ رَأسَهُ وهْوَ مُحْرِمٌ فوَضَعَ أبُو أيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فطَأطَأهُ حتَّى بَدَا لِي رَأسُهُ ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأسِهِ ثُمَّ رأسَهُ بِيَدَيْهِ فأقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ وَقَالَ هكذَا رَأيْتُهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَلُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله بن حنين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو إِسْحَاق، مولى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب الْمدنِي، والمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وبالراء: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: ابْن نَوْفَل الْقرشِي أَبُو عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ لَهُ ولأبيه صُحْبَة.
قَوْله: (عَن زيد بن أسلم عَن إِبْرَاهِيم) كَذَا فِي جَمِيع الموطآت، وَأغْرب يحيى بن يحيى الأندلسي فَأدْخل بَين زيد وَإِبْرَاهِيم نَافِعًا. قَالَ ابْن عبد الْبر: وَذَلِكَ مَعْدُود من خطئه. قَوْله: (عَن إِبْرَاهِيم) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: عَن زيد أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم. أخرجه أَحْمد وَإِسْحَاق والْحميدِي فِي (مسانيدهم) عَنهُ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عِنْد أَحْمد: عَن زيد بن أسلم أَن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن حنين مولى ابْن عَبَّاس أخبرهُ، كَذَا قَالَ: مولى ابْن عَبَّاس، وَالْمَشْهُور أَنه: مولى للْعَبَّاس، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (أَن عبد الله بن عَبَّاس) وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عِنْد أبي عوَانَة: كنت مَعَ ابْن عَبَّاس والمسور بن مخرمَة، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب، أربعتهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَليّ بن خشرم، كِلَاهُمَا عَن قيس بن يُونُس عَن ابْن جريج. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ: عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي مُصعب أَحْمد ابْن أبي بكرالزهري، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك بِهِ. قَوْله: (بالأبواء) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: مَوضِع قريب من مَكَّة وَقد ذكر غير مرّة، وَالْبَاء فِيهِ بِمَعْنى: فِي. أَي: اخْتلفَا وهما نازلان فِي الْأَبْوَاء. قَوْله: (إِلَى أبي أَيُّوب) واسْمه خَالِد بن زيد بن كُلَيْب الْأنْصَارِيّ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة بالعرج، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم، وَهِي قَرْيَة جَامِعَة قريبَة من الْأَبْوَاء. قَوْله: (بَين القرنين) ، أَي: بَين قَرْني الْبِئْر، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة، والقرنان هما جانبا الْبناء الَّذِي على رَأس الْبِئْر يوضع خشب البكرة عَلَيْهِمَا. قَوْله: (فَقلت: أَنا عبد الله) وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (فَقَالَ: قل لَهُ: يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام ابْن أَخِيك عبد الله بن عَبَّاس يَسْأَلك) . قَوْله: (فطأطأه) أَي خفضه وأزاله عَن رَأسه، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (حَتَّى رَأَيْت رَأسه وَوَجهه) . وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (جمع ثِيَابه إِلَى صَدره حَتَّى نظرت إِلَيْهِ) . قَوْله: (وَقَالَ) أَي: أَبُو أَيُّوب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (هَكَذَا رَأَيْته) أَي: هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل، وَزَاد ابْن عُيَيْنَة: (فَرَجَعت إِلَيْهِمَا فأخبرتهما، فَقَالَ الْمسور لِابْنِ عَبَّاس: لَا أماريك أبدا) أَي: لَا أجادلك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مناظرة الصَّحَابَة فِي الْأَحْكَام ورجوعهم إِلَى النُّصُوص. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد وَلَو كَانَ تابعيا، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَو كَانَ معنى الِاقْتِدَاء فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ أقتديتم اهْتَدَيْتُمْ) ، يُرَاد بِهِ الْفَتْوَى لما احْتَاجَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى إِقَامَة الْبَيِّنَة على دَعْوَاهُ، بل كَانَ يَقُول للمسور: أَنا نجم وَأَنت نجم، فبأينا اقْتدى من بَعدنَا كَفاهُ، وَلَكِن مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْمُزنِيّ وَغَيره من أهل النّظر: أَنه فِي النَّقْل لِأَن جَمِيعهم عدُول. وَفِيه: اعْتِرَاف للفاضل بفضله وإنصاف الصَّحَابَة بَعضهم بَعْضًا. وَفِيه: أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا فِي قَضِيَّة لم تكن الْحجَّة فِي قَول أحد مِنْهُم إلاَّ بِدَلِيل يجب التَّسْلِيم لَهُ من كتاب أَو سنة، كَمَا أَتَى أَبُو أَيُّوب بِالسنةِ. وَفِيه: ستر المغتسل بِثَوْب وَنَحْوه عِنْد الْغسْل. وَفِيه: الِاسْتِعَانَة فِي الطَّهَارَة. وَفِيه: جَوَاز الْكَلَام وَالسَّلَام حَالَة الطَّهَارَة، وَلَكِن لَا بُد من غض الْبَصَر عَنهُ. وَفِيه: التناظر فِي الْمسَائِل والتحاكم فِيهَا إِلَى الشُّيُوخ الْعَالمين بهَا. وَفِيه: جَوَاز غسل الْمحرم وتشريبه شعره بِالْمَاءِ ودلكه بِيَدِهِ إِذا أَمن تناثره، وَاسْتدلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيّ على وجوب الدَّلْك فِي الْغسْل، قَالَ: لِأَن الْغسْل لَو كَانَ يتم بِدُونِهِ لَكَانَ الْمحرم أَحَق بِأَن يجوز لَهُ تَركه، وَفِيه: نظر لَا يخفى، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي غسل الْمحرم رَأسه، فَذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: إِلَى أَنه لَا بَأْس بذلك، وَردت الرُّخْصَة بذلك عَن عمر بن الْخطاب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور،(10/202)
وحجتهم حَدِيث الْبَاب. وَكَانَ مَالك يكره ذَلِك للْمحرمِ، وَذكر أَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ لَا يغسل رَأسه إلاَّ من الِاحْتِلَام.
51 - (بابُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم لبس الْخُفَّيْنِ للْمحرمِ إِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ هَل يقطع الْخُفَّيْنِ أم لَا؟
1481 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ بِعَرَفاتٍ منْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ ومنْ لَمْ يَجِدْ إزَارا فَلْيَلْبَسُ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليلبس الْخُفَّيْنِ) ، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ وَجَابِر بن زيد أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ اليحمدي الجوفي، بِالْجِيم نِسْبَة إِلَى نَاحيَة من عمان، الْبَصْرِيّ من ثِقَات التَّابِعين، وَقد مضى صدر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى.
قَوْله: (فليلبس الْخُفَّيْنِ) أَي: مَقْطُوع الْأَسْفَل إِذْ الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد. قَوْله: (الْمحرم) ، مَرْفُوع على أَنه فَاعل: فليلبس، و: سَرَاوِيل، مَفْعُوله. ويروى: (للْمحرمِ) بِاللَّامِ الجارة الَّتِي للْبَيَان أَي: هَذَا الحكم للْمحرمِ، كاللام فِي: هيت لَك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث أَحْمد فَأجَاز لبس الْخُف والسراويل للْمحرمِ الَّذِي لَا يجد النَّعْلَيْنِ، والإزار على حَالهمَا، وَاشْترط الْجُمْهُور قطع الْخُف وفتق السَّرَاوِيل، وَلَو لبس شَيْئا مِنْهُمَا على حَاله لَزِمته الْفِدْيَة لحَدِيث ابْن عمر: (وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) ، وَقد قُلْنَا: إِن الْمُطلق هَهُنَا مَحْمُول على الْمُقَيد لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الحكم، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة جَوَاز لبس السَّرَاوِيل بِغَيْر فتق. كَقَوْل أَحْمد، وَاشْترط الفتق مُحَمَّد بن الْحسن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَطَائِفَة، وَعَن أبي حنيفَة: منع السَّرَاوِيل للْمحرمِ مُطلقًا، وَمثله عَن مَالك، وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من أَصْحَابنَا: يجوز لبسه وَعَلِيهِ الْفِدْيَة.
2481 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ شِهابٍ عنْ سَالِمٍ عنْ أبِيهِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ فَقَالَ لاَ يَلْبَس الْقَمِيصَ ولاَ الْعَمَائِمَ ولاَ السَّرَاوِيلاتِ ولاَ البُرْنُسَ ولاَ ثَوْبا مسَّهُ زَعْفَرَانٌ ولاَ وَرْسٌ وإنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ ولْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن لم يجد نَعْلَيْنِ، وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن عمر، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَا ينْهَى من الطّيب للْمحرمِ، وَلكنه مُخْتَلف الْإِسْنَاد والمتن.
61 - (بابٌ إذَا لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبِسِ السَّرَاوِيلَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يجد الَّذِي يُرِيد الْإِحْرَام الْإِزَار يشد بِهِ وَسطه فليلبس السَّرَاوِيل حِينَئِذٍ.
3481 - حدَّثني آدم قَالَ حدَّثنا شُعْبَةْ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ جابِرِ بنِ زَيْدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ منْ لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ ومَنْ لَمْ يَجدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من لم يجد الْإِزَار فليلبس السَّرَاوِيل) ، والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب السَّابِق، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن أبي(10/203)
الْوَلِيد عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا: عَن آدم عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.
71 - (بابُ لُبْسِ السِّلاحِ لِلْمُحْرِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز لبس السِّلَاح للْمحرمِ إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ إذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلاحَ وافْتَدَى ولمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الفِدْيَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَوْله: (عِكْرِمَة) هُوَ مولى ابْن عَبَّاس. قَوْله: (إِذا خشِي) أَي: الْمحرم، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَيْهِ بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ. قَوْله: (وافتدى) أَي: أعْطى الْفِدْيَة، وَقَالَ ابْن بطال: أجَاز مَالك وَالشَّافِعِيّ حمل السِّلَاح للْمحرمِ فِي الْحَج وَالْعمْرَة، وَكَرِهَهُ الْحسن. قَوْله: (وَلم يُتَابع عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَة) ، من كَلَام البُخَارِيّ، وَلم يُتَابع على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لم يُتَابع عِكْرِمَة على قَوْله: (وافتدى) ، وَحَاصِل الْكَلَام لم يقل أحد غَيره بِوُجُوب الْفِدْيَة عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيّ: لَعَلَّه أَرَادَ أذا كَانَ محرما، فَلَا يكون مُخَالفا للْجَمَاعَة وَيَقْتَضِي كَلَام البُخَارِيّ أَنه توبع عَلَيْهِ فِي جَوَاز لبس السِّلَاح عِنْد الخشية، وخولف فِي وجوب الْفِدْيَة.
81 - (بابُ دُخُولِ الحَرَمِ ومَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول الْحرم بِغَيْر إِحْرَام إِذا لم يرد الْحَج وَالْعمْرَة. قَوْله: (وَمَكَّة) ، أَي: وَدخُول مَكَّة، وَهُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن المُرَاد من مَكَّة هُنَا الْبَلَد، فَيكون الْحرم أعلم.
ودَخَلَ ابنُ عُمَرَ حَلالاً
أَي: دخل عبد الله بن عمر مَكَّة حَال كَونه حَلَالا بِغَيْر إِحْرَام، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع قَالَ: أقبل عبد الله بن عمر من مَكَّة حَتَّى إِذا كَانَ بِقديد بِضَم الْقَاف جَاءَهُ خبر عَن الْفِتْنَة فَرجع فَدخل مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام، وروى ابْن أبي(10/204)
شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عَليّ بن مسْهر عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن عبد الله، وبلغه بِقديد أَن جَيْشًا من جيوش الْفِتْنَة دخلُوا الْمَدِينَة، فكره أَن يدْخل عَلَيْهِم فَرجع إِلَى مَكَّة فَدَخلَهَا بِغَيْر إِحْرَام.
وإنَّما أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإهْلالِ لِمَنْ أرَادَ الحَجَّ والْعُمْرَةَ ولَمْ يَذْكُرْهُ لِلْحَطَّابِينَ وغَيْرِهمْ
هَذَا كُله من كَلَام البُخَارِيّ. قَوْله: (وَلم يذكرهُ) أَي: وَلم يذكر الإهلال أَي: الْإِحْرَام للحطابين أَي: للَّذين يجلبون الْحَطب إِلَى مَكَّة للْبيع، ويروى: وَلم يذكر الحطابين بِغَيْر الضَّمِير أَي: لم يذكرهم فِي منع الدُّخُول بِغَيْر إِحْرَام، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن مذْهبه أَن من دخل مَكَّة من غير أَن يُرِيد الْحَج أَو الْعمرَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَفْهُوم حَدِيث ابْن عَبَّاس مِمَّن أَرَادَ الْحَج وَالْعمْرَة، وَمَفْهُوم هَذَا أَن المتردد إِلَى مَكَّة عَن غير قصد الْحَج أَو الْعمرَة لَا يلْزمه الْإِحْرَام.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب، فَقَالَ ابْن الْقصار: وَاخْتلف قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي جَوَاز دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام لمن لم يرد الْحَج وَالْعمْرَة، فَقَالَا مرّة: لَا يجوز دُخُولهَا إِلَّا بِالْإِحْرَامِ لاختصاصها ومباينتها جَمِيع الْبلدَانِ إلاَّ الحطابين، وَمن قرب مِنْهَا مثل جدة والطائف وَعُسْفَان لِكَثْرَة ترددهم إِلَيْهَا، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَاللَّيْث، وعَلى هَذَا فَلَا دم عَلَيْهِ، نَص عَلَيْهِ فِي (الْمُدَوَّنَة) . وَقَالا مرّة أُخْرَى: دُخُولهَا بِهِ مُسْتَحبّ لَا وَاجِب. قلت: مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَمَالك فِي رِوَايَة، وَابْن وهب وَدَاوُد بن عَليّ وَأَصْحَابه الظَّاهِرِيَّة: أَنه لَا بَأْس بِدُخُول الْحرم بِغَيْر إِحْرَام، وَمذهب عَطاء بن أبي رَبَاح وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك فِي رِوَايَة، وَهِي قَوْله الصَّحِيح، وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأحمد وَأبي ثَوْر وَالْحسن بن حَيّ: لَا يصلح لأحد كَانَ منزله من وَرَاء الْمِيقَات إِلَى الْأَمْصَار أَن يدْخل مَكَّة إِلَّا بِالْإِحْرَامِ، فَإِن لم يفعل أساءو لَا شَيْء عَلَيْهِ عِنْد الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَعند أبي حنيفَة: عَلَيْهِ حجَّة أَو عمْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم خلافًا بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي الحطابين وَمن يدمن الِاخْتِلَاف إِلَى مَكَّة ويكثره فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَنهم لَا يأمرون بذلك لما عَلَيْهِم من الْمَشَقَّة، وَقَالَ ابْن وهب عَن مَالك: لست آخذ بقول ابْن شهَاب فِي دُخُول الْإِنْسَان مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام، وَقَالَ: إِنَّمَا يكون ذَلِك على مثل مَا عمل بِهِ عبد الله بن عمر من الْقرب إلاَّ رجلا يَأْتِي بالفاكهة من الطَّائِف، أَو ينْقل الْخطب يَبِيعهُ، فَلَا أرى بذلك بَأْسا. قيل لَهُ: فرجوع ابْن عمر من قديد إِلَى مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام؟ فَقَالَ: ذَلِك أَنه جَاءَهُ خبر من جيوش الْمَدِينَة.
5481 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ ولأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلَ ولأِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ ولِكُلِّ آتٍ عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ أرَادَ الحَجَّ والْعُمْرَةَ فَمَنْ كانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أنْشَأَ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من أَرَادَ الْحَج وَالْعمْرَة) ، حَيْثُ خصص لمريدهما الْمَوَاقِيت وَلم يعين لغير مريدهما ميقاتا. والْحَدِيث مضى بِعَيْنِه فِي أَوَائِل كتاب الْحَج فِي: بَاب مهل مَكَّة، غير أَنه أخرجه: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب، وَهَهُنَا أخرجه: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم القصاب عَن وهيب بن خَالِد عَن عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
6481 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ عامَ الفَتْحِ وعَلى رَأسِهِ المغْفرُ فَلَمَّا نزَعَهُ جاءَ رَجُلً فَقال إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّق بأسْتَارِ الكَعْبَةَ فَقَالَ اقْتُلُوهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة وعَلى رَأسه المغفر، فَلَو كَانَ محرما لَكَانَ يدْخل وَهُوَ مَكْشُوف الرَّأْس، والترجمة فِي دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام. وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ،(10/205)
وَفِي الْجِهَاد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن قزعة، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن القعْنبِي وَيحيى بن يحيى وقتيبة كلهم عَن مَالك، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَفِي الشَّمَائِل عَن عِيسَى بن أَحْمد عَن ابْن وهب عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عبيد الله بن فضَالة عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَنهُ بِهِ مُخْتَصرا. وَفِي السّير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَنهُ بِتَمَامِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن هِشَام بن عمار وسُويد بن سعيد كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: وَهَذَا الحَدِيث عد من أَفْرَاد مَالك، تفرد بقوله: (وعَلى رَأسه المغفر) كَمَا تفرد بِحَدِيث: (الرَّاكِب شَيْطَان) ، وَبِحَدِيث: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قد أوردت أَحَادِيث من رَوَاهُ عَن مَالك فِي جُزْء مُفْرد وهم نَحْو من مائَة وَعشْرين رجلا أَو أَكثر مِنْهُم: السُّفْيانَانِ وَابْن جريج وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ مَالك وَلَا يحفظ عَن غَيره وَلم يروه عَن ابْن شهَاب سَوَاء من طَرِيق صَحِيح، وَقد رُوِيَ عَن ابْن أخي ابْن شهَاب عَن عَمه عَن أنس، وَلَا يكَاد يَصح، وَرُوِيَ من غير هَذَا الْوَجْه، وَلَا يثبت أهل الْعلم فِيهِ إِسْنَادًا غير حَدِيث مَالك، وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو أويس وَالْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وروى مُحَمَّد بن سليم بن الْوَلِيد الْعَسْقَلَانِي عَن مُحَمَّد بن السّري عَن عبد الرَّزَّاق عَن مَالك وَعَن ابْن شهَاب (عَن أنس: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) ، وَمُحَمّد بن سليم لم يكن مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ، وَتَابعه على ذَلِك بِهَذَا الْإِسْنَاد الْوَلِيد بن مُسلم وَيحيى الوحاظي، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يحفظه عَن مَالك فِي هَذَا، إلاَّ المغفر. قَالَ أَبُو عمر، وَرُوِيَ من طَرِيق أَحْمد بن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن أبي الزبير (عَن جَابر: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) ، وَلم يقل: عَام الْفَتْح، وَهُوَ مَحْفُوظ من حَدِيث جَابر زَاد مُسلم فِي (صَحِيحه) : (بِغَيْر إِحْرَام) .
قَالَ وروى جمَاعَة مِنْهُم بشر بن عمرَان الزهْرَانِي وَمَنْصُور بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ حَدِيث المغفر فَقَالَا: مغفر من حَدِيد، وَمَنْصُور وَبشر ثقتان، وتابعهما على ذَلِك جمَاعَة لَيْسُوا هُنَاكَ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن سَلام عَن ابْن بكير عَن مَالك، وَرَوَاهُ روح بن عبَادَة بِإِسْنَادِهِ هَذَا وَفِيه زِيَادَة: (وَطَاف وَعَلِيهِ المغفر) ، وَلم يقلهُ غَيره، وَرَوَاهُ عبد الله بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ (عَن أنس قَالَ: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح مَكَّة وعَلى رَأسه مغفر، واستلم الْحجر بمحجن) ، وَهَذَا لم يقلهُ عَن مَالك غير عبد الله هَذَا، وروى دَاوُد بن الزبْرِقَان عَن معمر وَمَالك جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب (عَن أنس: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان وَلَيْسَ بصائم) . وَهَذَا اللَّفْظ لَيْسَ بِمَحْفُوظ بِهَذَا الْإِسْنَاد لمَالِك من هَذَا الْوَجْه، وَقد روى سُوَيْد بن سعيد عَن مَالك عَن ابْن شهَاب (عَن أنس: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة عَام الْفَتْح غير محرم) ، وَتَابعه على ذَلِك عَن مَالك إِبْرَاهِيم بن عَليّ المقرىء، وَهَذَا لَا يعرف هَكَذَا، إلاَّ بهما وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأ عِنْد جمَاعَة الروَاة من قَول ابْن شهَاب لم يرفعهُ إِلَى أنس.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي الإكليل: اخْتلفت الرِّوَايَات فِي لبسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِمَامَة والمغفر يَوْم الْفَتْح، وَلم يَخْتَلِفُوا أَنه دَخلهَا وَهُوَ حَلَال. قَالَ: وَقَالَ بعض النَّاس: الْعِمَامَة كالمغفر على الرَّأْس وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث جَابر الْمَذْكُور آنِفا. قَالَ: وَهُوَ، وَإِن صَححهُ مُسلم، وَحده، فَالْأول يَعْنِي: حَدِيث أنس مجمع على صِحَّته، وَالدَّلِيل على أَن المغفر غير الْعِمَامَة قَوْله: من حَدِيد، فَبَان بِهَذَا أَن حَدِيث المغفر من حَدِيد أثبت من الْعِمَامَة السَّوْدَاء، لِأَن راويها أَبُو الزبير. وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار: أَبُو الزبير يحْتَاج إِلَى دعامة، وَقد روى عَمْرو بن حُرَيْث ومزيدة وعنبسة صَاحب (الألواح) عَن عبيد الله ابْن أبي بكر (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبس الْعِمَامَة السَّوْدَاء) ، وَلَا يَصح مِنْهَا، وَإِنَّمَا لبس الْبيَاض وَأمر بِهِ. قلت: روى مُسلم من طرق من حَدِيث أبي الزبير (عَن جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) ، وَمن طَرِيق جَعْفَر بن عَمْرو بن حُرَيْث عَن أَبِيه قَالَ: (كَأَنِّي أنظر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء قد أرْخى طرفيها بَين كَتفيهِ) ، وَقَالَ ابْن السّديّ: إِن ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ حِين قيل لَهُ: لم يروه إلاَّ مَالك قد رويته من ثَلَاثَة عشر طَرِيقا غير طَرِيق مَالك، واتهموه فِي ذَلِك ونسبوه إِلَى المجازفة، وَقد أخطأوا فِي ذَلِك لقلَّة أطلاعهم فِي هَذَا الْبَاب وَعدم وقوفهم على مَا وقف عَلَيْهِ ابْن الْعَرَبِيّ، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله، حِين قيل لَهُ: تفرد بِهِ الزُّهْرِيّ عَن مَالك: إِنَّه قد ورد من طَرِيق ابْن أخري الزُّهْرِيّ وَأبي أويس وَمعمر وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ: إِن رِوَايَة ابْن أخي الزُّهْرِيّ عِنْد الْبَزَّار، وَرِوَايَة أبي أويس عِنْد ابْن سعد وَابْن عدي، وَرِوَايَة معمر ذكرهَا ابْن عدي، وَرِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ ذكرهَا لمزي، وَقيل: يُقَال: إِنَّه يحمل قَول من قَالَ: تفرد بِهِ مَالك،(10/206)
يَعْنِي بِشَرْط الصِّحَّة وَلَيْسَ طَرِيق غير طَرِيق مَالك فِي شَرط الصِّحَّة. فَافْهَم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن أنس) فِي رِوَايَة أبي أويس عِنْد ابْن سعد: أَن أنس بن مَالك حَدثهُ. قَوْله: (وعَلى رَأسه المغفر) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْفَاء، قَالَ ابْن سَيّده، المغفر وَالْمَغْفِرَة والغفارة: زرد ينسج من الدروع على قدر الرَّأْس، وَقيل: هُوَ رَفْرَف الْبَيْضَة، وَقيل: هُوَ حلق يتقنع بِهِ المتسلح، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مَا غطى الرَّأْس من السِّلَاح: كالبيضة وَشبههَا من حَدِيد كَانَ ذَلِك أَو غَيره، وَفِي (الْمَشَارِق) : هُوَ مَا يَجْعَل من فضل درع الْحَدِيد على الرَّأْس مثل القلنسوة. فَإِن قلت: روى زيد بن الْحباب عَن مَالك يَوْم الْفَتْح: وَعَلِيهِ مغفر من حَدِيد، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) وَالْحَاكِم فِي (الإكليل) وَقد مر عَن مُسلم: (دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) . وَبَين الرِّوَايَتَيْنِ تعَارض؟ قلت: قَالَ أَبُو عمر: لَيْسَ عِنْدِي تعَارض، فَإِنَّهُ يُمكن أَن يكون على رَأسه عِمَامَة سَوْدَاء وَعَلَيْهَا المغفر، فَلَا يتعارض الحديثان، وَذكر أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن طَاهِر الداني فِي كِتَابه (أَطْرَاف الْمُوَطَّأ) : لَعَلَّ المغفر كَانَ تَحت الْعِمَامَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ، يكون نزع المغفر عِنْد انقياد أهل مَكَّة وَلبس الْعِمَامَة بعده، وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا خطبَته وَعَلِيهِ الْعِمَامَة، لِأَن الْخطْبَة إِنَّمَا كَانَت عِنْد بَاب الْكَعْبَة بعد تَمام الْفَتْح، وَقيل فِي الْجَواب عَن ذَلِك: إِن الْعِمَامَة السَّوْدَاء كَانَت ملفوفة فَوق المغفر، وَكَانَت تَحت وقاية لراسه من صدى الْحَدِيد فَأَرَادَ أنس بِذكر المغفر كَونه دخل متأهبا للحرب، وَأَرَادَ جَابر بِذكر الْعِمَامَة كَونه دخل غير محرم. قَوْله: (فَلَمَّا نَزعه) أَي: فَلَمَّا قلعه، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى المغفر. قَوْله: (جَاءَهُ رجل) ، وَهُوَ أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الزَّاي، واسْمه نَضْلَة بن عبيد وَجزم بِهِ الْكرْمَانِي والفاكهي فِي (شرح الْعُمْدَة) : قَوْله: (ابْن خطل) مُبْتَدأ أَو خَبره وَهُوَ قَوْله: (مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة) ، وَالْجُمْلَة مقول لقَوْله: (قَالَ) ، أَي: قَالَ ذَلِك الرجل، وَاسم ابْن خطل: عبد الله، وَقيل: هِلَال وَلَيْسَ بِصَحِيح، وهلال اسْم أَخِيه، صرح بذلك الْكَلْبِيّ فِي (النّسَب) وَالأَصَح أَن اسْمه كَانَ عبد الْعُزَّى فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا أسلم سمي عبد الله. وَقيل: هُوَ عبد الله بن هِلَال بن خطل، وَقيل: غَالب بن عبد الله بن خطل، وَاسم خطل عبد منَاف من بني تَمِيم ابْن فهر بن غَالب، وخطل لقب عَلَيْهِ. قَوْله: (فَقَالَ: اقْتُلُوهُ) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقْتُلُوهُ أَي: ابْن خطل فَقتل.
وَاخْتلف فِي اسْم قَاتله، فَقيل: قَتله أَبُو بَرزَة، وَقيل: سعيد بن حُرَيْث المَخْزُومِي، وَقيل: زبير بن الْعَوام، وَجزم ابْن هِشَام فِي (السِّيرَة) بِأَنَّهُ سعيد بن حُرَيْث وَأَبا بَرزَة الْأَسْلَمِيّ اشْتَركَا فِي قَتله. وَفِي حَدِيث سعيد بن يَرْبُوع عِنْد الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أَرْبَعَة لَا أؤمنهم فِي حل وَلَا حرم: الْحُوَيْرِث بن نقيد) بِضَم النُّون وَفتح الْقَاف مصغر (وهلال ابْن خطل، وَمقيس بن صبَابَة، وَعبد الله بن أبي سرح. قَالَ: فَأَما هِلَال بن خطل فَقتله الزبير) . وروى الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) نَحوه من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، لَكِن قَالَ: أَرْبَعَة نفر، وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِن وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلقين بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة. لَكِن قَالَ: عبد الله بن خطل، بدل: هِلَال، وَقَالَ عِكْرِمَة: بدل، الْحُوَيْرِث، وَلم يسم الْمَرْأَتَيْنِ. وَقَالَ: فَأَما عبد الله بن خطل فَأدْرك وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة، فَاسْتَبق إِلَيْهِ سعيد بن حُرَيْث وعمار بن يَاسر فَسبق سعيد عمارا. وَكَانَ أثبت الرجلَيْن فَقتله، وروى ابْن أبي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من طَرِيق الحكم بن عبد الْملك عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَمن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّاس يَوْم فتح مَكَّة إلاَّ أَرْبَعَة من النَّاس: عبد الْعُزَّى بن خطل، وَمقيس بن صبَابَة الْكِنَانِي، وَعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وَأم سارة. فَأَما عبد الْعُزَّى بن خطل فَقتل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: فَقتل بَين الْمقَام وزمزم، وروى الْحَاكِم من طَرِيق أبي معشر عَن يُوسُف بن يَعْقُوب عَن السَّائِب بن زيد، قَالَ: فَأخذ عبد الله بن خطل من تَحت أَسْتَار الْكَعْبَة فَقتل بَين الْمقَام وزمزم، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ أَن أَبَا بَرزَة الْأَسْلَمِيّ قتل ابْن خطل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة، وَرَوَاهُ أَحْمد من وَجه آخر وَهُوَ أصح مَا ورد فِي تعْيين قَاتله. وَبِه جزم البلاذري وَغَيره. وَأهل الْعلم بالأخبار. وَتحمل بَقِيَّة الرِّوَايَات على أَنهم ابتدروا قَتله، فَكَانَ الْمُبَاشر لقَتله أَبُو بَرزَة.
وَقد جمع الْوَاقِدِيّ عَن شُيُوخه أَسمَاء من لم يُؤمن يَوْم الْفَتْح، وَأمر بقتْله عشرَة أنفس: سِتَّة رجال وَأَرْبع نسْوَة، وَالسَّبَب فِي قتل ابْن خطل وَعدم دُخُوله فِي قَوْله (من دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن) مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي: (حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر وَغَيره أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(10/207)
حِين دخل مَكَّة قَالَ: لَا يقتل أحد إلاَّ من قَاتل إلاَّ نَفرا سماهم، فَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِن وَجَدْتُمُوهُمْ تَحت أَسْتَار الْكَعْبَة، مِنْهُم: عبد الله بن خطل وَعبد الله بن سعد) . وَإِنَّمَا أَمر بقتل ابْن خطل لِأَنَّهُ كَانَ مُسلما، فَبَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا وَبعث مَعَه رجلا من الْأَنْصَار وَكَانَ مَعَه مولى يَخْدمه وَكَانَ مُسلما، فَنزل منزلا فَأمر الْمولى أَن يذبح تَيْسًا ويصنع لَهُ طَعَاما ونام، واستيقظ وَلم يصنع لَهُ شَيْئا، فَعدا عَلَيْهِ فَقتله ثمَّ ارْتَدَّ مُشْركًا، وَكَانَت لَهُ قينتان تُغنيَانِ بِهِجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو عمر: لِأَنَّهُ كَانَ أسلم وَبَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا وَبعث مَعَه رجلا من الْأَنْصَار وَأمر عَلَيْهِم الْأنْصَارِيّ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وثب على الْأنْصَارِيّ فَقتله وَذهب بِمَالِه. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وروينا فِي مجَالِس الْجَوْهَرِي أَنه كَانَ يكْتب الْوَحْي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ إِذا نزل: غَفُور رَحِيم، يكْتب: رَحِيم غَفُور، وَإِذا أنزل: سميع عليم، وَذكره بِإِسْنَادِهِ إِلَى الضَّحَّاك عَن النزال بن سُبْرَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَكَانَ يُقَال لِابْنِ خطل: ذَا القلبين، وَفِيه نزل قَوْله: {مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه} (الْأَحْزَاب: 4) . فِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق: لما قتل يَعْنِي ابْن خطل قَالَ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يقتل قرشي صبرا بعد هَذَا الْيَوْم، وَقيل: قَالَ هَذَا فِي غَيره. وَهُوَ الْأَكْثَر، وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك أَن الحَدِيث فِيهِ دلَالَة على جَوَاز دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام. فَإِن قلت: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ محرما، وَلكنه غطى رَأسه لعذر. قلت: قد مر فِي حَدِيث مُسلم عَن جَابر أَنه لم يكن محرما. فَإِن قلت: يشكل هَذَا من وَجه آخر، وَهُوَ أَنه. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ متأهبا لِلْقِتَالِ، وَمن كَانَ هَذَا شَأْنه جَازَ لَهُ الدُّخُول بِغَيْر إِحْرَام قلت: حَدِيث جَابر أَعم من هَذَا، فَمن لم يرد نسكا جَازَ دُخُوله لِحَاجَتِهِ، تكَرر: كالحطاب والحشاش والسقَّاء والصياد وَغَيرهم، أم لم يتَكَرَّر: كالتاجر والزائر وَغَيرهمَا، وَسَوَاء كَانَ آمنا أَو خَائفًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا أصح الْقَوْلَيْنِ للشَّافِعِيّ، وَبِه يُفْتِي أَصْحَابه. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجوز دُخُولهَا بِغَيْر إِحْرَام إِن كَانَت حَاجته لَا تكَرر إلاَّ أَن يكون مُقَاتِلًا أَو خَائفًا من قتال أَو من ظَالِم لَو ظهر، وَنقل القَاضِي نَحْو هَذَا عَن أَكثر الْعلمَاء. انْتهى. وَاحْتج أَيْضا من أجَاز دُخُولهَا بِغَيْر إِحْرَام أَن فرض الْحَج مرّة فِي الدَّهْر، وَكَذَا الْعمرَة، فَمن أوجب على الدَّاخِل إحراما فقد أوجب عَلَيْهِ غير مَا أوجب الله. وَمِنْه: اسْتِدْلَال بَعضهم بِحَدِيث الْبَاب على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتح مَكَّة عنْوَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة والأكثرين. وَقَالَ الشَّافِعِي وَغَيره: فتحت صلحا، وتأولوا هَذَا الحَدِيث على أَن الْقِتَال كَانَ جَائِزا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَكَّة، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ لفعله، وَلَكِن مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَالحهمْ، وَلَكِن لما لم يَأْمَن غدرهم دخل متأهبا. قلت: لَا يعرف فِي شَيْء من الْأَخْبَار صَرِيحًا أَنه صَالحهمْ. وَمِنْه: اسْتِدْلَال بَعضهم على جَوَاز إِقَامَة الْحُدُود وَالْقصاص فِي حرم مَكَّة، قُلْنَا: قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 69) . وَمَتى تعرض إِلَى من التجأ بِهِ يكون سلب الْأَمْن عَنهُ، وَهَذَا لَا يجوز، وَكَانَ قتل ابْن خطل فِي السَّاعَة الَّتِي أحلّت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْه: اسْتِدْلَال جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة على جَوَاز قتل من سبّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه يقتل وَلَا يُسْتَتَاب. وَقَالَ أَبُو عمر: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن خطل كَانَ حَرْبِيّا وَلم يدْخلهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أَمَانه لأهل مَكَّة، بل اسْتَثْنَاهُ مَعَ من اسْتثْنى. وَمِنْه: مَشْرُوعِيَّة لبس المغفر وَغَيره من آلَات السِّلَاح حَال الْخَوْف من الْعَدو، وَأَنه لَا يُنَافِي التَّوَكُّل. وَمِنْه: جَوَاز رفع أَخْبَار أهل الْفساد إِلَى وُلَاة الْأَمر، وَلَا يكون ذَلِك من الْغَيْبَة الْمُحرمَة وَلَا النميمة.
91 - (بَاب إذَا أحْرَمَ جاهِلاً وعلَيْهِ قَمِيصٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحرم شخص حَال كَونه جَاهِلا بِأُمُور الْإِحْرَام، وَالْحَال أَن عَلَيْهِ قَمِيصًا وَلم يدر هَل عَلَيْهِ فديَة فِي ذَلِك أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب لِأَن حَدِيث الْبَاب لَا يُصَرح بِعَدَمِ وجوب الْفِدْيَة. ألاَ ترى أَنه ذكر أَولا أثر عَطاء بن أبي رَبَاح الَّذِي هُوَ رَاوِي حَدِيث الْبَاب، وَلَو كَانَ فهم مِنْهُ وجوب الْفِدْيَة لما خَفِي عَلَيْهِ، فَلذَلِك قَالَ: لَا فديَة عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ إذَا تَطَيَّبَ أوْ لَبِسَ جاهِلاً أوْ نَاسِيا فَلاَ كَفَّارةَ عَلَيْهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (إِذا تطيب) ، أَي: الْمحرم: وجاهلاً وناسيا، حالان، وَيَقُول عَطاء: قَالَ(10/208)
الشَّافِعِي، وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه تجب الْفِدْيَة بالتطيب نَاسِيا، وباللبس نَاسِيا قِيَاسا على الْأكل فِي الصَّلَاة.
7481 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا عَطَاءٌ قَالَ حدَّثني صَفْوَانُ بنُ يَعْلَى عنْ أبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأتاهُ رَجلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فِيهِ أثَرُ صُفْرَةٍ أوْ نَحْوُهُ كانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي تُحِبُّ إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ أنْ تَرَاهُ فنَزَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ. وعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ يَعْنِي فانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فأبْطَلَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل كَانَ قد أحرم بِالْعُمْرَةِ وَعَلِيهِ جُبَّة وَكَانَ جَاهِلا بِأَمْر الْإِحْرَام. فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة لفظ الْقَمِيص، وَالْمَذْكُور فِي الحَدِيث لفظ الْجُبَّة، فَمن أَيْن الْمُطَابقَة؟ قلت: لَا شكّ أَن حكمهمَا وَاحِد فِي التّرْك، وَكَيف لَا والجبة قَمِيص مَعَ شَيْء آخر، لِأَن الْجُبَّة ذَات طاقين.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. الثَّانِي: همام بن يحيى بن دِينَار العوذي الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عَطاء بن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ. الرَّابِع: صَفْوَان بن يعلى التَّمِيمِي أَو التَّيْمِيّ الْمَكِّيّ. الْخَامِس: أَبوهُ يعلى بن أُميَّة، وَيُقَال لَهُ: ابْن منية، وَهِي أمه أُخْت عتبَة بنت غَزوَان، كَانَ عَامل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على نَجْرَان، عداده فِي أهل مَكَّة، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم، وروى عَن عمر عِنْد مُسلم فِي الصَّلَاة، روى عَنهُ ابْنه صَفْوَان عِنْدهمَا، وَعبد الله بن بابية عِنْد مُسلم، وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : يعلى بن أُميَّة، وَهُوَ أَبُو خلف، وَيُقَال: أَبُو خَالِد، وَيُقَال: أَبُو صَفْوَان يعلى بن أُميَّة بن أبي عُبَيْدَة، واسْمه: عبيد، وَيُقَال: زيد بن همام بن الْحَارِث بن بكر بن زيد بن مَالك بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَيعرف بِابْن منية وَهِي أمه، وَيُقَال: جدته، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَاهُ قَتَادَة وَالْحجاج بن أَرْطَأَة وَغير وَاحِد عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: أخرج الطَّرِيق الأول التِّرْمِذِيّ: عَن قُتَيْبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن عبد الْملك بن سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة هشيم: عَن عبد الْملك، وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة هشيم عَن مَنْصُور عَن عَطاء، وَأخرج أبي دَاوُود من رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي بشر بن عَطاء، وَأخرج الطَّرِيق الثَّانِي التِّرْمِذِيّ أَيْضا: عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا أخرجه الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، وَاتفقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ من طَرِيق ابْن جريج وَهَمَّام عَن عَطاء، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة همام، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن جريج، وَرَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة قيس بن سعد عَن عَطاء، وَانْفَرَدَ بِهِ مُسلم من رِوَايَة رَبَاح بن أبي مَعْرُوف عَن عَطاء، وَقَالَ بَعضهم: فِي الْإِسْنَاد صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَهُوَ تَصْحِيف، وَالصَّوَاب مَا ثَبت فِي رِوَايَة غَيره: صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه، فتصحف عَن فَصَارَت ابْن، و: أَبِيه، فَصَارَت: أُميَّة، وَلَيْسَت لِصَفْوَان صُحْبَة وَلَا رُؤْيَة. قلت: لم نجد فِي النّسخ الْكثير الْمُعْتَبرَة إلاَّ: صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه، فَلَا يحْتَاج أَن ينْسب هَذَا التَّصْحِيف إِلَى أبي ذَر، وَلَا إِلَى غَيره.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج، وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن أبي نعيم، وَفِي الْمَغَازِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن أَيْضا عَن مُسَدّد، وَفِي الْحَج أَيْضا. قَالَ أَبُو عَاصِم: وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن شَيبَان بن فروخ عَن همام بِهِ، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن عبد بن حميد وَعَن عَليّ بن خشرم عَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عقبَة بن مكرم وَمُحَمّد بن رَافع كِلَاهُمَا عَن وهب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد رَحمَه الله، فِيهِ عَن عقبَة بن مكرم بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن كثير وَعَن مُحَمَّد بن عِيسَى وَعَن يزِيد بن خَالِد عَن اللَّيْث عَن عَطاء عَن يعلى بن منية عَن أَبِيه، كَذَا قَالَ، وَلم يقل: عَن أبي يعلى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن نوح بن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء، فرقهما وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن لَيْث عَن عَطاء عَن ابْن منية عَن أَبِيه بِهِ. فَافْهَم.(10/209)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَأَتَاهُ رجل) وَفِي رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: (أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بحنين) ، الحَدِيث فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: فَبَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجعرانة وَمَعَهُ نفر من أَصْحَابه جَاءَ رجل) . وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: (رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجعرانة أَعْرَابِيًا قد أحرم وَعَلِيهِ حَبَّة فَأمره أَن يَنْزِعهَا. قَوْله: (عَلَيْهِ جُبَّة) ، جملَة إسمية فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لرجل. قَوْله: (فِيهِ أثر صفرَة) أَي: فِي الرجل، ويروى: (بِهِ) ، أَي بِالرجلِ، ويروى (وَعَلَيْهَا أثر صفرَة) ، أَي: وعَلى الْجُبَّة وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وَعَلِيهِ جُبَّة بهَا أثر من خلوق) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (كَيفَ ترى فِي رجل عَلَيْهِ جُبَّة صوف متضمخ بِطيب؟) وَفِي رِوَايَة: (عَلَيْهِ جُبَّة وَعَلَيْهَا خلوق) ، وَفِي رِوَايَة: (وَهُوَ متضمخ بالخلوق) ، وَفِي رِوَايَة لغيره: (وَعَلِيهِ جُبَّة عَلَيْهَا أثر الزَّعْفَرَان) ، وَفِي رِوَايَة: (وَعَلِيهِ أثر الخلوق) ، وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة نوع من الطّيب يَجْعَل فِيهِ الزَّعْفَرَان. قَوْله: (أَن ترَاهُ) أَن: كلمة مَصْدَرِيَّة، وَهُوَ فِي مَحل النصب على أَنه مفعول لقَوْله: (تحب) . قَوْله: (ثمَّ سري عَنهُ) ، بِضَم السِّين أَي كشف. قَوْله: (إصنع فِي عمرتك مَا تصنع فِي حجك) ، يَعْنِي من الطّواف بِالْبَيْتِ وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَالْحلق والاحتراز عَن مَحْظُورَات الْإِحْرَام فِي الْحَج.
قَوْله: (وعض رجل يَد رجل) ، وَحَدِيث آخر وَمَسْأَلَة مُسْتَقلَّة بذاتها، وَجه تعلقه بِالْبَابِ كَونه من تَتِمَّة الحَدِيث، وَهُوَ مَذْكُور بالتبعية. قَوْله: (تثنيته) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الثَّنية وَاحِدَة الثنايا من السن. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: فِي الْفَم الْأَسْنَان الثنايا والرباعيات والأنياب والضواحك والطواحين والأرحاء والنواجذ، وَهِي سِتَّة وَثَلَاثُونَ، من فَوق وأسفل أَربع ثنايا: ثنيتان من أَسْفَل وثنيتان من فَوق، ثمَّ يَلِي الثنايا أَربع رباعيات، رباعيتان من فَوق ورباعيتان من أَسْفَل ثمَّ يَلِي الرباعيات الأنياب، وَهِي أَرْبَعَة: نابان من فَوق ونابان من أَسْفَل، ثمَّ يَلِي الأنياب الضواحك، وَهِي أَرْبَعَة أضراس إِلَى كل نَاب من أَسْفَل الْفَم وَأَعلاهُ: ضَاحِك ثمَّ يَلِي الضواحك الطواحين والأرحاء، وَهِي سِتَّة عشر فِي كل شقّ ثَمَانِيَة: أَرْبَعَة من فَوق وَأَرْبَعَة من أَسْفَل، ثمَّ يَلِي الأرحاء النواجذ أَرْبَعَة أضراس وَهِي آخر الأضراس نباتا، الْوَاحِد ناجذ. قَوْله: (فأبطله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: جعله هدرا لِأَنَّهُ نَزعهَا دفعا للصائل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَنه احْتج بِهِ عَطاء وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين وَمَالك وَمُحَمّد بن الْحسن على كَرَاهَة اسْتِعْمَال الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، وَذهب مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعُرْوَة بن الزبير وَالْأسود بن يزِيد وخارجة ابْن زيد وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَزفر وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق إِلَى أَنه لَا بَأْس بالتطيب عِنْد الْإِحْرَام، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة أَيْضا وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بِأَن الطّيب الَّذِي كَانَ على ذَلِك الرجل إِنَّمَا كَانَ صفرَة وَهُوَ خلوق، فَذَلِك مَكْرُوه لَا للرجل للْإِحْرَام، وَلكنه لِأَنَّهُ مَكْرُوه فِي نَفسه فِي حَال الْإِحْلَال، وَفِي حَال الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا أُبِيح من الطّيب عِنْد الْإِحْرَام مَا هُوَ حَلَال فِي حَال الْإِحْلَال، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن حَدِيث يعلى الَّذِي رُوِيَ بطرق مُخْتَلفَة، قد بيَّن ذَلِك وأوضح أَن ذَلِك الطّيب الَّذِي أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغسْلِهِ كَانَ خلوفا. وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ فِي كل الْأَحْوَال. وَمِنْه: صِحَة إِحْرَام المتلبس بمحظورات الْإِحْرَام من اللبَاس وَالطّيب. وَمِنْه: عدم جَوَاز لبس الْمخيط كالجبة للْمحرمِ. وَمِنْه: أَنه لَا يجب قطع الْجُبَّة والقميص للْمحرمِ إِذا أَرَادَ نَزعهَا بل لَهُ أَن ينْزع ذَلِك من رَأسه وَإِن أدّى إِلَى الْإِحَاطَة بِرَأْسِهِ خلافًا لمن قَالَ يشقه، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ نزع الْقَمِيص بِمَنْزِلَة اللبَاس، لِأَن الْمحرم لَو حمل على رَأسه ثيابًا أَو غَيرهَا لم يكن بذلك بَأْس، وَلم يدْخل ذَلِك فِيمَا نهى عَنهُ من تَغْطِيَة الرَّأْس بالقلانس وَشبههَا، لِأَنَّهُ غير لابس، فَكَانَ النَّهْي إِنَّمَا وَقع فِي ذَلِك على مَا يَلِيهِ الرَّأْس لَا على مَا يُغطي بِهِ. وَفِيه: مَسْأَلَة العاض، وَسَيذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الدِّيات فِي: بَاب إِذا عض رجلا فَوَقَعت ثناياه عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه وَعَن زُرَارَة بن أوفى (عَن عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رجلا عض يَد رجل فَنزع يَده من فَمه فَوَقَعت ثنيتاه فاختصموا إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ يعَض أحدكُم أَخَاهُ كَمَا يعَض الْفَحْل لَا دِيَة لَك) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فأبطلها) أَي: الدِّيَة، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (فأهدر ثنيته) ، وَبِهَذَا أَخذ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِي أَن المعضوض إِذا نزع يَده فَسَقَطت أَسْنَان العاض وَفك لحيته لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين، وَقَالَ مَالك: يضمن.(10/210)
02 - (بابُ المُحْرَمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ ولَمْ يَأمُرِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فَيجوز إِضَافَته وَيجوز قطعه عَنْهَا فتقدير الْكَلَام فِي الأول: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال الْمحرم يَمُوت بِعَرَفَة، وَفِي الثَّانِي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمحرم يَمُوت. . إِلَى آخِره. قَوْله: (يَمُوت بِعَرَفَة) حَال من الْمحرم، وَلم يَأْمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. عطف عَلَيْهِ، وَلَو قَالَ: مَاتَ بِعَرَفَة بِصِيغَة الْمَاضِي لَكَانَ أوجه، وَالْمرَاد بِبَقِيَّة الْحَج رمي الجمرات وَالْحلق وَطواف الْإِفَاضَة وَغير ذَلِك، وَإِنَّمَا لم يَأْمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يُؤدى عَن هَذَا الْمحرم الَّذِي مَاتَ بِعَرَفَة أَن يُؤدى عَنهُ بَقِيَّة الْحَج لِأَن أثر إِحْرَامه باقٍ أَلا ترى أَنه قَالَ فِي حَقه: (فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا؟) وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا دَال على أَنه لَا يحجّ أحد عَن أحد لِأَنَّهُ عمل بدني كَالصَّلَاةِ لَا تدْخلهَا النِّيَابَة، وَلَو صحت فِيهَا النِّيَابَة لأمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإتمام الْحَج عَن هَذَا.
9481 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ بَيْنا رَجُلٌ واقِفٌ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَةَ إذْ وقعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أوْ قَالَ فأقْعَصَتْهُ فَقَالَ النبيُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وسِدْرٍ وكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ أوْ قَالَ ثَوْبَيْهِ ولاَ تُحَنِّطُوهُ ولاَ تُخَمِّرُوا رَأسَهُ فإنَّ الله يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّي..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر فِيهِ بِأَن يُؤدى عَن هَذَا الْمحرم الَّذِي وقصته دَابَّته بَقِيَّة الْحَج، وَإِنَّمَا أَمر بِغسْلِهِ وتكفينه، وَنهى عَن تحنيطه وتخمير رَأسه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَاتَ على إِحْرَامه، وَلِهَذَا أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ يُلَبِّي، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَأخرجه فِي: بَاب الحنوط للْمَيت عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه فِي بَاب كَيفَ يُكفن الْمحرم عَن أبي نعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه أَيْضا فِيهِ عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير، وَأخرجه هُنَا من ثَلَاث طرق أُخْرَى أَحدهَا عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير، والآخران يأتيان عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْجَنَائِز مستقصىً. قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي، وَكَذَا قَوْله: (أَو قَالَ ثوبيه) .
0581 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ بَيْنا رَجُلٌ واقِفٌ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَةَ إذْ وقعَ عنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أوْ قَالَ فأوْقَصَتْهُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْسِلُوهُ بِماءٍ وسِدْرٍ وكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ ولاَ تَمَسُّوهُ طِيبا ولاَ تُخَمِّرُوا رأسَهُ ولاَ تُحَنِّطُوهُ فإنَّ الله يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيا..
هَذَا الطَّرِيق الثَّانِي عَن سُلَيْمَان بن حَرْب أَيْضا. قَوْله: (فوقصته أَو قَالَ فأوقصته) ، هَذَا شكّ من الرَّاوِي فِي أَن هَذِه الْمَادَّة من الثلاثي الْمُجَرّد أَو من الْمَزِيد فِيهِ، وَقد مر أَن الْمَعْنى: كسرت رَاحِلَته عُنُقه. قَوْله: (وَلَا تمسوه) ، بِفَتْح التَّاء من الْمس، ويروى بِضَم التَّاء من الإمساس. قَوْله: (ملبيا) ، نصب على الْحَال.
12 - (بابُ سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إذَا ماتَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سنة الْمحرم فِي كَيْفيَّة الْغسْل والتكفين، وَغير ذَلِك إِذا مَاتَ فِي إِحْرَامه.
1581 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هُشَيْمٌ قَالَ أخبرنَا أبُو بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ(10/211)
جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رجُلاً كانَ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَقَصَتْهُ ناقَتُهُ وهُوَ محْرِمٌ فَماتَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْسِلُوهُ بِماءٍ وسِدْرٍ وكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ولاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ ولاَ تُخَمِّرُوا رأسَهُ فإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيا..
هَذَا الطَّرِيق الثَّالِث عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن هشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: السّلمِيّ الوَاسِطِيّ عَن أبي بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، واسْمه جَعْفَر بن إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ.
22 - (بابُ الحَجِّ والنُّذُورِ عنِ المَيِّتِ والرَّجُلِ يَحُجُّ عنِ المَرْأةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحَج عَن الْمَيِّت، فِي بَيَان حكم النّذر عَن الْمَيِّت. قَوْله: (وَالنُّذُور) كَذَا هُوَ بِلَفْظ الْجمع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَالْمُنْذر بِلَفْظ الْإِفْرَاد. قَوْله: (وَالرجل) ، بِالْجَرِّ عطف على الْمَجْرُور فِيمَا قبله، أَي: فِي بَيَان حكم الرجل يحجّ عَن الْمَرْأَة، والترجمة مُشْتَمِلَة على حكمين.
2581 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبِي بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ امْرَأَة مِنْ جُهَيْنَةَ جاءتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ فلَمْ تَحُجَّ حَتَّى ماتَتْ أفأحجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أرَأيْتِ لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكِ ديْنٌ أكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا الله فَالله أحَقُ بِالوَفَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (إِن أُمِّي نذرت) إِلَى آخِره، وَفِيه حج عَن نذر الْمَيِّت، وَهُوَ مُطَابق للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله: (وَالرجل يحجّ عَن الْمَرْأَة) نظر، لِأَن لفظ الحَدِيث أَن امْرَأَة سَأَلت عَن نذر كَانَ على أَبِيهَا، فَكَانَ حق التَّرْجَمَة أَن يَقُول: وَالْمَرْأَة تحج عَن الرجل، ثمَّ قَالَ: وَأجَاب ابْن بطال بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاطب الْمَرْأَة بخطاب دخل فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَهُوَ قَوْله: (اقضوا الله) ، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَالَّذِي يظْهر لي أَن البُخَارِيّ أَشَارَ بالترجمة إِلَى رِوَايَة شُعْبَة عَن أبي بشر فِي هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: (أَتَى رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن أُخْتِي نذرت أَن تحج. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فأقضي الله فَهُوَ أَحَق بِالْقضَاءِ) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: التَّرْجَمَة فِي حج الرجل عَن الْمَرْأَة، وَهَذَا: هُوَ حج الْمَرْأَة عَن الْمَرْأَة؟ قلت: يلْزم مِنْهُ التَّرْجَمَة بِالطَّرِيقِ الأولى، وَفِي بعض التراجم الْمَرْأَة تحج عَن الْمَرْأَة. قلت: فِي كل هَذَا نظر، أما جَوَاب ابْن بطال فكاد أَن يكون بَاطِلا، لِأَن خطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُنَا لَيْسَ للمراد خَاصَّة، وَإِنَّمَا هُوَ خطاب لمن كَانَ حَاضرا هُنَاكَ، وَدخُول الْمَرْأَة فِي الْخطاب لَا يَقْتَضِي الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، وَأما جَوَاب هَذَا الْقَائِل فأبعد من الأول، لِأَن التَّرْجَمَة فِي بَاب لَا يُقَال بَينهَا وَبَين حَدِيث مَذْكُور فِي بَاب آخر: إِنَّه مُطَابق لهَذِهِ التَّرْجَمَة، فَالْأَصْل أَن تكون الْمُطَابقَة بَين تَرْجَمَة وَحَدِيث مذكورين فِي بَاب وَاحِد، وَأما جَوَاب الْكرْمَانِي فَفِيهِ دَعْوَى الْأَوْلَوِيَّة بطرِيق الْمُلَازمَة، فَيحْتَاج إِلَى بَيَان بِدَلِيل صَحِيح مُطَابق، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ، فَإِن قَالُوا: يلْزم من ذَلِك تَعْطِيل الْجُزْء الأول من التَّرْجَمَة عَن ذكر الحَدِيث؟ قلت: فعلى مَا ذكرُوا يلْزم تَعْطِيل الْجُزْء الثَّانِي.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين: الوضاح الْيَشْكُرِي وَأَبُو بشر جَعْفَر بن إِيَاس، وَقد مر عَن قريب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُسَدّد، وَفِي النذور عَن آدم عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن بنْدَار عَن غنْدر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن امْرَأَة من جُهَيْنَة) ، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: اسْم قَبيلَة فِي قضاعة، وجهينة بن زيد بن لَيْث بن أسود بن أسلم، بِضَم اللَّام: ابْن ألحاف بن قضاعة بن مَالك بن حمير فِي الْيمن، وَلم يدر(10/212)
اسْم الْمَرْأَة، وَلَكِن روى ابْن وهب عَن عُثْمَان بن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أَبِيه أَن غاثية أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا نذر أَن تمشي إِلَى الْكَعْبَة، فَقَالَ: إقضي عَنْهَا. أخرجه ابْن مَنْدَه فِي حرف الْغَيْن الْمُعْجَمَة من الصحابيات، وَجزم ابْن طَاهِر فِي المبهمات بِأَنَّهُ اسْم لجهينة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي حرف الْغَيْن الْمُعْجَمَة: غايثة، وَقيل: غاثية سَأَلت عَن نذر أمهَا، أرْسلهُ عَطاء الْخُرَاسَانِي، وَلَا يثبت. وغاثية بالثاء الْمُثَلَّثَة بعد الْألف وَبعدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقيل: بِتَقْدِيم الْيَاء آخر الْحُرُوف على الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وروى النَّسَائِيّ: أخبرنَا عمرَان بن مُوسَى بَصرِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الْوَارِث وَهُوَ ابْن سعيد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو التياح واسْمه: يزِيد بن حميد بَصرِي، قَالَ: حَدثنِي مُوسَى بن سَلمَة الهزلي أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: أمرت امْرَأَة سِنَان ابْن سَلمَة الْجُهَنِيّ أَن يسْأَل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن أمهَا مَاتَت وَلم تحج أفيجزىء عَن أمهَا أَن تحج عَنْهَا؟ قَالَ: نعم لَو كَانَ على أمهَا دين فقضته عَنْهَا لم يكن يجزىء عَنْهَا؟ فلتحج عَن أمهَا) .
أَخْبرنِي عُثْمَان بن عبد الله بن خورزاد أنطاكي، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن حَكِيم الأزدري، قَالَ: حَدثنَا حميد بن عبد الرَّحْمَن الرواسِي قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار، (عَن ابْن عَبَّاس: أَن امْرَأَة سَأَلت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أَبِيهَا مَاتَ وَلم يحجّ فَقَالَ: حجي عَن أَبِيك) . أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان وَهُوَ ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار (عَن ابْن عَبَّاس: أَن امْرَأَة من خثعم سَأَلت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَدَاة جمع، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! فَرِيضَة الله فِي الْحَج على عباده أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يسْتَمْسك على الرحل، أحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم) . فَإِن قلت: هَل يصلح أَن يُفَسر بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من هَذِه الْأَحَادِيث الْمُبْهم الَّذِي فِي حَدِيث الْبَاب؟ قلت: لَا يصلح، لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب أَن الْمَرْأَة سَأَلت بِنَفسِهَا، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ من طَرِيق عمرَان بن مُوسَى أَن غَيرهَا سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من جِهَتهَا، وَأما السُّؤَال فِي الْحَدِيثين الآخرين فَعَن مُطلق الْحَج وَلَيْسَ فيهمَا التَّصْرِيح بِأَن الْحجَّة المسؤول عَنْهَا كَانَت نذرا، فَإِن قلت: روى ابْن مَاجَه من طَرِيق مُحَمَّد بن كريب عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس، عَن سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ أَن عمته حدثته أَنَّهَا أَتَت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: إِن أُمِّي توفيت وَعَلَيْهَا مشي إِلَى الْكَعْبَة نذرا) الحَدِيث. قلت: إِن صَحَّ هَذَا فَيحمل على وَاقِعَتَيْنِ بِأَن تكون امْرَأَته سَأَلت على لِسَانه عَن حجَّة أمهَا الْمَفْرُوضَة، وَبِأَن تكون عمته سَأَلت بِنَفسِهَا عَن حجَّة أمهَا الْمَنْذُورَة، وتفسر من فِي حَدِيث الْبَاب بِأَنَّهَا عمَّة سِنَان وَاسْمهَا: غاثية، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (إِن أُمِّي نذرت أَن تحج) هَكَذَا وَقع فِي هَذَا الْبَاب بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُور، وَوَقع فِي النذور من طَرِيق شُعْبَة عَن أبي بشر بِلَفْظ: (أَتَى رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ: إِن أُخْتِي نذرت أَن تحج وَأَنَّهَا مَاتَت) الحَدِيث، فَيحمل على أَن يكون كل من الْأَخ سَأَلَ عَن أُخْته، وَالْبِنْت سؤلت عَن أمهَا. قيل: إِن هَذَا اضْطِرَاب يُعلل بِهِ الحَدِيث، ورد بِأَنَّهُ مَحْمُول على أَن الْمَرْأَة سَأَلت عَن كل من الصَّوْم وَالْحج. قَوْله: (أفأحج عَنْهَا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (قَالَ: نعم) ، أَي: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نعم حجي عَنْهَا، أَي: عَن الْأُم. قَوْله: (أرأيتِ) بِكَسْر التَّاء، أَي: أَخْبِرِينِي. قَوْله: (قاضية) ، على وزن فاعلة، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، ويروى: (قاضيته) ، بالضمير فِي آخِره أَي: قاضية الدّين، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين. قَوْله: (اقضوا الله) أَي: اقضوا حق الله، فَالله أَحَق بوفاء حَقه من غَيره.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز حج الْمَرْأَة عَن أمهَا لأجل الْحجَّة الَّتِي عَلَيْهَا بطرِيق النّذر، وَكَذَا يجوز حج الرجل عَن الْمَرْأَة وَالْعَكْس أَيْضا. وَلَا خلاف فِيهِ إلاَّ لِلْحسنِ بن صَالح، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجوز، وَعبارَة ابْن التِّين الْكَرَاهَة فَقَط، وَهُوَ غَفلَة، وَخُرُوج عَن ظَاهر السّنة، كَمَا قَالَ ابْن الْمُنْذر، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهَا أَن تحج عَن أمهَا وَهُوَ عُمْدَة من أجَاز الْحَج عَن غَيره. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يحجّ أحد عَن أحد، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر وَالقَاسِم وَالنَّخَعِيّ، وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث: لَا يحجّ أحد عَن أحد إلاَّ عَن ميت لم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام وَلَا يَنُوب عَن فَرْضه، فَإِن أوصى الْمَيِّت بذلك فَعِنْدَ مَالك وَأبي حنيفَة يخرج من ثلثه، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ، وَعند الشَّافِعِي: من رَأس مَاله، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِيه أَن الْحجَّة لواجبة من رَأس المَال، كَالدّين، وَإِن لم يوص. وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَعَطَاء وطاووس وَابْن سِيرِين وَمَكْحُول وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر. قلت: مَذْهَب(10/213)
أبي حنيفَة لَيْسَ كَذَلِك، بل مذْهبه أَن من مَاتَ وَعَلِيهِ حجَّة الْإِسْلَام لم يلْزم الْوَرَثَة سَوَاء أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ أَو لَا، خلافًا للشَّافِعِيّ فَإِن أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ مُطلقًا يحجّ عَنهُ من ثلث مَاله، فَإِن بلغ من بَلَده يجب ذَلِك، وَإِن لم يبلغ أَن يحجّ من بَلَده فَالْقِيَاس أَن تبطل الْوَصِيَّة. وَفِي الِاسْتِحْسَان: يحجّ عَنهُ من حَيْثُ بلغ، وَإِن لم يُمكن أَن يحجّ عَنهُ بِثلث مَاله من مَكَان بطلت الْوَصِيَّة وَيُورث عَنهُ. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الْقيَاس، وَضرب الْمثل ليَكُون أوضح وأوقع فِي نفس السَّامع، وَأقرب إِلَى سرعَة فهمه. وَفِيه: تَشْبِيه مَا اخْتلف فِيهِ وأشكل بِمَا اتّفق عَلَيْهِ. وَفِيه: أَنه يسْتَحبّ للمفتي التَّنْبِيه على وَجه الدَّلِيل إِذا ترَتّب على ذَلِك مصلحَة، وَهُوَ أطيب لنَفس المستفتي وأدعى لإذعانه. وَفِيه: أَن وَفَاء الدّين المالي عَن الْمَيِّت كَانَ مَعْلُوما عِنْدهم مقررا، وَلِهَذَا حسن الْإِلْحَاق بِهِ. وَفِيه: مَا احْتج بِهِ الشَّافِعِيَّة على أَن من مَاتَ وَعَلِيهِ حج وَجب على وليه أَن يُجهز من يحجّ عَنهُ من رَأس مَاله، كَمَا أَن عَلَيْهِ قَضَاء دُيُونه، وَقَالُوا: أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه الْحَج بِالدّينِ وَهُوَ مقضي وَإِن لم يوص؟ وَلم يشْتَرط فِي إِجَازَته ذَلِك شَيْئا، وَكَذَلِكَ تشبيهه لَهُ بِالدّينِ يدل على أَن ذَلِك عَلَيْهِ من جَمِيع مَاله دون ثلث مَاله، كَسَائِر الدُّيُون، قُلْنَا: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الْمَيِّت لَيْسَ لَهُ حق إلاَّ فِي ثلث مَاله، وَدين الْعباد أقوى لأجل أَن لَهُ مطالبا بِخِلَاف دين الله تَعَالَى، فَلَا يعْتَبر إلاَّ من الثُّلُث لعدم المنازع فِيهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فِي الحَدِيث إِشْعَار بِأَن المسؤول عَنهُ خلف مَالا فَأخْبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن حق الله مقدم على حق الْعباد، وَاجِب عَلَيْهِ الْحَج عَنهُ. وَالْجَامِع عِلّة الْمَالِيَّة، وَاعْترض بِأَنا لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا يسْتَلْزم قَوْله: (أَكنت قاضية؟) أَن يكون ذَلِك مِمَّا خَلفه، وَيجوز أَن يكون تَبَرعا، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
32 - (بابُ الحَجِّ عَمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحَج عَن الشَّخْص الَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَن يثبت على الرَّاحِلَة، وَهِي المركوب من الْإِبِل، وَقَالَ بَعضهم: أَي من الْإِحْيَاء، قلت: هَذَا تَفْسِير عَبث لِأَن الأذهان قطّ لَا تتبادر إِلَى الْأَمْوَات.
3581 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ الْفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أنَّ امْرَأَة (ح) . حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي سَلَمَةَ قَالَ حدَّثنا ابنُ شِهَابٍ عَن سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ جاءَتِ امْرَأة مِنْ خَثْعَمٍ عامَ الوَدَاعِ قالَتْ يَا رسولَ الله إنَّ فَرِيضَةَ الله عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أدْرَكَتْ أبِي شَيْخا كَبِيرا لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهلْ يَقْضِي عَنْهُ أنْ أحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز وَابْن شهَاب بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان) وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق روح عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي ابْن شهَاب حَدثنِي سُلَيْمَان بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب الَّتِي تَأتي فِي الاسْتِئْذَان: عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي سُلَيْمَان أَخْبرنِي عبد الله بن عَبَّاس. قَوْله: (عَن الْفضل بن عَبَّاس) ، كَذَا قَالَه ابْن جريج وَتَابعه معمر وَخَالَفَهُمَا مَالك وَأكْثر الروَاة عَن الزُّهْرِيّ فَلم يَقُولُوا فِيهِ: عَن الْفضل، وَرُوِيَ عَن التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: البُخَارِيّ عَن هَذَا فَقَالَ: أصح شَيْء فِيهِ مَا روى ابْن عَبَّاس عَن الْفضل، قَالَ: فَيحْتَمل أَن يكون ابْن عَبَّاس سَمعه من الْفضل وَمن غَيره، ثمَّ رَوَاهُ بِغَيْر وَاسِطَة. قَوْله: (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل) فِيهِ انْتِقَال من طَرِيق إِلَى طَرِيق آخر، وَإِنَّمَا رجح الرِّوَايَة عَن الْفضل لِأَنَّهُ كَانَ رَدِيف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ، وَكَانَ ابْن عَبَّاس قد تقدم من مُزْدَلِفَة إِلَى منى مَعَ الضعفة، كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب، وَقد ذكر فِيمَا مضى فِي بَاب التَّلْبِيَة وَالتَّكْبِير من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْدف الْفضل فَأخْبر الْفضل أَنه لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى الْجَمْرَة، فَكَأَن الْفضل حدث أَخَاهُ بِمَا شَاهده فِي تِلْكَ الْحَالة، وَقد يحْتَمل أَن يكون سُؤال(10/214)
الخثعمية وَقع بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة، فحضره ابْن عَبَّاس فنقله تَارَة عَن أَخِيه لكَونه صَاحب الْقِصَّة، وَتارَة عَمَّا شَاهده، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا وَقع عِنْد التِّرْمِذِيّ وَأحمد وَابْنه عبد الله والطبري من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِمَّا يدل على أَن السُّؤَال الْمَذْكُور وَقع عِنْد النَّحْر بعد الْفَرَاغ من الرَّمْي، وَأَن الْعَبَّاس كَانَ شَاهدا، وَلَفظ أَحْمد من طَرِيق عبيد الله بن أبي رَافع، (عَن عَليّ، قَالَ: وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة، فَقَالَ: هَذِه عَرَفَة وَهُوَ الْموقف) فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ أَتَى الْجَمْرَة فَرَمَاهَا، ثمَّ أَتَى المنحر، فَقَالَ: هَذَا المنحر وكل منى منحر، واستفتته) . وَفِي رِوَايَة عبد الله: (ثمَّ جَاءَتْهُ جَارِيَة شَابة من خثعم فَقَالَت: إِن أبي شيخ كَبِير قد أَدْرَكته فَرِيضَة الله فِي الْحَج، أفيجزىء أَن أحج عَنهُ؟ قَالَ: حجي عَن أَبِيك. قَالَ: ولوى عنق الْفضل، فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله {لويت عنق ابْن عمك} قَالَ: رَأَيْت شَابًّا وشابة. فَلم آمن عَلَيْهِمَا الشَّيْطَان) . وَظَاهر هَذَا أَن الْعَبَّاس كَانَ حَاضرا لذَلِك، فَلَا مَانع أَن يكون ابْنه عبد الله أَيْضا كَانَ مَعَه. قَوْله: (حجَّة الْوَدَاع) وَفِي رِوَايَة شُعَيْب الَّتِي تَأتي فِي الاسْتِئْذَان: يَوْم النَّحْر، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب: (غَدَاة جمع) . قَوْله: (شَيخا كَبِيرا) نصب على الِاخْتِصَاص، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: شَيخا حَال، وَفِيه نظر. قَوْله: (لَا يَسْتَطِيع) ، يجوز أَن يكون صفة لَهُ، وَيجوز أَن يكون حَالا. قَوْله: (يقْضِي) أَي: يجزىء أَو يَكْفِي أَو ينفذ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز النِّيَابَة عَن الْعَاجِز، قَالَ أَصْحَابنَا: من قدر على الْحَج بِبدنِهِ لم يجز لَهُ أَن يحجّ عَنهُ غَيره، وَلَو عجز عَنهُ عَجزا لَا يَزُول مثل: الزمانة والعمى جَازَ أَن يحجّ عَنهُ غَيره، وَإِن كَانَ يَزُول: كالمرض وَالْحَبْس، فَإِن اسْتمرّ إِلَى الْمَوْت يجْزِيه وَيلْزمهُ حجَّة الْإِسْلَام. وَفِيه: بر الْوَالِدين بِالْقيامِ بمصالحهما من قَضَاء دين وَحج وخدمة وَغير ذَلِك. وَفِيه: جَوَاز حج الْمَرْأَة عَن الرجل. وَفِيه: جَوَاز استفتاء الْمَرْأَة من أهل الْعلم عِنْد الْحَاجة. وَفِيه: التَّرْغِيب إِلَى الرحلة لطلب الْعلم. فَافْهَم. وَالله أعلم.
42 - (بابُ حَجِّ المَرْأةِ عنِ الرَّجُلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز حج الْمَرْأَة عَن الرجل، وَفِيه خلاف ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
5581 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ الْفَضْلُ رَديفَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَتْ امْرأةٌ مِنْ خَثْعَمَ فجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ فجَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْرِفُ وجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخرِ فقالَتْ إنَّ فَرِيضَةَ الله أدْرَكَتْ أبِي شَيْخا كَبِيرا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أفأحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وذالِكَ فِي حَجِّةِ الوَدَاعِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم) وَهُوَ يخبر بِجَوَاز حج الْمَرْأَة عَن الرجل.
قَوْله: (كَانَ الْفضل) وَهُوَ ابْن عَبَّاس، وَهُوَ أَخُو عبد الله، وَكَانَ أكبر ولد الْعَبَّاس، وَبِه كَانَ يكنى، وَكَانَ شَقِيق عبد الله، وأمهما أم الْفضل لبَابَة الْكُبْرَى بنت الْحَارِث بن حزن الْهِلَالِيَّة، مَاتَ فِي طاعون عمواس بِنَاحِيَة الْأُرْدُن سنة ثَمَانِي عشرَة من الْهِجْرَة فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (رَدِيف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَزَاد شُعَيْب فِي رِوَايَة: (على عجز رَاحِلَته) . قَوْله: (من خثعم) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: قَبيلَة مَشْهُورَة. قَوْله: (فَجعل الْفضل ينظر إِلَيْهَا) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: (وَكَانَ الْفضل رجلا وضيئا) . أَي: جميلاً. (وَأَقْبَلت امْرَأَة من خثعم وضيئة، فَطَفِقَ الْفضل ينظر إِلَيْهَا وَأَعْجَبهُ حسنها. قَوْله: (يصرف وَجه الْفضل) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: (فَالْتَفت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْفضل ينظر إِلَيْهَا فأخلف بِيَدِهِ، فَأخذ بذقن الْفضل فَعدل وَجهه عَن النّظر إِلَيْهَا) . وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ، فِي حَدِيث عَليّ: (وَكَانَ الْفضل غُلَاما جميلاً، فَإِذا جَاءَت الْجَارِيَة من هَذَا الشرق صرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجه الْفضل إِلَى الشق الآخر، فَإِذا جَاءَت إِلَى(10/215)
الشق الآخر صرف وَجهه عَنهُ) . وَقَالَ فِي آخِره: (رَأَيْت غُلَاما حَدثا وَجَارِيَة حدثة، فَخَشِيت أَن يدْخل بَينهمَا الشَّيْطَان) . قَوْله: (إِن فَرِيضَة الله أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز وَشُعَيْب: (إِن فَرِيضَة الله على عباده فِي الْحَج) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق يحيى بن أبي إِسْحَاق عَن سُلَيْمَان بن يشار: (إِن أبي أدْركهُ الْحَج) واتفقت الرِّوَايَات كلهَا عَن ابْن شهَاب على أَن السائلة كَانَت امْرَأَة، وَأَنَّهَا سَأَلت عَن أَبِيهَا وَخَالفهُ يحيى بن أبي إِسْحَاق عَن سُلَيْمَان، فاتفق الروَاة عِنْد عَليّ أَن السَّائِل رجل.
وَاعْلَم أَنهم اخْتلفُوا على سُلَيْمَان بن يسَار فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث وَمَتنه، أما إِسْنَاده فَقَالَ هشيم عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان عَن عبد الله بن عَبَّاس، وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان عَن الْفضل، أخرجهُمَا النَّسَائِيّ وَقَالَ ابْن علية: عَنهُ عَن سُلَيْمَان حَدثنِي أحد ابْني الْعَبَّاس إِمَّا الْفضل وَإِمَّا عبد الله، أخرجه أَحْمد. وَأما الْمَتْن فَقَالَ هشيم: إِن رجلا سَأَلَ فَقَالَ: إِن أبي مَاتَ وَقَالَ ابْن سِيرِين: فجَاء رجل فَقَالَ: إِن أُمِّي عَجُوز كَبِيرَة، وَقَالَ ابْن علية: فجَاء رجل فَقَالَ: إِن أبي وَأمي، وَخَالف الْجَمِيع معمر عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق، فَقَالَ فِي رِوَايَته إِن الْمَرْأَة سَأَلت عَن أمهَا. قَوْله: (لَا يثبت على الرَّاحِلَة) وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز وَشُعَيْب: (لَا يسْتَمْسك على الرحل) ، وَفِي رِوَايَة يحيى بن أبي إِسْحَاق زِيَادَة وَهِي: (إِن شددته خشيت أَن يَمُوت) ، وَكَذَا فِي مُرْسل الْحسن. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه ابْن خُزَيْمَة بِلَفْظ: (وَإِن شددته بالحبل على الرَّاحِلَة خشيت أَن أَقتلهُ) . قَوْله: (أفأحج عَنهُ؟) أَي: أَيجوزُ أَن أنوب عَنهُ؟ وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن مَا بعد الْفَاء الدَّاخِلَة عَلَيْهَا الْهمزَة معطوفة على مُقَدّر، وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز وَشُعَيْب: (فَهَل يقْضى عَنهُ؟) وَفِي حَدِيث عَليّ: (هَل يجزىء عَنهُ؟) قَوْله: (قَالَ: نعم) ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فَقَالَ: أحجج عَن أَبِيك) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الْحَج عَن الْغَيْر وَقد ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: جَوَاز الارتداف. وَفِيه: جَوَاز كَلَام الْمَرْأَة وَسَمَاع صَوتهَا للأجانب عِنْد الضَّرُورَة كالاستفتاء عَن الْعلم والترافع فِي الحكم والمعاملة. وَفِيه: منع النّظر إِلَى الأجنبيات وغض الْبَصَر. وَفِيه: بَيَان مَا ركب فِي الْآدَمِيّ من الشَّهْوَة وَمَا جبلت طباعه عَلَيْهِ من النّظر إِلَى الصُّورَة الْحَسَنَة. وَفِيه: تواضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: ظُهُور منزلَة الْفضل بن عَبَّاس عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: إِزَالَة الْمُنكر بِالْيَدِ.
52 - (بابُ حَجَّةِ الصِّبْيَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر حجَّة الصّبيان فِي الْأَحَادِيث الَّتِي يذكرهَا فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: بَاب حجَّة الصّبيان، أَي مشروعيته. قلت: كَيفَ يَقُول هَكَذَا على الْإِطْلَاق، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب شَيْء يدل صَرِيحًا على مَشْرُوعِيَّة حجتهم وَلَا عدم مشروعيته؟ فَلذَلِك أطلق البُخَارِيّ كَلَامه فِي التَّرْجَمَة وَمَا حكم بِشَيْء. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقِي ركبا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: من الْقَوْم قَالُوا الْمُسلمُونَ فَقَالُوا من أَنْت قَالَ رَسُول الله فَرفعت إِلَيْهِ امْرَأَة صَبيا فَقَالَت لهَذَا حج قَالَ نعم، وَلَك أجر) . قلت: الظَّاهِر أَنه لَيْسَ على شَرط. فَلذَلِك لم يُخرجهُ أَو مَا وقف عَلَيْهِ، وَقد احْتج بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث دَاوُد وَأَصْحَابه من الظَّاهِرِيَّة وَطَائِفَة من أهل الحَدِيث على أَن الصَّبِي إِذا حج قبل بُلُوغه كفى ذَلِك عَن حجَّة الْإِسْلَام، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يحجّ حجَّة أُخْرَى عَن حجَّة الْإِسْلَام، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ من عُلَمَاء الْأَمْصَار: لَا يجزىء الصَّبِي مَا حجه عَن حجَّة الْإِسْلَام، وَعَلِيهِ بعد بُلُوغه حجَّة أُخْرَى.
وَفِي (أَحْكَام ابْن بزيزة) : أما الصَّبِي فقد اخْتلف الْعلمَاء هَل ينْعَقد حجه أم لَا؟ والقائلون بِأَنَّهُ منعقدا اخْتلفُوا هَل يُجزئهُ عَن حجَّة الْفَرِيضَة إِذا بلغ وعقل أم لَا؟ فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد إِلَى أَن حجه ينْعَقد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ينْعَقد، وَاخْتلف هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بانعقاده، فَقَالَ دَاوُد وَغَيره: يُجزئهُ عَن حجَّة الْفَرِيضَة بعد الْبلُوغ، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجْزِيه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ من الْحجَّة على هَؤُلَاءِ أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر أَن للصَّبِيّ حجا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه إِذا حج يجزىء عَن حجَّة الْإِسْلَام. فَإِن قلت: مَا الدَّلِيل على ذَلِك؟ قلت: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الصَّغِير حَتَّى يكبر) . فَإِذا ثَبت أَن الْقَلَم مَرْفُوع عَنهُ ثَبت أَن الْحَج لَيْسَ بمكتوب عَلَيْهِ، كَمَا أَنه إِذا صلى فرضا ثمَّ بلغ بعد ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يُعِيدهَا، ثمَّ إِن عِنْد أبي حنيفَة(10/216)
إِذا أفسد الصَّبِي حجه لَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا فديَة عَلَيْهِ إِذا اصطاد صيدا. وَقَالَ مَالك: يحجّ بِالصَّبِيِّ وَيَرْمِي عَنهُ ويجنب مَا يجتنبه الْكَبِير من الطّيب وَغَيره، فَإِن قوي على الطّواف وَالسَّعْي وَرمي الْجمار وإلاَّ طيف بِهِ مَحْمُولا، وَمَا أَصَابَهُ من صيد أَو لِبَاس أَو طيب فدى عَنهُ. وَقَالَ: الصَّغِير الَّذِي لَا يتَكَلَّم إِذا جرد يَنْوِي بتجريده الْإِحْرَام، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يُغْنِيه تجريده عَن التَّلْبِيَة عَنهُ، فَإِن كَانَ يتَكَلَّم لبّى عَن نَفسه.
6581 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ بعَثَنِي أوْ قَدَّمَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
(انْظُر الحَدِيث 7761 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عَبَّاس كَانَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خجه وَهُوَ مَا دون الْبلُوغ، فَدخل تَحت قَوْله: (بَاب حجَّة الصّبيان) ، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب من قدم ضعفة أَهله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن عبيد الله بن أبي يزِيد الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة، (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جمع بلَيْل) ، وَكَانَ ابْن عَبَّاس هُنَاكَ دون الْبلُوغ، وَلِهَذَا أردفه بحَديثه الآخر الْمُصَرّح فِيهِ بِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ قد قَارب الِاحْتِلَام، وَهَذَا يدل على أَن حجَّة الْإِسْلَام سَقَطت عَن ابْن عَبَّاس.
قَوْله: (أَو قدمني) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (فِي الثّقل) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف الْمَفْتُوحَة وَهُوَ الْأَمْتِعَة، وَالْمرَاد هُنَا آلَات السّفر ومتاع الْمُسَافِرين. قَوْله: (من جمع) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، وَهُوَ: الْمزْدَلِفَة.
8581 - حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا حاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ حُجَّ بِي معَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا ابنُ سَبْعِ سِنِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الرَّحْمَن بن يُونُس بن هَاشم أَبُو مُسلم الْمُسْتَمْلِي الرقي، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، سكن الْمَدِينَة. الثالت: مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الله بن يزِيد ابْن أُخْت نمر، وَأمه ابْنة السَّائِب بن يزِيد. الرَّابِع: السَّائِب بن يزِيد بن سعد الْكِنْدِيّ، وَيُقَال الْأَسدي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ، وَيُقَال: الْهُذلِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن سِتّ وَتِسْعين.(10/217)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده لأمه. لِأَن مُحَمَّد بن يُوسُف حفيد السَّائِب، وَقيل: سبطه، وَقيل: ابْن أَخِيه عبد الله بن يزِيد.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة عَن حَاتِم بِهِ، وَزَاد فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقَالَ: حسن صَحِيح. قَوْله: (حج بِي) ، بِضَم الْحَاء على الْبناء للْمَجْهُول، وَقَالَ ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ عَن حَاتِم: (حجت بِي أُمِّي) ، وروى الفاكهي من وَجه آخر عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن السَّائِب (حج بِي أبي) قيل: وَيجمع بَينهمَا بِأَنَّهُ كَانَ مَعَ أَبَوَيْهِ. قلت: رِوَايَة البُخَارِيّ تحْتَمل الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ الْفَاعِل صَرِيحًا، وَقيل: فِيهِ صِحَة حج الصَّبِي وَإِن لم يكن مُمَيّزا، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ، وَاسْتدلَّ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة على أَن أم الصَّبِي تجزىء فِي الْإِحْرَام عَنهُ. قلت: هَذَا لم يفهم من حَدِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بذلك من حَدِيث جَابر، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن طريف الْكُوفِي حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن مُحَمَّد بن سوقة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر (عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: رفعت امْرَأَة صَبيا لَهَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: نعم، وَلَك أجر) . وروى ابْن مَاجَه أَيْضا نَحوه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث جَابر حَدِيث غَرِيب، وَقد ذكرنَا حَدِيث ابْن عَبَّاس لمُسلم نَحوه فِي أول الْبَاب، قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه يحرم عَنهُ الْوَلِيّ الَّذِي يَلِيهِ مَاله وَهُوَ أَبوهُ أَو جده أَو الْوَصِيّ أَو الْقيم من جِهَة القَاضِي أَو القَاضِي، قَالُوا: وَأما الْأُم فَلَا يَصح إحرامها عَنهُ إلاَّ أَن تكون وَصِيَّة أَو قيمَة من جِهَة القَاضِي، وَأَجَابُوا عَن قَوْله: (وَلَك أجر) أَن المُرَاد أَن ذَلِك بِسَبَب حملهَا لَهُ وتجنيبها إِيَّاه مَا يَفْعَله الْمحرم، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ الْمَرْأَة كَانَت وَصِيَّة عَلَيْهِ أَو قيمَة عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنَّهَا أمه، وَيجوز أَن يكون فِي حجرها بِنَوْع ولَايَة وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن الصَّبِي يُثَاب على طَاعَته وَيكْتب لَهُ حَسَنَاته، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب فِيمَا حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْجُمْهُور، وَفِي حَدِيث السَّائِب الْمَذْكُور صِحَة سَماع الصَّبِي الْمُمَيز، وَهُوَ كَذَلِك، وَخَالف فِي ذَلِك فرقة يسيرَة، وَأنكر أَحْمد على الْقَائِل بذلك، وَقَالَ: قبح الله من يَقُول ذَلِك، وَالْمَسْأَلَة مقررة فِي عُلُوم الحَدِيث.
فَإِن قلت: فِي حَدِيث السَّائِب ذكر سنّ التَّمْيِيز، فَمَا دَلِيل من يصحح حج الصَّبِي إِذا لم يبلغ سنّ التَّمْيِيز؟ قلت: حَدِيث جَابر الْمَذْكُور فَإِن فِيهِ: (فَرفعت امْرَأَة صَبيا) ، وَهَذَا أَعم من أَن يكون فِي سنّ التَّمْيِيز أَو أقل أَو أَكثر إِلَى حد الْبلُوغ، وَعَن الْمَالِكِيَّة قَولَانِ فِي الْحَج بالرضيع، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَرُوِيَ أَن الصّديق حج بِابْن الزبير فِي خرقَة، وَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أحجوا هَذِه الذُّرِّيَّة، وَكَانَ ابْن عمر يجرد صبيانه عِنْد الْإِحْرَام وَيقف بهم المواقف، وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تفعل ذَلِك، وَفعله عُرْوَة بن الزبير، وَقَالَ عَطاء: يجرد الصَّغِير ويلبي عَنهُ ويجنب مَا يجْتَنب الْكَبِير وَيَقْضِي عَنهُ كل شَيْء إلاَّ الصَّلَاة، فَإِن عقل الصَّلَاة صلاهَا، فَإِذا بلغ وَجب عَلَيْهِ الْحَج.
وَاخْتلفُوا فِي الصَّبِي العَبْد يُحرِمان بِالْحَجِّ ثمَّ يَحْتَلِم الصَّبِي وَيعتق العَبْد قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، فَقَالَ مَالك: لَا سَبِيل إِلَى رفض الْإِحْرَام، ويتماديان عَلَيْهِ وَلَا يجزيهما عَن حجه الْإِسْلَام، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا نويا بإحرامهما الْمُتَقَدّم حجَّة الْإِسْلَام أجزأهما. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَيّمَا غُلَام حج بِهِ أَهله فَمَاتَ فقد قضى حجَّة الْإِسْلَام، فَإِن أدْرك فَعَلَيهِ الْحَج، وَأَيّمَا عبد حج بِهِ أَهله فَمَاتَ فقد قضى حجَّة الْإِسْلَام، فَإِن عتق فَعَلَيهِ الْحَج.
9581 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ زُرَارَةَ قَالَ أخبرنَا القَاسِمُ بنُ مالِكٍ عنِ الجُعَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيزِ يَقُولْ لِلْسَّائِبِ بنِ يَزِيدَ وكانَ قدْ حُجَّ بِهِ فِي ثقَلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ قد حج بِهِ) ، فَإِن السَّائِب كَانَ صَبيا حِين حج بِهِ، والترجمة فِي حج الصّبيان، و: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن زُرَارَة، بِضَم الزَّاي وَتَخْفِيف الرَّاء الأولى: ابْن وَاقد الْكلابِي النَّيْسَابُورِي، يكنى أَبَا مُحَمَّد. قَالَ السراج: مَاتَ لعشر خلون من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالقَاسِم بن مَالك الْمُزنِيّ الْكُوفِي، والجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة مُصَغرًا أَو مكبرا: ابْن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: التَّمِيمِي الْمدنِي، وَالَّذِي ذكر هُنَا أَن الجعيد، قَالَ: سَمِعت عمر بن عبد الْعَزِيز يَقُول(10/218)
للسائب، وَلم يذكر مقول عمر وَلَا جَوَاب السَّائِب، وَذَلِكَ لِأَن مَقْصُوده الْإِعْلَام بِأَن السَّائِب حج بِهِ، وَهُوَ صَغِير، وَكَانَ أصل سُؤَاله عَن قدر الْمَدّ على مَا يَأْتِي فِي الْكَفَّارَات، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن الْقَاسِم بن مَالك الجعيد بن عبد الرَّحْمَن عَن السَّائِب ابْن يزِيد قَالَ: كَانَ الصَّاع على عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مدا وَثلثا بمدكم الْيَوْم، فزيد فِيهِ فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَزَاد فِيهِ: (قَالَ السَّائِب: وَقد حج فِي ثقل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا غُلَام) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللَّام فِي قَوْله: للسائب، بِمَعْنى لأجل، يَعْنِي: يَقُول لأَجله وَفِي حَقه، وَالْمقول: وَكَانَ السَّائِب ... إِلَى آخِره، واستبعده بَعضهم. قلت: لَيْسَ مَا قَالَه بِبَعِيد فَإِن ظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِي مَا ذكره لَا سِيمَا إِذا كَانَ الأَصْل مَا ذكره من غير إحالته على شَيْء آخر. فَافْهَم.
62 - (بابُ حَجِّ النِّسَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي باين صفة حج النِّسَاء، هَل هِيَ مثل حج الرِّجَال أم تغايره فِي شَيْء؟
وَقَالَ لي أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ عنْ أبيهِ عنْ جَدِّهِ قَالَ أذِنَ عمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لأِزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخِر حَجَّةٍ حَجَّهَا فبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ وعَبْدَ الرَّحْمانِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ حج النِّسَاء، وَلَكِن فِيهِ زِيَادَة على حج الرِّجَال وَهُوَ الِاحْتِيَاج إِلَى إِذن من يتَوَلَّى أمرهن فِي خروجهن، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي حَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ قَوْله: (أَربع سَمِعتهنَّ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه: (لَا تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعهَا زَوجهَا أَو محرم) . وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور: (مَا خرجت أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْحَج إلاَّ بعد إِذن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب لَهُنَّ، وَأرْسل مَعَهُنَّ من يكون فِي خدمتهن، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، متوقفا فِي ذَلِك أَولا، ثمَّ طهر لَهُ الْجَوَاز، فَأذن لَهُنَّ، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة من غير نَكِير) وروى ابْن سعد من مُرْسل أبي جَعْفَر الباقر، قَالَ: منع عمر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج وَالْعمْرَة، وروى أَيْضا من طَرِيق أم درة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: منعنَا عمر الْحَج وَالْعمْرَة حَتَّى إِذا كَانَ آخر عَام فَأذن لنا، وَهَذَا مُوَافق لحَدِيث الْبَاب، وَيدل على أَن عمر كَانَ يمْنَع أَولا ثمَّ أذن.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد أَبُو مُحَمَّد الْأَزْرَقِيّ، وَيُقَال: الزرقي الْمَكِّيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: أَبوهُ سعد بن إِبْرَاهِيم. الرَّابِع: جده إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَالضَّمِير فِي جده يرجع إِلَى إِبْرَاهِيم لَا إِلَى الْأَب قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ الْحميدِي فِي (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) : قَالَ البرقاني: إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: وَفِي هَذَا نظر. قَالَ (صَاحب التَّلْوِيح) : الَّذِي قَالَه الْحميدِي لَهُ وَجه، وَلقَوْل البرقاني: وَجه أما قَول البرقاني فَيحمل على جد إِبْرَاهِيم الأول وإنكار الْحميدِي صَحِيح، كَأَنَّهُ قَالَ: كَيفَ يكون إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الرَّحْمَن نَفسه يروي عَنهُ شيخ البُخَارِيّ؟ وَقَالَ بَعضهم: ظَاهره أَنه من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمن ذكر مَعَه وإدراكه كَذَلِك مُمكن، لِأَن عمره إِذْ ذالك كَانَ أَكثر من عشر سِنِين، وَقد أثبت سَمَاعه من عمر يَعْقُوب بن شيبَة. قلت: يُقَال: إِنَّه ولد فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشهد الدَّار مَعَ عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَدخل على عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ صَغِير وَسمع مِنْهُ، وروى ابْن سعد هَذَا الحَدِيث عَن الْوَاقِدِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن جده (عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: أَرْسلنِي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَقيل: الْوَاقِدِيّ لَا يُحتج بِهِ. قلت: مَا لِلْوَاقِدِي وَهُوَ إِمَام فِي هَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أحد مَشَايِخ الشَّافِعِي؟
قَوْله: (وَقَالَ لي أَحْمد) أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ لي أَحْمد. وَهَذَا أسْندهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الحكم: أَنبأَنَا الْحسن بن حَلِيم الْمروزِي حَدثنَا أَبُو الموجه أَنبأَنَا عَبْدَانِ أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم يَعْنِي: ابْن سعد عَن أَبِيه عَن جده أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أذن لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَج، فَبعث مَعَهُنَّ عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَنَادَى النَّاس عُثْمَان: ألاَ لَا يدنو مِنْهُنَّ(10/219)
أحد وَلَا ينظر إلَيْهِنَّ إلاَّ مد الْبَصَر، وَهن فِي الهوادج على الْإِبِل، وأنزلهن صدر الشّعب وَنزل عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِذَنبِهِ، فَلم يقْعد إلَيْهِنَّ أحد، قَالَ: رَوَاهُ، يَعْنِي البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) عَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن إِبْرَاهِيم بن سعد مُخْتَصرا: (أذن فِي خروجهن لِلْحَجِّ) ، أَي: فِي سفرهن لأجل الْحَج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن لم يَكُونَا محرمين لَهُنَّ فَكيف أجَاز لَهُنَّ؟ وَفِي الحَدِيث: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة لَيْسَ مَعهَا زَوجهَا أَو ذُو محرم) ؟ قلت: النسْوَة الثِّقَات يقمن مقَام الْمحرم، أَو الرِّجَال كلهم محارم لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَكَيف لَا وحد الْمحرم صَادِق عَلَيْهَا؟
وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمحرم من حرم نِكَاحهَا على التأييد بِسَبَب مُبَاح لحرمتها، وَاحْترز بِقَيْد التأييد عَن أُخْت الْمَرْأَة، وبسبب مُبَاح عَن أم الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة، وَبِقَوْلِهِ: لحرمتها عَن الْمُلَاعنَة لِأَن تَحْرِيمهَا لَيْسَ لحرمتها بل عُقُوبَة وتغليظا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يشْتَرط الْمحرم بل يشْتَرط الْأَمْن على نَفسهَا حَتَّى إِذا كَانَت آمِنَة مطمئنة فلهَا أَن تسير وَحدهَا فِي جملَة الْقَافِلَة، وَلَعَلَّه نظر إِلَى الْعلَّة فعمم الحكم. انْتهى كَلَام الْكرْمَانِي قلت: قَوْله: النسْوَة الثِّقَات يقمن مقَام الْمحرم، مصادمة للْحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سعيد: (لَا تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعهَا زَوجهَا أَو ذُو محرم) ، على مَا يَأْتِي عَن قريب، وَلِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه مُسلم مَرْفُوعا: (لَا يحل لأمرأة أَن تُسَافِر ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم مِنْهَا) . قَوْله: أَو الرِّجَال كلهم محارم لَهُنَّ، لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. هَذَا جَوَاب أبي حنيفَة لحكام الرَّازِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلت أَبَا حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل تُسَافِر الْمَرْأَة بِغَيْر محرم؟ فَقَالَ: لَا، نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا إلاَّ وَمَعَهَا زَوجهَا أَو ذُو محرم مِنْهَا. قَالَ حكام: فَسَأَلت الْعَرْزَمِي؟ فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك. حَدثنِي عَطاء أَن عَائِشَة كَانَت تُسَافِر بِلَا محرم، فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته بذلك، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لم يدر الْعَرْزَمِي مَا روى، كَانَ النَّاس لعَائِشَة محرما، فَمَعَ أَيهمْ سَافَرت فقد سَافَرت بِمحرم، وَلَيْسَ النَّاس لغَيْرهَا من النِّسَاء كَذَلِك، وَلَقَد أحسن أَبُو حنيفَة فِي جَوَابه هَذَا لِأَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلهنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وهم محارم لَهُنَّ، لِأَن الْمحرم من لَا يجوز لَهُ نِكَاحهَا على التأييد، فَكَذَلِك أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ حرَام على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. والعرزمي هُوَ مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي سُلَيْمَان الرَّاوِي الْكُوفِي، فِيهِ مقَال، فَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة، وَعَن أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء لَا يكْتب حَدِيثه، نزل جبانة عَرْزَم بِالْكُوفَةِ فنسب إِلَيْهَا، وعرزم بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي.
قَوْله: وَقَالَ الشَّافِعِي ... إِلَى آخِره، كَذَلِك مصادمة للأحاديث الصَّحِيحَة، لِأَن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدل قطعا على اشْتِرَاط الْمحرم، وَالَّذِي يَقُول لَا يشْتَرط خلاف مَا يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَوله: بل يشْتَرط الْأَمْن على نَفسهَا، دَعْوَى بِلَا دَلِيل، فَأَي دَلِيل دلّ على هَذَا فِي هَذَا الْبَاب، وَاشْتِرَاط الْأَمْن على النَّفس لَيْسَ بمخصوص فِي حق الْمَرْأَة خَاصَّة، بل فِي حق الرِّجَال وَالنِّسَاء كلهم. قَوْله: وَلَعَلَّه نظر ... إِلَى آخِره، من كَلَام الْكرْمَانِي، حمله على هَذَا أريحية العصبية، فَإِنَّهُ لَو أنصف لرجع إِلَى الصَّوَاب.
1681 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا حَبِيبُ بنُ أبِي عَمْرَةَ قَالَ حدَّثَتْنا عائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قُلْتُ يَا رسولَ الله ألاَ نَغْزُو أوْ نُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ لَكُنَّ أحْسَنُ الجِهَادِ وأجْمَلُهُ الحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ فقالَتْ عَائِشَةُ فَلاَ أدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد تقدم عَن عَائِشَة مثله فِي أَوَائِل الْحَج فِي: بَاب فضل الْحَج المبرور أخرجه: عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْمُبَارك عَن خَالِد عَن حبيب بن أبي عمْرَة عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهنا أخرجه: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (أَلا نغزو؟) أَلا، كلمة تسْتَعْمل فِي مثل هَذَا الْموضع للعرض والتحضيض، وَيجوز أَن تكون لِلتَّمَنِّي، لِأَنَّهُ من جملَة موَاضعهَا الَّتِي تسْتَعْمل فِيهَا. قَوْله: (أَو نجاهد؟) شكّ من الرَّاوِي، قيل: هُوَ مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، وَقد رَوَاهُ أَبُو كَامِل عَن أبي عوَانَة شيخ مُسَدّد بِلَفْظ: (أَلا نغزو مَعكُمْ؟) أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقَالَهُ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: الْغَزْو وَالْجهَاد هما لفظان بِمَعْنى وَاحِد، فَمَا الْفَائِدَة فِيهِ؟ قلت: ليسَا بِمَعْنى وَاحِد،(10/220)
فَإِن الْغَزْو الْقَصْد إِلَى الْقِتَال؟ وَالْجهَاد هُوَ بذل الْمَقْدُور فِي الْقِتَال، وَذكر الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ. وَقَالَ بَعضهم: وَأغْرب الْكرْمَانِي ثمَّ نقل كَلَامه، ثمَّ قَالَ: وَكَأَنَّهُ ظن أَن الْألف تتَعَلَّق بنغزو بِالْوَاو، أَو جعل: أَو، بِمَعْنى: الْوَاو. انْتهى. قلت: لم يظنّ الْكرْمَانِي ذَلِك، وَإِنَّمَا اعْتمد فِي كَلَامه على نسخه لَيْسَ فِيهَا كلمة الشَّك، وَفرق بَين الْغَزْو وَالْجهَاد، وَهُوَ فرق حسن. وَأخرج النَّسَائِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق جرير عَن حبيب بِلَفْظ: (أَلا نخرج فنجاهد مَعَك؟) وَأخرج ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق زَائِدَة عَن حبيب مثله، وَزَاد: (فَإنَّا نجد الْجِهَاد أفضل الْعَمَل) . وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي بكر بن عَيَّاش عَن حبيب بِلَفْظ: (لَو جاهدنا مَعَك؟) قَالَ: لَا، جهادكن حج مبرور) ، وَلَفظ البُخَارِيّ من طَرِيق خَالِد الطَّحَّان عَن حبيب: (نرى الْجِهَاد أفضل الْعَمَل) . قَوْله: (لكنَّ) بتَشْديد النُّون جمَاعَة الْمُؤَنَّث، وَهُوَ خبر لأحسن، وَالْحج بدل مِنْهُ، وَحج بدل الْبَدَل، وَيجوز أَن يكون ارْتِفَاع: حج، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ حج مبرور، وَقَالَ التَّيْمِيّ: لَكِن، بتَخْفِيف النُّون وسكونها، و: أحسن، مُبْتَدأ، وَالْحج خَبره، وَفِي رِوَايَة جرير: (حج الْبَيْت حج مبرور) ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَاد من وَجه آخر: عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة بِلَفْظ: (استأذنته نساؤه فِي الْجِهَاد، فَقَالَ: يكفيكن الْحَج) . وروى ابْن مَاجَه من طَرِيق مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن حبيب، (قلت: يَا رَسُول الله! على النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ: نعم، جِهَاد، لَا قتال فِيهِ: الْحَج وَالْعمْرَة) . وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنهم اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْحَجِّ المبرور، فَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يخالطه شَيْء من مأثم، وَقيل: هُوَ المتقبل، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ وَلَا سمعة وَلَا رفث وَلَا فسوق، وَقيل: الَّذِي لم تتعقبه مَعْصِيّة. قَوْله: (فَلَا أدع) أَي: فَلَا أترك.
2681 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍ وعنْ أبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تُسَافِرِ المَرْأةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ولاَ يَدْخلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَالَ رجُلٌ يَا رسولَ الله إنِّي أُرِيدُ أنْ أخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وكَذَا وامْرَأتِي تُريدُ الحَجَّ فَقَالَ اخْرُجْ مَعَهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اخْرُج مَعهَا) لِأَنَّهُ يدل على جَوَاز حج النِّسَاء وخروجهن إِلَى الْحَج مَعَ زوج أَو محرم.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: أَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم، واسْمه نَافِذ. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان، وَإِن عمرا مكي ونافذا حجازي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أبي معبد بِهِ، وَفِي النِّكَاح عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان بِهِ، وَلم يذكر: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاَّ مَعَ ذِي محرم) . وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن ابْن أبي عمر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْمَرْأَة لَا تُسَافِر إلاَّ مَعَ ذِي محرم، وَعُمُوم اللَّفْظ يتَنَاوَل عُمُوم السّفر، فَيَقْتَضِي أَن يحرم سفرها بِدُونِ ذِي محرم مَعهَا، سَوَاء كَانَ سفرها قَلِيلا أَو كثيرا لِلْحَجِّ أَو لغيره، وَإِلَى هَذَا ذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وطاووس والظاهرية، وَاحْتج هَؤُلَاءِ أَيْضا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله قَالَ: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاَّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . أخرجه الطَّحَاوِيّ، وَأخرج الْبَزَّار عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر سفرا، لَا أَدْرِي كم؟ قَالَ: إلاَّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . وَسَيَجِيءُ الْخلاف فِيهِ مَعَ الْجَواب عَن هَذَا، وَفِيه أَن عُمُوم لفظ: (ذِي محرم) يتَنَاوَل ذَوي الْمَحَارِم جَمِيعهَا إلاَّ أَن مَالِكًا كره سفرها مَعَ ابْن زَوجهَا وَإِن كَانَ ذَا محرم مِنْهَا لفساد النَّاس، وَأَن الْمَحْرَمِيَّة فِي هَذَا لَيست فِي المراعاة كمحرمية النّسَب. وَفِيه: حُرْمَة اختلاء الْمَرْأَة مَعَ الأحنبي، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ. وَفِيه: دلَالَة على أَن حج الرجل مَعَ امْرَأَته إِذا أَرَادَت حجَّة الْإِسْلَام أولى من سَفَره إِلَى الْغَزْوَة(10/221)
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أخرج مَعهَا) ، يَعْنِي إِلَى الْحَج، مَعَ كَونه قد كتب فِي الْغَزْو. وَفِيه: دلَالَة على اشْتِرَاط الْمحرم فِي وجوب الْحَج على الْمَرْأَة، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل هُوَ شَرط الْوُجُوب أَو شَرط الْأَدَاء؟ وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن النِّسَاء كُلهنَّ سَوَاء فِي منع الْمَرْأَة عَن السّفر، إلاَّ مَعَ ذِي محرم، إِلَّا مَا نقل عَن أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ أَنه: خصّه بِغَيْر الْعَجُوز الَّتِي لَا تشْتَهى. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الَّذِي قَالَه الْبَاجِيّ تَخْصِيص للْعُمُوم بِالنّظرِ إِلَى الْمَعْنى، يَعْنِي مُرَاعَاة الْأَمر الْأَغْلَب، وَتعقب بِأَن لكل سَاقِطَة لاقطة. فَإِن قلت: يُمكن أَن يحْتَج للباجي فِيمَا قَالَه بِحَدِيث عدي بن حَاتِم مَرْفُوعا: (يُوشك أَن تخرج الظعينة من الْحيرَة تؤم الْبَيْت لَا جوارٍ مَعهَا) الحَدِيث فِي البُخَارِيّ قلت: هَذَا يدل على جوده لَا على جَوَازه، وَأجَاب بَعضهم عَن هَذَا بِأَنَّهُ خبر فِي سِيَاق الْمَدْح وَرفع منار الْإِسْلَام، فَيحمل على الْجَوَاز قلت: هَذَا إِخْبَار من الشَّارِع بِقُوَّة الْإِسْلَام وَكَثْرَة أَهله وَوُقُوع الْأَمْن فَلَا يسْتَلْزم ذَلِك الْجَوَاز. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذِه الْمَسْأَلَة تتَعَلَّق بالعامين إِذا تَعَارضا، فَإِن قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . عَام فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، فمقتضاه أَن الِاسْتِطَاعَة على السّفر إِذا وجدت وَجب الْحَج على الْجَمِيع. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاَّ مَعَ ذِي محرم) عَام فِي كل سفر، فَيدْخل فِيهِ الْحَج، فَمن أخرجه عَنهُ خص الحَدِيث بِعُمُوم الْآيَة، وَمن أدخلهُ فِيهِ خص الْآيَة بِعُمُوم الحَدِيث، فَيحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح من خَارج، وَقد رجح الْمَذْهَب الثَّانِي بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله) ، وَفِيه نظر لكَون النَّهْي عَاما فِي الْمَسَاجِد، فَيخرج عَنهُ الْمَسْجِد الَّذِي يحْتَاج إِلَى السّفر بِحَدِيث النَّهْي. وَفِيه: مَا قَالَه ابْن الْمُنِير يُؤْخَذ من قَوْله: إِنِّي أُرِيد أَن أخرج فِي جَيش كَذَا وَكَذَا، إِن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْحَج على التَّرَاخِي، إِذْ لَو كَانَ على الْفَوْر لما تَأَخّر الرجل مَعَ رفقته الَّذين عينوا فِي تِلْكَ الْغَزْوَة، ورد بِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِم لاحْتِمَال أَن يَكُونُوا قد حجُّوا قبل ذَلِك مَعَ من حج فِي سنة تسع مَعَ أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: مَا أَخذه بَعضهم بِظَاهِر قَوْله: (أخرج مَعهَا) وجوب السّفر على الزَّوْج مَعَ امْرَأَته إِذا لم يكن لَهَا غَيره، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَالْمَشْهُور أَنه لَا يلْزمه كالولي فِي الْحَج عَن الْمَرِيض، فَلَو امْتنع إلاَّ بِأُجْرَة لَزِمَهَا، لِأَنَّهُ من سَبِيلهَا فَصَارَ فِي حَقّهَا كالمؤونة. وَفِيه: تَقْدِيم الأهم من الْأُمُور المتعارضة، فَإِن الرجل لما عرض لَهُ الْغَزْو وَالْحج رجح الْحَج، لِأَن امْرَأَته لَا يقوم غَيره مقَامه فِي السّفر مَعهَا، بِخِلَاف الْغَزْو. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَنه لَيْسَ للزَّوْج منع امْرَأَته من الْحَج الْفَرْض، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَالأَصَح عِنْدهم أَن لَهُ منعهَا لكَون الْحَج على التَّرَاخِي. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق إِبْرَاهِيم الصَّائِغ عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، فِي امْرَأَة لَهَا زوج وَلها مَال وَلَا يَأْذَن لَهَا فِي الْحَج: لَيْسَ لَهَا أَن تَنْطَلِق إلاَّ بِإِذن زَوجهَا قلت: هُوَ مَحْمُول على حج التَّطَوُّع، عملا بِالْحَدِيثين، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على أَن للرجل منع زَوجته من الْخُرُوج إِلَى الْأَسْفَار كلهَا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيمَا كَانَ وَاجِبا.
3681 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ أخبرنَا حَبِيبٌ المُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا رجعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ حَجَّتِهِ قالَ لأِمِّ سِنانٍ الأنْصَارِيَّةِ مَا منَعَكِ مِنَ الحَجِّ قالَتْ أبُو فُلانٍ تَعْنِي زَوْجَهَا كانَ لَهُ ناضِحَانِ حَجَّ عَلَى أحَدِهِمَا والآخَرُ يَسْقِي أرْضا لَنَا قَالَ فإنَّ عُمْرَةً فِي رمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي.
(انْظُر الحَدِيث 2871) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (مَا مَنعك من الْحَج؟) فَإِنَّهُ يدل على أَن للنِّسَاء أَن يحججن، والترجمة فِي حج النِّسَاء، والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَائِل بَاب الْعمرَة فِي: بَاب عمْرَة فِي رَمَضَان، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن عَبْدَانِ، وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة بن أبي رواد الْمروزِي عَن يزِيد بن زُرَيْع مصغر الزَّرْع أبي الْحَارِث عَن حبيب ضد الْعَدو الْمعلم، بِلَفْظ الْفَاعِل من التَّعْلِيم، وَهُوَ ابْن أبي قريبَة، بِضَم الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه زيد، وَقيل: زَائِدَة، وَهُوَ غير حبيب بن أبي عمْرَة الْمَذْكُور فِي ثَانِي أَحَادِيث الْبَاب.(10/222)
قَوْله: (على أَحدهمَا) أَي: أحد الناضحين. قَوْله: (وَالْآخر) أَي: الناضح الآخر. قَوْله: (تقضي حجَّة) يَعْنِي: ثَوَاب الْعمرَة مثل ثَوَاب الْحَج، وَإِن كَانَ ظَاهره يشْعر بِأَن الْعمرَة تقع عَن قَضَاء الْحجَّة فرضا أَو نفلا.
رَوَاهُ ابنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الْملك بن جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَأَرَادَ بِهَذَا تَقْوِيَة طَرِيق حبيب الْمعلم بمتابعة ابْن جريج لَهُ عَن عَطاء، وَفِيه زِيَادَة فَائِدَة وَهِي: تَصْرِيح عَطاء بِسَمَاعِهِ من ابْن عَبَّاس حَيْثُ قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس، وَقد تقدم طَرِيق ابْن جريج مَوْصُولا فِي: بَاب عمْرَة فِي رَمَضَان.
وَقَالَ عُبَيْدُ الله عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَطَاءٍ عنْ جابِرٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عبيد الله بتصغير عبد هُوَ ابْن عَمْرو الرقي عَن عبد الْكَرِيم بن مَالك الْجَزرِي عَن عَطاء بن رَبَاح عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْملك بن وَاقد، قَالَ: حَدثنَا عبيد الله بن عَمْرو عَن عبد الْكَرِيم عَن عَطاء (عَن جَابر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) . وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا بَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ على عَطاء، فَإِن الرَّاوِي عَن عَطاء فِي الْمَوْصُول هُوَ حبيب، وَفِي الْمُعَلق عبد الْكَرِيم، وَفِي الْمُتَابَعَة ابْن جريج، وَلَكِن ترتيبه يدل على تَرْجِيح رِوَايَة ابْن جريج على مَا لَا يخفى.
4681 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنُ عَبْدِ المَلِك بنِ عُمَيْرٍ عنْ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيادٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا سَعِيدٍ وقَدْ غَزَا معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ أرْبَعٌ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ قَالَ يُحَدِّثُهُنَّ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعْجَبْنَنِي وآنَقْنَنِي أنْ لَا تُسَافُرُ امْرَأةٌ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ لَيسَ مَعَهَا زوْجُهَا أوْ ذُو مَحْرَمٍ ولاَ صَوْمَ يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ والأضْحَى ولاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ولاَ تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلَى ثلاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ ومَسْجِدي ومَسْجِدِ الأقْصَى..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لَا تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعهَا زَوجهَا أَو محرم) ، وَجه ذَلِك أَنه إِذا منعت من السّفر هَذِه الْمدَّة بِهَذَا الشَّرْط فالسفر أَعم من أَن يكون لِلْحَجِّ أَو غَيره، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَأخْرجهُ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك إِلَى آخِره، وَفِيه بعض نُقْصَان، فالناظر يعتبره. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (يحدثهن) ، وَوَقع عِنْد الْكشميهني بِلَفْظ: (أَو قَالَ: أخذتهن) ، بِالْخَاءِ والذال المعجمتين من الْأَخْذ، وَمَعْنَاهُ: حملتهن عَنهُ. قَوْله: (وآنقنني) بِفَتْح النونين وَسُكُون الْقَاف، بِلَفْظ جمع مؤنث ماضٍ من بَاب الإفعال أَي: أعجبنني الْكَلِمَات الْأَرْبَع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرر الْمَعْنى باخْتلَاف اللَّفْظ، وَالْعرب تفعل ذَلِك كثيرا للْبَيَان والتوكيد كَقَوْلِه تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . قَوْله: (أَو ذُو محرم) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَعَن أبي ذَر فِي بعض النّسخ: (أَو ذُو محرم محرم) ، الأول: بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء الْمَفْتُوحَة، وَالثَّانِي: بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة أَي: محرم عَلَيْهَا.
وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على أَرْبَعَة أَحْكَام. الأول: سفر الْمَرْأَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ. الثَّانِي: منع صَوْم الْفطر والأضحى، وَسَيَأْتِي بحث ذَلِك فِي كتاب الصّيام. الثَّالِث: منع الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَالْعصر، وَقد تقدم بَحثه فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة. الرَّابِع: منع شدّ الرحل إِلَى غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس.
قَوْله: (أَن لَا تُسَافِر) بِالرَّفْع لَا غير، لِأَن كلمة: أَن، مسفرة لَا ناصبة. قَوْله: (لَيْسَ مَعهَا زَوجهَا) ، وَفِي حَدِيث أبي معبد: (لَا تُسَافِر(10/223)
الْمَرْأَة إلاَّ مَعَ ذِي محرم) فمفهومه أَنَّهَا لَا تُسَافِر مَعَ الزَّوْج وَلَا يعْتَبر هَذَا الْمَفْهُوم، لِأَنَّهُ مَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَهُوَ سَاقِط إِذا كَانَ للْكَلَام مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَهَهُنَا السّفر مَعَ الزَّوْج بطرِيق الأولى. قَوْله: (وَلَا صَوْم يَوْمَيْنِ) صَوْم اسْم لَا ويومين خَبره أَي: لَا صَوْم فِي هذَيْن الْيَوْمَيْنِ، وَيجوز أَن يكون صَوْم مُضَافا إِلَى يَوْمَيْنِ، وَالتَّقْدِير: لَا صَوْم يَوْمَيْنِ ثَابت أَو مَشْرُوع.
ذكر اخْتِلَاف مُدَّة السّفر الممنوعة: فَفِي، رِوَايَة أبي سعيد فِي حَدِيث الْبَاب: (مسيرَة يَوْمَيْنِ) ، وروى عَنهُ: (لَا تُسَافِر ثَلَاثًا) وروى عَنهُ أَيْضا: (لَا تُسَافِر فَوق ثَلَاث) ، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة: (لَا تُسَافِر ثَلَاثًا) ، وَرُوِيَ عَنهُ: (لَا تُسَافِر يَوْمًا وَلَيْلَة) ، وَرُوِيَ عَنهُ: (لَا تُسَافِر يَوْمًا) ، وَرُوِيَ: (لَا تُسَافِر بريدا) ، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر: (لَا تُسَافِر ثَلَاثًا) وَرُوِيَ عَنهُ: (لَا تُسَافِر فَوق ثَلَاث) ، وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: (لَا تُسَافِر ثَلَاثًا) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ والعدني فِي (مُسْنده) وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا كُله لَيْسَ بتنافر وَلَا يخْتَلف، وَقد يكون هَذَا فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة ونوازل مُتَفَرِّقَة، فَحدث كل من سَمعهَا بِمَا بلغه مِنْهَا وَشَاهده، وَإِن حدث بهَا وَاحِد فَحدث مَرَّات بهَا على اخْتِلَاف مَا سَمعهَا، وَقد يُمكن أَن يلفق بَينهَا بِأَن الْيَوْم الْمَذْكُور مُفْرد أَو اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة مُفْردَة، بِمَعْنى الْيَوْم وَاللَّيْلَة المجموعين لِأَن الْيَوْم من اللَّيْل وَاللَّيْل من الْيَوْم، وَيكون ذكره يَوْمَيْنِ مُدَّة مغيبها فِي هَذَا السّفر فِي السّير وَالرُّجُوع، فَأَشَارَ مرّة بمسافة السّفر وَمرَّة بِمدَّة المغيب، وَهَكَذَا ذكر الثَّلَاث، فقد يكون الْيَوْم الْوسط بَين السّير وَالرُّجُوع الَّذِي يقْضِي حَاجَتهَا بِحَيْثُ سَافَرت لَهُ، فتتفق على هَذَا الْأَحَادِيث، وَقد يكون هَذَا كُله تمثيلاً لأَقل الْأَعْدَاد للْوَاحِد إِذْ، الْوَاحِد أول الْعدَد وَأقله، والإثنان أول التكثير وَأقله، وَالثَّلَاث أول الْجمع، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن مثل هَذَا فِي قلَّة الزَّمن لَا يحل لَهَا السّفر فِيهِ مَعَ غير ذِي محرم، فَكيف بِمَا زَاد؟ وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر: (ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا) . وبحسب اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات اخْتلف الْفُقَهَاء فِي تَقْصِير الْمسَافَة وَأَقل السّفر. انْتهى.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدِيث الثَّلَاث وَاجِب اسْتِعْمَاله على كل حَال، وَمَا خَالفه فقد يجب اسْتِعْمَاله إِن كَانَ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا يجب إِن كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم، فَالَّذِي وَجب علينا اسْتِعْمَاله وَالْأَخْذ بِهِ فِي كلا الْوَجْهَيْنِ أولى مِمَّا يجب اسْتِعْمَاله فِي حَال وَتَركه فِي حَال. فَإِن قلت: فِي هَذَا الْبَاب رِوَايَة ابْن عَبَّاس غير مضطربة، وَرِوَايَة غَيره مِمَّن ذَكَرْنَاهُمْ الْآن مضطربة، فَكَانَ الْأَخْذ بِرِوَايَة من روى عَنهُ سالما من الِاضْطِرَاب أولى من رِوَايَة من اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَة عَنهُ، فَحِينَئِذٍ الْأَخْذ بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس أولى لما ذهب إِلَيْهِ النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ، وَقد ذكرنَا أَن مَذْهَب هذَيْن وَمذهب طَاوُوس واالظاهرية عدم جَوَاز سفر الْمَرْأَة مُطلقًا، سَوَاء كَانَ السّفر قَرِيبا أَو بَعيدا، إلاَّ وَمَعَهَا ذُو محرم لَهَا. قلت: رِوَايَة غير ابْن عَبَّاس زَادَت على رِوَايَة ابْن عَبَّاس، فالأخذ بِالزَّائِدِ أولى، وَلَكِن الزَّائِد فِي نَفسه مُخْتَلف، فرجح خبر الثَّلَاث لما ذكره الطَّحَاوِيّ الَّذِي مضى الْآن.
72 - (بابُ مَنْ نَذَرَ المَشْيَ إلَى الْكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من نذر أَن يمشي إِلَى الْكَعْبَة: هَل يجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بذلك أَو لَا؟ وَإِذا وَجب وَترك مَا نَذره قَادِرًا على الْوَفَاء أَو عَاجِزا عَن ذَلِك، فَمَاذَا يلْزمه؟ وَكَذَلِكَ إِذا نذر بذلك إِلَى كل مَكَان مُعظم؟ وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين الْجَواب لِأَن فِي كل حكم من ذَلِك خلافًا وتفصيلاً، ولنذكر بعض شَيْء فِي هَذَا الْبَاب، وَسَيَجِيءُ بَيَانه مفصلا فِي كتاب النّذر، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
5681 - حدَّثنا ابنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا الْفَزَارِيُّ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ حدَّثني ثابِتٌ عنْ أنسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى شَيْخا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ مَا بالُ هَذا قالُوا نَذَر أنْ يَمْشِي قَالَ إنَّ الله عَنْ تَعْذِيبِ هَذا نَفْسَهُ لَغَنِى أمْرَهُ أنْ يَرْكَبَ.
(الحَدِيث 5681 طرفه فِي: 1076) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه جَوَاب لَهَا وَبَيَان لإبهامها.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والفزاري، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء: هُوَ مَرْوَان بن مُعَاوِيَة، وَقد مر فِي فضل صَلَاة الْعَصْر، وَقَالَ ابْن حزم: الْفَزارِيّ هَذَا هُوَ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ، أَو مَرْوَان، كِلَاهُمَا ثِقَة إِمَام، وَأما خلف وَأَبُو نعيم والطرقي وَغَيرهم من أَصْحَاب (الْأَطْرَاف) و (المستخرجات) فَذكرُوا أَنه مَرْوَان، وَرَوَاهُ مُسلم(10/224)
فِي النذور عَن ابْن أبي عمر، حَدثنَا مَرْوَان حَدثنَا حميد فَذكره.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن يزِيد بن زُرَيْع وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن الْمثنى عَن خَالِد بن الْحَارِث، قَالَ حميد: عَن ثَابت (عَن أنس، قَالَ: مر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بشيخ كَبِير يهادى بَين إبنيه، فَقَالَ: مَا بَال هَذَا؟ قَالُوا: نذر يَا رَسُول الله أَن يمشي. قَالَ: إِن الله لَغَنِيّ عَن تَعْذِيب هَذَا نَفسه، فَأمره أَن يركب) . وَقَالَ: حَدثنَا عبد القدوس بن مُحَمَّد الْعَطَّار الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن عَاصِم عَن عمرَان الْقطَّان عَن حميد (عَن أنس، قَالَ: نذرت امْرَأَة أَن تمشي إِلَى بَيت الله تَعَالَى، فَسئلَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن الله لَغَنِيّ عَن مشيها، مروها فلتركب) . وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن ابْن الْمثنى عَن خَالِد، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن حَمَّاد بن مسْعدَة عَن حميد بِهِ.
قَوْله: (حَدثنِي ثَابت) ، هَكَذَا قَالَ أَكثر الروَاة عَن حميد، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا صرح بِهِ حميد فِيهِ بالواسطة بَينه وَبَين أنس، وَقد حَدثهُ فِي وَقت أخر فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق ابْن أبي عدي، كِلَاهُمَا جَمِيعًا عَن حميد بِلَا وَاسِطَة، وَيُقَال: إِن غَالب رِوَايَة حميد عَن أنس بِوَاسِطَة، لَكِن قد أخرج البُخَارِيّ من حَدِيث حميد عَن أنس أَشْيَاء كَثِيرَة بِغَيْر وَاسِطَة، مَعَ الاعتناء بِبَيَان سَمَاعه لَهَا عَن أنس، وَقد وَافق عمرَان الْقطَّان عَن حميد الْجَمَاعَة على إِدْخَال ثَابت بَينه وَبَين أنس لَكِن خالفهم فِي الْمَتْن، أخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيقه بِلَفْظ: نذرت امْرَأَة، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (يهادى) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف على صِيغَة الْمَجْهُول، من المهاداة وَهِي: أَن يمشي بَين اثْنَيْنِ مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق خَالِد بن الْحَارِث عَن حميد: يتهادى، بِفَتْح الْيَاء ثمَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق من بَاب التفاعل، وَالْأول من بَاب المفاعلة. وَفِي (التَّلْوِيح) : الرجل الَّذِي يهادي، قَالَ الْخَطِيب: هُوَ أَبُو إِسْرَائِيل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اسْمه قيس، وَقيل: قَيْصر، انْتهى. قَالَ: وَلم أر مُسَمّى بِهِ فِي الصَّحَابَة. قَوْله: (مَا بَال هَذَا؟) أَي: مَا شَأْنه؟ وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (قَالُوا نذر) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (قَالَ إبناه: يَا رَسُول الله، كَانَ عَلَيْهِ نذر) . قَوْله: (أَن يمشي) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: نذر الْمَشْي. قَوْله: (أمره أَن يركب) ، ويروى: (وَأمره أَن يركب) . أَي: بالركوب، لِأَن: أَن، مَصْدَرِيَّة.
وَاحْتج أهل الظَّاهِر بِهَذَا الحَدِيث وَبِحَدِيث عقبَة الْآتِي فِيهِ، فَقَالُوا: من عجز عَن الْمَشْي فَلَا هدي عَلَيْهِ وَلَا يثبت فِي ذمَّته إلاَّ بِيَقِين، وَلَيْسَ الْمَشْي مِمَّا يُوجب نذرا، وَلِأَن فِيهِ تَعب الْأَبدَان، وَلَيْسَ الْمَاشِي فِي حَال مَشْيه فِي حُرْمَة إِحْرَامه فَلم يجب عَلَيْهِ الْمَشْي، وَلَا بدل مِنْهُ.
وَسَائِر الْفُقَهَاء لَهُم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَقْوَال غير هَذَا القَوْل: الأول: رُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: (من نذر الْمَشْي إِلَى بَيت الله تَعَالَى فعجز عَنهُ أَنه يمشي مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذا عجز ركب وَأهْدى شَاة) . وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحسن، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: وَكَذَا إِن ركب وَهُوَ غير عَاجز، وَيكفر عَن يَمِينه لحنثه، حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: الْهَدْي فِي هَذِه احْتِيَاط من قبل أَنه: من لم يطق شَيْئا سقط عَنهُ، وحجتهم قَوْله: (فلتركب ولتهد) . وَالْقَوْل الثَّانِي: يعود ثمَّ يحجّ مرّة أُخْرَى، ثمَّ يمشي مَا ركب، وَلَا هدي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول ابْن عمر، ذكره مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَالنَّخَعِيّ وَابْن جُبَير. وَالْقَوْل الثَّالِث: يعود فَيَمْشِي مَا ركب وَعَلِيهِ الْهَدْي، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَرُوِيَ عَن النَّخعِيّ وَابْن الْمسيب، وَهُوَ قَول مَالك: جمع عَلَيْهِ الْأَمريْنِ الْمَشْي وَالْهَدْي احْتِيَاطًا.
6681 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخبرَهُمْ قَالَ أخبرَنِي سَعِيدُ بنُ أبي أيُّوبَ أنَّ يَزيدَ بنَ أبِي حَبيبٍ أخبرَهُ أنَّ أبَا الخَيْرِ حدَّثَهُ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِر قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أنْ نَمْشِيَ إلَى بَيْتِ الله وأمَرَتْنِي أنْ أسْتَفْتِيَ لَهَا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَفْتَيْتُهُ فقالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِتَمْشِ ولْتَرْكَبْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ابْن يزِيد التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف بن عبد الرَّحْمَن، من الْأَبْنَاء. الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج.(10/225)
الرَّابِع: سعيد بن أبي أَيُّوب الْخُزَاعِيّ، وَاسم أبي أَيُّوب مِقْلَاص. الْخَامِس: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب أَبُو رَجَاء وَاسم أبي حبيب: سُوَيْد. السَّادِس: أَبُو الْخَيْر واسْمه: مرْثَد بن عبد الله. السَّابِع: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: عَن عقبَة بن عَامر، وَوَقع عِنْد مُسلم وَأحمد وَغَيرهمَا: عَن عقبَة بن عَامر هُوَ الْجُهَنِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه رازي وَأَن هشاما يماني قَاضِي الْيمن وَأَن ابْن جريج مكي وَأَن سعيد بن أبي أَيُّوب وَيزِيد بن أبي حبيب وَأَبا الْخَيْر مصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور: عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى الْمصْرِيّ وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن مُحَمَّد بن أَحْمد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مخلد بن خَالِد السعيدي عَن عبد الرَّزَّاق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نذرت أُخْتِي) ، قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَابْن الْقُسْطَلَانِيّ وَالشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي وَآخَرُونَ: هِيَ أم حبَان، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة بنت عَامر الْأَنْصَارِيَّة، قَالَ بَعضهم: نسبوا ذَلِك لِابْنِ مَاكُولَا، فوهموا، وَقَالَ: وَقد كنت تبِعت من ذكرت. يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ. ثمَّ رجعت. قلت: لَيْسَ ذَاك بوهم، فَإِن الذَّهَبِيّ قَالَ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : أم حبَان بنت عَامر الْأَنْصَارِيَّة أُخْت عقبَة، حَدِيثهَا فِي النّذر، وَقَوله: حَدِيثهَا فِي النّذر، يدل على أَنَّهَا أُخْت عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، وَأما قَوْله: الْأَنْصَارِيَّة، وَهِي لَيست بأنصارية فِي زعم هَذَا الْقَائِل فَيحْتَمل أَن تكون هِيَ من جِهَة الْأُم الْأَنْصَارِيَّة، وَمن جِهَة الْأَب جهنية، وَإِطْلَاق نسبتها إِلَى الْأَنْصَار يكون من هَذِه الْجِهَة، وَلَا مَانع من ذَلِك. قَوْله: (أَن تمشي إِلَى بَيت الله) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أَن تمشي إِلَى بَيت الله حافية) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن، من طَرِيق عبد الله بن مَالك (عَن عقبَة ابْن عَامر الْجُهَنِيّ: أَن أُخْته نذرت أَن تمشي حافسة غير مختمرة) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (نذرت أَن تمشي إِلَى الْكَعْبَة حافية حَاسِرَة) . وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (حافية متحسرة) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن سَالم (عَن عقبَة بن عَامر: وَهِي امْرَأَة ثَقيلَة وَالْمَشْي يشق عَلَيْهَا) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق قَتَادَة عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن عقبَة بن عَامر سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِن أُخْتِي نذرت أَن تمشي إِلَى الْبَيْت، وشكا إِلَيْهِ ضعفها) . قَوْله: (لتمش ولتركب) ، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن مَالك: (مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثَلَاثَة أَيَّام) . وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (مروها فلتختمر ولتركب ولتحج) . وَفِي رِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس الْمَذْكُورَة: (فلتركب ولتهد بَدَنَة) .
قَالَ: وكانَ أبُو الخَيْرِ لاَ يُفَارِقُ عُقْبَةَ
أَي: قَالَ يزِيد بن أبي حبيب: وَكَانَ أَبُو الْخَيْر، وَهُوَ مرْثَد بن عبد الله، وَأَرَادَ بذلك أَن سَماع أبي الْخَيْر لَهُ من عقبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ يَحْيَء بنِ أيُّوبَ عنْ يَزِيدَ عنْ أبِي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ فذَكَرَ الحَدِيثَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد، وَابْن جريج عبد الْملك، وَيحيى بن أَيُّوب أَبُو الْعَبَّاس الغافقي الْمصْرِيّ، مر فِي آخر الْوضُوء، وَيزِيد هُوَ ابْن حبيب الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق، كَذَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج عَن يحيى ابْن أَيُّوب، وَوَافَقَهُ روح بن عبَادَة فِي رِوَايَة مُسلم، قَالَ: وحدثنيه مُحَمَّد بن حَاتِم وَابْن أبي خلف، قَالَا: حَدثنَا روح بن عبَادَة حَدثنَا ابْن جريج أخبرنَا يحيى بن أَيُّوب أَن يزِيد بن أبي حبيب أخبرهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكِلَاهُمَا جعلا شيخ ابْن جريج فِي هَذَا الحَدِيث يحيى بن أَيُّوب، وَخَالَفَهُمَا هِشَام بن يُوسُف حَيْثُ جعل شيخ ابْن جريج فِيهِ سعيد بن أبي أَيُّوب(10/226)
والإسماعيلي رجح الأول لِاتِّفَاق أبي عَاصِم وروح على خلاف مَا قَالَ هِشَام، قيل: يُعَكر عَلَيْهِ أَن عبد الرَّزَّاق وَافق هشاما، وَهُوَ عِنْد مُسلم، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع، حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا ابْن جريج أخبرنَا سعيد بن أبي أَيُّوب أَن يزِيد بن أبي حبيب أخبرهُ أَن أَبَا الْخَيْر حَدثهُ الحَدِيث، وَكَذَلِكَ أخرجه أَحْمد، وَوَافَقَهُمَا مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج وحجاج بن مُحَمَّد عِنْد النَّسَائِيّ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة حفاظ، رَوَوْهُ عَن ابْن جريج عَن سعيد بن أبي أَيُّوب، فَإِن كَانَ التَّرْجِيح بالأكثرية فروايتهم أولى، وَقد عرفت بذلك أَن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى أَن لِابْنِ جريج فِيهِ شيخين وهما: يحيى بن أَيُّوب وَسَعِيد بن أبي أَيُّوب.
بِسْمِ الله الرحْمانِ الرَّحِيمِ
92 - (كتاب فَضَائِل الْمَدِينَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فَضَائِل مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْمَدِينَة إِذا أطلقت يتَبَادَر إِلَى الْفَهم أَنَّهَا الْمَدِينَة الَّتِي هَاجر إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدفن بهَا، وَإِذا أُرِيد غَيرهَا فَلَا بُد من قيد للتمييز، وَذَلِكَ كالبيت إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الْكَعْبَة، والنجم إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الثريا، واشتقاقها من مَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ، وَهِي فِي مستوٍ من الأَرْض لَهَا نخيل كثير وَالْغَالِب على أرْضهَا السباخ، وَعَلَيْهَا سور من لبن وَكَانَ اسْمهَا قبل ذَلِك: يثرب، قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب} (الْأَحْزَاب: 31) . ويثرب اسْم لموْضِع مِنْهَا سميت كلهَا بِهِ، وَقيل: سميت بِيَثْرِب بن قانية من ولد إرم بن سَام بن نوح، لِأَنَّهُ أول من نزلها، حَكَاهُ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ، وَقَالَ هِشَام بن الْكَلْبِيّ: لما أهلك الله قوم عَاد تَفَرَّقت الْقَبَائِل، فَنزل قوم بِمَكَّة وَقوم بِالطَّائِف وَسَار يثرب بن هُذَيْل بن إرم وَقَومه فنزلوا مَوضِع الْمَدِينَة، فَاسْتَخْرَجُوا الْعُيُون وغرسوا النخيل وَأَقَامُوا زَمَانا فأفسدوا فأهلكهم الله تَعَالَى، ويبست النخيل وَغَارَتْ الْعُيُون حَتَّى مر بهَا تبع فبناها، وَاخْتلفُوا فِيهَا، فَمنهمْ من يَقُول: إِنَّهَا من بِلَاد الْيمن، وَمِنْهُم من يَقُول: إِنَّهَا من بِلَاد الشَّام، وَقيل: إِنَّهَا عراقية، وَبَينهَا وَبَين الْعرَاق أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَالأَصَح أَنَّهَا من بِلَاد الْيمن، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بناها تبع الْأَكْبَر حِين بشر بمبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخْبر أَنه إِنَّمَا يكون فِي مَدِينَة يثرب، وَكَانَت يثرب يَوْمئِذٍ صحراء فبناها لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكتب بذلك عهدا. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لما نزل تبع الْمَدِينَة نزل بوادي قناة وحفر فِيهِ بِئْرا فَهِيَ إِلَى الْيَوْم تدعى ببئر الْملك، وَذكر أَيْضا أَن الدَّار الَّتِي نزلها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ الدَّار الَّتِي بناها تبع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: وَمن يَوْم مَاتَ تبع إِلَى مولد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف سنة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم، وَيُقَال: كَانَ سكان الْمَدِينَة العماليق، ثمَّ نزلها طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل قيل: أرسلهم مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، كَمَا ذكره الزبير بن بكار، ثمَّ نزلها الْأَوْس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بِسَبَب سيل العرم، والأوس والخزرج أَخَوان، وأمهما: قيلة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة، وهما الْأَنْصَار، مِنْهُم الأوسيون وَمِنْهُم الخزرجيون، وَقد ذكرنَا أَن اسْم الْمَدِينَة كَانَ يثرب، فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طيبَة وطابة، وَمن أسمائها: الْعَذْرَاء، وجابرة، ومجبورة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، قصمت الْجَبَابِرَة. وَلم تزل عزيزة فِي الْجَاهِلِيَّة، وأعمها الله بمهاجرة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمنعت على الْمُلُوك من التبابعة وَغَيرهم.
1 - (بابُ حَرَمِ المَدِينَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل حرم الْمَدِينَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب مَا جَاءَ فِي حرم الْمَدِينَة، وَهُوَ رِوَايَة أبي عَليّ الشبوي، وَلم يذكر فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين إلاَّ بَاب حرم الْمَدِينَة لَيْسَ إلاَّ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب فَضَائِل الْمَدِينَة، ثمَّ: بَاب حرم الْمَدِينَة، وَالْحرم وَالْحرَام وَاحِد، كزمن وزمان، وَالْحرَام: الْمَمْنُوع مِنْهُ إِمَّا بتسخير إلاهي، إو بِمَنْع شَرْعِي. أَو بِمَنْع من جِهَة الْعقل، أَو من جِهَة من يرتسم أمره، وَسمي الْحرم حرما لتَحْرِيم كثير فِيهِ مِمَّا لَيْسَ بِمحرم فِي غَيره من الْمَوَاضِع، وَمِنْه الشَّهْر الْحَرَام وَهُوَ مَأْخُوذ من الْحُرْمَة، وَهُوَ مَا لَا يحل انتهاكه.
7681 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا ثابِتُ بنُ يَزِيدَ قَالَ حَدثنَا عاصمٌ أبُو عَبدِ الرَّحْمانِ الأحْوَلُ(10/227)
عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا ولاَ يُحْدَثُ فِيها حَدَثٌ مَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْمَدِينَة حرم من كَذَا إِلَى كَذَا) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. الثَّانِي: ثَابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة فِي أَوله: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة مر فِي: بَاب ميمنة الْمَسْجِد. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول، أَبُو عبد الله، وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَقد مر فِي: بَاب الْأَذَان. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: أَن ثَابتا يُقَال لَهُ الْأَحول، وَكَذَلِكَ عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. وَفِيه: عَن أنس وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد عَن عَاصِم: قلت لأنس، وَفِي الِاعْتِصَام: سَأَلت أنسا، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسلم. وَفِيه: أَنه من الرباعيات.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن عَامر بن عمر وَعَن زُهَيْر بن حَرْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمَدِينَة حرم) ، أَي: مُحرمَة لَا تنتهك حرمتهَا. قَوْله: (من كَذَا إِلَى كَذَا) ، هَكَذَا جَاءَ من غير بَيَان، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب عَن عَليّ: مَا بَين عائر إِلَى كَذَا، وَذكره فِي الْجِزْيَة وَغَيرهَا بِلَفْظ: عير وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: قَوْله: من غير إِلَى كَذَا، سكت عَن النِّهَايَة، وَقد جَاءَ فِي طَرِيق آخر: (مَا بَين عير إِلَى ثَوْر) . وَقَالَ: وَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ أسقطها عمدا لِأَن أهل الْمَدِينَة يُنكرُونَ أَن يكون بهَا جبل يُسمى ثورا، وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، فَلَمَّا تحقق عِنْد البُخَارِيّ أَنه وهم أسْقطه، وَذكر بَقِيَّة الحَدِيث، وَهُوَ مُقَيّد يَعْنِي بقوله: (من عير إِلَى كَذَا) ، إِذْ الْبدَاءَة يتَعَلَّق بهَا حكم فَلَا يتْرك لإشكال سنح فِي حكم النِّهَايَة. انْتهى. وَقد أنكر مُصعب الزُّهْرِيّ وَغَيره هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ أَعنِي: عيرًا وثورا، وَقَالُوا: لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عير وَلَا ثَوْر، وَقَالَ مُصعب: عير بِمَكَّة، وَمِنْهُم من ترك مَكَانَهُ بَيَاضًا إِذا اعتقدوا الْخَطَأ فِي ذكره، وَقَالَ أَبُو عبيد: كَانَ الحَدِيث: من غير إِلَى أحد. قلت: اتّفقت رِوَايَات البُخَارِيّ كلهَا على إِبْهَام الثَّانِي، وَوَقع عِنْد مُسلم: إِلَى ثَوْر، وَقَالَ أَبُو عبيد. قَوْله: (مَا بَين عير إِلَى ثَوْر) ، هَذِه رِوَايَة أهل الْعرَاق، وَأما أهل الْمَدِينَة فَلَا يعْرفُونَ جبلا عِنْدهم يُقَال لَهُ ثَوْر، وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، ونرى أَن أصل الحَدِيث: مَا بَين عير إِلَى أحد، وَقد وَقع ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن سَلام عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، وَقَالَ عِيَاض: لَا معنى لإنكار عير بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ مَعْرُوف. وَفِي (الْمُحكم) و (المثلث) : عير إسم جبل بِقرب الْمَدِينَة مَعْرُوف، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي (الْأَحْكَام) . بعد حِكَايَة كَلَام أبي عبيد وَمن تبعه: قد أَخْبرنِي الثِّقَة الْعَالم أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام الْبَصْرِيّ أَن حذاء أحد عَن يسَاره جانحا إِلَى وَرَائه جبل صَغِير يُقَال لَهُ ثَوْر، وَأخْبر أَنه تكَرر سُؤَاله عَنهُ لطوائف من الْعَرَب العارفين بِتِلْكَ الأَرْض وَمَا فِيهَا من الْجبَال، فَكل أخبر أَن ذَلِك الْجَبَل اسْمه ثَوْر، وتواردوا على ذَلِك، قَالَ: فَعلمنَا أَن ذكر ثَوْر فِي الحَدِيث صَحِيح، وَأَن عدم علم أكَابِر الْعلمَاء بِهِ لعدم شهرته وَعدم بحثهم عَنهُ، وَذكر الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي، رَحمَه الله، فِي (شَرحه) : حكى لنا شَيخنَا الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام بن مزروع الْبَصْرِيّ، أَنه خرج رَسُولا إِلَى الْعرَاق، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة كَانَ مَعَه دَلِيل فَكَانَ يذكر لَهُ الْأَمَاكِن وَالْجِبَال، قَالَ: فَلَمَّا وصلنا إِلَى أحد إِذا بِقُرْبِهِ جبيل صَغِير، فَسَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: هَذَا يُسمى ثورا. قَالَ: فَعلمت صِحَة الرِّوَايَة، وَقَالَ ابْن قدامَة: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِقْدَار مَا بَين عير وثور، لَا أَنَّهُمَا بعينهما فِي الْمَدِينَة، أَو سمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجبلين اللَّذين نظر فِي الْمَدِينَة عيرًا وثورا تحوزا وارتجالاً. قلت: العير، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. وثور، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْوَاو، ويروى مَا بَين: عائر إِلَى كَذَا، بِأَلف بعد الْعين. قَوْله: (لَا يقطع شَجَرهَا) ، وَفِي رِوَايَة يزِيد بن هَارُون: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) ، وَفِي حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم: (لَا يقطع عضاهها وَلَا يصاد صيدها) . قَوْله: (وَلَا يحدث) بِلَفْظ الْمَعْلُوم والمجهول: أَي: لَا يعْمل فِيهَا عمل مُخَالف للْكتاب وَالسّنة، وَزَاد شُعْبَة فِيهِ عَن عَاصِم عِنْد أبي عوَانَة: (أَو آوى مُحدثا) . وَهَذِه الزِّيَادَة صَحِيحَة إلاَّ أَن عَاصِمًا لم يسْمعهَا من أنس. قَوْله: (حَدثا) هُوَ الْأَمر الْحَادِث الْمُنكر الَّذِي لَيْسَ بمعتاد وَلَا مَعْرُوف فِي السّنة، والمحدث يرْوى بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، فَمَعْنَى الْكسر من:(10/228)
نصر جانيا وآوه وَأَجَارَهُ من خَصمه وَحَال بَينه وَبَين أَن يقْتَصّ مِنْهُ، وَالْفَتْح هُوَ الْأَمر المبتدع نَفسه. قَوْله: (فَعَلَيهِ لعنة الله. .) إِلَى آخِره، هَذَا وَعِيد شَدِيد لمن ارْتكب هَذَا، قَالُوا: المُرَاد باللعن هُنَا الْعَذَاب الَّذِي يسْتَحقّهُ على ذَنبه والطرد عَن الْجنَّة، لِأَن اللَّعْن فِي اللُّغَة هُوَ الطّرق والإبعاد، وَلَيْسَ هِيَ كلعنة الْكفَّار الَّذين يبعدون من رَحْمَة الله تَعَالَى كل الإبعاد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن أبي ذِئْب وَالزهْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالُوا: الْمَدِينَة لَهَا حرم فَلَا يجوز قطع شَجَرهَا وَلَا أَخذ صيدها، وَلكنه لَا يجب الْجَزَاء فِيهِ عِنْدهم، خلافًا لِابْنِ أبي ذِئْب، فَإِنَّهُ قَالَ: يجب الْجَزَاء، وَكَذَلِكَ لَا يحل سلب من يفعل ذَلِك عِنْدهم إلاَّ الشَّافِعِي، وَقَالَ فِي الْقَدِيم: من اصطاد فِي الْمَدِينَة صيدا أَخذ سلب، ويروي فِيهِ أثرا عَن سعيد، وَقَالَ فِي الْجَدِيد بِخِلَافِهِ، وَقَالَ ابْن نَافِع: سُئِلَ مَالك عَن قطع سدر الْمَدِينَة وَمَا جَاءَ فِيهِ من النَّهْي؟ فَقَالَ: إِنَّمَا نهى عَن قطع سدر الْمَدِينَة لِئَلَّا توحش وليبقى فِيهَا شَجَرهَا ويستأنس بذلك ويستظل بِهِ من هَاجر إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْن حزم: من احتطب فِي حرم الْمَدِينَة فحلال سلبه كل مَا مَعَه فِي حَاله تِلْكَ، وتجريده إلاَّ مَا يستر عَوْرَته فَقَط، لما روى مُسلم: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد جَمِيعًا عَن الْعَقدي قَالَ عبد: أخبرنَا عبد الْملك بن عمر، وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن جَعْفَر عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد عَن عَامر بن سعد أَن سَعْدا ركب إِلَى قصره بالعقيق، فَوجدَ عبدا يقطع شَجرا ويخبطه، فسلبه، فَلَمَّا رَجَعَ سعد جَاءَهُ أهل العَبْد فكلموه أَن يرد على غلامهم أَو عَلَيْهِم مَا أَخذ من غلامهم، فَقَالَ: معَاذ الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأبى أَن يردهُ عَلَيْهِم، وَقَالَ الثَّوْريّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ للمدينة حرم كَمَا كَانَ لمَكَّة، فَلَا يمْنَع أحد من أَخذ صيدها وَقطع شَجَرهَا، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لَا لِأَنَّهُ لما ذَكرُوهُ من تَحْرِيم صيد الْمَدِينَة وشجرها، بل إِنَّمَا أَرَادَ بذلك بَقَاء زِينَة الْمَدِينَة ليستطيبوها ويألفوها، كَمَا ذكرنَا عَن قريب عَن ابْن نَافِع: سُئِلَ مَالك عَن قطع سدر الْمَدِينَة إِلَى آخِره، وَذَلِكَ كمنعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هدم آطام الْمَدِينَة. وَقَالَ: إِنَّهَا زِينَة الْمَدِينَة على مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، عَن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن معِين، قَالَ: حَدثنَا وهب بن جرير عَن الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن آطام الْمَدِينَة أَن تهدم) . وَفِي رِوَايَة: (لَا تهدموا الْآطَام فَإِنَّهَا زِينَة الْمَدِينَة) . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) والآطام جمع أَطَم، بِضَم الْهمزَة والطاء، وَهُوَ بِنَاء مُرْتَفع، وَأَرَادَ بآطام الْمَدِينَة أبنيتها المرتفعة كالحصون، ثمَّ ذكر الطَّحَاوِيّ دَلِيلا على ذَلِك من حَدِيث حميد الطَّوِيل عَن أنس، قَالَ: (كَانَ لآل أبي طَلْحَة ابْن من أم سليم يُقَال لَهُ: أَبُو عُمَيْر، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضاحكه إِذا دخل، وَكَانَ لَهُ نغير، فَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى أَبَا عُمَيْر حَزينًا فَقَالَ: مَا شَأْن أبي عُمَيْر؟ فَقيل: يَا رَسُول الله {مَاتَ نغيره. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا عُمَيْر} مَا فعل النغير؟) . وَأخرجه من أَربع طرق. وَأخرجه مُسلم أَيْضا: حَدثنَا شَيبَان بن فروخ، قَالَ: حَدثنَا عبد الْوَارِث عَن أبي التياح (عَن أنس بن مَالك قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن النَّاس خلقا، وَكَانَ لي أَخ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْر، قَالَ: وَأَحْسبهُ قَالَ: فطيما، قَالَ: فَكَانَ إِذا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَآهُ قَالَ: أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير؟ قَالَ: فَكَانَ يلْعَب بِهِ) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَالْبَزَّار فِي (مُسْنده) . وَاسم أبي طَلْحَة زيد بن أبي سهل الْأنْصَارِيّ وَأم سليم بنت ملْحَان أم أنس بن مَالك، وَاسْمهَا سهلة أَو رميلة أَو مليكَة. ونغير، بِضَم النُّون وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: مصغر نغر، وَهُوَ طَائِر يشبه العصفور أَحْمَر المنقار، وَيجمع على: نغران، قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا قد كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَلَو كَانَ حكم صيدها كَحكم صيد مَكَّة إِذا لما أطلق لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبس النغير وَلَا اللّعب بِهِ كَمَا لَا يُطلق ذَلِك بِمَكَّة، وَقَالَ بَعضهم: احْتج الطَّحَاوِيّ بِحَدِيث أنس فِي قصَّة أبي عُمَيْر. وَنقل عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ قَالَ: وَأجِيب: بِاحْتِمَال أَن يكون من صيد الْحل، انْتهى.
قلت: لَا تقوم الْحجَّة بِالِاحْتِمَالِ الَّذِي لَا ينشأ عَن دَلِيل، واعترضوا أَيْضا بِأَنَّهُ يجوز أَن يكون من صيد الْحل ثمَّ أدخلهُ الْمَدِينَة، وردَّ بِأَن صيد الْحل إِذا أَدخل الْحرم يجب عَلَيْهِ إرْسَاله فَلَا يرد علينا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ قَائِل: فقد يجوز أَن يكون هَذَا الحَدِيث بقناة، وَذَلِكَ الْموضع غير مَوضِع الْحرم فَلَا حجَّة لكم فِي هَذَا الحَدِيث، فَنَظَرْنَا هَل نجد مِمَّا سوى هَذَا الحَدِيث مَا يدل على شَيْء من حكم صيد الْمَدِينَة؟ فَإِذا عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الدِّمَشْقِي وفهد قد حدثانا، قَالَا: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: حَدثنَا يُونُس بن أبي إِسْحَاق (عَن مُجَاهِد، قَالَ: قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ لآل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحش فَإِذا خرج لعب وَاشْتَدَّ وَأَقْبل وَأدبر، فَإِذا أحس(10/229)
برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد دخل ربض فَلم يترمرم كَرَاهَة أَن يُؤْذِيه) . فَهَذَا بِالْمَدِينَةِ فِي مَوضِع قد دخل فِيمَا حرم مِنْهَا، وَقد كَانُوا يؤوون فِيهِ الوحوش ويتخذونها ويغلقون دونهَا الْأَبْوَاب، وَقد دلّ هَذَا أَيْضا على أَن حكم الْمَدِينَة فِي ذَلِك بِخِلَاف حكم صلَة قلت: وَإِسْنَاده صَحِيح وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي مُسْند والوحش أحد الوحوش وَهِي حَيَوَان الْبر. قَوْله (ربض) من الربوض وربوض الْغنم وَالْبَقر وَالْفرس وَالْكَلب كبروك الْجمل وحشوم الطير. قَوْله: (لم يترمرم) ، من ترمرم إِذا حرك فَاه للْكَلَام، وَهِي بالراءين الْمُهْمَلَتَيْنِ.
وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن (عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يصيد وَيَأْتِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من صَيْده فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ ثمَّ جَاءَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا الَّذِي حَبسك؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله انْتَفَى عَنَّا الصَّيْد فصرنا نصيد مَا بَين تيت إِلَى قناة، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما أَنَّك لَو كنت تصيد بالعقيق لشيَّعتُك، إِذا ذهبت. وتلقَيْتُك إِذا جِئْت، فَإِنِّي أحب العقيق) . وَأخرجه من ثَلَاث طرق وَأخرجه من ثَلَاث طرق وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على إِبَاحَة صيد الْمَدِينَة، أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد دلّ سَلمَة وهوبها على مَوضِع الصَّيْد وَذَلِكَ لَا يحل بِمَكَّة، فَثَبت أَن حكم صيد الْمَدِينَة خلاف حكم صيد مَكَّة. قَوْله: (تيت) ، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة أُخْرَى، وَيُقَال: تيَّت، على وزن سيد، وَقَالَ الصَّاغَانِي: هُوَ جبل قرب الْمَدِينَة على بريد مِنْهَا.
وَأما الْجَواب عَن حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي أَمر السَّلب فَهُوَ أَنه كَانَ فِي وَقت مَا كَانَت الْعُقُوبَات الَّتِي تجب بِالْمَعَاصِي فِي الْأَمْوَال، فَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الزَّكَاة أَنه قَالَ: من أَدَّاهَا طَائِعا لَهُ أجرهَا وَمن لَا، أخذناها مِنْهُ وَشطر مَاله، ثمَّ نسخ ذَلِك فِي وَقت نسخ الرِّبا، وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث سعد بن أبي وَقاص فِي السَّلب لم يَصح عِنْد مَالك، وَلَا رأى الْعَمَل عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث مَا قَالَه القَاضِي عِيَاض فَإِنَّهُم استدلوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لعنة الله) ، على أَن ذَلِك من الْكَبَائِر، لِأَن اللَّعْنَة لَا تكون إلاَّ فِي كَبِيرَة. وَفِيه: أَن الْمُحدث والمروي لَهُ فِي الْإِثْم سَوَاء.
8681 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ وأمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ فَقَالَ يَا بِنِي النَّجَّارِ ثامِنُونِي فقالُوا لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ ألاَّ إِلَى الله فأمرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وبالنَّخْلِ فقُطِعَ فصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ..
قيل: لَا مُنَاسبَة فِي إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب. قلت: لَهُ مُنَاسبَة جَيِّدَة ومطابقته وَاضِحَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة، بَيَانه أَن فِي الحَدِيث السَّابِق: لَا يقطع شَجَرهَا. وَفِي هَذَا الحَدِيث وبالنخل، فَقطع، فَدلَّ على أَن شجر الْمَدِينَة لم يكن مثل شجر مَكَّة، إِذْ لَو كَانَ مثلهَا لمنع من قطعهَا، فَدلَّ على أَن الْمَدِينَة لَيْسَ لَهَا حرم كَمَا لمَكَّة. فَإِن قلت: شجر الْمَدِينَة كَانَت ملكا لأربابها وَلِهَذَا طلبَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشِّرَاءِ بِثمنِهَا، فَلَا دلَالَة فِيهِ على عدم كَون الْحرم للمدينة. قلت: يحْتَمل أَن لَا يعرف غارسها لقدمها وَبَنُو النجار كَانُوا قد وضعُوا أَيْديهم عَلَيْهَا لعدم الْعلم بأربابها، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقطعها يدل على الْمُدَّعِي وَهُوَ نفي كَون الْحرم للمدينة. فَإِن قلت: وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَنَقُول: إِن الْقطع كَانَ فِي الْمَدِينَة للْبِنَاء وَفِيه مصلحَة للْمُسلمين. قلت: يلزمك أَن تَقول بِهِ فِي مَكَّة أَيْضا وَلَا قَائِل بِهِ، وَهَذَا الحَدِيث قد تقدم بأتم مِنْهُ فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: إسمه عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث بن سعيد الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ، وَأَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد بن حميد الضبعِي.
قَوْله: (ثامنوني) ، أَي: بايعوني بِالثّمن. قَوْله: (بالخرب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: جمع الخربة، وَفِي بعض الرِّوَايَة بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء.
9681 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمانَ عَنْ عُبَيْدِ الله عنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِي عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حُرِّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَي المَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي(10/230)
قَالَ وأتَي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَنِي حارِثَةَ فَقَالَ أرَاكُمْ يَا بَنِي حارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ بَلْ أنْتُمْ فِيهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حُرِّم بَين لابتي الْمَدِينَة) ، وَفِيه بَيَان لإبهام التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن أبي أويس. الثَّانِي: أَخُوهُ عبد الحميد بن عبد الله بن أبي أويس. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب. الرَّابِع: عبيد الله بن عمر الْعمريّ. الْخَامِس: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري وَاسم أبي سعيد كيسَان. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن أَخِيه. وَفِيه: عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ، رَوَاهُ جمَاعَة عَن عبيد الله هَكَذَا، وَقَالَ عَبدة بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله عَن سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَزَاد فِيهِ: عَن أَبِيه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حُرِّمَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّحْرِيم، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (حرَم) . بِفتْحَتَيْنِ فارتفاعه على أَنه خبر عَن مُبْتَدأ مُؤخر، وَهُوَ قَوْله: (مَا بَين لابتي الْمَدِينَة) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر: (إِن الله تَعَالَى حرم على لساني مَا بَين لابتي الْمَدِينَة) ، وللبخاري عَن أبي هُرَيْرَة: (مَا بَين لابتيها حرَام) ، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِي الْبَاب عَن جمَاعَة عَن الصَّحَابَة. فَعَن جَابر رَوَاهُ مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين لابتيها لَا يقطع عضاهها وَلَا يصاد صيدها) . وعنرافع بن خديج أخرجه مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَأَنا أحرم مَا بَين لابتيها) . يُرِيد الْمَدِينَة. وَعَن سعد بن أبي وَقاص أخرجه مُسلم أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي أحرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها وَيقتل صيدها) الحَدِيث. وَعَن أنس بن مَالك أخرجه مُسلم أَيْضا فِي حَدِيث طَوِيل وَفِيه أَنِّي أحوم مِائَتَيْنِ لَا بَيتهَا وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه الطَّحَاوِيّ قَالَ: (إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة) وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده عَن كَعْب بن مَالك، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن خَارِجَة بن عبد الله بن كَعْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يصاد وحشها) . وَعَن عبَادَة أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَنهُ قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم مَا بَين لابتيها كَمَا حرم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن صَالح بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه، وَفِيه قَالَ، يَعْنِي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: (حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صيد مَا بَين لابتيها) ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَعَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث شُرَحْبِيل بن سعد، قَالَ: (أَتَانَا زيد بن ثَابت وَنحن ننصب فخا خَالنَا بِالْمَدِينَةِ، فَرمى بهَا، وَقَالَ: ألم تعلمُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم صيدها؟ وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير) . وَعَن سهل بن حنيف أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ، قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأهوى بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَة، يَقُول: إِنَّه حرَام آمن) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا. وَعَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث مَالك عَنهُ أَنه وجد غلمانا ألجأوا ثعلبا إِلَى زَاوِيَة، فطردهم. قَالَ مَالك: لَا أعلم إلاَّ أَنه قَالَ: أَفِي حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع هَذَا؟) وَأخرجه مَالك رَحمَه الله فِي (موطئِهِ) . وَعَن عَليّ بن أبي طَالب وَسَيَجِيءُ عَن قريب. وَعَن عدي بن زيد أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ. قَالَ: (حمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل نَاحيَة من الْمَدِينَة بريدا بريدا لَا يخبط شَجَره وَلَا يعضد إلاَّ مَا يساق بِهِ الْحمل) . وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مُسلم وَجعل اثْنَي عشر ميلًا حول الْمَدِينَة حمى. وَعَن عبد الله بن زيد بن عَاصِم الْمَازِني الْأنْصَارِيّ أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم: أَن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة، وَسَيَجِيءُ فِي الْبيُوع إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (لابتي الْمَدِينَة) اللبتان تَثْنِيَة: لابة، واللابة، الْحرَّة، ذكره الْأَزْهَرِي عَن الْأَصْمَعِي وَجَمعهَا: لاب ولوب، وَفِي (الْجَامِع) : اللابة الْحرَّة السَّوْدَاء، وَالْجمع لابات. وَفِي (الْمُحكم) : اللابة واللوبة: الْحرَّة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: اللابة أَرض ألبستها حِجَارَة سود، وَالْمَدينَة بَين حرتين يكتنفانها إِحْدَاهمَا شرقية وَالْأُخْرَى غربية، وَقيل: المُرَاد بِهِ أَنه حرم الْمَدِينَة ولابتيها جَمِيعًا. قَوْله: (وأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني حَارِثَة) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ(10/231)
(ثمَّ جَاءَ بني حَارِثَة وهم فِي سَنَد الْحرَّة) . أَي: فِي الْجَانِب الْمُرْتَفع مِنْهَا، وَبَنُو حَارِثَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة بطن مَشْهُور من الْأَوْس وَهُوَ حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس، وَكَانَ بَنو حَارِثَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَبَنُو عبد الْأَشْهَل فِي دَار وَاحِدَة، ثمَّ وَقعت بَينهم الْحَرْب فانهزمت بَنو حَارِثَة إِلَى خَيْبَر فسكنوها، ثمَّ اصْطَلحُوا فَرجع بَنو حَارِثَة فَلم ينزلُوا فِي دَار بني عبد الْأَشْهَل وَسَكنُوا فِي دَارهم هَذِه، وَهِي غربية مشْهد حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظن أَنهم خارجون من الْحرم، فَلَمَّا تَأمل مواضعهم رَآهُمْ داخلين فِيهِ، وَهَذَا معنى قَوْله: (ثمَّ الْتفت فَقَالَ بل أَنْتُم فِيهِ) أَي: فِي الْحرم، وَزَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (بل أَنْتُم فِيهِ) أَعَادَهَا تَأْكِيدًا.
وَفِيه من الْفَائِدَة: جَوَاز الْجَزْم بِمَا يغلب على الظَّن وَإِذا تبين أَن الْيَقِين على خِلَافه رَجَعَ عَنهُ.
0781 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنْ أبِيهِ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ مَا عِنْدَنَا شَيء إلاَّ كِتابُ الله وهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عائِرٍ إلَى كَذا منْ أحْدَثَ فِيها حدَثا أوْ آوَى مُحْدِثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ وَقَالَ ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِما فَعَلَيْهِ لَعْنَة الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ ومَنْ تَوَلَّى قَوْما بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فعلَيْهِ لَعْنَةُ الله والملاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صرْفٌ ولاَ عَدْلٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْمَدِينَة حرم مَا بَين عائر إِلَى كَذَا) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان الْعَنْبَري. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الْخَامِس: إِبْرَاهِيم بن يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ. السَّادِس: أَبوهُ يزِيد. السَّابِع: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي ويلقب ببندار، وَكَذَلِكَ شيخ شَيْخه بَصرِي، والبقية كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وهم: الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وَأَبوهُ يزِيد، وَهَذِه رِوَايَة أَكثر أَصْحَاب الْأَعْمَش عَنهُ، وَخَالفهُم شُعْبَة فَرَوَاهُ عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن الْحَارِث بن سُوَيْد عَن عَليّ.
أخرجه النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا بشر بن خَالِد العسكري، قَالَ: أخبرنَا غنْدر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ (عَن الْحَارِث بن سُوَيْد، قَالَ: قيل لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصكم بِشَيْء دون النَّاس عَامَّة، قَالَ: مَا خصنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء لم يخص النَّاس لَيْسَ شَيْئا فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخذ صحيفَة فِيهَا شَيْء من أَسْنَان الْإِبِل وفيهَا، أَن الْمَدِينَة حرم مَا بَين ثَوْر إِلَى عير، فَمن أحدث فِيهَا حَدثا وَأَوَى مُحدثا فَإِن عَلَيْهِ لعنة الله، وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صرف وَلَا عدل وَذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة فَمن أَخْفَر مُسلما فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل، انْتهى. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) : وَالصَّوَاب رِوَايَة الثَّوْريّ وَمن تبعه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا عندنَا شَيْء) ، أَي: شَيْء مَكْتُوب من أَحْكَام الشَّرِيعَة، وإلاَّ فَكَانَ عِنْدهم أَشْيَاء من السّنة سوى الْكتاب، لِأَن السّنَن لم تكن مَكْتُوبَة فِي الْكتب فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَا مدونة فِي الدَّوَاوِين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم فِي بَاب فِي كتاب الْعلم أَنه كَانَ فِي الصَّحِيفَة الْعقل وفكاك الْأَسير، وَهَهُنَا قَالَ: الْمَدِينَة حرم ... إِلَى آخِره؟ قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا لجَوَاز كَون الْكل فِيهَا. فَإِن قلت: مَا سَبَب قولعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. هَذَا؟ قلت: يظْهر ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق قَتَادَة (عَن أبي حسان الْأَعْرَج أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَأْمر بِالْأَمر فَيُقَال لَهُ: قد فعلنَا، فَيَقُول: صدق الله وَرَسُوله. فَقَالَ لَهُ الأشتر: هَذَا الَّذِي تَقول شَيْء عَهده إِلَيْك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: مَا عهد إليَّ شَيْئا خَاصّا دون النَّاس إلاَّ شَيْئا سمعته مِنْهُ، فَهُوَ فِي صحيفَة فِي قرَاب(10/232)
سَيفي فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى أخرج الصَّحِيفَة فَإِذا فِيهَا) فَذكر الحَدِيث وَزَاد فِيهِ: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم وهم يَد على من سواهُم، ألاَّ لَا يقتل مُؤمن بكافرٍ، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، وَقَالَ فِيهِ: إِن إِبْرَاهِيم حرَّم، وَإِنِّي أحرم مَا بَين حرتيها، وحماها كُله لَا يخْتَلى خَلاهَا، وَلَا ينفر صيدها وَلَا تلْتَقط لقطتهَا، وَلَا تقطع مِنْهَا شَجَرَة إلاَّ أَن يعلف رجل بعيره، وَلَا يحمل فِيهَا السِّلَاح لقِتَال) . وَالْبَاقِي نَحوه. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من وَجه آخر عَن قَتَادَة عَن أبي حسان عَن الأشتر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن (عَن قيس بن عباد، قَالَ: انْطَلَقت أَنا وَالْأَشْتَر إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقُلْنَا: هَل عهد إِلَيْك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يعهده إِلَى النَّاس عَامَّة؟ قَالَ: لَا، إلاَّ مَا فِي كتابي هَذَا. قَالَ: وَكتاب فِي قرَاب سَيْفه، فَإِذا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ) ، فَذكر مثل مَا تقدم إِلَى قَوْله: (فِي عَهده: من أحدث حَدثا) إِلَى قَوْله: (أَجْمَعِينَ) ، وَلم يذكر بَقِيَّة الحَدِيث، وروى مُسلم من طَرِيق أبي الطُّفَيْل: (كنت عِنْد عَليّ فَأَتَاهُ رجل، فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسر إِلَيْك؟ فَغَضب، ثمَّ قَالَ: مَا كَانَ يسر إليَّ شَيْئا يَكْتُمهُ عَن النَّاس، غير أَنه حَدثنِي بِكَلِمَات أَربع) وَفِي رِوَايَة لَهُ: (مَا خصنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس كَافَّة، إلاَّ مَا كَانَ فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخْرج صحيفَة مَكْتُوب فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله، وَلعن الله من سرق منار الأَرْض، وَلعن الله من لعن وَالِده، وَلعن الله من آوى مُحدثا) . وَقد تقدم فِي كتاب الْعلم من طَرِيق أبي جُحَيْفَة. (قلت لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل عنْدكُمْ كتاب؟ قَالَ: لَا، إلاَّ كتاب الله. .) الحَدِيث. فَإِن قلت: كَيفَ وَجه الْجمع بَين هَذِه الْأَخْبَار؟ قلت: وَجه ذَلِك أَن الصَّحِيفَة الْمَذْكُورَة كَانَت مُشْتَمِلَة على مَجْمُوع مَا ذكر، فَنقل كل من الروَاة بَعْضهَا، وأتمها سياقا طَرِيق أبي حسان كَمَا ترى. وَالله أعلم. قَوْله: (الْمَدِينَة حرم) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: مُحرمَة لَا تنتهك حرمتهَا. قَوْله: (مَا بَين عائر إِلَى كَذَا) ، وعائر بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالْألف والهمزة وَالرَّاء، وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ، ويروى: (مَا بَين عير) ، بِدُونِ الْألف. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض أَكثر رُوَاة البُخَارِيّ ذكرُوا (عيرًا) ، وَأما ثَوْر فَمنهمْ من كنى عَنهُ بِلَفْظ كَذَا، وَمِنْهُم من ترك مَكَانَهُ بَيَاضًا. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي أول: بَاب حرم الْمَدِينَة. قَوْله: (من أحدث فِيهَا) ، أَي: فِي الْمَدِينَة، وَرِوَايَة قيس بن عباد الَّتِي تقدّمت تفِيد بِهَذَا لِأَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالْمَدِينَةِ لفضلها وشرفها. قَوْله: (أَو آوى) بِالْقصرِ وَالْمدّ فِي الْفِعْل اللَّازِم والمتعدي جَمِيعًا، لَكِن الْقصر فِي اللَّازِم وَالْمدّ فِي الْمُتَعَدِّي أشهر. قَوْله: (مُحدثا) قد ذكرنَا أَن فِيهِ فتح الدَّال وَكسرهَا، فَالْمَعْنى بِالْفَتْح أَي: الْمُحدث فِي أَمر الدّين وَالسّنة، وَمعنى الْكسر صَاحبه الَّذِي أحدثه أَو جَاءَ ببدعة فِي الدّين أَو بدل سنة. وَقَالَ التَّيْمِيّ: يَعْنِي من ظلم فِيهَا أَو أعَان ظَالِما. قَوْله: (صرف) أَي: فَرِيضَة. (وَعدل) أَي: نَافِلَة. وَقَالَ الْحسن: الصّرْف النَّافِلَة، وَالْعدْل الْفَرِيضَة، عكس قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الصّرْف التَّوْبَة وَالْعدْل الْفِدْيَة. قَالُوا: مَعْنَاهُ لَا تقبل قبُول رضى، وَإِن قبلت قبُول جَزَاء، وَعَن أبي عُبَيْدَة الصّرْف الِاكْتِسَاب وَالْعدْل الْحِيلَة، وَقيل: الصّرْف الدِّيَة وَالْعدْل الزِّيَادَة عَلَيْهَا، وَقيل بِالْعَكْسِ، وَفِي (الْمُحكم) : الصّرْف الْوَزْن وَالْعدْل الْكَيْل، وَقيل: الصّرْف الْقيمَة وَالْعدْل الاسْتقَامَة، وَقيل: الصّرْف الشَّفَاعَة وَالْعدْل الْفِدْيَة، وَبِه جزم الْبَيْضَاوِيّ، وَقيل: الْقبُول بِمَعْنى تَكْفِير الذَّنب بهما، وَقَالَ عِيَاض: وَقد يكون معنى الْفِدْيَة هُنَا لِأَنَّهُ لَا يجد فِي الْقِيَامَة فدَاء يفتدى بِهِ، بِخِلَاف غَيره من المذنبين الَّذين يتفضل الله عز وَجل على من يَشَاء مِنْهُم بِأَنَّهُ يفْدِيه من النَّار بِيَهُودِيٍّ أَو نَصْرَانِيّ كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) . قَوْله: (ذمَّة الْمُسلمين) أَي: عَهدهم وأمانهم صَحِيح، فَإِذا آمن الْكَافِر وَاحِد من الْمُسلمين حرم على غَيره التَّعَرُّض لَهُ، وَنقض ذمَّته، وللأمان شُرُوط مَذْكُورَة فِي كتب الْفِقْه. قَوْله: (فَمن أَخْفَر مُسلما) أَي: نقض عَهده، يُقَال: خفرت الرجل بِغَيْر ألف إِذا آمنته، وأخفرته إِذا نقضت عَهده، فالهمزة للإزالة، وَقد علم فِي علم الصّرْف أَن الْهمزَة فِي: أفعل تَأتي لمعان: مِنْهَا: أَنَّهَا تَأتي للسلب، يَعْنِي لسلب الْفَاعِل من الْمَفْعُول أصل الْفِعْل نَحْو أشكيته؟ أَي: أزالت شكايته، والهمزة فِي: أَخْفَر، من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (وَمن تولى قوما) أَي: من اتخذهم أَوْلِيَاء. قَوْله: (بِغَيْر إِذن موَالِيه) ، لَيْسَ بِشَرْط، لتقييد الحكم بِعَدَمِ الْإِذْن وقصره عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيرَاد الْكَلَام على مَا هُوَ الْغَالِب، وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يَجْعَل إِذن الموَالِي شرطا فِي ادِّعَاء نسب أَو وَلَاء، لَيْسَ هُوَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر الْإِذْن فِي هَذَا تَأْكِيدًا للتَّحْرِيم لِأَنَّهُ إِذا استأذنهم فِي ذَلِك منعُوهُ وحالوا بَينه وَبَين مَا يفعل من ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم، وَمن ادّعى إِلَى غير أَبِيه أَو انْتَمَى إِلَى غير موَالِيه فَعَلَيهِ لعنة الله) .(10/233)
الحَدِيث. قَوْله: (يسْعَى بهَا) يَعْنِي: أَن ذمَّة الْمُسلمين سَوَاء صدرت من وَاحِد أَو أَكثر شرِيف أَو وضيع، فَإِذا آمن أحد من الْمُسلمين كَافِرًا وَأَعْطَاهُ ذمَّته لم يكن لأحد نقضه، فيستوي فِي ذَلِك الرجل وَالْمَرْأَة، وَالْحر وَالْعَبْد، لِأَن الْمُسلمين كَنَفس وَاحِدَة. وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: رد على الشِّيعَة فِيمَا يَدعُونَهُ من أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْده وَصِيَّة من سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ بِأُمُور كَثِيرَة من أسرار الْعلم وقواعد الدّين. وَفِيه: جَوَاز كِتَابَة الْعلم. وَفِيه: الْمُحدث والمروي لَهُ فِي الْإِثْم سَوَاء. وَفِيه: حجَّة لمن أجَاز أَمَان الْمَرْأَة وَالْعَبْد، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعند أبي حنيفَة: لَا يجوز إلاَّ إِذا أذن الْمولى لعَبْدِهِ بِالْقِتَالِ. وَفِيه: أَن نقض الْعَهْد حرَام. وَفِيه: ذمّ انتماء الْإِنْسَان إِلَى غير أَبِيه، أَو انتماء الْعَتِيق إِلَى غير مُعْتقه لما فِيهِ من كفر النِّعْمَة وتضييع الْحُقُوق وَالْوَلَاء وَالْعقل، وَغير ذَلِك، مَعَ مَا فِيهِ من قطيعة الرَّحِم والعقوق.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله عَدْلٌ فِدَاءٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن تَفْسِير الْعدْل عِنْده بِمَعْنى الْفِدَاء، وَهَذَا مُوَافق لتفسير الْأَصْمَعِي، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا: أَعنِي قَوْله: قَالَ عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
2 - (بابُ فَضْلِ المَدِينَةِ وأنَّها تَنْفِي النَّاسَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْمَدِينَة، وَفِي بَيَان أَنَّهَا تَنْفِي النَّاس، قَالُوا: يَعْنِي شرارهم؟ قلت: جعلُوا لفظ تَنْفِي من النَّفْي، فَلذَلِك قدرُوا هَذَا التَّقْدِير، وَالْأَحْسَن عِنْدِي أَن تكون هَذِه اللَّفْظَة من التنقية بِالْقَافِ، وَالْمعْنَى: أَن الْمَدِينَة تنقي النَّاس فتبقي خيارهم وتطرد شرارهم، ويناسب هَذَا الْمَعْنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَدِينَة كالكير تنقي خبثها وتنصع طببها) ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يُنَاسب هَذَا الْمَعْنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ إِن حَاصِل الْمَعْنى يؤول إِلَى مَا ذكرنَا، وَإِن كَانَ لفظ الحَدِيث من النَّفْي بِالْفَاءِ.
1781 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا الحُبابِ سَعِيدَ ابنَ يَسارٍ يقُولُ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تأكُلُ الْقُرى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وهْيَ المَدِينَةُ تَنُفي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا، وَأَبُو الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى، ويسار ضد الْيَمين وَقَالَ بَعضهم: رجال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن عبد الله بن يُوسُف تنيسي وَأَصله من دمشق، وَقَالَ أَبُو عمر: اتّفق الروَاة عَن مَالك على إِسْنَاده إلاَّ إِسْحَاق بن عِيسَى الطباع، فَقَالَ: عَن مَالك عَن يحيى عَن سعيد بن الْمسيب، بدل: سعيد بن يسَار، وَهُوَ خطأ قلت: لم ينْفَرد الطباع بِهَذَا، لِأَن الدَّارَقُطْنِيّ ذكر فِي كتاب (غرائب مَالك) كَمَا رَوَاهُ الطباع من حَدِيث أَحْمد بن بكر بن خَالِد السّلمِيّ عَن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عَمْرو عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أمرت بقرية) ، أَي: أمرت بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا وَالنُّزُول بهَا، فَإِن كَانَ قَالَ ذَلِك بِمَكَّة فَهُوَ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، وَإِن كَانَ قَالَه بِالْمَدِينَةِ فبسكناها. قَوْله: (تَأْكُل الْقرى) ، أَي: يغلب أَهلهَا سَائِر الْبِلَاد، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْغَلَبَة لِأَن الْآكِل غَالب على الْمَأْكُول، وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الْأكل أَنَّهَا مَرْكَز جيوش الْإِسْلَام فِي أول الْأَمر فَمِنْهَا فتحت الْبِلَاد فَغنِمت أموالها. أَو أَن أكلهَا يكون من الْقرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، وَوَقع فِي (موطأ ابْن وهب) : قلت لمَالِك: مَا تَأْكُل الْقرى؟ قَالَ: تفتح الْقرى. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بأكلها الْقرى غَلَبَة فَضلهَا على فضل غَيرهَا، فَمَعْنَاه: أَن الْفَضَائِل تضمحل فِي جنب عَظِيم فَضلهَا حَتَّى يكَاد تكون عدما، وَقد سميت مَكَّة أم الْقرى، قيل: الْمَذْكُور للمدينة أبلغ مِنْهُ. انْتهى. قلت: الَّذِي يظْهر من كَلَامه أَنه مِمَّن يرجح الْمَدِينَة(10/234)
على مَكَّة. قَوْله: (يَقُولُونَ: يثرب) أَرَادَ أَن بعض الْمُنَافِقين يَقُولُونَ للمدينة: يثرب، يَعْنِي يسمونها بِهَذَا الإسم، وَاسْمهَا الَّذِي يَلِيق بهَا: الْمَدِينَة، وَقد كره بَعضهم من هَذَا تَسْمِيَة الْمَدِينَة يثرب، وَقَالُوا: مَا وَقع فِي الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَن قَول غير الْمُؤمنِينَ، وروى أَحْمد من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَفعه: (من سمَّى الْمَدِينَة يثرب فليستغفر الله تَعَالَى: هِيَ طابة) . وروى عمر بن شبة من حَدِيث أبي أَيُّوب (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يُقَال للمدينة: يثرب) ، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى بن دِينَار، من الْمَالِكِيَّة: من سمى الْمَدِينَة يثرب كتبت عَلَيْهِ خَطِيئَة، قَالُوا: وَسبب هَذِه الْكَرَاهَة لِأَن يثرب من التثريب الَّذِي هُوَ التوبيخ والملامة، أَو من الثرب وَهُوَ الْفساد، وَكِلَاهُمَا مستقبح، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يحب الإسم الْحسن وَيكرهُ الإسم الْقَبِيح، قَوْله: (تَنْفِي النَّاس) ، قَالَ أَبُو عمر: أَي: تَنْفِي شرار النَّاس، أَلا يرى أَنه مثل ذَلِك وَشبهه بِمَا يصنع الْكِير فِي الْحَدِيد، والكير إِنَّمَا يَنْفِي ردىء الْحَدِيد وخبثه، وَلَا يَنْفِي جيده؟ قَالَ وَهَذَا عِنْدِي، وَالله أعلم، إِنَّمَا كَانَ فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَحِينَئِذٍ لم يكن يخرج من الْمَدِينَة رَغْبَة عَن جواره فِيهَا إلاَّ من لَا خير فِيهِ. وَأما بعد وَفَاته فقد خرج مِنْهَا الْخِيَار والفضلاء والأبرار، وَقَالَ عِيَاض: وَكَانَ هَذَا يخْتَص بزمنه لِأَنَّهُ لم يكن يصبر على الْهِجْرَة وَالْمقَام مَعَه بهَا إلاَّ من ثَبت إيمَانه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَيْسَ هَذَا بِظَاهِر، لِأَن عِنْد مُسلم: (لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تَنْفِي الْمَدِينَة شِرَارهَا كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد) ، وَهَذَا، وَالله أعلم، زمن الدَّجَّال. قَوْله: (كَمَا يَنْفِي الْكِير) ، بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي (التَّلْوِيح) : الْكِير هُوَ دَار الْحَدِيد والصائغ وَلَيْسَ الْجلد الَّذِي تسميه الْعَامَّة كيرا، كَذَا قَالَ أهل اللُّغَة، وَمِنْه حَدِيث أبي أُمَامَة وَأبي رَيْحَانَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْحمى كير من جَهَنَّم، وَهُوَ نصيب الْمُؤمن من النَّار) . وَقيل: فِي الْكِير لُغَة أُخْرَى: كور، بِضَم الْكَاف، وَالْمَشْهُور بَين النَّاس أَنه: الزق الَّذِي ينْفخ فِيهِ، لَكِن أَكثر أهل اللُّغَة على أَن المُرَاد بالكير: حَانُوت الْحداد والصائغ وَقَالَ ابْن التِّين: وَقيل: الْكِير هُوَ الزق، والحانوت هُوَ الكور. وَفِي (الْمُحكم) : الْكِير الزق الَّذِي ينْفخ فِيهِ الْحداد، وَيُؤَيّد الأول مَا رَوَاهُ عمر بن شبة فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي مَرْدُود، قَالَ: رأى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كير حداد فِي السُّوق، فَضَربهُ بِرجلِهِ حَتَّى هَدمه، وَفِي (الْمُحكم) وَالْجمع أكيار وكيرة، وَعَن ثَعْلَب: كيران، وَلَيْسَ ذَلِك بِمَعْرُوف فِي كتب اللُّغَة، إِنَّمَا الكيران جمع كور، وَهُوَ الْمرجل. وَفِي (الصِّحَاح) : المنجل، وَعَن أبي عَمْرو: الْكِير الْحداد وَهُوَ زق أَو جلد غليظ ذُو حافات. قَوْله: (خبث الْحَدِيد) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، وَهُوَ وسخ الْحَدِيد الَّذِي تخرجه النَّار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الْبَاء، وَفِيه نظر، وَالْمرَاد أَنَّهَا لَا ينزل فِيهَا من فِي قلبه دغل، بل يميزه عَن الْقُلُوب الصادقة ويخرجه، كَمَا يُمَيّز الْحداد رَدِيء الْحَدِيد من جيده، وَنسب التَّمْيِيز للكير لكَونه السَّبَب الْأَكْبَر فِي إشعال النَّار الَّتِي يَقع بهَا التَّمْيِيز.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْمُهلب بن أبي صفرَة: هَذَا الحَدِيث حجَّة لمن فضل الْمَدِينَة على مَكَّة، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أدخلت مَكَّة وَسَائِر الْقرى فِي الْإِسْلَام، فَصَارَت الْقرى وَمَكَّة فِي صَحَائِف أهل الْمَدِينَة، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَأهل الْمَدِينَة، وروى عَن أَحْمد خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ ابْن حزم: روى الْقطع بتفضيل مَكَّة على الْمَدِينَة عَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَابر وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن الزبير وَعبيد الله بن عدي، مِنْهُم ثَلَاثَة مدنيون بأسانيد فِي غَايَة الصِّحَّة، قَالَ: وَهُوَ قَول جَمِيع الصَّحَابَة وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَاحْتج مقلد وَمَالك بأخبرا ثَابِتَة مِنْهَا، قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قَالَ: وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ، إِنَّمَا فِيهِ أَنه حرمهَا كَمَا حرمهَا إِبْرَاهِيم، وَبِقَوْلِهِ: (أللهم بَارك لنا فِي تمرنا ومدنا) ، وَبِقَوْلِهِ: (أللهم إجعل بِالْمَدِينَةِ ضعْفي مَا جعلت بِمَكَّة من الْبركَة) ، قَالَ: وَلَا حجَّة لَهُم فيهمَا، إِنَّمَا فيهمَا الدُّعَاء للمدينة وَلَيْسَ من بَاب الْفضل فِي شَيْء، وَبِقَوْلِهِ: الْمَدِينَة كالكير) ، وَلَا حجَّة لَهُم، لِأَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي وَقت دون وَقت، وَفِي قوم دون قوم، وَفِي خَاص دون عَام، انْتهى. وَاحْتج بَعضهم على تَفْضِيل الْمَدِينَة على مَكَّة بقوله: (كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد) ، وَلَا حجَّة فِي ذَلِك، لِأَن هَذَا فِي خَاص من النَّاس وَمن الزَّمَان بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق} (التَّوْبَة: 101) . وَالْمُنَافِق خَبِيث بِلَا شكّ، وَقد خرج من الْمَدِينَة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذ وَأَبُو عُبَيْدَة وَابْن مَسْعُود وَطَائِفَة، ثمَّ عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وعمار وَآخَرُونَ، وهم من أطيب الْخلق، فَدلَّ على أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ تَخْصِيص نَاس دون نَاس، وَوقت دون وَقت.(10/235)
3 - (بابٌ المَدِينةُ طابَةُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَدِينَة: طابة، أَي: من أسمائها: طابة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنَّهَا لَا تسمى بِغَيْر ذَلِك، وأصل طابة طيبَة لِأَنَّهَا من الطّيب، فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها، وانفتاح مَا قبلهَا، فوزنها: فالة، لَا: فاعة.
2781 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ قَالَ حدَّثني عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ عَبَّاسِ بنِ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ عنْ أبِي حُمَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أقْبَلْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أشْرَفْنَا عَلَى المَدِينَةِ فَقَالَ هاذِهِ طابَةُ..
التَّرْجَمَة متن الحَدِيث، وخَالِد بن مخلد البَجلِيّ الْكُوفِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب التَّيْمِيّ الْقرشِي، وَعَمْرو بن يحيى بن عمَارَة الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَأَبُو حميد، بِضَم الْحَاء: عبد الرَّحْمَن السَّاعِدِيّ. وَهَذَا الحَدِيث طرف من حَدِيث طَوِيل وَقد مضى فِي أَوَاخِر الزَّكَاة فِي: بَاب خرص التَّمْر، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
قَوْله: (طابة) ، وَفِي بعض طرقه: (طيبَة) ، وروى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة مَرْفُوعا: (إِن الله سمى الْمَدِينَة طابة) . وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن سماك بِلَفْظ: (كَانُوا يسمون الْمَدِينَة يثرب، فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طابة) . وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة، وَسميت طابة لطيبها لساكنها. وَقيل: من طيب الْعَيْش بهَا، وَقيل: من أَقَامَ بهَا يجد من تربَتهَا وحيطانها رَائِحَة طيبَة لَا تكَاد تُوجد فِي غَيرهَا. قلت: وَأي طيب يجده الْمُقِيم بهَا أطيب من مُشَاهدَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَهَل طيب أطيب من تربته؟ وَكَيف لَا وَبَين قَبره ومنبره رَوْضَة من رياض الْجنَّة؟ فَاعْتبر بِهَذَا طيب التربة الَّتِي ضمت جسده الْكَرِيم، وللمدينة أسامي كَثِيرَة، وَقد ذكرنَا بَعْضهَا عَن قريب. وروى الزبير فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة) من طَرِيق عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، قَالَ: بَلغنِي أَن لَهَا أَرْبَعِينَ إسما، وَرُوِيَ من طَرِيق أبي سُهَيْل بن مَالك عَن كَعْب الْأَحْبَار، قَالَ: نجد فِي كتاب الله تَعَالَى، الَّذِي أنزل على مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن الله قَالَ للمدينة: يَا طيبَة، يَا طابة، يَا مسكينة، لَا تقبلي الْكُنُوز أرفع أجاجيرك على الْقرى.
4 - (بابُ لاَبَتَيْ المَدِينَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر لابتي الْمَدِينَة فِي الحَدِيث، وَقد مر تَفْسِير الْآيَة.
3781 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ كانَ يَقُولُ لَوْ رَأيْتُ الظِّبَاءَ بِالمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا زَعَرْتُهَا قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حَرَامٌ.
(انْظُر الحَدِيث 9681) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى ابْن يحيى، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (الظباء) جمع ظَبْي. قَوْله: (ترتع) ، أَي: ترعى، وَقيل: تنبسط. قَوْله: (مَا ذعرتها) أَي: مَا أخفتها وَمَا نفَّرتها، وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة، يُقَال: ذعرته أذعره ذعرا: أفزعته، وَالِاسْم: الذعر، بِالضَّمِّ وَقد ذعر فَهُوَ مذعور، وكني بذلك عَن عدم صيدها لِأَنَّهُ مِمَّن يَقُول بِأَن للمدينة حرما وَمِمَّنْ يروي فِي ذَلِك بقوله: {قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا بَين لابتيها) أَي: لابتي الْمَدِينَة، وَهِي: بَين لابتين شرقية وغربية، وَلها لابتان أَيْضا من الْجَانِبَيْنِ الآخرين إلاَّ أَنَّهُمَا يرجعان إِلَى الْأَوليين لاتصالهما بهما، وَالْحَاصِل أَن جَمِيع دورها كلهَا دَاخل ذَلِك، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (أللهم إِنِّي أحرم مَا بَين جبليها) ، وَوَقع عِنْد أَحْمد: (مَا بَين حرتيها) ، وَفِي رِوَايَة: مَا بَين مأزميها) ، وَعَن هَذَا قَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب، والمأزمان تَثْنِيَة مأزم، بِهَمْزَة بعد مِيم وبكسر الزَّاي، هُوَ الْجَبَل، وَقيل: الْمضيق بَين الجبلين وَنَحْوه، وَالْأول هُوَ الصَّوَاب هُنَا، وَمَعْنَاهُ: مَا بَين جبليها.(10/236)
5 - (بابُ مَنْ رَغِبَ عنِ المَدِينَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من رغب أَي أعرض عَن الْمَدِينَة، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ مَذْمُوم، وَنَحْوه.
4781 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله يَقولُ تَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خيْرِ مَا كانَتْ لاَ يَغْشَاهَا إلاَّ العَوَاف يُريدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ والطَّيْرِ وآخِرُ منْ يْحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةِ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِما فيَجِدَانِهَا وحْشا حَتَّى إذَا بَلَغا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجِوهِهِمَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تتركون الْمَدِينَة) ، فَإِن تَركهم رَغْبَة عَنْهَا.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم من طَرِيق يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمدينة: (ليتركنها أَهلهَا على خير مَا كَانَت مذللة للعواف) ، يَعْنِي: السبَاع، وَالطير، وَمن رِوَايَة عقيل بن خَالِد عَن ابْن شهَاب أَنه قَالَ: أَخْبرنِي سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (تتركون الْمَدِينَة) إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، غير أَنَّهَا فِي رِوَايَته: (ثمَّ يخرج راعيان من مزينة ينعقان بغنمها) . قَوْله: (تتركون) بتاء الْمُخَاطب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَالْمرَاد بذلك غير المخاطبين، لكِنهمْ من أهل الْبَلَد وَمن نسل المخاطبين، وَقيل: نوع المخاطبين من أهل الْمَدِينَة، ويروى: يتركون، بياء الْغَيْبَة وَرجحه الْقُرْطُبِيّ. قَوْله: (على خير مَا كَانَت) ، أَي: على أحسن حَالَة كَانَت عَلَيْهِ من قبل، يَعْنِي: أعمرها وأكثرها ثمارا. قَوْله: (لَا يَغْشَاهَا) ، أَي: لَا يقربهَا وَلَا يَأْتِيهَا إلاَّ العواف، جمع عَافِيَة، وَهِي طلاب الرزق من الدَّوَابّ وَالطير. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعَافِيَة والعفاة والعفاء: الأضياف وطلاب الْمَعْرُوف، وَقيل: هم الَّذين يعفونك أَي يأتونك يطْلبُونَ مَا عنْدك، والعافي أَيْضا: الرائد والوارد، لِأَن ذَلِك كُله طلب. قَوْله: (يُرِيد عوافي الطير وَالسِّبَاع) ، تَفْسِير لقَوْله: العواف، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: اجْتمع فِي العوافي شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا طالبة لأقواتها من قَوْلك: عَفَوْت فلَانا أعفوه فَأَنا عافٍ، وَالْجمع: عفاة أَي: أتيت أطلب مَعْرُوفَة. وَالثَّانِي: من العفاء، وَهُوَ الْموضع الْخَالِي الَّذِي لَا أنيس بِهِ، فَإِن الطير والوحش تقصده لأمنها على نَفسهَا فِيهِ. وَقَالَ عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك حَيْثُ صَارَت، أَي: الْمَدِينَة مَعْدن الْخلَافَة ومقصد النَّاس وملجأهم، وحملت إِلَيْهَا خيرات الأَرْض وَصَارَت من أعمر الْبِلَاد، فَلَمَّا انْتَقَلت الْخلَافَة مِنْهَا إِلَى الشَّام ثمَّ إِلَى الْعرَاق وتغلبت عَلَيْهَا الْأَعْرَاب وتعاورتها الْفِتَن، وخلت من أَهلهَا فقصدتها عوافي الطير وَالسِّبَاع، وَذكر الإخباريون أَنَّهَا خلت من أَهلهَا فِي بعض الْفِتَن الَّتِي جرت بِالْمَدِينَةِ، وَبقيت ثمارها للعوافي، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وخلت مُدَّة ثمَّ تراجع النَّاس إِلَيْهَا، وَفِي حَال خلوها عَدَت الْكلاب على سواري الْمَسْجِد، وَعَن مَالك: حَتَّى يدْخل الْكَلْب أَو الذِّئْب فيعوي على بعض سواري الْمَسْجِد، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا مِمَّا جرى فِي الْعَصْر الأول وانقضى، وَهَذَا من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمُخْتَار أَن هَذَا التّرْك يكون فِي آخر الزَّمَان عِنْد قيام السَّاعَة، ويوضحه قضة الراعبين، فقد وَقع عِنْد مُسلم بِلَفْظ: (ثمَّ يحْشر راعيان) ، وَفِي البُخَارِيّ: أَنَّهُمَا آخر من يحْشر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم وَغَيرهمَا من حَدِيث محجن بن الأدرع الْأَسْلَمِيّ، قَالَ: (بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحَاجَة، ثمَّ لَقِيَنِي وَأَنا خَارج من بعض طرق الْمَدِينَة، فَأخذ بيَدي حَتَّى أَتَيْنَا أحدا، ثمَّ أقبل على الْمَدِينَة، فَقَالَ: ويل أمهَا قَرْيَة يَوْم يَدعهَا أَهلا كأينع مَا يكون؟ قلت: يَا رَسُول الله {من يَأْكُل ثَمَرهَا؟ قَالَ: عَافِيَة الطير وَالسِّبَاع) . وروى عمر بن شبة بِإِسْنَاد صَحِيح، (عَن عَوْف بن مَالك، قَالَ: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْجِد ثمَّ نظر إِلَيْنَا، فَقَالَ: أما وَالله لتدعنها مذللة أَرْبَعِينَ عَاما للعوافي} أَتَدْرُونَ مَا العوافي؟ الطير وَالسِّبَاع) . انْتهى. وَهَذَا لم يَقع قطعا. قَالَ الْمُهلب: فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمَدِينَة تسكن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن خلت فِي بعض الْأَوْقَات يقْصد الراعيان بغنمهما إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (وَآخر من يحْشر راعيان) أَي: يساق ويجلى من الوطن. قَوْله: (من مزينة) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي: قَبيلَة من مُضر. وَفِي (التَّلْوِيح) : فَإِن قيل: فَمَا معنى قَوْله: (آخر من يحْشر راعيان؟) وَلم يذكر حشرهما، وَإِنَّمَا قَالَ: (يخران(10/237)
على وُجُوههمَا أَمْوَاتًا؟) فَالْجَوَاب: أَنه لَا يحْشر أحد إلاَّ بعد الْمَوْت، فهما آخر من يَمُوت بِالْمَدِينَةِ، وَآخر من يحْشر بعد ذَلِك فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة) لأبي زيد بن عمر بن شبة: عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (آخر من يحْشر رجلَانِ، رجل من مزينة وَآخر من جُهَيْنَة، فَيَقُولَانِ: أَيْن النَّاس؟ فيأتيان الْمَدِينَة، فَلَا يريان إلاَّ الثعالب، فَينزل إِلَيْهِمَا ملكان فيسحبانهما على وُجُوههمَا حَتَّى يلحقاهما بِالنَّاسِ) . قَوْله: (ينعقان بغنمهما) ، من النعق وَهُوَ دُعَاء الرَّاعِي الشَّاء، قَالَه الْأَزْهَرِي عَن الْفراء وَغَيره، يُقَال: أنعق بضأنِكَ، أَي: ادعها. وَقد نعق الرَّاعِي بهَا نعيقا. وَفِي (الموعب) : نعيقا ونعاقا: إِذا صَاح بهَا الرَّاعِي زجرا، ونعقا ونعقانا وَقد نعق ينعق، من بَاب: علم يعلم، وَأغْرب الدَّاودِيّ فَقَالَ: مَعْنَاهُ يطْلب الْكلأ، فَكَأَنَّهُ فسره بِالْمَقْصُودِ من الزّجر. لِأَنَّهُ يزجرها عَن المرعى الوبيل إِلَى المرعى الوسيم. قَوْله: (فيجدانها وحوشا) أَي: يجدان أَهلهَا وحوشا جمع وَحش، أَو يجدان الْمَدِينَة ذَات وحوش، ويروى: وحوشا، بِفَتْح الْوَاو أَي: يجدانها خَالِيَة.، لَيْسَ بهَا أحد، وَقَالَ الجربي: الْوَحْش من الأَرْض هُوَ الْخَلَاء، وأصل الْوَحْش كل شَيْء توحش من الْحَيَوَان، وَقد يعبر بِوَاحِد عَن جمعه، وَعَن ابْن المرابط: مَعْنَاهُ أَن غنمها تصير وحوشا، إِمَّا أَن تنْقَلب ذَاتهَا فَتَصِير وحوشا، وَإِمَّا أَنَّهَا تنفر وتتوحش من أصواتهما، وَأنكر عِيَاض هَذَا، وَاخْتَارَ أَن يعود الضَّمِير إِلَى الْمَدِينَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم: فيجدانها وحشا، أَي: خَالِيَة لَيْسَ بهَا أحد. قَوْله: (ثنية الْوَدَاع) ، هِيَ عقبَة عِنْد حرم الْمَدِينَة، سميت بذلك لِأَن الْخَارِج من الْمَدِينَة يمشي مَعَه المودعون إِلَيْهَا. قَوْله: (خرّا) بتَشْديد الرَّاء. أَي: سقطا ميتين، أَو سقطا بِمن أسقطهما، وَهُوَ الْملك.
5781 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ عنْ سفْيانَ بنِ أبِي زُهَيْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تُفْتَحُ الْيَمَنُ فيَأتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فيَتَحَمَّلُونَ بأهْلِيهِمْ ومَنْ أطَاعَهُمْ والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وتفْتَحُ الشَّأمُ فيَأتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فيَتَحَمَّلُونَ بأهْلِهِمْ والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويُفْتَحُ العِرَاقُ فَيأتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فيَتَحَمَّلُونَ بأهْلِيهمْ ومنْ أطَاعَهُمْ والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الْمَذْكُورين تفَرقُوا فِي الْبِلَاد بعد الفتوحات وَرَغبُوا عَن الْإِقَامَة فِي الْمَدِينَة، وَلَو صَبَرُوا على الْإِقَامَة فِيهَا لَكَانَ خيرا لَهُم، والترجمة فِيمَن رغب عَن الْمَدِينَة، وَهَؤُلَاء رَغِبُوا عَنْهَا، واختاروا غَيرهَا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَمَالك بن أنس، وَهِشَام بن عُرْوَة، وَأَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَعبد الله بن الزبير أَخُو عُرْوَة بن الزبير، وسُفْيَان بن أبي زُهَيْر، بِضَم الزَّاي: مصغر الزهر النمري، بالنُّون: الْأَزْدِيّ ويلقب بِابْن أبي القرد، بِفَتْح الْقَاف وَبعدهَا دَال مُهْملَة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقيل: القرد هُوَ اسْم أبي زُهَيْر، وَقيل: اسْمه نمير، وَكَانَ نازلاً بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الشنوئي من أَزْد شنُوءَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم النُّون وَبعد الْوَاو همزَة مَفْتُوحَة، وَفِي النّسَب كَذَلِك، وَقيل: بِفَتْح النُّون بعْدهَا همزَة مَكْسُورَة بِلَا وَاو، وشنوءة هُوَ: عبد الله بن كَعْب بن مَالك بن نضر بن الأزد، وَسمي شنُوءَة لشنئان كَانَ بَينه وَبَين قومه.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ لِأَن هشاما لَقِي بعض الصَّحَابَة. وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَفِيه: فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: عَن سُفْيَان بن أبي زُهَيْر، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة: عَن هِشَام عَن أَبِيه، كَذَلِك وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ عُرْوَة: ثمَّ لقِيت سُفْيَان بن أبي زُهَيْر عِنْد مَوته فَأَخْبرنِي بِهَذَا الحَدِيث. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ، وَالله أعلم.(10/238)
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم، وَعَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تفتح الْيمن) ، قَالَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: افتتحت الْيمن فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَيَّام أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وافتتحت الشَّام بعْدهَا، وَالْعراق بعْدهَا. انْتهى. قلت: يمن اسْم يعرب بن قحطان بن عَابِر، وَهُوَ هود، فَلذَلِك يُقَال أَرض يمن، ذكره فِي كتاب (التيجان) وَذكر الْبكْرِيّ: إِنَّمَا سمي الْيمن يمنا لِأَنَّهُ عَن يَمِين الْكَعْبَة، كَمَا سمي الشَّام شاما لِأَنَّهُ عَن شمال الْكَعْبَة. وَقيل: إِنَّمَا سمي بذلك قبل أَن تعرف الْكَعْبَة لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس، وَقيل: سميت الْيمن يمنا بيمن بن قحطان، وَحكى الْهَمدَانِي، قَالَ: لما طغت الْعَرَب العاربة أَقبلت بَنو يقطن بن عَابِر فتيامنوا، فَقَالَت الْعَرَب: تيامنت بَنو يقطن، فسموا الْيمن. وتشأم الْآخرُونَ فسموا شاما. قَوْله: (يبسون) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة من: بس يبس بسا، والبس: سوق الْإِبِل. تَقول: بس يبس عِنْد السُّوق وَإِرَادَة السرعة، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي رِوَايَة يحيى بن يحيى: يبسون، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: إِن ابْن الْقَاسِم رَوَاهُ بضَمهَا قلت: حَاصله أَنه من بَاب: نصر ينصر، وَمن بَاب: ضرب يضْرب، وَفِي (التَّلْوِيح) أَشَارَ إِلَى أَنه رُوِيَ بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، فعلى هَذَا يكون من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ من أبس يبس على وزن أفعل. قَالَ الْحَرْبِيّ: وَمَعْنَاهُ يتحملون بأهليهم، وَقيل: مَعْنَاهُ يدعونَ النَّاس إِلَى بِلَاد الخصب، وَقَالَ الدَّاودِيّ مَعْنَاهُ: يزجرون دوابهم فيفتتون مَا يطؤنه من الأَرْض من شدَّة السّير فَيصير غبارا من قَوْله تَعَالَى: {وبست الْجبَال بسا} (الْوَاقِعَة: 5) . أَي: سَالَتْ سيلاً. وَقيل: مَعْنَاهُ سَارَتْ سيرا. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: البس الْمُبَالغَة فِي الفت، وَمِنْه قيل للدقيق الْمَصْنُوع بالدهن: بسيس، وَأنكر ذَلِك النَّوَوِيّ، وَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف أَو بَاطِل. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَقيل: معنى يبسون يسْأَلُون عَن الْبِلَاد، وتستقر لأهلهم الْبِلَاد الَّتِي تفتح ويدعونهم إِلَى سكناهَا فيتحملون بِسَبَب ذَلِك من الْمَدِينَة راحلين إِلَيْهَا، وَيشْهد لهَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم: (يَأْتِي على النَّاس زمَان يَدْعُو الرجل ابْن عَمه وقريبه إِلَى الْمَجِيء إِلَيْهَا لذَلِك، فيتحمل الْمَدْعُو بأَهْله وَأَتْبَاعه) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب أَن مَعْنَاهُ: الْإِخْبَار عَمَّن خرج من الْمَدِينَة متحملاً بأَهْله، بَأْسا فِي سيره، مسرعا إِلَى الرخَاء والأمصار المفتتحة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة فِي هَذَا الحَدِيث: (تفتح الشَّام فَيخرج النَّاس من الْمَدِينَة يبسون، وَالْمَدينَة خير لَهُم لَو كَانُوا يعلمُونَ) . وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث جَابر، سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (ليأتينَّ على أهل الْمَدِينَة زمَان ينْطَلق النَّاس فِيهَا إِلَى الأرياف يَلْتَمِسُونَ الرخَاء فيجدون رخاء، ثمَّ يأْتونَ فيتحملون بأهليهم إِلَى الرخَاء وَالْمَدينَة خير لَو كَانُوا يعلمُونَ) . وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وَفِيه مقَال، وَلَكِن أَحْمد قبله وَرَضي بِهِ، وَلَا بَأْس بِهِ فِي المتابعات. قَوْله: (لَو كَانُوا يعلمُونَ) أَي: بفضلها من الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وثواب الْإِقَامَة فِيهَا لِأَنَّهَا حرم الرَّسُول ومهبط الْوَحْي ومنزل البركات. فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب: لَو؟ قلت: مَحْذُوف، دلّ عَلَيْهِ مَا قبله أَي: لَو كَانُوا من أهل الْعلم لعرفوا ذَلِك، وَلما فارقوا الْمَدِينَة. وَإِن كَانَت: لَو، بِمَعْنى: لَيْت، فَلَا جَوَاب لَهَا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيهِ تجهيل لمن فَارقهَا لتفويته على نَفسه خيرا عَظِيما، وَفِيه معجزات للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أخبر بِفَتْح هَذِه الأقاليم، وَأَن النَّاس يتحملون بِأَهَالِيِهِمْ ويفارقون الْمَدِينَة، وَأَن هَذِه الأقاليم تفتح على هَذَا التَّرْتِيب الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَوجد جَمِيع ذَلِك. قَوْله: (وَمن أطاعهم) أَي: ويتحملون بِمن أطَاع أَهْليهمْ من النَّاس. قَوْله: (وَالْمَدينَة خير لَهُم) الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: نكر قوما لتحقيرهم وتوهين أَمرهم، ثمَّ وَصفهم بقوله: (يبسون) إشعارا بركاكة عُقُولهمْ، وَأَنَّهُمْ مِمَّن ركنوا إِلَى الحظوظ البهيمية، وحطام الدُّنْيَا الفانية العاجلة وأعرضوا عَن الْإِقَامَة فِي جوَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومهبط الْوَحْي، وَلذَلِك كرر قوما وَوَصفه فِي كل قرينَة بقوله: (يبسون) ، استحضارا لتِلْك الْهَيْئَة البهيمية. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ أَيْضا الَّذِي يَقْتَضِي هَذَا الْمقَام أَن ينزل يعلمُونَ منزلَة اللَّازِم لينتفي عَنْهُم الْعلم والمعرفة بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَو ذهب مَعَ ذَلِك إِلَى معنى التَّمَنِّي لَكَانَ أبلغ، لِأَن التَّمَنِّي طلب مَا لَا يُمكن حُصُوله أَي: ليتهم كَانُوا من أهل الْعلم تَغْلِيظًا وتشديدا. انْتهى. وَقَالُوا: المُرَاد بِهِ الخارجون من الْمَدِينَة رَغْبَة عَنْهَا كارهين لَهَا، وَأما من خرج لحَاجَة أَو تِجَارَة أَو جِهَاد أَو نَحْو ذَلِك فَلَيْسَ بداخل فِي معنى الحَدِيث.(10/239)
6 - (بابٌ الإيمانُ يأرِزُ إلَى المَدِينَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْإِيمَان يأرز إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (يأرز) ، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وبالهمزة الساكنة بعد الْألف ثمَّ بالراء الْمَكْسُورَة. ثمَّ بالزاي أَي: يَنْضَم ويجتمع بعضه إِلَى بعض فِيهَا، وَحكى صَاحب (الْمطَالع) عَن أبي الْحسن بن السراج ضم الرَّاء، وَعَن الْقَابِسِيّ فتح الرَّاء، وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّوَاب الْكسر. قلت: فعلى مَا ذكرُوا تَأتي هَذِه الْمَادَّة من ثَلَاثَة أَبْوَاب: من بَاب ضرب يضْرب، وَمن بَاب نصر ينصر، وَمن بَاب علم يعلم. فَافْهَم.
6781 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِياضٍ قَالَ حدَّثني عُبَيْدُ الله عنْ خُبَيْبِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ حَفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الإيمَانَ لَيَأرِزُ إلىَ المَدِينَةِ كَمَا تَأرِزُ الحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا.
التَّرْجَمَة عين الحَدِيث غير أَنه ترك لَام التَّأْكِيد فِي الأول.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الخزامي وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْمُنْذر بن الْمُغيرَة. الثَّانِي: أنس بن عِيَاض أَبُو ضَمرَة. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر الْعمريّ. الرَّابِع: خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عبد الرَّحْمَن خَال عبيد الله، وَقد مر فِي: بَاب الصَّلَاة بعد الْفجْر. الْخَامِس: حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله وَقد روى عبيد الله عَن خَاله خبيب بِهَذَا الْإِسْنَاد عدَّة أَحَادِيث، وَهَذَا الْإِسْنَاد هَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَاب عبيد الله، وَفِي رِوَايَة يحيى بن سليم عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: رَوَاهُ ابْن حبَان وَالْبَزَّار، وَقَالَ الْبَزَّار: يحيى بن سليم أَخطَأ فِيهِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
قَوْله: (إِن الْإِيمَان) أَي: أهل الْإِيمَان، وَاللَّام فِي: ليأرز، للتَّأْكِيد. وَقَالَ الْمُهلب فِيهِ: إِن الْمَدِينَة لَا يَأْتِيهَا إلاَّ مُؤمن، وَإِنَّمَا يَسُوقهُ إِلَيْهَا إيمَانه ومحبته فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَ الْإِيمَان يرجع إِلَيْهَا كَمَا خرج مِنْهَا أَولا. وَمِنْهَا ينتشر كانتشار الْحَيَّة من جحرها، ثمَّ إِذا راعها شَيْء رجعت إِلَى جحرها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَ هَذَا فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والقرن الَّذِي كَانَ مِنْهُم وَالَّذين يَلُونَهُمْ خَاصَّة، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَمر مُسْتَقِيمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِيه تَنْبِيه على صِحَة مَذْهَبهم وسلامتهم من الْبدع، وَأَن عَمَلهم حجَّة، كَمَا رَوَاهُ مَالك، رَحمَه الله. قلت: هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِلَى انْقِضَاء الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَهِي تسعون سنة، وَأما بعد ذَلِك فقد تَغَيَّرت الْأَحْوَال وَكَثُرت الْبدع خُصُوصا فِي زَمَاننَا هَذَا على مَا لَا يخفى.
7 - (بابُ إثْمِ منْ كادَ أهْلَ المَدِينَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إصم من كَاد أهل الْمَدِينَة أَي: أَرَادَ بهم سوءا، وَكَاد فعل ماضٍ من الكيد، وَهُوَ الْمَكْر. تَقول: كاده يكيده كيدا ومكيدة. وَكَذَلِكَ المكايدة.
7781 - حدَّثنا حُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ قَالَ أخبرنَا الْفَضْلُ عنْ جُعَيْدٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ سَمِعْتُ سَعْدا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَكِيدُ أهْلَ المَدِينَةِ أحَدٌ إلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْماعُ الْمِلْحُ فِي المَاءِ.(10/240)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، بَيَانه أَن الَّذِي يكيد أهل الْمَدِينَة يذيبه الله تَعَالَى فِي النَّار ذوب الرصاصد وَلَا يسْتَحق هَذَا ذَاك الْعَذَاب إلاَّ عَن ارتكابه إِثْمًا عَظِيما، وَهَذَا مَأْخُوذ من حَدِيث مُسلم من طَرِيق عَامر بن سعد عَن أَبِيه فِي أثْنَاء حَدِيث: (وَلَا يُرِيد أحد أهل الْمَدِينَة بِسوء إلاَّ أذابه الله فِي النَّار ذوب الرصاص، أَو ذوب الْملح فِي المَاء) . وحسين بن حُرَيْث بن الْحسن ابْن ثَابت بن قُطْبَة أَبُو عمار الْمروزِي مولى عمرَان بن الْحصين الْخُزَاعِيّ، قَالَ السراج: مَاتَ بقصر اللُّصُوص مُنْصَرفه عَن الْحَج سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَالْفضل هُوَ ابْن مُوسَى اليناني، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنونين، وَقد مر فِي: بَاب من تَوَضَّأ من الْجَنَابَة، وجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة مُصَغرًا ومكبرا. ابْن عبد الرَّحْمَن، وَقد مر فِي الْوضُوء، وَعَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، مَاتَت بِالْمَدِينَةِ سنة سبع عشرَة وَمِائَة.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ بِهَذَا الطَّرِيق، وَأخرجه مُسلم من طرق. مِنْهَا: من حَدِيث أبي عبد الله الْقَرَّاظ أَنه قَالَ: أشهد على أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زمن أَرَادَ أهل هَذِه الْبَلدة بِسوء يَعْنِي الْمَدِينَة أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء) . وَمِنْهَا: من حَدِيث عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة أَنه سمع الْقَرَّاظ، وَكَانَ من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة، يزْعم أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَرَادَ أَهلهَا بالسوء) ، يُرِيد: الْمَدِينَة، (أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء) . وَمِنْهَا: من حَدِيث عمر بن نبيه قَالَ: أَخْبرنِي دِينَار الْقَرَّاظ، قَالَ: سَمِعت سعد بن أبي وَقاص، يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَرَادَ أهل الْمَدِينَة بِسوء أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء) . وَمِنْهَا: من حَدِيث عمر بن نبيه الكعبي عَن أبي عبد الله الْقَرَّاظ، أَنه سمع سعد بن مَالك يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمثلِهِ، غير أَنه قَالَ: بدهم أَو بِسوء. وَمِنْهَا: من حَدِيث أُسَامَة بن زيد عَن أبي عبد الله الْقَرَّاظ، قَالَ: سمعته يَقُول: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة وسعدا يَقُولَانِ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أللهم بَارك لأهل الْمَدِينَة فِي مدهم. .) وسَاق الحَدِيث، وَفِيه: (من أَرَادَ أَهلهَا بِسوء أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء. .) وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث السَّائِب بن خلان رَفعه: (من أَخَاف أهل الْمَدِينَة ظَالِما لَهُم، أخافه الله وَكَانَت عَلَيْهِ لعنة الله) الحَدِيث، وروى ابْن حبَان نَحوه من حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (سَمِعت سَعْدا) يَعْنِي: أَبَاهَا سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (إلاَّ انماع) : أَي: ذاب، وعَلى وزن انفعل من الميعان، يُقَال: ماع الشَّيْء يميع وانماع ينماع إِذا ذاب، وَيجوز بادغام النُّون فِي الْمِيم، قَالَ الْكرْمَانِي: ذاب وَجرى على وَجه الأَرْض مثلا شَيْئا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يَعْنِي أَرَادَ الله الْمَكْر بهم لَا يمهله الله وَلم يُمكن لَهُ كَمَا انْقَضى شَأْن من حاربها أَيَّام بني أُميَّة مثل مُسلم بن عقبَة، فَإِنَّهُ هلك فِي مُنْصَرفه عَنْهَا، ثمَّ هلك مرسله إِلَيْهَا يزِيد بن مُعَاوِيَة على إِثْر ذَلِك، وَغَيرهمَا مِمَّن صنع صنيعهما، وَقيل: المُرَاد من كادها اغتيالاً، وعَلى غَفلَة من أَهلهَا لَا يتم لَهُ أَمر، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من أرادها فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسوء اضمحل أمره كَمَا يضمحل الرصاص فِي النَّار. قَوْله: (كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء) ، وَجه هَذَا التَّشْبِيه أَنه شبه أهل الْمَدِينَة مَعَ وفور علمهمْ وصفاء قرائحهم بِالْمَاءِ، وَشبه من يُرِيد الكيد بهم بالملح لِأَن نكاية كيدهم لما كَانَت رَاجِعَة إِلَيْهِ شبهوا بالملح الَّذِي يُرِيد إِفْسَاد المَاء فيذوب هُوَ بِنَفسِهِ. فَإِن قلت: يلْزم على هَذَا كدورة أهل الْمَدِينَة بِسَبَب فنائهم؟ قلت: المُرَاد مُجَرّد الإفناء، وَلَا يلْزم فِي وَجه التَّشْبِيه أَن يكون شَامِلًا جَمِيع أَوْصَاف الْمُشبه بِهِ نَحْو قَوْلهم: النَّحْو فِي الْكَلَام كالملح للطعام.
8 - (بابُ آطامِ المَدِينَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا وَقع من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة إشرافه على أطام الْمَدِينَة والأطام بِالْمدِّ جمع أَطَم بِضَمَّتَيْنِ، وَهِي الْحُصُون الَّتِي تبنى بِالْحِجَارَةِ، وَقيل: هُوَ كل بَيت مربع مسطح والآطام جمع قلَّة لِأَنَّهُ على وزن أَفعَال وَجمع الْكَثْرَة أطوم والواحدة: أطمة، كأكمة.
8781 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثناابنُ شِهَابٍ قَالَ أخبرَنِي عُرْوَةُ سَمِعْتُ أُسَامَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أشْرَفَ النبيُّ علَى أُطُمٍ مِنْ آطامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أرَى(10/241)
إنِّي لأرَى مَوَاقِعَ الفِتَن خِلالَ بُيُوتكُمْ كمَوَاقِعِ الْقَطْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَابْن شهَاب، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَظَالِم عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة، وَفِي الْفِتَن عَن أبي نعيم، وَفِي الْفِتَن عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن أبي بكر وَعَمْرو النَّاقِد وَإِسْحَاق وَابْن أبي عمر، أربعتهم عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ.
قَوْله: (أشرف) أَي: نظر من مَكَان مُرْتَفع. قَوْله: (مواقع الْفِتَن) أَي: مَوَاضِع سُقُوط الْفِتَن بِكَسْر الْفَاء جمع فتْنَة، قَوْله: (خلال بُيُوتكُمْ) أَي: بَينهَا ونواحيها، وَهُوَ جمع خلل، وَهُوَ الفرجة بَين الشَّيْئَيْنِ. قَوْله: (كمواقع الْقطر) ، أَي: الْمَطَر شبه سُقُوط الْفِتَن وَكَثْرَتهَا بِالْمَدِينَةِ بِسُقُوط كَثْرَة الْقطر وعمومه، قَالَ الْمُهلب: الرُّؤْيَة هُنَا الْعلم، وَهَذَا من عَلَامَات النُّبُوَّة لإخباره بِمَا سَيكون، وَقد ظهر مصداق ذَلِك من قتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وهلم جرَّا، وَلَا سِيمَا يَوْم الْحرَّة. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَنَّهَا مثلت لَهُ حَتَّى نظر إِلَيْهَا كَمَا مثلت لَهُ الْجنَّة وَالنَّار فِي الْقبْلَة حَتَّى رآهما وَهُوَ يُصَلِّي. .
تابَعَهُ مَعْمَرٌ وسُلَيْمانُ بنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع سُفْيَان معمر بن رَاشد وَسليمَان بن كثير الْعَبْدي الوَاسِطِيّ، أما مُتَابعَة معمر فوصلها البُخَارِيّ فِي الْفِتَن: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأما مُتَابعَة سُلَيْمَان فرواها مُسلم: عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن سُلَيْمَان عَنهُ.
9 - (بابٌ لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ المَدِينَةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يدْخل الدَّجَّال الْمَدِينَة.
9781 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني إبراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبيهِ عَن جَدِّهِ عنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بابٍ ملَكَانِ.
مطابقته من حَيْثُ إِن رعب الدَّجَّال إِذا لم يدْخل الْمَدِينَة فَعدم دُخُوله بِنَفسِهِ بِالطَّرِيقِ الأولى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الْقرشِي قَاضِي بَغْدَاد. الثَّالِث: سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي. الرَّابِع: جده إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو مُحَمَّد. الْخَامِس: أَبُو بكرَة، واسْمه: نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء: ابْن الْحَارِث بن كلدة الثَّقَفِيّ، وَقد تقدم فِي كتاب الْإِيمَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رعب الْمَسِيح الدَّجَّال) ، الرعب: بِالضَّمِّ الْخَوْف وَسمي الْمَسِيح مسيحا لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، أَو لِأَنَّهُ مَمْسُوح اعين لِأَنَّهُ أَعور، أَو لسياحته، وَهُوَ فعيل بمعني فَاعل، وَيُقَال فِيهِ: مسيخ. بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، لِأَنَّهُ مُشَوه مثل الممسوخ، وَيُقَال فِيهِ: مسيح، بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة، للْفرق بَينه وَبَين الْمَسِيح ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَأما معنى الدَّجَّال فكثير، واشتقاقه من الدجل وَهُوَ الْكَذِب والخلط، وَهُوَ كَذَّاب خلاط وَيجمع الدَّجَّال على دجالين ودجاجلة فِي التكسير، وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الدجل وَهُوَ: طلي الْبَعِير بالقطران، سمي بذلك لِأَنَّهُ يُغطي الْحق بسحره وَكذبه كَمَا يُغطي(10/242)
الرجل جرب بعيره بالدجالة، وَهُوَ القطران. وَقيل: سمي بِهِ لضربه نواحي الأَرْض وقطعه لَهَا، يُقَال: دجل الرجل إِذا فعل ذَلِك. وَقيل: هُوَ من الدجل بِمَعْنى التغطية. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: كل شَيْء غطيته فقد دجلته، وَمِنْه سميت دجلة لانتشارها على الأَرْض وتغطيتها مَا فاضت عَلَيْهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ المموه، قَالَه ثَعْلَب. وَأما معنى الْمَسِيح بن مَرْيَم فعلى ثَلَاثَة وَعشْرين وَجها ذَكرنَاهَا فِي كتَابنَا. قَوْله: (على كل بَاب) ، فِي رِوَايَة الْكشميهني: (لكل بَاب) . فَإِن قلت: حَدِيث أنس: (ترجف الْمَدِينَة بِأَهْلِهَا ثَلَاث رجفات) ، والرجف رعب، فَهَذَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب؟ قلت: لَا يُعَارضهُ، لِأَن الرجفة تكون من أهل الْمَدِينَة على من فِيهَا من الْمُنَافِقين والكافرين، فيخرجونهم من الْمَدِينَة بإخافتهم إيَّاهُم تَغْلِيظًا عَلَيْهِم وعَلى الدَّجَّال، فَيخرج المُنَافِقُونَ إِلَى الدَّجَّال فِرَارًا من أهل الْمَدِينَة.
0881 - حدَّثنا إسماعيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نُعَيْمِ بنِ عَبْدِ الله الْمُجْمِرِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى أنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُها الطَّاعُونُ ولاَ الدَّجَّالُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس واسْمه: عبد الله الْمدنِي إِبْنِ أُخْت مَالك بن أنس، ونعيم، بِضَم النُّون، والمجمر بِلَفْظ الْفَاعِل من الإجمار، مر فِي أول الْوضُوء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن القعْنبِي، وَفِي الطِّبّ عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم، وَفِيه وَفِي الْحَج عَن قُتَيْبَة، الْكل عَن نعيم المجمر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على أنقاب الْمَدِينَة) ، الأنقاب جمع نقب، بِفَتْح النُّون، وَهُوَ جمع قلَّة وَجمع الْكَثْرَة: نقاب، وَقَالَ ابْن وهب: الأنقاب مدَاخِل الْمَدِينَة، وَقيل: هِيَ أَبْوَابهَا وفوهات طرقها الَّتِي يدْخل إِلَيْهَا مِنْهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الطّرق الَّتِي يسلكها النَّاس، وَمِنْه قَوْله عز وَجل: {فَنقبُوا فِي الْبِلَاد} (ق: 63) . وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي: النقب الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَكَذَلِكَ النقب والمنقب والمنقبة عَن يَعْقُوب، وَقَالَ ابْن سَيّده: النقب والنقب فِي أَي شَيْء كَانَ نقبه ينقبه نقبا، وَعَن الْقَزاز، وَيُقَال أَيْضا: نقب بِكَسْر النُّون، وَضبط ابْن فَارس بِالسُّكُونِ يَقْتَضِي أَن لَا يكون جمعه أنقابا كَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا يجمع على نقاب، كَمَا رَوَاهُ أَبُو سعيد، وَفِيه برهَان عَظِيم ظَهرت صِحَّته ببركة دُعَائِهِ للمدينة. قَوْله: (الطَّاعُون) ، الْمَوْت من الوباء. وَقَوله: (لَا يدخلهَا الطَّاعُون وَلَا الدَّجَّال) جملَة مستأنفة، بَيَان لموجب اسْتِقْرَار الْمَلَائِكَة على الأنقاب.
453 - (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد قَالَ حَدثنَا أَبُو عَمْرو قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق قَالَ حَدثنِي أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَيْسَ من بلد إِلَّا سيطؤه الدَّجَّال إِلَّا مَكَّة وَالْمَدينَة لَيْسَ لَهَا من نقابها نقب إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة صافين يحرسونها ثمَّ ترجف الْمَدِينَة بِأَهْلِهَا ثَلَاث رجفات فَيخرج الله كل كَافِر ومنافق) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَالْمَدينَة " يَعْنِي لَا يدخلهَا الدَّجَّال والوليد هُوَ مُسلم الدِّمَشْقِي وَأَبُو عَمْرو هُوَ عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَق هُوَ ابْن عبد الله بن أبي طَلْحَة والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْفِتَن عَن عَليّ بن حجر عَن الْوَلِيد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَن عمر بن عبد الْوَاحِد قَوْله " إِلَّا سيطؤه " مُسْتَثْنى من الْمُسْتَثْنى وَهُوَ قَوْله " لَيْسَ من بلد " وَهُوَ على ظَاهره وعمومه عِنْد الْجُمْهُور وشذ ابْن حزم فَقَالَ المُرَاد لَا يدْخلهُ بَعثه وَجُنُوده وَكَأَنَّهُ استبعد إِمْكَان دُخُول الدَّجَّال جَمِيع الْبِلَاد لقصر مدَّته وغفل عَمَّا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن بعض أَيَّامه يكون قدر السّنة قَالَه بَعضهم (قلت) يحْتَمل أَن يكون إِطْلَاق قدر السّنة على بعض أَيَّامه لَيْسَ على حَقِيقَته بل لكَون الشدَّة الْعَظِيمَة الْخَارِجَة عَن الْحَد أطلق(10/243)
عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قدر السّنة قَوْله " إِلَّا مَكَّة وَالْمَدينَة " يَعْنِي لَا يطؤهما الدَّجَّال وَذكر الطَّبَرِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو " إِلَّا الْكَعْبَة وَبَيت الْمُقَدّس " وَزَاد أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ " وَمَسْجِد الطّور " وَرَوَاهُ من حَدِيث جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي بعض الرِّوَايَات فَلَا يبْقى لَهُ مَوضِع إِلَّا وَيَأْخُذهُ غير مَكَّة وَالْمَدينَة وَبَيت الْمُقَدّس وجبل الطّور فَإِن الْمَلَائِكَة تطرده عَن هَذِه الْمَوَاضِع قَوْله " من نقابها " أَي نقاب الْمَدِينَة والنقاب بِكَسْر النُّون جمع نقب وَهُوَ جمع الْكَثْرَة وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي الحَدِيث السَّابِق قَوْله " صافين " حَال من الْمَلَائِكَة وَهُوَ جمع صَاف من صف قَوْله " يحرسونها " من الْأَحْوَال المتداخلة قَوْله " ثمَّ ترجف الْمَدِينَة " أَي يحصل بهَا زَلْزَلَة بعد أُخْرَى ثمَّ فِي الرجفة الثَّالِثَة يخرج الله مِنْهَا من لَيْسَ مخلصا فِي إيمَانه وَيبقى بهَا الْمُؤمن المخلص فَلَا يُسَلط عَلَيْهِ الدَّجَّال وَفِيه أَيْضا معْجزَة ظَاهِرَة للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ أخبر عَن أَمر سَيكون قطعا وَفِيه بَيَان فضل الْمَدِينَة وَفضل أَهلهَا الْمُؤمنِينَ الخالصين
2881 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله أنَّ أبَا سَعِيدٍ الخدْرِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ حدَّثنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا طَويلا عنِ الدَّجالِ فكانَ فِيما حدَّثنَا بهِ أنْ قالَ يأتِي الدَّجَّالُ وهْوَ مُحَرَّمٌ عليْهِ أنْ يَدْخُلَ نِقابَ المدِينَةِ بَعْضَ السِّباخِ الَّتِي بالمَدِينَةِ فيَخْرُجُ إليْهِ يَوْمَئِذٍ رجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فيَقُولُ أشْهَدُ أنَّكَ الدَّجالُ الَّذِي حَدثنَا عنْكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَديثَهُ فيَقُولُ الدَّجَّالُ أرأيْتَ إنْ قتَلْتُ هذَا ثُمَّ أحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأمرِ فيَقُولُونَ لاَ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْييهِ فيَقُولُ حِينَ يُحْييهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أشَدَّ بَصِيرَةً منِّي الْيَوْمَ فيَقُولُ الدَّجَّالُ أقْتُلُهُ فَلا اسلَّطُ عَلَيْهِ.
(الحَدِيث 2881 طرفه فِي: 2371) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل على أَن الدَّجَّال ينزل على سبخَة من سباخ الْمَدِينَة، وَلَا يقدر على الدُّخُول إِلَى الْمَدِينَة وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْفِتَن عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن السَّمرقَنْدِي عَن أبي الْيَمَان بِهِ، وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَحسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، ثَلَاثَتهمْ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن أبي دَاوُد وَسليمَان بن سيف عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَدثنَا) ، فعل ومفعول، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاعله، قَوْله: (عَن الدَّجَّال) أَي: عَن حَاله وَفعله. قَوْله: (أَن قَالَ) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: قَوْله يَأْتِي الدَّجَّال. قَوْله: (وَهُوَ محرم عَلَيْهِ) ، جملَة حَالية. (ومحرم) على صِيغَة الْمَفْعُول من التَّحْرِيم، قَوْله: (أَن يدْخل) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة، أَي: دُخُوله وَهِي فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فِي تَقْدِير الْفَاعِل. قَوْله: (ينزل) جملَة مستأنفة كَانَ الْقَائِل يَقُول: إِذا كَانَ الدُّخُول عَلَيْهِ حَرَامًا فَكيف يفعل؟ قَالَ ينزل بعض السباخ، بِكَسْر السِّين: حمع سبخَة، وَهِي الأَرْض الَّتِي تعلوها الملوحة، مَعْنَاهُ: ينزل خَارج الْمَدِينَة على أَرض سبخَة من سباخ الْمَدِينَة. قَوْله: (فَيخرج إِلَيْهِ) أَي: إِلَى الدَّجَّال. قَوْله: (رجل هُوَ خير النَّاس) قَالَ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، يُقَال: إِن هَذَا الرجل هُوَ الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه وَكَذَا قَالَ معمر فِي جَامِعَة بَلغنِي أَن ذَلِك الرجل هُوَ الْخضر عَلَيْهِ الْخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله: (أَو من خير النَّاس) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (أَرَأَيْت؟) ، أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (فَيَقُولُونَ) ، الْقَائِلُونَ بِهِ إِمَّا الْيَهُود ومصدقوه من أهل الشقاوة، وَإِمَّا أَعم مِنْهُم، وقالوه خوفًا مِنْهُ لَا تَصْدِيقًا، أَو قصدُوا بِهِ عدم الشَّك فِي كفره، وَكَونه دجالًا. قَوْله: (أَشد بَصِيرَة مني الْيَوْم) لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبرنِي بِأَن عَلامَة الدَّجَّال أَنه يحيى الْمَقْتُول، فزادت بصيرته بِحُصُول تِلْكَ الْعَلامَة، ويروى: (أَشد مني بَصِيرَة الْيَوْم) ، فالمفضل والمفضل عَلَيْهِ كِلَاهُمَا هُوَ نفس الْمُتَكَلّم لكنه مفضل بِاعْتِبَار غَيره. قَوْله: (أَقتلهُ فَلَا أسلط عَلَيْهِ) أَي: أَقتلهُ فَلَا أسلط على قَتله، وأسلط على صِيغَة الْمَجْهُول، وَلَا بُد من تَقْدِير الْهمزَة الإنكارية. ويروى بِظُهُور الْهمزَة لفظا وَأما حَدِيث، وَكَأَنَّهُ يُنكر(10/244)
على إِرَادَته الْقَتْل وَعدم تسلطه عَلَيْهِ. ويروى (فَلَا يُسَلط عَلَيْهِ) أَي: لَا يقدر على قَتله بِأَن يَجْعَل الله بدنه كالنحاس لَا يجْرِي عَلَيْهِ السَّيْف، أَو بِأَمْر آخر نَحوه، وروى مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يخرج الدَّجَّال فَيتَوَجَّه قبله رجل من الْمُؤمنِينَ فَتَلقاهُ المسايح مسايح الدَّجَّال فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْن تعمد؟ فَيَقُول: أعمد إِلَى هَذَا الَّذِي خرج، قَالَ: فَيَقُولُونَ لَهُ: أَو مَا تؤمن بربنا؟ فَيَقُول: مَا بربنا خَفَاء، فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ! فَيَقُول بَعضهم لبَعض: أَلَيْسَ قد نهاكم ربكُم أَن تقتلُوا أحدا دونه؟ قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّال، فَإِذا رَآهُ الْمُؤمن قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس هَذَا الدَّجَّال الَّذِي ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فيأمر الدَّجَّال بِهِ فيشج، فَيَقُول: خذوه فيوسع ظَهره وبطنه ضربا، قَالَ: فَيَقُول أَو مَا تؤمن بِي؟ قَالَ: فَيَقُول: أَنْت الْمَسِيح الْكذَّاب، قَالَ: فينشر بِالْمِنْشَارِ من مفرقه حَتَّى يفرق بَين رجلَيْهِ، قَالَ ثمَّ يمشي الدَّجَّال بَين القطعتين، ثمَّ يَقُول لَهُ: قُم، فيستوي قَائِما، ثمَّ يَقُول لَهُ أتؤمن بِي؟ فَيَقُول: مَا ازددت فِيك إلاَّ بَصِيرَة. قَالَ: ثمَّ يَقُول: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه لَا يفعل بعدِي بِأحد من النَّاس، قَالَ: فَيَأْخذهُ الدَّجَّال حَتَّى يذبحه، فَيجْعَل مَا بَين رقبته إِلَى ترقوته نُحَاسا فَلَا يَسْتَطِيع إِلَيْهِ سَبِيلا، قَالَ: فَيَأْخُذ يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فيقذف بِهِ، فيحسب النَّاس أَنما قذفه إِلَى النَّار، وَإِنَّمَا ألقِي فِي الْجنَّة.، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا أعظم النَّاس شَهَادَة عِنْد رب الْعَالمين) .
01 - (بابٌ المَدِينَةُ تَنْفي الخَبَثَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث أَي: تطرده وتخرجه.
3881 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ أعْرَابِيٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَايَعَهُ عَلَى الإسلامِ فَجاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُوما فَقَالَ أقِلْنِي فَأبى ثَلاثَ مِرَارٍ فَقَالَ المَدِينَةُ كالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا ويَنْصَعُ طِيبُها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كالكير تَنْفِي خبثها) ، وَعَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر فِي فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْمهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي نعيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
قَوْله: (عَن جَابر) ، وَقع فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا. قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) : إِنَّه قيس بن أبي حَازِم، قيل: هُوَ مُشكل لِأَنَّهُ تَابِعِيّ كَبِير مَشْهُور، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتَ، وَفِي (الذيل) لأبي مُوسَى: فِي الصَّحَابَة قيس بن أبي حَازِم الْمنْقري، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ هَذَا، قَوْله: (فَبَايعهُ على الْإِسْلَام) ، من الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده مَا صَاحبه وَأَعْطَاهُ خُلَاصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره. قَوْله: (محموما) ، نصب على الْحَال من: حم الرجل من الْحمى، وأحمه الله فَهُوَ مَحْمُوم، وَهُوَ من الشواذ. قَوْله: (أَقلنِي) من الْإِقَالَة أَي: أَقلنِي من الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: امْتنع، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثَلَاث مرار) يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد من قَوْله: (فَقَالَ) ، وَقَوله: (فَأبى) وَهُوَ من تنَازع العاملين فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ: الْمَدِينَة) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (ينصع) ، بِفَتْح يَاء المضارعة وَسُكُون النُّون وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره عين مُهْملَة من النصوع، وَهُوَ الخلوص، والناصع الْخَالِص. قَوْله: (طيبها) ، بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه فَاعل. لقَوْله: (ينصع) ، لِأَن النصوع لَازم، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: ينصع، بِضَم الْيَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الصَّاد من التنصيع، وَقَوله: (طيبها) ، بتَشْديد الْيَاء مَفْعُوله بِالنّصب، هَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: من التنصيع، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه من الإنصاع من: بَاب الافعال، وَسَوَاء كَانَ من التنصيع أَو الإنصاع فَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَلذَلِك نصب: طيبها. فَافْهَم. وَقَالَ الْقَزاز: قَوْله: (ينصع) لم أجد لَهُ فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا الْكَلَام: يتضوع طيبها أَي: يفوح، وَقَالَ: ويروى: (ينضخ) بضاد وخاء معجمتين، قَالَ: ويروى بحاء مُهْملَة، وَهُوَ أقل من النضخ، يَعْنِي بالضاد الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : يبضع، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: من أبضعة بضَاعَة إِذا دَفعهَا إِلَيْهِ، مَعْنَاهُ: أَن الْمَدِينَة تُعْطِي طيبها لمن سكنها. ورد عَلَيْهِ الصَّاغَانِي بِأَن(10/245)
قَالَ: وَقد خَالف الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا القَوْل جَمِيع الروَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَشْهُور بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة. فَإِن قلت: لما قَالَ الْأَعرَابِي أَقلنِي لِمَ لَمْ يُقِلْهُ؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز لمن أسلم أَن يتْرك الْإِسْلَام، وَلَا لمن هَاجر إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يتْرك الْهِجْرَة وَيذْهب إِلَى وَطنه، وَهَذَا الْأَعرَابِي كَانَ مِمَّن هَاجر وَبَايع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمقَام عِنْده، قَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن بيعَته كَانَت بعد الْفَتْح وَسُقُوط الْهِجْرَة إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَايع على الْإِسْلَام وَطلب الْإِقَالَة فَلم يقلهُ، وَقَالَ ابْن بطال: وَالدَّلِيل على أَنه لم يرد الإرتداد عَن الْإِسْلَام أَنه لم يرد حل مَا عقده إلاَّ بموافقة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَلَو كَانَ خُرُوجه عَن الْمَدِينَة خُرُوجًا عَن الْإِسْلَام لقَتله حِين ذَاك، وَلكنه خرج عَاصِيا. وَرَأى أَنه مَعْذُور لما نزل بِهِ من الْحمى، وَلَعَلَّه لم يعلم أَن الْهِجْرَة فرض عَلَيْهِ، وَكَانَ من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {وأجدر ألاَّ يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} (التَّوْبَة: 79) . فَإِن قلت: إِن الْمُنَافِقين قد سكنوا الْمَدِينَة وماتوا فِيهَا وَلم تنفهم؟ قلت: كَانَت الْمَدِينَة دَارهم أصلا وَلم يسكنوها بِالْإِسْلَامِ وَلَا حباله، وَإِنَّمَا سكنوها لما فِيهَا من أصل معاشهم، وَلم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب الْمثل إلاَّ من عقد الْإِسْلَام رَاغِبًا فِيهِ ثمَّ خبث قلبه.
456 - (حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت عَن عبد الله بن يزِيد قَالَ سَمِعت زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ يَقُول لما خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أحد رَجَعَ نَاس من أَصْحَابه فَقَالَت فرقة نقتلهم وَقَالَت فرقة لَا نقتلهم فَنزلت {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَال كَمَا تَنْفِي النَّار خبث الْحَدِيد) . مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " كَمَا تَنْفِي النَّار خبث الْحَدِيد " وَهُوَ ظَاهر. وَرِجَاله قد تقدمُوا وَعبد الله بن يزِيد الخطمي الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ فِي نسق وَاحِد وَكِلَاهُمَا أنصاريان والْحَدِيث أخرجه فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْوَلِيد وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار وَأخرجه فِي الْمَنَاسِك وَقد ذكر الْمُنَافِقين عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَفِي ذكر الْمُنَافِقين عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي بكر بن نَافِع عَن غنْدر الْكل عَن شُعْبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر بِهِ قَوْله " إِلَى أحد " كَانَت غَزْوَة أحد يَوْم السبت فِي منتصف شَوَّال عَام ثَلَاث من الْهِجْرَة وَقَالَ البلاذري لتسْع خلون مِنْهُ وَالْأول أشهر وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة ومُوسَى بن عقبَة قَوْله " رَجَعَ نَاس من أَصْحَابه " أَي من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمسلمون فسلكوا على الْبَدَائِع وهم ألف رجل وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَة آلَاف فَمضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى نزل بِأحد وَرجع عَنهُ عبد الله ابْن أبي بن سلول فِي ثَلَاثمِائَة فَبَقيَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَبْعمِائة قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد أهل الْمَغَازِي أَنهم بقوا فِي سَبْعمِائة قَالَ وَالْمَشْهُور عَن الزُّهْرِيّ أَنهم بقوا فِي أَرْبَعمِائَة مقَاتل وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة وَكَانَ على خيل الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ مَعَهم مائَة فرس وَكَانَ لواؤهم مَعَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة قَالَ وَلم يكن مَعَ الْمُسلمين فرس وَاحِد وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وعدة أَصْحَاب رَسُول الله سَبْعمِائة ذِرَاع وَلم يكن مَعَهم من الْخَيل سوى فرسين فرس لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفرس لأبي بردة قَوْله " قَالَت فرقة نقتلهم " أَي نقْتل الراجعين وَقَالَت فرقة لَا نقتلهم فَلَمَّا اخْتلفُوا أنزل الله تَعَالَى {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} وَهَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي النِّسَاء وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نُزُولهَا فَقيل فِي هَؤُلَاءِ الَّذين رجعُوا من غَزْوَة أحد بعد أَن خَرجُوا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقيل فِي قوم استئذنوا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخُرُوج إِلَى البدو معتلين باجتواء الْمَدِينَة فَلَمَّا خَرجُوا لم يزَالُوا راحلين مرحلة حَتَّى لَحِقُوا بالمشركين فَاخْتلف الْمُسلمُونَ فيهم فَقَالَ بَعضهم هم كفار وَقَالَ بَعضهم هم مُسلمُونَ وَقيل كَانُوا قوما هَاجرُوا من مَكَّة ثمَّ بدا لَهُم فَرَجَعُوا وَكَتَبُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّا على دينك وَمَا أخرجنَا إِلَّا اجتواء الْمَدِينَة والاشتياق إِلَى بلدنا وَقيل هم العرنيون الَّذين أَغَارُوا على السَّرْح وَقتلُوا يسارا وَقيل هم قوم أظهرُوا الْإِسْلَام وقعدوا عَن الْهِجْرَة(10/246)
وَقَالَ زيد بن أسلم عَن ابْن سعد بن معَاذ أَنَّهَا نزلت فِي تقاول الْأَوْس والخزرج فِي شَأْن عبد الله بن أبي حِين استعذر مِنْهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الْمِنْبَر فِي قَضِيَّة الْإِفْك وَهَذَا غَرِيب قَوْله {فَمَا لكم} يَعْنِي مَا لكم اختلفتم فِي شَأْن قوم نافقوا نفَاقًا ظَاهرا وتفرقتم فِيهِ فرْقَتَيْن وَمَا لكم لم تثبتوا القَوْل فِي كفرهم وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فئتين نصب على الْحَال كَقَوْلِك مَا لَك قَائِما قَوْله {وَالله أركسهم} أَي ردهم فِي حكم الْمُشْركين كَمَا كَانُوا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَي أوقفهم وأوقعهم فِي الْخَطَأ وَقَالَ قَتَادَة أهلكهم وَقَالَ السّديّ أضلهم قَوْله {بِمَا كسبوا} أَي بِسَبَب عصيانهم ومخالفتهم الرَّسُول واتباعهم الْبَاطِل {أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله} أَي من جعله من جملَة الضلال وقرىء ركسهم قَوْله (فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا) أَي لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْهدى وَلَا مخلص لَهُ إِلَيْهِ قَوْله " إِنَّهَا " أَي أَن الْمَدِينَة تَنْفِي الرِّجَال جمع رجل وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد عَن شرارهم وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الدَّجَّال بِالدَّال وَالْجِيم الْمُشَدّدَة قيل هُوَ تَصْحِيف وَالْمَقْصُود من النَّفْي الْإِظْهَار والتمييز بِقَرِينَة الْمُشبه بِهِ وَفِيه من الْفِقْه أَن من عقد على نَفسه أَو على غَيره عهدا لله تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي لَهُ حلّه لِأَن فِي حلّه خُرُوجًا عَمَّا عقد وَفِيه أَن الارتداد عَن الْهِجْرَة من أكبر الْكَبَائِر وَلذَلِك دَعَا لَهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " اللَّهُمَّ امْضِ لِأَصْحَابِي هجرتهم وَلَا تردهم على أَعْقَابهم " وَفِيه جَوَاز ضرب الْمثل وَفِيه أَن النَّفْي كَالْقَتْلِ -
01 - (بابٌ المَدِينَةُ تَنْفي الخَبَثَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث أَي: تطرده وتخرجه.
3881 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ أعْرَابِيٌ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَايَعَهُ عَلَى الإسلامِ فَجاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُوما فَقَالَ أقِلْنِي فَأبى ثَلاثَ مِرَارٍ فَقَالَ المَدِينَةُ كالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا ويَنْصَعُ طِيبُها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كالكير تَنْفِي خبثها) ، وَعَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر فِي فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْمهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي نعيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
قَوْله: (عَن جَابر) ، وَقع فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا. قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) : إِنَّه قيس بن أبي حَازِم، قيل: هُوَ مُشكل لِأَنَّهُ تَابِعِيّ كَبِير مَشْهُور، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ هَاجر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتَ، وَفِي (الذيل) لأبي مُوسَى: فِي الصَّحَابَة قيس بن أبي حَازِم الْمنْقري، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ هَذَا، قَوْله: (فَبَايعهُ على الْإِسْلَام) ، من الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده مَا صَاحبه وَأَعْطَاهُ خُلَاصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره. قَوْله: (محموما) ، نصب على الْحَال من: حم الرجل من الْحمى، وأحمه الله فَهُوَ مَحْمُوم، وَهُوَ من الشواذ. قَوْله: (أَقلنِي) من الْإِقَالَة أَي: أَقلنِي من الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: امْتنع، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثَلَاث مرار) يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد من قَوْله: (فَقَالَ) ، وَقَوله: (فَأبى) وَهُوَ من تنَازع العاملين فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ: الْمَدِينَة) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (ينصع) ، بِفَتْح يَاء المضارعة وَسُكُون النُّون وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره عين مُهْملَة من النصوع، وَهُوَ الخلوص، والناصع الْخَالِص. قَوْله: (طيبها) ، بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه فَاعل. لقَوْله: (ينصع) ، لِأَن النصوع لَازم، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: ينصع، بِضَم الْيَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الصَّاد من التنصيع، وَقَوله: (طيبها) ، بتَشْديد الْيَاء مَفْعُوله بِالنّصب، هَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: من التنصيع، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه من الإنصاع من: بَاب الافعال، وَسَوَاء كَانَ من التنصيع أَو الإنصاع فَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَلذَلِك نصب: طيبها. فَافْهَم. وَقَالَ الْقَزاز: قَوْله: (ينصع) لم أجد لَهُ فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا الْكَلَام: يتضوع طيبها أَي: يفوح، وَقَالَ: ويروى: (ينضخ) بضاد وخاء معجمتين، قَالَ: ويروى بحاء مُهْملَة، وَهُوَ أقل من النضخ، يَعْنِي بالضاد الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : يبضع، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: من أبضعة بضَاعَة إِذا دَفعهَا إِلَيْهِ، مَعْنَاهُ: أَن الْمَدِينَة تُعْطِي طيبها لمن سكنها. ورد عَلَيْهِ الصَّاغَانِي بِأَن قَالَ: وَقد خَالف الزَّمَخْشَرِيّ بِهَذَا القَوْل جَمِيع الروَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَشْهُور بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة. فَإِن قلت: لما قَالَ الْأَعرَابِي أَقلنِي لِمَ لَمْ يُقِلْهُ؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز لمن أسلم أَن يتْرك الْإِسْلَام، وَلَا لمن هَاجر إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يتْرك الْهِجْرَة وَيذْهب إِلَى وَطنه، وَهَذَا الْأَعرَابِي كَانَ مِمَّن هَاجر وَبَايع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمقَام عِنْده، قَالَ عِيَاض: وَيحْتَمل أَن بيعَته كَانَت بعد الْفَتْح وَسُقُوط الْهِجْرَة إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَايع على الْإِسْلَام وَطلب الْإِقَالَة فَلم يقلهُ، وَقَالَ ابْن بطال: وَالدَّلِيل على أَنه لم يرد الإرتداد عَن الْإِسْلَام أَنه لم يرد حل مَا عقده إلاَّ بموافقة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، وَلَو كَانَ خُرُوجه عَن الْمَدِينَة خُرُوجًا عَن الْإِسْلَام لقَتله حِين ذَاك، وَلكنه خرج عَاصِيا. وَرَأى أَنه مَعْذُور لما نزل بِهِ من الْحمى، وَلَعَلَّه لم يعلم أَن الْهِجْرَة فرض عَلَيْهِ، وَكَانَ من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {وأجدر ألاَّ يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} (التَّوْبَة: 79) . فَإِن قلت: إِن الْمُنَافِقين قد سكنوا الْمَدِينَة وماتوا فِيهَا وَلم تنفهم؟ قلت: كَانَت الْمَدِينَة دَارهم أصلا وَلم يسكنوها بِالْإِسْلَامِ وَلَا حباله، وَإِنَّمَا سكنوها لما فِيهَا من أصل معاشهم، وَلم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب الْمثل إلاَّ من عقد الْإِسْلَام رَاغِبًا فِيهِ ثمَّ خبث قلبه.
10 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب قد ذكرنَا أَن هَذَا بِمَعْنى فصل، وَقد ذكرنَا أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول، وَهَكَذَا بَاب بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر. فَإِن قلت: إِذا ذكر بَاب، هَكَذَا مُجَردا بِمَعْنى الْفَصْل فَيَنْبَغِي أَن يكون للمذكور بعده نوع تعلق بِمَا قبله. قلت: الْمَذْكُور فِيهِ حديثان عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَتعلق الحَدِيث الأول من حَيْثُ أَن الدُّعَاء بِتَضْعِيف الْبركَة وتكثيرها يَقْتَضِي تقليل مَا يضادها، فَنَاسَبَ ذَلِك نفي الْخبث، وَتعلق الحَدِيث الثَّانِي من حَيْثُ أَن حب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمدينة يُنَاسب طيب ذَاتهَا وَأَهْلهَا.
5881 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا وهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبِي قَالَ سَمِعْتُ يُونُسَ عَن ابنِ شِهَابٍ عنْ أنسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ.
وَجه الْمُطَابقَة قد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَأَبُو وهب هُوَ جرير بن حَازِم، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن وهب.
قَوْله: (ضعْفي مَا جعلت) ، تَثْنِيَة ضعف بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: ضعف الشَّيْء مثله، وضعفاه مثلاه، وَقَالَ الْفُقَهَاء: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثَلَاثَة أَمْثَاله. قَوْله: (من الْبركَة) ، أَي: كَثْرَة الْخَيْر، وَالْمرَاد بركَة الدُّنْيَا بِدَلِيل قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) . فَإِن قلت: اللَّفْظ أَعم من ذَلِك، فَيَقْتَضِي أَن تكون الصَّلَاة بِالْمَدِينَةِ ضعْفي ثَوَاب الصَّلَاة بِمَكَّة؟ قلت: وَلَئِن سلمنَا عُمُوم اللَّفْظ لكنه مُجمل فبينه بقوله: (أللهم بَارك لنا فِي صاعنا ومدنا) . أَن المُرَاد الْبركَة الدُّنْيَوِيَّة، وَخص الصَّلَاة وَنَحْوهَا بِالدَّلِيلِ الْخَارِجِي. فَإِن قلت: الِاسْتِدْلَال بِهِ على تَفْضِيل الْمَدِينَة على مَكَّة ظَاهر؟ قلت: نعم ظَاهر من هَذِه الْجِهَة، وَلَكِن لَا يلْزم من حُصُول أَفضَلِيَّة الْمَفْضُول فِي شَيْء من الْأَشْيَاء ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة على الْإِطْلَاق، فَإِن قلت: فعلى هَذَا يلْزم أَن يكون الشَّام واليمن أفضل من مَكَّة لقَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (أللهم بَارك لنا فِي شامنا، وأعادها ثَلَاثًا) ؟ قلت: التَّأْكِيد لَا يسْتَلْزم التكثير الْمُصَرّح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ ابْن حزم: لَا حجَّة فِي حَدِيث الْبَاب لَهُم، لِأَن تَكْثِير الْبركَة بهَا لَا يسْتَلْزم الْفضل فِي أُمُور الْآخِرَة، ورده القَاضِي عِيَاض بِأَن الْبركَة أَعم من أَن تكون فِي أَمر الدّين أَو الدُّنْيَا لِأَنَّهَا بِمَعْنى النَّمَاء. وَالزِّيَادَة، فَأَما فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة فَلَمَّا يتَعَلَّق بهَا من حق الله تَعَالَى من الزكوات وَالْكَفَّارَات، وَلَا سِيمَا فِي وُقُوع(10/247)
الْبركَة فِي الصَّاع وَالْمدّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الظَّاهِر أَن الْبركَة حصلت فِي نفس الْكَيْل بِحَيْثُ يَكْفِي الْمَدّ فِيهَا من لَا يَكْفِيهِ فِي غَيرهَا، وَهَذَا أَمر محسوس عِنْد من سكنها، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِذا وجدت الْبركَة فِيهَا فِي وَقت حصلت إِجَابَة الدعْوَة، وَلَا يسْتَلْزم دوامها فِي كل حِين. وَلكُل شخص؟ قلت: فِيهِ مَا فِيهِ، وَقَوْلنَا: أَفضَلِيَّة مَكَّة على الْمَدِينَة وَغَيرهَا تثبت بدلائل أُخْرَى خارجية تغني عَمَّا ذَكرُوهُ كُله. فَافْهَم.
تابَعَهُ عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ عنْ يُونُسَ
أَي: تَابع جَرِيرًا أَبَا وهب عُثْمَان بن عمر أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة الذهلي فِي جمعه لحَدِيث الزُّهْرِيّ، وَلَقَد أَتَى صَاحب (التَّلْوِيح) هُنَا بِمَا لَا يُغني شَيْئا.
6881 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فنَظَرَ إلَى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ أوْضَعَ راحِلَتَهُ وإنْ كانَ عَلى دَابَّةٍ حرَّكَها مِنْ حُبَّهَا.
(انْظُر الحَدِيث 2081) .
مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا فِي أول الْبَاب، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب من أسْرع نَاقَته إِذا بلغ الْمَدِينَة، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ (والجدرات) بِضَمَّتَيْنِ جمع: الْجدر، جمع سَلامَة وَهُوَ جمع الْجِدَار. قَوْله: (أوضع) أَي: حملهَا على السّير السَّرِيع.
11 - (بابُ كَرَاهِيَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُعْرَى المَدِينَةُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تعرى، من العراء، وَهُوَ الْخُلُو، يُقَال: تَركه عراء أَي خَالِيا، والعراء بِالْمدِّ هُوَ الفضاء الَّذِي لَا ستْرَة بِهِ، وَمِنْه: أعريت الْمَكَان إِذا جعلته خَالِيا. قَوْله: (أَن تعرى الْمَدِينَة) أَي: يَجْعَل حواليها خَالِيَة.
7881 - حدَّثنا ابنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا الْفَزَارِيُّ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أنْ يَتَحَوَّلُوا إلَى قُرْبِ المَسْجِدِ فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُعْرَى المَدِينةُ وَقَالَ يَا بَنِي سلِمَةَ ألاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فأقامُوا.
(انْظُر الحَدِيث 556 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فكره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن تعرى الْمَدِينَة) ، وَابْن سَلام اسْمه مُحَمَّد وَقد تكَرر ذكره، والفزاري، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وَبعدهَا الرَّاء: واسْمه مَرْوَان بن مُعَاوِيَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب احتساب الْآثَار، فِي أَوَائِل صَلَاة الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن حميد عَن أنس الحَدِيث.
قَوْله: (بَنو سَلمَة) ، بِفَتْح السِّين وَكسر اللَّام. قَوْله: (ألاَ تحتسبون) ، كلمة: ألاَ، للتحضيض، وَمعنى: تحتسبون، تَعدونَ الْأجر فِي خطاكم إِلَى الْمَسْجِد فَإِن لكل خطْوَة أجرا، ويروى: (أَلا تحتسبوا) ، بِدُونِ نون الْجمع، وحذفه بِدُونِ الناصب والجازم فصيح شَائِع.
21 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَقد مضى وَجه الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَوَقع هَذَا هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ بِلَا تَرْجَمَة.
8881 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ حدَّثني خُبَيْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ حَفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا بَيْنَ بَيْتِي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ ومنْبَرِي عَلى حَوْضِي.(10/248)
وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا من حَيْثُ إِن لفظ: بَاب، هَذَا مُجَردا بِمَعْنى فصل وَله تعلق بِالْبَابِ السَّابِق من حَيْثُ إِن فِيهِ كَرَاهَة إعراء الْمَدِينَة، وَفِي هَذَا ترغيب فِي سكناهَا، وَهَذَا تعلق قوي مُنَاسِب، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وخبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب فضل مَا بَين الْقَبْر والمنبر، بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن عَن مُسَدّد عَن يحيى إِلَى آخِره.
قَوْله: (مَا بَين بَيْتِي ومنبري) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر وَحده: (مَا بَين قَبْرِي ومنبري) ، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه خطأ، وَاحْتج على ذَلِك بِأَن فِي (مُسْند) مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ بِلَفْظ: (بَيْتِي) وَكَذَلِكَ بِلَفْظ (بَيْتِي) فِي: بَاب فضل مَا بَين الْقَبْر والمنبر. قلت: نِسْبَة هَذَا إِلَى الْخَطَأ خطأ، لِأَنَّهُ وَقع لفظ: قَبْرِي ومنبري، فِي حَدِيث ابْن عمر أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد رِجَاله ثِقَات، وَكَذَا وَقع فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أخرجه الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح، على أَن المُرَاد بقوله: بَيْتِي، أحد بيوته لَا كلهَا، وَهُوَ بَيت عَائِشَة الَّذِي دفن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ فَصَارَ قَبره، وَقد ورد فِي حَدِيث: (مَا بَين الْمِنْبَر وَبَيت عَائِشَة رَوْضَة من رياض الْجنَّة) ، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) . قَوْله: (رَوْضَة) أَي: كروضة من رياض الْجنَّة فِي نزُول الرَّحْمَة وَحُصُول السعادات، وَحذف أَدَاة التَّشْبِيه للْمُبَالَغَة، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن الْعِبَادَة فِيهَا تُؤدِّي إِلَى الْجنَّة فَيكون مجَازًا، أَو المُرَاد أَن ذَلِك الْموضع بِعَيْنِه ينْتَقل إِلَى الْجنَّة، فعلى مَا ذكرُوا إِمَّا تَشْبِيه وَإِمَّا مجَاز وَإِمَّا حَقِيقَة. قَوْله: (ومنبري على حَوْضِي) ، أَكثر الْعلمَاء: المُرَاد أَن منبره بِعَيْنِه الَّذِي كَانَ، وَقيل: إِن لَهُ هُنَاكَ منبرا على حَوْضه، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن مُلَازمَة منبره للأعمال الصَّالِحَة تورد صَاحبهَا إِلَى الْحَوْض وَيشْرب مِنْهُ المَاء، وَهُوَ الْحَوْض المورود الْمُسَمّى بالكوثر، وَقيل: إِن ذرع مَا بَين الْمِنْبَر وَالْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْقَبْر الْآن ثَلَاث وَخَمْسُونَ ذِرَاعا، وَقيل: أَربع وَخَمْسُونَ وَسدس، وَقيل: خَمْسُونَ إلاَّ ثلي ذِرَاع، وَهُوَ الْآن كَذَلِك، فَكَأَنَّهُ نقص لما أَدخل من الْحُجْرَة فِي الْجِدَار.
9881 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عَنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أبُو بَكْرٍ وبِلالٌ فكَانَ أبُو بَكْرٍ إذَا أخَذَتْهُ الحمَّى يَقُولُ:
(كُلُّ امْرىءٍ مُصَبَّحٌ فِي أهلِهِ ... والْمَوْتُ أدْنَى مِنْ شِرَاكِ)
وكانَ بِلاَلٌ إذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولَ:
(ألاَ لَيْتَ شَعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلٌ)
(وهَلْ أرِدَنْ يَوْما مِياهَ مَجَنَّةٍ ... وهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ وطَفِيلُ)
قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كمَا أخْرَجُونَا مِنْ أرْضِنَا إلَى أرْضِ الوَباءِ ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدُّ أللَّهُمَّ بارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وفِي مُدِّنا وصَحِّحْها لَنا وانْقُلْ حُمَّاهَا إلَى الجُحْفَةِ قالَتْ وقَدِمْنَا المَدِينَةَ وهْيَ أوْبَأُ أرْضِ الله قالَتْ فَكانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً تَعْنِي مَاء آجِنا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فهم من الَّذين قدمُوا الْمَدِينَة القلق بِسَبَب نزولهم فِيهَا وَهِي وبيئة، دَعَا الله تَعَالَى أَن يحببهم الْمَدِينَة كحبهم مَكَّة، وَأَن يُبَارك فِي صاعهم وَفِي مدهم، وَأَن ينْقل الْحمى مِنْهَا إِلَى الْجحْفَة لِئَلَّا تعرى الْمَدِينَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبيد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي، قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ فِي شهر ربيع الأول يَوْم الْجُمُعَة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.(10/249)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأمه وَأَبُو أُسَامَة كوفيان وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب، وَأخرج الحَدِيث مُسلم أَيْضا فِي الْحَج.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة) ، كَانَ قدومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ قَرِيبا من وَقت الزَّوَال، قَالَ الْوَاقِدِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لثنتي عشرَة لَيْلَة خلت مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور من السّنة الأولى من التَّارِيخ الإسلامي. قَوْله: (وعك) ، جَوَاب: لما، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أَصَابَهُ الوعك وَهُوَ الْحمى، وَقَالَ ابْن سَيّده: رجل وعك ووعك موعوك، وَهَذِه الصِّيغَة على توهم فعل كألم، والوعك لم يجده الْإِنْسَان من شدَّة التَّعَب، وَفِي (الْجَامِع) : وعك إِذا أَخَذته الْحمى، والواعك الشَّديد من الْحمى، وَقد وعكته الْحمى تعكه إِذا أَدْرَكته وَفِي (الْمُجْمل) : الوعك الْحمى، وَقيل: هُوَ مغث الْحمى. قَوْله: (كل امرىء. .) إِلَى آخِره رجز مسدس. قَوْله: (مصبح) ، بِلَفْظ الْمَفْعُول أَي: يُقَال لَهُ: صبحك الله بِالْخَيرِ، وأنعم الله تَعَالَى صباحك، وَالْمَوْت قد يفجؤه فَلَا يُمْسِي حَيا. قَوْله: (أدنى) أَي: أقرب. (من شِرَاك نَعله) ، بِكَسْر الشين: أحد سيور النَّعْل الَّتِي تكون على وَجههَا. قَوْله: (إِذا أقلع) بِلَفْظ الْمَعْلُوم من الإقلاع عَن الْأَمر، وَهُوَ الْكَفّ عَنهُ، ويروى بِلَفْظ الْمَجْهُول. قَوْله: (عقيرته) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف: وَهُوَ الصَّوْت إِذا غنى بِهِ، أَو بَكَى، وَيُقَال: أَصله أَن رجلا قطعت إِحْدَى رجلَيْهِ فَرَفعهَا وصرخ، فَقيل لكل رَافع صَوته: قد رفع عقيرته، وَعَن أبي زيد يُقَال: رفع عقيرته إِذا قَرَأَ أَو غنى، وَلَا يُقَال فِي غير ذَلِك. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: أَصله أَن رجلا أُصِيب عُضْو من أَعْضَائِهِ وَله إبل اعْتَادَ حداءها، فانتشرت عَلَيْهِ إبِله، فَرفع صَوته بالأنين لما أَصَابَهُ من الْعقر فِي يَده، فَسمِعت لَهُ إبِله فحسبته يَحْدُو بهَا فاجتمعت إِلَيْهِ، فَقيل لكل من رفع صَوته: رفع عقيرته. وَفِي (الْمُحكم) : عقيرة الرجل صَوته إِذا غنى أَو قَرَأَ أَو بَكَى. قَوْله: (أَلا لَيْت شعري) إِلَى آخِره من الْبَحْر الطَّوِيل، وَأَصله: فعولن مفاعيلن، ثَمَان مَرَّات، وَفِيه الْقَبْض، وَكلمَة: ألاَ، هُنَا لِلتَّمَنِّي وَمعنى: لَيْت شعري، لَيْتَني أشعر. قَوْله: (وحولى) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (إذخر) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَقد مر تَفْسِيره فِي: بَاب لَا ينفر صيد الْحرم وَفِي غَيره. قَوْله: (وجليل) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسر اللَّام الأولى وَهُوَ: الثمام، وَهُوَ نبت ضَعِيف يحشى بِهِ حصاص الْبَيْت. قَوْله: (وَهل أردن) بالنُّون الْخَفِيفَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَهل يبدُوَن) قَوْله: (مياه مجنة) ، الْمِيَاه جمع مَاء، و: المجنة، بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَتَشْديد النُّون: مَاء عِنْد عكاظ على أَمْيَال يسيرَة من مَكَّة بِنَاحِيَة مر الظهْرَان، وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: هِيَ على بريد من مَكَّة، وَقَالَ أَبُو الْفَتْح: يحْتَمل أَن تسمى مجنة ببساتين تتصل بهَا، وَهِي الْجنان، وَأَن يكون وَزنهَا: فعلة من مجن يمجن، سميت بذلك لِأَن ضربا من المجون كَانَ بهَا، وَزعم ابْن قرقول أَن ميمها تكسر. قَوْله: (وَهل يبدُوَن) أَي: هَل يظهرن لي: شامة، بالشين الْمُعْجَمَة و: طفيل، بِفَتْح الطَّاء وَكسر الْفَاء. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هما جبلان، وَقَالَ غَيره: طفيل جبل من حُدُود هرشي مشرف هُوَ وشامة على مجنة. وَقَالَ الْخطابِيّ: كنت أَحسب أَنَّهُمَا جبلان حَتَّى أنبئت أَنَّهُمَا عينان، وَذكر ابْن الْأَثِير والصاغاني: أَن شَابة بِالْبَاء الْمُوَحدَة بعد الْألف، وَقيل: إِن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ اللَّذين أنشدهما بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليسَا لَهُ، بل هما لبكر بن غَالب بن عَامر بن الْحَارِث ابْن مضاض الجرهمي، أنشدهما عِنْدَمَا نفتهم خُزَاعَة من مَكَّة، شرفها الله، وَقيل لغيره. قَوْله: (كَمَا أخرجونا) مُتَعَلق بقوله: (أللهم) فَقَوله: (أللهم الْعَن) مَعْنَاهُ: أللهم أبعدهم من رحمتك كَمَا أبعدونا من مَكَّة. قَوْله: (إِلَى أَرض الوباء) ، هُوَ مَقْصُور يهمز وَلَا يهمز، وَهُوَ الْمَرَض الْعَام، قَالَه بَعضهم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الوباء، يمد وَيقصر، وَيُقَال: الوباء الْمَوْت الذريع، وَقَالَ الْأَطِبَّاء: هُوَ عفونة الْهَوَاء. قَوْله: (حبب) ، أَمر من حبب يحبب. وَقَوله: (الْمَدِينَة) مَفْعُوله. قَوْله: (أَو أَشد) ، أَي أَو حبا أَشد من حبنا لمَكَّة. قَوْله: (فِي صاعنا) أَي: فِي صَاع الْمَدِينَة، وَهُوَ كيل يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ رَطْل وَثلث رَطْل عِنْد أهل الْحجاز، ورطلان عِنْد أهل الْعرَاق، وَالْأول قَول الشَّافِعِي، وَالثَّانِي قَول أبي حنيفَة. وَقيل: إِن أصل الْمَدّ مُقَدّر بِأَن يمد الرجل يَدَيْهِ فَيمْلَأ كفيه طَعَاما. وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق عَن هِشَام عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أللهم إِن إِبْرَاهِيم عَبدك وخليلك دعَاك لأهل مَكَّة، وَأَنا عَبدك وَرَسُولك أَدْعُوك لأهل الْمَدِينَة بِمثل مَا دعَاك إِبْرَاهِيم لأهل مَكَّة: أللهم بَارك لنا فِي مدينتنا) الحَدِيث. قَوْله: (وصححها) أَي: صحّح الْمَدِينَة من الْأَمْرَاض. وَزَاد فِي دُعَائِهِ بقوله: (وانقل حماها) أَي: حمى الْمَدِينَة، وَكَانَت وبيئة، وخصص بِهَذَا فِي الدُّعَاء لِأَن أَصْحَابه حِين(10/250)
قدمُوا الْمَدِينَة وعكوا. قَوْله: (إِلَى الْجحْفَة) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء، وَهِي مِيقَات أهل مصر وَالشَّام وَالْمغْرب الْآن. وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ: أَن العماليق أخرجُوا بني عنبر وهم أخوة عَاد من يثرب فنزلوا الْجحْفَة، وَكَانَ اسْمهَا: مهيعة، فَجَاءَهُمْ سيل فاجتحفهم فسميت الْجحْفَة، وَمعنى: اجتحفهم: سلب أَمْوَالهم وأخرب أبنيتهم وَلم يبْق شَيْئا، وَإِنَّمَا خص الْجحْفَة لِأَنَّهَا كَانَت يَوْمئِذٍ دَار شرك. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَكَانَ أهل الْجحْفَة إِذْ ذَاك يهودا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يَدْعُو على من لم يجبهم إِلَى دَار الْإِسْلَام إِذا خَافَ مِنْهُ مَعُونَة أهل الْكفْر، وَيسْأل الله أَن يبتليهم بِمَا يشغلهم عَنهُ، وَقد دَعَا على قومه أهل مَكَّة حِين يئس مِنْهُم. فَقَالَ: (أللهم أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف) ، ودعا على أهل الْجحْفَة بالحمى ليشغلهم بهَا فَلم تزل الْجحْفَة من يَوْمئِذٍ أَكثر بِلَاد الله حمَّى وَأَنه ليتقي شرب المَاء من عينهَا الَّذِي يُقَال لَهُ عين حم، فَقل من شرب مِنْهُ إلاَّ حُمَّ، وَلما دَعَا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك الدُّعَاء لم يبْق أحد من أهل الْجحْفَة إلاَّ أَخَذته الْحمى، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا هُوَ السِّرّ فِي أَن الطَّاعُون لَا يدْخل الْمَدِينَة، لِأَن الطَّاعُون وباء، وَسَيِّدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِنَقْل الوباء عَنْهَا، فَأجَاب الله دعاءه إِلَى آخر الْأَبَد. فَإِن قلت: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقدوم على الطَّاعُون، فَكيف قدمُوا الْمَدِينَة وَهِي وبيئة؟ قلت: كَانَ ذَلِك قبل النَّهْي، أَو أَن النَّهْي يخْتَص بالطاعون وَنَحْوه من الْمَوْت الذريع لَا الْمَرَض، وَإِن عَم. قَوْله: (قَالَت) ، يَعْنِي عَائِشَة، وَهُوَ مُتَّصِل بِمَا قبله فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا. قَوْله: (وَهِي) أَي: الْمَدِينَة (أَو بِأَرْض الله) ، وأوبأ بِالْهَمْزَةِ فِي آخِره على وزن أفعل التَّفْضِيل من الوباء أَي أَكثر وباء وَأَشد من غَيرهَا. قَوْله (فَكَانَ ب حَان بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَهُوَ وَاد فِي صحراء الْمَدِينَة قَوْله: قَوْله: (يجْرِي نجلاً) خبر كَانَ تَعْنِي مَاء آجنا، وَهُوَ من تَفْسِير الرَّاوِي، ونجلاً، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم، وَحكى ابْن التِّين فِيهِ نجلا بِفَتْح الْجِيم أَيْضا. وَقَالَ ابْن فَارس: النجل، بِفتْحَتَيْنِ سَعَة الْعين، وَقَالَ ابْن السّكيت: النجل النزُّ حِين يظْهر وينبع عين المَاء، وَقَالَ الحربن: نجلاً أَي: وَاسِعًا، وَمِنْه: عين نجلاء، أَي: وَاسِعَة. وَقيل: هُوَ الغدير الَّذِي لَا يزَال فِيهِ المَاء، وغرض عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بذلك بَيَان السَّبَب فِي كَثْرَة الوباء بِالْمَدِينَةِ، لِأَن المَاء الَّذِي هَذِه صفته يحدث عِنْده الْمَرَض. قَوْله: (تَعْنِي مَاء آجنا) ، هَذَا من كَلَام الرَّاوِي، أَي: تَعْنِي عَائِشَة من قَوْلهَا: يجْرِي مَاء آجنا: الآجن بِالْمدِّ المَاء الْمُتَغَيّر الطّعْم واللون، يُقَال فِيهِ: أجن وأجن ياجن وياجن أجنا وأجونا فَهُوَ آجن بِالْمدِّ، وأجن. قَالَ عِيَاض: هَذَا تَفْسِير خطأ مِمَّن فسره، فَلَيْسَ المُرَاد هُنَا المَاء الْمُتَغَيّر، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن عَائِشَة قَالَت: (ذَلِك فِي مقَام التَّعْلِيل لكَون الْمَدِينَة كَانَت وبيئة، وَلَا شكّ أَن النجل إِذا فسر بِكَوْن المَاء الْحَاصِل من النز فَهُوَ بصدد أَن يتَغَيَّر، وَإِذا تغير كَانَ اسْتِعْمَاله مِمَّا يحدث الوباء فِي الْعَادة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَيَانه أَن الله لما ابتلى نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْهِجْرَةِ وفراق الوطن ابتلى أَصْحَابه بالأمراض، فَتكلم كل إِنْسَان بِمَا فِيهِ، فَأَما أَبُو بكر فَتكلم بِأَن الْمَوْت شَامِل لِلْخلقِ فِي الصَّباح والمساء، وَأما بِلَال فتمنى الرُّجُوع إِلَى وَطنه، فَانْظُر إِلَى فضل أبي بكر على غَيره. وَفِيه: فِي دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يحبب الله لَهُم الْمَدِينَة حجَّة وَاضِحَة على من كذب، بِالْقدرِ، لِأَن الله عز وَجل هُوَ الْمَالِك للنفوس يحبب إِلَيْهَا مَا شَاءَ، وَيبغض، فَأجَاب الله دَعْوَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحبوا الْمَدِينَة حبا دَامَ فِي نُفُوسهم إِلَى أَن مَاتُوا عَلَيْهِ. وَفِيه: رد على الصُّوفِيَّة إِذْ قَالُوا: إِن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلاَّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِجَمِيعِ مَا نزل بِهِ، وَلَا يَدْعُو الله فِي كشف ذَلِك عَنهُ، فَإِن دَعَا فَلَيْسَ فِي الْولَايَة كَامِلا. وَفِيه: حجَّة على بعض الْمُعْتَزلَة الْقَائِلين بِأَن لَا فَائِدَة فِي الدُّعَاء مَعَ سَابق الْقدر، وَالْمذهب أَن الدُّعَاء عبَادَة مُسْتَقلَّة وَلَا يُسْتَجَاب مِنْهُ إلاَّ مَا سبق بِهِ التَّقْدِير. وَفِيه: جَوَاز هَذَا النَّوْع من الْغناء. وَفِيه مَذَاهِب: فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَعِكْرِمَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَحَمَّاد وَالثَّوْري وَجَمَاعَة من أهل الْكُوفَة: إِلَى تَحْرِيم الْغناء، وَذهب آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَته، نقل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من أَصْحَابه، وَحكي ذَلِك عَن مَالك وَأحمد، وَذهب آخَرُونَ إِلَى إِبَاحَته لَكِن بِغَيْر هَذِه الْهَيْئَة الَّتِي تعْمل الْآن، فَمن الصَّحَابَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكره أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) وَعُثْمَان، ذكره الْمَاوَرْدِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، ذكره ابْن أبي شيبَة وَسعد ابْن أبي وَقاص وَابْن عمر ذكرهمَا ابْن قُتَيْبَة، وَأَبُو مَسْعُود البدري وَأُسَامَة بن زيد، وبلال وخوات بن جُبَير ذكرهمَا الْبَيْهَقِيّ(10/251)
وَعبد الله بن أَرقم ذكره أَبُو عمر، وجعفر بن أبي طَالب ذكره السهروردي فِي (عوارفه) والبراء بن مَالك ذكره أَبُو نعيم. وَابْن الزبير ذكره صَاحب (الْقُوت) وَابْن جَعْفَر وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ والنعمان بن بشير وَحسان بن ثَابت وخارجة بن زيد وَعبد الرَّحْمَن بن حسان، ذكرهم أَبُو الْفرج فِي (تَارِيخه) ، وَقُطْبَة بن كَعْب ذكره الْهَرَوِيّ، ورباح بن المغترف ذكره ابْن طَاهِر. وَمن التَّابِعين جمَاعَة ذكرهم ابْن طَاهِر.
وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّفْرِقَة بَين الْغناء الْكثير والقليل، وَنقل ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّفْرِقَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء فحرموه من الْأَجَانِب وجوزوه من غَيرهم، وَقَالَ ابْن حزم: من نوى ترويح بهالقلب ليقوى على الطَّاعَة فَهُوَ مُطِيع، وَمن نوى بِهِ التقوية على الْمعْصِيَة فَهُوَ عَاص، وَإِن لم ينْو شَيْئا فَهُوَ لَغْو مَعْفُو عَنهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: إِذا سلم من تَضْييع فرض وَلم يتْرك حفظ حُرْمَة الْمَشَايِخ بِهِ فَهُوَ مَحْمُود، وَرُبمَا أجر.
وَفِيه: أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤمنِ أَن يسْأَل ربه صِحَة جِسْمه وَذَهَاب الْآفَات عَنهُ إِذا نزلت بِهِ كسؤاله إِيَّاه فِي الرزق، وَلَيْسَ فِي دُعَاء الْمُؤمن ورغبته فِي ذَلِك إِلَى الله لوم وَلَا قدح فِي دينه. وَفِيه: تَمْثِيل الصَّالِحين والفضلاء بالشعر.
0981 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ خالِدِ بنِ يَزِيدَ عنْ سَعِيدِ بنِ أبِي هِلاَلٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ واجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رسولِكَ وَحَدِيث.
هَذَا أثر عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكره هُنَا لمناسبة بَينه وَبَين الحَدِيث السَّابِق، وَذَلِكَ أَنه لما سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه دَعَا بقوله: (أللهم حبب إِلَيْنَا الْمَدِينَة كحبنا لمَكَّة) ، سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يَجْعَل مَوته فِي الْمَدِينَة إِظْهَارًا لمحبته إِيَّاهَا كمحبته لمَكَّة، وإعلاما بصدقه فِي ذَلِك بسؤاله الْمَوْت فِيهَا، وَقيل: ذكر ابْن سعد سَبَب دُعَائِهِ بذلك، وَهُوَ مَا أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَوْف بن مَالك أَنه رأى رُؤْيا فِيهَا أَن عمر شَهِيد يستشهد، فَقَالَ لما قصها عَلَيْهِ أنَّى لي بِالشَّهَادَةِ وَأَنا بَين ظهراني جَزِيرَة الْعَرَب لست أغزو وَالنَّاس حَولي؟ ثمَّ قَالَ: بلَى وبلى يَأْتِي بهَا الله إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَال هَذَا الْأَثر سَبْعَة كَمَا ترى، وخَالِد بن يزِيد من الزِّيَادَة تقدم فِي أول الْوضُوء، وَسَعِيد بن أبي هِلَال اللَّيْثِيّ الْمدنِي، يكنى أَبَا الْعَلَاء، وَزيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْعَدوي، وَأَبوهُ أسلم مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يكنى أَبَا خَالِد وَكَانَ من سبي الْيمن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أَبُو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة، وَكَانَ من سبي عين التَّمْر، ابتاعه عمر بن الْخطاب بِمَكَّة سنة إِحْدَى عشرَة لما بَعثه أَبُو بكر الصّديق ليقيم للنَّاس الْحَج، مَاتَ قبل مَرْوَان بن الحكم، وَهُوَ الَّذِي صلى عَلَيْهِ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة وَمِائَة سنة.
قَوْله: (شَهَادَة فِي سَبِيلك) ، فَقبل الله دعاءه ورزق الشَّهَادَة، وَقَتله أَبُو لؤلؤة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة، ضربه فِي خاصرته وَهُوَ فِي صَلَاة الصُّبْح، وَكَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وَقيل: لثلاث بَقينَ مِنْهُ سنة ثَلَاث وَعشْرين، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، فِي سنّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَاجعَل موتِي فِي بلد رَسُولك) وَوَقع كَذَا، وَدفن عِنْد أبي بكر، وَأَبُو بكر عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فالثلاثة فِي بقْعَة وَاحِدَة هِيَ أشرف الْبِقَاع.
وَقَالَ ابنُ زُرَيْعٍ عنْ رَوْحِ بنِ القَاسِمِ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ أُمِّهِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ
وَابْن زُرَيْع هُوَ يزِيد بن زُرَيْع. قَوْله: (عَن أمه) قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ البُخَارِيّ: كَذَا قَالَ روح عَن أمه، وغرضه أَن الْمَشْهُور أَن زيدا يروي عَن أَبِيه لَا عَن أمه، لَكِن روح أسْند رِوَايَته إِلَى أمه. قلت: ذكر البُخَارِيّ هَذَا لتعليق وَالتَّعْلِيق الَّذِي بعده لبَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ على زيد بن أسلم، فاتفق هِشَام بن سعد، وَسَعِيد بن أبي هِلَال على أَنه: عَن زيد عَن أَبِيه أسلم عَن عمر، وَقد تابعهما حَفْص بن ميسرَة عَن زيد عَنهُ عمر بن شبة، وَانْفَرَدَ روح بن الْقَاسِم عَن زيد بقوله: عَن أمه، وَتَعْلِيق ابْن زُرَيْع وَصله، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الصَّواف حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن هَاشم حَدثنَا أُميَّة بن بسطَام حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا روح بِلَفْظ:(10/252)
سَمِعت عمر وَهُوَ يَقُول: أللهم قتلا فِي سَبِيلك، ووفاة فِي بلد نبيك، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: قلت: وأنَّى يكون هَذَا؟ قَالَ يَأْتِي بِهِ عزوجل إِذا شَاءَ.
وَقَالَ هِشَامق عنْ زَيْدٍ عنْ أبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
هِشَام هُوَ ابْن سعد الْقرشِي الْمَدِينِيّ مولى لآل أبي لَهب بن عبد الْمطلب، يَتِيم زيد بن أسلم، يكنى أَبَا سعيد، وَيُقَال أَبُو عبَادَة. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك عَنهُ، وَلَفظه: عَن حَفْصَة أَنَّهَا سَمِعت أَبَاهَا يَقُول ... فَذكر مثله، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
03 - (كتاب الصَّوْم)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الصّيام هَذَا، هَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: كتاب الصَّوْم، وَثبتت الْبَسْمَلَة للْجَمِيع، ثمَّ الْكَلَام هَهُنَا من وُجُوه:
الأول: مَا وَجه تَأْخِير كتاب الصَّوْم، وَذكره آخر كتب الْعِبَادَات؟ وَهُوَ أَن الْعِبَادَات الَّتِي هِيَ أَرْكَان الْإِيمَان أَرْبَعَة: الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وَالصَّوْم، قدمت الصَّلَاة لكَونهَا تالية الْإِيمَان وثانيته فِي الْكتاب وَالسّنة، أما الْكتاب فَقَوْل الله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة} (الْبَقَرَة: 3) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس) الحَدِيث، ثمَّ ذكرت الزَّكَاة عقيبها لِأَنَّهَا ثَانِيَة الصَّلَاة وثالثة الْإِيمَان فِي الْكتاب وَالسّنة كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ ذكر الْحَج لِأَن الْعِبَادَات الْأَرْبَعَة بدنية مَحْض، وَهِي: الصَّلَاة الصَّوْم، ومالية مَحْض وَهِي: ومركبة مِنْهُمَا وَهُوَ: الْحَج، وَكَانَ مُقْتَضى الْحَال أَن يذكر الصَّوْم عقيب الصَّلَاة لِكَوْنِهِمَا من وادٍ واحدٍ، لَكِن ذكرت الزَّكَاة عقيبها لما ذكرنَا، ثمَّ أَن غَالب المصنفين ذكرُوا الصَّوْم عقيب الزَّكَاة فَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا، وَالَّذِي ذكره البُخَارِيّ من تَأْخِير الصَّوْم وَذكره فِي الْأَخير هُوَ الْأَوْجه والأنسب، لِأَن ذكر الْحَج عقيب الزَّكَاة هُوَ الْمُنَاسب من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على بذل المَال، وَلم يبْق للصَّوْم مَوضِع إلاَّ فِي الْأَخير.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي تَفْسِير الصَّوْم لُغَة وَشرعا، وَهُوَ فِي اللُّغَة: الْإِمْسَاك، قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام: {إِنِّي نذرت للحرمن صوما} (مَرْيَم: 62) . أَي: صمتا وسكوتا، وَكَانَ مَشْرُوعا عِنْدهم، ألاَ تَرى إِلَى قَوْلهَا: {فَلَنْ أكلم الْيَوْم أنسيا} (مَرْيَم: 62) . وَقَالَ النَّابِغَة الذبياني:
(خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تَحت العجاج، وَأُخْرَى تعلك اللجما)
أَي: قَائِمَة على غير علف، قَالَه الْجَوْهَرِي: وَقَالَ ابْن فَارس: ممسة عَن السّير، وَفِي (الْمُحِيط) وَغَيره: ممسكة عَن الاعتلاف. وَصَامَ النَّهَار إِذا قَامَ قيام الظهيرة. وَقَالَ: صَامَ النَّهَار وهجرا يَعْنِي: قَامَ قَائِم الظهيرة، وَقَالَ أَبُو عبيد: كل مُمْسك عَن طَعَام أَو كَلَام أَو سير: صَائِم، وَالصَّوْم ركود الرّيح، وَالصَّوْم الْبيعَة، وَالصَّوْم ذرق الْحمام وسلخ النعامة، وَالصَّوْم: اسْم شجر. وَفِي (الْمُحِيط) : صَامَ صوما وصياما واصطام، وَرجل صَائِم وَصَوْم، وَقوم صوام وَصِيَام وَصَوْم وصيم وصيم، عَن سِيبَوَيْهٍ كسروا الصَّاد لمَكَان الْيَاء، وَصِيَام وصيامى الْأَخِيرَة نادرة، وَصَوْم وَهُوَ اسْم للْجمع، وَقيل: هُوَ جمع صَائِم، وَنسَاء صَوْم. وَفِي (الصِّحَاح) وَرجل صومان.
وَأما فِي الشَّرْع: فالصوم هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع وَمَا هُوَ مُلْحق بِهِ من طُلُوع الْفجْر الثَّانِي إِلَيّ غرُوب الشَّمْس، وَقَالَ ابْن سَيّده: الصَّوْم ترك الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّكَاح وَالْكَلَام، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَقع الصَّوْم فِي عرف الشَّرْع على إمْسَاك مَخْصُوص فِي زمن مَخْصُوص مَعَ النِّيَّة، وَقَالَ ابْن قدامَة: هُوَ الْإِمْسَاك عَن المفطرات من طُلُوع الْفجْر الثَّانِي إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه لما صلى الْفجْر، قَالَ: الْآن حِين تبين الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود، وَعَن ابْن مَسْعُود نَحوه، وَقَالَ مَسْرُوق: لم يَكُونُوا يعدون الْفجْر محرما إِنَّمَا كَانُوا يعدون الْفجْر الَّذِي يمْلَأ الْبيُوت والطرق، وَهَذَا قَول الْأَعْمَش، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل دَلِيل على أَن الْخَيط الْأَبْيَض هُوَ الصَّباح، وَأَن السّحُور لَا يكون إلاَّ قبل الْفجْر، وَهَذَا إِجْمَاع لم يُخَالف فِيهِ إلاَّ الْأَعْمَش، وَلم يعرج أحد على قَوْله لشذوذه. قلت: قد نقل قَول جمَاعَة من السّلف بموافقة الْأَعْمَش، وَعَن ذَر، قُلْنَا لِحُذَيْفَة: أَيَّة سَاعَة تسحرت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ:(10/253)
هِيَ النَّهَار إلاَّ أَن الشَّمْس لم تطلع، رَوَاهُ النَّسَائِيّ، قيل: هُوَ مُبَالغَة فِي تَأْخِير السّحُور.
الْوَجْه الثَّالِث: اخْتلفُوا فِي أَي صَوْم وَجب فِي الْإِسْلَام أَولا، فَقيل: صَوْم عَاشُورَاء، وَقيل: ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قدم الْمَدِينَة جعل يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَلما فرض رَمَضَان خير بَينه وَبَين الْإِطْعَام، ثمَّ نسخ الْجَمِيع بقوله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} (الْبَقَرَة: 581) . وَنزلت فَرِيضَة رَمَضَان فِي شعْبَان من السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فصَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع رمضانات، وَقيل: اخْتلف السّلف: هَل فرض على النَّاس صِيَام قبل رَمَضَان أَو لَا؟ فالجمهور وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة: أَنه لم يجب قطّ صَوْم قبل صَوْم رَمَضَان، وَفِي وَجه وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة: أول مَا فرض صِيَام عَاشُورَاء فَلَمَّا نزل رَمَضَان، نسخ، وَالله أعلم.
1 - (بابُ وُجُوبِ صَوْمِ رمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب صَوْم شهر رَمَضَان، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب وجوب صَوْم رَمَضَان وفضله.
وقوْلِ الله تعَالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الْبَقَرَة: 381) .
هَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة (وَقَول) مجرور لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: وجوب الصَّوْم، وَأَشَارَ بإيراد هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى أُمُور تَتَضَمَّن هَذِه الْآيَة، وَهِي: فَرضِيَّة صَوْم رَمَضَان بقوله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) . وَأَنه كَانَ فرضا من قبلنَا من الْأُمَم، وَأَن الصَّوْم وصلَة إِلَى التقى لِأَنَّهُ من الْبر الَّذِي يكف الْإِنْسَان عَن كثير مِمَّا تطلع لَهُ النَّفس من الْمعاصِي. وَفِيه: تَزْكِيَة للبدن وتضييق لمسالك الشَّيْطَان، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء) ، ثمَّ إِنَّهُم تكلمُوا فِي هَذَا التَّشْبِيه، وَهُوَ قَوْله: {كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ} (الْبَقَرَة: 381) . فَقيل: إِنَّه تَشْبِيه فِي أصل الْوُجُوب لَا فِي قدر الْوَاجِب، وَكَانَ الصَّوْم على آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَيَّام الْبيض، وَصَوْم عَاشُورَاء على قوم مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ على كل أمة صَوْم، والتشبيه لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة من كل وَجه كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر) ، وَهَذَا تَشْبِيه الرُّؤْيَة بِالرُّؤْيَةِ لَا تَشْبِيه المرئي بالمرئي، وَقيل: هَذَا التَّشْبِيه فِي الأَصْل وَالْقدر وَالْوَقْت جَمِيعًا، وَكَانَ على الْأَوَّلين صَوْم رَمَضَان لكِنهمْ زادوا فِي الْعدَد ونقلوا من أَيَّام الْحر إِلَى أَيَّام الِاعْتِدَال، وَعَن الشّعبِيّ: إِن النَّصَارَى فرض عَلَيْهِم شهر رَمَضَان كَمَا فرض علينا، فحولوه إِلَى الْفَصْل، وَذَلِكَ أَنهم رُبمَا صاموه فِي القيظ فعدوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثمَّ جَاءَ بعدهمْ قرن مِنْهُم فَأخذُوا بالثقة فِي أنفسهم فصاموا قبل الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبعدهَا، ثمَّ لم يزل الآخر يستن بِسنة الْقرن الَّذِي قبله حَتَّى صَارَت إِلَى خمسين، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ آخَرُونَ: بل التَّشْبِيه إِنَّمَا هُوَ من أجل أَن صومهم كَانَ من الْعشَاء الْآخِرَة إِلَى الْعشَاء الْآخِرَة، وَكَانَ ذَلِك فرض على الْمُؤمنِينَ فِي أول مَا افْترض عَلَيْهِم الصَّوْم، وَقَالَ السّديّ: النَّصَارَى كتب عَلَيْهِم رَمَضَان وَكتب عَلَيْهِم أَن لَا يَأْكُلُوا وَلَا يشْربُوا بعد النّوم وَلَا ينكحوا النِّسَاء شهر رَمَضَان، فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّصَارَى وَجعل يتقلب عَلَيْهِم فِي الشتَاء والصيف، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك اجْتَمعُوا فَجعلُوا صياما فِي الْفَصْل بَين الشتَاء والصيف، وَقَالُوا: نزيد عشْرين يَوْمًا نكفر بهَا مَا صنعنَا، فَجعلُوا صِيَامهمْ خمسين يَوْمًا، فَلم يزل الْمُسلمُونَ على ذَلِك يصنعون كَمَا تصنع النَّصَارَى حَتَّى كَانَ من أَمر أبي قيس بن صرمة وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَا كَانَ، فأحل الله لَهُم الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر.
وَفِي تَفْسِير ابْن أبي حَاتِم: عَن الْحسن، قَالَ: وَالله لقد كتب الصّيام على كل أمة خلت كَمَا كتبه علينا شهرا كَامِلا وَفِي تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ: عَن قَتَادَة: كتب الله تَعَالَى على قوم مُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، صِيَام رَمَضَان، فغيروا وَزَاد أَحْبَارهم عشرَة أَيَّام أُخْرَى. ثمَّ مرض بعض أَحْبَارهم فَنَذر إِن شفي أَن يزِيد فِي صومهم عشرَة أَيَّام أُخْرَى فَفعل، فَصَارَ صَوْم النَّصَارَى خمسين يَوْمًا، فصعب عَلَيْهِم فِي الْحر فنقلوه إِلَى الرّبيع، قَالَ: وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل النّحاس،(10/254)
وَأسْندَ فِيهِ حَدِيثا يدل على صِحَّته. فَإِن قلت: لم يعلم من هَذِه الْآيَة إلاَّ أصل فَرضِيَّة الصَّوْم، وَلم يعلم الْعدَد، وَلَا كَونه فِي شهر رَمَضَان؟ قلت: لما علم فِيهَا أصل الْفَرْض نزل قَوْله: {أَيَّامًا معدودات} (الْبَقَرَة: 481) . فَعلم من ذَلِك أَن الْفَرْض أَيَّام معدودات، وَلما نزل: {شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} (الْبَقَرَة: 581) . علم أَن ذَلِك الْعدَد هُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ فرض فِي رَمَضَان، والشهر ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَإِن نقص فَحكمه حكمه، وَعَن هَذَا قَالُوا: إِن الشَّهْر مَرْفُوع على أَنه بدل من قَوْله: {الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) . فِي قَوْله: {كتب عَلَيْكُم الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) . وقرىء بِالنّصب على: صُومُوا شهر رَمَضَان، أَو على أَنه بدل من قَوْله: {أَيَّامًا معدودات} (الْبَقَرَة: 481) . وانتصاب: أَيَّامًا، على الظَّرْفِيَّة، أَي: كتب عَلَيْكُم الصّيام فِي أَيَّام معدودات، وَبَينهَا بقوله: {شهر رَمَضَان} (الْبَقَرَة: 581) . فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي التَّنْصِيص على الثَّلَاثِينَ الَّتِي هِيَ الشَّهْر الْكَامِل؟ قلت: قَالُوا: لما أكل آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّجَرَة الَّتِي نهى عَنْهَا، بَقِي شَيْء من ذَلِك فِي جَوْفه ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا تَابَ الله عَلَيْهِ أمره بصيام ثَلَاثِينَ يَوْمًا بلياليهن، ذكره فِي (خُلَاصَة الْبَيَان فِي تَلْخِيص مَعَاني الْقُرْآن) .
1981 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ أبِي سُهَيْلٍ عنْ أبِيهِ عنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله أنَّ أعْرَابِيّا جاءَ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثائِرَ الرَّأسِ فَقَالَ يَا رسولَ الله أخْبِرْنِي ماذَا فرَضَ الله عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فَقَالَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسُ إلاَّ أَن تطَوَّعَ شيْئَا فَقَالَ أخبِرْنِي مَا فَرَض الله عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ فَقَالَ شَهْرَ رَمَضَانَ إلاَّ أنْ تَطَوَّعَ شَيْئا فَقَالَ أخبِرْنِي بِمَا فَرَضَ الله عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ فَقَالَ فأخْبَرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرَائِعَ الإسْلامِ قَالَ والَّذِي أكْرَمَكَ لاَ أتَطَوَّعُ شَيْئا وَلَا أنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ الله عَلَيَّ شَيْئا فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْلَحَ إنْ صَدَقَ أوْ دَخَلَ الجَنَّةَ إنْ صَدَقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَخْبرنِي مَا فرض الله عَليّ من الصّيام؟ فَقَالَ: شهر رَمَضَان) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك بن أنس عَن عَمه أبي سُهَيْل بن مَالك عَن أَبِيه أَنه سمع طَلْحَة بن عبيد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الحَدِيث، وَلَا يَخْلُو عَن زِيَادَة ونقصان فِي الْمَتْن، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَقد تقدم فِي كتاب الْإِيمَان، وَأَبُو سُهَيْل مصغر: السهل نَافِع ابْن مَالك بن عَامر، مر فِي: بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق، وَأَبوهُ مَالك بن أبي عَامر أَو أنس الأصبحي الْمدنِي جد مَالك بن أنس، وَطَلْحَة ابْن عبيد الله أحد الْعشْرَة المبشرة.
قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي: منتفش شعر الرَّأْس ومنتشره. قَوْله: (أَن تطوَّع) بتَخْفِيف الطَّاء وتشديدها، وَالِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، وَقيل: مُتَّصِل. قَوْله: (بشرائع الْإِسْلَام) أَي: بِنصب الزَّكَاة ومقاديرها وَغير ذَلِك مِمَّا يتَنَاوَل الْحَج وَأَحْكَامه، وَيحْتَمل أَن الْحَج حِينَئِذٍ لم يكن مَفْرُوضًا مُطلقًا، أَو على السَّائِل، وَمَفْهُوم. قَوْله: (إِن صدق) ! أَنه إِذا تطوع لَا يفلح مَفْهُوم الْمُخَالفَة فَلَا اعْتِبَار بِهِ لِأَن لَهُ مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَهُوَ أَنه إِذا تطوع يكون مفلحا بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهُوَ مقدم على مَفْهُوم الْمُخَالفَة.
2 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ صَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاشُورَاء وَأمر بصيامه فَلَمَّا فرض رَمَضَان ترك وَكَانَ عبد الله لَا يَصُومهُ إِلَّا أَن يُوَافق صَوْمه) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَلَمَّا فرض رَمَضَان " وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ قَوْله " عَاشُورَاء " مَمْدُود ومقصور وَهُوَ الْيَوْم الْعَاشِر من الْمحرم وَقيل أَنه التَّاسِع مِنْهُ مَأْخُوذ من إظماء الْإِبِل فَإِن الْعَرَب تسمي الْيَوْم الْخَامِس من أَيَّام الْورْد أَرْبعا وَكَذَا بَاقِي الْأَيَّام على هَذِه النِّسْبَة فَيكون التَّاسِع عشر أَو قَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي كِتَابه الْمَمْدُود والمقصور بَاب(10/255)
مَا جَاءَ من المدود على مِثَال فاعولاء اسْما وَلم يَأْتِ صفة عَاشُورَاء مَعْرُوفَة وَيُقَال أَصَابَتْهُم ضاروراء مُنكرَة من الضّر قَوْله " وَأمر بصيامه " يدل على أَنه كَانَ فرضا ثمَّ نسخ بِفَرْض رَمَضَان قَوْله " وَكَانَ عبد الله " أَي ابْن عمر رَاوِي الحَدِيث لَا يَصُومهُ أَي لَا يَصُوم يَوْم عَاشُورَاء بعد فرض رَمَضَان وَذَلِكَ كَرَاهِيَة أَن يعظم فِي الْإِسْلَام كَمَا كَانَ يعظم فِي الْجَاهِلِيَّة وَتَركه صَوْم عَاشُورَاء لَا يدل على عدم جَوَاز صَوْمه فَإِن من صَامَهُ مبتغيا بصومه ثَوَاب الله وَلَا يُرِيد بِهِ إحْيَاء سنة أهل الشّرك فَلهُ عِنْد الله أجر عَظِيم وكراهية ابْن عمر صَوْم عَاشُورَاء نَظِيره كَرَاهِيَة من كره صَوْم رَجَب إِذا كَانَ شهرا يعظمه الْجَاهِلِيَّة فكره أَن يعظم فِي الْإِسْلَام مَا كَانَ يعظم فِي الْجَاهِلِيَّة من غير تَحْرِيم صَوْمه على من صَامَهُ وَلَا يؤيسه من الثَّوَاب الَّذِي وعد الله للصائمين قَوْله " إِلَّا أَن يُوَافق صَوْمه " أَي صَوْمه الَّذِي كَانَ يعتاده وغرضه أَنه كَانَ لَا يَعْتَقِدهُ تنفلا فِي عَاشُورَاء وَاخْتلف فِي السَّبَب الْمُوجب لصيام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاشُورَاء فَروِيَ أَنه كَانَ يَصُومهُ فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة فَرَأى الْيَهُود تصومه قَالُوا يَوْم صَالح نجى الله فِيهِ بني إِسْرَائِيل من عدوهم فصامه مُوسَى فَقَالَ نَحن أَحَق بمُوسَى مِنْكُم وَيحْتَمل أَن تكون قُرَيْش كَانَت تصومه كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومهُ مَعَهم قبل أَن يبْعَث فَلَمَّا بعث تَركه فَلَمَّا هاجرا علم أَنه من شَرِيعَة مُوسَى فصامه وَأمر بِهِ فَلَمَّا فرض رَمَضَان قَالَ من شَاءَ فليصمه وَمن شَاءَ أفطر على مَا فِي حَدِيث عَائِشَة الْآتِي عَن قريب -
3981 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي حَبيبٍ أنَّ عِرَاكَ بنَ مَالِكٍ حدَّثَهُ أنَّ عُرْوَةَ أخْبَرَهُ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ قُرَيشا كانَتْ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِيامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمضانُ وقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ شاءَ فَلْيَصُمْهُ ومنْ شاءَ أفْطَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى فرض رَمَضَان) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا، و: عرَاك، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء، قد مر فِي الصَّلَاة على الْفراش.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج، وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
قَوْله: (أفطر) ، فَائِدَة تَغْيِير أسلوب الْكَلَام حَيْثُ قَالَ فِي الصَّوْم بِلَفْظ الْأَمر، وَفِي الْإِفْطَار بقوله: أفطر، بَيَان أَن جَانب الصَّوْم أرجح، وَكَأَنَّهُ مَطْلُوب. وَفِيه: إِشْعَار بِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا.
2 - (بابُ فَضْلِ الصَّوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّوْم.
4981 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصِّيامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ ولاَ يَجْهَلْ وَإنِ امْرُءٌ قاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله تعَالى مِنْ رِيحِ المِسْكِ يَتْرُكْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي الصَّيامُ لِي وَأَنا أجْزِي بِهِ والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن القعْنبِي بِهِ، وَلم يذكر: الصّيام جنَّة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَقَالَ: الصّيام جنَّة، وروى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز حَدثنَا عبد الْوَارِث ابْن سعيد عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن ربكُم يَقُول: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَالصَّوْم جنَّة من النَّار، ولخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من(10/256)
ريح الْمسك، وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) . وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ: وَفِي الْبَاب عَن معَاذ بن جبل وَسَهل بن سعد وَكَعب بن عجْرَة وسلامة بن قَيْصر وَبشير بن الخصاصية. قَالَ: وَاسم بشير زحم، والخصاصية هِيَ أمه. أما حَدِيث معَاذ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ. قَالَ: (كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَأَصْبَحت يَوْمًا قَرِيبا مِنْهُ وَنحن نسير، فَقلت: أَخْبرنِي بِعَمَل يدخلني الْجنَّة) . الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ قَالَ: أَلا أدلك على أَبْوَاب الْخَيْر: الصَّوْم جنَّة) الحَدِيث. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) . وَأما حَدِيث سهل بن سعد فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِي الْجنَّة بَاب يُدعى الريَّان يُدعى لَهُ الصائمون فَمن كَانَ من الصائمين دخله وَمن دخله لم يظمأ أبدا) . وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن مَاجَه وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عَن أبي حَازِم على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما حَدِيث كَعْب بن عجْرَة فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ فِي حَدِيث فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة حَصِينَة) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب. وَأما حَدِيث سَلامَة بن قَيْصر فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عمر بن ربيعَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعت سَلامَة بن قَيْصر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله تَعَالَى بعَّده الله، عز وَجل، من جَهَنَّم بعد غراب طَار وَهُوَ فرخ حَتَّى مَاتَ هرما) . وَأما حَدِيث بشير بن الخصاصية فَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي (معجميهما) من رِوَايَة قَتَادَة عَن جرير بن كُلَيْب عَن بشير ابْن الخصاصية قَالَ يَعْنِي قَتَادَة: وَحدثنَا أَصْحَابنَا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ، يروي عَن ربه تَعَالَى: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أبي سعيد وَعلي وَعَائِشَة وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان ابْن أبي الْعَاصِ وَأنس وَجَابِر وَأبي عُبَيْدَة وَحُذَيْفَة وَأبي أُمَامَة وَعقبَة بن عَامر. وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله يَقُول: إِن الصّيام لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق عَن عبد الله بن الْحَارِث عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله يَقُول: الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه خطأ، وَالصَّوَاب: عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله بن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عُرْوَة عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الصّيام جنَّة من النَّار) ، الحَدِيث. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي كتاب (طَبَقَات الْمُحدثين بأصبهان) وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْقُوفا عَلَيْهِ: (الصَّوْم جنَّة) ، من رِوَايَة أبي الْأَحْوَص عَنهُ. وَأما حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصّيام جنَّة كجنة أحدكُم من الْقِتَال) ، وَزَاد النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة: (جنَّة من النَّار) ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه. وَأما حَدِيث أنس فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ فِيهِ: (وَالصِّيَام جنَّة من النَّار) . وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَنهُ فِي حَدِيث قَالَ فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة) . وَأما حَدِيث أبي عُبَيْدَة فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصَّوْم جنَّة مَا لم يخرقها) ، وَزَاد الدَّارمِيّ: (بالغيبة) ، وَرَوَاهُ أَيْضا مَوْقُوفا عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ قَالَ: (اسندت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى صَدْرِي، فَقَالَ: لَا إلاهَ إلاَّ الله، من ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن تصدق بِصَدقَة ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا، دخل الْجنَّة) . وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة الْوَلِيد بن جميل عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله جعل الله بَينه وَبَين النَّار خَنْدَقًا بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) . وَأما حَدِيث عقبَة بن عَامر فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله تبَارك وَتَعَالَى، باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مسيرَة مائَة عَام) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جنَّة) ، بِضَم الْجِيم: كل مَا ستر، وَمِنْه: الْمِجَن، وَهُوَ الترس، وَمِنْه سمي الْجِنّ لاستتارهم عَن الْعُيُون، والجنان لاستتارها بورق الْأَشْجَار، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّوْم جنَّة من النَّار لِأَنَّهُ إمْسَاك عَن الشَّهَوَات، وَالنَّار محفوفة بالشهوات كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (حفت الْجنَّة بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات) . وَقَالَ ابْن الْأَثِير: معنى كَونه جنَّة أَي يقي(10/257)
صَاحبه مَا يُؤْذِيه من الشَّهَوَات، وَقَالَ عِيَاض: مَعْنَاهُ يستر من الآثام أَو من النَّار أَو بِجَمِيعِ ذَلِك، وبالأخير قطع النَّوَوِيّ. قَوْله: (فَلَا يرْفث) ، بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا وَضمّهَا مَعْنَاهُ: لَا يفحش، وَالْمرَاد من الرَّفَث هُنَا الْكَلَام الْفَاحِش، وَيُطلق على الْجِمَاع وعَلى مقدماته، وعَلى ذكره مَعَ النِّسَاء، وَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي عَمَّا هُوَ أَعم مِنْهَا. قَوْله: (وَلَا يجهل) أَي: لَا يفعل شَيْئا من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة: كالعياط والسفه والسخرية، وَوَقع فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه: (فَلَا يرْفث وَلَا يُجَادِل، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم من هَذَا أَن غير الصَّوْم يُبَاح فِيهِ مَا ذكر، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الْمَنْع من ذَلِك يتَأَكَّد بِالصَّوْمِ. قَوْله: (وَإِن امْرُؤ قَاتله) ، كلمة: إِن، مُخَفّفَة مَوْصُولَة بِمَا بعده تَقْدِيره: وَإِن قَاتله امْرُؤ، وَلَفظ: قَاتله، يفسره كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) . أَي: استجارك أحد من الْمُشْركين. وَمعنى قَاتله: نازعه ودافعه. قَوْله: (أَو شاتمه) أَي: أَو تعرض للمشاتمة، وَفِي رِوَايَة أبي صَالح: (فَإِن سابه أحد) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة عَن طَرِيق سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة همام عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل: (فَإِن سابه أحد أَو ماراه) ، يَعْنِي: جادله، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق عجلَان مولى المشمعل عَن أبي هُرَيْرَة: (فَإِن شاتمك أحد، فَقل: إِنِّي صَائِم، وَأَن كنت قَائِما فاجلس) . وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، (وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) .
قَالَ شَيخنَا زين الدّين: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ إِنِّي صَائِم حَتَّى يعلم من يجهل أَنه معتصم بالصيام عَن اللَّغْو والرفث وَالْجهل وَالثَّانِي أَن يَقُول ذَلِك لنَفسِهِ أَي: وَإِذا كنت صَائِما فَلَا يَنْبَغِي أَن أخدش صومي بِالْجَهْلِ وَنَحْوه، فيزجر نَفسه بذلك. وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين صِيَام الْفَرْض وَالنَّفْل، فَيَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ فِي الْفَرْض، ويقوله لنَفسِهِ فِي التَّطَوُّع، قَوْله: (فَلْيقل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: كلَاما لسانيا ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غَالِبا أَو كلَاما نفسانيا أَي: يحدث بِهِ نَفسه ليمنعها من مشاتمته، وَعند الشَّافِعِي: يجب الْحمل على كلا الْمَعْنيين.
وَاعْلَم أَن كل أحد مَنْهِيّ عَن الرَّفَث وَالْجهل والمخاصمة، لَكِن النَّهْي فِي الصَّائِم آكِد. قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يفْطر السب والغيبة، فَقيل: مَعْنَاهُ أَنه يصير فِي حكم الْمُفطر فِي سُقُوط الْأجر لَا أَنه يفْطر حَقِيقَة. انْتهى كَلَامه. فَإِن قلت: قَاتله أَو شاتمه من بَاب المفاعلة وَهِي للمشاركة بَين الْإِثْنَيْنِ، والصائم مَأْمُور بالكف عَن ذَلِك؟ قلت: لَا يُمكن حمله على أصل الْبَاب، وَلكنه قد يَجِيء بِمَعْنى: فعل، يَعْنِي لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل لَا غير، كَقَوْلِك: سَافَرت بِمَعْنى نسبت السّفر إِلَى الْمُسَافِر، وكما فِي قَوْلهم: عافاه الله، وَفُلَان عالج الْأَمر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكرنَا من رِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَقد مضى عَن قريب.
قَوْله: (مرَّتَيْنِ) اتّفقت الرِّوَايَات كلهَا على أَنه يَقُول: إِنِّي صَائِم، فَمنهمْ من ذكرهَا مرَّتَيْنِ، وَمِنْهُم من اقْتصر على وَاحِدَة. قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) ، أقسم على ذَلِك للتَّأْكِيد. قَوْله: (لخلوف فَم الصَّائِم) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة لَا غير، هَذَا هُوَ لمعروف فِي كتب اللُّغَة، والْحَدِيث، وَلم يحك صاحبا (الْمُحكم) و (الصِّحَاح) غَيره. وَقَالَ عِيَاض: وَكثير من الشُّيُوخ يَرْوُونَهُ بِفَتْحِهَا، قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ خطأ. قَالَ القَاضِي: وَحكي عَن الْقَابِسِيّ فِيهِ الْفَتْح وَالضَّم، وَقَالَ أهل الْمشرق: يَقُولُونَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَالصَّوَاب الأول. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي رِوَايَة (لخلفة فَم الصَّائِم) ، بِالضَّمِّ أَيْضا، وَقَالَ البرقي: هُوَ تغير طعم الْفَم وريحه لتأخر الطَّعَام، يُقَال: خلف فوه بِفَتْح الْخَاء وَاللَّام يخلف، بِضَم اللَّام وأخلف يخلف إِذا تغير، واللغة الْمَشْهُورَة: خلف. وَقَالَ الْمَازرِيّ: هَذَا مجَاز واستعارة، لِأَن استطابة بعض الروائح من صِفَات الْحَيَوَان الَّذِي لَهُ طباع يمِيل إِلَى شَيْء يستطيبه وينفر من شَيْء يستقذره، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقدس عَن ذَلِك، لَكِن جرت عادتنا على التَّقَرُّب للروائح الطّيبَة، فاستغير ذَلِك فِي الصَّوْم لتقريبه من الله تَعَالَى، وَقَالَ عِيَاض: يجازيه الله تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَة، فَتكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، وَقيل: لِكَثْرَة ثَوَابه وأجره، وَقيل: يعبق فِي الْآخِرَة أطيب من عبق الْمسك، وَقيل: طيبه عِنْد الله رِضَاهُ بِهِ، وثناؤه الْجَمِيل، وثوابه. وَقيل: إِن المُرَاد أَن ذَلِك فِي حق الْمَلَائِكَة وَأَنَّهُمْ يستطيبون ريح الخلوق أَكثر مِمَّا يستطيبون ريح الْمسك، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: مَعْنَاهُ الثَّنَاء على الصَّائِم والرضى بِفِعْلِهِ، وَكَذَا قَالَه الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْعَرَبِيّ من الْمَالِكِيَّة، وَأَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة، جزموا كلهم بِأَنَّهُ عبارَة عَن الرضى وَالْقَبُول، وَقَالَ القَاضِي، وَقد يجْزِيه الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة حَتَّى تكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، كَمَا(10/258)
قَالَ فِي الكلوم فِي سَبِيل الله: (الرّيح ريح مسك) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى، وَقد اخْتلف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي طيب رَائِحَة الخلوف، هَل هِيَ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة؟ فَذهب ابْن عبد السَّلَام إِلَى أَن ذَلِك فِي الْآخِرَة، كَمَا فِي دم الشَّهِيد، وَاسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ مُسلم وَأحمد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن أبي صَالح: (أطيب عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة) ، وَذهب ابْن الصّلاح إِلَى أَن ذَلِك فِي الدُّنْيَا، فاستدل بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان: (فَم الصَّائِم حِين يخلف من الطَّعَام) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحسن بن شعْبَان فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) من حَدِيث جَابر فِي فضل هَذِه الْأمة: (فَإِن خلوف أَفْوَاههم حِين يمسون أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) . وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده مقارب، وَقَالَ ابْن بطال: معنى (عِنْد الله) أَي: فِي الْآخِرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك} (الْحَج: 74) . يُرِيد أَيَّام الْآخِرَة. فَإِن قلت: يُعَكر عَلَيْهِ بِحَدِيث الْبَيْهَقِيّ على مَا لَا يخفى؟ قلت: لَا مَانع من أَن يكون ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قَوْله: (يتْرك طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أجلى) أَي: قَالَ الله تَعَالَى: يتْرك الصَّائِم طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي، إِنَّمَا قَدرنَا هَذَا ليَصِح الْمَعْنى، لِأَن سِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي أَن يكون ضمير الْمُتَكَلّم فِي لفظ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) وَلَفظ: (لأجلي) ، من مُتَكَلم وَاحِد فَلَا يَصح الْمَعْنى على ذَلِك، فَلذَلِك قَدرنَا ذَلِك، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن الطباع عَن مَالك، فَقَالَ بعد قَوْله: (من ريح الْمسك، يَقُول الله، عز وَجل: إِنَّمَا يذر شَهْوَته وَطَعَامه) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الزِّنَاد، فَقَالَ فِي أول الحَدِيث: (يَقُول الله، عز وَجل: كل عمل ابْن آدم لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَإِنَّمَا يذر ابْن آدم شَهْوَته وَطَعَامه من أَجلي) . قيل: المُرَاد بالشهوة فِي الحَدِيث شَهْوَة الْجِمَاع لعطفها على الطَّعَام وَالشرَاب. قلت: الشَّهْوَة أَعم، فَيكون من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص، وَلَكِن قدم لفظ الشَّهْوَة سعيد بن مَنْصُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا، وَكَذَلِكَ من رِوَايَة الْمُوَطَّأ بِتَقْدِيم الشَّهْوَة عَلَيْهِمَا، فَيكون من قبيل عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق سُهَيْل عَن أبي صَالح عَن أَبِيه: (يدع الطَّعَام وَالشرَاب من أَجلي، ويدع لذته من أَجلي، ويدع زَوجته من أَجلي) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة من هَذَا الْوَجْه: (يدع امْرَأَته وشهوته وَطَعَامه وَشَرَابه من أَجلي) ، وأصرح من ذَلِك مَا وَقع عِنْد الْحَافِظ سمويه: (من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من أَجلي) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي هُنَا: فَإِن قلت: فَهَذَا قَول الله وَكَلَامه، فَمَا الْفرق بَينه وَبَين الْقُرْآن؟ قلت: الْقُرْآن لَفظه معجز ومنزل بِوَاسِطَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا غير معجز وَبِدُون الْوَاسِطَة، وَمثله يُسمى بِالْحَدِيثِ الْقُدسِي والإل هِيَ والرباني. فَإِن قلت: الْأَحَادِيث كلهَا كَذَلِك، وَكَيف، وَهُوَ: مَا ينْطق عَن الْهوى؟ قلت: الْفرق بِأَن الْقُدسِي مُضَاف إِلَى الله ومروي عَنهُ، بِخِلَاف غَيره، وَقد يفرق بِأَن الْقُدسِي مَا يتَعَلَّق بتنزيه ذَات الله تَعَالَى وبصفاته الجلالية والجمالية مَنْسُوبا إِلَى الحضرة تَعَالَى وتقدس، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْقُرْآن هُوَ اللَّفْظ الْمنزل بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للإعجاز، والقدسي إِخْبَار الله رَسُوله مَعْنَاهُ بالإلهام أَو بالمنام، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بِعِبَارَة نَفسه، وَسَائِر الْأَحَادِيث لم يضفه إِلَى الله وَلم يروه عَنهُ. قَوْله: (الصّيام لي) ، كَذَا وَقع بِغَيْر أَدَاة عطف وَلَا غَيرهَا، وَفِي (الْمُوَطَّأ) : (فالصيام) ، بِالْفَاءِ وَهِي للسَّبَبِيَّة أَي: بِسَبَب كَونه لي إِنَّه يتْرك شَهْوَته لأجلي، وَوَقع فِي رِوَايَة مُغيرَة عَن أبي الزِّنَاد عَن سعيد بن مَنْصُور: (كل عمل ابْن آدم هُوَ لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمثله فِي رِوَايَة عَطاء عَن أبي صَالح الَّتِي تَأتي. قَوْله: (وَأَنا أجزي بِهِ) ، بَيَان لِكَثْرَة ثَوَابه، لِأَن الْكَرِيم إِذا أخبر بِأَنَّهُ يتَوَلَّى بِنَفسِهِ الْجَزَاء اقْتضى عَظمته وسعته، وَقَالَ الْكرْمَانِي: تَقْدِيم الضَّمِير للتخصيص أَو للتَّأْكِيد والتقوية؟ قلت: يحتملهما، لَكِن الظَّاهِر من السِّيَاق الأول أَي: أَنا أُجَازِيهِ لَا غَيْرِي بِخِلَاف سَائِر الْعِبَادَات، فَإِن جزاءها قد يُفَوض إِلَى الْمَلَائِكَة، وَقد أَكْثرُوا فِي معنى قَوْله: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمُلَخَّصه: أَن الصَّوْم لَا يَقع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقع فِي غَيره، لِأَنَّهُ لَا يظْهر من ابْن آدم بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي الْقلب، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ مُرْسلا. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي الصَّوْم رِيَاء) ، رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب الْغَرِيب عَن شَبابَة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال لَا تكون إلاَّ بالحركات إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تخفى على النَّاس، وروى الْبَيْهَقِيّ هَذَا من وَجه آخر: عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: (الصّيام لَا رِيَاء فِيهِ، قَالَ الله، عز وَجل: هُوَ لي) وَفِيه مقَال، قيل: لَا يدْخلهُ الرِّيَاء بِفِعْلِهِ وَقد يدْخلهُ بقوله، بِأَن أخبر أَنه صَائِم فَكَانَ دُخُول الرِّيَاء فِيهِ من جِهَة الْإِخْبَار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَعْمَال، فَإِن الرِّيَاء قد يدخلهَا بِمُجَرَّد فعلهَا. قلت: فِيهِ نظر(10/259)
لِأَن دُخُول الرِّيَاء وَعدم دُخُوله بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل والإخبار لَيْسَ مِنْهُ، فَافْهَم.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لما كَانَت الْأَعْمَال يدخلهَا الرِّيَاء وَالصَّوْم لَا يطلع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فعله إلاَّ الله، فأضافه إِلَى نَفسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث: (يدع شَهْوَته من أَجلي) ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: جَمِيع الْعِبَادَات تظهر بِفِعْلِهَا، وَقل أَن يسلم مَا يظْهر من شوب بِخِلَاف الصَّوْم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله مُنْفَرد بِعلم مِقْدَار ثَوَاب الصَّوْم وتضعيفه، بِخِلَاف غَيره من الْعِبَادَات، فقد يطلع عَلَيْهَا بعض النَّاس، وَيشْهد لذَلِك مَا روى فِي (الْمُوَطَّأ) : (تضَاعف الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى مَا شَاءَ الله، قَالَ الله: إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ) . أَي: أجازي بِهِ عَلَيْهِ جَزَاء كثيرا من غير تعْيين لمقداره، وَهَذَا كَقَوْلِه: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) . والصابرون الصائمون فِي أَكثر الْأَقْوَال. قلت: هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن قَوْله: (الصَّابِرُونَ الصائمون) غير مُسلم، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ: الصائمون الصَّابِرُونَ، لِأَن الصَّوْم يسْتَلْزم الصَّبْر وَلَا يسْتَلْزم الصَّبْر الصَّوْم، وَقَالَ بَعضهم: سبق إِلَى هَذَا أَبُو عبيد فِي (غَرِيبه) ، فَقَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عُيَيْنَة أَنه قَالَ ذَلِك، وَاسْتدلَّ لَهُ بِأَن الصَّوْم هُوَ الصَّبْر لِأَن الصَّائِم يصبر نَفسه عَن الشَّهَوَات، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) . ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيشْهد لَهُ رِوَايَة الْمسيب بن رَافع عَن أبي صَالح عِنْد سمويه: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصَّوْم، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحد مَا فِيهِ) . ثمَّ قَالَ: وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ ابْن وهب فِي (جَامعه) عَن عمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن جده زيد مُرْسلا، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب من طَرِيق أُخْرَى عَن عمر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (الْأَعْمَال عِنْد الله سبع) الحَدِيث، وَفِيه: (عمل لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله) . ثمَّ قَالَ: (وَأما الْعَمَل الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله فالصيام) . انْتهى. وَقد استبعد الْقُرْطُبِيّ هَذَا، بل أبْطلهُ بقوله: قد أَتَى فِي غير مَا حَدِيث أَن صَوْم الْيَوْم بِعشْرَة أَيَّام، فَهَذَا نَص فِي إِظْهَار التَّضْعِيف.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من الَّذِي ذكر بُطْلَانه، بل المُرَاد بِمَا أوردهُ أَن صِيَام الْيَوْم الْوَاحِد يكْتب بِعشْرَة أَيَّام، وَأما مِقْدَار ثَوَاب ذَلِك فَلَا يُعلمهُ إلاَّ الله. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَنه لَا يلْزم من ذَلِك بُطْلَانه، بل يلْزم لِأَن كَلَامه يُؤَدِّي إِلَى تبطيل معنى التَّنْصِيص على مَا لَا يخفى على المتأمل، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ أَن الصَّوْم أحب الْعِبَادَات إِلَيّ، والمقدم عِنْدِي، لِأَنَّهُ قَالَ: (الصّيام لي) ، فأضافه إِلَى نَفسه وَكفى بِهِ فضلا على سَائِر الْعِبَادَات. وَقَالَ بَعضهم: وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مثل لَهُ) ، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إعلموا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة) . قلت: لَا يُعَكر أصلا لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤال المخاطبين، كَمَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: (خير الْأَعْمَال أدومها وَإِن كَانَ يَسِيرا) . وَقيل: هُوَ إِضَافَة تشريف كَمَا فِي قَوْله: {نَاقَة الله} (الشَّمْس: 31) . مَعَ أَن الْعَالم كُله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عز وَجل. وَقيل: لِأَن الِاسْتِغْنَاء عَن الطَّعَام من صِفَات الله، عز وَجل، فَيقرب الصَّائِم بِمَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الصّفة وَإِن كَانَت صِفَات الله لَا يشبهها شَيْء، وَقيل: إِنَّمَا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَة لِأَن ذَلِك من صفاتهم، وَقيل: إِضَافَته إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يعبد أحد غير الله بِالصَّوْمِ، فَلم يعظم الْكفَّار فِي عصر من الْأَعْصَار معبودا لَهُم بالصيام. وَإِن كَانُوا يعظمونه بِصُورَة الصَّلَاة وَالسُّجُود وَالصَّدَََقَة وَغير ذَلِك، ونقضه بَعضهم بأرباب الاستخدامات فَإِنَّهُم يَصُومُونَ للكواكب، وَلَيْسَ هَذَا بِنَقْض، لِأَن أَرْبَاب الاستخدامات لَا يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَوَاكِب آلِهَة، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا فعالة بأنفسها وَإِن كَانَت عِنْدهم مخلوقة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الْجَواب عِنْدِي لَيْسَ بطائل. قلت: هَذَا الْجَواب جَوَاب شَيْخه الشَّيْخ زين الدّين، رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَن بيَّن وَجه مَا ذكره، وَقيل: وَجه ذَلِك أَن جَمِيع الْعِبَادَات توفّي مِنْهَا مظالم الْعباد إلاَّ الصّيام، وروى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن أَيُّوب عَن حسان الوَاسِطِيّ عَن أَبِيه عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُحَاسب الله عَبده وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ من الْمَظَالِم من عمله حَتَّى لَا يبْقى لَهُ إلاَّ الصَّوْم، فيتحمل الله مَا بَقِي عَلَيْهِ من الْمَظَالِم، ويدخله بِالصَّوْمِ الْجنَّة) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا حسن، غير أَنِّي وجدت فِي حَدِيث الْمُقَاصَّة ذكر الصَّوْم فِي جملَة الْأَعْمَال. لِأَن فِيهِ: (الْمُفلس من يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصدقَة وَصِيَام، وَيَأْتِي وَقد شتم هَذَا وَضرب هَذَا وَأكل مَال هَذَا) الحَدِيث. وَفِيه: (فَيُؤْخَذ لهَذَا من حَسَنَاته، وَلِهَذَا من حَسَنَاته، فَإِن فنيت حَسَنَاته قبل أَن يقْضِي مَا عَلَيْهِ أَخذ من سيئاته فطرحت عَلَيْهِ ثمَّ طرح فِي النَّار) وَظَاهره أَن الصّيام مُشْتَرك مَعَ بَقِيَّة الْأَعْمَال فِي ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: إِن ثَبت قَول ابْن عُيَيْنَة أمكن تَخْصِيص الصّيام من ذَلِك. قلت: يجْرِي الْإِمْكَان فِي كل عَام وَلَا يثبت التَّخْصِيص إلاَّ بِدَلِيل، وإلاَّ يلْزم إِلْغَاء حكم(10/260)
الْعَام وَهُوَ بَاطِل.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد يسْتَدلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: (كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم، الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وَلَفظه: (قَالَ ربكُم تبَارك وَتَعَالَى: كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم) . قلت: أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن آدم عَن شُعْبَة بِلَفْظ: (يرويهِ عَن ربكُم قَالَ: لكل عمل كَفَّارَة، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) . انْتهى، وَلم يذكر إلاَّ الصَّوْم، فَدخل فِي صدر الْكَلَام الصَّوْم، لِأَن لفظ: كل، إِذا أضيف إِلَى النكرَة يَقْتَضِي عُمُوم الْأَفْرَاد، وَلكنه أخرجه من ذَلِك، بقوله: (وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) لحصوصية فِيهِ من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَإِن كَانَت جَمِيع الْأَعْمَال لله تَعَالَى. وَقيل: إِن الصَّوْم لَا يظْهر فتكتبه الْحفظَة كَمَا لَا تكْتب سَائِر أَعمال الْقُلُوب، وَقيل: اسْتندَ قَائِله إِلَى حَدِيث واهٍ جدا، أوردهُ ابْن الْعَرَبِيّ فِي المسلسلات، وَلَفظه: (قَالَ الله: الْإِخْلَاص سرُّ من سري أستودعه قلب من أحب لَا يطلع عَلَيْهِ ملك فيكتبه، وَلَا شَيْطَان فيفسده) . قيل: اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بالصيام هُنَا صِيَام من سلم صِيَامه من الْمعاصِي قولا وفعلاً. وَنقل ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض الزهاد أَنه مَخْصُوص بصيام خَواص الْخَواص، فَقَالَ: إِن الصَّوْم على أَرْبَعَة أَنْوَاع: صِيَام الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع، و: صِيَام خَواص الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَاب الْمُحرمَات من قَول أَو فعل، وَصِيَام الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن ذكر غير الله وعبادته، وَصِيَام خَواص الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن غير الله، فَلَا فطر لَهُم إلاَّ يَوْم لِقَائِه.
قَوْله: (الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا) ، كَذَا وَقع مُخْتَصرا عِنْد البُخَارِيّ، وروى يحيى بن بكير عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث بعد قَوْله: (والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا، فَقَالَ: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ) . فَخص الصّيام بالتضعيف على سَبْعمِائة ضعف فِي هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا عقبه بقوله: (والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا) إعلاما بِأَن الصَّوْم مُسْتَثْنى من هَذَا الحكم فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَائِر الْحَسَنَات بِعشر الْأَمْثَال بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ بأضعافه بِدُونِ الْحساب، وَالْحَاصِل أَن الصّيام لَا يتَقَيَّد بأعداد التَّضْعِيف، بل الله يجْزِيه على ذَلِك بِغَيْر حِسَاب. فَإِن قلت: الْأَمْثَال جمع مثل، وَهُوَ مُذَكّر، فمنزلته: بِعشْرَة أَمْثَالهَا، بِالتَّاءِ الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث؟ قلت: مثل الْحَسَنَة هُوَ الْحَسَنَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعشر حَسَنَات، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قد يكون لسبعمائة، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء. قلت: هَذَا أَقَله، والتخصيص بِالْعدَدِ لَا يدل على الزَّائِد وَلَا عَدمه.
3 - (بابٌ الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّوْم كَفَّارَة، هَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بتنوين: بَاب، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب الصَّوْم كَفَّارَة، بِالْإِضَافَة. وَفِي نُسْخَة الشَّيْخ قطب الدّين الشَّارِح: بَاب كَفَّارَة الصَّوْم أَي: بَاب تَكْفِير الصَّوْم للذنوب.
5981 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ قَالَ حدَّثا جامِعٌ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ مَنْ يَحْفَظُ حَديثا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الفِتْنَةِ قَالَ حُذَيْفَةُ أَنا سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ ومالِهِ وجارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ والصِّيَامُ والصَّدَقَةُ قَالَ لَيْسَ أسْألُ عنْ ذِهْ إنَّمَا أسْألُ عنِ الَّتي تَمُوجُ كَما يَمُوجُ الْبَحْرُ قَالَ حُذَيْفَةُ وإنَّ دُونَ ذَلِكَ بَابا مُغْلَقا قَالَ فَيُفْتَحُ أوُ يُكْسَرُ قَالَ يُكْسَرُ قَالَ ذَاكَ أجْدَرُ أنْ لاَ يُغْلَقَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ سَلْهُ أكانَ عُمَرُ مَنِ الْبَابُ فسَألَهُ فَقالَ نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تكفرها الصَّلَاة وَالصِّيَام) ، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي أَوَائِل كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة، وَترْجم هُنَاكَ بِالصَّلَاةِ، وَهنا بالصيام، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن حُذَيْفَة، وشقيق كنيته أَبُو وَائِل، وَهنا أخرجه: عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن جَامع بن أبي رَاشد الصَّيْرَفِي(10/261)
الْكُوفِي عَن أبي وَائِل هُوَ شَقِيق بن سَلمَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً هُنَاكَ.
قَوْله: (عَن ذه) بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهَاء، وَهُوَ من أَسمَاء الْإِشَارَة للمفرد الْمُؤَنَّث، وَالَّذِي يشار بِهِ لَهُ عشرَة مِنْهَا ذه، وَيُقَال: ذه، بالاختلاس. قَوْله: (ذَاك) أَي الْكسر أولى من الْفَتْح أَن لَا يغلق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، أَي إِذا وَقعت الْفِتْنَة فَالظَّاهِر أَنه لَا يسكن. قَوْله: (دون غَد) أَي: كَمَا يعلم أَن اللَّيْلَة هِيَ قبل الْغَد، أَي: علما وَاضحا جليا وَالله أعلم. أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الريان الَّذِي هُوَ اسْم علم لباب من أَبْوَاب الْجنَّة مُخْتَصّ للصائمين وَوزن رَيَّان فعلان وَقد وَقعت الْمُنَاسبَة فِيهِ بَين لَفظه وَمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الرّيّ الْكثير الَّذِي هُوَ ضد الْعَطش وَسمي بذلك لِأَنَّهُ جَزَاء الصائمين على عطشهم وجوعهم وَاكْتفى بِذكر الرّيّ عَن الشِّبَع لِأَنَّهُ يدل عَلَيْهِ من حَيْثُ أَنه يستلزمه وأفرد لَهُم هَذَا الْبَاب إِكْرَاما لَهُم واختصاصا وليكون دُخُولهمْ الْجنَّة غير متزاحمين فَإِن الزحام قد يُؤَدِّي إِلَى الْعَطش
6981 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدثنَا سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ فِي الجَنَّةِ بَابا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقالُ أيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أحَدٌ غَيْرُهُمْ فإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ منهُ أحَدٌ.
(الحَدِيث 6981 طرفه فِي: 7523) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: البَجلِيّ الْكُوفِي أَبُو مُحَمَّد، وَسليمَان ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن خَالِد بن مخلد بِهِ.
قَوْله: (إِن فِي الْجنَّة بَابا) ، قيل: إِنَّمَا قَالَ: فِي الْجنَّة، وَلم يقل: للجنة ليشعر بِأَن فِي الْبَاب الْمَذْكُور من النَّعيم والراحة مَا فِي الْجنَّة، فَيكون أبلغ فِي التشويق إِلَيْهِ. قلت: وَإِنَّمَا لم يقل للجنة، ليشعر أَن بَاب الريان غير الْأَبْوَاب الثَّمَانِية الَّتِي للجنة، وَفِي الْجنَّة أَيْضا أَبْوَاب أخر غير الثَّمَانِية، مِنْهَا: بَاب الصَّلَاة وَبَاب الْجِهَاد وَبَاب الصَّدَقَة على مَا يَجِيء فِي الحَدِيث الْآتِي، وَفِي (نَوَادِر الْأُصُول) للحكيم التِّرْمِذِيّ: من أَبْوَاب الْجنَّة بَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ بَاب الرَّحْمَة، وَهُوَ بَاب التَّوْبَة، وَهُوَ مُنْذُ خلقه الله مَفْتُوح لَا يغلق، فَإِذا طلعت الشَّمْس من مغْرِبهَا أغلق فَلم يفتح إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَسَائِر الْأَبْوَاب مقسومة على أَعمال الْبر: بَاب الزَّكَاة، بَاب الْحَج، بَاب الْعمرَة. وَعند عِيَاض: بَاب الكاظمين الغيط، بَاب الراضين، الْبَاب الْأَيْمن الَّذِي يدْخل مِنْهُ من لَا حِسَاب عَلَيْهِ، وَفِي (كتاب الْآجُرِيّ) : عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن فِي الْجنَّة بَابا يُقَال لَهُ: بَاب الضُّحَى، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي منادٍ: أَيْن الَّذين كَانُوا يديمون على صَلَاة الضُّحَى؟ هَذَا بَابَكُمْ فادخلوا) . وَفِي (الفردوس) عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (للجنة بَاب يُقَال لَهُ: الْفَرح، لَا يدْخل مِنْهُ إلاَّ مفرح الصّبيان) . وَعند التِّرْمِذِيّ بَاب للذّكر، وَعند ابْن بطال بَاب الصابرين، وَذكر البرقي فِي (كتاب الرَّوْضَة) : عَن أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا روح حَدثنَا أَشْعَث عَن الْحسن، قَالَ: (إِن لله بَابا فِي الْجنَّة لَا يدْخلهُ إلاَّ من عَفا عَن مظْلمَة) . وَفِي كتاب (التخبير) للقشيري، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (الْخلق الْحسن طوق من رضوَان الله فِي عنق صَاحبه، والطوق مشدود إِلَى سلسلة من الرَّحْمَة، والسلسلة مشدودة إِلَى حَلقَة من بَاب الْجنَّة حَيْثُ مَا ذهب الْخلق الْحسن جرته السلسلة إِلَى نَفسهَا حَتَّى يدْخلهُ من ذَاك الْبَاب إِلَى الْجنَّة) . فَهَذِهِ الْأَبْوَاب كلهَا دَاخِلَة فِي دَاخل الْأَبْوَاب الثَّمَانِية الْكِبَار الَّتِي مَا بَين مصراعي بَاب مِنْهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام. فَإِن قلت: روى الجوزقي فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: (إِن للجنة ثَمَانِيَة أَبْوَاب مِنْهَا بَاب يُسمى الريان لَا يدْخلهُ إلاَّ الصائمون) ، قلت: روى البُخَارِيّ هَذَا من هَذَا الْوَجْه فِي بَدْء الْخلق، لَكِن، قَالَ: (فِي الْجنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب) ، وَهَذَا أصح وأصوب. قَوْله: (فَإِذا دخلُوا أغلق) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الإغلاق، قَالَ الْجَوْهَرِي: اغلقت الْبَاب فَهُوَ مغلق، والأسم الغلق، وَيُقَال: غلقت الْبَاب غلقا(10/262)
وَهِي لُغَة رَدِيئَة متروكة، وغلقت الْأَبْوَاب شدد للكثرة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: غلق مخففا ومشددا. هُوَ من بَاب الإغلاق. قلت: هَذَا تَخْلِيط فِي اللُّغَة حَيْثُ يذكر أَولا أَنه من بَاب الثلاثي، ثمَّ يَقُول: هُوَ من بَاب الإغلاق، وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَلم يدْخل مِنْهُ أحد) ، الْقيَاس، فَلَا يدْخل، لِأَن: لم يدْخل، للماضي، وَلكنه عطف على قَوْله: (لَا يدْخل) ، فَيكون فِي حكم الْمُسْتَقْبل. وَقَالَ بَعضهم: فَلم يدْخل، فَهُوَ مَعْطُوف على أغلق أَي: لم يدْخل مِنْهُ غير من دخل. انْتهى. قلت: هَذَا أَخذه من الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ عطف على الْجَزَاء فَهُوَ فِي حكم الْمُسْتَقْبل، ثمَّ تَفْسِيره بقوله: أَي لم يدْخل مِنْهُ غير من دخل غير صَحِيح، لِأَن غير من دخل أَعم من أَن يكون من الصائمين وَغَيرهم، وَلَيْسَ المُرَاد أَن لَا يدْخل مِنْهُ إلاَّ الصائمون. وَقَول الْكرْمَانِي، أَيْضا عطف على الْجَزَاء فِيهِ نظر لَا يخفى، وَإِنَّمَا كرر نفي دُخُول غَيرهم مِنْهُ للتَّأْكِيد، وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن مخلد، هُوَ الْقَطوَانِي، عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، قَالَ: حَدثنِي أَبُو حَازِم عَن سهل بن سعد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن فِي الْجنَّة بَابا يُقَال لَهُ الريان، يدْخل مِنْهُ الصائمون يَوْم الْقِيَامَة لَا يدْخل مِنْهُ أحد غَيرهم، يُقَال: أَيْن الصائمون؟ فَيدْخلُونَ مِنْهُ، فَإِذا دخل آخِرهم أغلق فَلم يدْخل مِنْهُ أحد) . وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا فِي بعض النّسخ من مُسلم، وَفِي الْكثير مِنْهَا: (فَإِذا دخل أَوَّلهمْ أغلق) . قلت: الْأَمر بِالْعَكْسِ، فَفِي الْكثير: (فَإِذا دخل آخِرهم) ، وَوَقع فِي بعض النّسخ الَّتِي لَا يعْتَمد عَلَيْهَا: (فَإِذا دخل أَوَّلهمْ) . وَهُوَ غير صَحِيح، فَلذَلِك قَالَ شرَّاح مُسلم وَغَيرهم: إِنَّه وهم، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَقد اسْتشْكل بَعضهم الْجمع بَين حَدِيث بَاب الريان وَبَين الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي أخرجه مُسلم من حَدِيث عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا مِنْكُم من أحد يتَوَضَّأ فَيبلغ أَو يسبغ الْوضُوء، ثمَّ يَقُول: أشهد أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إلاَّ فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية، يدْخل من أَيهَا شَاءَ) . قَالُوا: فقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يدْخل من أَيهَا شَاءَ، وَقد لَا يكون فَاعل هَذَا الْفِعْل من أهل الصّيام، بِأَن لَا يبلغ وَقت الصّيام الْوَاجِب، أَو لَا يتَطَوَّع بالصيام، وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنه يصرف عَن أَن يَشَاء بَاب الصّيام، فَلَا يَشَاء الدُّخُول مِنْهُ، وَيدخل من أَي بَاب شَاءَ غير الصّيام، فَيكون قد دخل من الْبَاب الَّذِي شاءه. وَالثَّانِي: أَن حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد اخْتلفت أَلْفَاظه، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيّ: (فتحت لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب من الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ) ، فَهَذِهِ الرِّوَايَة تدل على أَن أَبْوَاب الْجنَّة أَكثر من ثَمَانِيَة مِنْهَا، وَقد لَا يكون بَاب الصّيام من هَذِه الثَّمَانِية، وَلَا تعَارض حِينَئِذٍ.
7981 - حدَّثنا إبرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثني مَعْنٌ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ ابنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ الله نُودِيَ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ يَا عَبْدَ الله هَذَا خَيْرً فَمَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلاةِ ومَنُ كانَ مِنْ أهْلِ الجِهَادَ دُعِيَ مِنْ بابِ الجِهَادِ ومنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصِّيامِ دُعِيَ مِن بابِ الرَّيَّانِ ومنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بابِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِأبِي أنْتَ وأُمِّي يَا رسولَ الله مَا عَلَى منْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا فَقَالَ نَعَمْ وأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من قَوْله: (وَمن كَانَ من أهل الصّيام دعِي من بَاب الريان) ، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قد تكَرر ذكره، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون: ابْن عِيسَى بن يحيى أَبُو يحيى الْقَزاز الْمدنِي، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَحميد، بِضَم الْحَاء: ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر وحرملة وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَحسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، ثَلَاثَتهمْ عَن يَعْقُوب وَعَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه(10/263)
التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ عَن معن عَن مَالك إِلَى آخِره نَحوه، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن عُثْمَان وَفِي الصَّوْم عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن وهب عَن مَالك وَيُونُس بِهِ، وَعَن الْحَارِث وَمُحَمّد بن سَلمَة كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَفِي الْجِهَاد عَن عبيد الله بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ فِي فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَخْبرنِي حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف) . قَوْله: (عَن أبي هُرَيْرَة) ، قَالَ أَبُو عمر: اتّفقت الروَاة عَن مَالك على وَصله إلاَّ يحيى ابْن أبي بكير وَعبد الله بن يُوسُف فَإِنَّهُمَا أَرْسلَاهُ، وَلم يَقع عِنْد القعْنبِي أصلا لَا مُسْندًا وَلَا مُرْسلا. وَفِي (التَّلْوِيح) ذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب الموطآت) : أَن القعْنبِي رَوَاهُ كَمَا روى ابْن مُصعب ومعن مُسْندًا. قَوْله: (زَوْجَيْنِ) ، يَعْنِي دينارين أَو دِرْهَمَيْنِ أَو ثَوْبَيْنِ وَقيل: دِينَار وثوب أَو دِرْهَم ودينار، أَو ثوب مَعَ غَيره أَو صَلَاة وَصَوْم، فَيشفع الصَّدَقَة بِأُخْرَى أَو فعل خير بِغَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل القَاضِي عَن أبي مُصعب عَن مَالك: (من أنْفق زَوْجَيْنِ من مَاله) . قَوْله: (فِي سَبِيل الله) قيل: هُوَ الْجِهَاد، وَقيل: مَا هُوَ أَعم مِنْهُ، وَقيل: المُرَاد بالزوجين انفاق شَيْئَيْنِ من أَي صنف كَانَ من أَصْنَاف المَال. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَالزَّوْج هُنَا الْفَرد، يُقَال للْوَاحِد زوج، وللاثنين زوج. قَالَ تَعَالَى: {فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} (الْقِيَامَة: 93) . وَصَوَابه أَن الْإِثْنَيْنِ زوجان يدل عَلَيْهِ الْآيَة. وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن يُونُس بن عبيد وَحميد عَن الْحسن عَن صعصعة بن مُعَاوِيَة عَن أبي ذَر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أنْفق زَوْجَيْنِ ابتدرته حجبة الْجنَّة) ، ثمَّ قَالَ: (بعيران شَاتين حِمَارَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، قَالَ حَمَّاد: أَحْسبهُ قَالَ: خُفَّيْنِ) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (فرسين من خيله، بَعِيرَيْنِ من إبِله) . وروى عَن صعصعة قَالَ: رَأَيْت أَبَا ذَر بالربذة وَهُوَ يَسُوق بَعِيرًا لَهُ عَلَيْهِ مزادتان، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من مُسلم ينْفق زَوْجَيْنِ من مَاله فِي سَبِيل الله إلاَّ استقبلته حجبة الْجنَّة كلهم يَدعُوهُ إِلَى مَا عِنْده، قلت: زَوْجَيْنِ مَاذَا؟ قَالَ: إِن كَانَ صَاحب خيل ففرسين، وَإِن كَانَ صَاحب إبل فبعيرين، وَإِن كَانَ صَاحب بقر فبقرتين، حَتَّى عد أَصْنَاف المَال) . وشبيه حَدِيث الْحمانِي ذكره أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ عَن مبارك بن سعيد عَن ابْن المحيريز، يرفعهُ: (من عَال ابْنَتَيْن أَو أُخْتَيْنِ أَو خالتين أَو عمتين أَو جدتين فَهُوَ معي فِي الْجنَّة) . فَإِن قلت: النَّفَقَة إِنَّمَا تشرع فِي الْجِهَاد وَالصَّدَََقَة، فَكيف تكون فِي بَاب الصَّلَاة وَالصِّيَام؟ قلت: لِأَن نَفَقَة المَال مقترنة بِنَفَقَة الْجِسْم فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا بُد للْمُصَلِّي والصائم من قوت يُقيم رمقه وثوب يستره، وَذَلِكَ من فروض الصَّلَاة، ويستعين بذلك على الطَّاعَة، فقد صَار بذلك منفقا لزوجين: لنَفسِهِ ولماله، وَقد تكون النَّفَقَة فِي بَاب الصَّلَاة أَن يَبْنِي لله مَسْجِدا للمصلين، وَالنَّفقَة فِي الصّيام أَن يفْطر صَائِما، وَذَلِكَ بِدلَالَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة) . وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من فطر صَائِما فَكَأَنَّمَا صَامَ يَوْمًا) . فَإِن قلت: إِذا جَازَ اسْتِعْمَال الْجِسْم فِي الطَّاعَة نَفَقَة، فَيجوز أَن يدْخل فِي معنى الحَدِيث: من أنْفق نَفسه فِي سَبِيل الله فاستشهد وَأنْفق كريم مَاله قلت: نعم، بل هُوَ أعظم أجرا من الأول، يُوضحهُ مَا رَوَاهُ سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان (عَن جَابر قَالَ: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله! أَي الْجِهَاد أفضل؟ قَالَ: أَن يعقر جوادك ويهراق دمك) ؟ فَإِن قلت: يدْخل فِي ذَلِك صَائِم رَمَضَان الْمُزَكي لمَاله والمؤدي الْفَرَائِض؟ قلت: المُرَاد: النَّوَافِل، لِأَن الْوَاجِبَات لَا بُد مِنْهَا لجَمِيع الْمُسلمين، وَمن ترك شَيْئا من الْوَاجِبَات إِنَّمَا يخَاف عَلَيْهِ أَن يُنَادى من أَبْوَاب جَهَنَّم. قَوْله: (نُودي من أَبْوَاب الْجنَّة) ، المُرَاد من هَذِه الْأَبْوَاب غير الْأَبْوَاب الثَّمَانِية، وَقَالَ أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد، كَذَا قَالَ من أَبْوَاب الْجنَّة، وَذكره أَبُو دَاوُد وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَابْن سنجر: (فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية) ، وَلَيْسَ فِيهَا ذكر: من، وَقَالَ ابْن بطال: لَا يَصح دُخُول الْمُؤمن إلاَّ من بَاب وَاحِد، ونداؤه مِنْهَا كلهَا إِنَّمَا هُوَ على سَبِيل الْإِكْرَام والتخيير لَهُ فِي دُخُوله من أَيهَا شَاءَ. قَوْله: (هَذَا خير) ، لَفْظَة خير لَيْسَ من أفعل التَّفْضِيل، بل مَعْنَاهُ هُوَ خير من الْخيرَات، والتنوين فِيهِ للتعظيم، وَفَائِدَة هَذَا الْإِخْبَار بَيَان تَعْظِيمه. قَوْله: (دعِي من بَاب الصَّلَاة) ، أَي: المكثرين لصَلَاة التَّطَوُّع، وَكَذَا غَيرهَا من أَعمال الْبر، وَقد ذكرنَا الْآن أَن الْوَاجِبَات لَا بُد مِنْهَا لجَمِيع الْمُسلمين. قَوْله: (من بَاب الصَّدَقَة) ، أَي: من الْغَالِب عَلَيْهِ ذَلِك، وإلاَّ فَكل الْمُؤمنِينَ أهل للْكُلّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه التّكْرَار حَيْثُ ذكر الْإِنْفَاق فِي صدر الْكَلَام(10/264)
وَالصَّدَََقَة فِي عَجزه؟ قلت: لَا تكْرَار، إِذْ الأول: هُوَ النداء بِأَن الْإِنْفَاق، وَإِن كَانَ بِالْقَلِيلِ من جملَة الْخيرَات الْعَظِيمَة، وَذَلِكَ حَاصِل من كل أَبْوَاب الْجنَّة، وَالثَّانِي: استدعاء الدُّخُول إِلَى الْجنَّة، وَإِنَّمَا هُوَ من الْبَاب الْخَاص بِهِ، فَفِي الحَدِيث فَضِيلَة عَظِيمَة للإنفاق، وَلِهَذَا افْتتح بِهِ واختتم بِهِ. قَوْله: (بِأبي أَنْت وَأمي) أَي: أَنْت مفدى بِأبي وَأمي، فَتكون الْبَاء مُتَعَلقَة بِهِ، وَقيل: تَقْدِيره: فديتك بِأبي وَأمي. قَوْله: (من ضَرُورَة) أَي: من ضَرَر، أَي لَيْسَ على الْمَدْعُو من كل الْأَبْوَاب مضرَّة، أَي: قد سعد من دعِي من أَبْوَابهَا جَمِيعًا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: مَا على من دعِي من تِلْكَ الْأَبْوَاب من لم يكن إلاَّ من أهل خصْلَة وَاحِدَة ودعي من بَابهَا لَا ضَرَر عَلَيْهِ، لِأَن الْغَايَة الْمَطْلُوبَة دُخُول الْجنَّة من أَيهَا أَرَادَ، لِاسْتِحَالَة الدُّخُول من الْكل مَعًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول: يحْتَمل أَن تكون الْجنَّة كالقلعة لَهَا أسوار مُحِيط بَعْضهَا بِبَعْض، وعَلى كل سور بَاب، فَمنهمْ من يدعى من الْبَاب الأول فَقَط، وَمِنْهُم من يتَجَاوَز عَنهُ إِلَى الْبَاب الدَّاخِل وهلم جرا. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَا يستبعده الْعقل، وَلَكِن معرفَة كَيْفيَّة الْجنَّة وَكَيْفِيَّة أَبْوَابهَا وَغير ذَلِك مَوْقُوفَة على السماع من الشَّارِع. قَوْله: (وَأَرْجُو أَن تكون مِنْهُم) ، خطاب لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والرجاء من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب، نبه عَلَيْهِ ابْن التِّين، فَدلَّ هَذَا على فَضِيلَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وعَلى أَنه من أهل هَذِه الْأَعْمَال كلهَا.
وَفِيه: أَن أَعمال الْبر لَا تفتح فِي الْأَغْلَب للْإنْسَان الْوَاحِد فِي جَمِيعهَا، وَإِن من فتح لَهُ فِي شَيْء مِنْهَا حرم غَيرهَا فِي الْأَغْلَب، وَأَنه قد يفتح فِي جَمِيعهَا للقليل من النَّاس، وَإِن الصدِّيق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم.
5 - (بابٌ هَلْ يُقالُ رمَضَانُ أوْ شَهْرُ رَمَضَانَ ومَنْ رَأى كُلَّهُ واسِعا)
أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: هَل يُقَال؟ أَي: هَل يجوز أَن يُقَال: رَمَضَان من غير شهر مَعَه؟ أَو يُقَال: شهر رَمَضَان؟ قَوْله: (هَل يُقَال) ؟ على صِيغَة الْمَجْهُول، رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: بَاب هَل يَقُول، أَي: الْإِنْسَان أَو الْقَائِل. قَوْله: (وَمن رأى كُله وَاسِعًا) من جملَة التَّرْجَمَة أَي: من رأى القَوْل بِمُجَرَّد رَمَضَان أَو بقيده بِشَهْر وَاسِعًا أَي: جَائِزا لَا حرج على قَائِله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَمن رَآهُ بهاء الضَّمِير، وَإِنَّمَا أطلق التَّرْجَمَة وَلم يفصح بالحكم للِاخْتِلَاف فِيهِ على عَادَته فِي ذَلِك، فَالَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْبُخَارِيّ مِنْهُم لَا يكره أَن يُقَال: جَاءَ رَمَضَان، وَلَا صمنا رَمَضَان، وَكَانَ عَطاء وَمُجاهد يكرهان أَن يَقُولَا: رَمَضَان، وَإِنَّمَا كَانَا يَقُولَانِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: شهر رَمَضَان، لأَنا لَا نَدْرِي لَعَلَّ رَمَضَان إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْحسن أَيْضا، قَالَ: وَالطَّرِيق إِلَيْهِ وَإِلَى مُجَاهِد ضَعِيفَة، وَهُوَ قَول أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ النّحاس: وَهَذَا قَول ضَعِيف لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نطق بِهِ، فَذكر مَا ذكره البُخَارِيّ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهُنَاكَ قَول ثَالِث، وَهُوَ قَول أَكثر أَصْحَابنَا إِن كَانَ هُنَاكَ قرينَة تصرفه إِلَى الشَّهْر فَلَا كَرَاهَة وَإِلَّا فَيكْرَه.
قَالُوا: وَيُقَال: قمنا رَمَضَان، ورمضان أفضل الْأَشْهر، وَإِنَّمَا يكره أَن يُقَال: قد جَاءَ رَمَضَان، وَدخل رَمَضَان، وَحضر، وَنَحْو ذَلِك. فَإِن قلت: فِي (كَامِل) ابْن عدي عَن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَقولُوا رَمَضَان، فَإِن رَمَضَان اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَلَكِن قُولُوا: شهر رَمَضَان؟) قلت: قَالَ أَبُو حَاتِم: هَذَا خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَفِيه أَبُو معشر نجيح الْمدنِي، وَضَعفه ابْن عدي الَّذِي خرجه، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى دفع حَدِيث ضَعِيف، ثمَّ ذكر هَذَا الَّذِي خرجه ابْن عدي. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ هَذَا الَّذِي قَالَه من كَلَام صَاحب (التَّلْوِيح) فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ البُخَارِيّ أَرَادَ بالتبويب دفع مَا رَوَاهُ أَبُو معشر نجيح فِي (كَامِل) ابْن عدي، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَهل هَذَا إلاَّ أَمر عَجِيب من هذَيْن الْمَذْكُورين؟ فَإِن لفظ التَّرْجَمَة: هَل يُقَال رَمَضَان أَو شهر رَمَضَان؟ من أَيْن يدل على هَذَا؟ فَمن أَي قبيل هَذِه الدّلَالَة؟ وَأَيْضًا: من قَالَ: إِن البُخَارِيّ اطلع على هَذَا الحَدِيث أَو وقف عَلَيْهِ حَتَّى يردهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة؟ قَوْله: (رَمَضَان) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (رَمَضَان مصدر رمض إِذا احْتَرَقَ من الرمضاء، فأضيف إِلَيْهِ الشَّهْر وَجعل علما، وَمنع الصّرْف للتعريف وَالْألف وَالنُّون، وسموه بذلك لارتماضهم فِيهِ من حر الْجُوع ومقاساة شدته، كَمَا سموهُ: ناتقا لِأَنَّهُ كَانَ ينتقهم أَي يزعجهم إضجارا بشدته عَلَيْهِم، وَقيل: لما نقلوا أَسمَاء الشُّهُور عَن اللُّغَة الْقَدِيمَة سَموهَا بالأزمنة الَّتِي وَقعت فِيهَا، فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْر أَيَّام رمض الْحر. قلت: كَانُوا يَقُولُونَ للْمحرمِ المؤتمر، ولصفر ناجر، ولربيع الأول خوان، ولربيع الآخر وبضان، ولجمادى الأولى ربى، ولجمادى الآخر حنين، ولرجب الْأَصَم، ولشعبان عاذل(10/265)
ولرمضان ناتق، ولشوال وعل، وَلِذِي الْقعدَة، وَرَنَّة، وَلِذِي الْحجَّة برك، وَفِي (الغريبين) : هُوَ مَأْخُوذ من رمض الصَّائِم يرمض إِذا حرَّ جَوْفه من شدَّة الْعَطش، وَفِي (المغيث) اشتقاقه من: رمضت النصل أرمضه رَمضًا إِذا جعلته بَين حجرين ودققته ليرق، سمي بِهِ لِأَنَّهُ شهر مشقة، ليذكر صائموه مَا يقاسي أهل النَّار فِيهَا، وَقيل: من رمضت فِي الْمَكَان يَعْنِي: احْتبست، لِأَن الصَّائِم يحتبس عَمَّا نهى عَنهُ، و: فعلان، لَا يكَاد يُوجد من بَاب فعل، وَهُوَ فِي بَاب فعل بِالْفَتْح كثير، وَقَالَ ابْن خالويه: تَقول الْعَرَب، جَاءَ فلَان يَغْدُو رَمضًا ورمضا وترميضا ورمضانا إِذا كَانَ قلقا فَزعًا. وَفِي (الْمُحكم) : جمعه رمضانات ورماضين وأرمضة وأرمض، عَن بعض أهل اللُّغَة، وَلَيْسَ يثبت فِي (الصِّحَاح) : يجمع على أرمضاء، وَفِي (الْعلم) : الْمَشْهُور لأبي الْخطاب: وَيجمع أَيْضا على رماض، وَهُوَ الْقيَاس، وأراميض ورماض. قَوْله: (أَو شهر رَمَضَان) ، الشَّهْر عدد وَجمعه أشهر وشهور، ذكره فِي (الموعب) . وَفِي (الْمُحكم) : الشَّهْر الْقَمَر سمي بذلك لشهرته وظهوره، وَسمي الشَّهْر بذلك لِأَنَّهُ يشهر بالقمر، وَفِيه عَلامَة ابْتِدَائه وانتهائه. وَيُقَال: شهر وَشهر. والتسكين أَكثر.
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ صامَ رَمَضَانَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَقد ذكر هَذِه الْقطعَة مِنْهُ لصِحَّة قَول من يَقُول: رَمَضَان بِغَيْر، قيد شهر.
وَقَالَ لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ
أَي: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تقدمُوا رَمَضَان، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا سَيَأْتِي، وَذكر هَذِه الْقطعَة مِنْهُ أَيْضا لما ذكرنَا.
8981 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَن أبِي سُهَيْلٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا جاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه جَاءَ فِي الحَدِيث (إِذا جَاءَ رَمَضَان) من غير ذكر: شهر، وَهَذَا الحَدِيث يُفَسر الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، مولى زُرَيْق الْمُؤَدب. الثَّالِث: أَبُو سُهَيْل واسْمه نَافِع بن مَالك بن أبي عَامر عَمْرو بن الْحَارِث بن غيمان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الأصبحي، عَم أنس بن مَالك. وَالرَّابِع: أَبُو مَالك بن أبي عَامر، تَابِعِيّ كَبِير أدْرك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بلخي والبقية مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم وَفِي صفة إِبْلِيس وَفِي مَوضِع آخر عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَيحيى بن أَيُّوب وَعلي بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن الحاتم وَحسن الْحلْوانِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان وَعَن عبيد الله بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن سعد بِهِ وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب وَعَن مُحَمَّد بن خَالِد بن عَليّ وَعَن عبد الله بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فتحت) ، رُوِيَ بتَشْديد التَّاء وتخفيفها، كَذَا أخرجه مُخْتَصرا، وَقد أخرجه مُسلم بِتَمَامِهِ، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن أَيُّوب وقتيبة بن سعيد وَابْن حجر، قَالُوا: حَدثنَا إِسْمَاعِيل، وَهُوَ ابْن جَعْفَر عَن أبي سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا جَاءَ رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الْجنَّة وغلقت أَبْوَاب النَّار وصفدت الشَّيَاطِين) ، ثمَّ المُرَاد من فتح أَبْوَاب الْجنَّة حَقِيقَة الْفَتْح، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن المُرَاد بِفَتْح أَبْوَاب الْجنَّة كَثْرَة الطَّاعَات فِي شهر رَمَضَان، فَإِنَّهَا موصلة إِلَى الْجنَّة، فكني بهَا عَن ذَلِك، وَيُقَال: المُرَاد بِهِ مَا فتح الله على الْعباد فِيهِ من الْأَعْمَال المستوجبة بهَا إِلَى الْجنَّة من الصّيام وَالصَّلَاة والتلاوة، وَأَن الطَّرِيق إِلَى الْجنَّة فِي رَمَضَان سهل، والأعمال فِيهِ أسْرع إِلَى الْقبُول.
9981 - حدَّثني يحْيعى بنُ بُكَيُرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرَني ابنُ(10/266)
أبِي أنَسٍ مَوْلَى التَّيْميِّينَ أنَّ أباهُ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقوُل قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا دخَل شهْرُ رَمَضَانَ فُتِحَتْ أبْوابُ السَّمَاءِ وغلِقَتْ أبْوَابُ جهَنَّمَ وسُلْسِلَتِ الشَّياطِينُ..
هَذَا طَرِيق آخر أتم من الطَّرِيق الأول، مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا دخل شهر رَمَضَان) ، حَيْثُ ذكر فِيهِ شهر، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله فِي التَّرْجَمَة: أَو شهر رَمَضَان.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: يحيى بن بكير وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: ابْن أبي أنس هُوَ أَبُو سهل نَافِع ابْن أبي أنس بن مَالك بن أبي عَامر. السَّادِس: أَبوهُ مَالك بن أبي عَامر. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين، وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَنْسُوب إِلَى جده لِأَنَّهُ يحيى بن عبد الله بن بكير وَأَنه وَاللَّيْث مصريان، وَأَن عقيلاً أيلي. وَأَن ابْن أبي أنس وأباه مدنيان. وَفِيه: أَن ابْن أبي أنس من صغَار شُيُوخ الزُّهْرِيّ بِحَيْثُ أدْركهُ تلامذة الزُّهْرِيّ وَمن هُوَ أَصْغَر مِنْهُ كإسماعيل بن جَعْفَر، وَقد ابْن أبي أنس فِي الْوَفَاة عَن الزُّهْرِيّ، وَهَذَا الْإِسْنَاد يعد من رِوَايَة الأقران. وَفِيه: أَن ابْن أبي أنس مولى التيميين، أَي: مولى بني تيم، وَالْمرَاد مِنْهُ آل طَلْحَة بن عبيد الله أحد الْعشْرَة، وَكَانَ أَبُو عَامر وَالِد مَالك قد قدم مَكَّة فقطنها وحالف عُثْمَان بن عبيد الله أَخا طَلْحَة فنسب إِلَيْهِ، وَكَانَ مَالك الْفَقِيه يَقُول: لسنا موَالِي آل تيم، إِنَّمَا نَحن عرب من أصبح، وَلَكِن جدي حالفهم، وَالْحَاصِل أَن أَبَا سُهَيْل نَافِع بن مَالك بن أبي عَامر أَخُو أنس بن مَالك بن عَامر، عَم مَالك بن أنس الإِمَام حَلِيف عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَقَالَ ابْن سعد فِي الطَّبَقَة من التَّابِعين الْمَدَنِيين: أَخْبرنِي عَم جدي الرّبيع، مَالك بن أبي عَامر وَهُوَ عَم مَالك بن أنس الْمُفْتِي عَن أَبِيه، فَذكر حَدِيثا أَنه عَاقد عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ فعدوا الْيَوْم فِي بني تيم لهَذَا السَّبَب، وَقيل: حَالف ابْنه عُثْمَان بن عبيد الله، وَأَبُو أنس كنية مَالك بن أبي عَامر، وَمَات مَالك سنة مائَة وَنَحْوهَا، كَمَا نقل عَن ابْن عبد الْبر، وَحكى الكلاباذي عَن ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ: سنة إثنتي عشرَة وَمِائَة، عَن سبعين أَو نَيف وَسبعين. وَفِي (الطَّبَقَات) لِابْنِ سعد: أَنه شهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الْجَمْرَة وأصابه حجر فدماه، وَفِيه نظر ظَاهر، وَأَوْلَاده أَرْبَعَة: أنس وَنَافِع وأويس وَالربيع، أَوْلَاد مَالك الْمَذْكُور.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ النَّسَائِيّ: مُرَاد الزُّهْرِيّ بِابْن أبي أنس: نَافِع، فَأخْرج من وَجه آخر عَن عقيل عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي أَبُو سُهَيْل عَن أَبِيه، وَأخرجه من طَرِيق صَالح عَن ابْن شهَاب، فَقَالَ: أَخْبرنِي نَافِع بن أبي أنس، وَرَوَاهُ ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ وَعَن أويس بن أبي أويس عديد بني تيم عَن أنس بن مَالك نَحوه، وَقَالَ: هَذَا خطأ وَلم يسمعهُ ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ، وَفِي مَوضِع آخر: هَذَا حَدِيث مُنكر خطأ، وَلَعَلَّ ابْن إِسْحَاق سَمعه من إِنْسَان ضَعِيف فَقَالَ فِيهِ: وَذكر الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ من حَدِيث أبي قلَابَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (أَتَاكُم رَمَضَان شهر مبارك فرض الله عَلَيْكُم صِيَامه، تفتح فِيهِ أَبْوَاب السَّمَاء وتغلق فِيهِ أَبْوَاب الْجَحِيم، وتغل فِيهِ مَرَدَة الشَّيَاطِين) . وَمن حَدِيثه عَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرغب فِي قيام رَمَضَان من غير عَزِيمَة، وَقَالَ: إِذا دخل رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الْجنَّة وغلقت الْجَحِيم وسلسلت فِيهِ الشَّيَاطِين) . وَقَالَ: هَذَا الثَّالِث الْأَخير خطأ من حَدِيث أبي سَلمَة، وَقَالَ: أرْسلهُ ابْن الْمُبَارك عَن معمر، ثمَّ سَاقه من حَدِيثه عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِذا دخل رَمَضَان فتحت) الحَدِيث.
وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان صفدت الشَّيَاطِين ومردة الْجِنّ، وغلقت أَبْوَاب النيرَان فَلم يفتح مِنْهَا بَاب، وَفتحت أَبْوَاب الْجنَّة فَلم يغلق مِنْهَا بَاب. .) الحَدِيث، وَقَالَ: غَرِيب لَا نَعْرِف مثل رِوَايَة أبي بكر بن عَيَّاش عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة إلاَّ من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش، وَسَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ؟ فَقَالَ: حَدثنَا الْحسن بن الرّبيع حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد، قَوْله: (إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان) ، فَذكر الحَدِيث. قَالَ مُحَمَّد: وَهَذَا(10/267)
أصح عِنْدِي من حَدِيث أبي بكر بن عَيَّاش وَقَالَ شَيخنَا: لم يحكم التِّرْمِذِيّ على حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور بِصِحَّة وَلَا حسن مَعَ كَون رِجَاله رجال الصَّحِيح، وَكَانَ ذَلِك لِتَفَرُّد أبي بكر بن عَيَّاش بِهِ، وَإِن كَانَ احْتج بِهِ البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ رُبمَا غلط، كَمَا قَالَ أَحْمد، ولمخالفة أبي الْأَحْوَص لَهُ فِي رِوَايَته عَن الْأَعْمَش، فَإِنَّهُ جعله مَقْطُوعًا من قَول مُجَاهِد، وَلذَلِك أدخلهُ التِّرْمِذِيّ فِي كتاب (الْعِلَل الْمُفْرد) ، وَذكر أَنه سَأَلَ البُخَارِيّ عَنهُ، وَذكر أَن كَونه عَن مُجَاهِد أصح عِنْده.
وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي (الْمُسْتَدْرك) وَصَححهُ، وَكَذَلِكَ صَححهُ ابْن حبَان، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (وَيغْفر فِيهِ إلاَّ لمن نأى، قَالُوا: أَو من نأى يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ: الَّذِي يَأْبَى أَن يسْتَغْفر الله عز وَجل) ، وروى من حَدِيث عتبَة بن فرقد، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (تفتح فِيهِ أَبْوَاب الْجنَّة وتغلق فِيهِ أَبْوَاب النَّار) الحَدِيث. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن حَدِيث عتبَة بن فرقد عَن رجل من الصَّحَابَة يرفعهُ: (إِذا جَاءَ رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الْجنَّة) الحَدِيث، فرجحه مَرْفُوعا. وَخطأ حَدِيث أنس، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَن أبي هُرَيْرَة. قلت: عتبَة بن فرقد السّلمِيّ أَبُو عبد الله لَيْسَ لَهُ صُحْبَة، نزل الْكُوفَة، وَقَالَ أَبُو عمر: كَانَ أَمِيرا لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على بعض فتوحات الْعرَاق، وروى لَهُ النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة عَطاء ابْن السَّائِب (عَن عرْفجَة، قَالَ: كَانَ عندنَا عتبَة بن فرقد، فتذاكرنا شهر رَمَضَان، فَقَالَ: مَا تذكرُونَ؟ قُلْنَا: شهر رَمَضَان. قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: تفتح فِيهِ أَبْوَاب الْجنَّة، وتغلق فِيهِ أَبْوَاب النَّار، وتغل فِيهِ الشَّيَاطِين، وينادي منادٍ كل لَيْلَة: يَا باغي الْخَيْر هَلُمَّ {وَيَا باغي الشَّرّ أقصر) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا خطأ، يُرِيد أَن الصَّوَاب أَنه حَدِيث رجل من الصَّحَابَة لم يسم، ثمَّ رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب عَن عرْفجَة، قَالَ: كنت فِي بَيت فِيهِ عتبَة بن فرقد، فَأَرَدْت أَن أحدث بِحَدِيث، وَكَانَ رجل من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَأَنَّهُ أولى بِالْحَدِيثِ، فَحدث الرجل عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فِي رَمَضَان تفتح أَبْوَاب السَّمَاء ... الحَدِيث.، مثل حَدِيث عتبَة بن فرقد.
ذكر مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من أَحَادِيث الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مِنْهَا: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة النَّضر بن شَيبَان، قَالَ: قلت لأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن: حَدثنِي بِشَيْء سمعته من أَبِيك سَمعه أَبوك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين أَبِيك أحد. قَالَ: نعم، حَدثنِي أبي، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله تبَارك وَتَعَالَى فرض صِيَام رَمَضَان، وسننت لكم قِيَامه، فَمن صَامَهُ وقامه إِيمَانًا واحتسابا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا غلط، وَالصَّوَاب: أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة.
وَمِنْهَا حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَوَاهُ أَبُو يعلى عَنهُ أَنه سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يَقُول، وَقد أهل رَمَضَان: لَو يعلم الْعباد مَا فِي رَمَضَان لتمنت أمتِي أَن تكون السّنة كلهَا رَمَضَان. فَقَالَ رجل من خُزَاعَة: حَدثنَا بِهِ} قَالَ: إِن الْجنَّة تزين لرمضان من رَأس الْحول إِلَى الْحول، حَتَّى إِذا كَانَ أول يَوْم من رَمَضَان هبت ريح من تَحت الْعَرْش، فصفقت ورق الْجنَّة، فتنظر الْحور الْعين إِلَى ذَلِك، فَقُلْنَ: يَا رب! إجعل لنا من عِبَادك فِي هَذَا الشَّهْر أَزْوَاجًا تقر أَعيننَا بهم، وتقر أَعينهم بِنَا، فَمَا من عبد يَصُوم رَمَضَان إلاَّ زوج زَوْجَة من الْحور الْعين فِي خيمة من درة مجوفة، مِمَّا نعت الله تَعَالَى: {حور مقصورات فِي الْخيام} (الرَّحْمَن: 27) . على كل امْرَأَة مِنْهُنَّ سَبْعُونَ حلَّة، لَيْسَ مِنْهَا حلَّة على لون الْأُخْرَى، وتعطى سَبْعُونَ لونا من الطّيب: لَيْسَ مِنْهُ لون على ريح الآخر، لكل امْرَأَة مِنْهُنَّ سبعين سريرا من ياقوتة حَمْرَاء موشحة بالدر، على كل سَرِير سَبْعُونَ فراشا بطائنها من استبرق، وَفَوق السّبْعين فراشا سَبْعُونَ أريكة لكل امْرَأَة مِنْهُنَّ سَبْعُونَ ألف وصيفة لحاجاتها، وَسَبْعُونَ ألف وصيف، مَعَ كل وصيف صَحْفَة من ذهب، فِيهَا لون طَعَام يجد لآخر لقْمَة مِنْهَا لَذَّة لَا يجد لأوله، وَيُعْطى زَوجهَا مثل ذَلِك، على سَرِير من ياقوتة حَمْرَاء، عَلَيْهِ سواران من ذهب، موشح بياقوت أَحْمَر، هَذَا بِكُل يَوْم صَامَ من رَمَضَان سوى مَا عمل من الْحَسَنَات) هَذَا حَدِيث مُنكر وباطل، وَفِي سَنَده جرير بن أَيُّوب البَجلِيّ الْكُوفِي، كَانَ يضع الحَدِيث. قَالَه وَكِيع وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ البُخَارِيّ: وَأَبُو زرْعَة مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي، رَوَاهُ الْحَارِث بن أبي أُسَامَة(10/268)
فِي (مُسْنده) عَنهُ، قَالَ: (خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخر يَوْم من شعْبَان، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه قد أظلكم شهر عَظِيم، شهر مبارك، فِيهِ لَيْلَة خير من ألف شهر، فرض الله صِيَامه وَجعل قيام ليله تَطَوّعا، فَمن تطوع فِيهِ بخصلة من الْخَيْر كَانَ كمن أدّى سبعين فَرِيضَة فِيمَا سواهُ، وَمن أدّى فِيهِ فَرِيضَة كَانَ كمن أدّى سبعين فَرِيضَة، وَهُوَ شهر الصَّبْر، وَالصَّبْر ثَوَابه الْجنَّة، وَهُوَ شهر الْمُوَاسَاة، وَهُوَ شهر يُزَاد رزق الْمُؤمن فِيهِ، من فطر صَائِما كَانَ لَهُ عتق رَقَبَة ومغفرة لذنوبه، قيل: يَا رَسُول الله {لَيْسَ كلنا نجد مَا يفْطر الصَّائِم} قَالَ: يُعْطي الله هَذَا الثَّوَاب لمن فطر صَائِما على مذقة لبن أَو تَمْرَة أَو شربة مَاء، وَمن أشْبع صَائِما كَانَ لَهُ مغْفرَة لذنوبه، وسقاه الله من حَوْضِي شربة لَا يظمأ حَتَّى يدْخل الْجنَّة، وَكَانَ لَهُ مثل أجره من غير أَن ينقص من أجره شَيْئا. وَهُوَ شهر أَوله رَحْمَة وأوسطه مغْفرَة وَآخره عتق من النَّار، وَمن خفف عَن مَمْلُوكه فِيهِ أعْتقهُ الله من النَّار) ، وَلَا يَصح إِسْنَاده، وَفِي سَنَده إِيَاس. قَالَ شَيخنَا: الظَّاهِر أَنه ابْن أبي إِيَاس، قَالَ صَاحب (الْمِيزَان) إِيَاس بن أبي إِيَاس عَن سعيد بن الْمسيب لَا يعرف، وَالْخَبَر مُنكر.
وَمِنْهَا: حَدِيث أنس، أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق. قَالَ: ذكر مُحَمَّد بن مُسلم عَن أويس ابْن أبي أويس عديد بني تيم، (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: هَذَا رَمَضَان قد جَاءَكُم تفتح فَهِيَ أَبْوَاب الْجنَّة وتغلق فِيهِ أَبْوَاب النَّار، وتسلسل فِيهِ الشَّيَاطِين) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث خطأ، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من رِوَايَة الْفضل بن عِيسَى الرقاشِي عَن يزِيد الرقاشِي عَن أنس بن مَالك، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: هَذَا رَمَضَان قد جَاءَ تفتح فِيهِ أَبْوَاب الْجنَّة وتغلق فِيهِ أَبْوَاب النَّار، وتغل فِيهِ الشَّيَاطِين، بعدا لمن أدْرك رَمَضَان فَلم يغْفر لَهُ إِذا لم يغْفر لَهُ فِيهِ فَمَتَى؟) وَالْفضل بن عِيسَى مُنكر الحَدِيث، قَالَه أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وَقَالَ ابْن معِين: رجل سوء. ولأنس: حَدِيث آخر رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي (الضُّعَفَاء) قَالَ: حَدثنَا جِبْرِيل بن عِيسَى المغربي حَدثنَا يحيى بن سُلَيْمَان الْقرشِي حَدثنَا أَبُو معمر عباد بن عبد الصَّمد عَن أنس بن مَالك، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان نَادَى الله تبَارك وَتَعَالَى رضوَان خَازِن الْجنَّة، يَقُول: يَا رضوَان {فَيَقُول: لبيْك سَيِّدي وَسَعْديك} فَيَقُول: زيَّن الْجنان للصائمين والقائمين من أمة مُحَمَّد، ثمَّ لَا نغلقها حَتَّى يَنْقَضِي شهرهم) . فَذكر حَدِيثا طَويلا جدا مُنْكرا، وَعباد ابْن عبد الصَّمد مُنكر الحَدِيث، قَالَه البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الْعِلَل المتناهية) وَيحيى بن سُلَيْمَان مَجْهُول.
وَمِنْهَا: حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (إِن رَسُول الله قَالَ يَوْمًا، وَحضر رَمَضَان: أَتَاكُم رَمَضَان شهر بركَة يغيثكم الله فِيهِ، فَينزل الرَّحْمَة ويحط الْخَطَايَا ويستجيب فِيهِ الدُّعَاء، ينظر الله إِلَى تنافسكم ويباهي بكم مَلَائكَته، فأروا الله من أَنفسكُم خيرا، فَإِن الشقي من حرم فِيهِ رَحْمَة الله عز وَجل) . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن أبي قيس يحْتَاج إِلَى الْكَشْف.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة نَافِع بن هُرْمُز عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا أخْبركُم بِأَفْضَل الْمَلَائِكَة؟ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَأفضل النَّبِيين؟ آدم عَلَيْهِ السَّلَام، وَأفضل الْأَيَّام يَوْم الْجُمُعَة، وَأفضل الشُّهُور شهر رَمَضَان، وَأفضل اللَّيَالِي لَيْلَة الْقدر، وَأفضل النِّسَاء مَرْيَم بنت عمرَان عَلَيْهَا السَّلَام) ، وَنَافِع بن هُرْمُز ضَعِيف. وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الْعِلَل المتناهية) من رِوَايَة الْقَاسِم بن الحكم العرني عَن الضَّحَّاك: (عَن ابْن عَبَّاس: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الْجنَّة لتبخر وتزين من الْحول إِلَى الْحول لدُخُول شهر رَمَضَان، فَإِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان هبت ريح من تَحت الْعَرْش، يُقَال لَهَا: المثيرة فيصطفق ورق أَشجَار الْجنَّة وَحلق المصاريع) . فَذكر حَدِيثا طَويلا مُنْكرا، وَالقَاسِم بن الحكم مَجْهُول، قَالَه أَبُو حَاتِم، وَقَالَ: يحيى ابْن سعيد الضَّحَّاك عندنَا ضَعِيف.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة الْوَلِيد بن الْوَلِيد القلانسي عَن ابْن ثَوْبَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الْجنَّة لتزخرف لرمضان من رَأس الْحول إِلَى الْحول الْمقبل، فَإِذا كَانَ أول لَيْلَة من رَمَضَان هبت ريح من تَحت الْعَرْش) الحَدِيث، والوليد بن الْوَلِيد ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم بقوله: صَدُوق.
وَمِنْهَا: حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) بِلَفْظ: (ذَاكر الله فِي رَمَضَان مغْفُور لَهُ، وَسَائِل الله فِيهِ لَا يخيب) ، وَفِي إِسْنَاده: هِلَال بن عبد الرَّحْمَن، ضعفه الْعقيلِيّ، بقوله:(10/269)
مُنكر الحَدِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (لله عِنْد كل فطر عُتَقَاء) ، وَرِجَاله ثِقَات.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير بِلَفْظ: (إِن أَبْوَاب السَّمَاء تفتح فِي أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان، وَلَا تغلق إِلَى آخر لَيْلَة مِنْهُ) ، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن مَرْوَان السَّعْدِيّ وَهُوَ ضَعِيف وَلأبي سعيد حَدِيث آخر رَوَاهُ الْبَزَّار بِلَفْظ: (إِن لله تبَارك وَتَعَالَى عُتَقَاء فِي كل يَوْم وَلَيْلَة يَعْنِي: فِي رَمَضَان، وَإِن لكل مُسلم فِي كل يَوْم وَلَيْلَة دَعْوَة مستجابة) ، وَفِيه أبان بن أبي عَيَّاش ضَعِيف. وَلأبي سعيد حَدِيث آخر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: (صِيَام رَمَضَان إِلَى رَمَضَان كَفَّارَة لما بَينهمَا) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مَسْعُود الْغِفَارِيّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم، وَفِي إِسْنَاده الْهياج بن بسطَام وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه النَّسَائِيّ عَنْهَا: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يرغب النَّاس فِي قيام رَمَضَان من غير أَن يَأْمُرهُم بعزيمة أَمر فِيهِ فَيَقُول: من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أم هانىء، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) و (الْأَوْسَط) بِلَفْظ: (إِن أمتِي لم يخزوا مَا أَقَامُوا شهر رَمَضَان، قيل: يَا رَسُول الله؟ وَمَا خزيهم فِي إِضَاعَة شهر رَمَضَان؟ قَالَ: انتهاك الْمَحَارِم فِيهِ) الحَدِيث، وَفِيه: (فَاتَّقُوا شهر رَمَضَان فَإِن الْحَسَنَات تضَاعف فِيهِ مَا لَا تضَاعف فِيمَا سواهُ، وَكَذَلِكَ السَّيِّئَات) ، وَفِي إِسْنَاده عِيسَى بن سُلَيْمَان أَبُو طيبَة الْجِرْجَانِيّ، ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وَضَعفه ابْن معِين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فتحت أَبْوَاب السَّمَاء) ، قد ذكرنَا معنى: فتحت، وَهنا، قَالَ: (أَبْوَاب السَّمَاء) ، وَفِي حَدِيث قُتَيْبَة الْمَاضِي قَالَ: (أَبْوَاب الْجنَّة) ، وَقَالَ ابْن بطال: المُرَاد من السَّمَاء الْجنَّة بِقَرِينَة ذكر جَهَنَّم فِي مُقَابلَة. قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: (أَبْوَاب الرَّحْمَة) ، وَلَا تعَارض فِي ذَلِك، فأبواب السَّمَاء يصعد مِنْهَا إِلَى الْجنَّة لِأَنَّهَا فَوق السَّمَاء، وسقفها عرش الرَّحْمَن كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) . وأبواب الرَّحْمَة تطلق على أَبْوَاب الْجنَّة، لقَوْل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (احتجت الْجنَّة وَالنَّار) الحَدِيث، وَفِيه: (وَقَالَ الله للجنة: أَنْت رَحْمَتي أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي) الحَدِيث، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فَائِدَة الْفَتْح تَوْقِيف الْمَلَائِكَة على استحماد فعل الصائمين، وَأَن ذَلِك من الله بِمَنْزِلَة عَظِيمَة، وَأَيْضًا فِيهِ أَنه إِذا علم الْمُكَلف المعتقد ذَلِك بِإِخْبَار الصَّادِق يزِيد فِي نشاطه ويتلقاه بأريحته وينصره مَا روى: (إِن الْجنَّة تزخرف لرمضان) . قَوْله: (وغلقت أَبْوَاب جَهَنَّم) لِأَن الصَّوْم جنَّة فتغلق أَبْوَابهَا بِمَا قطع عَنْهُم من الْمعاصِي وَترك الْأَعْمَال السَّيئَة المستوجبة للنار، ولقلة مَا يُؤَاخذ الله الْعباد بأعمالهم السَّيئَة ليستنقذ مِنْهَا ببركة الشَّهْر، ويهب الْمُسِيء للمحسن، ويجاوز عَن السَّيِّئَات، وَهَذَا معنى الإغلاق، قَوْله: (وسلسلت الشَّيَاطِين) أَي: شدت بالسلاسل. قَالَ الْحَلِيمِيّ: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَن الشَّيَاطِين مسترقوا السّمع مِنْهُم أَن تسلسلهم يَقع فِي ليَالِي رَمَضَان دون أَيَّامه، لأَنهم كَانُوا منعُوا زمن نزُول الْقُرْآن من استراق السّمع، فزيد التسلسل مُبَالغَة فِي الْحِفْظ، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: أَن الشَّيَاطِين لَا يخلصون من إِفْسَاد الْمُسلمين إِلَى مَا يخلصون إِلَيْهِ فِي غَيره لاشتغالهم بالصيام الَّذِي فِيهِ قمع الشَّيَاطِين، وبقراءة الْقُرْآن، وَالذكر. وَقيل: المُرَاد بالشياطين بَعضهم، وهم المردة مِنْهُم، وَترْجم لذَلِك ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَأورد مَا أخرجه هُوَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان صفدت الشَّيَاطِين مَرَدَة الْجِنّ) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (وتغل فِيهِ مَرَدَة الشَّيَاطِين) ، وَيُقَال: تصفيد الشَّيَاطِين عبارَة عَن تعجيزهم عَن الإغواء وتزيين الشَّهَوَات، وصفدت، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وبالفاء الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة: أَي شدت بالأصفاد، وَهِي الأغلال، وَهُوَ بِمَعْنى: سلسلت. فَإِن قلت: قد تقع الشرور والمعاصي فِي رَمَضَان كثيرا، فَلَو سلسلت لم يَقع شَيْء من ذَلِك. قلت: هَذَا فِي حق الصائمين الَّذين حَافظُوا على شُرُوط الصَّوْم وراعوا آدابه، وَقيل: المسلسل بعض الشَّيَاطِين وهم المردة لَا كلهم، كَمَا تقدم فِي بعض الرِّوَايَات، وَالْمَقْصُود تقليل الشرور فِيهِ، وَهَذَا أَمر محسوس، فَإِن وُقُوع ذَلِك فِيهِ أقل من غَيره، وَقيل: لَا يلْزم من تسلسلهم وتصفيدهم كلهم أَن لَا تقع شرور وَلَا مَعْصِيّة، لِأَن لذَلِك أسبابا غير الشَّيَاطِين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة وَالشَّيَاطِين الأنسية.(10/270)
0091 - حدَّثنا يَحْيَء بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَنِي سَالِمٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إذَا رأيْتُمُوهُ فَصُومُوا وإذَا رَأيْتُمُوهُ فأفْطِرُوا فإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ.
قيل: هَذَا الحَدِيث غير مُطَابق للتَّرْجَمَة، وَأجَاب عَنهُ صَاحب (التَّلْوِيح) : بِأَن فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عمر (أَن رَسُول الله ت ذكر رَمَضَان، فَقَالَ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال) ، فَكَأَن البُخَارِيّ على عَادَته أحَال على هَذَا، فطابق بذلك مَا بوب لَهُ من ذكر رَمَضَان، وَصَاحب (التَّوْضِيح) تبعه على ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا أَرَادَ المُصَنّف بإيراده فِي هَذَا الْبَاب ثُبُوت ذكر رَمَضَان بِغَيْر شهر، وَلم يَقع ذَلِك فِي الرِّوَايَة الموصولة، وَإِنَّمَا وَقع فِي الرِّوَايَة الْمُعَلقَة. قلت: قد ذهل هَذَا الْقَائِل عَن حَدِيث قُتَيْبَة فِي أول الْبَاب، فَإِنَّهُ مَوْصُول وَلَيْسَ فِيهِ ذكر شهر، والْحَدِيث الَّذِي يَلِيهِ عَن يحيى بن بكير فِيهِ ذكر الشَّهْر، والترجمة هَل يُقَال: رَمَضَان أَو شهر رَمَضَان؟ فَحَدِيث قُتَيْبَة يُطَابق قَوْله: هَل يُقَال رَمَضَان؟ وَحَدِيث يحيى يُطَابق قَوْله: أَو شهر رَمَضَان؟ فَضَاعَ الْوَجْه الَّذِي ذكره بَاطِلا. وَجَوَاب صَاحب التَّلْوِيح أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء، وَالْوَجْه فِي هَذَا أَن يُقَال: الْأَحَادِيث الْمُعَلقَة والموصولة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب تدل على أَن لشهر رَمَضَان أوصافا عَظِيمَة. مِنْهَا: أَن فِيهِ: غفران مَا تقدم من ذَنْب الصَّائِم فِيهِ إِيمَانًا واحتسابا، وَهُوَ الَّذِي علق مِنْهُ البُخَارِيّ قِطْعَة فِي أول الْبَاب. وَأَن فِيهِ: فتح أَبْوَاب الْجنان. وَأَن فِيهِ: غلق أَبْوَاب النَّار. وَأَن فِيهِ: تسلسل الشَّيَاطِين، وَقد ثَبت بالدلائل القطعية فَرضِيَّة هَذَا الصَّوْم الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف، وَأورد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب ليعلم أَن هَذَا الصَّوْم يكون فِي أَيَّام محدودة، وَهِي: أَيَّام شهر رَمَضَان، وَأَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بِرُؤْيَتِهِ، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة يسْتَأْنس لوجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِيهِ، وَيَكْفِي فِي التطابق أدنى الْمُنَاسبَة فَافْهَم.
ثمَّ سَنَد هَذَا الحَدِيث هُوَ بِعَيْنِه سَنَد الحَدِيث الَّذِي قبله، غير أَنه فِي الأول: يروي ابْن شهَاب عَن ابْن أبي أنس، عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي هَذَا الحَدِيث يروي: ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (إِذا رَأَيْتُمُوهُ) أَي: الْهلَال، لَا يُقَال: إِنَّه إِضْمَار قبل الذّكر لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ولأبويه بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس} (النِّسَاء: 11) . أَي: لأبوي الْمَيِّت. قَوْله: (فَإِن غم عَلَيْكُم) أَي: فَإِن ستر الْهلَال عَلَيْكُم، وَمِنْه الْغم، لِأَنَّهُ يستر الْقلب، وَالرجل الأغم المستور الْجَبْهَة بالشعر، وَسمي السَّحَاب غيما لِأَنَّهُ يستر السَّمَاء، وَيُقَال: غم الْهلَال إِذا استتر وَلم ير لاستتاره بغيم وَنَحْوه، وغممت الشَّيْء أَي: غطيته. قَوْله: (فاقدروا لَهُ) ، بِضَم الدَّال وَكسرهَا، يُقَال: قدرت لأمر كَذَا إِذا نظرت فِيهِ ودبرته.
وَقَالَ فِي (شرح الْمُهَذّب) وَغَيره: أَي ضيقوا لَهُ وقدروه تَحت السَّحَاب، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره مِمَّن يجوز صَوْم يَوْم الْغَيْم، عَن رَمَضَان، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْهُم ابْن شُرَيْح ومطرف بن عبد الله وَابْن قُتَيْبَة مَعْنَاهُ: قدروه بِحِسَاب الْمنَازل، يَعْنِي منَازِل الْقَمَر.
وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : وَقد كَانَ بعض كبار التَّابِعين يذهب فِي هَذَا إِلَى اعْتِبَاره بالنجوم ومنازل الْقَمَر، وَطَرِيق الْحساب. وَقَالَ ابْن سِيرِين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَكَانَ أفضل لَهُ لَو لم يفعل، وَحكى ابْن شُرَيْح عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: من كَانَ مذْهبه الِاسْتِدْلَال بالنجوم ومنازل الْقَمَر، ثمَّ تبين لَهُ من جِهَة النُّجُوم أَن الْهلَال اللَّيْلَة وغم عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ أَن يعْتَقد الصَّوْم ويبيته ويجزيه. وَقَالَ أَبُو عمر: وَالَّذِي عندنَا فِي كتبه أَنه: لَا يَصح اعْتِقَاد رَمَضَان إلاَّ بِرُؤْيَة فَاشِية أَو شَهَادَة عادلة، أَو إِكْمَال شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وعَلى هَذَا مَذْهَب جُمْهُور فُقَهَاء الْأَمْصَار بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام وَالْمغْرب، مِنْهُم مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَعَامة أهل الحَدِيث إلاَّ أَحْمد وَمن قَالَ بقوله، وَذكر فِي (الْقنية) للحنفية: لَا بَأْس بالإعتماد على قَول المنجمين، وَعَن ابْن مقَاتل: لَا بَأْس بالاعتماد على قَوْلهم وَالسُّؤَال عَنْهُم، إِذا اتّفق عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم، وَقَول من قَالَ: إِنَّه يرجع إِلَيْهِم عِنْد الِاشْتِبَاه بعيد، وَعند الشَّافِعِي: لَا يجوز تَقْلِيد المنجم فِي حسابه، وَهل يجوز للمنجم أَن يعْمل بِحِسَاب نَفسه؟ فِيهِ وَجْهَان، وَقَالَ الْمَازرِيّ: حمل جُمْهُور الْفُقَهَاء قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فاقدروا لَهُ) ، على أَن المُرَاد إِكْمَال الْعدة ثَلَاثِينَ، كَمَا فسره فِي حَدِيث آخر، وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد حِسَاب(10/271)
النُّجُوم، لِأَن النَّاس لَو كلفوا بِهِ ضَاقَ عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَا يعرفهُ إلاَّ الْأَفْرَاد، والشارع إِنَّمَا يَأْمر النَّاس بِمَا يعرفهُ جماهيرهم، قَالَ الْقشيرِي: وَإِذا دلّ الْحساب على أَن الْهلَال قد طلع من الْأُفق على وَجه يرى لَوْلَا وجود الْمَانِع كالغيم مثلا، فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوب لوُجُود السَّبَب الشَّرْعِيّ، وَلَيْسَ حَقِيقَة الرُّؤْيَة مَشْرُوطَة فِي اللُّزُوم، فَإِن الِاتِّفَاق على أَن الْمَحْبُوس فِي المطمورة إِذا علم بإكمال الْعدة أَو بِالِاجْتِهَادِ أَن الْيَوْم من رَمَضَان وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم، وَإِذا لم ير الْهلَال وَلَا أخبرهُ من رَآهُ، وَفِي (الاشراف) : صَوْم يَوْم الثَّلَاثِينَ من شعْبَان إِذْ لم ير الْهلَال مَعَ الصحو إِجْمَاع من الْأمة أَنه لَا يجب، بل هُوَ مَنْهِيّ عَنْهُم.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاخْتلفُوا فِي هَذَا التَّقْدِير، يَعْنِي فِي قَوْله: (فاقدروا لَهُ) ، فَقيل: مَعْنَاهُ قدرُوا عدد الشَّهْر الَّذِي كُنْتُم فِيهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، إِذْ الأَصْل بَقَاء الشَّهْر، وَهَذَا هُوَ المرضي عِنْد الْجُمْهُور. وَقيل: قدرُوا لَهُ منَازِل الْقَمَر وسيره، فَإِن ذَلِك يدل على أَن الشَّهْر تِسْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا أَو ثَلَاثُونَ، فَقَالُوا: هَذَا خطاب لمن خصّه الله بِهَذَا الْعلم، وَالْوَجْه هُوَ الأول.
وَقد اسْتُفِيدَ من هَذَا الحَدِيث: أَن وجوب الصَّوْم وَوُجُوب الْإِفْطَار عِنْد انْتِهَاء الصَّوْم متعلقان بِرُؤْيَة الْهلَال. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن أبي رواد عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن الله تَعَالَى جعل الْأَهِلّة مَوَاقِيت للنَّاس فصوموا لرُؤْيَته، وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فعدوا ثَلَاثِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِي: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه: (لَا تَصُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال، وَلَا تفطروا حَتَّى تروه، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوه الْعدة ثَلَاثِينَ) . قَالَ ابْن عبد الْبر: كَذَا قَالَ، وَالْمَحْفُوظ فِي حَدِيث ابْن عمر: (فاقدروا لَهُ) ، وَقد ذكر عبد الرَّزَّاق عَن أَيُّوب (عَن نَافِع عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهِلَال رَمَضَان: إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا، ثمَّ إِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا) .
وَقَالَ أَبُو عمر: وروى ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وَأَبُو بكر وطلق الْحَنَفِيّ وَغَيرهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ) . قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا الشَّهْر بصيام يَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ إلاَّ أَن يكون شَيْء يَصُومهُ أحدكُم، لَا تَصُومُوا حَتَّى تروه، ثمَّ صُومُوا حَتَّى تروه، فَإِن حَال دونه غمامة فَأتمُّوا الْعدة ثَلَاثِينَ، ثمَّ أفطروا، والشهر تسع وَعِشْرُونَ) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، رَوَاهُ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا الشَّهْر بِيَوْم وَلَا بيومين إلاَّ أَن يُوَافق ذَلِك صوما كَانَ يَصُومهُ أحدكُم، صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فعدوا ثَلَاثِينَ ثمَّ أفطروا) . وَقَالَ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد انْفَرد بِهِ التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه. وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، أخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مَنْصُور عَن ربعي عَن حُذَيْفَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا الشَّهْر حَتَّى تروا الْهلَال أَو تكملوا الْعدة، ثمَّ صُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال أَو تكملوا الْعدة) . وَنقل ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : أَن أَحْمد ضعف حَدِيث حُذَيْفَة، وَقَالَ: لَيْسَ ذكر حُذَيْفَة فِيهِ بِمَحْفُوظ، وَقد أنكر عَلَيْهِ ابْن عبد الْهَادِي فِي (التَّنْقِيح) وَقَالَ: إِنَّه وهم مِنْهُ فَإِن أَحْمد إِنَّمَا أَرَادَ أَن الصَّحِيح قَول من قَالَ: عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجهالته غير قادحة فِي صِحَة الحَدِيث. وَحَدِيث أبي بكرَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَمن طَرِيقه الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: (صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ يَوْمًا) . وَحَدِيث طلق بن عَليّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) فَقَالَ: (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى أَن يَصُوم قبل رَمَضَان بِصَوْم يَوْم حَتَّى تروا الْهلَال، أَو نفي الْعدة، ثمَّ لَا تفطرون حَتَّى تروه، أَو نفي الْعدة) . وَفِي إِسْنَاده حبَان بن رفيدة، قَالَ ابْن حبَان: فِيهِ نظر، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: لَا يعرف.
وَغَيرهم من الصَّحَابَة: الْبَراء بن عَازِب وَعَائِشَة وَعمر وَجَابِر وَرَافِع بن خديج وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَعلي بن أبي طَالب وَسمرَة بن جُنْدُب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد أبي دَاوُد. وَحَدِيث عمر عِنْد الْبَيْهَقِيّ. وَحَدِيث جَابر عِنْد الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَحَدِيث رَافع بن خديج عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ. وَحَدِيث ابْن مَسْعُود عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَحَدِيث ابْن عمر عِنْد مُسلم. وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ. وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب عِنْد الطَّبَرَانِيّ.
ثمَّ الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن التَّقْدِيم يَصُوم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ، هِيَ أَن لَا يخْتَلط صَوْم الْفَرْض بِصَوْم نفل قبله وَلَا بعده، تحذيرا(10/272)
مِمَّا صنعت النَّصَارَى فِي الزِّيَادَة على مَا افْترض عَلَيْهِم برأيهم الْفَاسِد، وَقد صَحَّ عَن أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ كَرَاهَة صَوْم يَوْم الشَّك إِنَّه من رَمَضَان، مِنْهُم: عَليّ وَعمر وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَأَبُو وَائِل وَابْن الْمسيب وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق، وَجَاء مَا يدل على الْجَوَاز عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لِأَن اتعجل فِي صَوْم رَمَضَان بِيَوْم أحب إِلَيّ من أَن أتأخر، لِأَنِّي إِذا تعجلت لم يفتني، وَإِذا تَأَخَّرت فَاتَنِي، وَمثله عَن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَن مُعَاوِيَة، لِأَن أَصوم يَوْمًا من شعْبَان أحب إِلَيّ من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان، وروى مثله عَن عَائِشَة، وَأَسْمَاء بِنْتي أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِن حَال دون منظره غيم وشبهة، فَكَذَلِك لَا يجب صَوْمه عِنْد الْكُوفِيّين وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، فَلَو صَامَهُ وَبَان أَنه من رَمَضَان يحرم عندنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ ابْن عمر وَأحمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَطَائِفَة قَليلَة: يجب صَوْمه فِي الْغَيْم دون الصحو. وَقَالَ قوم: النَّاس تبع للْإِمَام إِن صَامَ صَامُوا وَإِن أفطر أفطروا، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين وسوار الْعَنْبَري وَالشعْبِيّ فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي رِوَايَة.
وَقَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير وَابْن شُرَيْح عَن الشَّافِعِي وَابْن قُتَيْبَة والداودي، وَآخَرُونَ: يَنْبَغِي أَن يصبح يَوْم الشَّك مُفطرا متلوما غير آكل وَلَا عازم على الصَّوْم، حَتَّى إِذا تبين أَنه من رَمَضَان قبل الزَّوَال نوى، وَإِلَّا أفطر فِيمَا ذكره الطَّحَاوِيّ، وَيَوْم الشَّك هُوَ أَن يشْهد عِنْد القَاضِي من لَا تقبل شَهَادَته أَنه رَآهُ أَو أخبرهُ من يَثِق بِهِ من عبد أَو امْرَأَة، فَلَو صَامَهُ وَنوى التَّطَوُّع بِهِ فَهُوَ غير مَكْرُوه عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَبِه قَالَ مَالك، وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : وَالْأَفْضَل فِي حق الْخَواص صَوْمه بنية التَّطَوُّع بِنَفسِهِ وخاصته، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف، وَفرض الْعَوام التَّلَوُّم إِلَى أَن يقرب الزَّوَال. وَفِي (الْمُحِيط) إِلَى الزَّوَال، فَإِن ظهر أَنه من رَمَضَان نوى الصَّوْم وإلاَّ أفطر، وَإِن صَامَ قبل رَمَضَان ثَلَاثَة أَيَّام أَو شعْبَان كُله أَو وَافق يَوْم الشَّك يَوْمًا كَانَ يَصُومهُ فَالْأَفْضَل صَوْمه بنية النَّفْل. .
وَفِي (الْمَبْسُوط) الصَّوْم أفضل، قَالَ: وَتَأْويل النَّهْي أَن يَنْوِي الْفَرْض فِيهِ، وَفِي (الْمُحِيط) : إِن وَافق يَوْمًا كَانَ يَصُومهُ فالصوم أفضل وإلاَّ فالفطر أفضل، وَالصَّوْم قبله بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ مَكْرُوه، أَي صَوْم كَانَ، وَلَا يكره بِثَلَاثَة، وَهُوَ قَول أَحْمد.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره التَّطَوُّع إِذا انتصف شعْبَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا نعلم أحدا روى هَذَا الحَدِيث غير الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، وروى عَن أَحْمد أَنه قَالَ: هُوَ لَيْسَ بِمَحْفُوظ، قَالَ: وَسَأَلنَا عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي عَنهُ فَلم يُصَحِّحهُ، وَلم يخدش بِهِ، وَكَانَ يتوقاه، قَالَ أَحْمد والْعَلَاء: لَا يُنكر من حَدِيثه إلاَّ هَذَا، وَفِي رِوَايَة الْمروزِي: سَأَلنَا أَحْمد عَنهُ فَأنكرهُ، وَقَالَ أَبُو عبد الله: هَذَا خلاف الْأَحَادِيث الَّتِي رويت عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى تَقْدِير صِحَة قَول التِّرْمِذِيّ يُعَارضهُ حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لرجل: هَل صمت من سرر شعْبَان؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذا أفطرت فَصم يَوْمَيْنِ) . وسرر الشَّهْر آخِره، سمي بذلك لاستتار الْقَمَر فِيهِ. وروى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث مُعَاوِيَة: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (صُومُوا الشَّهْر وسره وَأَنا مُتَقَدم بالصيام، فَمن أحب فليفعله) . وَعَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يَصُوم من السّنة شهرا كَامِلا إلاَّ شعْبَان يصله برمضان، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن، وَعند الْحَاكِم، على شَرطهمَا: عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ أحب الشُّهُور إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَصُوم شعْبَان ثمَّ يصله برمضان، وَفِي (مُعْجم الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ) فِي حرف الْعين الْمُهْملَة، بِسَنَد فِيهِ ابْن صَالح كَاتب اللَّيْث بن سعد: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد، حَدثنَا ابْن شهَاب عَن سَالم، قَالَ: كَانَ عبد الله بن عمر يَصُوم قبل هِلَال رَمَضَان بِيَوْم.
وَقَالَ غيرُهُ عنِ اللَّيْثِ قَالَ حدَّثني عُقَيْل ويُونسُ لِهِلاَلِ رَمَضَانَ
أَي: قَالَ غير يحيى بن بكير، وَأَرَادَ بِهَذَا الْغَيْر: أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث، حَدثنِي عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي كَذَلِك أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيقه، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب، وَذكره بِلَفْظ: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول لهِلَال رَمَضَان: (إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا) الحَدِيث. قَوْله: (وَيُونُس) أَي: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. وَفِي (التَّلْوِيح) حَدِيث يُونُس رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) قلت: حَدِيثه رَوَاهُ مُسلم عَن حَرْمَلَة، وَلَكِن لَيْسَ فِي رِوَايَته: لهِلَال، فَقَالَ: حَدثنِي حَرْمَلَة(10/273)
قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنِي سَالم بن عبد الله بن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِذا رأيتمو فصوموا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم فأقدروا لَهُ) قَوْله: (لهِلَال) أَرَادَ أَن فِي رِوَايَة عقيل وَيُونُس أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (لهِلَال رَمَضَان: إِذا رَأَيْتُمُوهُ) ، فأظهرا مَا كَانَ مضمرا. فَافْهَم.
6 - (بابُ منْ صامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحْتِسابا ونِيَّةً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا) ، إِلَى هُنَا لفظ الحَدِيث، وَقَوله: (وَنِيَّة) ، نصب على أَنه عطف على قَوْله: (احتسابا) ، وَإِنَّمَا زَاد هَذِه اللَّفْظَة لِأَن الصَّوْم هُوَ التَّقَرُّب إِلَى الله، وَالنِّيَّة شَرط فِي وُقُوعه قربَة، وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب: من، اكْتِفَاء بِذكرِهِ فِي الحَدِيث.
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي أَوَائِل الْبيُوع من طَرِيق نَافِع بن جُبَير عَنْهَا، وأوله: (يَغْزُو جيشٌ الْكَعْبَة حَتَّى إِذا كَانُوا ببيداء من الأَرْض يخسف بأولهم وَآخرهمْ. قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله! كَيفَ يخسف بأولهم وَآخرهمْ وَفِيهِمْ أسواقهم وَمن لَيْسَ مِنْهُم؟ قَالَ: يخسف بأولهم وَآخرهمْ، ثمَّ يبعثون على نياتهم) . يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْقطعَة هُنَا تَنْبِيها على أَن الأَصْل فِي الْأَعْمَال النِّيَّة، وَهُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذِه الْقطعَة وَبَين قَوْله (وَنِيَّة) فِي التَّرْجَمَة. قَوْله: (يبعثون على نياتهم) ، يَعْنِي: من كَانَ مِنْهُم مُخْتَارًا تقع الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ، وَمن كَانَ مكْرها ينجو.
1091 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانا واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومنْ صامَ رَمَضَانَ إيمَانا واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ..
وَجه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة هُوَ أَنه جعل التَّرْجَمَة جزأ من الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي ترجمتين: الأولى فِي: بَاب تطوع قيام رَمَضَان، من الْإِيمَان: من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه. وَالثَّانيَِة: عقيب الأولى فِي: بَاب صَوْم رَمَضَان احتسابا من الْإِيمَان، فَأخْرج الحَدِيث الأول: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن يحيى بن سعيد عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ عَن هِشَام الدستوَائي عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِيمَانًا) ، أَي: تَصْدِيقًا بِوُجُوبِهِ. (واحتسابا) أَي: طلبا لِلْأجرِ فِي الْآخِرَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحِسْبَة، بِالْكَسْرِ: الْأجر احتسبت كَذَا أجرا عِنْد الله، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي عَزِيمَة، وَهُوَ أَن يَصُومهُ على معنى الرَّغْبَة فِي ثَوَابه طيبَة نَفسه بذلك غير مستثقلة لصيامه وَلَا مستطيلة لإتمامه، وانتصاب إِيمَانًا على أَنه حَال بِمَعْنى: مُؤمنا، وَكَذَلِكَ احتسابا بِمَعْنى: محتسبا وَنقل بَعضهم عَمَّن قَالَ مَنْصُوبًا على أَنه مفعول لَهُ أَو تَمْيِيز؟ قلت: وَجْهَان بعيدان، وَالَّذِي لَهُ يَد فِي الْعَرَبيَّة لَا ينْقل مثل هَذَا.
7 - (بابٌ أجْوَدُ مَا كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَكُونُ فِي رَمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَجود مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. قَوْله: (أَجود) ، أفعل التَّفْضِيل من الْجُود وَهُوَ إِعْطَاء مَا يَنْبَغِي لمن يَنْبَغِي، وَمَعْنَاهُ: أسخى النَّاس، وأجود مُضَاف إِلَى مَا بعده مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: أَجود كَون النَّبِي. وَقَوله: (يكون) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية. قَوْله: (فِي رَمَضَان) أَي: فِي شهر رَمَضَان، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَجود النَّاس، وَكَانَ(10/274)
أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان لِأَنَّهُ شهر يتضاعف فِيهِ ثَوَاب الصَّدَقَة. وَفِيه: الصَّوْم وَهُوَ من أشرف الْعِبَادَات، فَلذَلِك قَالَ: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) . وَفِيه: لَيْلَة الْقدر. وَفِيه: كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يلقاه كل لَيْلَة من رَمَضَان فيدارسه الْقُرْآن.
2091 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ أخبرَنا ابنُ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجْوَدَ النَّاسِ بالخَيْرِ وكانَ أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ وكانَ جِبْرِيلُ عَليْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآنَ فإذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أجْوَدَ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا من الحَدِيث بِبَعْض تَغْيِير، والْحَدِيث قد مضى فِي أول الْكتاب فِي: بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الْوَحْي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد أخرجه فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَلم نبق شَيْئا، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
8 - (بابُ مَنْ لَمُ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من لم يدع، أَي: لم يتْرك قَول الزُّور وَهُوَ الْكَذِب والميل عَن الْحق، وَالْعَمَل بِالْبَاطِلِ والتهمة. قَوْله: (وَالْعَمَل بِهِ) ، أَي: بِمُقْتَضَاهُ مِمَّا نهى الله عَنهُ، وَإِنَّمَا حذف الْجَواب اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَهَكَذَا دأبه فِي غَالب الْمَوَاضِع، وَقيل: لَو نَص مَا فِي الْخَبَر لطالت التَّرْجَمَة أَو لَو عبر عَنهُ بِحكم معِين لوقع فِي عهدته.
3091 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إيَاسٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ.
(الحَدِيث 3091 طرفه فِي: 7506) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن التَّرْجَمَة نصف حَدِيث الْبَاب، وَابْن أبي ذِئْب هم مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَهُوَ يروي عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه كيسَان اللَّيْثِيّ عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن يُونُس عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَمْرو بن رَافع عَن ابْن الْمُبَارك، الْكل عَن ابْن أبي ذِئْب، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات: عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه، وَقد رَوَاهُ ابْن وهب عَن ابْن أبي ذِئْب فَاخْتلف عَلَيْهِ، رَوَاهُ الرّبيع عَنهُ مثل الْجَمَاعَة، وَرَوَاهُ ابْن السَّرْح عَنهُ فَلم يقل: عَن أَبِيه. وأخرجهما النَّسَائِيّ وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن خَالِد عَن ابْن أبي ذِئْب بإسقاطه أَيْضا، وَاخْتلف فِيهِ عَليّ ابْن الْمُبَارك فَأخْرجهُ ابْن حبَان من طَرِيقه بالإسقاط، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة بإثباته، وَكَذَلِكَ اخْتلف على أَحْمد بن يُونُس، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَنهُ عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن أَبِيه كَرِوَايَة الأَصْل وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب، عَن أَحْمد بن يُونُس عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، هَكَذَا هُوَ فِي أَكثر رِوَايَات البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر زِيَادَة ذكر أَبِيه، وَقد اخْتلف فِيهِ على ابْن أبي ذِئْب، اخْتِلَاف آخر، فَرَوَاهُ يُونُس بن يحيى بن سابه عَن ابْن أبي ذِئْب عَن ابْن شهَاب عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة بن صَغِير عَن أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) كَذَلِك، وَقَالَ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أعلم من رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ، غير ابْن أبي ذِئْب إِن كَانَ يُونُس بن يحيى حفظه عَنهُ، وَلم أر كَلَام النَّسَائِيّ فِي نُسْخَتي، وَلأبي هُرَيْرَة(10/275)
حَدِيث آخر رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن عَمه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ الصّيام من الْأكل وَالشرب فَقَط، إِنَّمَا الصّيام من اللَّغْو والرفث، فَإِن سابك أحد أَو جهل عَلَيْك، فَقل: إِنِّي صَائِم) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من لم يدع قَول الزُّور) ، أَي: من لم يتْرك، وَقد ذكرنَا تَفْسِير الزُّور عَن قريب، وَقَالَ شَيخنَا، قَوْله: هَذَا يحْتَمل أَن يُرَاد: من لم يدع ذَلِك مُطلقًا غَيره مُقَيّد بِصَوْم، وَيكون مَعْنَاهُ: أَن من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ الَّذِي هُوَ من أكبر الْكَبَائِر وَهُوَ متلبس بِهِ، فَمَاذَا يصنع بصومه؟ وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: أَفعَال الْبر يَفْعَلهَا الْبر والفاجر وَلَا يجْتَنب النواهي إلاَّ صدِّيق، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: من لم يدع ذَلِك فِي حَال تلبسه بِالصَّوْمِ، وَهُوَ الظَّاهِر، وَقد صرح بِهِ فِي بعض طرق النَّسَائِيّ: (من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ وَالْجهل فِي الصَّوْم) . وَقد بوب التِّرْمِذِيّ على هَذَا الحَدِيث بقوله: بَاب مَا جَاءَ فِي التَّشْدِيد فِي الْغَيْبَة للصَّائِم. وَقَالَ شَيخنَا: فِيهِ إِشْكَال من حَيْثُ أَن الحَدِيث فِيهِ قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ، والغيبة لَيست قَول الزُّور وَلَا الْعَمَل بِهِ، إِذْ حد الْغَيْبَة على مَا هُوَ الْمَشْهُور ذكرك أَخَاك بِمَا فِيهِ مِمَّا يكرههُ، وَقَول الزُّور هُوَ الْكَذِب والبهتان، وَقد فسر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَول الزُّور فِي قَوْله فِي سُورَة الْحَج، بِشَهَادَة الزُّور، فَقَالَ: (عدلت شَهَادَة الزُّور الْإِشْرَاك بِاللَّه) ، وَهَكَذَا بوب أَبُو دَاوُد على الحَدِيث: الْغَيْبَة للصَّائِم، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) : مَا ينْهَى عَنهُ الصَّائِم من قَول الزُّور والغيبة، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن مَاجَه: بَاب مَا جَاءَ فِي الْغَيْبَة والرفث للصَّائِم، وَكَأَنَّهُم وَالله أعلم فَهموا من الحَدِيث حفظ الْمنطق عَن الْمُحرمَات، وَمن جُمْلَتهَا الْغَيْبَة، وَلِهَذَا بوب عَلَيْهِ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : ذكر الْخَبَر الدَّال على أَن الصّيام إِنَّمَا يتم باجتناب الْمَحْظُورَات لَا بمجانبة الطَّعَام وَالشرَاب، وَالْجمع فَقَط، وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: (من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ وَالْجهل) ، فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالْجَهْلِ جَمِيع الْمعاصِي، وَهَذِه اللَّفْظَة عِنْد البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب، وَعند النَّسَائِيّ أَيْضا وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَلَفظه: (من لم يدع قَول الزُّور وَالْجهل وَالْعَمَل بِهِ) ، قَالَ شَيخنَا: الضَّمِير فِي: بِهِ، يحْتَمل أَن يعود إِلَى الزُّور فَقَط، وَإِن كَانَ أبعد فِي الذّكر لِاتِّفَاق الرِّوَايَات عَلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يعود على الْجَهْل فَقَط لكَونه أقرب مَذْكُور، وعَلى هَذَا فالغيبة عمل بِالْجَهْلِ، وَيحْتَمل عود الضَّمِير عَلَيْهِمَا: أَعنِي الزُّور وَالْجهل، وَإِنَّمَا أفرد الضَّمِير لاشْتِرَاكهمَا فِي تنقيص الصَّوْم. انْتهى. قلت: يجوز أَن يعود إِلَيْهِمَا بِاعْتِبَار كل وَاحِد.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَن الْغَيْبَة والنميمة وَالْكذب: هَل يفْطر الصَّائِم؟ فَذهب الْجُمْهُور من الْأَئِمَّة إِلَى أَنه لَا يفْسد الصَّوْم بذلك، وَإِنَّمَا التَّنَزُّه عَن ذَلِك من تَمام الصَّوْم. وَعَن الثَّوْريّ: إِن الْغَيْبَة تفْسد الصَّوْم، ذكره الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) ، وَقَالَ: رَوَاهُ بشر بن الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: وروى لَيْث عَن مُجَاهِد: (خصلتان تفسدان الصَّوْم: الْغَيْبَة وَالْكذب) ، هَكَذَا ذكره الْغَزالِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وَالْمَعْرُوف عَن مُجَاهِد: (خصلتان من حفظهما سلم لَهُ صَوْمه: الْغَيْبَة وَالْكذب) ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن لَيْث عَن مُجَاهِد، وروى ابْن أبي الدُّنْيَا عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم عَن يعلى بن عبيد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْكَذِب يفْطر الصَّائِم. وروى أَيْضا عَن يحيى بن يُوسُف عَن يحيى بن سليم عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي، قَالُوا: اتَّقوا المفطِرَين: الْكَذِب والغيبة.
قَوْله: (فَلَيْسَ لله حَاجَة) هَذَا مجَاز عَن عدم الِالْتِفَات وَالْقَبُول، فنفى السَّبَب وَأَرَادَ الْمُسَبّب، قَالَ ابْن بطال: وضع الْحَاجة مَوضِع الْإِرَادَة، إِذْ الله لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء، يَعْنِي: لَيْسَ لله إِرَادَة فِي صِيَامه، وَقَالَ أَبُو عمر: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يُؤمر بِأَن يدع صِيَامه، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التحذير من قَول الزُّور، وَمَا ذكر مَعَه، وَهُوَ مثل قَوْله: (من بَاعَ الْخمر فليشقص الْخَنَازِير) ، أَي: يذبحها، وَلم يَأْمُرهُ بذبحها، وَلكنه على التحذير والتعظيم لإثم بَائِع الْخمر، قَالَ: فَكَذَلِك من اغتاب أَو شهد زورا أَو مُنْكرا لم يُؤمر بِأَن يدع صِيَامه، وَلكنه يُؤمر باجتناب ذَلِك ليتم لَهُ أجر صَوْمه. ثمَّ قَوْله: (فَلَيْسَ لله حَاجَة) هَكَذَا لفظ (الصَّحِيح) وَكتب السّنَن وَغَيرهَا من الْكتب الْمَشْهُورَة، وَفِي بعض طرقه: (فَلَيْسَ بِهِ حَاجَة) ، يَعْنِي بِالَّذِي يَصُوم بِهَذَا الْوَصْف، رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من رِوَايَة يزِيد بن هَارُون عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري من غير ذكر أَبِيه، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَيزِيد بن هَارُون من أَئِمَّة الْمُسلمين.(10/276)
9 - (بابٌ هَلْ يَقُولُ أنِّي صائِمٌ إذَا شُتِمَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يَقُول الشَّخْص: إِنِّي صَائِم إِذا شَتمه أحد؟ وَلم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب.
4091 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرنِي عَطاءٌ عنْ أبِي صالِحٍ الزَّيَّاتِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إلاَّ الصِّيامَ فإنَّهُ لِي وأنَا أُجْزِي بِهِ والصِّيامُ جُنَّةٌ وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثَ ولاَ يَصْخَبْ فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ والَّذِي نَفْسُ محَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ المِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحَهُمَا إذَا أفْطَرَ فَرِحَ وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن سابه أحد أَو قَاتله فَلْيقل: إِنِّي امْرُؤ صَائِم) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث قبل هَذَا بِخَمْسَة أَبْوَاب، وَهُوَ: بَاب فضل الصَّوْم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه: عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير عَن هِشَام بن يُوسُف أبي عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها عَن عبد الْملك بن جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات السمان عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَهُنَا زِيَادَة هِيَ قَوْله: (فَلَا يصخب) ، وَهُنَاكَ: (وَلَا يجهل) ، وَقَوله: (للصَّائِم فرحتان) إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (وَلَا يصخب) ، بالصَّاد الْمُهْملَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وروى بَعضهم: (وَلَا يسخب) ، بِالسِّين بدل الصَّاد، ومعناهما وَاحِد وَهُوَ الْخِصَام والصياح. قَوْله: (لخلوف) ، بِضَم الْخَاء وبالواو بعد اللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لخلف) ، بِحَذْف الْوَاو، وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهَا صِيغَة جمع، وَسكت وَلم يبين مفرده مَا هُوَ، وَالظَّاهِر أَنه جمع: خلفة، بِالْكَسْرِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الخلفة بِالْكَسْرِ تغير ريح الْفَم، وَأَصلهَا فِي النَّبَات أَن ينْبت الشَّيْء بعد الشَّيْء لِأَنَّهَا رَائِحَة حدثت بعد الرَّائِحَة الأولى. وَرُوِيَ فِي غير البُخَارِيّ بِهَذِهِ اللَّفْظَة أَعنِي: خلفة. قَوْله: (للصَّائِم فرحتان) ، جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ الْمُؤخر وَالْخَبَر الْمُقدم. قَوْله: (يفرحهما) ، أَي: يفرح بهما، فَحذف الْجَار وأوصل الضَّمِير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فليصمه} (الْبَقَرَة: 581) . أَي: فليصم فِيهِ، وَهُوَ مفعول مُطلق فأصله: يفرح الفرحتين، فَجعل الضَّمِير بدله نَحْو: عبد الله أَظُنهُ منطلق. قَوْله: (إِذا أفطر فَرح) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (بفطرة) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ فَرح بِزَوَال جوعه وعطشه حَيْثُ أُبِيح لَهُ الْفطر، وَهَذَا الْفَرح طبيعي، وَهُوَ السَّابِق للفهم. وَقيل: إِن فرحه بفطره إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ إِنَّه تَمام صَوْمه وخاتمة عِبَادَته وَتَخْفِيف من ربه ومعونة على مُسْتَقْبل صَوْمه. قَوْله: (فَرح بصومه) ، أَي: بجزائه وثوابه، وَقيل: هُوَ السرُور بِقبُول صَوْمه وترتب الْجَزَاء الوافر عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: فرحه عِنْد إفطاره بلذة الْغذَاء عِنْد الْفُقَهَاء، وبخلوص الصَّوْم من الرَّفَث واللغو عِنْد الْفُقَرَاء.
01 - (بابُ الصَّوْمِ لِمَنْ خافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزوبَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي كسر النَّفس بِالصَّوْمِ لمن خَافَ على نَفسه الْعُزُوبَة، بِضَم الْعين وَالزَّاي. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْعُزُوبَة والعزبة الِاسْم. قلت: من عزب يعزب ويعزب، قَالَ الْكسَائي: العزب الَّذِي لَا أهل لَهُ، والعزبة الَّتِي لَا زوج لَهَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: العزب الْبعيد من النِّكَاح، وَمعنى: خَافَ على نَفسه الْعُزُوبَة، يَعْنِي: خَافَ من بعد النِّكَاح أَن يَقع فِي الْعَنَت وَهُوَ الزِّنَا، ومادة هَذِه اللَّفْظَة فِي الأَصْل تدل على الْبعد، وَمِنْه يُقَال: عزب عني فلَان أَي: بعد، وَيُقَال: تعزب فلَان زَمَانا، ثمَّ تأهل، ثمَّ لفظ الْعُزُوبَة فِي التَّرْجَمَة رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: الْعزبَة، وَكِلَاهُمَا وَاحِد كَمَا ذكرنَا.(10/277)
5091 - حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبِي حَمْزَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ قَالَ بيْنا أنَا أمْشِي مَعَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَنِ اسْتَطاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فإنَّهُ أغَضُّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ فإنَّهُ لَهُ وِجاءٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ هُوَ عبد الله بن عُثْمَان. الثَّانِي: أَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: اسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي، وَقد مر فِي: بَاب نفض الْيَدَيْنِ فِي الْغسْل. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان، والبقية الثَّلَاثَة كوفيون. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله، لِأَن عَلْقَمَة خَال إِبْرَاهِيم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه عَن رجل. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن عُثْمَان عَن جرير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان عَن جرير، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن حَرْب عَن أبي مُعَاوِيَة وَفِي الصَّوْم عَن بشر بن خَالِد وَعَن هِلَال بن الْعَلَاء عَن أَبِيه وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن عبد الله بن عَامر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَينا أَنا أَمْشِي) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين، فأشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، يُقَال: بَينا وبينما، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة، والأفصح فِي جوابهما أَن لَا يكون بإذ وَإِذا، وَقد جَاءَ بهما كثيرا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: جَوَاب بَين كَيفَ صَحَّ بِالْفَاءِ وَهُوَ إِمَّا بإذا أَو بِالْفِعْلِ الْمُجَرّد؟ قلت: إِمَّا أَن تجْعَل الْفَاء مقَام إِذْ للأخوة بَينهمَا، وَإِمَّا أَن يُقَال: لفظ قَالَ مُقَدّر، وَالْمَذْكُور مُفَسّر لَهُ. انْتهى. قلت: هَذَا كُله تعسف لأَنا لَا نسلم أَن جَوَاب: بَين، بإذ، لأَنا قُلْنَا الْآن إِن الْأَفْصَح أَن يكون بِالْفَاءِ، وَلَا نسلم قَوْله بِالْفِعْلِ الْمُجَرّد، وَأَيْضًا لَا نسلم الْأُخوة بَين إِذا وَالْفَاء، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: جَوَاب بَين هُوَ قَوْله: فَقَالَ، وَالْفَاء لَا تضر وَلَا يفْسد بِهِ الْمَعْنى وَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير شَيْء. وَقَوله: (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: (بَينا) ، وَبَين جَوَابه. فَافْهَم. قَوْله: (من اسْتَطَاعَ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الِاسْتِطَاعَة هُنَا عبارَة عَن وجود مَا بِهِ يتَزَوَّج وَلم يرد الْقُدْرَة على الْوَطْء، وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله، وَتَقْدِيره من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْجِمَاع لقدرته على مُؤَن النِّكَاح فليتزوج، وَمن لم يسْتَطع الْجِمَاع لعَجزه عَن مؤنه فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ. قَوْله: (الْبَاءَة) ، فِيهَا أَربع لُغَات: الفصيحة الْمَشْهُورَة بِالْمدِّ وَالْهَاء. الثَّانِيَة بِلَا مد. الثَّالِثَة: بِالْمدِّ بِلَا هَاء. الرَّابِعَة: الباهة بهاءين بِلَا مد. وَفِي (الموعب) : الْبَاء الْحَظ من النِّكَاح، وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الْبَاء والباه والباهة: النِّكَاح. وَفِي (الصِّحَاح) : الباهة مثل الباعة لُغَة فِي الْبَاءَة، وَمِنْه سمي النِّكَاح، بَاء أَو باهة، لِأَن الرجل يتبوء من أَهله إِي يستمكن مِنْهَا كَمَا يتبوء من دَاره، وبوأه منزلا أنزلهُ فِيهِ، وَالِاسْم البيئة بِالْفَتْح وَالْكَسْر، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الباه الغشيان. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن التَّزَوُّج، يدل عَليّ قَوْله: (فليتزوج) . قَوْله: (أَغضّ) ، بالغين وَالضَّاد المعجمتين أَي: أدعى إِلَى غض الْبَصَر. قَوْله: (وَأحْصن) ، أَي أدعى إِلَى إِحْصَان الْفرج. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : يحْتَمل أَن يكون أَغضّ وَأحْصن للْمُبَالَغَة، وَيحْتَمل أَن يَكُونَا على بابهما قلت: هَذَا تصرف من لَيْسَ لَهُ يَد فِي الْعَرَبيَّة، لِأَن كلا مِنْهُمَا أفعل التَّفْضِيل، فَكيف يكونَانِ على بابهما. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الصَّوْم لَهُ أَي للصَّائِم. قَوْله: (وَجَاء) بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ رض الخصيتين، وَقيل: هُوَ رض الْعُرُوق، والخصيتان بحالهما، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقد قَالَه بَعضهم بِفَتْح الْوَاو وَالْقصر. وَلَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن سَيّده: وجأ التيس وجأ ووجاء فَهُوَ موجوء، ووجيء، وَقيل: الوجيء مصدر والوجاء إسم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَرُوِيَ: وجا بِوَزْن عَصا يُرِيد التَّعَب والحفي، وَذَلِكَ بعيد إلاَّ أَن يُرَاد فِيهِ معنى الفتور، لِأَن من وجىء فتر عَن الْمَشْي، فَشبه الصَّوْم فِي بَاب النِّكَاح بالتعب فِي بَاب الْمَشْي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز المعاناة لقطع الْبَاءَة بالأدوية لقَوْله: (فليصم) ، وَقَالَ(10/278)
الْقُرْطُبِيّ. وَفِيه: وجوب الْخِيَار فِي الْعنَّة. وَفِيه: أَن الصَّوْم قَاطع لشَهْوَة النِّكَاح. وَاعْترض بِأَن الصَّوْم يزِيد فِي تهييج الْحَرَارَة وَذَلِكَ مِمَّا يثير الشَّهْوَة. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك إِنَّمَا يَقع فِي مبدأ الْأَمر، فَإِذا تَمَادى عَلَيْهِ واعتاده سكن ذَلِك، وشهوة النِّكَاح تَابِعَة لشَهْوَة الْأكل، فَإِنَّهُ يقوى بقوتها ويضعف بضعفها. وَفِيه: الْأَمر بِالنِّكَاحِ لمن اسْتَطَاعَ وتاقت نَفسه، وَهُوَ إِجْمَاع، لكنه عِنْد الْجُمْهُور أَمر ندب لَا إِيجَاب، وَإِن خَافَ الْعَنَت كَذَا قَالُوا.
قلت: النِّكَاح على ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: سنة وَهُوَ فِي حَال الِاعْتِدَال لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تناكحوا تَوَالَدُوا تكثروا، فَإِنِّي أباهي بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة) . الثَّانِي: وَاجِب وَهُوَ عِنْد التوقان وَهُوَ غَلَبَة الشَّهْوَة. الثَّالِث: مَكْرُوه وَهُوَ إِذا خَافَ الْجور، لِأَنَّهُ إِنَّمَا شرع لمصَالح كَثِيرَة فَإِذا خَافَ الْجور لم تظهر تِلْكَ الْمصَالح ثمَّ فِي هَذِه الْحَالة تشتغل بِالصَّوْمِ، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أحل النِّكَاح وَندب نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ ليكونوا على كَمَال من دينهم وصيانة لأَنْفُسِهِمْ من غض أَبْصَارهم وَحفظ فروجهم لما يخْشَى على من جبله الله على حب أعظم الشَّهَوَات، ثمَّ أعلم أَن النَّاس كلهم لَا يَجدونَ طولا إِلَى النِّسَاء، وَرُبمَا خَافُوا الْعَنَت بِعقد النِّكَاح، فعوضهم مِنْهُ مَا يدافعون بِهِ سُورَة شهواتهم وَهُوَ الصّيام، فَإِنَّهُ وَجَاء، وَهُوَ مقطع للانتشار وحركة الْعُرُوق الَّتِي تتحرك عِنْد شَهْوَة الْجِمَاع.
11 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا رَأيْتُمُ الهِلاَلَ فَصُومُوا وإذَا رأيْتُمُوهُ فأفْطِرُوا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . إِلَى آخِره. وَهَذِه التَّرْجَمَة هِيَ بِعَينهَا لفظ حَدِيث مُسلم حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال فصوموا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم فصوموا ثَلَاثِينَ يَوْمًا) ، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب مثل عين التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور مَا يُقَارب التَّرْجَمَة من حَيْثُ اللَّفْظ، وَمَا هُوَ عينهَا من حَيْثُ الْمَعْنى على مَا نبينه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ صِلَةْ عنْ عَمَّارٍ منْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أبَا الْقَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مُقْتَضى مَعْنَاهَا أَن لَا يصام يَوْم الشَّك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علق الصَّوْم بِرُؤْيَة الْهلَال وَهُوَ هِلَال رَمَضَان، فَلَا يصام الْيَوْم الَّذِي هُوَ آخر شعْبَان إِذا شكّ فِيهِ، هَل هُوَ من شعْبَان أَو رَمَضَان؟ وصلَة، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح اللَّام المخففة على وزن: عدَّة، وَقَالَ بَعضهم: على وزن عمر وَلَيْسَ بِصَحِيح، وَهُوَ ابْن زفر، بِضَم الزَّاي وَفتح الْفَاء المخففة وَفِي آخِره رَاء: الْعَبْسِي الْكُوفِي، يكنى أَبَا بكر، وَيُقَال: أَبَا الْعَلَاء، قَالَ الْوَاقِدِيّ: توفّي فِي زمن مُصعب بن الزبير وَهُوَ من كبار التَّابِعين وفضلائهم، وَزعم ابْن حزم أَنه: صلَة بن أَشْيَم، وَهُوَ وهم مِنْهُ، وَقد صرح بِأَنَّهُ صلَة بن زفر جَمِيع من روى هَذَا. وعمار هُوَ ابْن يَاسر الْعَبْسِي أَبُو الْيَقظَان، قتل بصفين.
وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عبد الله ابْن سعيد الْأَشَج حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن عَمْرو بن قيس الْملَائي (عَن أبي إِسْحَاق عَن صلَة بن زفر، قَالَ: كُنَّا عِنْد عمار ابْن يَاسر فَأتي بِشَاة مصلية، فَقَالَ: كلوا، فَتنحّى بعض الْقَوْم، فَقَالَ: إِنِّي صَائِم، فَقَالَ عمار: من صَامَ الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ فقد عصى أَبَا الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن الْأَشَج، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر، وَأخرجه أَيْضا ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ.
وَيَوْم الشَّك هُوَ الْيَوْم الَّذِي يتحدث النَّاس فِيهِ بِرُؤْيَة الْهلَال وَلم تثبت رُؤْيَته، أَو شهد وَاحِد فَردَّتْ شَهَادَته، أَو شَاهِدَانِ فاسقان فَردَّتْ شَهَادَتهمَا، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) : قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا بَأْس بِصَوْم يَوْم الشَّك تَطَوّعا، وَهَذَا قَول أهل الْعلم، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَأحمد وَإِسْحَاق، وَمثله عَن مَالك على الْمَشْهُور، وَكَانَت أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، تصومه. وَذكر القَاضِي أَبُو يعلى: أَن صَوْم يَوْم الشَّك مَذْهَب عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَأنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: صَوْم يَوْم الشَّك على وُجُوه: الأول: أَن يَنْوِي فِيهِ صَوْم رَمَضَان وَهُوَ مَكْرُوه، وَفِيه خلاف أبي هُرَيْرَة وَعمر وَمُعَاوِيَة وَعَائِشَة وَأَسْمَاء، ثمَّ إِنَّه من رَمَضَان يجْزِيه وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ(10/279)
وَالثَّوْري وَوجه للشَّافِعِيَّة، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يجْزِيه إلاَّ إِذا أخبرهُ بِهِ من يَثِق بِهِ من عبد أَو امْرَأَة. وَالثَّانِي: أَنه إِن نوى عَن وَاجِب آخر كقضاء رَمَضَان وَالنّذر أَو الْكَفَّارَة وَهُوَ مَكْرُوه أَيْضا إلاَّ أَنه دون الأول فِي الْكَرَاهَة وَإِن ظهر أَنه من شعْبَان قيل: يكون نفلا. وَقيل: يجْزِيه عَن الَّذِي نَوَاه من الْوَاجِب وَهُوَ الْأَصَح، وَفِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ الصَّحِيح. وَالثَّالِث: أَن يَنْوِي التَّطَوُّع وَهُوَ غير مَكْرُوه عندنَا، وَبِه قَالَ مَالك. وَفِي (الْأَشْرَاف) : حُكيَ عَن مَالك جَوَاز النَّفْل فِيهِ عَن أهل الْعلم، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَابْن مسلمة وَأحمد وَإِسْحَاق، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : لَا يكره صَوْم يَوْم الشَّك بنية التَّطَوُّع، وَالْأَفْضَل فِي حق الْخَواص صَوْمه بنية التَّطَوُّع بِنَفسِهِ وخاصته، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف، وَفِي حق الْعَوام التَّلَوُّم إِلَى أَن يقرب الزَّوَال، وَفِي (الْمُحِيط) : إِلَى وَقت الزَّوَال، فَإِن ظهر أَنه من رَمَضَان نوى الصَّوْم وإلاَّ أفطر. وَالرَّابِع: أَن يضجع فِي أصل النِّيَّة بِأَن يَنْوِي أَن يَصُوم غَدا إِن كَانَ من رَمَضَان، وَلَا يَصُومهُ إِن كَانَ من شعْبَان، وَفِي هَذَا الْوَجْه لَا يصير صَائِما. وَالْخَامِس: أَن يضجع فِي وصف النِّيَّة بِأَن يَنْوِي إِن كَانَ غَدا من رَمَضَان يَصُوم عَنهُ، وَإِن كَانَ من شعْبَان فَعَن وَاجِب آخر فَهُوَ مَكْرُوه. وَالسَّادِس: أَن يَنْوِي عَن رَمَضَان إِن كَانَ غَدا مِنْهُ، وَعَن التَّطَوُّع إِن كَانَ من شعْبَان يكره.
قَوْله: (من صَامَ يَوْم الشَّك) ، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَغَيره: (من صَامَ الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أَتَى بالموصول وَلم يقل: يَوْم الشَّك، مُبَالغَة فِي أَن صَوْم يَوْم فِيهِ أدنى شكّ سَبَب الْعِصْيَان، فَكيف من صَامَ يَوْمًا الشكُّ فِيهِ قَائِم؟ قَوْله: (فقد عصى أَبَا الْقَاسِم) ، اسْتدلَّ بِهِ على تَحْرِيم صَوْم يَوْم الشَّك، لِأَن الصَّحَابِيّ لَا يَقُول ذَلِك من قبل رَأْيه، فَيكون من قبيل الْمَرْفُوع، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مُسْند عِنْدهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك، وَخَالفهُ الْجَوْهَرِي الْمَالِكِي، فَقَالَ: هُوَ مَوْقُوف، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ موقف لفظا مَرْفُوع حكما، وَإِنَّمَا قَالَ: أَبَا الْقَاسِم، بتخصيص هَذِه الكنية للْإِشَارَة إِلَى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي يقسم بَين عباد الله حكم الله بِحَسب قدرهم واقتدارهم.
6091 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكَرَ رمَضَانَ فَقَالَ لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ ولاَ تُفْطرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى لفظ التَّرْجَمَة يؤول إِلَى معني هَذَا الحَدِيث، وحاصلهما سَوَاء، وَقد مضى فِي: بَاب هَل يُقَال رَمَضَان أَو شهر رَمَضَان؟ مَا رَوَاهُ من حَدِيث سَالم عَن ابْن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ) . وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَفِي الْحَدِيثين كليهمَا. (فاقدروا لَهُ) ، وَجَاء من وَجه آخر عَن نَافِع: (فاقدروا ثَلَاثِينَ) ، وَهَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، وَكَذَا أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع، قَالَ عبد الرَّزَّاق: وَأخْبرنَا عبد الْعَزِيز بن أبي رواد عَن نَافِع بِهِ، فَقَالَ: (فعدوا ثَلَاثِينَ) .
8091 - حدَّثنا أبُو الوَليدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ جَبَلَةَ بنِ سُحَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّهْرُ هكذَا وهَكَذَا وخَنَسَ الإبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى التَّرْجَمَة يدل على أَن الصَّوْم إِنَّمَا يجب بِرُؤْيَة الْهلَال، والهلال تَارَة يكون تسعا وَعشْرين يَوْمًا، فَهَذَا الحَدِيث يبين ذَلِك، وَأَبُو الْوَلِيد هُوَ هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. وجبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام المفتوحات: ابْن سحيم تَصْغِير السحم بالمهملتين الْكُوفِي، يكنى بِأبي سويرة مصغر سارة مَاتَ زمن الْوَلِيد بن يزِيد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن آدم، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، الْكل عَن شعبه بِهِ.
قَوْله: (الشَّهْر) ، أَي: الَّذِي نَحن فِيهِ أَو جنس الشَّهْر. قَوْله: (هَكَذَا وَهَكَذَا) ، أَشَارَ بيدَيْهِ الكريمتين ناشرا أَصَابِعه مرَّتَيْنِ، فَهَذِهِ عشرُون. قَوْله: (وخنس الْإِبْهَام فِي الثَّالِثَة)(10/280)
أَي: أَشَارَ فِي الْمرة الثَّالِثَة بيدَيْهِ ناشرا أَصَابِعه، وخنس الْإِبْهَام فِيهَا فَهَذِهِ تِسْعَة، فالجملة تِسْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَلَفظ: خنس، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالنُّون، وَفِي آخِره سين مُهْملَة، مَعْنَاهُ: قبض، وَالْمَشْهُور أَنه لَازم، يُقَال: خنس خنوسا، ويروى حبس بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بِمَعْنى: خنس، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني، وَحَاصِله أَن الِاعْتِبَار بالهلال فقد يكون تَاما ثَلَاثِينَ، وَقد يكون نَاقِصا تسعا وَعشْرين، وَقد لَا يرى الْهلَال فَيجب إِكْمَال الْعدَد ثَلَاثِينَ، قَالُوا: وَقد يَقع النَّص متواليا فِي شَهْرَيْن وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، وَلَا يَقع أَكثر من أَرْبَعَة.
وَفِيه: جَوَاز اعْتِمَاد الْإِشَارَة المفهمة فِي مثل هَذَا.
18 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته فَإِن غبي عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس وَمُحَمّد بن زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وخفة الْيَاء آخر الْحُرُوف مر فِي غسل الأعقاب والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُؤَمل بن هِشَام وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد عَن أَبِيه الْكل عَن شُعْبَة بِهِ وَقد اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ بقوله روى الشَّيْخ هَذَا الحَدِيث عَن آدم عَن شُعْبَة وَقَالَ فِيهِ " فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ " وَقد روينَاهُ عَن غنْدر وَابْن مهْدي وَابْن علية وَعِيسَى بن يُونُس وشبابة وَعَاصِم بن عَليّ وَالنضْر بن شُمَيْل وَيزِيد بن هَارُون وَأبي دَاوُد كلهم عَن شُعْبَة لم يذكر أحد مِنْهُم " فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا " هَذَا يجوز أَن يكون آدم رَوَاهُ على التَّفْسِير من عِنْده للْخَبَر وَإِلَّا فَلَيْسَ لانفراد أبي عبد الله عَنهُ بِهَذَا من بَين من رَوَاهُ عَنهُ وَمن بَين سَائِر من ذكرنَا مِمَّن روى عَن شُعْبَة وَجه وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا وَرَوَاهُ المَقْبُري عَن وَرْقَاء عَن شُعْبَة على مَا ذَكرْنَاهُ أَيْضا انْتهى (قلت) حَاصله أَنه وَقع للْبُخَارِيّ إدراج التَّفْسِير فِي نفس الْخَبَر (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَو قَالَ أَبُو الْقَاسِم " شكّ من الرَّاوِي قَوْله " لرُؤْيَته " اللَّام فِيهِ للتوقيت كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} أَي وَقت دلوكها وَالْمرَاد من قَوْله " صُومُوا لرُؤْيَته " رُؤْيَة بعض الْمُسلمين وَلَا يشْتَرط كل النَّاس قَالَ النَّوَوِيّ بل يَكْفِي من جَمِيع النَّاس رُؤْيَة عَدْلَيْنِ وَكَذَا عدل على الْأَصَح هَذَا فِي الصَّوْم وَأما فِي الْفطر فَلَا يجوز بِشَهَادَة عدل وَاحِد على هِلَال شَوَّال عِنْد جَمِيع الْعلمَاء إِلَّا أَبَا ثَوْر جوزه بِعدْل وَاحِد (قلت) قَالَ أَصْحَابنَا وَإِذا كَانَ بالسماء عِلّة قبل الإِمَام شَهَادَة الْوَاحِد الْعدْل فِي رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان رجلا كَانَ أَو امْرَأَة حرا كَانَ أَو عبدا لِأَنَّهُ أَمر ديني وَقَول الْعدْل فِي الديانَات مَقْبُول وَفِي التُّحْفَة والطَّحَاوِي يكْتَفى بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَة وَفِي الذَّخِيرَة وَإِن كَانَ فَاسِقًا (قلت) هَذَا بعيد جدا وَفِي الذَّخِيرَة عَن أبي جَعْفَر الْفَقِيه قبُول قَول الْوَاحِد فِي صَوْم رَمَضَان سَوَاء كَانَ بالسماء عِلّة أم لَا وَعَن الْحسن أَنه قَالَ يحْتَاج إِلَى شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاء كَانَ بالسماء عِلّة أم لَا وَفِي الْبَدَائِع يقبل قَول الْوَاحِد فِي رَمَضَان إِذا كَانَ بالسماء عِلّة بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا وَفِي الرَّوْضَة ذكر فِي الهاروني أَنه تقبل شَهَادَة الْوَاحِد بِالصَّوْمِ وَالسَّمَاء مصحية عَن أبي حنيفَة خلافًا لَهما وَفِي الْمُحِيط وَيَنْبَغِي أَن يُفَسر جِهَة الرُّؤْيَة فَإِن احْتمل رُؤْيَته يقبل وَإِلَّا فَلَا وَالْمذهب عِنْد الشَّافِعِيَّة ثُبُوته بِعدْل وَاحِد وَلَا فرق بَين الْغَيْم وَعَدَمه عِنْدهم وَلَا يقبل قَول العَبْد وَالْمَرْأَة فِي الْأَصَح وَيقبل قَول المستور فِي الْأَصَح وَقَالَ عَطاء وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَإِسْحَاق وَدَاوُد يشْتَرط الْمثنى وَقَالَ الثَّوْريّ رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ وَقَالَ أَحْمد يَصُوم بِوَاحِد عِنْد عدم الْغَيْم وَيقبل خبر حُرَّيْنِ أَو حر وحرتين للفطر إِذا كَانَت بالسماء عِلّة وَإِلَّا فَجمع عَظِيم يَقع الْعلم بخبرهم وَقيل أهل الْمحلة وَقيل خَمْسُونَ رجلا كالقسامة وَعَن خلف بن أَيُّوب خَمْسمِائَة ببلخ وهلال الْأَضْحَى كالفطر وَقيل مائَة ذكرهَا فِي خزانَة الْأَكْمَل وَإِذا حَال دون المطلع غيم أَو قترة لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان لِأَحْمَد فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا يجب صَوْمه على أَنه من رَمَضَان. وَالثَّانِي لَا يجوز فرضا وَلَا نفلا مُطلقًا بل قَضَاء وَكَفَّارَة(10/281)
ونذرا ونفلا يُوَافق عَادَة وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة لَا يجوز عَن فرض رَمَضَان وَيجوز عَمَّا سوى ذَلِك. وَالثَّالِث الْمرجع إِلَى رَأْي الإِمَام فِي الصَّوْم وَالْفطر " فَإِن غبى " أَي الْهلَال من الغباوة وَهُوَ عدم الفطنة يُقَال غبى عَليّ بِالْكَسْرِ إِذا لم تعرفه وَهِي اسْتِعَارَة لخفاء الْهلَال وَهُوَ من بَاب علم يعلم وَقَالَ ابْن الْأَثِير وروى غبى بِضَم الْغَيْن وَتَشْديد الْيَاء الْمَكْسُورَة لما لم يسم فَاعله قَالَ غبى بِالْفَتْح وَالتَّخْفِيف وغبى بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد من الغباء شبه الغبرة فِي السَّمَاء وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي " فَإِن غم " بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم قيل مَعْنَاهُ حَال بَيْنكُم وَبَينه غيم يُقَال غممت الشَّيْء إِذا غطيته وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي غم ضمير الْهلَال وَيجوز أَن يكون غم مُسْندًا إِلَى الظّرْف أَي فَإِن كُنْتُم مغموما عَلَيْكُم فأكملوا وَترك ذكر الْهلَال للاستغناء عَنهُ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " أغمى " على صِيغَة الْمَجْهُول من الْإِغْمَاء بالغين الْمُعْجَمَة يُقَال أغمى عَلَيْهِ الْخَبَر إِذا استعجم وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ " غمى " بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم من التغمية وَهُوَ السّتْر والتغطية وَنقل ابْن الْعَرَبِيّ أَنه روى " عمى " بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة من الْعَمى قَالَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ ذهَاب الْبَصَر عَن المشاهدات أَو ذهَاب البصيرة عَن المعقولات قَوْله " فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ " وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر الَّذِي مضى قبل هَذَا الحَدِيث " فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ " وَلم يذكر فِيهِ شعْبَان وَلَا غَيره وَلم يخص شهرا دون شهر بالإكمال إِذا غم فَلَا فرق بَين شعْبَان وَغَيره فِي ذَلِك إِذْ لَو كَانَ شعْبَان غير مُرَاد بِهَذَا الْإِكْمَال لبينه فَلَا يكون رِوَايَة من روى " فأكملوا عدَّة شعْبَان " مُخَالفا لمن قَالَ فأكملوا الْعدة بل مبينَة لَهَا وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَأحمد وَابْن خُزَيْمَة وَأَبُو يعلى من حَدِيث ابْن عَبَّاس " فَإِن حَال بَيْنكُم وَبَينه سَحَاب فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ وَلَا تستقبلوا الشَّهْر اسْتِقْبَالًا " وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ " وَلَا تستقبلوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم من شعْبَان " -
0191 - حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عَن ابنِ جرَيْجٍ عنْ يَحْيَى بنِ عَبدِ الله بنِ صَيْفِيٍّ عنْ عِكْرِمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلَى مِنْ نِسائِهِ شَهْرا فلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ يَوْما غَدَا أوْ رَاحَ فَقيلَ لَهُ إنَّكَ حَلَفْتَ أنْ لاَ تَدْخُلَ شَهْرا فَقال إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْما.
(الحَدِيث 0191 طرفه فِي: 2025) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: يحيى بن عبد الله بن صَيْفِي، مَنْسُوب إِلَى ضد الشتَاء، مر فِي أول الزَّكَاة. الرَّابِع: عِكْرِمَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث المَخْزُومِي. مَاتَ زمَان يزِيد بن عبد الْملك. الْخَامِس: أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بكنيته وَأَنه بَصرِي وَأَن ابْن جريج وَيحيى مكيان وَعِكْرِمَة مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن أبي عَاصِم، وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن هَارُون بن عبد الله وَعَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن يُوسُف بن سعيد، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّلَاق عَن عَن أَحْمد بن يُوسُف عَن أبي عَاصِم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (آلى) ، أَي: حلف لَا يدْخل على نِسَائِهِ، وَيُقَال ألى يولي إِيلَاء وتألى يتألى تأليا. قَوْله: (من نِسَائِهِ) ، إِنَّمَا عداهُ: بِمن، حملا على الْمَعْنى، وَهُوَ الِامْتِنَاع من الدُّخُول، وَهُوَ يتَعَدَّى: بِمن، قَوْله: (غَدا) بالغين الْمُعْجَمَة، يُقَال: غَدا يَغْدُو غدوا، وَهُوَ الذّهاب أول النَّهَار. قَوْله: (أَو رَاح) ، شكّ من الرَّاوِي من الرواح وَهُوَ الذّهاب آخر النَّهَار، وَهُوَ الأَصْل، وَقد يُرَاد بِهِ مُطلق الذّهاب أَي وَقت كَانَ، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من رَاح إِلَى الْجُمُعَة فِي السَّاعَة الأولى) أَي: من مَشى إِلَيْهَا وَذهب إِلَى الصَّلَاة، وَلم يرد رواح آخر النَّهَار، وروى مُسلم: حَدثنَا عبد بن حميد، قَالَ: أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أقسم أَن لَا يدْخل على أَزوَاجه شهرا) ، قَالَ الزُّهْرِيّ، فَأَخْبرنِي عُرْوَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: لما مَضَت(10/282)
تسع وَعِشْرُونَ لَيْلَة، أعدهن، دخل عَليّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: بَدَأَ بِي، فَقلت يَا رَسُول الله! إِنَّك أَقْسَمت أَن لَا تدخل علينا شهرا وَإنَّك دخلت من تسع وَعشْرين أعدهن؟ قَالَ: إِن الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ) . مَعْنَاهُ: قد يكون تِسْعَة وَعشْرين، كَمَا صرح بِهِ فِي بعض الرِّوَايَات. ثمَّ اعْلَم أَن قَول أم سَلمَة: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلى من نِسَائِهِ شهرا، المُرَاد مِنْهُ الْحلف لَا الْإِيلَاء الشَّرْعِيّ، لِأَن الْإِيلَاء الشَّرْعِيّ هُوَ الْحلف على ترك قرْبَان امْرَأَته أَرْبَعَة أشهر أَو أَكثر، لقَوْله تَعَالَى: {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} (الْبَقَرَة: 622) . فَتكون مُدَّة الْإِيلَاء أَرْبَعَة أشهر من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عَليّ بن مسْهر عَن سعيد ابْن عَامر الْأَحول عَن عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا آلى من امْرَأَته شهرا أَو شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة مَا لم يبلغ الْحَد فَلَيْسَ بإيلاء) . وَأخرج نَحوه عَن عَطاء وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: إِذا حلف لَا يقربهَا أَرْبَعَة أشهر لَا يكون موليا حَتَّى يزِيد مُدَّة الْمُطَالبَة، وَاشْترط مَالك زِيَادَة يَوْم، وَالْآيَة الْمَذْكُورَة حجَّة عَلَيْهِم، وَحكم الْإِيلَاء أَنه إِذا وَطئهَا فِي الْمدَّة كفَّر، لِأَنَّهُ حنث فِي يَمِينه، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، وَسقط الْإِيلَاء، وَإِن لم يَطَأهَا فِي الْمدَّة حَتَّى مَضَت بَانَتْ مِنْهُ بتطليقة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول جُمْهُور التَّابِعين، وَفِيه فروع كَثِيرَة محلهَا كتب الْفِقْه.
1191 - حدَّثنا عَبْدُ العَزهيزِ بنُ عَبدِ الله قَالَ حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ آلَى رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ نِسائِهِ وكانَتِ انْفَكتْ رِجْلُهُ فأقامَ فِي مَشرَبَةٍ تِسعا وعِشْرِينَ لَيْلَةٍ ثُمَّ نَزَلَ فقالُوا يَا رسولَ الله آلَيْتَ شَهْرا فَقَالَ إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعا وعِشْرِينَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا وَجههَا فِي الْحَدِيثين السَّابِقين، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عمر، وَأَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَحميد بِضَم الْحَاء الطَّوِيل أَبُو عُبَيْدَة الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النّذر عَن عبد الْعَزِيز الْمَذْكُور، وَفِي النِّكَاح عَن خَالِد بن مخلد، وَفِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل عَن أَخِيه عبد الحميد.
قَوْله: (وَكَانَت انفكت رجله) ، من الانفكاك وَهُوَ ضرب من الوهن وَالْخلْع وَهُوَ أَن يَنْفَكّ بعض أَجْزَائِهَا عَن بعض. قَوْله: (فِي مشربه) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم الرَّاء وَفتحهَا وبالباء الْمُوَحدَة الغرفة. قَوْله: (تسعا وَعشْرين) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (تِسْعَة وَعشْرين) .
21 - (بابٌ شَهْرا عِيدٍ لاَ يَنْقُصانِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ شهرا عيد لَا ينقصان، والشهران هما: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة، كَمَا فِي متن حَدِيث الْبَاب، وسنقول: وَجه إِطْلَاق شهر عيد على رَمَضَان مَعَ أَن الْعِيد من شَوَّال، وَهَذِه التَّرْجَمَة عين متن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (شهرا عيد لَا ينقصان: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) . وَلم يذكر فِي التَّرْجَمَة: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله قَالَ إسحَاقُ وإنْ كانَ ناقِصا(10/283)
فَهْوَ تَمَامٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَلَيْسَ هَذَا بموجود فِي كثير من النّسخ. قَوْله: (قَالَ إِسْحَاق) قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : إِسْحَاق هَذَا هُوَ ابْن سُوَيْد بن هُبَيْرَة الْعَدوي عدي بن عبد مَنَاة بن أد بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر، وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) على هَذَا، وَقَالَ بَعضهم: أدّى مغلطاي، وَهُوَ صَاحب (التَّلْوِيح) أَن المُرَاد بِإسْحَاق هُوَ ابْن سُوَيْد الْعَدوي رَاوِي الحَدِيث، وَلم يَأْتِ على ذَلِك بِحجَّة. وَقَالَ: إِسْحَاق هُوَ ابْن رَاهَوَيْه. قلت: قَول صَاحب (التَّوْضِيح) أقرب إِلَى الصَّوَاب، بل الظَّاهِر أَن إِسْحَاق هُوَ ابْن سُوَيْد، لِأَنَّهُ مِمَّن روى هَذَا الحَدِيث فَالْأَقْرَب أَن يكون هُوَ إِيَّاه، فَهَذَا الْقَائِل يرد على صَاحب (التَّلْوِيح) فِيمَا قَالَه بِأَنَّهُ: لم يَأْتِ بِحجَّة فَهَذَا أدعى أَنه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأَيْنَ حجَّته على ذَلِك؟ فَإِن قيل: حجَّته أَن التِّرْمِذِيّ نقل هَذَا، أَعنِي قَوْله: (وَإِن كَانَ نَاقِصا فَهُوَ تَمام) عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه؟ يُقَال لَهُ: حجَّة صَاحب (التَّلْوِيح) أقوى فِيمَا قَالَه، لِأَنَّهُ ينْسبهُ إِلَى رَاوِي الحَدِيث الَّذِي فِيهِ، وَمَا نسبه التِّرْمِذِيّ إِلَى إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يكون من بَاب توارد الخواطر.
قَوْله: (وَإِن كَانَ نَاقِصا فَهُوَ تَمام) يَعْنِي: وَإِن كَانَ كل وَاحِد من شَهْري الْعِيد نَاقِصا، أَي: وَإِن كَانَ عددهما نَاقِصا فِي الْحساب. فَهُوَ تَمام فِي الثَّوَاب وَالْأَجْر، وَقد روى أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) عَن إِسْحَاق الْعَدوي من رِوَايَة مُسَدّد بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور بِلَفْظ: (لَا ينقص رَمَضَان وَلَا ينقص ذُو الْحجَّة) ، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يحيى بن مُحَمَّد بن يحيى عَن مُسَدّد بِلَفْظ: (شهرا عيد لَا ينقصان) ، كَمَا هُوَ لفظ التَّرْجَمَة.
وَقَالَ محَمَّدٌ لاَ يجْتَمِعانِ كِلاهُما ناقِصٌ
قيل: المُرَاد من قَوْله: قَالَ مُحَمَّد، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه لِأَن اسْمه مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، وَهَذَا نَادِر، لِأَن دأبه إِذا أَرَادَ أَن يذكر شَيْئا وَأَرَادَ أَن ينْسبهُ إِلَى نَفسه يَقُول: قَالَ أَبُو عبد الله، بكنيته، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا التَّعْلِيق عَن ابْن سِيرِين مَذْكُور، وَلم يذكر مَذْكُور فِي أَي مَوضِع، وَعَن هَذَا يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من قَوْله: (وَقَالَ مُحَمَّد) هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، وَالْأَقْرَب وَالله أعلم أَنه هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين. قَوْله: (لَا يَجْتَمِعَانِ) أَي: شهرا عيد، وَقَوله: (كِلَاهُمَا نَاقص) ، جملَة حَالية بِغَيْر وَاو، وَيجوز ذَلِك كَمَا فِي قَوْله: كَلمته فوه إِلَى فِي، وَالْمعْنَى: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي سنة وَاحِدَة فِي حَالَة نقص فيهمَا، بل إِن نقص أَحدهمَا تمّ الآخر.
2191 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ إسْحَاقَ يَعْنِي ابنَ سُوَيْدٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي بَكْرَةَ عَنْ أبِيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثني مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ قَالَ أخبرَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي بَكْرَةَ عَنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ شَهْرا عِيدٍ رَمَضانُ وذُو الحَجَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان الْبَصْرِيّ عَن إِسْحَاق ابْن سُوَيْد الْعَدوي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه أبي بكرَة، واسْمه: نفيع، تَصْغِير النَّفْع بالنُّون وَالْفَاء وَالْعين الْمُهْملَة: الثَّقَفِيّ، وَقد مر كِلَاهُمَا، وَعبد الرَّحْمَن أول مَوْلُود ولد بِالْبَصْرَةِ بعد بنائها، وَقد مر فِي الْعلم. وَالْآخر: عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر عَن خَالِد الْحذاء عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة ... إِلَى آخِره.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن أبي بكرَة عَن مُعْتَمر بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن خَالِد الْحذاء. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن يحيى ابْن خلف عَن بشر بن الْفضل عَن خَالِد الْحذاء بِهِ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن يزِيد ابْن زُرَيْع بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَار البُخَارِيّ سِيَاق الْمَتْن على لفظ خَالِد دون إِسْحَاق بن سُوَيْد لكَونه لم يخْتَلف فِي سِيَاقه عَلَيْهِ، كَذَا قَالَه بَعضهم. قلت: كلا الطَّرِيقَيْنِ صَحِيح عِنْد البُخَارِيّ، وَلكنه انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث إِسْحَاق بن سُوَيْد، وَبَقِيَّة الْجَمَاعَة غير النَّسَائِيّ أَخْرجُوهُ من حَدِيث خَالِد الْحذاء، فَيمكن أَن يكون اخْتِيَاره سوق الْمَتْن على لفظ خَالِد، لهَذَا الْمَعْنى، وَمَعَ هَذَا شكّ بعض الروَاة فِي رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلِهَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا، وَلِهَذَا حسنه التِّرْمِذِيّ وَلم يُصَحِّحهُ لما وَقع فِيهِ من الِاخْتِلَاف فِي وَصله وإرساله، وَرَفعه وَوَقفه، وَالِاخْتِلَاف فِي لَفظه، وَقَالَ شَيخنَا: وَلَا أعلم من رَوَاهُ عَن أبي بكرَة غير ابْنه عبد الرَّحْمَن، وَرَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن جمَاعَة مِنْهُم: خَالِد الْحذاء وَإِسْحَاق بن سُوَيْد وَعلي بن يزِيد بن جدعَان وَسَالم أَبُو حَاتِم وَعبد الْملك بن عُمَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، كلهم أسْندهُ عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث خَالِد الْحذاء، وَانْفَرَدَ بِهِ البُخَارِيّ من حَدِيث إِسْحَاق بن سُوَيْد، وَرَوَاهُ أحد فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عَليّ بن زيد وَسَالم بن أبي حَاتِم، ويكنى أَيْضا أَبَا عبد الله، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبد الْملك بن عُمَيْر، وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، وَقَالَ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) وَهَذَا الْكَلَام لَا نعلم رَوَاهُ أَحْمد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا اللَّفْظ إلاَّ أَبُو بكرَة نَحْو كَلَامه بِغَيْر لَفظه. انْتهى. وَقد روى أَبُو شيبَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل شهر(10/284)
حرَام تَامّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَثَلَاثِينَ لَيْلَة) . رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) فِي تَرْجَمَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الوَاسِطِيّ، وَنقل تَضْعِيفه عَن أَحْمد وَيحيى وَالْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَذكر أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: لَا يحْتَج بِهَذَا فَإِنَّهُ يَدُور على عبد الرَّحْمَن ابْن إِسْحَاق وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ شَيخنَا: لَيْسَ مَدَاره عَلَيْهِ كَمَا ذكر، وَأَيْضًا فقد اخْتلف عَلَيْهِ فِيهِ، فَروِيَ عَنهُ بِهَذَا اللَّفْظ كَمَا تقدم، وَرُوِيَ عَنهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُور، رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) كَذَلِك، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن مَالك حَدثنَا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (شهرا عيد لَا ينقصان: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) ، وَأما مُتَابَعَته على اللَّفْظ الآخر: (كل شهر حرَام) فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن يحيى الْحلْوانِي، حَدثنَا سعيد بن سُلَيْمَان عَن هشيم عَن خَالِد الْحذاء عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل شهر حرَام لَا ينقص ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَثَلَاثِينَ لَيْلَة) ، وَرِجَال إِسْنَاده كلهم ثِقَات، وَأحمد بن يحيى وَثَّقَهُ أَحْمد بن عبد الله الْفَرَائِضِي، وباقيهم رجال الصَّحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شَهْرَان) مُبْتَدأ، وَلَا ينقصان خَبره. قَوْله: (شهرا عيد) ، كَلَام إضافي خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، يَعْنِي: هما شهرا عيد، وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على الْبَدَلِيَّة. قَوْله: (رَمَضَان) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أَحدهمَا رَمَضَان، وَمنع الصّرْف للتعريف وَالْألف وَالنُّون، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (وَذُو الْحجَّة) ، كَذَلِك خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: وَالْآخر ذُو الْحجَّة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: كَيفَ سمي شهر رَمَضَان شهر عيد، وَإِنَّمَا الْعِيد فِي شَوَّال؟ فقد أجَاب عَنهُ الْأَثْرَم بجوابين: أَحدهمَا: أَنه قد يرى هِلَال شَوَّال بعد الزَّوَال من آخر يَوْم رَمَضَان. وَالثَّانِي: لما قرب الْعِيد من الصَّوْم أضافته الْعَرَب إِلَيْهِ بِمَا قرب مِنْهُ. قلت: فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث التَّصْرِيح بِأَن الْعِيد فِي رَمَضَان، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت خَالِدا الْحذاء يحدث عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (شَهْرَان لَا ينقصان فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا عيد: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) ، وَهَذَا إِسْنَاده صَحِيح.
وَقد اخْتلف النَّاس فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث على أَقْوَال، فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يكونَانِ ناقصين فِي الحكم وَإِن وجدا ناقصين فِي عدد الْحساب، وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يكادان يوجدان فِي سنة وَاحِدَة مُجْتَمعين فِي النُّقْصَان، إِن كَانَ أَحدهمَا تسعا وَعشْرين كَانَ الآخر ثَلَاثِينَ، على الْكَمَال. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا تَفْضِيل الْعَمَل فِي الْعشْر من ذِي الْحجَّة، فَإِنَّهُ لَا ينقص فِي الْأجر وَالثَّوَاب عَن شهر رَمَضَان، وَقَالَ ابْن حبَان: لهَذَا الْخَبَر مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن شَهْري عيد لَا ينقصان فِي الْحَقِيقَة، وَإِن نقصا عندنَا فِي رَأْي الْعين عِنْد الْحَائِل بَيْننَا وَبَين رُؤْيَة الْهلَال بقترة، أَو ضباب، وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن شَهْري عيد لَا ينقصان فِي الْفَضَائِل، يُرِيد أَن عشر ذِي الْحجَّة على الْفضل كشهر رَمَضَان، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: مَعْنَاهُ: لَا ينقصان، وَإِن كَانَا تسعا وَعشْرين يَوْمًا، فهما كاملان، لِأَن فِي أَحدهمَا الصّيام، وَفِي الآخر الْحَج، وَأَحْكَام ذَلِك كُله كَامِلَة غير نَاقِصَة. وَعَن الْمَازرِيّ: مَعْنَاهُ لَا ينقصان فِي عَام وَاحِد بِعَيْنِه، وَعَن الْخطابِيّ قيل: لَا ينقص أجر ذِي الْحجَّة عَن أجر رَمَضَان لفضل الْعَمَل فِي الْعشْر، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: روى عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (كل شهر حرَام ثَلَاثُونَ) ، فَقَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْء، لِأَن ابْن إِسْحَاق لَا يُقَاوم خَالِد الْحذاء وَلِأَن العيان يمنعهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ذُو الْحجَّة إِنَّمَا يَقع الْحَج فِي الْعشْر الأول مِنْهُ، فَلَا دخل لنُقْصَان الشَّهْر وَتَمَامه فِيهِ، بِخِلَاف رَمَضَان فَإِنَّهُ يصام كُله مرّة فَيكون تَاما، وَمرَّة يكون نَاقِصا. قلت: قد تكون أَيَّام الْحَج من الْإِغْمَاء وَالنُّقْصَان مثل مَا يكون فِي آخر رَمَضَان بِأَن يغمى هِلَال ذِي الْقعدَة وَيَقَع فِيهِ الْغَلَط بِزِيَادَة يَوْم أَو نقصانه، فَيَقَع عَرَفَة فِي الْيَوْم الثَّامِن أَو الْعَاشِر مِنْهُ، فَمَعْنَاه أَن أجر الواقفين بِعَرَفَة فِي مثله لَا ينقص عَمَّا لَا غلط فِيهِ، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَت طَائِفَة: من وقف بِعَرَفَة بخطأ شَامِل لجَمِيع أهل الْموقف فِي يَوْم قبل يَوْم عَرَفَة أَو بعده أَنه يجزىء عَنهُ، لِأَنَّهُمَا لَا ينقصان عِنْد الله من أجر المتعبدين بِالِاجْتِهَادِ، كَمَا لَا ينقص أجر رَمَضَان النَّاقِص، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحسن وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، احْتج أَصْحَابه على جَوَاز ذَلِك بصيام من التبست عَلَيْهِ الشُّهُور أَنه جَائِز أَن يَقع صِيَامه قبل رَمَضَان أَو بعده، وَعَن ابْن الْقَاسِم: أَنهم إِن أخطأوا ووقفوا بعد يَوْم عَرَفَة يَوْم النَّحْر يجزيهم، وَإِن قدمُوا الْوُقُوف يَوْم التَّرويَة أعادوا الْوُقُوف من الْغَد، وَلم يجزهم، وَهَذَا تخرج على أصل تِلْكَ فِيمَن التبست عَلَيْهِ الشُّهُور فصَام رَمَضَان، ثمَّ تَيَقّن لَهُ أَنه أوقعه بعد رَمَضَان أَنه يجْزِيه، وَلَا يجْزِيه إِذا(10/285)
أوقعه قبل رَمَضَان، كمن اجْتهد وَصلى قبل الْوَقْت أَنه لَا يجْزِيه، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّه لَا يَقع وقُوف النَّاس الْيَوْم الثَّامِن أصلا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أَن يكون الْوُقُوف بِرُؤْيَة أَو بإغماء، فَإِن كَانَ بِرُؤْيَة وقفُوا الْيَوْم التَّاسِع، وَأَن كَانَ بإغماء وقفُوا الْيَوْم الْعَاشِر.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الشَّهْرَيْنِ بِالذكر؟ قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّمَا خصهما بِالذكر لتَعلق حكم الصَّوْم وَالْحج بهما، وَبِه قطع النَّوَوِيّ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: ظَاهر سِيَاق الحَدِيث بَيَان اخْتِصَاص الشَّهْرَيْنِ بمزية لَيست فِي غَيرهمَا من الشُّهُور، وَلَيْسَ المُرَاد أَن ثَوَاب الطَّاعَة فِي غَيرهمَا ينقص، وَإِنَّمَا المُرَاد رفع الْحَرج عَمَّا عَسى أَن يَقع فِيهِ خطأ فِي الحكم لاختصاصهما بالعيدين، وَجَوَاز احْتِمَال وُقُوع الْخَطَأ فِيهَا، وَمن ثمَّة قَالَ: (شهرا عيد) بعد قَوْله: (شَهْرَان لَا ينقصان) ، وَلم يقْتَصر على قَوْله: (رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) .
وَفِيه: حجَّة لمن قَالَ: إِن الثَّوَاب لَيْسَ مُرَتبا على وجود الْمَشَقَّة دَائِما، بل لله أَن يتفضل بإلحاق النَّاقِص بالتام فِي الثَّوَاب، وَمِنْه اسْتدلَّ بَعضهم لمَالِك فِي اكتفائه لرمضان بنية وَاحِدَة، قَالَ: لِأَنَّهُ جعل الشَّهْر بجملته عبَادَة وَاحِدَة، فَاكْتفى لَهُ بِالنِّيَّةِ. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَنه يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فِي الثَّوَاب بَين الشَّهْر الْكَامِل وَبَين الشَّهْر النَّاقِص، فَافْهَم.
31 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ نَكْتُبُ ولاَ نَحْسُبُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نكتب، بنُون الْمُتَكَلّم، وَكَذَلِكَ: لَا نحسب.
3191 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا الأسْودُ بنُ قَيْسٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عَمُرٍ وأنَّهُ سَمِعَ ابنَ عمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةُ لاَ نَكْتُبُ ولاَ نَحْسُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا أوْ هَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ ومَرَّةً ثَلاثِينَ.
(انْظُر الحَدِيث 8091 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا بعض الحَدِيث، وَالْأسود بن قيس أَبُو قيس البَجلِيّ الْكُوفِي التَّابِعِيّ، مر فِي الْعِيد فِي: بَاب كَلَام الإِمَام، وَسَعِيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي مر فِي الْوضُوء، وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن الْمثنى وَابْن بشار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن ابْن مهْدي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِيه وَفِي الْعلم عَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص قَالَ: (ضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ على الْأُخْرَى، وَقَالَ: الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا، ثمَّ نقص فِي الثَّالِثَة إصبعا) . وَأخرجه عَن جَابر بن عبد الله أَيْضا قَالَ: (اعتزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه: (إِن الشَّهْر يكون تسعا وَعشْرين) . وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (مَا صمت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسعا وَعشْرين أَكثر مِمَّا صمنا ثَلَاثِينَ) ، وَعَن عَائِشَة مثله عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن مَاجَه مثله من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (إِنَّا) ، أَي: الْعَرَب، قَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّا كِنَايَة عَن جيل الْعَرَب، وَقيل: أَرَادَ نَفسه، عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (أمة) أَي: جمَاعَة قُرَيْش مثل قَوْله تَعَالَى: {أمة من النَّاس يسقون} (الْقَصَص: 32) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْأمة الْجَمَاعَة، وَقَالَ الْأَخْفَش: هُوَ فِي اللَّفْظ وَاحِد وَفِي الْمَعْنى جمع، وكل جنس من الْحَيَوَان أمة، وَالْأمة الطَّرِيقَة وَالدّين، يُقَال: فلَان لَا أمة لَهُ، أَي: لَا دين لَهُ، وَلَا نحلة لَهُ، وَكسر الْهمزَة فِيهِ لُغَة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْأمة الرجل الْمُفْرد بدين لقَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله} (النَّحْل: 021) . قَوْله: (أُميَّة) ، نِسْبَة إِلَى الْأُم، لِأَن الْمَرْأَة هَذِه صفتهَا غالبة، وَقيل: أَرَادَ أمة الْعَرَب لِأَنَّهَا لَا تكْتب، وَقيل: مَعْنَاهُ باقون على مَا ولدت عَلَيْهَا الْأُمَّهَات، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أمة أُميَّة لما تَأْخُذ عَن كتب الْأُمَم قبلهَا، إِنَّمَا أخذت عَمَّا جَاءَهُ الْوَحْي من الله، عز وَجل، وَقيل: منسوبون إِلَى أم الْقرى، وَقَالَ بَعضهم: مَنْسُوب إِلَى الْأُمَّهَات قلت: من لَهُ أدنى شمة من التصريف لَا يتَصَرَّف هَكَذَا. قَوْله: (لَا نكتب وَلَا نحسب) بَيَان لكَوْنهم كَذَلِك، وَقيل: الْعَرَب أُمِّيُّونَ لِأَن الْكتاب فيهم كَانَت عزيزة نادرة، قَالَ الله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم} (الْجُمُعَة: 2) . فَإِن قلت: كَانَ فيهم من يكْتب ويحسب؟ قلت: وَإِن كَانَ ذَلِك كَانَ نَادرا، وَالْمرَاد بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَاب النُّجُوم وتسييرها، وَلم يَكُونُوا يعْرفُونَ من ذَلِك شَيْئا إلاَّ النّذر الْيَسِير، وعلق الشَّارِع الصَّوْم وَغَيره بِالرُّؤْيَةِ لرفع الْحَرج عَن أمته فِي معاناة حِسَاب التسيير، وَاسْتمرّ ذَلِك بَينهم، وَلَو حدث بعدهمْ من يعرف ذَلِك، بل ظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ) .(10/286)
يَنْفِي تَعْلِيق الحكم بِالْحِسَابِ أصلا، إِذْ لَو كَانَ الحكم يعلم من ذَلِك لقَالَ: فاسألوا أهل الْحساب، وَقد رَجَعَ قوم إِلَى أهل التسيير فِي ذَلِك، وهم الروافض، وَنقل عَن بعض الْفُقَهَاء موافقتهم، قَالَ القَاضِي: وَإِجْمَاع السّلف الصَّالح حجَّة عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن بزيزة، هُوَ مَذْهَب بَاطِل، فقد نهت الشَّرِيعَة عَن الْخَوْض فِي علم النُّجُوم لِأَنَّهَا حدس وتخمين لَيْسَ فِيهَا قطع وَلَا ظن غَالب، مَعَ أَنه لَو ارْتبط الْأَمر بهَا لضاق الْأَمر، إِذْ لَا يعرفهَا إِلَّا الْقَلِيل. قَوْله: (وَلَا نحسب) بِضَم السِّين، قَالَ ثَعْلَب: حسبت الْحساب أَحْسبهُ حسبا وحسبانا. وَفِي (شرح مكي) : أَحْسبهُ أَيْضا، بِمَعْنى. وَفِي (الْمُحكم) : حسابة وحسبة وحسبانا. وَقَالَ ابْن بطال وَغَيره: أُمَم لم تكلّف فِي تَعْرِيف مَوَاقِيت صومنا وَلَا عبادتنا مَا نحتاج فِيهِ إِلَى معرفَة حِسَاب وَلَا كِتَابَة إِنَّمَا ربطت عبادتنا بأعلام وَاضِحَة وَأُمُور ظَاهِرَة يَسْتَوِي فِي معرفَة ذَلِك الْحساب وَغَيرهم، ثمَّ تمم هَذَا الْمَعْنى بإشارته بِيَدِهِ وَلم يتَلَفَّظ بعبارته عَنهُ نزولاً مَا يفهمهُ الخرس والعجم، وَحصل من إِشَارَته بيدَيْهِ أَن الشَّهْر يكون ثَلَاثِينَ، وَمن خنس إبهامه فِي الثَّالِثَة أَنه يكون تسعا وَعشْرين، وعَلى هَذَا إِن من نذر أَن يَصُوم شهرا غير معِين فَلهُ أَن يَصُوم تسعا وَعشْرين، لِأَن ذَلِك يُقَال لَهُ شهر، كَمَا أَن من نذر صَلَاة أَجزَأَهُ من ذَلِك رَكْعَتَانِ، لِأَنَّهُ أقل مَا يصدق عَلَيْهِ الِاسْم، وَكَذَا من نذر صوما فصَام يَوْمًا أَجزَأَهُ، وَهُوَ خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجْزِيه إِذا صَامَهُ بِالْأَيَّامِ إلاَّ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، فَإِن صَامَهُ بالهلال فعلى الرُّؤْيَة.
وَفِيه: أَن يَوْم الشَّك من شعْبَان، قَالَ ابْن بطال: وَهَذَا الحَدِيث نَاسخ لمراعاة النُّجُوم بقوانين التَّعْدِيل، وَإِنَّمَا الْمعول على رُؤْيَة الْأَهِلّة، وَإِنَّمَا لنا أَن نَنْظُر فِي علم الْحساب مَا يكون عيَانًا أَو كالعيان، وَأما مَا غمض حَتَّى لَا يدْرك إلاَّ بالظنون ويكشف الهيآت الغائبة عَن الْأَبْصَار فقد نهينَا عَنهُ، وَعَن تكلفه لِأَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا بعث إِلَى الْأُمِّيين، وَفِي الحَدِيث مُسْتَند لمن رأى الحكم بِالْإِشَارَةِ والإيماء، كمن قَالَ امْرَأَته طَالِق وَأَشَارَ بأصابعه الثَّلَاث، فَإِنَّهُ يلْزمه ثَلَاث تَطْلِيقَات، وَالله أعلم.
41 - (بابٌ لاَ يَتَقَدَّمَنَّ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ ولاَ يَوْمَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يتقدمن ... إِلَى آخِره، وَهُوَ بالنُّون الْخَفِيفَة والثقيلة، وَفِي كثير من النّسخ: لَا يتَقَدَّم، بِدُونِ النُّون، وَيجوز فِيهِ بِنَاء الْمَعْلُوم والمجهول، وَالتَّقْدِير فِي بِنَاء الْمَعْلُوم لَا يتَقَدَّم الْمُكَلف.
4191 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ إلاَّ أنْ يَكُونَ رَجُلٌ كانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا مَأْخُوذَة مِنْهُ. وَرِجَاله مروا غير مرّة، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا من حَدِيث عَليّ بن الْمُبَارك عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،(10/287)
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ إلاَّ رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ قَالَ: أخبرنَا هِشَام عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يتقدمن أحدكُم صَوْم رَمَضَان بِيَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ إلاَّ أَن يكون رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصم ذَلِك الْيَوْم) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بب عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا الشَّهْر بِيَوْم وَلَا بيومين إلاَّ أَن يُوَافق ذَلِك صوما وَكَانَ يَصُومهُ أحدكُم، صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته) . الحَدِيث، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، قَالَ: أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أخبرنَا الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أَلا لَا تقدمُوا قبل الشَّهْر بصيام إلاَّ رجل كَانَ يَصُوم صياما أَتَى ذَلِك الْيَوْم على صيامة) . وَأخرجه ابْن مَاجَه: حَدثنَا هِشَام بن عمار، وَقَالَ: حَدثنَا عبد الحميد بن حبيب والوليد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تقدمُوا صِيَام رَمَضَان بِيَوْم وَلَا بيومين إلاَّ رجل كَانَ يَصُوم صوما فيصومه) ، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: حَدِيث بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة مَنْصُور عَن ربعي عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا تقدمُوا الشَّهْر حَتَّى تروا الْهلَال) الحَدِيث. وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن حُذَيْفَة عِنْد أبي دَاوُد، وَعَن ابْن عَبَّاس عِنْد أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَعَن عَائِشَة عِنْد أبي دَاوُد أَيْضا عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الْبَيْهَقِيّ، وَعَن جَابر بن خديج عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَعَن ابْن مَسْعُود عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَعَن ابْن عمر عِنْد مُسلم، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، وَعَن طلق بن عَليّ عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَعَن سَمُرَة بن جُنْدُب عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَعَن الْبَراء بن عَازِب عِنْده أَيْضا.
قَوْله: (عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة) ، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة خَالِد بن الْحَارِث: حَدثنِي أَبُو سَلمَة حَدثنِي أَبُو هُرَيْرَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق مُعَاوِيَة بن سَلام عَن يحيى. قَوْله: (لَا يتقدمن أحدكُم رَمَضَان) ، فِي رِوَايَة خَالِد بن الْحَارِث الْمَذْكُور: (لَا تقدمُوا بَين يَدي رَمَضَان بِصَوْم) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن روح عَن هِشَام: (لَا تقدمُوا قبل رَمَضَان بِصَوْم) ، قَوْله: (إلاَّ أَن يكون رجل) ، يكون، هُنَا تَامَّة مَعْنَاهُ: إلاَّ أَن يُوجد رجل يَصُوم صوما. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (صَوْمه) أَي: صَوْمه الْمُعْتَاد كَصَوْم الْورْد أَو النّذر أَو الْكَفَّارَة.
وَقَالَ الْعلمَاء: معنى الحَدِيث: لَا تستقبلوا رَمَضَان بصيام على نِيَّة الِاخْتِلَاط لرمضان، تحذيرا مِمَّا صنعت النَّصَارَى فِي الزِّيَادَة على مَا افْترض عَلَيْهِم برأيهم الْفَاسِد، فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بمخالفة أهل الْكتاب وَكَانَ أَولا يحب مُوَافقَة أهل الْكتاب فِيمَا لم يُؤمر فِيهِ بِشَيْء، ثمَّ أَمر بعد ذَلِك بمخالفتهم. فَإِن قلت: هَذَا النَّهْي للتَّحْرِيم أَو للتنزيه؟ قلت: حكى التِّرْمِذِيّ عَن أهل الْعلم الْكَرَاهَة، وَكَثِيرًا مَا يُطلق المتقدمون الْكَرَاهَة على التَّحْرِيم، وَلَا شكّ أَن فِيهِ تَفْصِيلًا واختلافا للْعُلَمَاء، فَذهب دَاوُد إِلَى أَنه لَا يَصح صَوْمه أصلا، وَلَو وَافق عَادَة لَهُ، وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يجوز أَن يصام آخر يَوْم من شعْبَان تَطَوّعا إلاَّ أَن يُوَافق صوما كَانَ يَصُومهُ، وَأخذُوا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَعلي وعمار وَحُذَيْفَة وَابْن مَسْعُود، وَمن التَّابِعين سعيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَكَانَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة يأمران بفصل يَوْم أَو يَوْمَيْنِ كَمَا استحبوا أَن يفصلوا بَين صَلَاة الْفَرِيضَة والنافلة بِكَلَام أَو قيام أَو تقدم أَو تَأَخّر، وَقَالَ عِكْرِمَة: من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى الله وَرَسُوله، وأجازت طَائِفَة صَوْمه تَطَوّعا، رُوِيَ عَن عَائِشَة وَأَسْمَاء أُخْتهَا أَنَّهُمَا كَانَتَا تصومان يَوْم الشَّك، وَقَالَت عَائِشَة: لِأَن أَصوم يَوْمًا من شعْبَان أحب إِلَيّ من أَن أفطر يَوْمًا من رَمَضَان، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن عَطاء وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن أَنه: إِذا نوى صَوْمه من اللَّيْل على أَنه من رَمَضَان ثمَّ علم بالهلال أَو النَّهَار أَو آخِره أَنه يجْزِيه، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَقيل الْحِكْمَة فِي هَذَا النَّهْي التَّقْوَى بِالْفطرِ لرمضان ليدْخل فِيهِ بِقُوَّة ونشاط، وَقيل: لِأَن الحكم علق بِالرُّؤْيَةِ فَمن تقدمه بِيَوْم أَو بيومين فقد حاول الطعْن فِي ذَلِك الحكم، وَإِنَّمَا اقْتصر على يَوْم أَو يَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِب مِمَّن يقْصد ذَلِك، وَقَالُوا: غَايَة الْمَنْع من أول السَّادِس عشر من شعْبَان لما رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، وَأخرجه ابْن حبَان وَصَححهُ، وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: يحرم التَّقَدُّم بيومين لحَدِيث الْبَاب، وَيكرهُ التَّقَدُّم من نصف شعْبَان للْحَدِيث الآخر، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: يجوز الصَّوْم تَطَوّعا بعد النّصْف من شعْبَان، وَقَالَ بَعضهم: وَضعف الحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، وَقد قَالَ أَحْمد وَابْن معِين: إِنَّه مُنكر، وَقد اسْتدلَّ الْبَيْهَقِيّ بِحَدِيث الْبَاب على ضعفه، فَقَالَ: الرُّخْصَة فِي ذَلِك بِمَا هُوَ أصح من حَدِيث الْعَلَاء، قلت: هَذَا الحَدِيث صَححهُ ابْن حبَان وَابْن حزم وَابْن عبد الْبر، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَلَفظه: (إِذا بَقِي نصف من شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، وَلَفظ النَّسَائِيّ: (فكفوا عَن الصَّوْم) ، وَلَفظ ابْن مَاجَه: (وَإِذا كَانَ النّصْف من شعْبَان فَلَا صَوْم حَتَّى يَجِيء رَمَضَان) ، وَلَفظ ابْن حبَان: (فأفطروا حَتَّى يَجِيء رَمَضَان) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (لَا صَوْم بعد النّصْف من شعْبَان حَتَّى يَجِيء رَمَضَان) ، وَلَفظ ابْن عدي: (إِذا انتصف شعْبَان فأفطروا) ، وَلَفظ الْبَيْهَقِيّ:(10/288)
(إِذا مضى النّصْف من شعْبَان فأمسكوا عَن الصّيام حَتَّى يدْخل رَمَضَان) ، والْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن احْتج بِهِ مُسلم وَابْن حبَان وَغَيرهمَا مِمَّن الْتزم الصِّحَّة، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وروى عَنهُ مَالك وَالْأَئِمَّة، وَرَوَاهُ عَن الْعَلَاء جمَاعَة: عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي وَأَبُو العميس وروح بن عبَادَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَزُهَيْر بن مُحَمَّد ومُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي وَعبد الرَّحْمَن ابْن إِبْرَاهِيم الْقَارِي الْمَدِينِيّ، وَقد جمع بَين الْحَدِيثين بِأَن حَدِيث الْعَلَاء مَحْمُول على من يُضعفهُ الصَّوْم، وَحَدِيث الْبَاب مَخْصُوص بِمن يحْتَاط بِزَعْمِهِ لرمضان، وَقيل: كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَصُوم فِي النّصْف الثَّانِي من شعْبَان، فَقَالَ: من يَقُول الْعبْرَة بِمَا رأى أَن فعله هُوَ الْمُعْتَبر، وَقيل: فعله يدل على أَن مَا رَوَاهُ مَنْسُوخ.
وَقد روى الطَّحَاوِيّ مَا يُقَوي قَول من ذهب إِلَى أَن الصَّوْم فِيمَا بعد انتصاف شعْبَان جَائِز غير مَكْرُوه بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ثَابت عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفضل الصّيام بعد رَمَضَان شعْبَان) ، وَبِمَا رَوَاهُ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لرجل: هَل صمت من سرر شعْبَان؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذا أفطرت من رَمَضَان فَصم يَوْمَيْنِ) . قلت: أما حَدِيث ثَابت عَن أنس فضعيف لِأَن فِي سَنَده صَدَقَة ابْن مُوسَى، وَفِيه مقَال. فَقَالَ يحيى: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء، وَضَعفه النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد. وَأما حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فَأخْرجهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد، قَوْله: (سرر شعْبَان) ، السرر بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَالرَّاء: لَيْلَة يستسر الْهلَال، يُقَال: سرار الشَّهْر وسراره بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، وسرره. وَاخْتلفُوا فِيهِ فَقيل: أَوله، وَقيل: وَسطه، وَقيل: آخِره، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، كَذَا قَالَه الْهَرَوِيّ والخطابي عَن الْأَوْزَاعِيّ.
51 - (بابُ قَوْلِ الله جَلَّ ذِكْرُهُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمٍ الله أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وعَفَا عَنْكُمْ فاَلآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} (الْبَقَرَة: 781) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَحْكَام، وَهَذِه الْآيَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا كتب الله لكم} (الْبَقَرَة: 781) . رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى آخر الْآيَة {لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} (الْبَقَرَة: 781) . وَجعل البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة تَرْجَمَة لبَيَان مَا كَانَ الْحَال عَلَيْهِ قبل نزُول هَذِه الْآيَة، وَسبب نُزُولهَا فِي عمر بن الْخطاب وصرمة بن قيس، قَالَ الطَّبَرِيّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن كَعْب بن مَالك يحدث عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ النَّاس فِي رَمَضَان إِذا صَامَ الرجل فأمسى فَنَامَ حرمه عَلَيْهِ الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّسَاء حَتَّى يفْطر من الْغَد، فَرجع عمر بن الْخطاب من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات لَيْلَة وَقد سمر عِنْده، فَوجدَ امْرَأَته قد نَامَتْ، فأرادها، فَقَالَت: إِنِّي قد نمت، فَقَالَ: مَا نمت؟ ثمَّ وَقع بهَا، وصنع كَعْب بن مَالك مثله، فغدا عمر بن الْخطاب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأخْبرهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {علم الله أَنكُمْ تختانون أَنفسكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا عَنْكُم فَالْآن باشروهن} (الْبَقَرَة: 781) . الْآيَة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَالسُّديّ وَقَتَادَة وَغَيرهم فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة فِي عمر بن الْخطاب، وَمن صنع كَمَا صنع، وَفِي صرمة بن قيس، فأباح الْجِمَاع وَالطَّعَام وَالشرَاب فِي جَمِيع اللَّيْل رَحْمَة ورخصة ورفقا. وَحَدِيث الْبَاب يقْتَصر على قَضِيَّة صرمة بن قيس. قَوْله: (الرَّفَث) هُوَ الْجِمَاع، هُنَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس وَسَالم بن عبد الله وَعَمْرو بن دِينَار وَالْحسن وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ وَالضَّحَّاك وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالسُّديّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَمُقَاتِل ابْن حَيَّان، وَقَالَ الزّجاج: الرَّفَث، كُله جَامع لكل مَا يُريدهُ الرجل من النِّسَاء قَوْله: {هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ} (الْبَقَرَة: 781) . قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَمُقَاتِل بن حَيَّان: يَعْنِي هن سكن لكم وَأَنْتُم سكن لَهُنَّ، وَقَالَ الرّبيع بن أنس: هن لِحَاف لكم وَأَنْتُم لِحَاف لَهُنَّ، وَحَاصِله أَن الرجل وَالْمَرْأَة كل مِنْهُمَا يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فَنَاسَبَ أَن يرخص لَهُم فِي المجامعة فِي ليل رَمَضَان لِئَلَّا يشق ذَلِك عَلَيْهِم ويحرجوا، وَقيل: كل قرن مِنْكُم يسكن إِلَى قرنه ويلابسه، وَالْعرب تسمي الْمَرْأَة لباسا وإزارا قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا مَا الضجيع ثنى جيدها ... تداعت، فَكَانَت عَلَيْهِ لباسا)(10/289)
وَقَالَ آخر:
(ألاَ بلِّغ أَبَا حَفص رَسُولا ... فِدًى لَك من أخي ثِقَة إزَارِي)
قَالَ أهل اللُّغَة: مَعْنَاهُ فدى لَك امْرَأَتي، وَذكر ابْن قُتَيْبَة وَغَيره أَن المُرَاد بقوله: إزَارِي، فدى لَك امْرَأَتي، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ نَفسه أَي: فدى لَك نَفسِي. وَفِي (كتاب الْحَيَوَان) للجاحظ: لَيْسَ شَيْء من الْحَيَوَان يتبطن طروقته أَي: يَأْتِيهَا من جِهَة بَطنهَا غير الْإِنْسَان والتمساح، وَفِي (تَفْسِير الواحدي) : والدب. وَقيل الْغُرَاب. قَوْله: {تختانون أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 781) . يَعْنِي: تجامعون النِّسَاء وتأكلون وتشربون فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ حَرَامًا عَلَيْكُم، ذكره الطَّبَرِيّ. وَفِي (تَفْسِير) ابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد: {تختانون أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 781) . قَالَ: تظْلمُونَ أَنفسكُم. قَوْله: {فَالْآن باشروهن} (الْبَقَرَة: 781) . أَي: جامعوهن، كنى الله عَنهُ، قَالَه ابْن عَبَّاس: وَرُوِيَ نَحوه عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَالسُّديّ وَالربيع بن أنس وَزيد بن أسلم. قَوْله: {وابتغوا مَا كتب الله لكم} (الْبَقَرَة: 781) . قَالَ مُجَاهِد: فِيمَا ذكره عبد بن حميد فِي تَفْسِيره: الْولدَان لم تَلد هَذِه، فَهَذِهِ، وَذكره أَيْضا الطَّبَرِيّ عَن الْحسن وَالْحَاكِم وَعِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس وَالسُّديّ وَالربيع بن أنس، وَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره عَن أنس بن مَالك، وَشُرَيْح وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة. قَالَ الطَّبَرِيّ، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {وابتغوا مَا كتب الله لكم} (الْبَقَرَة: 781) . قَالَ: لَيْلَة الْقدر، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ آخَرُونَ: بل مَعْنَاهُ مَا أحله الله لكم ورخصه، قَالَ ذَلِك قَتَادَة، وَعَن زيد بن أسلم: هُوَ الْجِمَاع.
5191 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى عنْ إسْرَائِيلَ عنْ أبي إسْحَاقَ عَن البَرَاءِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا كانَ الرَّجُلُ صَائِما فحَضَرَ الإفْطَارُ فنامَ قَبْلَ أنْ يُفْطَر لَمْ يَأكُلْ لَيْلَتَهُ ولاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِي وَإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصَارِيَّ كانَ صائِما فَلَمَّا حضَرَ الإفْطَارُ أتَى امْرَأتَهُ فَقَالَ لَهَا أعِنْدَكِ طَعَامٌ قالَتْ لاَ ولَكِنْ أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ وكانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأتُهُ فلَمَّا رَأَتْهُ قالَتْ خَيْبةً لَكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} ففَرِحُوا بِهَا فَرَحا شَدِيدا ونَزَلَتْ {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ} . (الْبَقَرَة: 781) .
(الحَدِيث 5191 طرفه فِي: 8054) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين سَبَب نُزُولهَا وَعبيد الله بن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي وَهُوَ يروي عَن جده أبي إِسْحَاق، واسْمه عَمْرو بن عبد الله.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم أَيْضا عَن نصر بن عَليّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي أول مَا افْترض الصّيام، وبيَّن ذَلِك ابْن جرير فِي رِوَايَته من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى مُرْسلا. قَوْله: (فَنَامَ قبل أَن يفْطر) إِلَى آخِره. وَفِي رِوَايَة زُهَيْر: (كَانَ إِذا نَام قبل أَن يتعشى لم يحل لَهُ أَن يَأْكُل شَيْئا وَلَا يشرب ليله وَلَا يَوْمه حَتَّى تغرب الشَّمْس) . وَفِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ من طَرِيق زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة عَن أبي إِسْحَاق: (كَانَ الْمُسلمُونَ إِذا أفطروا يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويأتون النِّسَاء مَا لم يَنَامُوا، فَإِذا نَامُوا لم يَفْعَلُوا شَيْئا من ذَلِك إِلَى مثلهَا) . فَإِن قلت: الرِّوَايَات كلهَا فِي حَدِيث الْبَراء على أَن الْمَنْع من ذَلِك كَانَ مُقَيّدا بِالنَّوْمِ، وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيث غَيره، وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ النَّاس على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلوا الْعَتَمَة حرم عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّسَاء، وصاموا إِلَى الْقَابِلَة) الحَدِيث. وَالْمَنْع فِي هَذَا مُقَيّد بِصَلَاة الْعشَاء. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذكر صَلَاة الْعشَاء لكَون مَا بعْدهَا مَظَنَّة النّوم غَالِبا، وَالتَّقْيِيد فِي الْحَقِيقَة بِالنَّوْمِ كَمَا فِي سَائِر الْأَحَادِيث. وبيَّن السّديّ وَغَيره أَن ذَلِك الحكم كَانَ على وفْق مَا كتب على أهل الْكتاب، كَمَا أخرجه ابْن حزم من طَرِيق السّديّ، وَلَفظه: (كتب على النَّصَارَى الصّيام، وَكتب عَلَيْهِم أَن لَا يَأْكُلُوا وَلَا يشْربُوا وَلَا ينكحوا بعد النّوم، وَكتب على الْمُسلمين أَولا مثل ذَلِك حَتَّى أقبل رجل من الْأَنْصَار) فَذكر الْقِصَّة. وَمن طَرِيق إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: كَانَ الْمُسلمُونَ فِي أول الْإِسْلَام يَفْعَلُونَ كَمَا يفعل أهل الْكتاب إِذا نَام أحدهم لم يطعم حَتَّى الْقَابِلَة. قَوْله: (وَإِن قيس بن(10/290)
صرمة) قيس بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: وصرمة، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمِيم، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَتَابعه على ذَلِك التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن حبَان فِي (معرفَة الصَّحَابَة) وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) والدارمي فِي (مُسْنده) وَأَبُو دَاوُد فِي (كتاب النَّاسِخ والمنسوخ) والإسماعيلي وَأَبُو نعيم فِي (مستخرجيهما) وَقَالَ أَبُو نعيم فِي (كتاب الصَّحَابَة) تأليفه: صرمة بن أبي أنس، وَقيل: ابْن قيس الخطمي الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا قيس، كَانَ شَاعِرًا نزلت فِيهِ {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . الْآيَة، ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي صَالح (عَن ابْن عَبَّاس أَن صرمة بن أبي أنس أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَشِيَّة من العشيات، وَقد جهده الصَّوْم، فَقَالَ لَهُ: مَالك يَا أَبَا قيس: أمسيت طليخا ... ؟) الحَدِيث، قَالَ: وَرَوَاهُ جبارَة بن مُوسَى عَن أَبِيه عَن أَشْعَث بن سوار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان أَن صرمة بن قيس ... فَذكر نَحوه. انْتهى. وَكَذَا ذكره أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : صرمة بن قيس، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: صرمة بن أبي أنس قيس بن مَالك بن عدي النجاري، يكنى أَبَا قيس، وَقَالَ بَعضهم: صرمة بن مَالك، نسبه إِلَى جده، وَهُوَ الَّذِي نزل فِيهِ وَفِي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام} (الْبَقَرَة: 781) . وَفِي (أَسبَاب النُّزُول) لِلْوَاحِدِيِّ: (عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَاءَ إِلَى امْرَأَته فَقَالَت: قد نمت، فَوَقع عَلَيْهَا، وَأمسى صرمة بن قيس صَائِما فَنَامَ قبل أَن يفْطر. .) الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَحْمد بن نصر الدَّاودِيّ وَابْن التِّين: يخْشَى أَن يكون رِوَايَة البُخَارِيّ غير مَحْفُوظَة، إِنَّمَا هُوَ صرمة. وَأما النَّسَائِيّ فَلَمَّا ذكره فِي (كتاب السّنَن) قَالَ: إِن أَبَا قيس بن عمر فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ السُّهيْلي: حَدِيث صرمة بن أبي أنس قيس بن صرمة الَّذِي أنزل الله تَعَالَى فِيهِ وَفِي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} (الْبَقَرَة: 781) . إِلَى قَوْله: {وَعَفا عَنْكُم} (الْبَقَرَة: 781) . فَهَذِهِ فِي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. ثمَّ قَالَ: {وكلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 781) . إِلَى آخر اللَّيْلَة، فَهَذِهِ فِي صرمة بن أبي أنس، بَدَأَ الله بِقصَّة عمر لفضله. فَقَالَ: {فَالْآن باشروهن} (الْبَقَرَة: 781) . ثمَّ بِقصَّة صرمة، فَقَالَ: {وكلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 781) . وَعند ابْن الْأَثِير، من حَدِيث مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش: أخبرنَا أَبُو عرُوبَة عَن قيس بن سعد عَن عَطاء (عَن أبي هُرَيْرَة: نَام ضَمرَة بن أنس الْأنْصَارِيّ وَلم يشْبع من الطَّعَام وَالشرَاب، فَنزلت: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام ... } (الْبَقَرَة: 781) . الْآيَة، قيل: إِنَّه تَصْحِيف، وَلم يتَنَبَّه لَهُ ابْن الْأَثِير، وَالصَّوَاب صرمة بن أبي أنس، وَهُوَ مَشْهُور فِي الصَّحَابَة، يكنى أَبَا قيس. وَالصَّوَاب فِي ذَلِك من بَين هَذِه الرِّوَايَات مَا ذكره ابْن عبد الْبر، فَمن قَالَ: قيس بن صرمة، قلبه كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الدَّاودِيّ، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَكَذَا قَالَ السُّهيْلي وَغَيره: إِنَّه وَقع مقلوبا فِي رِوَايَة حَدِيث الْبَاب، وَمن قَالَ: صرمة بن مَالك، نسبه إِلَى جده، وَمن قَالَ: صرمة بن أنس حذف أَدَاة الكنية من أَبِيه، وَمن قَالَ: أَبُو قيس ابْن عَمْرو أصَاب فِي كنيته وَأَخْطَأ فِي إسم أَبِيه، وَكَذَا من قَالَ: أَبُو قيس بن صرمة، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يَقُول: أَبُو قيس صرمة فزيد فِيهِ: أَيْن. فَافْهَم. فَبِهَذَا يجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة، وَالله أعلم. قَوْله: (أعندكِ؟) بِكَسْر الْكَاف والهمزة للاستفهام. قَوْله: (قَالَت: لَا) ، أَي: لَيْسَ عِنْد طَعَام، وَلَكِن أَنطلق فأطلب لَك، ظَاهر هَذَا الْكَلَام أَنه لم يَجِيء مَعَه بِشَيْء، لَكِن ذكر فِي مُرْسل السّديّ أَنه أَتَاهَا بِتَمْر، فَقَالَ: استبدلي بِهِ طحينا واجعليه سخينا، فَإِن التَّمْر أحرق جوفي. وَفِي مُرْسل ابْن أبي ليلى: (فَقَالَ لأَهله: أَطْعمُونِي، فَقَالَت: حَتَّى أجعَل لَك شَيْئا سخينا) ، وَوَصله أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن أبي ليلى: قَالَ حَدثنَا أَصْحَاب مُحَمَّد فَذكره مُخْتَصرا. قَوْله: (وَكَانَ يَوْمه) ، بِالنّصب أَي: وَكَانَ قيس بن صرمة فِي يَوْمه يعْمل أَي: فِي أرضه، وَصرح بهَا أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته، وَفِي مُرْسل السّديّ: (كَانَ يعْمل فِي حيطان الْمَدِينَة بِالْأُجْرَةِ) ، فعلى هَذَا فَقَوله: فِي أرضه إِضَافَة اخْتِصَاص. قَوْله: (فغلبته عَيناهُ) أَي: نَام، لِأَن غَلَبَة الْعَينَيْنِ عبارَة عَن النّوم، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عينه) بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (خيبة لَك) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول مُطلق يجب حذف عَامله، وَقيل: إِذا كَانَ بِدُونِ اللَّام يجب نَصبه، وَإِذا كَانَ مَعَ اللَّام جَازَ نَصبه، والخيبة: الحرمان، يُقَال: خَابَ الرجل إِذا لم ينل مَا طلبه. قَوْله: (فَلَمَّا انتصف النَّهَار غشي عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَأصْبح صَائِما، فَلَمَّا انتصف النَّهَار) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَلم ينتصف النَّهَار حَتَّى غشي عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق: (فَلم يطعم شَيْئا وَبَات حَتَّى أصبح صَائِما حَتَّى انتصف النَّهَار فَغشيَ عَلَيْهِ) . وَفِي مُرْسل السّديّ: (فأيقظته(10/291)
فكره أَن يعْصى الله تَعَالَى، وَأبي أَن يَأْكُل) . وَفِي مُرْسل مُحَمَّد بن يحيى، فَقَالَ: (إِنِّي قد نمت، فَقَالَت لَهُ: لم تنم فَأبى فَأصْبح جائعا مجهودا) . قَوْله: (فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَزَاد فِي رِوَايَة زَكَرِيَّاء عِنْد أبي الشَّيْخ: (وأتى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، امْرَأَته وَقد نَامَتْ، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (فَنزلت هَذِه الْآيَة) وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينهمَا وَبَين حِكَايَة قيس؟ قلت: لما صَار الرَّفَث حَلَالا فالأكل وَالشرب بِالطَّرِيقِ الأولى، وَحَيْثُ كَانَ حلهما بِالْمَفْهُومِ نزلت بعده: {كلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 781) . ليعلم بالمنطوق تَصْرِيحًا بتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم، ودفعا لجنس الضَّرَر الَّذِي وَقع لقيس وَنَحْوه، أَو المُرَاد بِالْآيَةِ: هِيَ بِتَمَامِهَا إِلَى آخِره، حَتَّى يتَنَاوَل: كلوا وَاشْرَبُوا، فالغرض من ذكر نزلت ثَانِيًا هُوَ بَيَان نزُول لفظ {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . بعد ذَلِك. انْتهى. قلت: اعْتمد السُّهيْلي على الْجَواب الثَّانِي، وَقَالَ: إِن الْآيَة نزلت بِتَمَامِهَا فِي الْأَمريْنِ مَعًا، وَقدم مَا يتَعَلَّق بعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لفضله. قَوْله: (فَفَرِحُوا بهَا) ، أَي: بِالْآيَةِ وَهِي قَوْله: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} (الْبَقَرَة: 781) . وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَنزلت {أحل لكم لَيْلَة الصّيام} إِلَى قَوْله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . فَهَذَا يبين أَن مَحل قَوْله: (فَفَرِحُوا بهَا) بعد قَوْله: {الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . وَوَقع ذَلِك صَرِيحًا فِي رِوَايَة زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة، وَلَفظ: (فَنزلت {أحل لكم} (الْبَقَرَة: 781) . إِلَى قَوْله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . ففرح الْمُسلمُونَ بذلك.
61 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالى: {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَة: 781)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل مُخَاطبا للْمُسلمين بقوله: {وكلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 781) . بعد أَن كَانُوا ممنوعين مِنْهُمَا بعد النّوم، وَبَين فِيهِ غَايَة وَقت الْأكل بقوله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . وَالْمرَاد بالخيط الْأَبْيَض أول مَا يَبْدُو من الْفجْر الْمُعْتَرض فِي الْأُفق كالخيط الْمَمْدُود، وَالْخَيْط الْأسود مَا يَمْتَد مَعَه من غبش اللَّيْل شبها بخيطين أَبيض وأسود. وَقَوله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . بَيَان للخيط الإبيض وَاكْتفى بِهِ عَن بَيَان الْخَيط الْأسود، لِأَن بَيَان أَحدهمَا بَيَان للثَّانِي، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن تكون من للتَّبْعِيض لِأَنَّهُ بعض الْفجْر، وَقَالَ: وَقَوله: {من الْفجْر} أخرجه من بَاب الِاسْتِعَارَة، كَمَا أَن قَوْلك رَأَيْت أسدا مجَاز، فَإِذا زِدْت من فلَان، رَجَعَ تَشْبِيها. انْتهى. وَلما نزل قَوْله: {كلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . أَولا وَلم ينزل: {من الْفجْر} كَانَ رجال إِذا أَرَادوا الصَّوْم ربط أحدهم فِي رجلَيْهِ الْخَيط الْأَبْيَض وَالْخَيْط الْأسود، فَلَا يزَال يَأْكُل وَيشْرب وَيَأْتِي أَهله حَتَّى يظْهر لَهُ الْخيطَان، ثمَّ لما نزل قَوْله: {من الْفجْر} علمُوا أَن المُرَاد من الْخَيْطَيْنِ اللَّيْل وَالنَّهَار، فالأسود سَواد اللَّيْل والأبيض بَيَاض الْفجْر، كَمَا يَأْتِي الْآن بَيَانه فِي حَدِيث الْبَاب. قَوْله: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} (الْبَقَرَة: 781) . أَي: من بعد انْشِقَاق الْفجْر الصَّادِق كفوا عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع إِلَى أَن يَأْتِي اللَّيْل، وَهُوَ غرُوب الشَّمْس، قَالُوا: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز النبية بِالنَّهَارِ فِي صَوْم رَمَضَان، وعَلى جَوَاز تَأْخِير الْغسْل إِلَى الْفجْر، وعَلى نفي صَوْم الْوِصَال.
فيهِ الْبَرَاءُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث رَوَاهُ الْبَراء بن عَازِب الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب حَدِيث رَوَاهُ الْبَراء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن لما لم يكن على شَرط البُخَارِيّ لم يذكرهُ فِيهِ. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل أَشَارَ بِهِ إِلَى الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مَوْصُولا عَن الْبَراء الَّذِي سبق ذكره فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
6191 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ قَالَ حدَّثنا هُشَيْمٌ قَالَ أخبرَنِي حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن الشَّعْبِيِّ عنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يتبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ عَمَدْتُ إلَى عِقَالٍ أسْوَدَ وإلَى عِقالٍ أبْيَضَ فجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فجَعَلْتُ أنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلاَ يَسْتَبِينُ لِي فغَدَوْتُ عَلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذكَرْتُ لَهُ ذالِكَ فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ سَوادُ اللَّيْلِ وبيَاضُ النَّهار.(10/292)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حجاج، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ، ابْن منهال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: السّلمِيّ مَوْلَاهُم الْأنمَاطِي. الثَّانِي: هشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: السّلمِيّ مَوْلَاهُم أَبُو مُعَاوِيَة. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، يكنى أَبَا الْهُذيْل. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: عدي بن حَاتِم الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَن هشيما واسطي وَأَصله من بَلخ وَأَن حصينا وَالشعْبِيّ كوفيان وَأَن فِيهِ: أَخْبرنِي حُصَيْن، ويروى: أخبرنَا، وَزَاد الطَّحَاوِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن هشيم: أخبرنَا حُصَيْن ومجالد عَن الشّعبِيّ، فالطحاوي أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج بن منهال إِلَى آخِره، نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ. وَالْآخر: عَن أَحْمد بن دَاوُد عَن إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن هشيم عَن حُصَيْن ومجالد عَن الشّعبِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن حُصَيْن بن نمير، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عدي بن حَاتِم) ، فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: أَخْبرنِي عدي بن حَاتِم) ، وَكَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة عَن أَحْمد بن منيع، وَكَذَا أوردهُ أَبُو عوَانَة من طَرِيق أبي عبيد عَن هشيم عَن حُصَيْن. قَوْله: (عَمَدت) ، أَي: قصدت من عمد يعمد عمدا إِذا قصد، وَهُوَ من بَاب: ضرب يضْرب، وَأما عَمَدت الشَّيْء فانعمد فَمَعْنَاه: أقمته، فَالْأول بِاللَّامِ وَإِلَى؛ وَالثَّانِي بدونهما. قَوْله: (إِلَى عقال) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالقاف، وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير، وَالْجمع: عُقل، وَفِي رِوَايَة مجَالد: (فَأخذت خيطين من شعر) . قَوْله: (فَلَا يستبين لي) ، أَي: فَلَا يظْهر لي، وَفِي رِوَايَة مجَالد: (فَلَا أستبين الْأَبْيَض من الْأسود) . قَوْله: (وِسَادَتِي) ، الوساد والوسادة المخدة، وَالْجمع: وسائد ووسد. قَوْله: (إِنَّمَا ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . وَرِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير، قَالَ: (أَخذ عدي عقَالًا أَبيض وَعِقَالًا أسود حَتَّى إِذا كَانَ بعض اللَّيْل نظر فَلم يَسْتَبِينَا، فَلَمَّا أصبح قَالَ: يَا رَسُول الله {جعلت تَحت وِسَادَتِي. . قَالَ: إِن وِسَادَتك إِذا لَعَرِيض) . وَفِي رِوَايَة: (قلت: يَا رَسُول الله} مَا الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود؟ أَهما الْخيطَان؟ قَالَ: إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا، إِن أَبْصرت الْخَيْطَيْنِ، ثمَّ قَالَ: لَا بل هُوَ سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّنِي جعلت تَحت وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ: عقَالًا أَبيض وَعِقَالًا أسود أعرف اللَّيْل من النَّهَار، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن وِسَادك لَعَرِيض، إِنَّمَا هُوَ سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد (قَالَ: أخذت عقَالًا أَبيض وَعِقَالًا أسود فوضعتهما تَحت وِسَادَتِي، فَنَظَرت فَلم أتبين، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضَحِك، وَقَالَ: إِن وِسَادك إِذا لَعَرِيض طَوِيل، إِنَّمَا هُوَ اللَّيْل وَالنَّهَار) . وَفِي لفظ: (إِنَّمَا هما سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار) ، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مطرف: (فَضَحِك، وَقَالَ: لَا يَا عريض الْقَفَا) . انْتهى. قَوْله: (إِن وِسَادك لَعَرِيض) ، كنى بالوساد عَن النّوم، لِأَن النَّائِم يتوسد، أَي: إِن نومك لطويل كثير، وَقيل: كنى بالوساد عَن مَوضِع الوساد من رَأسه وعنقه، وَتشهد لَهُ الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا) ، فَإِن عرض الْقَفَا كِنَايَة عَن السّمن، وَقيل: أَرَادَ من أكل مَعَ الصُّبْح فِي صَوْمه أصبح عريض الْقَفَا، لِأَن الصَّوْم لَا يُؤثر فِيهِ، وَيُقَال: يكنى عَن الأبله بعريض الْقَفَا، فَإِن عرض الْقَفَا وَعظم الرَّأْس إِذا أفرطا قيل: إِنَّه دَلِيل الغباوة والحماقة، كَمَا أَن استواءه دَلِيل على علو الهمة وَحسن الْفَهم، وَهَذَا من قبيل الْكِنَايَة الْخفية، وَالْفرق بَين الْكِنَايَة وَالْمجَاز أَن الِانْتِقَال فِي الْكِنَايَة من اللَّازِم إِلَى الْمَلْزُوم، وَفِي الْمجَاز من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم، وَهَكَذَا فرق السكاكي وَغَيره، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّمَا عرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قفا عدي لِأَنَّهُ غفل عَن الْبَيَان، وتعريض الْقَفَا مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على قلَّة الفطنة، قيل: أنكر ذَلِك غير وَاحِد، مِنْهُم: الْقُرْطُبِيّ، فَقَالَ: حمله بعض النَّاس على الذَّم لَهُ على ذَلِك الْفَهم، وَكَأَنَّهُم فَهموا أَنه نسبه إِلَى الْجَهْل والجفا وَعدم الْفِقْه، وعضدوا ذَلِك بقوله: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا)(10/293)
وَلَيْسَ الْأَمر على مَا قَالُوهُ، لِأَن من حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته اللسانية الَّتِي هِيَ الأَصْل إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ دَلِيل التَّجَوُّز لم يسْتَحق ذما وَلَا ينْسب إِلَى جهل، وَإِنَّمَا عَنى وَالله أعلم إِن وِسَادك إِن كَانَ يُغطي الْخَيْطَيْنِ اللَّذين أَرَادَ الله فَهُوَ إِذا عريض وَاسع، ولهذه قَالَ فِي إِثْر ذَلِك: إِنَّمَا هُوَ سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَكيف يدخلَانِ تَحت وِسَادَتك؟ وَقَوله: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا) ، أَي: إِن الوساد الَّذِي يُغطي اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يرقد عَلَيْهِ إلاَّ قفا عريض للمناسبة.
ذكر الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض ... } (الْبَقَرَة: 781) . إِلَى آخِره، يَقْتَضِي ظَاهره أَن عدي بن حَاتِم كَانَ حَاضرا لما نزلت هَذِه الْآيَة، وَهُوَ يَقْتَضِي تقدم إِسْلَامه، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَن نزُول فرض الصَّوْم كَانَ مُتَقَدما فِي أَوَائِل الْهِجْرَة، وَإِسْلَام عدي كَانَ فِي التَّاسِعَة أَو الْعَاشِرَة، كَمَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره من أهل الْمَغَازِي قلت: أجابوا بأَرْبعَة أجوبة: الأول: إِن الْآيَة الَّتِي فِي حَدِيث الْبَاب تَأَخّر نُزُولهَا عَن نزُول فرض الصَّوْم، وَهَذَا بعيد جدا. الثَّانِي: أَن يؤول قَول عدي هَذَا على أَن المُرَاد بقوله: (لما نزلت) ، أَي: لما تليت عَليّ عِنْد إسلامي. الثَّالِث: أَن الْمَعْنى: لما بَلغنِي نزُول الْآيَة عَمَدت إِلَى عِقَالَيْنِ. الرَّابِع: يقدر فِيهِ حذف تَقْدِيره، لما نزلت الْآيَة، ثمَّ قدمت وَأسْلمت وتعلمت الشَّرَائِع، عَمَدت، وَهَذَا أحسن الْوُجُوه، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق مجَالد بِلَفْظ: (عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة وَالصِّيَام، فَقَالَ: صل كَذَا وصم كَذَا، فَإِذا غَابَتْ الشَّمْس فَكل حَتَّى يتَبَيَّن لَك الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود، قَالَ: فَأخذت خيطين) الحَدِيث.
وَمِنْهَا مَا قيل:
إِن قَوْله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . نزل بعد قَوْله: {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . وَكَانَ هَذَا بَيَانا لَهُم إِن المُرَاد بِهِ أَن يتَمَيَّز بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل، فَكيف يجوز تَأْخِير الْبَيَان مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِ مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف؟ أُجِيب: بِأَن الْبَيَان كَانَ مَوْجُودا فِيهِ، لَكِن على وَجه لَا يُدْرِكهُ جَمِيع النَّاس، وَإِنَّمَا كَانَ على وَجه يخْتَص بِهِ أَكْثَرهم أَو بَعضهم، وَلَيْسَ يلْزم أَن يكون الْبَيَان مكشوفا فِي دَرَجَة يطلع عَلَيْهَا كل أحد، أَلا ترى أَنه لم يَقع فِيهِ إلاَّ عدي وَحده، وَيُقَال: كَانَ اسْتِعْمَال الْخَيْطَيْنِ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار شَائِعا غير مُحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَكَانَ ذَلِك إسما لسواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار فِي الْجَاهِلِيَّة قبل الْإِسْلَام، قَالَ أَبُو دَاوُد الْإِيَادِي:
(وَلما أَضَاءَت لنا ظلمَة ... ولاح لنا الصُّبْح خيطا أنارا)
فَاشْتَبَهَ على بَعضهم فَحَمَلُوهُ على العقالين، وَقَالَ النَّوَوِيّ: فعل ذَلِك من لم يكن ملازما لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من الْأَعْرَاب، وَمن لَا فقه عِنْده أَو لم يكن من لغته اسْتِعْمَالهَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . من بَاب الِاسْتِعَارَة أم من بَاب التَّشْبِيه؟ أُجِيب: بِأَن قَوْله: {من الْفجْر} أخرجه من بَاب الِاسْتِعَارَة، وَقد نقلنا هَذَا عَن الزَّمَخْشَرِيّ فِي أَوَائِل الْبَاب.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الِاسْتِعَارَة أبلغ فَلِمَ عَدل إِلَى التَّشْبِيه؟ أُجِيب: بِأَن التَّشْبِيه الْكَامِل أولى من الِاسْتِعَارَة النَّاقِصَة، وَهِي نَاقِصَة لفَوَات شَرط حسنها، وَهُوَ أَن يكون التَّشْبِيه بَين الْمُسْتَعَار لَهُ والمستعار مِنْهُ جليا بِنَفسِهِ مَعْرُوفا بَين سَائِر الأقوام، وَهَذَا قد كَانَ مشتبها على بَعضهم.
7191 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي حازِمٍ عنْ أبِيهِ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ ح قَالَ حدَّثني سعَيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حدَّثني أبُو حازِمٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ أُنْزِلَتْ {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يتبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ} (الْبَقَرَة: 781) . ولَمْ يَنْزِلْ مِنَ الفَجْرِ فَكانَ رِجالٌ إذَا أرَادُوا الصَّوْمَ ربَطَ أحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الخَيْطَ الأبْيَضَ والخَيْطَ الأسْوَدَ ولَمْ يَزَلْ يأكُلُ حَتَّى يتَبَيَّنَ لَهُ رُؤيَتُهُمَا فأنْزَلَ الله بَعْدُ مِنَ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ والنَّهَارَ.
(الحَدِيث 7191 طرفه فِي: 1154) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد الحكم بن(10/294)
أبي مَرْيَم الجُمَحِي. الثَّانِي: ابْن أبي حَازِم عبد الْعَزِيز. الثَّالِث: أَبوهُ أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سَلمَة بن دِينَار. الرَّابِع: أَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: واسْمه مُحَمَّد بن طريف. الْخَامِس: سهل ابْن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية مدنيون. وَفِيه: أَن فِي الطَّرِيق الأول روى عَن شَيْخه بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع، وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي عَنهُ أَيْضا بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن شَيْخه يروي عَن شيخين أَحدهمَا ابْن أبي حَازِم، وَالْآخر أَبُو غَسَّان، وَفِي التَّفْسِير عَن أبي غَسَّان وَحده، وَاللَّفْظ لأبي غَسَّان، وَكَذَا أخرجه مُسلم وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو عوَانَة والطَّحَاوِي فِي آخَرين من طَرِيق سعيد شيخ البُخَارِيّ عَن أبي غَسَّان وَحده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن سعيد بن أبي مَرْيَم: وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَمُحَمّد بن سهل بن عَسْكَر، كِلَاهُمَا عَن سعيد بن أبي مَرْيَم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي بكر بن إِسْحَاق بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ربط أحدهم فِي رجلَيْهِ) ، قلت: فِي مُسلم: (جعل الرجل يَأْخُذ خيطا أَبيض وخيطا أسود فيضعهما تَحت وسادته وَينظر مَتى يَسْتَبِينَا) . قلت: لَا مُنَافَاة لاحْتِمَال أَن يكون بَعضهم فعل هَذَا وَبَعْضهمْ فعل هَذَا، وَقَالَ بَعضهم: أَو يَكُونُوا يجعلونهما تَحت الوسادة إِلَى السحر فيربطونهما حِينَئِذٍ فِي أَرجُلهم ليشاهدوهما. انْتهى. قلت: هَذَا بعيد، لِأَنَّهُ لَا حَاجَة حِينَئِذٍ إِلَى الرَّبْط فِي أَرجُلهم، لأَنهم فِي يقظة حِينَئِذٍ لِأَن الْمُشَاهدَة لَا تكون إلاَّ عَن يقظان، فَلَا يحْتَاج إِلَى الرَّبْط فِي الرجل، فَفِي أَي: مَوضِع كَانَ تحصل الْمُشَاهدَة؟ قَوْله: (حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ) ، كَذَا هُوَ بِالتَّشْدِيدِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حَتَّى يستبين) ، من الإستبانة، وَذَلِكَ من التبين من: بَاب التفعل، وَذَاكَ من بَاب الاستفعال. قَوْله: (رُؤْيَتهمَا) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْهمزَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ من: رأى بِالْعينِ، يُقَال: رأى رَأيا ورؤية وراءة، مثل راعة فيتعدى إِلَى مفعول وَاحِد، وَإِذا كَانَ بِمَعْنى الْعلم يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، يُقَال: رأى زيدا عَالما، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ مَرْفُوع، لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله {حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ} (الْبَقَرَة: 781) . وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: رأيهما، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْهمزَة وَضم الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمَعْنَاهُ: منظرهما، وَمِنْه: قَوْله تَعَالَى: {أحسن أثاثا ورءيا} (مَرْيَم: 47) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: زيهما، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الْيَاء بِلَا همز وَمَعْنَاهُ: لونهما، ويروى: (رئيهما) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا وَكسر الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ عِيَاض: هَذَا غلط لِأَن الرئي التَّابِع من الْجِنّ، فَلَا معنى لَهُ هَهُنَا، فَإِن صحت بِهِ الرِّوَايَة فَيكون مَعْنَاهُ: مرئيهما. قَوْله: (فَأنْزل الله بعد) ، بِضَم الدَّال أَي: بعد نزُول: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع على هَذَا بَين حَدِيث عدي وَحَدِيث سهل هَذَا؟ قلت: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَصح الْجمع بِأَن يكون حَدِيث عدي مُتَأَخِّرًا عَن حَدِيث سهل، وَأَن عديا لم يسمع مَا جرى فِي حَدِيث سهل، وَإِنَّمَا سمع الْآيَة مُجَرّدَة، وعَلى هَذَا فَيكون: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . مُتَعَلقا بقوله: {يتَبَيَّن} (الْبَقَرَة: 781) . وعَلى مُقْتَضى حَدِيث سهل يكون فِي مَوضِع الْحَال مُتَعَلقا بِمَحْذُوف: قَالَ، وَيحْتَمل أَن يكون الحديثان قَضِيَّة وَاحِدَة. وَذكر بعض الروَاة {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . مُتَّصِلا بِمَا قبله، كَمَا ثَبت فِي الْقُرْآن الْعَزِيز، وَإِن كَانَ قد نزل مُنْفَردا، كَمَا بَينه فِي حَدِيث سهل، وَحَدِيث سهل يَقْتَضِي أَن يكون مُنْفَردا، وَذَاكَ أَن فرض الصّيام كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة بِلَا خلاف. وَقَالَ سهل فِي حَدِيثه: كَانَ رجال. . إِلَى قَوْله: {وَالْخَيْط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . ثمَّ أنزل: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . فَدلَّ هَذَا على أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَفْعَلُونَ هَذَا إِلَى أَن أسلم عدي فِي السّنة التَّاسِعَة، وَقيل الْعَاشِرَة، حَتَّى أخبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار. قَوْله: (فَأنْزل الله بعد ذَلِك {من الْفجْر} ) روى أَنه كَانَ بَينهمَا عَام، قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا كَانَ حكم هَذِه الْآيَة قد أشكل على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بيّن الله لَهُم من ذَلِك مَا بَين، وَحَتَّى أنزل: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . بَعْدَمَا كَانَ قد أنزل الله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} (الْبَقَرَة: 781) . فَكَانَ الحكم أَن يَأْكُلُوا ويشربوا حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم، حَتَّى نسخ الله عز وَجل بقوله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . على مَا ذكرنَا، وَقد بَينه سهل فِي حَدِيثه، انْتهى. وَقَالَ عِيَاض: وَلَيْسَ المُرَاد أَن هَذَا كَانَ حكم الشَّرْع أَولا ثمَّ نسخ بقوله: {من الْفجْر} (الْبَقَرَة: 781) . كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ(10/295)
الطَّحَاوِيّ والداودي، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن ذَلِك فعله وتأوله من لم يكن مخالطا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا هُوَ من الْأَعْرَاب وَمن لَا فقه عِنْده، أَو لم يكن من لغته اسْتِعْمَال الْخَيط فِي اللَّيْل وَالنَّهَار. انْتهى. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن ذَلِك كَانَ اسْما لسواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار فِي الْجَاهِلِيَّة قبل الْإِسْلَام، وَعَن هَذَا قَالَ الدَّاودِيّ: أَحسب أَن الْمَحْفُوظ حَدِيث عدي، لِأَن الله لَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ، وَإِن يكن حَدِيث سهل مَحْفُوظًا فَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي فرض عَلَيْهِم ثمَّ نسخ بِالْفَجْرِ.
71 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ آذَانُ بِلاَلٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. قَوْله: (لَا يمنعنَّكم) ، بنُون التَّأْكِيد فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لَا يمنعْكم) بِسُكُون الْعين من غير نون التَّأْكِيد، والسحور، بِفَتْح السِّين: اسْم مَا يتسحر بِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب، وبالضم الْمصدر، وَالْفِعْل نَفسه، وَأكْثر مَا يرْوى بِالْفَتْح، وَقيل: إِن الصَّوَاب بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ بِالْفَتْح الطَّعَام وَالْبركَة وَالْأَجْر وَالثَّوَاب فِي الْفِعْل لَا فِي الطَّعَام.
8191 - حدّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ عنْ أبي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ والْقَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ بِلاَلاً كانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقال رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فإنَّهُ لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ..
قَالَ الْقاسِمُ ولَمْ يَكنْ بَيْنَ أذَانِهِمَا إلاَّ أنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا. (انْظُر الحَدِيث 226) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَعْنَاهُ وَمعنى التَّرْجَمَة وَاحِد، وَإِن اخْتلف اللَّفْظ. وَقَالَ ابْن بطال: وَلم يَصح عِنْد البُخَارِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفظ التَّرْجَمَة، فاستخرج مَعْنَاهُ من حَدِيث عَائِشَة، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ نظر من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ صَحَّ عِنْده لفظ التَّرْجَمَة، وَذَلِكَ أَنه ذكر فِي: بَاب الآذان قبل الْفجْر حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَا يمنعن أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم آذان بِلَال من سحوره) ، فَلَو خرجه أَبُو عبد الله فِي هَذَا الْبَاب لَكَانَ أمس، وَقَالَ ابْن بطال: وَلَفظ التَّرْجَمَة رَوَاهُ وَكِيع عَن أبي هِلَال عَن سوَادَة بن حَنْظَلَة عَن سَمُرَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمنعكم من سحوركم آذان بِلَال وَلَا الْفجْر المستطيل، وَلَكِن الْفجْر المستطير فِي الْأُفق) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن، وَقد مضى فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب الآذان قبل الْفجْر؛ عَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى عَن عبيد الله بن عمر عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل: اسْمه فِي الأَصْل عبد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، مر فِي الْحيض عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
قَوْله: (وَالقَاسِم) ، بِالْجَرِّ عطف على نَافِع لَا على ابْن عمر، لِأَن عبيد الله بن عمر رَوَاهُ عَن نَافِع عَن ابْن عَمْرو عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَالْحَاصِل أَن لِعبيد الله هُنَا شَيْخَانِ يروي عَنْهُمَا، وهما نَافِع وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَقَالَ ابْن التِّين: وَأَخْطَأ من ضَبطه بِالرَّفْع. قَوْله: (حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) ، هُوَ عَمْرو بن الْقَيْس العامري، وَقيل: غير ذَلِك، وَقد مر فِيمَا مضى، وَأم مَكْتُوم اسْمهَا عَاتِكَة بنت عبد الله. قَوْله: (إلاَّ أَن يرقى) ، بِفَتْح الْقَاف، أَي: يصعد. يُقَال: رقى يرقى رقياً من بَاب: علم يعلم. قَوْله: (وَينزل) ؛ بِالنّصب أَي: وَأَن ينزل، وَكلمَة، أَن، مَصْدَرِيَّة، وَكلمَة: ذَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية. وَقَالَ الْمُهلب: وَالَّذِي يفهم من اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث أَن بِلَالًا كَانَت رتبته أَن يُؤذن بلَيْل على أمره بِهِ الشَّارِع من الْوَقْت ليرْجع الْقَائِم وينبه النَّائِم وليدرك السّحُور مِنْهُم من لم يتسحر، وَقد روى هَذَا كُله ابْن مَسْعُود عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانُوا يتسحرون بعد آذانه وَفِيه قريب أَذَان ابْن أم مَكْتُوم من آذان بِلَال. وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: (لم يكن بَين أذانيهما)
إِلَى آخِره، وَقد قيل لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت، دَلِيل على أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَ يُرَاعِي قرب طُلُوع الْفجْر أَو طلوعه، لِأَنَّهُ لم يكن يَكْتَفِي بآذان بِلَال فِي علم الْوَقْت، لِأَن بِلَالًا فِيمَا يدل عَلَيْهِ(10/296)
الحَدِيث كَانَ تخْتَلف أوقاته، وَإِنَّمَا حكى من قَالَ: ينزل ذَا ويرقى ذَا، مَا شَاهد فِي بعض الْأَوْقَات، وَلَو كَانَ فعله لَا يخْتَلف لَا كتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يقل: (فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) ، ولقال إِذا فرغ بِلَال فكفوا وَلكنه جعل أول أَذَان ابْن أم مَكْتُوم عَلامَة للكف، وَيحْتَمل أَن لِابْنِ أم مَكْتُوم من يُرَاعِي الْوَقْت، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ رُبمَا خَفِي عَنهُ الْوَقْت، وَيبين ذَلِك مَا روى ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب (عَن سَالم، قَالَ: كَانَ ابْن أم مَكْتُوم ضَرِير الْبَصَر، وَلم يكن يُؤذن حَتَّى يَقُول لَهُ النَّاس حِين ينظرُونَ إِلَى بزوغ الْفجْر: إذِّن) . وقدروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أنيسَة، وَكَانَت حجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أَنَّهَا قَالَت: كَانَ إِذا نزل وَأَرَادَ أَن يصعد ابْن أم مَكْتُوم تعلقوا بِهِ، قَالُوا: كَمَا أَنْت حَتَّى نتسحر، وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: هَذَا الحَدِيث فِيهِ صعوبة، وَكَيف لَا يكون بَين آذانيهما، إلاَّ ذَلِك، وَهَذَا يُؤذن بلَيْل وَهَذَا بعد الْفجْر، فَإِن صَحَّ أَن بِلَالًا كَانَ يُصَلِّي وَيذكر الله فِي الْموضع الَّذِي هُوَ بِهِ حِين يسمع مَجِيء ابْن أم مَكْتُوم، وَهَذَا لَيْسَ يبين لِأَنَّهُ قَالَ: (لم يكن بَين آذانيهما إِلَّا أَن يرقى ذَا وَينزل ذَا) ، فَإِذا أَبْطَأَ بعد الآذان لصَلَاة وَذكر لم يقل ذَلِك، وَإِنَّمَا يُقَال: لما نزل هَذَا طلع هَذَا، وَقَالَ الدَّاودِيّ: فعلى هَذَا كَانَ فِي وَقت تَأَخّر بِلَال، بآذانه فشهده الْقَاسِم، فَظن أَن ذَلِك عَادَتهمَا، قَالَ: وَلَيْسَ بمنكر أَن يَأْكُلُوا حَتَّى يَأْخُذ الآخر فِي آذانه، وَجَاء أَنه كَانَ لَا يُنَادي حَتَّى يُقَال لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت، أَي: دخلت فِي الصَّباح، أَو قاربته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَوْله: فشهده الْقَاسِم، غلط فَتَأَمّله. قلت: لِأَن قاسماً لم يدْرك هَذَا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الْبَاب أَن الصَّائِم لَهُ أَن يَأْكُل وَيشْرب إل طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، فَإِذا طلع الْفجْر الصَّادِق كف، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَذهب معمر وَسليمَان الْأَعْمَش وَأَبُو مجلز وَالْحكم بن عتيبة: إِلَى جَوَاز التسحر مَا لم تطلع الشَّمْس، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث حُذَيْفَة، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة زر بن حُبَيْش، قَالَ: (تسحرت ثمَّ انْطَلَقت إِلَى الْمَسْجِد فمررت بمنزل حُذَيْفَة فَدخلت عَلَيْهِ فَأمر بلقحة فحلبت، وبقدر فسخنت، ثمَّ قَالَ: كل، فَقلت: إِنِّي أُرِيد الصَّوْم، فَقَالَ: وَأَنا أُرِيد الصَّوْم. قَالَ: فأكلنا وشربنا ثمَّ أَتَيْنَا الْمَسْجِد فأقيمت الصَّلَاة. قَالَ: هَكَذَا فعل بِي رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أَو: صنعت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: بعد الصُّبْح؟ قَالَ: بعد الصُّبْح، غير أَن الشَّمْس لم تطلع) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَأحمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ ابْن حزم عَن الْحسن: كل مَا امتريت، وَعَن ابْن جريج: قلت: لعطاء: أيكره أَن أشْرب وَأَنا فِي الْبَيْت لَا أَدْرِي لعَلي أَصبَحت؟ قَالَ: لَا بَأْس بذلك، هُوَ شكّ، وَقَالَ ابْن شيبَة: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم، قَالَ: لم يَكُونُوا يعدون الْفجْر فجركم إِنَّمَا كَانُوا يعدون الْفجْر الَّذِي يمْلَأ الْبيُوت والطرق. وَعَن معمر: أَنه كَانَ يُؤَخر السّحُور جدا حَتَّى يَقُول الْجَاهِل: لَا صَوْم لَهُ. وروى سعيد بن مَنْصُور وَابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر، من طرق: عَن أبي بكر أَنه أَمر بغلق الْبَاب حَتَّى لَا يرى الْفجْر، وروى ابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه صلى الصُّبْح، ثمَّ قَالَ: الْآن حِين يتَبَيَّن الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ذهب بَعضهم إِلَى أَن المُرَاد بتبين بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل أَن ينتشر الْبيَاض من الطّرق والسكك والبيوت، وروى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ وَله صُحْبَة، أَن أَبَا بكر، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ لَهُ: أخرج فَانْظُر هَل طلع الْفجْر؟ قَالَ: فَنَظَرت ثمَّ أَتَيْته فَقلت: قد ابيَّض وسطع، ثمَّ قَالَ: أخرج فَانْظُر هَل طلع؟ فَنَظَرت فَقلت: قد اعْترض. فَقَالَ: الْآن أبلغني شرابي. وروى من طَرِيق وَكِيع عَن الْأَعْمَش أَنه قَالَ: لَوْلَا الشُّهْرَة لصليت الْغَدَاة ثمَّ تسحرت، وروى التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا هناد حَدثنَا ملازم بن عمر وحَدثني عبيد الله بن النُّعْمَان عَن قيس بن طلق بن عَليّ حَدثنِي أبي طلق بن عَليّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا يهيدنكم الساطع المصعد، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يعْتَرض لكم الْأَحْمَر) . قَوْله: (لَا يهيدنكم) أَي: يمنعنكم الْأكل من هاد، يهيد، وأصل: الهيد، الزّجر. قَوْله: (الساطع المصعد) ، قَالَ الْخطابِيّ: سطوعه ارتفاعه مصعداً قبل أَن يعْتَرض. قَالَ: وَمعنى الْأَحْمَر هَهُنَا أَن يستبطن الْبيَاض الْمُعْتَرض أَوَائِل حمرَة، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.(10/297)
81 - (بابُ تأخِيرِ السُّحُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَأْخِير السّحُور إِلَى قرب طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، وَفِي كثير من النّسخ: بَاب تَعْجِيل السّحُور، أَي: الْإِسْرَاع خوفًا من طُلُوع الْفجْر فِي أول الشُّرُوع، وَقَالَ ابْن بطال: وَلَو ترْجم لَهُ: بَاب تَأْخِير السّحُور لَكَانَ حسنا. وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح: وَكَأَنَّهُ لم يَرَ مَا فِي نُسْخَة أُخْرَى صَحِيحَة من كتاب (الصَّحِيح) : بَاب تَأْخِير السّحُور، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر فِي شَيْء من نسخ البُخَارِيّ. قلت: لَيْت شعري هَل أحَاط هُوَ بِجَمِيعِ نسخ البُخَارِيّ فِي أَيدي النَّاس وَفِي الْبِلَاد؟ وَعدم رُؤْيَته ذَلِك لَا يسْتَلْزم الْعَدَم.
0291 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله قَالَ حَدثنَا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي حَازِمٍ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ كُنْتُ أتَسَحَّرُ فِي أهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(انْظُر الحَدِيث 775) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ تَأْخِير السّحُور بِحَيْثُ أَن سهلاً كَانَ يسْرع بعد تسحره إِلَى الصَّلَاة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخَافَة الْفَوات، وَأما الْمُطَابقَة فِي نُسْخَة: بَاب تَعْجِيل السّحُور، فأظهر من ذَلِك.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَقد أخرجه فِي: بَاب وَقت الْفجْر: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه عَن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم أَنه سمع سهل بن سعد إِلَى آخِره وَهَهُنَا أخرجه عَن مُحَمَّد بن عبيد الله أبي ثَابت الْمدنِي من كبار مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، وَأَبُو حَازِم اسْمه سَلمَة بن دِينَار، قَوْله: (ثمَّ تكون سرعتي) أَي: اتسرع لِأَن أدْرك السّحُور، أَي: الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال: (ثمَّ تكون سرعَة بِي) ؛ وَتَكون تَامَّة، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (أَن أدْرك السّحُور) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي وَفِي رِوَايَة الْجُمْهُور: (أَن أدْرك السُّجُود) ، وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي الرِّوَايَة الَّتِي مَضَت فِي الْمَوَاقِيت: (أَن أدْرك صَلَاة الْفجْر) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (صَلَاة الصُّبْح) ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (صَلَاة الْغَدَاة) ، وَقَالَ الْمزي: أخرج البُخَارِيّ حَدِيث، (كنت أتسحر فِي الصَّوْم) عَن مُحَمَّد بن عبيد الله وقتيبة، كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، وَحَدِيث قُتَيْبَة ذكره خلف وَلم يجده فِي (الصَّحِيح) وَلَا ذكره أَبُو مَسْعُود. وَقَالَ بَعضهم: رَأَيْت هُنَا بِخَط القطب ومغلطاي مُحَمَّد بن عبيد بِغَيْر إِضَافَة، وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب: عبيد الله. قلت: لَيْسَ فِي الْأَدَب أَن يُقَال إِنَّه غلط، لِأَن الظَّاهِر أَن مغلطاي تبع القطب، وَيحْتَمل أَن تكون لَفْظَة: الله، سَاقِطَة من نُسْخَة القطب لسهو الْكَاتِب.
91 - (بابُ قَدْرِكَمْ بَيْنَ السُّحُور وصَلاَةِ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مِقْدَار الزَّمَان الَّذِي بَين السّحُور وَصَلَاة الصُّبْح.
1291 - حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قَالَ حَدثنَا قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ عنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ تَسَحَّرْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قامَ إلَى الصَّلاَةِ قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَ الآذَنِ والسُّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً.
(انْظُر الحَدِيث 575) [/ ح.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ تَأْخِير السّحُور إِلَى أَن يبْقى من الْوَقْت بَين الآذان وَأكل السّحُور مِقْدَار قِرَاءَة خمسين آيَة، وَأما الْمُطَابقَة فِي نُسْخَة: بَاب تَعْجِيل السّحُور، فَمن حيثءِ يدل على أَنهم كَانُوا يستعجلون بِهِ حَتَّى يبْقى بَينهم وَبَين الْفجْر الْمِقْدَار الْمَذْكُور، وَلَا يقدمونه أَكثر من الْمِقْدَار الْمَذْكُور. والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب وَقت الْفجْر فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَمْرو بن عَاصِم عَن همام عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن زيد بن ثَابت(10/298)
حَدثهُ ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام الدستوَائي إِلَى آخِره. وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
قَوْله: (قلت) ، الْقَائِل هُوَ أنس الَّذِي سَالَ والمسؤول عَنهُ هُوَ زيد بن ثَابت، وَقَالَ بَعضهم: قلت: مقول أنس. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ قَوْله، وَالْمقول هُوَ قَوْله: (كم كَانَ بَين الْأَذَان والسحور) . قَوْله: (قَالَ) ، أَي: زيد بن ثَابت. قَوْله: (قدر خمسين آيَة) أَي: مِقْدَار قِرَاءَة خمسين آيَة، وَقَالَ بَعضهم: (قدر خمسين آيَة) ، أَي متوسطة لَا طَوِيلَة وَلَا قَصِيرَة وَلَا سريعة وَلَا بطيئة. قلت: هَذَا بطرِيق الحدس والتخمين، وَهُوَ أَعم من تَقْيِيده بِهَذِهِ الْقُيُود، وَأَيْضًا السرعة والبطء من صِفَات القارىء لَا من صِفَات الْآيَة، وَيجوز فِي قَوْله: (قدر) الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ قدر خمسين آيَة، يَعْنِي: الزَّمَان الَّذِي بَين الْأَذَان والسحور، وَأما النصب فعلى أَنه خبر: كَانَ الْمُقدر، تَقْدِيره: كَانَ الزَّمَان بَينهمَا قدر خمسين آيَة. وَقَالَ الْمُهلب: فِيهِ تَقْدِير الْأَوْقَات بأعمال الْبدن، وَكَانَت الْعَرَب تقدر الْأَوْقَات بِالْأَعْمَالِ، كَقَوْلِهِم: قدر حلب شَاة، وَقدر نحر جزور، فَعدل زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن ذَلِك إِلَى التَّقْدِير بِالْقِرَاءَةِ إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك الْوَقْت كَانَ وَقت الْعِبَادَة بالتلاوة.
وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن أوقاتهم كَانَت مستغرقة بِالْعبَادَة. وَفِيه: تَأْخِير السّحُور لكَونه أبلغ فِي الْمَقْصُود، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينظر إِلَى مَا هُوَ أرْفق بأمته. وَفِيه: الِاجْتِمَاع على السّحُور. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز الْمَشْي بِاللَّيْلِ للْحَاجة، لِأَن زيد بن ثَابت مَا كَانَ يبيت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَا نسلم نفي بيتوته مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي تسحر فِيهَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يبيت مَعَه كل لَيْلَة، وَقَالَ أَيْضا هَذَا الْقَائِل. وَفِيه: حسن الْأَدَب فِي الْعبارَة لقَوْله: (تسحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلم يقل: نَحن وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما يشْعر لفظ الْمَعِيَّة بالتبعية. قلت: كلمة: مَعَ، مَوْضُوعَة للمصاحبة، وإشعارها بالتبعية لَيْسَ من مَوْضُوع الْكَلِمَة، وَمعنى قَوْله: (تسحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي صحبته، وَقَوله: (تسحرنا) بدل على أَنه لم يكن وَحده مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ اللَّيْلَة. فَإِن قلت: الحَدِيث يدل على أَن الْفَرَاغ من السّحُور كَانَ قبل الْفجْر بِمِقْدَار قِرَاءَة خمسين آيَة، وَقد مر فِي حَدِيث حُذَيْفَة: أَن تسحرهم كَانَ بعدالصبح، غير أَن الشَّمْس لم تطلع؟ . قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن لَا مُعَارضَة، بل يحمل على اخْتِلَاف الْحَال، فَلَيْسَ فِي رِوَايَة وَاحِد مِنْهُمَا مَا يشْعر بالمواظبة انْتهى. قلت: هَذَا الْجَواب لَا يشفي العليل لَا يروي الغليل، بل الْجَواب الْقَاطِع مَا ذكره الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ بقوله، بعد أَن روى حَدِيث حُذَيْفَة: وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف مَا رُوِيَ عَن حُذَيْفَة، فَذكر الْأَحَادِيث الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا. مِنْهَا: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال. .) الحَدِيث، وَقَالَ أَيْضا: وَقد يحْتَمل أَن يكون حَدِيث حُذَيْفَة وَالله أعلم قيل نزُول قَوْله تَعَالَى: {} (الْبَقَرَة: 781) الْآيَة. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ مَا ملخصه: لَا يثبت ذَلِك من حُذَيْفَة، وَمَعَ ذَلِك من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يجوز الِاعْتِرَاض على الْقُرْآن، قَالَ الله تَعَالَى: {} (الْبَقَرَة: 781) فَأوجب الصّيام بِظُهُور الْخَيط الْأَبْيَض الَّذِي هُوَ بَيَاض الْفجْر، فَكيف يجوز التسحر الَّذِي هُوَ الْأكل بعد هَذَا مَعَ تَحْرِيم الله إِيَّاه بِالْقُرْآنِ؟ .
02 - (بابُ بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إيْجَابٍ لأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحابَهُ واصَلُوا ولَمْ يُذْكَرِ السُّحُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان بركَة السّحُور، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور بركَة) أخرجه الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (من غير إِيجَاب) جملَة فِي مجل النصب على الْحَال، لِأَن الْجُمْلَة إِذا وَقعت بعد النكرَة تكون صفة، وَإِذا وَقعت بعد الْحَال تكون حَالا، وَالْمعْنَى من غير أَن يكون وَاجِبا، ثمَّ علل لعدم الْوُجُوب بقوله: لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه واصلوا فِي صومهم وَلم يذكر فِيهِ السّحُور، وَلَو كَانَ السّحُور وَاجِبا لذكر فِيهِ، وَقَوله: لم يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (السّحُور) ، بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والنسفي وَلم يذكر: (سحور) بِدُونِ اللَّام. فَإِن قلت: قَوْله: (تسحرُوا) أَمر وَمُقْتَضَاهُ الْوُجُوب؟ قلت:(10/299)
أُجِيب بِأَنَّهُ أَمر ندب بِالْإِجْمَاع، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أجمع الْفُقَهَاء على أَن السّحُور مَنْدُوب إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِب، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن الْأَمر الَّذِي مُقْتَضَاهُ الْوُجُوب هُوَ الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن، وَهَهُنَا قرينَة تدفع الْوُجُوب، وَهُوَ أَن السّحُور إِنَّمَا هُوَ أكل للشهوة وَحفظ الْقُوَّة، وَهُوَ مَنْفَعَة لنا، فَلَو قُلْنَا بِالْوُجُوب يَنْقَلِب علينا، وَهُوَ مَرْدُود، وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذِه التَّرْجَمَة غَفلَة من البُخَارِيّ لِأَن قد خرج بعد هَذَا حَدِيث أبي سعيد: (أَيّكُم أَرَادَ أَن يواصل فليواصل إِلَى السحر) ، فَجعل غَايَة الْوِصَال السحر، وَهُوَ وَقت السّحُور قَالَ: والمفسر يقْضِي على الْمُجْمل. انْتهى. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ لم يترجم على عدم مَشْرُوعِيَّة السّحُور، وَإِنَّمَا ترْجم على عدم إِيجَابه، وَأخذ من الْوِصَال عدم وجوب السّحُور.
2291 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حَدثنَا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَنَاهُمْ قالُوا إنَّكَ توَاصِلُ قَالَ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أظَلُّ أُطْعَمُ واسْقَى.
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه واصلوا) .
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة وَهُوَ جوَيْرِية بن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي الْبَصْرِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن عمر.
وَأخرجه مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْوِصَال، قَالُوا: إِنَّك تواصل! قَالَ: إِنِّي لست كهيئتكم، إِنِّي أطْعم وأسقى) .
قَوْله: (وَاصل) ، أَي: بَين الصومين فِي غير إفطار بِاللَّيْلِ، وواصل النَّاس، أَيْضا تبعا لَهُ، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. قَوْله: (فشق عَلَيْهِم) أَي: فشق الْوِصَال على النَّاس لمَشَقَّة الْجُوع والعطش. قَوْله: (فنهاهم) أَي: عَن الْوِصَال لما رأى مشقتهم. قَوْله: (إِنَّك مواصل) ، ويروى: (فَإنَّك تواصل) . قَوْله: (لست كهيئتكم) أَي: لسي حَالي مثل حالكم، وَيُقَال: لفظ الْهَيْئَة زَائِد، أَي: لست كأحدكم. قَوْله: (أظل) ، بِفَتْح الْهمزَة والظاء الْمُعْجَمَة من ظلّ يظل، يُقَال: ظللت أعمل كَذَا بِالْكَسْرِ ظلولاً إِذا عملته بِالنَّهَارِ دون اللَّيْل. فَإِن قلت: إِذا كَانَ لفظ ظلّ لَا يكون إلاَّ بِالنَّهَارِ، فَكيف يكون الْمَعْنى هُنَا؟ قلت: قد جَاءَ ظلّ أَيْضا بِمَعْنى صَار، قَالَ تَعَالَى: {} (النَّحْل: 85) وَيجوز أَيْضا إِرَادَة الْوَقْت الْمُطلق لَا الْمُقَيد بِالنَّهَارِ، وَيُؤَيِّدهُ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لفظ: (أَبيت أطْعم وأسقى) ، وَيجوز أَن يكون: ظلّ، على بَابه، وَيكون الْمَعْنى: (أظل أطْعم وأسقى) لَا على صُورَة طَعَامكُمْ وسقيكم، لِأَن الله تَعَالَى يفِيض عَلَيْهِ مَا يسد مسد طَعَامه وَشَرَابه من حَيْثُ إِنَّه يشْغلهُ عَن إحساس الْجُوع والعطش، ويقويه على الطَّاعَة، ويحرسه عَن تَحْلِيل يُفْضِي إِلَى ضعف الْقوي وكلال الْحَواس.
فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يكون الْمَعْنى على ظَاهره بِأَن يرزقه طَعَاما وَشَرَابًا من الْجنَّة؟ قلت: قد قيل ذَلِك، وَلَا مَانع مِنْهُ لِأَنَّهُ أكْرم على الله من ذَلِك. فَإِن قلت: لَو كَانَ الْمَعْنى على حَقِيقَته لم يكن مواصلاً. قلت: طَعَام الْجنَّة وشرابها لَيْسَ كطعام الدُّنْيَا وشرابها، فَلَا يقطع الْوِصَال. وَقيل: هُوَ من خَصَائِصه لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد من الْأمة فَإِن قلت: مَا حِكْمَة النَّهْي فِيهِ؟ قلت: إيراث الضعْف وَالْعجز عَن الْمُوَاظبَة على كثير من وظائف الطَّاعَات وَالْقِيَام بحقوقها، وللعلماء فِيهِ اخْتِلَاف فِي أَنه نهى تَحْرِيم أَو تَنْزِيه، وَالظَّاهِر الأول. فَإِن قلت: هَل هُوَ نهي عَن عبَادَة فِي حق من أطاقها وحرص عَلَيْهَا؟ قلت: لَا، لِأَنَّهُ كَانَ خوفًا أَن يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الْمُنَازعَة، لِأَنَّهُ كَانَ من خَصَائِصه، كَمَا قَالَ بَعضهم: فَإِن قلت: جَاءَ الْوِصَال عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم، فَفِي كتاب (الْأَوَائِل) للعسكري: كَانَ ابْن الزبير يواصل خَمْسَة عشر يَوْمًا حَتَّى تيبس أمعاؤه، فَإِذا كَانَ يَوْم فطره أَتَى بِسمن وصبر فيحساه حَتَّى لَا تنفتق الأمعاء، وَعَن عَامر بن عبد الله بن الزبير أَنه كَانَ يواصل لَيْلَة سِتّ عشرَة، وَلَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان لَا يفرق بَينهمَا، وَيفْطر على السّمن، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: السّمن يبل عروقي، وَالْمَاء يخرج من جَسَدِي. قلت: قَالَ ابْن عبد الْبر: أجمع الْعلمَاء على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْوِصَال، وَاخْتلفُوا فِي تَأْوِيله، فَقيل: نهى عَنهُ رفقا بهم، فَمن قدر على الْوِصَال فَلَا حرج عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لله، عز وَجل، يدع طَعَامه وَشَرَابه، وَكَانَ عبد الله بن الزبير وَجَمَاعَة يواصلون الْأَيَّام، وَكَانَ أَحْمد وَإِسْحَاق لَا يكرهان الْوِصَال من سحر إِلَى سحرلا غير، وَكره(10/300)
أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَجَمَاعَة من أهل الْفِقْه والأثر الْوِصَال على كل حَال لمن قوي عَلَيْهِ وَلغيره، وَلم يجيزوا الْوِصَال لأحد لحَدِيث الْبَاب. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْوِصَال من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحظور على أمته، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيمه. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : مَكْرُوه كَرَاهَة تَحْرِيم، وَقيل: كَرَاهَة تَنْزِيه، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَرُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة وَغَيرهم من تَرْكِهم الْأكل الْأَيَّام ذَوَات الْعدَد، وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم على أنحاء شَتَّى، فَمنهمْ من كَانَ ذَلِك مِنْهُ لقدرته عَلَيْهِ فَيصْرف فطره إِلَى أهل الْفقر وَالْحَاجة، وَمِنْهُم من كَانَ يَفْعَله اسْتغْنَاء عَنهُ أَو كَانَت نَفسه قد اعتادته، كَمَا روى الْأَعْمَش عَن التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: ربم ألبث ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَا أطْعم من غير صَوْم، وَمَا يَمْنعنِي ذَلِك من حوائجي، وَقَالَ الْأَعْمَش: كَانَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يمْكث شَهْرَيْن لَا يَأْكُل، وَلكنه يشرب شربة من نَبِيذ، وَمِنْهُم من كَانَ يَفْعَله منعا لنَفسِهِ شهوتها مَا لم تَدعه إِلَيْهِ الضَّرُورَة، وَلَا يخَاف الْعَجز عَن أَدَاء وَاجِب عَلَيْهِ إِرَادَة قهرها وَحملهَا على الْأَفْضَل.
3291 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسَحَّرُوا فإنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ورجاهل قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَابْن ماجة عَن أَحْمد بن عُبَيْدَة. وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله وَابْن عَبَّاس وَعَمْرو بن الْعَاصِ والعرباض بن سَارِيَة وَعتبَة بن عبد وَأبي الدَّرْدَاء. قلت: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَأبي أُمَامَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ والمقدام بن معدي كرب وَعَائِشَة وميسرة الْفجْر وَرجل آخر غير مُسَمّى.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ مَرْفُوعا وموقوفاً بِلَفْظ حَدِيث أنس، وروى أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِالْبركَةِ فِي السّحُور والثريد) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ، قَالَ: (السّحُور بركَة والثريد بركَة وَالْجَمَاعَة بركَة) . وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا مَرْفُوعا وموقوفاً، وَقَالَ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، قَالَ شَيخنَا: هَكَذَا حَكَاهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَلم أره فِي (السّنَن الصُّغْرَى) وَلَا (الْكُبْرَى) . وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدّم وَفِيه مقَال. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه عَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (اسْتَعِينُوا بِطَعَام السحر على صِيَام النَّهَار، والقيلولة على قيام اللَّيْل) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) . وَأما حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من طرق وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُوسَى بن عَليّ بِسَنَد. وَأما حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: (دَعَاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السّحُور فِي رَمَضَان. فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاء الْمُبَارك) وَعند النَّسَائِيّ: (هلموا) ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَضَعفه ابْن الْقطَّان. وَأما حَدِيث: عتبَة بن عبد وَأبي الدَّرْدَاء فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) : عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تسحرُوا من آخر اللَّيْل، وَكَانَ يَقُول: هُوَ الْغَدَاء الْمُبَارك) وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ ابْن عدي عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (تسحرُوا وَلَو بِشَربَة من مَاء، وأفطروا وَلَو على شربة من مَاء) ، وَفِي سَنَده حسن بن عبد الله بن حَمْزَة وَهُوَ مَتْرُوك. وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تسحرُوا وَلَو بجرعة من مَاء) . وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر بن الْخطاب فَأخْرجهُ ابْن حبَان أَيْضا عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على المتسحرين) . وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي سحورها، تسحرُوا وَلَو بِشَربَة من مَاء، وَلَو بتمرة، وَلَو بحبات زبيب، فَإِن الْمَلَائِكَة تصلي عَلَيْكُم) وَفِيه مقَال. وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السّحُور بركَة وَلَو أَن يجرع أحدكُم جرعة من مَاء فَإِن الله عز وَجل وَمَلَائِكَته يصلونَ على المتسحرين) ، وَرَوَاهُ ابْن عدي أَيْضا عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ صل على المتسحرين، تسحرُوا وَلَو أَن يَأْكُل أحدكُم لقْمَة أَو يجرع جرعة مَاء) ، وَفِيه مقَال وَأما حَدِيث الْمُقدم بن معدي كرب فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (عَلَيْكُم بالسحور فَإِنَّهُ هُوَ الْغَدَاء الْمُبَارك) ، وَرُوِيَ مُرْسلا(10/301)
أَيْضا وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَأخْرجهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قرب إِلَيْنَا الْغذَاء الْمُبَارك يَعْنِي السّحُور وأولو آكله وَلَو حسوة فَإِنَّهَا اكلة بركَة وَهُوَ فصل بَين صومكم وَصَوْم النَّصَارَى " وَفِيه مقَال وَقَالَ الذَّهَبِيّ ميسرَة الْفجْر لَهُ صُحْبَة من أَعْرَاض الْبَصْرَة " قَالَ يَا رَسُول الله مَتى كنت نَبيا " وَإِمَّا حَدِيث الصَّحَابِيّ الَّذِي لم يسم فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث يحدث عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " دخلت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يتسحر فَقَالَ إِنَّهَا بركَة أَعْطَاكُم الله إِيَّاهَا فَلَا تَدعُوهُ " وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات قَوْله " تسحرُوا " قد ذكرنَا أَنه أَمر ندب بِالْإِجْمَاع قَوْله " فِي السّحُور " قَالَ شَيخنَا رَحمَه الله روينَا بِفَتْح السِّين وَضمّهَا وَهُوَ بِالضَّمِّ الْفِعْل وبالفتح اسْم مَا يتسحر بِهِ كَالْوضُوءِ والسعوط والحنوط وَنَحْوهَا قَوْله " بركَة " قد ذكرُوا فِيهَا معَان الأول إِنَّه يُبَارك باليسير مِنْهُ بِحَيْثُ يحصل بِهِ الْإِعَانَة على الصَّوْم وَيدل عَلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَو بجرعة مَاء وَلَو بتمرة " وَنَحْو ذَلِك وَيكون ذَلِك بالخاصية كَمَا بورك فِي الثَّرِيد وَالطَّعَام إِذا هدى فِي الْحَرَارَة واجتماع الْجَمَاعَة على الطَّعَام لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اجْتَمعُوا على طَعَامكُمْ يُبَارك لكم فِيهِ " الثَّانِي يُرَاد بِالْبركَةِ نفي التبعة فِيهِ وَقد ذكر صَاحب الفردوس من حَدِيث أبي هُرَيْرَة " ثَلَاثَة لَا يُحَاسب عَلَيْهَا العَبْد اكلة السّحُور وَمَا أفطر عَلَيْهِ وَمَا أكل مَعَ الإخوان " الثَّالِث يُرَاد بِالْبركَةِ الْقُوَّة عَن الصّيام وَغَيره من أَعمال النَّهَار الرَّابِع يُرَاد بِالْبركَةِ الرُّخْصَة وَالصَّدَََقَة وَهُوَ الزِّيَادَة فِي الْأكل على الْأكل عِنْد الْإِفْطَار كَمَا كَانَ أَولا ثمَّ نسخ وَاصل الْبركَة فِي اللُّغَة الزِّيَادَة والنماء وَقَالَ عِيَاض قد تكون هَذِه الْبركَة مَا يتَّفق للمتسحر من ذكر أَو صَلَاة أَو اسْتِغْفَار وَغَيره من زيادات الْأَعْمَال الَّتِي لَوْلَا الْقيام للسحور لَكَانَ الْإِنْسَان نَائِما عَنْهَا وتاركاً لَهَا وتجديد النِّيَّة للصَّوْم ليخرج من الِاخْتِلَاف وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد هَذِه الْبركَة يجوز أَن تعودوا إِلَى الْأُمُور الأخروية فَإِن اتامة السّنة توجب الْأجر وزيادته وَيحْتَمل أَن تعود إِلَى الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كقوة الْبدن على الصَّوْم وتيسيره من غير أضرار بالصائم قَالَ وَمِمَّا يُعلل بِهِ اسْتِحْبَاب السّحُور الْمُخَالفَة لأهل الْكتاب لِأَنَّهُ مُمْتَنع عِنْدهم وَهَذَا أحد الْوُجُوه الْمُقْتَضِيَة بِالزِّيَادَةِ فِي الأجور الأخروية
بَاب إِذا نوى بِالنَّهَارِ صوما
أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا نوى الْإِنْسَان بِالنَّهَارِ صوما وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره هَل يَصح أَولا وَإِنَّمَا لم يذكرُوا الْجَواب لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ على مَا يَجِيء بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى (وَقَالَت أم الدَّرْدَاء كَانَ ابو الدَّرْدَاء يَقُول عنْدكُمْ طَعَام فَإِن قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي صَائِم يومي هَذَا) أم الدَّرْدَاء اسْمهَا خيرة بِسُكُون الْيَاء آخِره الْحُرُوف وَاسم أبي الدَّرْدَاء عُوَيْمِر الْأنْصَارِيّ تقدما فِي فضل الْفجْر فِي جمَاعَة وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة من طَرِيق ابي قلَابَة " أم الدَّرْدَاء قَالَت كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء يَغْدُو أَحْيَانًا ضحى فَيسْأَل الْغَدَاء فَرُبمَا لم يُوَافقهُ عندنَا فَيَقُول إِذا أَنا صَائِم "
وَفعله أَبُو طَلْحَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن الْعَبَّاس وَحُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُم
أَي فعل أَبُو طَلْحَة مِثْلَمَا فعل أَبُو الدَّرْدَاء وَاسم أبي طَلْحَة زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ وَوصل أَثَره عبد الرَّزَّاق ن طَرِيق قَتَادَة وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق حميد كلهما عَن أنس وَلَفظ قَتَادَة " إِن أَبَا طَلْحَة كَانَ يَأْتِي أَهله فَيَقُول هَل من غذَاء فَإِن قَالُوا لَا صَامَ يَوْمه ذَلِك قَالَ قَتَادَة وَكَانَت معَاذ يَفْعَله " قَوْله " أَبُو هُرَيْرَة " عطف على قَوْله " أَبُو طَلْحَة " أَي وَفعله أَيْضا أَبُو هُرَيْرَة وَوصل أَثَره الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب عَن عُثْمَان بن بن نجيح " عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَة يطوف بِالسوقِ ثمَّ يَأْتِي أَهله فَيَقُول عنْدكُمْ شَيْئا فَإِن قَالُوا لَا قَالَ فانا صَائِم " قَوْله " وَابْن عَبَّاس " أَي فعله ابْن عَبَّاس فوصل اثره الطَّحَاوِيّ(10/302)
من طَرِيق عَمْرو بن أبي عمر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه كَانَ يصبح حَتَّى يظْهر ثمَّ يَقُول: وَالله لقد أَصبَحت وَمَا أُرِيد الصَّوْم، وَمَا أكلت من طَعَام وَلَا شراب مُنْذُ الْيَوْم، ولأصومن يومي هَذَا. قَوْله: (وَحُذَيْفَة) أَي: وَفعله حُذَيْفَة فوصل أَثَره عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق سعيد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرحمان السّلمِيّ، قَالَ: (قَالَ حُذَيْفَة: من بدا لَهُ الصّيام بعد مَا تَزُول الشَّمْس فليصم) ، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: (أَن حُذَيْفَة بدا لَهُ فِي الصَّوْم بعد مَا زلات الشَّمْس، فصَام) .
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن نوى الصَّوْم بعد طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق: لَا يجوز صَوْم رَمَضَان إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، وَقَالَ النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر: تجوز النِّيَّة فِي صَوْم رَمَضَان، وَالنّذر الْمعِين، وَصَوْم النَّفْل إِلَى مَا قبل الزَّوَال.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِيمَن أصبح يُرِيد الْإِفْطَار ثمَّ بدا لَهُ أَن يَصُوم تَطَوّعا، فَقَالَت طَائِفَة: لَهُ أَن يَصُوم مَتى مَا بدا لَهُ، فَذكر أَبَا الدَّرْدَاء وَأَبا طَلْحَة وَأَبا هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَأَبا أَيُّوب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي نَقله ابْن الْمُنْذر عَن الشَّافِعِي من الْجَوَاز مُطلقًا، سَوَاء كَانَ قبل الزَّوَال أَو بعده هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ للشَّافِعِيّ، وَالَّذِي نَص عَلَيْهِ فِي مُعظم كتبه التَّفْرِقَة. وَقَالَ مَالك فِي النَّافِلَة: لَا يَصُوم إلاَّ أَن يبيت إلاَّ أَن كَانَ يسْرد الصَّوْم فَلَا يحْتَاج إِلَى التبييت؛ وَلَكِن الْمَعْرُوف عَن مَالك وَاللَّيْث وَابْن أبي ذِئْب أَنه لَا يَصح صِيَام التَّطَوُّع إلاَّ بنية من اللَّيْل. وَقَالَ مُجَاهِد: الصَّائِم بِالْخِيَارِ مَا بَينه وَبَين نصف النَّهَار فَإِذا جَاوز ذَلِك فَإِنَّمَا بَقِي لَهُ بِقدر مَا بَقِي من النَّهَار، وَقَالَ الشّعبِيّ: من أَرَادَ الصَّوْم فَهُوَ مُخَيّر مَا بَينه وَبَين نصف النَّهَار، وَعَن الْحسن: إِذا تسحر الرجل فقد وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم، فَإِن أفطر فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَإِن هم بِالصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ صَامَ وَإِن شَاءَ أفطر. وروى ابْن أبي شيبَة عَن الْمُعْتَمِر عَن حميد عَن أنس: (من حدث نَفسه بالصيام فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لم يتكمل حَتَّى يَمْتَد النَّهَار) . وَقَالَ سُفْيَان بن سعيد وَأحمد بن حَنْبَل: من أصبح وَهُوَ يَنْوِي الْفطر إلاَّ أَنه لم يَأْكُل وَلم يشرب وَلَا وطىء فَلهُ أَن يَنْوِي الصَّوْم مَا لم تغب الشَّمْس، وَيصِح الصَّوْم.
4291 - حدّثنا أبُو عاصِمٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَة بنِ الأكْوَع رَضِي الله عَنْهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ رَجُلاً يُنادهي فِي النَّاسَ يَوْمَ عاشورَاءَ أنَّ مَنْ أكَلَ فَلْيُتِمَّ أوْ فَلْيَصُمْ ومَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي جَوَاز نِيَّة الصَّوْم بِالنَّهَارِ لِأَن قَوْله: (فليتم) . وَقَوله: (فَلَا يَأْكُل) يدلان على جَوَاز النِّيَّة بِالصَّوْمِ فِي النَّهَار، وَلم يشْتَرط التَّبْيِين، وَهَذَا الحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ وَهُوَ خَامِس الثلاثيات لَهُ، وَأَبُو عَاصِم هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد بتصغير العَبْد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَاسم الْأَكْوَع سِنَان بن عبيد الله. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مكي بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه فِي خبر الْوَاحِد عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع) وَفِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان (عَن يزِيد بن أبي عبيد حَدثنَا سَلمَة بن الْأَكْوَع) كَمَا سَيَأْتِي فِي خبر الْوَاحِد. قَوْله: (بعث رجلا يُنَادي فِي النَّاس) وَفِي رِوَايَة يحيى: (قَالَ لرجل من أسلم: أذن فِي قَوْمك) . وَاسم هَذَا الرجل: هِنْد بن أَسمَاء بن حَارِثَة الْأَسْلَمِيّ، وَأخرج حَدِيثه أَحْمد وَابْن أبي حيثمة من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر (عَن خبيب بن هِنْد بن أَسمَاء الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قومِي من أسلم فَقَالَ: مُرقومك أَن يَصُومُوا هَذَا الْيَوْم، يَوْم عَاشُورَاء، فَمن وجدته مِنْهُم قد أكل فِي أول يَوْمه فليصم آخِره) . وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث، وَبِحَدِيث الْبَاب على صِحَة الصّيام لمن لم ينوِ من اللَّيْل، سَوَاء كَانَ رَمَضَان أَو غَيره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالصَّوْمِ فِي أثْنَاء النَّهَار، فَدلَّ على أَن النِّيَّة لَا تشْتَرط من اللَّيْل، وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب بِأَن ذَلِك يتَوَقَّف على أَن صِيَام يَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا، وَالَّذِي يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء أَنه لم يكن فرضا. انْتهى. قلت: روى الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا(10/303)
تصومه قُرَيْش من الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَصُومهُ، فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة صَامَهُ وَأمر بصيامه، فَلَمَّا فرض رَمَضَان. قَالَ: من شَاءَ صَامَهُ وَمن شَاءَ تَركه) . فَهَذَا الحَدِيث يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا، وَعَن عَائِشَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَجَابِر بن سَمُرَة: أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا قبل أَن يفْرض رَمَضَان، فَلَمَّا فرض رَمَضَان فَمن شَاءَ صَامَ وَمن شَاءَ ترك، ذكره ابْن شَدَّاد فِي أَحْكَامه. (وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أرسل إِلَى قرى الْأَنْصَار الَّتِي حول الْمَدِينَة: من كَانَ أصبح صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن كَانَ أصبح مُفطرا فليصم بَقِيَّة يَوْمه، وَمن لم يكن أكل فليصم) . مُتَّفق عَلَيْهِ، وَكَانَ صوما وَاجِبا متعنياً. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: فَفِي هَذِه الأثار وجوب صَوْم عَاشُورَاء، وَفِي أمره، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، بصومه بَعْدَمَا أَصْبحُوا، وَأمره بالإمساك بعد مَا أكلُوا دَلِيل على وُجُوبه، إِذا لَا يَأْمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي النَّفْل بالإمساك إِلَى آخر النَّهَار بعد الْأكل، وَلَا بصومه لمن لم يصمه.
وَفِيه دَلِيل أَيْضا على أَن من كَانَ عَلَيْهِ صَوْم يَوْم بِعَيْنِه وَلم يكن نوى صَوْمه من اللَّيْل تجزيه النِّيَّة بعد مَا أصبح، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه كَانَ فرضا وَنسخ بِصَوْم رَمَضَان. فَإِن قلت: يُعَارض مَا ذكرْتُمْ حَدِيث مُعَاوِيَة (أَنه قَالَ على الْمِنْبَر: يَا أهل الْمَدِينَة: أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا يَوْم عَاشُورَاء، لم يكْتب الله عَلَيْكُم صايمه فَمن شَاءَ فليصم وَمن شَاءَ فليفطر، وَأَنا صَائِم) . قلت: بعد النّسخ لم يبْق مَكْتُوبًا علينا، وَلِأَن الْمُثبت أولى من النَّافِي، وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور: وَالَّذِي يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء أَنه، أَي: إِن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء لم يكن فرضا، وعَلى تَقْدِير أَنه كَانَ فرضا فقد نسخ بِلَا ريب، فقد نسخ حكمه وشرائطه. انْتهى. قلت: هَذَا مُكَابَرَة فَلَا يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء إلاَّ إِن كَانَ فرضا، لما ذكرنَا من الدَّلَائِل، وَقَوله: فنسخ حكمه وشرائطه غير صَحِيح، أَلا ترى أَن التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس قد نسخ وَلم تنسخ سَائِر أَحْكَام الصَّلَاة وشرائطها؟ وَقَوله: وَأمره بالإمساك لَا يسْتَلْزم الْأَجْزَاء، لِأَن الْأَمر بالإمساك يحْتَمل أَن يكون لحُرْمَة الْوَقْت. قلت: الِاحْتِمَال إِذا كَانَ ناشئاً عَن غير دَلِيل لَا يعْتَبر بِهِ فبالاحتمال الْمُطلق لَا يثبت الحكم وَلَا يَنْفِي، ثمَّ اسْتدلَّ هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: الْأَمر بالإمساك لَا يسْتَلْزم الْأَجْزَاء بقوله: كَمَا يُؤمر من قدم من سفر فِي رَمَضَان نَهَارا، وكما يُؤمر من أفطر يَوْم الشَّك، ثمَّ رُؤِيَ الْهلَال، وكل ذَلِك لَا يُنَافِي أَمرهم بِالْقضَاءِ بل قد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِي حَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن بن سَلمَة عَن عَمه: (إِن أم أسلم أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: صمتم يومكم هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم واقضوه) . قلت: هَذَا الْقيَاس بَاطِل، لِأَن الرمضانية متعينة فِي الصُّورَة الأولى، ونفيت فِي الثَّانِيَة، فَكيف لَا يُؤمر بِالْقضَاءِ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ.
والْحَدِيث الَّذِي قوَّى كَلَامه بِهِ غير صَحِيح من وُجُوه. الأول: إِن النَّسَائِيّ أخرجه وَلم يذكر واقضوه، وَقَالَ عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام الْكُبْرَى) وَلَا يَصح هَذَا الحَدِيث فِي الْقَضَاء، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : لَفْظَة: واقضوا، مَوْضُوعه بِلَا شكّ. الثَّانِي: إِن الْبَيْهَقِيّ قَالَ عبد الرَّحْمَن: هَذَا مَجْهُول ومختلف فِي اسْم أَبِيه، وَلَا يدْرِي من عَمه، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: قيل عبد الرحمان بن مسلمة، كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد. وَقيل: ابْن سَلمَة، وَقيل: ابْن الْمنْهَال بن سَلمَة، وَرَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عبد الرحمان بن الْمنْهَال بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ عَن عَمه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأسلم: صُومُوا الْيَوْم، قَالُوا: إِنَّا قد أكلنَا، قَالَ: صُومُوا بَقِيَّة يومكم، يَعْنِي عَاشُورَاء) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أخرجهَا ابْن حزم أَيْضا عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة (عَن عبد الرحمان بن مسلمة الْخُزَاعِيّ عَن عَمه، قَالَ: غدونا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبِيحَة عَاشُورَاء، فَقَالَ لنا: أَصْبَحْتُم صياما؟ قُلْنَا: قد تغدينا يَا رَسُول الله! فَقَالَ: فصوموا بَقِيَّة يومكم، وَلم يَأْمُرهُم بِالْقضَاءِ) . الثَّالِث: أَن شُعْبَة قَالَ: كنت أنظر إِلَى فَم قَتَادَة، فَإِذا قَالَ: حدثن كتبت، وَإِذا قَالَ: عَن فلَان) أَو قَالَ: فلَان لم أكبه، وَهُوَ مُدَلّس دلّس عَن مجهولين، وَقَالَ الْكَرَابِيسِي وَغَيره: فَإِذا قَالَ المدلس: حَدثنَا، يكون حجَّة، وَإِذا قَالَ: فلَان قَالَ، أَو: عَن فلَان، لَا يكون حجَّة، فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، فَإِذا كَانَت الرِّوَايَة، يَعْنِي عَن الثِّقَة الْمَعْرُوف بِالْحِفْظِ والضبط، لَا تكون حجَّة فَكيف تكون حجَّة؟ وَقد رَوَاهُ عَن مَجْهُول؟ وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: رِوَايَة: واقضوا، قَاطِعَة لحجة الْمُخَالف، وَنَصّ مَا يَقُوله الْجُمْهُور وجوب اعْتِبَار النِّيَّة من اللَّيْل، وَأَن نِيَّته من النَّهَار غير مُعْتَبرَة ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَيفَ يحْتَج بِمَا لَيْسَ بِحجَّة على خَصمه مَعَ علمه، ويعتقد أَنه يخفي، وَذكر مَا ذكرنَا من الْوُجُوه، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاحْتج الْجُمْهُور(10/304)
لاشْتِرَاط النِّيَّة فِي الصَّوْم من اللَّيْل بِمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن أُخْته حَفْصَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ) ، لفظ النَّسَائِيّ، وَلأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَرجح التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ الْمَوْقُوف بعد أَن أطنب فِي تَخْرِيج طرقه، وَحكى التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل عَن البُخَارِيّ تَرْجِيح وَقفه، وَعمل بِظَاهِر الْإِسْنَاد جمَاعَة من الْأَئِمَّة فصححوا الحَدِيث الْمَذْكُور مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحكم وَابْن حزم، وروى لَهُ الدَّارَقُطْنِيّ طَرِيقا أُخْرَى، وَقَالَ: رجالها ثِقَات، وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، وَأبْعد من ذَلِك تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض إِذا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء، فتجزي النِّيَّة فِي النَّهَار أَولا فِي يَوْم بِعَيْنِه كرمضان، فَلَا يَجْزِي، إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزي فِي اللَّيْل، وَفِي النَّهَار، وَقد تعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَام غث لَا أصل لَهُ. انْتهى. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَفْصَة حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، يَعْنِي من الْوَجْه الَّذِي رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يجمع الصيم قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَفِي بعض النّسخ: تفرد بِهِ يحيى بن أَيُّوب، قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَوْله وَهُوَ أصح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَرِوَايَة حَمْزَة الصَّوَاب عندنَا مَوْقُوف وَلم يَصح رَفعه، لِأَن يحيى بن أَيُّوب لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَحَدِيث ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ غير مَحْفُوظ. وَالله أعلم.
وَقَالَ شَيخنَا: وَأما الْمَوْقُوف الَّذِي ذكر التِّرْمِذِيّ أَنه أصح فقد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) كَذَلِك عَن نَافِع عَن ان عمر قَوْله: وَمن طَرِيقه رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَوْله: وَقد جَاءَ من طرق مَوْقُوفا على حَفْصَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة، وَمن رِوَايَة يُونُس وَمعمر وَابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن أَبِيه عَن حَفْصَة. وَمن رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة عَن حَفْصَة لم يذكر ابْن عمر، وَمن طَرِيق مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عَائِشَة وَحَفْصَة، رَضِي الله تعال عَنْهُمَا، قَوْلهمَا مُرْسلا.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عِنْد حَدِيث رَوَاهُ إِسْحَاق بن حَازِم عَن عبد الله ابْن أبي بكر عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا: (لَا صِيَام لمن لم ينومن اللَّيْل) ، وَرَوَاهُ يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا، قلت لَهُ: أَيهمَا أصح؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، لِأَن عبد الله بن أبي بكر أدْرك سالما وروى عَنهُ، وَلَا أَدْرِي سمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُ أَو سَمعه من الزُّهْرِيّ عَن سَالم؟ وَقد رُوِيَ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن حَفْصَة قَوْلهَا، وَهُوَ عِنْدِي أشبه. وَقَالَ أَبُو عمر: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب. وَفِيه يحيى بن أَيُّوب الغافقي، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَالصَّوَاب فِي: مَوْقُوف، وَلذَلِك لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ، وَذكره أَبُو الْفرج فِي الضُّعَفَاء والمتروكين. وَقَالَ أَحْمد هُوَ سيء الْحِفْظ وهم يردون الحَدِيث بِأَقَلّ من هَذَا، وَالْجرْح مقدم على التَّعْدِيل، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ من الثِّقَات الرفعاء.
وَأما قَول هَذَا الْقَائِل: وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، فَكَلَام سَاقِط لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن من لم يخص هَذَا الحَدِيث بصيام الْقَضَاء وَالنّذر الْمُطلق، وَصَوْم الْكَفَّارَات يلْزم مِنْهُ النّسخ لمُطلق الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، فَلَا يجوز ذَلِك، بَيَانه أَن قَوْله تَعَالَى: {} إِلَى قَوْله: {} (الْبَقَرَة: 781) مُبِيح للْأَكْل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي ليَالِي رَمَضَان إِلَى طُلُوع الْفجْر، ثمَّ الْأَمر بالصيام عَنْهَا بعد طُلُوع الْفجْر مُتَأَخّر عَنهُ، لِأَن كلمة: ثمَّ، للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي، فَكَانَ هَذَا أمرا بالصيام متراخياً عَن أول النَّهَار، وَالْأَمر بِالصَّوْمِ أَمر بِالنِّيَّةِ إِذْ لَا صَوْم شرعا بِدُونِ النِّيَّة، فَكَانَ أمرا بِالصَّوْمِ بنية مُتَأَخِّرَة عَن أول النَّهَار، وَقد أَتَى بِهِ، فَيخرج عَن الْعهْدَة.
وَفِيه: دلَالَة أَن الْإِمْسَاك فِي أول النَّهَار يَقع صوما، وُجدت فِيهِ النِّيَّة أَو لم تُوجد، لِأَن إتْمَام الشَّيْء يقتضى سَابِقَة وجود بعض شَيْء مِنْهُ، فَإِذا شرطنا النِّيَّة فِي أول اللَّيْل بِخَبَر الْوَاحِد يكون نسخا لمُطلق الْكتاب، فَلَا يجوز ذَلِك، فحينئذٍ يحمل ذَلِك على الصّيام(10/305)
الْخَاص الْمعِين، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، لِأَن مَشْرُوع الْوَقْت فِي هَذَا متنوع، فَيحْتَاج إِلَى التَّعْيِين بِالنِّيَّةِ، بِخِلَاف شهر رَمَضَان لِأَن الصَّوْم فِيهِ غير متنوع، فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّعْيِين، وَكَذَلِكَ النّذر الْمعِين فَهَذَا هُوَ السِّرّ الْخَفي فِي هَذَا التَّخْصِيص الَّذِي استبدعه من لَا وقُوف لَهُ على دقائق الْكَلَام، ومدارك اسْتِخْرَاج الْمعَانِي من النُّصُوص، وَلم يكتف الْمُدَّعِي بعد هَذَا الْكَلَام لبعد إِدْرَاكه حَتَّى ادّعى الأبعدية فِي تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض وَصَوْم التَّطَوُّع، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَة لِأَن حَامِل الطَّحَاوِيّ على هَذِه التَّفْرِقَة مَا رَوَاهُ مُسلم، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَت: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة {هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ قَالَت: فَقلت: لَا يَا رَسُول الله مَا عندنَا شَيْء} قَالَ: فَإِنِّي صَائِم) ، وبنحوه روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل نقل عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ كلَاما لَا يُوجد أسمج مِنْهُ، لِأَن من يتعقب كَلَام أحد إِن لم يذكر وَجهه بِمَا يقبله الْعلمَاء، يكون كَلَامه هُوَ غثاء لَا أصل لَهُ، وَأجَاب بعض أَصْحَابنَا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور، أَعنِي: حَدِيث حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد التَّسْلِيم بِصِحَّتِهِ وسلامته عَن الِاضْطِرَاب بِأَنَّهُ مَحْمُول على نفي الْفَضِيلَة والكمال، كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاَّ فِي الْمَسْجِد) .(10/306)
22 - (بابُ الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّائِم حَال كَونه يصبح جنبا، هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟ وَأطلق التَّرْجَمَة للْخلاف الْمَوْجُود فِيهِ.
6291 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عَن سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحارِثِ بنِ هِشامِ بنِ الْمُغِيرَةِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ كُنتُ أنَا وَأبي حينَ دَخَلْنَا عَلَى عائِشَةَ وأمِّ سَلَمَةَ (ح) حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبَرَنِي أبُو بَكْرِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ أنَّ أباهُ عَبْدَ الرَّحْمانِ أخْبَرَ مَرْوَانَ أنَّ عائِشَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ أخْبَرَتاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهْوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ويَصُومُ وقالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّه لَتُقَرِّعَنَّ بِها أبَا هُرَيْرَةَ ومَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى المَدِينَةِ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ ذلِكَ عَبْدُ الرَّحْمانِ ثُمَّ قدِّرَ لَنا أنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الحُلَيفَةِ وكَانَتْ لأِبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أرْضٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ لأِبِي هُرَيْرَةَ إنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أمْرا ولَوْلاَ مَرْوَانُ أقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أذْكُرْهُ لَكَ فذَكَرَ قَوْلَ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كذلِكَ حدَّثني الْفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ وهوَ أعْلَمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب) .
ذكر رِجَاله وهم عشرَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس، الثَّالِث: سمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي الْأَذَان. الرَّابِع: أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، رَاهِب قُرَيْش، مر فِي الصَّلَاة. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم الْقرشِي المَخْزُومِي، ابْن عَم عِكْرِمَة بن أبي جهل بن هِشَام، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين. السَّادِس: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. السَّابِع: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّامِن: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة. الْعَاشِر: أم الْمُؤمنِينَ أم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة(11/2)
الْإِفْرَاد فِي موضِعين، وبصيغة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَبُو الْيَمَان وَشُعَيْب حمصيان والبقية كلهم مدنيون. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين وهم: أَبُو بكر وَأَبوهُ عبد الرَّحْمَن وَالزهْرِيّ ومروان.
ذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ: فِيهِ اخْتِلَاف كثير جدا على أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَغَيره، وَقد اخْتلف فِيهِ على الزُّهْرِيّ أَيْضا. فَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَحَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَنْهَا بِمَعْنَاهُ، وَقد اخْتلف فِيهِ على الشّعبِيّ أَيْضا، وَحَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِيهِ قصَّة لم يذكرهَا التِّرْمِذِيّ، وَذكرهَا مُسلم من طَرِيق ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن أبي بكر، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يقص، يَقُول فِي قصصه: من أدْركهُ الْفجْر حنبا فَلَا يصم. قَالَ: فَذكر ذَلِك أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث لِأَبِيهِ، فَأنْكر ذَلِك، فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن وَانْطَلَقت مَعَه حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة وَأم سَلمَة، فَسَأَلَهُمَا عبد الرَّحْمَن عَن ذَلِك فكلتاهما قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصبح جنبا من غير حلم ثمَّ يَصُوم. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلنَا على مَرْوَان، فَذكر ذَلِك لَهُ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْهِ إلاَّ مَا ذهبت إِلَى أبي هُرَيْرَة فَرددت عَلَيْهِ مَا يَقُول، فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبُو بكر حَاضر ذَلِك كُله، قَالَا: فَذكر ذَلِك لَهُ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة لَهما: قالتاه لَك؟ قَالَ: نعم قَالَ: هما أعلم، ثمَّ رد أَبُو هُرَيْرَة مَا كَانَ يَقُول فِي ذَلِك إِلَى الْفضل بن عَبَّاس، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: سَمِعت ذَلِك من الْفضل، وَلم أسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَرجع أَبُو هُرَيْرَة عَمَّا كَانَ يَقُول من ذَلِك) الحَدِيث، هَكَذَا ذكره مُسلم لم يرفع قَول أبي هُرَيْرَة، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْركهُ الصُّبْح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ) . وَذكر الحَدِيث بِنَحْوِهِ، وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ أخصر مِنْهُ من رِوَايَة ابْن شهَاب إِلَى قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس، وَهُوَ أعلم) ، وَفِي رِوَايَة للنسائي من رِوَايَة أبي عِيَاض عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث بن هِشَام، فَأَتَاهُ فَأخْبرهُ، قَالَ: هن أعلم يُرِيد أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يذكر أَبُو هُرَيْرَة فِي هَذِه الرِّوَايَة من حَدثهُ، وَهَكَذَا النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده أَن عَائِشَة أخْبرته: لَيْسَ فِيهِ ذكر أم سَلمَة، وَفِيه: فَذهب عبد الرَّحْمَن فَأخْبرهُ، بذلك قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَهِيَ أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منا، إِنَّمَا كَانَ أُسَامَة بن زيد حَدثنِي ذَلِك، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة أَن الْمخبر لأبي هُرَيْرَة أُسَامَة، وَقد تقدم أَنه الْفضل، وَفِي رِوَايَة للنسائي أخبرنيه مخبر، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقَالَ: هَكَذَا كنت أَحسب، وَلم يحكه عَن أحد، وَفِي رِوَايَة للنسائي من رِوَايَة الحكم عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: عَائِشَة إِذا أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلابْن حبَان من رِوَايَة عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه فَقَالَ هما أعلم يُرِيد عَائِشَة وَأم سَلمَة وَفِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: هَكَذَا حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس وَهن أعلم. وَفِيه: أَيْضا من الِاخْتِلَاف مَا يَقْتَضِي أَن عبد الرَّحْمَن لم يشافه عَائِشَة، وَأم سَلمَة بالسؤال عَن ذَلِك، فَفِي النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي عِيَاض، (عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، قَالَ: أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى عَائِشَة فأتيتها، فَلَقِيت غلامها ذكْوَان فأرسلته إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك. وَفِيه: (فأرسلني إِلَى أم سَلمَة فَلَقِيت غلامها نَافِعًا فأرسلته إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك) الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا أَن عبد الرَّحْمَن شافهها بالسؤال أَكثر وَأَصَح، وَمَعَ هَذَا فَيجوز أَن يكون أرسل الْمولى أَولا ثمَّ أَتَى هُوَ فشافهته، أَو أَن الْمولى كَانَ وَاسِطَة فِي الدُّخُول عَلَيْهَا مَعَ عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَحدثنَا أَبُو الْيَمَان) ، عطف على قَوْله: (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة) ، فَأخْرجهُ من طَرِيقين. وَأخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السِّتَّة خلا ابْن مَاجَه من طرق عديدة. قَوْله: (كنت أَنا وَأبي حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة وَأم سَلمَة) ، هَكَذَا أوردهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الطَّرِيق من رِوَايَة مَالك مُخْتَصرا، ثمَّ ذكر الطَّرِيق الثَّانِي: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الله، وَرُبمَا يظنّ ظان أَن سياقهما وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ يذكر لفظ مَالك بَعْدَمَا بَين، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر مَرْوَان وَلَا قصَّة أبي هُرَيْرَة، نعم قد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن سمي مطولا، وَرَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عبد ربه بن سعيد عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن(11/3)
مُخْتَصرا، وَأخرجه مُسلم من هَذَا الْوَجْه، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن عبد ربه بن سعيد عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام (عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة زَوْجَتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِن كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليُصبح جنبا من جماع غير احْتِلَام فِي رَمَضَان ثمَّ يَصُوم) . قَوْله: (إِن أَبَاهُ عبد الرَّحْمَن أخبر مَرْوَان) هُوَ مَرْوَان بن عبد الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن قصي الْقرشِي الْأمَوِي، أَبُو عبد الْملك، ولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِأَرْبَع، وَلم يَصح لَهُ سَماع من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ مَالك: ولد يَوْم أحد، وَقيل: يَوْم الخَنْدَق، وَقيل: ولد بِمَكَّة، وَقيل: بِالطَّائِف وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل لما نفى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاهُ الحكم، وَكَانَ مَعَ أَبِيه حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فردهما واستكتب عُثْمَان مَرْوَان وضمه إِلَيْهِ، وَاسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْمَدِينَة وَمَكَّة والطائف، ثمَّ عَزله عَن الْمَدِينَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين، وَلما مَاتَ مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَلم يعْهَد إِلَى أحد بَايع النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، ثمَّ مَاتَ، وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة أشهر، مَاتَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى مُسلم. قَوْله: (كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب) أَي: وَالْحَال أَنه جنب من أَهله، ثمَّ يغْتَسل ويصوم، وَفِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن عَائِشَة: كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر فِي رَمَضَان من غير حلم) ، وَسَيَأْتِي بعد بَابَيْنِ. وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن أَبِيه عَنْهَا: كَانَ يصبح جنبا من غير احْتِلَام ثمَّ يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) . وَفِي لفظ لَهُ: (كَانَ يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام) .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: أَنه كَانَ يُجَامع فِي رَمَضَان وَيُؤَخر الْغسْل إِلَى بعد طُلُوع الْفجْر بَيَانا للْجُوَاز. وَالثَّانيَِة: أَن ذَلِك كَانَ من جماع لَا من احْتِلَام، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَلِم، إِذْ الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ قيل فِي قَول عَائِشَة من غير احْتِلَام إِشَارَة إِلَى جَوَاز الِاحْتِلَام عَلَيْهِ وَإِلَّا لما كَانَ لاستثنائه معنى ورد بِأَن الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم عَنهُ، وَلَكِن الِاحْتِلَام يُطلق على الْإِنْزَال، وَقد يَقع الْإِنْزَال من غير رُؤْيَة شَيْء فِي الْمَنَام.
قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث: أقسم بِاللَّه لتقرعن بهَا أَبَا هُرَيْرَة) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عِكْرِمَة بن خَالِد (عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: إلقَ أَبَا هُرَيْرَة فحدثه بِهَذَا، فَقَالَ: إِنَّه لجاري وَإِنِّي لأكْره أَن استقبله بِمَا يكره، فَقَالَ: أعزم عَلَيْك لتلقينه) ، وَمن طَرِيق عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن لمروان: غفر الله لَك، إِنَّه لي صديق وَلَا أحب أَن أرد عَلَيْهِ) قَوْله: (وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يُفْتى أَن من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ، على مَا رَوَاهُ مَالك عَن سمي (عَن أبي بكر أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ، وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق المَقْبُري: (كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي النَّاس: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) ، وَإِلَيْهِ كَانَ يذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعُرْوَة بن الزبير وطاووس، وَلَكِن أَبَا هُرَيْرَة لم يثبت على قَوْله هَذَا حَيْثُ رد الْعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ: عَائِشَة أعلم مني، أَو قَالَ: أعلم بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منِّي. وَقَالَ أَبُو عمر: روى عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان الرُّجُوع عَن ذَلِك، وَحَكَاهُ الْحَازِمِي عَن سعيد بن الْمسيب، وَقَالَ الْخطابِيّ وَابْن الْمُنْذر: أحسن مَا سَمِعت من خبر أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه مَنْسُوخ، لِأَن الْجِمَاع كَانَ محرما على الصَّائِم بعد النّوم، فَلَمَّا أَبَاحَ الله تَعَالَى الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر جَازَ للْجنب إِذا أصبح قبل أَن يغْتَسل أَن يَصُوم لارْتِفَاع الْحَظْر، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي بِمَا سَمعه من الْفضل على الْأَمر الأول وَلم يعلم بالنسخ، فَلَمَّا سمع خبر عَائِشَة وَأم سَلمَة رَجَعَ إِلَيْهِ. قَوْله: (لتفزعن) ، بِالْفَاءِ وَالزَّاي من الْفَزع وَهُوَ الْخَوْف، أَي: لتخيفنه بِهَذِهِ الْقِصَّة الَّتِي تخَالف فتواه، وَقد أكد هَذَا بِاللَّامِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة، وَهَذَا كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (تقرعن) ، من القرع بِالْقَافِ وَالرَّاء أَي لتقرعن أَبَا هُرَيْرَة بِهَذِهِ الْقِصَّة، يُقَال: قرعت بِكَذَا، سمْعَ فلَان: إِذا أعلمته إعلاما صَرِيحًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى (لتعرفن) ، من التَّعْرِيف. قَوْله: (ومروان يَوْمئِذٍ على الْمَدِينَة) ، أَي: حَاكما عَلَيْهَا من جِهَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (فكره ذَلِك عبد الرَّحْمَن) ، أَي: فكره عبد الرَّحْمَن فعل مَا قَالَه مَرْوَان من قرع أبي هُرَيْرَة وإفزاعه فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ. قَوْله: (ثمَّ قدر لنا) أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: ثمَّ بعد ذَلِك قدر الله لنا الِاجْتِمَاع بِذِي الحليفة، وَهُوَ الْموضع الْمَعْرُوف، وَهُوَ مِيقَات أهل الْمَدِينَة وَكَانَ لأبي هُرَيْرَة هُنَالك أَي: فِي ذِي الحليفة أَرض، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة هُنَاكَ فِي ذَلِك الْوَقْت. فَإِن قلت: فَفِي رِوَايَة مَالك:(11/4)
(فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: أَقْسَمت عَلَيْك لتركبن دَابَّتي فَإِنَّهَا بِالْبَابِ، ولتذهبن إِلَى أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه، فَركب عبد الرَّحْمَن وَركبت مَعَه) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: وَركبت مَعَ عبد الرَّحْمَن، فَهَذِهِ تخَالف رِوَايَة الْكتاب، فَإِن العقيق غير ذِي الحليفة، لِأَن العقيق وَاد بِظَاهِر الْمَدِينَة مسيل للْمَاء، وَهُوَ الَّذِي ورد ذكره فِي الحَدِيث أَنه وادٍ مبارك، وكل مسيل شقَّه مَاء السَّيْل فَهُوَ عقيق، وَالْجمع أعقة. قلت: لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ من حَيْثُ إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَت لَهُ أَرض أَيْضا بالعقيق، فَالظَّاهِر أَن أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا أَبَا هُرَيْرَة للاجتماع لَهُ امتثالاً لأمر مَرْوَان، فَأتيَا إِلَى العقيق بِنَاء على أَنه هُنَاكَ فَلم يجداه، فذهبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ. فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر: فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْكُمَا لما ذهبتما إِلَى أبي هُرَيْرَة، قَالَ: فلقينا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بَاب الْمَسْجِد قلت: الْجَواب الْحسن هُنَا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد ذِي الحليفة، لأَنهم ذكرُوا أَن بِذِي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِد أبي هُرَيْرَة بالعقيق لَا الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. قلت: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا من مَنْهَج الصَّوَاب، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا فِي التَّوْفِيق بَين قَوْله: بِذِي الحليفة، وَقَوله: بالعقيق: يحْتَمل أَن يَكُونَا يَعْنِي: أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا إِلَى العقيق بِنَاء على أَن أَبَا هُرَيْرَة فِيهَا فَلم يجداه، قَالَ: ثمَّ وجداه بِذِي الحليفة، وَكَانَ لَهُ بهَا أَيْضا أَرض، وَمعنى كَلَامه: أَنَّهُمَا لما لم يجداه بالعقيق ذَهَبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ عِنْد بَاب الْمَسْجِد، فَيلْزم من مُقْتَضى كَلَامه أَنهم عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق ولاقياه فِيهَا عِنْد بَاب الْمَسْجِد، وَهَذَا كَلَام خَارج أَجْنَبِي عَن مُقْتَضى معنى التَّرْكِيب، لأَنهم لَو كَانُوا عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق، كَيفَ كَانَ أَبُو بكر وَعبد الرَّحْمَن يَقُولَانِ: لَقينَا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بَاب الْمَسْجِد؟ وَالْحَال أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ مَعَهُمَا على مُقْتَضى كَلَامه؟ ثمَّ ذكر هَذَا الْقَائِل وَجها آخر أبعد من الأول، حَيْثُ قَالَ: أَو يجمع بِأَنَّهُمَا التقيا بالعقيق، فَذكر لَهُ عبد الرَّحْمَن الْقِصَّة مجملة، أَو لم يذكرهَا، بل شرع فِيهَا ثمَّ لم يتهيأ لَهُ ذكر تفصيلها وَسَمَاع جَوَاب أبي هُرَيْرَة إلاَّ بعد أَن رجعا إِلَى الْمَدِينَة، وأرادا دُخُول الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. قلت: الَّذِي حمله على هَذَا التَّفْسِير تَفْسِيره الْمَسْجِد: بِمَسْجِد العقيق، وَلَو فسره بِمَسْجِد ذِي الحليفة لاستراح وأراح، على أَنا نقُول: من قَالَ: إِنَّه كَانَ لأبي هُرَيْرَة مَسْجِد بالعقيق، وَأما الْمَسْجِد الَّذِي بِذِي الحليفة فقد نَص عَلَيْهِ أهل السّير والإخباريون، وَلَا دلَالَة أصلا فِي الحَدِيث على هَذَا التَّوْجِيه الَّذِي ذكره، وَلَا قَالَ بِهِ أحد قبله. قَوْله: (إِنِّي ذَاكر أمرا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إِنِّي أذكر لَك) ، بِصِيغَة الْمُضَارع. قَوْله: (لم أذكرهُ لَك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لم أذكر ذَلِك) . قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس) ، وَقد أحَال أَبُو هُرَيْرَة فِيهِ مرّة على الْفضل، وَمرَّة على أُسَامَة بن زيد فِيمَا رَوَاهُ عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده، وَمرَّة قَالَ: أخبرنيه مخبر، وَمرَّة قَالَ: حَدثنِي فلَان وَفُلَان، فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان عَن عبد الْملك بن أبي بكر عَن أَبِيه عَنهُ على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لَا وَرب هَذَا الْبَيْت، مَا أَنا قلت: من أدْرك الصُّبْح جنبا فَلَا يصم مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرب الْكَعْبَة قَالَه. ثمَّ حَدَّثَنِيهِ الْفضل) . قَوْله: (وَهُوَ أعلم) أَي: الْفضل أعلم مني بِمَا روى، والعهدة عَلَيْهِ فِي ذَلِك لَا عَليّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان الحكم الَّذِي بوب الْبَاب لأَجله. وَفِيه: دُخُول الْفُقَهَاء على السُّلْطَان ومذاكرتهم لَهُ بِالْعلمِ. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ مَرْوَان من الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ومسائل الدّين، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الدُّنْيَا، ومروان عِنْدهم أحد الْعلمَاء وَكَذَلِكَ ابْنه عبد الْملك. وَفِيه: مَا يدل على أَن الشَّيْء إِذا تنوزع فِيهِ رد إِلَى من يظنّ أَنه يُوجد عِنْده علم مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم النَّاس بِهَذَا الْمَعْنى بعده. وَفِيه: أَن من كَانَ عِنْده علم فِي شَيْء وَسمع بِخِلَافِهِ كَانَ عَلَيْهِ إِنْكَاره، من ثِقَة سمع ذَلِك أَو غَيره، حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ صِحَة خلاف مَا عِنْده. وَفِيه: أَن الْحجَّة القاطعة عِنْد الِاخْتِلَاف فِيمَا لَا نَص فِيهِ من الْكتاب وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: إِثْبَات الْحجَّة فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل وَأَن الْمَرْأَة فِي ذَلِك كَالرّجلِ سَوَاء، وَأَن طَرِيق الْإِخْبَار فِي هَذَا غير طَرِيق الشَّهَادَات. وَفِيه: طلب الْحجَّة وَطلب الدَّلِيل والبحث على الْعلم حَتَّى يَصح فِيهِ وَجه، أَلا ترى أَن مرواه لما أخبرهُ عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة بِمَا أخبرهُ بِهِ من هَذَا الحَدِيث، بعث إِلَى أبي هُرَيْرَة طَالبا(11/5)
للحجة وباحثا عَن موقعها ليعرف من أَيْن قَالَ أَبُو هُرَيْرَة مَا قَالَه من ذَلِك؟ وَفِيه: اعْتِرَاف الْعَالم بِالْحَقِّ وإنصافه إِذا سمع الْحجَّة، وَهَكَذَا أهل الْعلم وَالدّين أولو إنصاف واعتراف. وَفِيه: دَلِيل على تَرْجِيح رِوَايَة صَاحب الْخَبَر إِذا عَارضه حَدِيث آخر، وترجيح مَا رَوَاهُ النِّسَاء مِمَّا يخْتَص بِهن إِذا خالفهن فِيهِ الرِّجَال، وَكَذَلِكَ الْأَمر فِيمَا يخْتَص بِالرِّجَالِ على مَا أحكمه الأصوليون فِي: بَاب التَّرْجِيح للآثار. وَفِيه: حسن الْأَدَب مَعَ الأكابر وَتَقْدِير الِاعْتِذَار قبل تَبْلِيغ مَا يظنّ الْمبلغ أَن الْمبلغ يكرههُ.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أصبح جنبا وَهُوَ يُرِيد الصَّوْم: هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟ على سَبْعَة أَقْوَال: الأول: أَن الصَّوْم صَحِيح مُطلقًا فرضا كَانَ أَو تَطَوّعا أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا أَو لنوم أَو نِسْيَان، لعُمُوم الحَدِيث، وَبِه قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو ذَر وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو عمر: إِنَّه الَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بالعراق والحجاز أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار، مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وأصحابهم وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية وَأَبُو عُبَيْدَة وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ وَجَمَاعَة من أهل الحَدِيث. الثَّانِي: أَنه لَا يَصح صَوْم من أصبح جنبا مُطلقًا، وَبِه قَالَ الْفضل بن عَبَّاس وَأُسَامَة بن زيد وَأَبُو هُرَيْرَة، ثمَّ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَة عَنهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين أَن يُؤَخر الْغسْل عَالما بجنابته أم لَا، فَإِن علم وأخره عمدا لم يَصح وإلاَّ صَحَّ، رُوِيَ ذَلِك عَن طَاوُوس وَعُرْوَة بن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ صَاحب (الْإِكْمَال) : وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة. الرَّابِع: التَّفْرِقَة بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فَلَا يجْزِيه فِي الْفَرْض ويجزيه فِي النَّفْل، رُوِيَ ذَلِك عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَيْضا، حَكَاهُ صَاحب (الْإِكْمَال) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكى أَبُو عمر عَن الْحسن بن حَيّ أَنه: كَانَ يسْتَحبّ لمن أصبح جنبا فِي رَمَضَان أَن يَقْضِيه، وَكَانَ يَقُول: يَصُوم الرجل تَطَوّعا وَإِن أصبح جنبا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ. الْخَامِس: أَن يتم صَوْمه ذَلِك الْيَوْم ويقضيه. رُوِيَ ذَلِك عَن سَالم بن عبد الله وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَيْضا وَعَطَاء بن أبي رَبَاح. السَّادِس: أَنه يسْتَحبّ الْقَضَاء فِي الْفَرْض دون النَّفْل، حَكَاهُ فِي (الاستذكار) عَن الْحسن بن صَالح بن حَيّ. السَّابِع: أَنه لَا يبطل صَوْمه إلاَّ أَن تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس قبل أَن يغْتَسل وَيُصلي، فَيبْطل صَوْمه، قَالَه ابْن حزم بِنَاء على مذْهبه فِي أَن الْمعْصِيَة عمدا تبطل الصَّوْم.
فَإِن قلت: حَدِيث الْفضل فِيهِ: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم، وَحَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِيهِ حِكَايَة فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يصبح جنبا ثمَّ يَصُوم، فَهَلا جمعتم بَين الْحَدِيثين بِحمْل حَدِيثهمَا على أَنه من الخصائص، وَحَدِيث الْفضل لغيره من الْأمة؟ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي حديثيهما أَنه أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا، فَلَعَلَّهُ نَام عَن ذَلِك. قلت: الأَصْل عدم التَّخْصِيص، وَمَعَ ذَلِك فَفِي الحَدِيث التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْخُصُوص، فروى مَالك عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن معمر عَن أبي يُونُس، مولى عَائِشَة، (عَن عَائِشَة: أَن رجلا قَالَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ وَاقِف على الْبَاب وَأَنا أسمع: يَا رَسُول الله {إِنِّي أصبح جنبا، وَأَنا أُرِيد الصّيام} فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأَنا أصبح جنبا وَأَنا أُرِيد الصّيام، فأغتسل وَأَصُوم، فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا رَسُول الله إِنَّك لست مثلنَا، قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر، فَغَضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن أكون أخشاكم لله، وَأعْلمكُمْ بِمَا اتقِي) . وَمن طَرِيق مَالك أخرجه أَبُو دَاوُد، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ هَمَّامٌ وابْنُ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ كانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأمُرُ بالْفِطْرِ والأوَّلُ أسْندُ همام هُوَ ابْن مُنَبّه الصَّنْعَانِيّ، وَقد مر فِي: بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق معمر عَنهُ بِلَفْظ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا نُودي للصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح أحدكُم جنب فَلَا يصم يَوْمئِذٍ) . قَوْله: (وَابْن عبد الله) ، بِالرَّفْع عطف على همام، وَكَانَ لعبد الله بنُون سِتَّة. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِابْن عبد الله هُنَا هُوَ سَالم لِأَنَّهُ يروي عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: الْجَزْم بِأَنَّهُ سَالم بن عبد الله غير صَحِيح، لِأَن فِيهِ اخْتِلَافا، فَقيل: هُوَ عبد الله بن عمر، وَقيل: هُوَ عبيد الله بن عبد الله بِالتَّكْبِيرِ والتصغير. فِي اسْم الابْن، وَلأَجل هَذَا الِاخْتِلَاف لم يسمه البُخَارِيّ صَرِيحًا، وَأما تَعْلِيق(11/6)
ابْن عبد الله بن عمر فوصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن شهَاب عَن ابْن عبد الله بن عمر عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ، فَقيل: قد اخْتلف على الزُّهْرِيّ فِي اسْمه، فَقَالَ شُعَيْب عَنهُ: أَخْبرنِي عبد الله بن عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْمُرنَا بِالْفطرِ إِذا أصبح الرجل جنبا) ، أخرجه النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين، وَقَالَ عقيل، عَنهُ: عَن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بِهِ، فَاخْتلف على الزُّهْرِيّ، هَل هُوَ عبد الله بِالتَّكْبِيرِ أَو عبيد الله بِالتَّصْغِيرِ. قَوْله: (وَالْأول أسْند) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي حَدِيث أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ أسْند، أَي: أصح إِسْنَادًا. قلت: لَيْسَ المُرَاد بقوله: أسْند، أَي: أصح لِأَن الْإِسْنَاد إِلَى أبي هُرَيْرَة هُوَ الْإِسْنَاد إِلَى أُمِّي الْمُؤمنِينَ فِي أَكثر الطّرق. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَالْأول أسْند، يُرِيد وَالله أعلم أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، فَلَيْسَ فِي أحد من الصَّحِيحَيْنِ إِسْنَاده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا قَالَ: كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس، وَقد ذكرنَا أَن أَبَا هُرَيْرَة أحَال فِيهِ عَلَيْهِ وعَلى غَيره، تَارَة بتصريح وَتارَة بإبهام. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، مَعْنَاهُ أظهر إِسْنَادًا وَأبين فِي الِاتِّصَال. وَقَالَ ابْن التِّين: أَي الطَّرِيق الأول أوضح رفعا. وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ أقوى إِسْنَادًا، لِأَن حَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِي ذَلِك جَاءَ عَنْهُمَا من طرق كَثِيرَة جدا بِمَعْنى وَاحِد، حَتَّى قَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه صَحَّ وتواتر، وَأما أَبُو هُرَيْرَة فَأكْثر الرِّوَايَات عَنهُ أَنه كَانَ يُفْتِي بِهِ. قلت: قد ذكرنَا الْآن أَن الْإِسْنَاد إِلَى أبي هُرَيْرَة هُوَ الْإِسْنَاد إِلَى أُمِّي الْمُؤمنِينَ فِي أَكثر الطّرق، فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَقد روى أَبُو عمر من رِوَايَة عَطاء بن مينا، (عَن أبي هُرَيْرَة، أَنه قَالَ: كنت حدثتكم: من أصبح جنبا فقد أفطر، وَإِن ذَلِك من كيس أبي هُرَيْرَة) ؟ قلت: لَا يَصح ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة لِأَنَّهُ من رِوَايَة عمر بن قيس، وَهُوَ مَتْرُوك، وَذكر ابْن خُزَيْمَة أَن بعض الْعلمَاء توهم أَن أَبَا هُرَيْرَة غلط فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ رد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يغلط، بل أحَال على رِوَايَة صَادِق، إلاَّ أَن الْخَبَر مَنْسُوخ. انْتهى.
وَقد ذكرنَا وَجه النّسخ بِأَن حَدِيث عَائِشَة هُوَ النَّاسِخ لحَدِيث الْفضل، وَلم يبلغ الْفضل وَلَا أَبَا هُرَيْرَة النَّاسِخ، فاستمر أَبُو هُرَيْرَة على الْفتيا بِهِ، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ بعد ذَلِك لما بلغه، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي يُونُس مولى عَائِشَة عَنْهَا، وَقد ذكرنَا عَن قريب مَا يشْعر بِأَن ذَلِك كَانَ بعد الْحُدَيْبِيَة لقَوْله فِيهَا: (غفر الله لَك مَا تقدم وَمَا تَأَخّر) ، وَأَشَارَ إِلَى آيَة الْفَتْح، وَهِي إِنَّمَا نزلت عَام الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ، وَابْتِدَاء فرض الصّيام كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة، وَالله أعلم وَمِنْهُم من جمع بَين الْحَدِيثين بِأَن الْأَمر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَمر إرشاد إِلَى الْأَفْضَل، بِأَن الْأَفْضَل أَن يغْتَسل قبل الْفجْر، فَلَو خَالف جَازَ، وَيحمل حَدِيث عَائِشَة على بَيَان الْجَوَاز، وَيُعَكر على حمله على الْإِرْشَاد التَّصْرِيح فِي كثير من طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِالْأَمر بِالْفطرِ وبالنهي عَن الصّيام، فَكيف يَصح الْحمل الْمَذْكُور إِذا وَقع ذَلِك فِي رَمَضَان وَقيل: هُوَ مَحْمُول على من أدْركهُ الْفجْر مجامعا، فاستدام بعد طلوعه عَالما بذلك، وَيُعَكر عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي حَازِم عَن عبد الْملك ابْن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من احْتَلَمَ وَعلم باحتلامه وَلم يغْتَسل حَتَّى أصبح فَلَا يَصُوم، وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم أَنه سقط كلمة: لَا، من حَدِيث الْفضل، وَكَانَ فِي الأَصْل: مَن أصبح جنبا فِي رَمَضَان فَلَا يفْطر، فَلَمَّا سَقَطت: لَا، صَار: فليفطر، وَهَذَا كَلَام واهٍ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم عدم الوثوق بِكَثِير من الْأَحَادِيث بطرقها مثل هَذَا الِاحْتِمَال، فَكَانَ قَائِله مَا وقف على شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث إلاَّ على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَالله أعلم.
32 - (بابُ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُبَاشرَة للصَّائِم، الْمُبَاشرَة، مفاعلة، وَهِي الْمُلَامسَة، وَأَصله من لمس بشرة الرجل بشرة الْمَرْأَة، وَقد ترد بِمَعْنى: الْوَطْء فِي الْفرج وخارجا مِنْهُ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة: الْجِمَاع.
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا يَحْرُمُ عَليْهِ فَرْجُهَا أَي: يحرم على الصَّائِم فرج امْرَأَته، وَهَذَا التَّعْلِيق، وَصله الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب، قَالَ: حَدثا اللَّيْث عَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج عَن أبي مرّة مولى عقيل، (عَن حَكِيم بن عقال أَنه قَالَ: سَأَلت عَائِشَة: مَا يحرم عَليّ من امْرَأَتي وَأَنا صَائِم؟ قَالَت: فرجهَا) . وبنحوه أخرج ابْن حزم فِي (الْمحلي) من طَرِيق معمر عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي(11/7)
قلَابَة (عَن مَسْرُوق، قَالَ: سَأَلت عَائِشَة، أم الْمُؤمنِينَ: مَا يحل للرجل من امْرَأَته صَائِما؟ فَقَالَ: (كل شَيْء إلاَّ الْجِمَاع) ، وَأَبُو مرّة اسْمه: يزِيد مولى عقيل بن أبي طَالب، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَحَكِيم بن عقال الْعجلِيّ الْبَصْرِيّ وَثَّقَهُ ابْن حبَان.
42 - (بابُ القُبْلَةِ لِلصَّائِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْقبْلَة للصَّائِم.
وَقَالَ جابِرُ بنُ زَيْدٍ إنْ نَظَرَ فأمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ
جَابر بن زيد هُوَ أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ، وَقد تقدم، وَهَذَا الْأَثر وَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر فِي آخر الْبَاب السَّابِق، وَوَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَمْرو بن هرم، سُئِلَ جَابر بن زيد فَذكره.
8291 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبِي عنْ عائِشةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ هِشَامٍ عَن أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أزْوَاجِهِ وهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ ضَحِكَتْ. (انْظُر الحَدِيث 7291) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ليقبل بعض أَزوَاجه وَهُوَ صَائِم) ، وَهَذَا الْفِعْل هُوَ الْمُبَاشرَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بن سعيد.
قَوْله:(11/8)
(إِن كَانَ) ، كلمة: إِن، مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة فَتدخل على الجملتين، فَإِن دخلت على الإسمية جَازَ إعمالها خلافًا للكوفيين، وَإِن دخلت على الفعلية وَجب إعمالها، وَالْأَكْثَر كَون الْفِعْل مَاضِيا نَاسِخا، وَهنا كَذَلِك. قَوْله: (ليقبل) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد. قَوْله: (وَهُوَ صَائِم) جملَة حَالية. قَوْله: (ثمَّ ضحِكت) قيل: كَانَ ضحكها تَنْبِيها على أَنَّهَا صَاحِبَة الْقَضِيَّة ليَكُون أبلغ فِي الثِّقَة بحديثها. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل ضحكها التَّعَجُّب مِمَّا خَالفه فِيهِ أَو من نَفسهَا حَيْثُ جَاءَت بِمثل هَذَا الحَدِيث الَّذِي يستحي من ذكره، لَا سِيمَا حَدِيث الْمَرْأَة عَن نَفسهَا للرِّجَال: لَكِنَّهَا اضطرت إِلَى ذكره لتبليغ الحَدِيث، فتعجبت من ضَرُورَة الْحَال المضطرة لَهَا إِلَى ذَلِك، وَقيل: ضحِكت سُرُورًا بتذكر مَكَانهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحالها مَعَه.
ذكر بَيَان الْخلاف فِي هَذَا الْبَاب: ذهب شُرَيْح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَأَبُو قلَابَة وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة ومسروق ابْن الأجدع وَعبد الله بن شبْرمَة إِلَى أَنه لَيْسَ للصَّائِم أَن يُبَاشر الْقبْلَة فَإِن قبل فقد أفطر وَعَلِيهِ أَن يقْضِي يَوْمًا، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا الْفضل بن دُكَيْن عَن إِسْرَائِيل عَن زيد بن جُبَير عَن أبي يزِيد الضني (عَن مَيْمُونَة، مولاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن رجل قبل امْرَأَته وهما صائمان؟ قَالَ: قد أفطرا) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَلَفظه: (عَن مَيْمُونَة بنت سعد قَالَت: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقبْلَة للصَّائِم؟ فَقَالَ: أفطرا جَمِيعًا) . وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو يزِيد الضني، بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة: نِسْبَة إِلَى ضنة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَقَالَ ابْن حزم: مَجْهُول، ومَيْمُونَة بنت سعد، وَقيل: سعيد، خَادِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه ابْن حزم وَلَفظه: عَن مَيْمُونَة بنت عقبَة مولاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث، وَكَذَا قَالَ السُّهيْلي وَالْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ يَعْنِي البُخَارِيّ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أحدث بِهِ، وَأَبُو يزِيد لَا أعرف اسْمه وَهُوَ رجل مَجْهُول. قَوْله: (قد أفطرا) ، أَي: المقبِّل والمقبَّل كِلَاهُمَا أفطرا، يَعْنِي: انْتقض صومهما، وَقَالَ أَبُو عمر: وَمِمَّنْ كره الْقبْلَة للصَّائِم عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعُرْوَة بن الزبير، وَقد رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن عروق الخصيتين معلقَة بالأنف، فَإِذا وجد الرّيح تحرّك، وَإِذا تحرّك دعِي إِلَى مَا هُوَ أَكثر من ذَلِك، وَالشَّيْخ أملك لأربه، وَكره مَالك الْقبْلَة للصَّائِم فِي رَمَضَان للشَّيْخ والشاب، وَعَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه أرخص فِيهَا للشَّيْخ، وكرهها للشاب. وَقَالَ عِيَاض: مِنْهُم من أَبَاحَهَا على الْإِطْلَاق، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد من الْفُقَهَاء، وَمِنْهُم من كرهها على الْإِطْلَاق وَهُوَ مَشْهُور قَول مَالك، وَمِنْهُم من كرهها للشاب وأباحها للشَّيْخ وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ عَن مَالك، وَمِنْهُم من أَبَاحَهَا فِي النَّفْل ومنعها فِي الْفَرْض، وَهِي رِوَايَة ابْن وهب عَن مَالك، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن حركت الْقبْلَة الشَّهْوَة فَهِيَ حرَام على الْأَصَح عِنْد أَصْحَابنَا، وَقيل: مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة فِي فروعهم: لَا بَأْس بالقبلة والمعانقة إِذا أَمن على نَفسه أَو كَانَ شَيخا كَبِيرا، وَيكرهُ لَهُ مس فرجهَا، وَعَن أبي حنيفَة: تكره المعانقة والمصافحة والمباشرة الْفَاحِشَة بِلَا ثوب والتقبيل الْفَاحِش مَكْرُوه وَهُوَ أَن يمضغ شفتيها، قَالَه مُحَمَّد. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من طَرِيق مصدع أبي يحيى (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبلهَا ويمص لسانها) . قلت: كلمة: ويمص، لسانها غير مَحْفُوظَة، وَإِسْنَاده ضَعِيف، والآفة من مُحَمَّد بن دِينَار عَن سعد بن أَوْس عَن مصدع، وَتفرد بِهِ أَبُو دَاوُد، وَحكى ابْن الْأَعرَابِي عَن أبي دَاوُد أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح، وَعَن يحيى بن مُحَمَّد بن دِينَار: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ تغير قبل أَن يَمُوت، وَسعد بن أَوْس ضعفه يحيى أَيْضا. قيل: على تَقْدِير صِحَة الحَدِيث يجوز أَن يكون التَّقْبِيل وَهُوَ صَائِم فِي وَقت، والمص فِي وَقت آخر، وَيجوز أَن يمصه وَلَا يبتلعه، وَلِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق انْفِصَال مَا على لسانها من البلل، وَفِيه نظر لَا يخفى. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِن قبَّل فأمنى أفطر بِلَا خلاف، فَإِن أمذى أفطر عندنَا وَعند مَالك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يفْطر، وَرُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، واللمس بِشَهْوَة كالقبلة، فَإِن كَانَ بِغَيْر شَهْوَة فَلَيْسَ مَكْرُوها بِحَال.
وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث عَائِشَة من رِوَايَة عَمْرو بن مَيْمُون: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقبل فِي شهر الصَّوْم) ، قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب وَحَفْصَة وَأبي سعيد وَأم سَلمَة(11/9)
وَابْن عَبَّاس وَأنس وَأبي هُرَيْرَة. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَأم حَبِيبَة ومَيْمُونَة زَوجي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومَيْمُونَة بنت سعد مولاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرجل من الْأَنْصَار عَن امْرَأَته.
أما حَدِيث عَائِشَة فَروِيَ من طرق عديدة حَتَّى إِن الطَّحَاوِيّ أخرجه من عشْرين طَرِيقا. وَأما حَدِيث عمر بن الْخطاب فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث جَابر بن عبد الله، قَالَ: (قَالَ عمر ابْن الْخطاب: هششت فَقبلت وَأَنا صَائِم، فَقلت: يَا رَسُول الله صنعت الْيَوْم أمرا عَظِيما {قبلت وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَو مضمضت من المَاء وَأَنت صَائِم؟ قلت: لَا بَأْس} قَالَ: فَمه) . قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَقد أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ) صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَأما حَدِيث حَفْصَة فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح عَن شُتَيْر بن شكل عَن حَفْصَة، قَالَت: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل وَهُوَ صَائِم) . وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: (رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقبْلَة للصَّائِم والحجامة) . وَأما حَدِيث أم سَلمَة فَأخْرجهُ مُسلم من رِوَايَة عبد ربه بن سعيد عَن عبد الله بن كَعْب الْحِمْيَرِي (عَن عمر بن أبي سَلمَة، أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيقبل الصَّائِم؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سل هَذِه لأم سَلمَة فَأَخْبَرته أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنع ذَلِك، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما وَالله إِنِّي لأتقاكم لله وأخشاكم لَهُ) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) وروى البُخَارِيّ عَنْهَا أَيْضا على مَا سَيَأْتِي. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ القَاضِي يُوسُف بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان ابْن حَرْب، حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، قَالَ: حَدثنِي رجل من بني سدوس، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصِيب من الرؤوس وَهُوَ صَائِم، يَعْنِي الْقبل) . وروينا هَذَا الحَدِيث عَن شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله، قَالَ: أَخْبرنِي بِهِ أَبُو المظفر مُحَمَّد بن يحيى الْقرشِي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ: أخبرنَا عبد الرَّحِيم بن يُوسُف ابْن الْمعلم أخبرنَا عمر بن مُحَمَّد الْمُؤَدب أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ أخبرنَا الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن كيسَان أخبرنَا يُوسُف بن يَعْقُوب القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ. وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) و (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيقبل الصَّائِم؟ قَالَ: وَمَا بَأْس ذَلِك؟ رَيْحَانَة يشمها) . وَرِجَاله ثِقَات. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي العنبس عَن الْأَغَر عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل حَدِيث قبله، وَأَبُو العنبس اسْمه محَارب بن عبيد بن كَعْب.
وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي (كتاب الْعِلَل) فَقَالَ: سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ قيس بن حَفْص بن قيس بن الْقَعْقَاع الدَّارمِيّ: حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد حَدثنَا سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن شيتر بن شكل (عَن عَليّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم) ثمَّ قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: هَذَا خطأ إِنَّمَا هُوَ الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن شُتَيْر بن شكل عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) فِي تَرْجَمَة غَالب بن عبد الله الْجَزرِي (عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم وَلَا يُعِيد الْوضُوء) ، وغالب الْجَزرِي ضَعِيف. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) عَنهُ قَالَ: (كُنَّا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء شَاب، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} أقبل وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فجَاء شيخ فَقَالَ: أقبل وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: نعم. قَالَ فَنظر بَعْضنَا إِلَى بعض، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد علمت لم نظر بَعْضكُم إِلَى بعض، إِن الشَّيْخ يملك نَفسه) . وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ. وَأما حَدِيث أم حَبِيبَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنْهَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم) قَالَ النَّسَائِيّ: الصَّوَاب عَن حَفْصَة. وَأما حَدِيث مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبِّل وَهُوَ صَائِم) . قَالَ أَبُو زرْعَة: رَوَاهُ هَكَذَا عَمْرو بن أبي قيس وَهُوَ خطأ، وَرَوَاهُ الثَّوْريّ وَآخَرُونَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأما حَدِيث مَيْمُونَة مولاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه وَقد ذَكرْنَاهُ. وَأما حَدِيث الرجل الْأنْصَارِيّ عَن امْرَأَته، فَأخْرجهُ أَحْمد مطولا، وَفِيه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك) .
فَإِن قلت: قَوْله: (يقبل وَهُوَ صَائِم) ، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون فِي رَمَضَان قلت: فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: كَانَ يقبل فِي شهر(11/10)
الصَّوْم، وَهَذَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون فِي رَمَضَان، لِأَنَّهُ شهر الصَّوْم، وَقد جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يقبل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم) . فَإِن قلت: لَا يلْزم من قَوْله: (فِي رَمَضَان) ، أَن يكون بِالنَّهَارِ؟ قلت: فِي رِوَايَة عَن عَائِشَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) (كَانَ يقبل ويباشر وَهُوَ صَائِم) ، فَبين أَن ذَلِك فِي حَالَة الصّيام.
9291 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامِ بنِ أبِي عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عنْ أُمِّهَا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ بَيْنَمَا أنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الخَمِيلَةِ إذْ حِضْتُ فانْسَلَلْتُ فأخَذْتُ ثَيَابَ حِيضَتِي فَقَالَ مَا لَكِ أنَفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ فدَخَلْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ وكانَتْ هِيَ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إنَاءٍ واحِدٍ وكانَ يُقَبِّلُها وهُوَ صَائِمٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ يقبلهَا وَهُوَ صَائِم) ، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب من سمى النّفاس حيضا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مكي بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام ... إِلَى آخِره، وَزَاد هُنَا، قَوْله: (وَكَانَت هِيَ) إِلَى آخِره، وَهُنَاكَ: (بَينا أَنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجِعَة فِي خميصة) ، وَهنا: (فَدخلت مَعَه فِي الخميلة) ، وَهُنَاكَ: (فاضطجعت مَعَه فِي الخميلة) ، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، والخميلة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: ثوب من صوف لَهُ علم. قَوْله: (حيضتي) بِكَسْر الْحَاء، قَوْله: (أنفست؟) الصَّحِيح فِيهِ أَنه بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء: مَعْنَاهُ أحضتِ؟ وَبَقِيَّة المباحث مرت هُنَاكَ.
52 - (بابُ اغْتِسَالِ الصَّائِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاغْتِسَال للصَّائِم وَهُوَ جَوَازه، قيل: إِنَّمَا أطلق الِاغْتِسَال ليشْمل جَمِيع أَنْوَاعه من الْفَرْض وَالسّنة وَغَيرهمَا، وَقَالَ بَعضهم: وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ضعف مَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من النَّهْي عَن دُخُول الصَّائِم الْحمام، أخرجه عبد الرَّزَّاق، وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَاعْتَمدهُ الْحَنَفِيَّة فكرهوا الِاغْتِسَال للصَّائِم. انْتهى. قلت: قَوْله: كَأَنَّهُ يُشِير، كَلَام كَاد أَن يكون عَبَثا، لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يُرَاد بِالْإِشَارَةِ مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَلَا مَعْنَاهَا الاصطلاحي، وَقَوله: وَاعْتَمدهُ الْحَنَفِيَّة، غير صَحِيح على إِطْلَاقه، لِأَن قَوْله: كَرهُوا الِاغْتِسَال للصَّائِم، رِوَايَة عَن أبي حنيفَة غير مُعْتَمد عَلَيْهَا، وَالْمذهب الْمُخْتَار أَنه لَا يكره، ذكره الْحسن عَن أبي حنيفَة، نبه عَلَيْهِ صَاحب (الْوَاقِعَات) وَذكر فِي (الرَّوْضَة) و (جَوَامِع الْفِقْه) : لَا يكره الِاغْتِسَال وبل الثَّوْب وصب المَاء على الرَّأْس للْحرّ، وروى أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لقد رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالعرج يصب على رَأسه المَاء وَهُوَ صَائِم من الْحر، أَو من الْعَطش) . وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا أَزْهَر عَن ابْن عون: كَانَ ابْن سِيرِين لَا يرى بَأْسا أَن يبل الثَّوْب، ثمَّ يلقيه على وَجهه، وَحدثنَا يحيى ابْن سعيد عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ أَنه كَانَ يصب عَلَيْهِ المَاء وَيروح عَنهُ وَهُوَ صَائِم.
وبَلَّ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ثَوْبا فألْقَاهُ عَلَيْهِ وهُوَ صَائِمٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الثَّوْب المبلول إِذا ألقِي على الْبدن بل الْبدن، فَيُشبه الْبدن الَّذِي سكب عَلَيْهِ المَاء. قَوْله: (فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ) ، رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (فألقي عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، فَكَأَنَّهُ أَمر غَيره وألقاه عَلَيْهِ. قَوْله: (وَهُوَ صَائِم) جملَة وَقعت حَالا. هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن يحيى بن سعيد عَن عبد الله بن أبي عُثْمَان، (قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يبل الثَّوْب ثمَّ يلقيه عَلَيْهِ) ، وَقَالَ بَعضهم: وَأَرَادَ البُخَارِيّ بأثر ابْن عمر هَذَا مُعَارضَة مَا جَاءَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بأقوى مِنْهُ، فَإِن وكيعا روى عَن الْحسن بن صَالح عَن مغيره عَنهُ أَنه كَانَ يكره للصَّائِم بل الثِّيَاب. قلت: هَذَا كَلَام صادر من غير تَأمل فَأَنَّهُ اعْترف أَن الَّذِي رَوَاهُ إِبْرَاهِيم أقوى من الَّذِي ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، فَكيف تصح الْمُعَارضَة حِينَئِذٍ؟ بل الَّذِي يُقَال: إِنَّه أَرَادَ بِهِ الْإِشَارَة إِلَى مَا روى عَن ابْن عمر من فعله ذَلِك، فَافْهَم.
ودَخَلَ الشَّعْبِيُّ الحَمَّامَ وهُوَ صَائِمٌ(11/11)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة عَن الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق، قَالَ: رَأَيْت الشّعبِيّ يدْخل الْحمام وَهُوَ صَائِم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأسَ أنْ يتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أوِ الشَّيءَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التطعم من الشَّيْء الَّذِي هُوَ إِدْخَال الطَّعَام فِي الْفَم من غير بلغ لَا يضر الصَّوْم، فإيصال المَاء إِلَى الْبشرَة بِالطَّرِيقِ الأولى أَن لَا يضر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عِكْرِمَهْ عَنهُ بِلَفْظ: (لَا بَأْس أَن يتطاعم الْقدر) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن الْعمريّ أَنبأَنَا عبد الله الشريحي أَنبأَنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ حَدثنَا عَليّ بن الجدع أَنبأَنَا شريك عَن سُلَيْمَان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَلَفظه: (لَا بَأْس أَن يتطاعم الصَّائِم بالشَّيْء) ، يَعْنِي المرقة وَنَحْوهَا.
قَوْله: (أَن يتطعم الْقدر) ، بِكَسْر الْقَاف وَهُوَ الظّرْف الَّذِي يطْبخ فِيهِ الطَّعَام، وَالتَّقْدِير: من طَعَام الْقدر، وَأَرَادَ بقوله: أَو الشَّيْء أَي شَيْء كَانَ من المطعومات، وَهُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن إِسْرَائِيل عَن جَابر عَن عَطاء عَنهُ قَالَ: لَا بَأْس أَن يَذُوق الْخلّ أَو الشَّيْء مَا لم يدْخل حلقه وَهُوَ صَائِم، وَعَن الْحسن: لَا بَأْس أَن يتطاعم الصَّائِم الْعَسَل وَالسمن وَنَحْوه ويمجه، وَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء: لَا بَأْس أَن يتطعم الطَّعَام من الْقدر، وَعَن الحكم نَحوه، وَفعله عُرْوَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يحْتَرز عَن ذوق الطَّعَام خوف الْوُصُول إِلَى حلقه. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِذا لم يدْخل حلقه لَا يفْطر وصومه تَامّ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ مَالك: أكرهه وَلَا يفطره إِن لم يدْخل حلقه، وَهُوَ مثل قَوْلنَا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا بَأْس أَن تمضغ الصائمة لصبيها الطَّعَام، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ، وَكَرِهَهُ مَالك وَالثَّوْري والكوفيون إلاَّ لمن لم يجد بدا من ذَلِك، وَبِه صرح أَصْحَابنَا. وَفِي (الْمُحِيط) : وَيكرهُ الذَّوْق للصَّائِم وَلَا يفطره، وَفِيه: لَا بَأْس أَن يَذُوق الصَّائِم الْعَسَل أَو الطَّعَام ليشتريه ليعرف جيده ورديئه كَيْلا يغبن فِيهِ مَتى لم يذقه، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَا بَأْس للْمَرْأَة أَن تمضغ الطَّعَام لصبيها إِذا لم تَجِد مِنْهُ بدا.
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بأسَ بالمَضْمَضَةِ والتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الْمَضْمَضَة جُزْء للْغسْل، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق بِمَعْنَاهُ قلت: لم يبين ذَلِك، بل روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة خلاف ذَلِك، فَقَالَ: حَدثنِي عبد الْأَعْلَى عَن هِشَام عَن الْحسن أَنه كَانَ يكره أَن يمضمض الرجل إِذا أفطر وَإِذا أَرَادَ أَن يشرب. قَوْله: (والتبرد) أَعم من أَن يكون فِي سَائِر جسده أَو فِي بعضه، مثل مَا إِذا تبرد بِالْمَاءِ على وَجهه أَو على رجلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ إذَا كانَ صَوْمُ أحَدِكُمْ فَلْيْصْبحْ دَهِينا مُتَرَجِّلاً
ذكر فِي وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة وُجُوه: الأول: أَن الإدهان من اللَّيْل يَقْتَضِي اسْتِصْحَاب أَثَره فِي النَّهَار، وَهُوَ مِمَّا يرطب الدِّمَاغ وَيُقَوِّي النَّفس، فَهُوَ أبلغ من الِاسْتِعَانَة بِبرد الِاغْتِسَال لَحْظَة من النَّهَار، ثمَّ يذهب أَثَره. قلت: هَذَا بعيد جدا، لِأَن الادهان فِي نَفسهَا مُتَفَاوِتَة، وَمَا كل دهن يرطب الدِّمَاغ، بل فِيهَا مَا يضرّهُ، يعرفهُ من ينظر فِي علم الطِّبّ. وَقَوله: أبلغ من الِاسْتِعَانَة ... إِلَى آخِره، غير مُسلم لِأَن الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ لتَحْصِيل الْبُرُودَة والدهن يُقَوي الْحَرَارَة، وَهُوَ ضد ذَاك، فَكيف يَقُول: هُوَ أبلغ ... ؟ إِلَى آخِره. الْوَجْه الثَّانِي: قَالَه بَعضهم: إِن الْمَانِع من الِاغْتِسَال لَعَلَّه سلك بِهِ مَسْلَك اسْتِحْبَاب التقشف فِي الصّيام، كَمَا ورد مثله فِي الْحَج، والادهان والترجل فِي مُخَالفَة التقشف كالاغتسال قلت: هَذَا أبعد من الأول، لِأَن التَّرْجَمَة فِي جَوَاز الِاغْتِسَال لَا فِي مَنعه، وَكَذَلِكَ أثر ابْن مَسْعُود فِي الْجَوَاز لَا فِي الْمَنْع، فَكيف يَجْعَل الْجَوَاز مناسبا للْمَنْع؟ الْوَجْه الثَّالِث مَا قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على من كره الِاغْتِسَال للصَّائِم، لِأَنَّهُ إِن كرهه خشيَة وُصُول المَاء إِلَى حلقه فالعلة بَاطِلَة بالمضمضة وبالسواك وبذوق الْقدر، وَنَحْو ذَلِك، وَإِن كرهه للرفاهية فقد اسْتحبَّ السّلف للصَّائِم الترفه والتجمل والادهان والكحل وَنَحْو ذَلِك؟ قلت: هَذَا أقرب إِلَى الْقبُول، وَلَكِن تَحْقِيقه أَن يُقَال: إِن بالاغتسال يحصل التطهر والتنظف للصَّائِم، وَهُوَ فِي ضِيَافَة الله تَعَالَى ينْتَظر الْمَائِدَة، وَمن حَاله هَذِه يحسن لَهُ التطهر والتنظف(11/12)
والتطيب، وَهَذِه تحصل بالاغتسال والادهان والترجل.
قَوْله: (دهينا) ، على وزن: فعيل، بِمَعْنى مفعول أَي: مدهونا. قَوْله: (مترجلاً) ، من التَّرَجُّل، وَهُوَ تَسْرِيح الشّعْر وتنظيفه، وَكَذَلِكَ الترجيل وَمِنْه أَخذ الْمرجل وَهُوَ الْمشْط، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: يسْتَحبّ للصَّائِم أَن يدهن حَتَّى يذهب عَنهُ غبرة الصَّوْم، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ: لَا بَأْس أَن يدهن الصَّائِم شَاربه، وَمِمَّنْ أجَاز الدّهن للصَّائِم: مطرف وَابْن عبد الحكم وإصبغ، ذكره ابْن حبيب، وَكَرِهَهُ ابْن أبي ليلى.
وَقَالَ أنَسٌ إنَّ لِي أبْزَنا أتَقَحَّمُ فِيه وأنَا صَائِمً
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الدُّخُول فِي الإبزَنِ فَوق الِاغْتِسَال، والإبزن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الزَّاي وَفِي آخِره نون: وَهُوَ الْحَوْض. وَقَالَ ابْن قرقول: مثل الْحَوْض الصَّغِير من فخار، وَنَحْوه، وَقيل: هُوَ حجر منقور كالحوض، وَقَالَ أَبُو ذَر: كالقدر يسخن فِيهِ المَاء، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَلذَلِك لَا يصرف. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ شَيْء يتَّخذ من الضفر للْمَاء، لَهُ جَوف. وَفِي كتاب (لُغَة المنصوري) لِابْنِ الحشا، وَمن خطه: أبزن، ضَبطه، بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَهُوَ مستنقع يكون أَكثر ذَلِك فِي الْحمام، وَقد يكون فِي غَيره، ويتخذ من صفر وَمن خشب. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : الَّذِي قرأته على جمَاعَة من فضلاء الْأَطِبَّاء، وعد جمَاعَة: أبزن، بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (اتقحم فِيهِ) ، أَي: أَدخل، ومادته: قَاف وحاء مُهْملَة وَمِيم. قَوْله: (وَأَنا صَائِم) جملَة حَالية، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله قَاسم بن ثَابت فِي (غَرِيب الحَدِيث) لَهُ، من طَرِيق عِيسَى بن طهْمَان: سَمِعت أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: إِن لي إبزن إِذا وجدت الْحر تقحمت فِيهِ وَأَنا صَائِم.
ويُذْكَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ اسْتَاكَ وهُوَ صَائِمٌ مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يحصل بِهِ تَطْهِير الْفَم، كَمَا ورد فِي الحَدِيث: (السِّوَاك مطهرة للفم) كَمَا يحصل الطهير للبدن بالاغتسال، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تحصل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين الحَدِيث الَّذِي ذكره بِصِيغَة التمريض. فَإِن قلت: فِي استنان الصَّائِم إِزَالَة الخلوف الَّذِي هُوَ أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك؟ قلت: إِنَّمَا مدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخلوف نهيا للنَّاس عَن تعزز مكالمة الصائمين بِسَبَب الخلوف، لَا نهيا للصوام عَن السِّوَاك، وَالله غَنِي عَن وُصُول الرَّائِحَة الطّيبَة إِلَيْهِ، فَعلمنَا يَقِينا أَنه لم يرد بِالنَّهْي اسْتِبْقَاء الرَّائِحَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ نهي النَّاس عَن كراهتها، وروى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان عَن عَاصِم بن عبيد الله (عَن عبد الله بن عَامر بن ربيعَة عَن أَبِيه، قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا أحصي يتَسَوَّك وَهُوَ صَائِم) ، ثمَّ قَالَ: حَدِيث عَامر بن ربيعَة حَدِيث حسن، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن شريك وَعَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان، كِلَاهُمَا عَن عَاصِم، وَلَفظه: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك وَهُوَ صَائِم) ، زَاد فِي رِوَايَة: (مَا لَا أعد وَلَا أحصي) . قَالَ صَاحب (الإِمَام) : ومداره على عَاصِم بن عبيد الله، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) بعد أَن حكى عَن التِّرْمِذِيّ أَنه حسنه: لَكِن مَدَاره على عَاصِم بن عبيد الله وَقد ضعفه الْجُمْهُور، فَلَعَلَّهُ اعتضد. انْتهى. وَقَالَ الْمزي: وَأحسن مَا قيل فِيهِ قَول الْعجلِيّ: لَا بَأْس بِهِ، وَقَول ابْن عدي: هُوَ مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، بعد تَخْرِيجه: عَاصِم بن عبيد الله لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث عَامر بن ربيعَة قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قلت: حَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي إِسْمَاعِيل الْمُؤَدب، واسْمه إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان: عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من خير خِصَال الصَّائِم السِّوَاك) ، ومجالد بن سعيد ضعفه الْجُمْهُور، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وروى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أنس وحبان بن الْمُنْذر وخباب بن الْأَرَت وَأبي هُرَيْرَة. فَحَدِيث أنس رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق الْخَوَارِزْمِيّ، قَاضِي خوارزم، قَالَ: سَأَلت عَاصِمًا الْأَحول، فَقلت: أيستاك الصَّائِم؟ فَقَالَ: نعم، فَقلت: برطب السِّوَاك ويابسة؟ قَالَ: نعم قلت: أول النَّهَار وَآخره؟ قَالَ: نعم. قلت: عَمَّن؟ قَالَ: عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَبُو إِسْحَاق الْخَوَارِزْمِيّ ضَعِيف يبلغ عَن عَاصِم الْأَحول بِالْمَنَاكِيرِ، لَا يحْتَج بِهِ. انْتهى.(11/13)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي كتاب (الْأَسْمَاء والكنى) فِي تَرْجَمَة أبي إِسْحَاق، وَقَالَ: اسْمه إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن، مُنكر الحَدِيث. وَحَدِيث حبَان بن الْمُنْذر رَوَاهُ أَبُو بكر الْخَطِيب نَحْو حَدِيث خباب بن الْأَرَت. وَحَدِيث خباب بن الْأَرَت رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه من رِوَايَة كيسَان أبي عمر القصاب عَن عمر بن عبد الرَّحْمَن عَن خباب عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صمتم فاستاكوا بِالْغَدَاةِ، وَلَا تستاكوا بالْعَشي، فَإِنَّهُ لَيْسَ من صَائِم تيبس شفتاه بالْعَشي إلاَّ كَانَتَا نورا بَين عَيْنَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كيسَان أَبُو عمر لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقد ضعفه يحيى بن معِين والساجي. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عمر بن قيس عَن عَطاء (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: لَك السِّوَاك إِلَى الْعَصْر، فَإِذا صليت الْعَصْر فألقه فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: خلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) . وَعمر بن قيس هُوَ الملقب بِسَنَد مكي مَتْرُوك، قَالَه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، وَلَكِن الحَدِيث الْمَرْفُوع مِنْهُ صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأما اسْتِدْلَال أبي هُرَيْرَة بِهِ على السِّوَاك فَلَيْسَ فِي الصَّحِيح، وَأما حكم السِّوَاك للصَّائِم فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ على سِتَّة أَقْوَال: الأول: أَنه لَا بَأْس بِهِ للصَّائِم مُطلقًا قبل الزَّوَال وَبعده، ويروى عَن عَليّ وَابْن عمر أَنه: لَا بَأْس بِالسِّوَاكِ الرطب للصَّائِم، وَرَوَاهُ ذَلِك أَيْضا عَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن علية، وَرويت الرُّخْصَة فِي السِّوَاك للصَّائِم عَن عمر وَابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن علية: السِّوَاك سنة للصَّائِم والمفطر وَالرّطب واليابس سَوَاء. الثَّانِي: كراهيته للصَّائِم بعد الزَّوَال واستحبابه قبله برطب أَو يَابِس، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي أصح قوليه، وَأبي ثَوْر، وَقد رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَرَاهَة السِّوَاك بعد الزَّوَال رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ. الثَّالِث: كَرَاهَته للصَّائِم بعد الْعَصْر فَقَط، ويروى عَن أبي هُرَيْرَة. الرَّابِع: التَّفْرِقَة بَين صَوْم الْفَرْض وَصَوْم النَّفْل، فَيكْرَه فِي الْفَرْض بعد الزَّوَال وَلَا يكره فِي النَّفْل، لِأَنَّهُ أبعد عَن الرِّيَاء، حَكَاهُ المَسْعُودِيّ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَحَكَاهُ صَاحب الْمُعْتَمد من الشَّافِعِيَّة عَن القَاضِي حُسَيْن. الْخَامِس: أَنه يكره السِّوَاك للصَّائِم بِالسِّوَاكِ الرطب دون غَيره، سَوَاء أول النَّهَار وَآخره، وَهُوَ قَول مَالك وَأَصْحَابه، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ كَرَاهَة السِّوَاك الرطب للصَّائِم الشّعبِيّ وَزِيَاد بن حدير وَأَبُو ميسرَة وَالْحكم ابْن عتيبة وَقَتَادَة. السَّادِس: كَرَاهَته للصَّائِم بعد الزَّوَال مُطلقًا، وَكَرَاهَة الرطب للصَّائِم مُطلقًا، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ أوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ ولاَ يَبْلَعُ رِيقَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وَهَذَا التَّعْلِيق روى مَعْنَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن عبيد الله بن نَافِع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر، بِلَفْظ: (كَانَ يستاك إِذا أَرَادَ أَن يروح إِلَى الظّهْر وَهُوَ صَائِم) .
وَقَالَ عَطَاءٌ إِن ازْدَرَدَ رِيقَهُ لاَ أقُولُ يُفْطِرُ
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح فِي أثر ابْن عمر الْمَذْكُور: إِن ازدرد، أَي: إِن ابتلع رِيقه بعد التسوك لَا يفْطر، وأصل: ازدرد: ازترد لِأَنَّهُ من: زرد، إِذا بلع فَنقل إِلَى بَاب الافتعال: فَصَارَ: ازترد، ثمَّ قلبت: التَّاء دَالا، فَصَارَ: ازدرد.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ لاَ بَأسَ بالسِّوَاكِ الرَّطْبِ قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ والمَاءُ لَهُ طَعْمٌ وأنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبيد بن سهل الفداني عَن عقبَة بن أبي حَمْزَة الْمَازِني، قَالَ: أَتَى مُحَمَّد بن سِيرِين رجل فَقَالَ: مَا ترى فِي السِّوَاك للصَّائِم؟ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ. قَالَ: إِنَّه جَرِيدَة وَله طعم، قَالَ: المَاء لَهُ طعم وَأَنت تمضمض بِهِ. فَإِن قلت: لَا طعم للْمَاء لِأَنَّهُ تفه. قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ منى} (الْبَقَرَة: 942) . وَقَالَ صَاحب (الْمُجْمل) : الطَّعَام يَقع على كل مَا يُطعم حَتَّى المَاء.
وَلم يَرع أنَسٌ والحَسَنُ وإبْرَاهِيمُ بالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأسا(11/14)
أنس هُوَ ابْن مَالك الصَّحَابِيّ، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَمَسْأَلَة الْكحل للصَّائِم وَقعت هُنَا اسْتِطْرَادًا لَا قصدا، فَلذَلِك لَا تطلب فِيهَا الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
أما التَّعْلِيق عَن أنس فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (السّنَن) من طَرِيق عبيد الله أبي بكر بن أنس (عَن أنس: أَنه كَانَ يكتحل وَهُوَ صَائِم) ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي عَاتِكَة (عَن أنس: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: اشتكت عَيْني أفأكتحل وَأَنا صَائِم؟ قَالَ: نعم) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ، وَلَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب شَيْء، وَأَبُو عَاتِكَة اسْمه: طريف بن سُلَيْمَان، وَقيل: سُلَيْمَان. وَقيل: اسْمه سلمَان بن طريف. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ذَاهِب الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة، وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح لَا بَأْس بِهِ (عَن عَائِشَة، قَالَت: اكتحل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ صَائِم) ، وَفِي (كتاب الصّيام) لِابْنِ أبي عَاصِم بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ من حَدِيث نَافِع (عَن ابْن عمر: خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَيناهُ مملوءتان من الإثمد فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم) . فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الرَّحْمَن بن النُّعْمَان بن معبد بن هودة عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر بالإثمد المروح عِنْد النّوم، وَقَالَ: ليتَّقِهِ الصَّائِم قلت: قَالَ أَبُو أَبُو دَاوُد: قَالَ لي يحيى بن معِين: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَقَالَ الْأَثْرَم عَن أَحْمد) هَذَا حَدِيث مُنكر فَلَا مُعَارضَة حِينَئِذٍ، وروى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة حبَان بن عَليّ عَن مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكتحل بالإثمد وَهُوَ صَائِم، وَمُحَمّد هَذَا قَالَ فِيهِ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء، وروى الْحَارِث بن أبي أُسَامَة عَن أبي زَكَرِيَّا يحيى بن إِسْحَاق: حَدثنَا سعيد بن زيد عَن عَمْرو بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن عَليّ عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ بن أبي طَالب، وَعَن حبيب بن ثَابت عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: انتظرنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرج فِي رَمَضَان إِلَيْنَا، فَخرج من بَيت أم سَلمَة وَقد كحلته وملأت عَيْنَيْهِ كحلاً) . وَلَيْسَ هَذَانِ الحديثان صريحين فِي الْكحل للصَّائِم إِنَّمَا ذكر فيهمَا رَمَضَان فَقَط، وَلَعَلَّه كَانَ فِي رَمَضَان فِي اللَّيْل، وَالله أعلم. وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اكتحل بالإثمد يَوْم عَاشُورَاء لم يرمد أبدا) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف. وَفِيه: روى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، وَالضَّحَّاك لم يلق ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب (فَضَائِل الشُّهُور) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي حَدِيث طَوِيل فِيهِ: صِيَام عَاشُورَاء والاكتحال فِيهِ، قَالَ ابْن نَاصِر: هَذَا حَدِيث حسن عَزِيز، رِجَاله ثِقَات وَإِسْنَاده على شَرط الصَّحِيح، وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الموضوعات) ، وَقَالَ شَيخنَا: وَالْحق مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ، وَأَنه حَدِيث مَوْضُوع. وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث بَرِيرَة (قَالَت: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكتحل بالإثمد وَهُوَ صَائِم) .
وَأما أثر الْحسن فوصله عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: (لَا بَأْس بالكحل للصَّائِم) .
وَأما أثر إِبْرَاهِيم فَاخْتلف عَنهُ، فروى سعيد بن مَنْصُور عَن جرير (عَن الْقَعْقَاع بن يزِيد: سَأَلت إِبْرَاهِيم: أيكتحل الصَّائِم؟ قَالَ: نعم، قلت: أجد طعم الصَّبْر فِي حلقي؟ قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء) ، وروى عَن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: لَا بَأْس بالكحل للصَّائِم مَا لم يجد طعمه.
وَأما حكم الْمَسْأَلَة فقد اخْتلفُوا فِي الْكحل للصَّائِم فَلم يَرَ الشَّافِعِي بِهِ بَأْسا سَوَاء وجد طعم الْكحل فِي الْحلق أم لَا، وَاخْتلف قَول مَالك فِيهِ فِي الْجَوَاز وَالْكَرَاهَة، قَالَ فِي (الْمُدَوَّنَة) : يفْطر مَا وصل إِلَى الْحلق من الْعين، وَقَالَ أَبُو مُصعب: لَا يفْطر، وَذهب الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق إِلَى كَرَاهَة الْكحل للصَّائِم، وَحكى عَن أَحْمد أَنه إِذا وجد طعمه فِي الْحلق أفطر، وَعَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر: يجوز بِلَا كَرَاهَة، وَأَنه لَا يفْطر بِهِ سَوَاء وجد طعمه أم لَا. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَابْن شبْرمَة وَابْن أبي ليلى أَنهم قَالُوا: يبطل صَوْمه. وَقَالَ ابْن قَتَادَة: يجوز بالإثمد، وَيكرهُ بِالصبرِ، وَفِي (سنَن) أبي دَاوُد عَن الْأَعْمَش قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا من أَصْحَابنَا يكره الْكحل للصَّائِم.
38 - (حَدثنَا أَحْمد بن صَالح قَالَ حَدثنَا ابْن وهب قَالَ حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة وَأبي بكر قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُدْرِكهُ الْفجْر //(11/15)
جنبا فِي رَمَضَان من غير حلم فيغتسل ويصوم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَقد مضى هَذَا الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب ببابين فِي بَاب الصَّائِم يصبح جنبا وَتَقَدَّمت المباحث فِيهِ هُنَاكَ وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام وَأَبُو بكر هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث قَوْله " من غير حلم " بِضَم الْحَاء تَقْدِيره من جَنَابَة من غير حلم فَاكْتفى بِالصّفةِ عَن الْمَوْصُوف لظُهُوره
39 - (حَدثنَا إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنِي مَالك عَن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام بن الْمُغيرَة أَنه سمع أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن قَالَ كنت أَنا وَأبي فَذَهَبت مَعَه حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت أشهد على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن كَانَ ليُصبح جنبا من جماع غير احْتِلَام ثمَّ يَصُومهُ ثمَّ دَخَلنَا على أم سَلمَة فَقَالَت مثل ذَلِك) هَذَا الحَدِيث أَيْضا مضى فِي بَاب الصَّائِم يصبح جنبا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره مطولا وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ -
62 - (بابُ الصَّائِمِ إذَا أكَلَ أوْ شَرِبَ نَاسِيا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّائِم إِذا أكل أَو شرب حَال كَونه نَاسِيا وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب إِذا لمَكَان الْخلاف فِيهِ، تَقْدِيره: هَل يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء أم لَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ إنِ اسْتَنثَرَ فَدَخَلَ المَاءُ فِي حَلْقِهِ لَا بأسَ بِهِ إنْ لَمْ يَمْلِكْ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حكم دُخُول المَاء فِي حلق الصَّائِم بعد الاستنثار وَلم يملك دَفعه كَحكم شرب المَاء نَاسِيا فِي عدم وجوب الْقَضَاء، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن جريج أَن إنْسَانا قَالَ لعطاء: استنثرت فَدخل المَاء فِي حلقي، قَالَ: لَا بَأْس لم تملك، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا بَأْس إِن لم تملك كَذَا، فِي نُسْخَة السماع، وَفِي غَيرهَا سُقُوط: إِن، وَفِي نُسْخَة: إِذْ لم تملك. قلت: وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي: لَا بَأْس لم يملك، بِإِسْقَاط: إِن، وَمعنى قَوْله: (إِن لم يملك) يَعْنِي: دفع المَاء بِأَن غَلبه، فَإِن ملك دفع المَاء فَلم يدْفع حَتَّى دخل حلقه أفطر، ويروى: إِن لم يملك دَفعه، وَقَوله: لم يملك، بِدُونِ إِن، اسْتِئْنَاف كَلَام، تعليلاً لما تقدم عَلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لَا بَأْس هُوَ جَزَاء الشَّرْط فَلَا بُد من الْفَاء. قلت: هُوَ مُفَسّر للجزاء الْمَحْذُوف، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة جَزَاء لقَوْله: إِن استنثر، وعَلى نُسْخَة سُقُوط: إِن، الْفَاء محذوفة كَقَوْلِه:
من يفعل الْحَسَنَات الله يشكرها
وَقَوله: إِن استنثر، من الاستنثار وَهُوَ إِخْرَاج مَا فِي الْأنف بعد الِاسْتِنْشَاق، وَقيل: هُوَ نفس الِاسْتِنْشَاق.
وَقَالَ الحسَنُ إنْ دَخلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حكم دُخُول الذُّبَاب فِي حلق الصَّائِم كَحكم الْأكل نَاسِيا فِي عدم وجوب الْقَضَاء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق وَكِيع عَن الرّبيع عَنهُ، قَالَ: (لَا يفْطر الرجل بِدُخُول حلقه الذُّبَاب) ، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ: (إِذا دخل الذُّبَاب لَا يفْطر) ، وَبِه قَالَت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلم يحفظ عَن غَيرهم خِلَافه، وَفِي (الْمُحِيط) : وَلَو دخل حلقه الذُّبَاب أَو الدُّخان أَو الْغُبَار لم يفطره، وَكَذَا لَو بَقِي بَلل فِي فَمه بعد الْمَضْمَضَة وابتلعه مَعَ رِيقه لعدم إِمْكَان الِاحْتِرَاز عَنهُ، بِخِلَاف مَا لَو دخل الْمَطَر أَو الثَّلج حلقه حَيْثُ يفطره، وَفِي (الْكتاب) فِي الْأَصَح، وَفِي (الْمَبْسُوط) : فِي الصَّحِيح، وَفِي (الذَّخِيرَة) قيل: يفْسد صَوْمه فِي الْمَطَر وَلَا يفْسد فِي الثَّلج، وَفِي بعض الْمَوَاضِع على الْعَكْس، وَفِي (الْجَامِع الْأَصْغَر) : يفْسد فيهمَا، وَهُوَ الْمُخْتَار.(11/16)
وَلَو خَاضَ المَاء فَدخل أُذُنه لَا يفطره، بِخِلَاف الدّهن، وَإِن كَانَ بِغَيْر صنعه لوُجُود إصْلَاح بدنه، وَلَو صب المَاء فِي أذن نَفسه فَالصَّحِيح أَنه لَا يفطره لعدم إصْلَاح الْبدن بِهِ، لِأَن المَاء يضر بالدماغ، وَفِي (الخزانة) : لَو دخل حلقه من دُمُوعه أَو عرق جَبينه قطرتان وَنَحْوهمَا لَا يضرّهُ، وَالْكثير الَّذِي يجد ملوحته فِي حلقه يفْسد صَوْمه لَا صلَاته، وَلَو نزل المخاط من أَنفه فِي حلقه عَليّ تعمد مِنْهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَلَو ابتلع بزاق غَيره أفسد صَوْمه وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ. كَذَا فِي (الْمُحِيط) . وَفِي (الْبَدَائِع) : لَو ابتلع ريق حَبِيبه أَو صديقه، قَالَ الْحلْوانِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ لَا يعافه بل يلتذ بِهِ، وَقيل: لَا كَفَّارَة فِيهِ، وَلَو جمع رِيقه فِي فِيهِ ثمَّ ابتلعه لم يفطره، وَيكرهُ ذكره المرغيناني.
وَقَالَ الحَسَنُ ومُجَاهِدٌ إنْ جامَعَ ناسِيا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حكم الْجِمَاع نَاسِيا كَحكم الْأكل وَالشرب نَاسِيا فِي عدم وجوب شَيْء عَلَيْهِ، وَتَعْلِيق الْحسن وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن رجل عَن الْحسن، قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَة من أكل أَو شرب نَاسِيا. وَتَعْلِيق مُجَاهِد وَصله عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن ابْن جريج عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: لَو وطىء رجل امْرَأَته وَهُوَ صَائِم نَاسِيا فِي رَمَضَان لم يكن عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد وَعبيد الله بن الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن بن صَالح وَأبي ثَوْر وَابْن أبي ذِئْب وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَكَذَلِكَ فِي الْأكل وَالشرب نَاسِيا. وَقَالَ ابْن علية وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَمَالك: يفْطر وَعَلِيهِ الْقَضَاء، زَاد أَحْمد: وَالْكَفَّارَة فِي الْجِمَاع نَاسِيا، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة.
40 - (حَدثنَا عَبْدَانِ قَالَ أخبرنَا يزِيد بن زُرَيْع قَالَ حَدثنَا هِشَام قَالَ حَدثنَا ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا نسي فَأكل وَشرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد مروا غير مرّة وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي وَهِشَام هُوَ الدستوَائي يروي على مُحَمَّد بن سِيرِين والْحَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية عَن هِشَام عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه " من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَقَالَ حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب وحبِيب وَهِشَام عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي أكلت وشربت نَاسِيا وَأَنا صَائِم قَالَ الله أطعمك وسقاك " وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدثنَا أَبُو سعيد حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن حجاج عَن قَتَادَة عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أكل أَو شرب نَاسِيا فَلَا يفْطر فَإِنَّمَا هُوَ رزق رزقه الله " وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس عَن هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة " إِذا أكل الصَّائِم أَو شرب نَاسِيا فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة عَوْف عَن خلاس وَمُحَمّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أفطر نَاسِيا وَهُوَ صَائِم فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " وروى ابْن حبَان أَيْضا من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " من أفطر فِي شهر رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة " وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق ابْن علية عَن هِشَام " فَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْهِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرج حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَفِي الْبَاب عَن أبي سعيد وَأم إِسْحَق. فَحَدِيث أبي سعيد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْفَزارِيّ عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أفطر فِي شهر رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ إِن الله أطْعمهُ وسقاه " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ الْفَزارِيّ هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن عبيد الله الْعَزْرَمِي (قلت) هُوَ ضَعِيف. وَحَدِيث أم إِسْحَق رَوَاهُ أَحْمد حَدثنَا عبد الصَّمد حَدثنَا بشار بن عبد الْملك قَالَ " حَدَّثتنِي أم حَكِيم بنت دِينَار عَن مولاتها أم إِسْحَق(11/17)
أَنَّهَا كَانَت عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأتى بقصعة من ثريد فَأكلت مَعَه وَمَعَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فناولها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عرقا فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ يَا أم إِسْحَق أصيبي من هَذَا فَذكرت أَنِّي كنت صَائِمَة فبردت يَدي لَا أقدمها وَلَا أؤخرها فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَك قَالَت كنت صَائِمَة فنسيت فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ الْآن بَعْدَمَا شبعت فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتمي صومك فَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْك " وبشار بن عبد الْملك الْمُزنِيّ ضعفه يحيى بن معِين وَأم حَكِيم اسْمهَا خَوْلَة قَوْله " إِذا نسي " أَي الصَّائِم قَوْله " فَأكل وَشرب " ويروى " أَو شرب " قَوْله " فليتم صَوْمه " وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ " فَلَا يفْطر " قَالَ شَيخنَا يجوز أَن يكون لَا فِي جَوَاب الشَّرْط للنَّهْي وَيفْطر مَجْزُومًا وَيجوز أَن تكون لَا نَافِيَة وَيفْطر مَرْفُوعا وَهُوَ أولى فَإِنَّهُ لم يرد بِهِ النَّهْي عَن الْإِفْطَار وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه لم يحصل إفطار النَّاسِي بِالْأَكْلِ وَيكون تَقْدِيره من أكل أَو شرب نَاسِيا لم يفْطر قَوْله " فَإِنَّمَا " تَعْلِيل لكَون النَّاسِي لَا يفْطر وَوجه ذَلِك أَن الرزق لما كَانَ من الله لَيْسَ فِيهِ للْعَبد تحيل فَلَا ينْسب إِلَيْهِ شبه الْأكل نَاسِيا بِهِ لِأَنَّهُ لَا صنع للْعَبد فِيهِ وَإِلَّا فالأكل مُتَعَمدا حَيْثُ جَازَ لَهُ الْفطر رزق من الله تَعَالَى بِإِجْمَاع الْعلمَاء وَكَذَلِكَ هُوَ رزق وَإِن لم يجز لَهُ الْفطر على مَذْهَب أهل السّنة وَقد يسْتَدلّ بِمَفْهُوم هَذَا الحَدِيث من يَقُول بِأَن الْحَرَام لَا يُسمى رزقا وَهُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة وَالْمَسْأَلَة مقررة فِي الْأُصُول (فَإِن قلت) كَيفَ وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْأكل وَالشرب نَاسِيا لَا يُوجب شَيْئا وَلَا ينْقض صَوْمه (قلت) قَوْله " فليتم " أَمر بالإتمام وسمى الَّذِي يتمه صوما وَالْحمل على الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة هُوَ الْوَجْه ثمَّ لَا فرق عندنَا وَعند الشَّافِعِي بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِيهِ وَجْهَان كالوجهين فِي بطلَان الصَّلَاة بالْكلَام الْكثير وَحمل بعض الشَّافِعِيَّة الحَدِيث على صَوْم التَّطَوُّع حَكَاهُ ابْن التِّين عَن ابْن شعْبَان وَكَذَا قَالَ ابْن الْقصار لِأَنَّهُ لم يَقع فِي الحَدِيث تعْيين رَمَضَان فَيحمل على التَّطَوُّع وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره لم لم يذكر فِي الحَدِيث إِثْبَات الْقَضَاء فَيحمل على سُقُوط الْكَفَّارَة عَنهُ وَإِثْبَات عذره وَرفع الْإِثْم عَنهُ وَبَقَاء نِيَّته الَّتِي بَيتهَا وَالْجَوَاب عَن ذَلِك كُله بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور آنِفا فَإِن فِيهِ تعْيين رَمَضَان وَنفي الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة (فَإِن قلت) قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ تفرد بِهِ مُحَمَّد بن مَرْزُوق عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ (قلت) أخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْبَاهِلِيّ وَأخرجه الْحَاكِم من طَرِيق أبي حَازِم الرَّازِيّ كِلَاهُمَا عَن الْأنْصَارِيّ -
72 - (بابٌ السوَاكُ الرَّطْبُ والْيابِسُ لِلصَّائِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِعْمَال السِّوَاك الرطب، وَبَيَان حكم اسْتِعْمَال السِّوَاك الْيَابِس. قَوْله: (الرطب واليابس) ، صفتان للسواك، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَقع: بَاب سواك الرطب واليابس، من قبيل قَوْلهم: مَسْجِد الْجَامِع، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الصّفة لَا يُضَاف إِلَيْهَا موصوفها، فَإِن وجد ذَلِك يقدر مَوْصُوف كَمَا فِي هَذِه الصُّورَة، وَالتَّقْدِير: مَسْجِد الْمَكَان الْجَامِع، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: صَلَاة الأولى أَي: صَلَاة السَّاعَة الأولى، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي: سواك الرطب، سواك الشّجر الرطب. قلت: مَذْهَب الْكُوفِيّين فِي هَذَا أَن الصّفة يذهب بهَا مَذْهَب الْجِنْس، ثمَّ يُضَاف الْمَوْصُوف إِلَيْهَا كَمَا يُضَاف بعض الْجِنْس إِلَيْهِ، نَحْو: خَاتم حَدِيد، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير مَحْذُوف، وَقَالَ بَعضهم: وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من كره للصَّائِم الاستياك بِالسِّوَاكِ الرطب كالمالكية وَالشعْبِيّ قلت: لم يكن مُرَاده أصلا من وضع هَذِه التَّرْجَمَة مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا لما أورد فِي هَذَا الْبَاب الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا فِيهِ الَّتِي دلّت بعمومها على جَوَاز الاستياك للصَّائِم مُطلقًا، سَوَاء كَانَ سواكا رطبا أَو سواكا يَابسا ترْجم لذَلِك بقوله: بَاب السِّوَاك الرطب ... إِلَى آخِره.
ويُذْكَرُ عنْ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَاكُ وهُوَ صَائِمٌ مَا لاَ أُحْصِي أوْ أعُدُّ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَدِيث دلَالَة عُمُوم قَوْله: (يستاك) على جَوَاز الاستياك مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الاستياك بِالسِّوَاكِ الرطب أَو الْيَابِس، وَسَوَاء كَانَ صَائِما فرضا أَو تَطَوّعا، وَسَوَاء كَانَ فِي أول النَّهَار أَو فِي آخِره. وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي: بَاب اغتسال الصَّائِم، وَيذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه استاك وَهُوَ صَائِم، وَذكر هُنَا: وَيذكر عَن عَامر بن ربيعَة ... إِلَى آخِره، وَذكرنَا(11/18)
هُنَاكَ أَن حَدِيث عَامر بن ربيعَة هَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ مَوْصُولا، وَإِنَّمَا ذكر فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصِيغَة التمريض، لِأَن فِي سَنَده: عَاصِم بن عبيد الله، قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، فَليرْجع إِلَيْهِ من يُرِيد الْوُقُوف عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله: (بِالسِّوَاكِ) أَعم من السِّوَاك الرطب والسواك الْيَابِس، ومضمون الحَدِيث يَقْتَضِي إِبَاحَته فِي كل وَقت، وَفِي كل حَال، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر: أخبرنَا عبد الله عَن عبيد الله عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي (الْمُوَطَّأ) : عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: (لَوْلَا أَن يشق على أمته لأمرهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء) ، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا يدْخل فِي الْمسند عِنْدهم لاتصاله من غير مَا وَجه، وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ أَكثر الروَاة عَن مَالك، وَرَوَاهُ بشر بن عمر وروح بن عبَادَة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء) ، وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث روح، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب مَالك) من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي ومطرف بن عبد الرَّحْمَن وَابْن عتمة بِمَا يَقْتَضِي أَن لَفظهمْ: (مَعَ كل وضوء) ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) مصححا بِلَفْظ: (لفرضت عَلَيْهِم السِّوَاك مَعَ كل وضوء) ، وَرَوَاهُ الْمثنى عَنهُ: (مَعَ كل طَهَارَة) ، وَرَوَاهُ أَبُو معشر عَنهُ: (لَوْلَا أَن أشق على النَّاس لأمرتهم عِنْد كل صَلَاة بِوضُوء، وَمَعَ الْوضُوء بسواك) . وَالله أعلم.
ويُرْوَى نَحْوُهُ عنْ جابِرٍ وزَيْدِ بنِ خالِدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَعَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن من مشاهير الصَّحَابَة، وَهَذَانِ التعليقان رَوَاهُمَا أَبُو نعيم الْحَافِظ. فَالْأول من حَدِيث إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْفَروِي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الموَالِي عَن عبد الله بن عقيل عَنهُ بِلَفْظ: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) ، وَالثَّانِي من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن أبي سَلمَة عَن زيد، وَلَفظه: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) وَإِنَّمَا ذكره بِصِيغَة التمريض لأجل مُحَمَّد بن إِسْحَاق فَإِنَّهُ لم يحْتَج بِهِ، وَلَكِن ذكره فِي (المتابعات) . وَأما الأول فضعفه ظَاهر بِابْن عقيل الْفَروِي، فَإِنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ، وروى ابْن عدي حَدِيث جَابر من وَجه آخر بِلَفْظ: (لجعلت السِّوَاك عَلَيْهِم عَزِيمَة) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. فَإِن قلت: هَل فرق بَين قَوْله: (نَحوه) ، وَبَين قَوْله: (مثله؟) قلت: إِذا كَانَ الحديثان على لفظ وَاحِد يُقَال: مثله، وَإِذا كَانَ الثَّانِي على مثل مَعَاني الأول يُقَال: نَحوه.
وَاخْتلف أهل الحَدِيث فِيمَا إِذا روى الرَّاوِي حَدِيثا بِسَنَدِهِ ثمَّ ذكر سندا آخر وَلم يسق لفظ مَتنه، وَإِنَّمَا قَالَ بعده: مثله، أَو: نَحوه، فَهَل يسوغ للراوي عَنهُ أَن يروي لفظ الحَدِيث الْمَذْكُور أَولا لإسناد الثَّانِي أم لَا؟ على ثَلَاثَة مَذَاهِب. أظهرها: أَنه لَا يجوز مُطلقًا. وَهُوَ قَول شُعْبَة وَرجحه ابْن الصّلاح وَابْن دَقِيق الْعِيد. وَالثَّانِي: أَنه إِن عرف الرَّاوِي بالتحفظ والتمييز للألفاظ جَازَ، وإلاَّ فَلَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَابْن معِين. وَالثَّالِث: وَهُوَ اخْتِيَار الْحَاكِم: التَّفْرِقَة بَين قَوْله: مثله، وَبَين قَوْله: نَحوه، فَإِن قَالَ: مثله، جَازَ بِالشّرطِ الْمَذْكُور، وَإِن قَالَ: نَحوه، لم يجز، وَهُوَ قَول يحيى بن معِين. وَقَالَ الْخَطِيب: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن معِين بِنَاء على منع الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، فَأَما على جَوَازهَا فَلَا فرق.
ولَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِه
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أَي: لم يخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ من الصَّحَابَة أَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَزيد بن خَالِد الْمَذْكُور الْآن الصَّائِم من غير الصَّائِم، وَلَا السِّوَاك الْيَابِس من غَيره، فَيدْخل فِي عُمُوم الْإِبَاحَة كل جنس من السِّوَاك رطبا إو يَابسا، وَلَو افترق الحكم فِيهِ بَين الرطب واليابس فِي ذَلِك لبينه، لِأَن الله عز وَجل فرض عَلَيْهِ الْبَيَان لأمته.(11/19)
وقالَتْ عائِشَةُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ
وَقع هَذَا فِي بعض النّسخ مقدما فَوق حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَلَيْسَ هَذَا وَحده، بل وَقع فِي غير رِوَايَة أبي ذَر فِي سِيَاق الْآثَار، وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَلَيْسَ يَبْنِي عَلَيْهِ عَظِيم أَمر، وَأما التَّعْلِيق عَن عَائِشَة فوصله أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي عَتيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق عَن أَبِيه عَنْهَا.
قَوْله: (مطهرة) ، بِفَتْح الْمِيم: إِمَّا مصدر ميمي بِمَعْنى اسْم الْفَاعِل من التَّطْهِير، وَإِمَّا بِمَعْنى الْآلَة. وَفِي (الصِّحَاح) : المطهرة والمطهرة يَعْنِي: بِفَتْح الْمِيم وكسرهما، الْإِدَاوَة، وَالْفَتْح أَعلَى، وَالْجمع: الْمَطَاهِر، وَيُقَال: السِّوَاك مطهرة للفم. قَوْله: (مرضاة للرب) ، المرضاة بِالْفَتْح مصدر ميمي بِمَعْنى الرضى، وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي مرضى الرب، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يُمكن أَن يُقَال إِنَّهَا مثل (الْوَلَد المبخلة مجينة) : أَي السِّوَاك مَظَنَّة للطَّهَارَة والرضى أَي يحمل السِّوَاك الرجل على الطَّهَارَة ورضى الرب، وَعطف مرضاة يحْتَمل التَّرْتِيب بِأَن تكون الطَّهَارَة بِهِ عِلّة للرضى، وَأَن يَكُونَا مستقلين فِي الْعلية قلت: يُؤْخَذ الْجَواب من هَذَا السُّؤَال من يسْأَل: كَيفَ يكون السِّوَاك سَببا لرضى الله تَعَالَى؟ وَيُمكن أَن يُقَال أَيْضا: من حَيْثُ إِن الْإِتْيَان بالمندوب مُوجب للثَّواب، وَمن جِهَة أَنه مُقَدّمَة للصَّلَاة، وَهِي مُنَاجَاة الرب، وَلَا شكّ أَن طيب الرَّائِحَة يَقْتَضِي رضى صَاحب الْمُنَاجَاة.
وَقَالَ عَطَاءٌ وقَتَادَةُ يَبْتَلعُ رِيقَهُ
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة بن دعامة: يبتلع الصَّائِم رِيقه: يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء إِذا بلع رِيقه، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن أَصْحَابنَا أَن الصَّائِم إِذا جمع رِيقه فِي فَمه ثمَّ ابتلعه لم يفْطر، وَلكنه يكره. قَوْله: (يبتلع) ، من بَاب الافتعال، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: يبلع من البلع، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: يتبلع من بَاب التفعل الَّذِي يدل على التَّكَلُّف، وَتَعْلِيق عَطاء وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن المارك (عَن ابْن جريج قلت: لعطاء: الصَّائِم يمضمض ثمَّ يزدرد رِيقه وَهُوَ صَائِم؟ قَالَ: لَا يضرّهُ، وَمَا بَقِي فِي فِيهِ) ؟ وَكَذَلِكَ أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، وَوَقع فِي أصل البُخَارِيّ: وَمَا بَقِي فِيهِ؟ وَقَالَ ابْن بطال: ظَاهِرَة إِبَاحَة الازدراد لما بَقِي فِي الْفَم من مَاء الْمَضْمَضَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ بِلَفْظ: (وماذا بَقِي فِي فِيهِ؟) فَكَأَن: ذَا، سَقَطت من رُوَاة البُخَارِيّ، وَأثر قَتَادَة وَصله عبد بن حميد فِي التَّفْسِير عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ نَحْو مَا روى عَن عَطاء.
41 - (حَدثنَا عَبْدَانِ قَالَ أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا معمر قَالَ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد عَن حمْرَان قَالَ رَأَيْت عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ تَوَضَّأ فأفرغ على يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثمَّ تمضمض واستنثر ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا ثمَّ غسل يَده الْيُمْنَى إِلَى الْمرْفق ثَلَاثًا ثمَّ غسل يَده الْيُسْرَى إِلَى الْمرْفق ثَلَاثًا ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ ثمَّ غسل رجله الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأ نَحْو وضوئي هَذَا ثمَّ قَالَ من تَوَضَّأ نَحْو وضوئي هَذَا ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يحدث نَفسه فيهمَا بِشَيْء إِلَّا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) قد مر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْوضُوء فِي بَاب الْوضُوء ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب إِلَى آخِره وَأخرجه هُنَا عَن عَبْدَانِ وَهُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي عَن معمر بن رَاشد الْأَزْدِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره ومناسبة ذكره هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب فِي قَوْله " تَوَضَّأ " فَإِن مَعْنَاهُ تَوَضَّأ وضُوءًا كَامِلا جَامعا للسنن وَمن جملَته السِّوَاك وَقَالَ ابْن بطال حَدِيث عُثْمَان حجَّة وَاضِحَة فِي إِبَاحَة كل جنس من السِّوَاك رطبا كَانَ أَو يَابسا وَهُوَ انتزاع ابْن سِيرِين مِنْهُ حِين قَالَ لَا بَأْس بِالسِّوَاكِ الرطب(11/20)
فَقيل لَهُ طعم فَقَالَ وَالْمَاء لَهُ طعم وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ لِأَن المَاء أرق من ريق السِّوَاك وَقد أَبَاحَ الله تَعَالَى الْمَضْمَضَة بِالْمَاءِ فِي الْوضُوء للصَّائِم قَوْله " بِشَيْء " أَي بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ قَوْله " إِلَّا غفر لَهُ " ويروى بِدُونِ كلمة الِاسْتِثْنَاء وَوجه الِاسْتِثْنَاء هُوَ الِاسْتِفْهَام الإنكاري الْمُفِيد للنَّفْي وَيحْتَمل أَن يُقَال المُرَاد لَا يحدث نَفسه بِشَيْء من الْأَشْيَاء فِي شَأْن الرَّكْعَتَيْنِ إِلَّا بِأَنَّهُ قد غفر لَهُ وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت هُنَاكَ -
82 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخرِهِ المَاءَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيمَا جَاءَ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا تَوَضَّأ ... إِلَى آخِره، وَهَذِه الْقطعَة من حَدِيث لم يوصلها البُخَارِيّ وأوصلها مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن همام، قَالَ: حَدثنَا معمر عَن قَتَادَة عَن همام بن مُنَبّه، قَالَ: حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة عَن مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر أَحَادِيث مِنْهَا، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليستنشق بمنخريه من المَاء ثمَّ ليستنثر) ، وَفِي لفظ لَهُ من رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا استجمر أحدكُم فليستجمر وترا، وَإِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليجعل فِي أَنفه مَاء ثمَّ ليستنثر) . قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ) أَي: أحدكُم، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (بمنخره) ، المنخر ثقب الْأنف، وَقد تكسر الْمِيم اتبَاعا للخاء.
ولَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وغَيْرِهِ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، أَي: لم يُمَيّز النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بَين الصَّائِم وَغَيره، بل ذكره على الْعُمُوم، وَلَو كَانَ بَينهمَا فرق لميزه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن جَاءَ تَمْيِيز الصَّائِم من غَيره فِي الْمُبَالغَة فِي ذَلِك كَمَا ورد فِي حَدِيث عَاصِم بن لَقِيط بن صبره عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: (بَالغ فِي الِاسْتِنْشَاق إلاَّ أَن تكون صَائِما) ، رَوَاهُ أَصْحَاب (السّنَن) وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره.
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بأسَ بالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إنْ لَمْ يصِلْ إلَى حَلْقِهِ ويَكْتَحِلُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هِشَام عَنهُ نَحوه، والسعود بِفَتْح السِّين وَقد يرْوى بضَمهَا، هُوَ الدَّوَاء الَّذِي يصب فِي الْأنف. قَوْله: (إِن لم يصل) أَي: السعوط إِلَى حلقه، وَقيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا وصل إِلَى حلقه يضر صَوْمه وَيَقْضِي يَوْمًا. قَوْله: (ويكتحل) من كَلَام الْحسن، أَي: يكتحل الصَّائِم، يَعْنِي: يجوز للصَّائِم الاكتحال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مستقصىً.
وَقَالَ عَطَاءٌ إنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أفْرَغَ مَا فِيهِ مِنَ المَاءِ لاَ يَضِيرُهُ إنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وماذَا بَقِيَ فِي فِيهِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج عَنهُ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ عَن قريب عِنْد قَوْله: وَقَالَ عَطاء قَتَادَة: يبتلع رِيقه. قَوْله: (لَا يضيره) ، من ضاره يضيره ضيرا، بِمَعْنى: ضره، وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَا يضرّهُ من ضره بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (إِن لم يزدرد) أَي: لم يبلع رِيقه. قَوْله: (وماذا بَقِي فِي فِيهِ؟) أَي: فِي فَمه، وَهَذِه الْجُمْلَة وَقعت حَالا، وَقد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (وَمَا بَقِي فِي فِيهِ) ، فكلمة: مَا، على رِوَايَة البُخَارِيّ مَوْصُولَة، وعَلى رِوَايَة: (مَاذَا بَقِي فِي فِيهِ) استفهامية، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأي شَيْء يبْقى فِي فِيهِ بعد أَن يمج المَاء إلاَّ أثر المَاء؟ فَإِذا بلع رِيقه لَا يضرّهُ، وَفِي نُسْخَة صَاحب (التَّلْوِيح) : بِخَطِّهِ: لَا يضيره، لِأَنَّهُ لم يزدرد رِيقه أَي: يبلع رِيقه.
ولاَ يَمْضَغُ العِلْكَ فانِ ازْدَرَدَ رِيقَ العِلْكِ لاَ أقُولُ إنَّهُ يُفْطِرُ ولاكِنْ يُنْهَى عَنْهُ فإنْ اسْتَنْثَرَ فدَخَلَ المَاءَ حَلْقَهُ لاَ بأسَ لأنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ
لَا يمضغ العلك بِكَلِمَة: لَا، رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ويمضغ العلك، بِدُونِ كلمة لَا وَالْأول أولى، وَكَذَلِكَ أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قلت لعطاء: يمضغ الصَّائِم العلك؟ قَالَ: لَا. قلت: إِنَّه يمج ريق العلك وَلَا يزدرده وَلَا يمصه؟ قَالَ: نعم. وَقلت لَهُ: أيتسوك الصَّائِم؟ قَالَ: نعم. قلت: أيزدرد رِيقه؟ قَالَ: لَا. قلت: فَفعل أيضره؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن ينْهَى عَن ذَلِك، والعلك بِكَسْر(11/21)
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، هُوَ الَّذِي يمضغ مثل المصطكى. وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره لِأَنَّهُ يجفف الْفَم ويعطش، ون وصل مِنْهُ شَيْء إِلَى الْجوف بَطل الصَّوْم، وَكَرِهَهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ، وَفِي رِوَايَة جَابر عَنهُ: لَا بَأْس بِهِ للصَّائِم مَا لم يبلع رِيقه، وروى ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء إِنَّه سُئِلَ عَن مضغ العلك، فكرهه، وَقَالَ: هُوَ مؤداه، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رخص مضغ العلك أَكثر الْعلمَاء إِن كَانَ لَا يتحلب مِنْهُ شَيْء، فَإِن تحلب فازدرده فالجمهور على أَنه يفْطر. قَوْله: (فان استنثر؟) أَصله من: نثر ينثر بِالْكَسْرِ، إِذا امتخط، واستنثر استفعل مِنْهُ، أَي: استنشق المَاء ثمَّ استخرج مَا فِي أنفقهُ فينثره، وَقيل: الاستنثار تَحْرِيك النثرة وَهِي طرف الْأنف. قَوْله: (لم يملك) أَي: لم يملك منع دُخُول المَاء فِي حلقه.
92 - (بابٌ إذَا جامَعَ فِي رَمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا جَامع الصَّائِم فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا وَجَبت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف كَمَا قدرناه.
ويُذْكَرُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ منْ أفْطرَ يَوْما مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ولاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيامُ الدهْرِ وإنْ صامَهُ
أَشَارَ بقوله: يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول الَّتِي هِيَ صِيغَة التمريض إِلَى أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا لَيْسَ على شَرطه، ونبينه الْآن. قَوْله: (رَفعه) أَي: رفع أَبُو هُرَيْرَة حَدِيث: من أفطر يَوْمًا، وَمرَاده أَنه لَيْسَ بموقوف عَلَيْهِ، بل هُوَ مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: كَيفَ يرجع الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي رَفعه إِلَى شَيْء مُتَأَخّر عَنهُ؟ قلت: رَفعه، جملَة حَالية مُتَأَخِّرَة رُتْبَة عَن مفعول مَا لم يسم فَاعله لقَوْله: يذكر، وَهُوَ قَوْله: من أفطر. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة: رَفعه، بِلَفْظ الإسم مَرْفُوعا بِأَنَّهُ مفعول: يذكر، وَحِينَئِذٍ يكون الحَدِيث يَعْنِي قَوْله: (من أفطر يَوْمًا) بَدَلا عَن الضَّمِير، يَعْنِي: الضَّمِير الَّذِي أضيف إِلَيْهِ لفظ الرّفْع كَمَا فِي قَوْله: (مَا متعت بِهِ سَمْعِي وبصري إلاَّ بِدُعَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِن السّمع بدل عَن الضَّمِير جوز النُّحَاة مثله. قَوْله: (وَإِن صَامَهُ) أَي: وَإِن صَامَ الدَّهْر، وَهُوَ مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره: إِن لم يصمه وَإِن صَامَهُ.
ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، قَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن ابْن مطوس عَن أَبِيه، قَالَ ابْن كثير: عَن أبي المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا فِي رَمَضَان فِي غير رخصَة رخصها الله لَهُ لم يقْض عَنهُ صِيَام الدَّهْر) . وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان، قَالَ: حَدثنَا حبيب عَن عمَارَة عَن ابْن المطوس، قَالَ: فَلَقِيت ابْن المطوس فَحَدثني عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر مثل حَدِيث ابْن كثير، وَسليمَان، قَالَ أَبُو دَاوُد: اخْتلف على سُفْيَان وَشعْبَة عَنْهُمَا ابْن المطوس، وَأَبُو المطوس، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا بنْدَار حَدثنَا يحيى بن سعيد وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت حَدثنَا أَبُو المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة وَلَا مرض لم يقْض عَنهُ صَوْم الدَّهْر كُله، وَإِن صَامَهُ) ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا عَمْرو بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم. قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن أبي المطوس عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير مرض وَلَا رخصَة لم يقضه صِيَام الدَّهْر كُله، وَإِن صَامَهُ) . وَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا يحيى وَعبد الرَّحْمَن، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان ثمَّ ذكر كلمة مَعْنَاهَا عَن حبيب، قَالَ: حَدثنَا أَبُو المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة وَلَا مرض لم يقْض عَنهُ صِيَام الدَّهْر وَإِن صَامَهُ) ، ثمَّ رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طرق كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد قَالَا: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن ابْن المطوس عَن أَبِيه المطوس عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة لم يجزه صِيَام الدَّهْر) .(11/22)
ذكر بَيَان حَال هَذَا الحَدِيث قَالَ أَبُو دَاوُد: اخْتلف على سُفْيَان وَشعْبَة بن المطوس وَأَبُو المطوس، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ شَيخنَا: يُرِيد الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَمَعَ هَذَا فقد رُوِيَ مَرْفُوعا من غير طَرِيق أبي المطوس، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن أَحْمد بن سعيد الرهاوي حَدثنَا الْعَبَّاس بن عبيد الله حَدثنَا عمار بن مطر حَدثنَا قيس عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن الْحَارِث عَن عبد الله ابْن مَالك عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير مرض وَلَا رخصَة لم يقْض عَنهُ صِيَام وَإِن صَامَ الدَّهْر كُله) . قلت: عمار بن مطر هَالك، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ يكذب، وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقد رُوِيَ مَوْقُوفا على أبي هُرَيْرَة من غير طَرِيق أبي المطوس، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن عَمْرو بن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أَبِيه عَن شريك عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان لم يقضه يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا) ، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن هِلَال ابْن الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن عبيد الله بن عَمْرو عَن زيد بن أبي أنيسَة عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عَليّ بن حُسَيْن. (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رجلا أفطر فِي رَمَضَان، فَأتى أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ: لَا يقبل مِنْك صَوْم سنة) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: أَبُو المطوس اسْمه: يزِيد بن المطوس، لَا أعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ) : تفرد أَبُو المطوس بِهَذَا الحَدِيث وَلَا أَدْرِي سمع أَبوهُ من أبي هُرَيْرَة أم لَا؟ قلت: أَبُو المطوس، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة وَآخره سين مُهْملَة: من أَفْرَاد الكنى، وَكَذَلِكَ أَبوهُ المطوس من أَفْرَاد الْأَسْمَاء. وَقد اخْتلف فِي اسْم أبي المطوس، فَقَالَ البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَابْن حبَان: اسْمه يزِيد. وَقَالَ يحيى بن معِين: اسْمه عبد الله، وَأَبُو دَاوُد قَالَ: لَا يُسمى، وَقد اخْتلف فِيهِ، فَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن أَبِيه مَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بأفراده وَقَالَ صَاحب (الْمِيزَان) : ضَعِيف، قَالَ: وَلَا يعرف هُوَ وَلَا أَبوهُ. قلت: وَمَعَ هَذَا صحّح ابْن خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث وَرَوَاهُ من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة، كِلَاهُمَا عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن أبي المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. . الحَدِيث، وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: يَقُولُونَ: عَن ابْن المطوس وَعَن أبي المطوس، وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن حبيب عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن أبي المطوس، قَالَ: لَا أعرف المطوس وَلَا ابْن المطوس. قلت: أتعرف الحَدِيث من غير هَذَا الْوَجْه؟ قَالَ: لَا، وَكَذَا قَالَه أَبُو عَليّ الطوسي، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يحمل أَن يكون لَو صَحَّ على التَّغْلِيظ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ.
ذكر مَا رُوِيَ عَن غير أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْبَاب: فَروِيَ عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا فِي غير سَبِيل خرج من الْحَسَنَات كَيَوْم وَلدته أمه) . وَأخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَفِي سَنَده مُحَمَّد بن الْحَارِث، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ هُوَ بِشَيْء، وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِثِقَة، وَعَن الفلاس: إِنَّه مَتْرُوك الحَدِيث، وَفِيه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْبَيْلَمَانِي، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَرُوِيَ عَن مصاد بن عقبَة عَن مقَاتل بن حبَان عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الْوَارِث الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت أنس بن مَالك، يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من شهر رَمَضَان من غير رخصَة وَلَا عذر كَانَ عَلَيْهِ أَن يَصُوم ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَمن أفطر يَوْمَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ أَن يَصُوم سِتِّينَ يَوْمًا، وَمن أفطر ثَلَاثَة أَيَّام كَانَ عَلَيْهِ تسعين يَوْمًا) . أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: لَا يثبت هَذَا الْإِسْنَاد، وَلَا يَصح عَن عَمْرو بن مرّة، وَأعله ابْن الْقطَّان بِعَبْد الْوَارِث. وَعَن ابْن معِين إِنَّه مَجْهُول. وَرُوِيَ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْحَارِث بن عُبَيْدَة الكلَاعِي عَن مقَاتل بن سُلَيْمَان عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي،، قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من شهر رَمَضَان فِي الْحَضَر فليهد بَدَنَة، فَإِن لم يجد فليطعم ثَلَاثِينَ صَاعا) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْحَارِث بن عُبَيْدَة وَمُقَاتِل ضعيفان.
قَوْله: (من غير عذر وَلَا مرض) من ذكر الْخَاص بعد الْعَام، لِأَن الْمَرَض دَاخل فِي الْعذر، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (من غير رخصَة وَلَا مرض) ، وَهُوَ أَيْضا من هَذَا الْقَبِيل، لِأَن الْمَرَض دَاخل فِي الرُّخْصَة، ثمَّ إِنَّه أطلق الْإِفْطَار، فَلَا يَخْلُو إِمَّا(11/23)
أَن يكون بجماع أَو غَيره نَاسِيا أَو عَامِدًا، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الْإِفْطَار فِي الْأكل أَو الشّرْب عَامِدًا، وَإِمَّا نَاسِيا فقد ذكره فِيمَا مضى، وَأما بِالْجِمَاعِ فَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وبِهِ قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: وَبِمَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَقد وَصله الْبَيْهَقِيّ رَاوِيا من طَرِيقين: أَحدهمَا: من رِوَايَة الْمُغيرَة بن عبد الله الْيَشْكُرِي، قَالَ: حدثت أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير عِلّة لم يجزه صِيَام الدَّهْر حَتَّى يلقى الله عز وَجل، فَإِن شَاءَ غفر لَهُ، وَإِن شَاءَ عذبه) ، والمغيرة هَذَا من ثِقَات التَّابِعين، أخرج لَهُ مُسلم وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وَلكنه مُنْقَطع فَإِنَّهُ قَالَ: حدثت عَنهُ. وَالطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة أبي أُسَامَة عَن عبد الْملك، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة الثَّقَفِيّ عَن عرْفجَة، قَالَ: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا من غير عِلّة، ثمَّ قضى طول الدَّهْر لم يقبل مِنْهُ) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عبد الْملك هَذَا أَظُنهُ ابْن حُسَيْن النَّخعِيّ، لَيْسَ بِالْقَوِيّ. فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ: وَبِه قَالَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة رَفعه، وَابْن مَسْعُود وَقفه، فَكيف يكون ابْن مَسْعُود قَائِلا بِمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة؟ قلت: لم يثبت رَفعه عِنْد البُخَارِيّ، فَلذَلِك ذكره بِصِيغَة التمريض، وروى عَن أبي هُرَيْرَة بطرق مَوْقُوفا، وَقيل: فِيهِ ثَلَاث علل الإضطراب لِأَنَّهُ اخْتلف على حبيب بن أبي ثَابت اخْتِلَافا كثير. والجهالة بِحَال أبي المطوس وَالشَّكّ فِي سَماع أَبِيه من أبي هُرَيْرَة، وَهَذِه الثَّالِثَة تخْتَص بطريقة البُخَارِيّ فِي اشْتِرَاط اللِّقَاء.
وَقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ والشَّعْبِيُّ وابنُ جُبَيْرٍ وإبْرَاهِيمُ وقَتَادَةُ وحَمَّادٌ يَقْضِي يوْما مَكَانَهُ
أَي: قَالَ هَؤُلَاءِ فِيمَن أفطر فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا أَن عَلَيْهِ الْقَضَاء فَقَط بِغَيْر كَفَّارَة، وَقَالَ ابْن بطال: نظرت أَقْوَال التَّابِعين الَّذين ذكرهم البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب فِي المصنفات فَلم أر قَوْلهم بِسُقُوط الْكَفَّارَة إلاَّ فِي الْفطر بِالْأَكْلِ لَا المجامعة، فَيحْتَمل أَن يكون عِنْدهم الْأكل وَالْجِمَاع سَوَاء فِي سُقُوط الْكَفَّارَة، إِذْ كل مَا أفسد الصّيام من أكل أَو شرب أَو جماع فاسم الْفطر يَقع عَلَيْهِ، وفاعله مفطر بذلك من صِيَامه، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يدع طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي) ، فَدخل أعظم الشَّهَوَات وَهِي شَهْوَة الْجِمَاع فِي ذَلِك. انْتهى. قلت: حُكيَ عَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين أَنه: لَا كَفَّارَة على الواطىء فِي نَهَار رَمَضَان، واعتبروه بِقَضَائِهِ. قَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ خَاص بذلك الرجل، يَعْنِي فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة: (جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَلَكت. .) الحَدِيث على مَا يَأْتِي، وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يحضر عَلَيْهِ برهَان. وَقَالَ قوم: هُوَ مَنْسُوخ وَلم يقم دَلِيل نسخه، وَعند الْجُمْهُور: يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة لحَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا نبينه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالَّذين ذكرهم البُخَارِيّ سِتَّة من التَّابِعين، الأول: سعيد بن الْمسيب، فوصل أَثَره مُسَدّد وَغَيره فِي قصَّة المجامع قَالَ يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ ويستغفر الله تَعَالَى. الثَّانِي: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ، فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا شريك عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ قَالَا: (يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ) . الثَّالِث: سعيد بن جُبَير، فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة أَيْضا: حَدثنَا عَبدة عَن سعيد عَن يعلى بن حَكِيم (عَن سعيد بن جُبَير فِي رجل أفطر يَوْمًا مُتَعَمدا، قَالَ: يسْتَغْفر الله من ذَلِك وَيَتُوب وَيَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ) . الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة، وَقد مر الْآن مَعَ الشّعبِيّ. الْخَامِس: قَتَادَة فوصل أثر عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن، وَقَتَادَة فِي قصَّة المجامع فِي رَمَضَان. السَّادِس: حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، أحد من أَخذ عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فوصله عبد الرَّزَّاق عَن أبي حنيفَة عَنهُ.
5391 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ قَالَ سَمِعَ يَزيدَ بنَ هَرُونَ قَالَ حدَّثنا يحْيَى هُوَ ابنُ سَعِيدٍ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الْقَاسِمِ أخبرَهُ عنْ محَمَّدِ بنِ جَعْفَرَ بنِ الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ بنِ خُوَيْلِدٍ عنْ عَبَّادِ ابنِ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيرِ قَالَ أخبرَهُ أنَّهُ سَمِعَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقُولُ إنَّ رَجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله(11/24)
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنَّهُ احْتَرَقَ قَالَ مالَكَ قَالَ أصبْتُ أهْلِي فِي رَمَضَانَ فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ فَقَالَ أيْنَ الْمُحُتَرِقُ قَالَ أنَا قَالَ تَصَدَّقْ بِهَذَا. (الحَدِيث 5391 طرفه فِي: 2286) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان) ، أَرَادَ أَنه جَامع فِي نَهَار رَمَضَان.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون: الزَّاهِد أَبُو عبد الرَّحْمَن. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن هَارُون أَبُو خَالِد. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن جَعْفَر. السَّادِس: عباد، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْأَخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَأَنه من أَفْرَاده وَأَن يزِيد بن هَارُون واسطي والبقية مدنيون. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد. وَيحيى وَعبد الرَّحْمَن تابعيان صغيران من طبقَة وَاحِدَة وفوقهما قَلِيلا مُحَمَّد بن جَعْفَر. وَأما ابْن عَمه عباد فَمن أوساط التَّابِعين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن أبي الطَّاهِر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن عِيسَى بن حَمَّاد وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن يحيى بن حبيب.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (إِن رجلا) ، زعم ابْن بشكوال أَن هَذَا الرجل هُوَ سَلمَة صَخْر البياضي فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده) ، وَعند ابْن الْجَارُود: سلمَان بن صَخْر، وَفِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) : سَلمَة بن صَخْر، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور حَدثنَا هَارُون بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عَليّ بن الْمُبَارك حَدثنَا يحيى بن أبي كثير (حَدثنَا أَبُو سَلمَة: أَن سَلمَة بن صَخْر البياضي جعل امْرَأَته عَلَيْهِ كَظهر أمه حَتَّى يمْضِي رَمَضَان، فَلَمَّا مضى نصف رَمَضَان وَقع عَلَيْهَا لَيْلًا، فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أعتق رَقَبَة {قَالَ: لَا أَجدهَا. قَالَ: فَصم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ لَا أَسْتَطِيع. قَالَ: أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا، قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفروة بن عَمْرو: أعْطه ذَلِك الْعرق، وَهُوَ مكتل يَأْخُذ خَمْسَة عشر أَو سِتَّة عشر صَاعا) . وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) فَهَذَا غير مَا ذكره ابْن بشكوال فَينْظر، وَالله أعلم. قلت: لَا شكّ أَنه غير لِأَن ابْن بشكوال اسْتندَ إِلَى مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة وَغَيره من طَرِيق سلمَان بن يسَار عَن سَلمَة بن صَخْر أَنه ظَاهر من امْرَأَته فِي رَمَضَان، وَأَنه وَطأهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حرر رَقَبَة. قلت: لَا أملك رَقَبَة غَيرهَا، وَضرب صفحة رقبته، قَالَ: فَصم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ: وَهل أصبت الَّذِي أصبت إلاَّ من الصّيام؟ قَالَ: فأطعم سِتِّينَ مِسْكينا. قَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا لنا طَعَام} قَالَ: فَانْطَلق إِلَى صَاحب صَدَقَة بني زُرَيْق فليدفعها إِلَيْك. انْتهى. وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، فَإِن فِي قصَّة المجامع فِي حَدِيث الْبَاب أَنه كَانَ صَائِما. وَفِي قصَّة سَلمَة بن صَخْر أَن ذَلِك كَانَ لَيْلًا، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ الْمَذْكُورَة آنِفا فَافْتَرقَا، واجتماعهما فِي كَونهمَا من بني بياضة، وَفِي صفة الْكَفَّارَة وَكَونهَا مرتبَة، وَفِي كَون كل مِنْهُمَا كَانَ لَا يقدر على شَيْء من خصالها لَا يسْتَلْزم اتِّحَاد الْقصَّتَيْنِ. وَالله أعلم. قَوْله: (إِنَّه احْتَرَقَ) ، وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه عبر بقوله: (هَلَكت) ، وَرِوَايَة الاحتراق تفسر رِوَايَة الْهَلَاك، وَكَأَنَّهُ لما اعْتقد أَن مرتكب الْإِثْم يعذب بالنَّار أطلق على نَفسه أَنه احْتَرَقَ لذَلِك، أَو مُرَاده أَنه يَحْتَرِق بالنَّار يَوْم الْقِيَامَة، فَجعل المتوقع كالواقع، وَاسْتعْمل بدله لفظ الْمَاضِي أَو شبه مَا وَقع فِيهِ من الْجِمَاع فِي الصَّوْم بالاحتراق، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (جَاءَهُ رجل وَهُوَ ينتف شعره، ويدق صَدره، وَيَقُول: هلك الْأَبْعَد وأهلكت) وَفِي رِوَايَة (وَهُوَ يَدْعُو بِالْوَيْلِ) ، وَفِي رِوَايَة: (يلطم وَجهه) ، وَفِي رِوَايَة الْحجَّاج بن أَرْطَأَة: (يَدْعُو ويله) ، وَفِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ: (ويحثي على رَأسه التُّرَاب) . قَوْله: (قَالَ: مَالك؟) أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شَأْنك وَمَا جرى عَلَيْك؟ قَوْله: (أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان) كِنَايَة عَن وَطئهَا، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان) . قَوْله: (فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِضَم الْهمزَة وَكسر التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بمكتل) ، بِكَسْر الْمِيم: الزنبيل الْكَبِير، قيل: إِنَّه يسع خَمْسَة عشر صَاعا، كَانَ فِيهِ كتلاً من التَّمْر أَي: قطعا مجتمعة، وَيجمع على: مكاتل. وَقَالَ القَاضِي: المكتل(11/25)
والقفة والزبيل سَوَاء، وَسمي الزبيل لحمل الزبل فِيهِ، قَالَه ابْن دُرَيْد، والزبيل، بِكَسْر الزَّاي وَيُقَال بِفَتْحِهَا، وَكِلَاهُمَا لُغَتَانِ وَفِي (الْمُحكم) الزبيل: الجراب، وَقيل: الْوِعَاء يحمل فِيهِ، والزبيل القفة، وَالْجمع: زبل وزبلان. وَفِي (الصِّحَاح) : الزبيل مَعْرُوف فَإِذا كَسرته شددته، فَقلت: زبيل، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب: فعليل، بِالْفَتْح وَجَاء فِيهِ لُغَة أُخْرَى وَهِي: زنبيل، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون النُّون، قَالَ بَعضهم: وَقد تُدْغَم النُّون فتشدد الْيَاء مَعَ بَقَاء وَزنه، وَجمعه على اللُّغَات الثَّلَاث: زنابيل. قلت: لَيْسَ جمعه على اللغتين الْأَوليين إلاَّ مَا نقلنا عَن (الْمُحكم) : وَأما: زنابيل، فَلَيْسَ إلاَّ جمع المشدد فَقَط. قَوْله: (يدعى الْعرق) ، ذكر أَبُو عمر أَنه بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ الصَّوَاب عِنْد أهل اللُّغَة، قَالَ: وَأَكْثَرهم يَرْوُونَهُ بِسُكُون الرَّاء، وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لِابْنِ حبيب: رَوَاهُ مطرف عَن مَالك بتحريك الرَّاء، وَقَالَ ابْن التِّين فِي رِوَايَة أبي الْحسن بِسُكُون الرَّاء، وَرِوَايَة أبي ذَر بِفَتْحِهَا، وَأنكر بعض الْعلمَاء إسكان الرَّاء، وَفِي كتاب (الْعين) : الْعرق مِثَال شجر، والعرقات كل مضفور أَو مصطف، والعرق أَيْضا السَّقِيفَة من الخوص قبل أَن يَجْعَل مِنْهَا زنبيلاً، وَسمي: الزنبيل: عرقا لذَلِك، وَيُقَال: العرقة أَيْضا، وَعَن أبي عمر: والعرق أكبر من المكتل، والمكتل أكبر من القفة، والعرقة زنبيل من قد بلغه كلب ذكره فِي (الموعب) ، وَفِي (الْمُحكم) : الْعرق واحدته: عرقة، قَالَ أَحْمد بن عمرَان: الْعرق المكتل الْعَظِيم. قَوْله: (أَيْن المحترق؟) يدل على أَنه كَانَ عَامِدًا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْبتْ لَهُ حكم الْعمد، وَأثبت لَهُ هَذَا الْوَصْف إِشَارَة إِلَى أَنه لَو أصر غير ذَلِك لَاسْتَحَقَّ ذَلِك. قَوْله: (تصدق بِهَذَا) ، مُطلق، وَالْمرَاد تصدق على سِتِّينَ مِسْكينا، هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصرا، وَرَوَاهُ مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رمح بن المُهَاجر، قَالَ: أخبرنَا اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير عَن عباد بن عبد الله بن الزبير (عَن عَائِشَة، قَالَت: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: احترقت {قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لِمَ قَالَ: وطِئت امْرَأَتي فِي رَمَضَان نَهَارا. قَالَ: تصدق. قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْء، فَأمره أَن يجلس، فَجَاءَهُ عرقان فيهمَا طَعَام، فَأمره أَن يتَصَدَّق بهما) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (أَتَى رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد فِي رَمَضَان، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} احترقت احترقت؟ فَسَأَلَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شَأْنك؟ فَقَالَ: أصبت أَهلِي {فَقَالَ: تصدق، فَقَالَ: وَالله يَا نَبِي الله مَا لي شَيْء، وَمَا أقدر عَلَيْهِ. قَالَ: إجلس، فَجَلَسَ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك أقبل رجل يَسُوق حمارا عَلَيْهِ طَعَام، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيْن المحترق آنِفا؟ فَقَامَ الرجل، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تصدق بِهَذَا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} أغيرنا؟ فوَاللَّه إِنَّا لجياع مَا لنا شَيْء. قَالَ: كلوه) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَمن الْحَدِيثين اللَّذين يأتيان بعده، وَغَيرهَا من الْأَحَادِيث الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ على أَنْوَاع: النَّوْع الأول: أَن قوما استدلوا بقوله: (تصدق بِهَذَا) على أَن الَّذِي يجب على من جَامع فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا الصَّدَقَة لَا غير. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم هَكَذَا، وَلم يبين من هم. قلت: هم عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ، وَمَالك فِي رِوَايَة وَعبد الله بن رهم فَإِنَّهُم قَالُوا فِي هَذَا: تجب عَلَيْهِ الصَّدَقَة وَلَا تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِظَاهِر حَدِيث المحترق، وَأجِيب: بِأَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي يَأْتِي فِي الْكتاب زَاد فِيهِ: الْعتْق وَالصِّيَام، وَالْأَخْذ بِهِ أولى، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة حفظ ذَلِك وَلم تحفظه عَائِشَة، وَيُقَال: إِنَّهَا لم تجب عَلَيْهِ فِي الْحَال لعَجزه عَن الْكل. وأخرت إِلَى زمن الميسرة. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَمَا أمره بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تَطَوّعا لِأَنَّهَا لم تكن وَاجِبَة عَلَيْهِ فِي الْحَال لعَجزه، وَلِهَذَا أجَاز صرفهَا إِلَى نَفسه وَعِيَاله، وَعَن أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ: أَن قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر: إِن الْكَفَّارَة دين عَلَيْهِ لَا تسْقط عَنهُ لعسرته، وَعَلِيهِ أَن يَأْتِي بهَا إِذا أيسر، كَسَائِر الْكَفَّارَات، وَعند الشَّافِعِيَّة: فِيهِ وَجْهَان، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن إِبَاحَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك الرجل أكل الْكَفَّارَة لعسرته رخصَة لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْن شهَاب: وَلَو أَن رجلا فعل ذَلِك الْيَوْم لم يكن لَهُ بُد من التَّكْفِير، وَقيل: هُوَ مَنْسُوخ، وَقيل: هُوَ خَاص بذلك الرجل، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: خص هَذَا الرجل بِأَحْكَام ثَلَاثَة: بِجَوَاز الْإِطْعَام مَعَ الْقُدْرَة على الصّيام وَصَرفه على نَفسه، والاكتفاء بِخَمْسَة عشر صَاعا.
النَّوْع الثَّانِي: لَو أَنهم اخْتلفُوا فِي كمية هَذِه الصَّدَقَة، فَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: إِن الْوَاجِب فِيهَا مد، وَهُوَ ربع صَاع لكل مِسْكين، وَهُوَ خَمْسَة عشر صَاعا، لما روى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة هِشَام بن سعد عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فَأتي بعرق(11/26)
قدر خَمْسَة عشر صَاعا) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فَأتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمكتل فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا من تمر) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا ثمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، قَالَ فِيهِ: (بمكتل فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا من تمر) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة روح عَن مُحَمَّد ابْن أبي حَفْصَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد قَالَ وَفِيه: بزبيل وَهُوَ المكتل فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا أَحْسبهُ تَمرا. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ هِقْل بن زِيَاد، والوليد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَظَاهره يدل على أَن قدر خَمْسَة عشر صَاعا يَكْفِي لِلْكَفَّارَةِ عَن شخص وَاحِد لكل مِسْكين مد، قَالَ: وَقد جعله الشَّافِعِي أصلا لمذهبه فِي أَكثر الْمَوَاضِع الَّتِي يجب فِيهَا الْإِطْعَام، وَعِنْدنَا: الْوَاجِب لكل مِسْكين نصف صَاع من بر أَو صَاع من تمر، كَمَا فِي كَفَّارَة الظِّهَار، لما روى الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عَبَّاس: (يطعم كل يَوْم مِسْكينا نصف صَاع من بر) وَعَن عَائِشَة فِي هَذِه الْقِصَّة: (أُتِي بعرق فِيهِ عشرُون صَاعا) ذكره السفاقسي فِي (شرح البُخَارِيّ) ويروى: (مَا بَين خَمْسَة عشر صَاعا إِلَى عشْرين) ، وَفِي (صَحِيح مُسلم) : فَأمره أَن يجلس، فجَاء عرقان فيهمَا طَعَام فَأمره أَن يتَصَدَّق بِهِ، فَإِذا كَانَ الْعرق خَمْسَة عشر صَاعا، فالعرقان ثَلَاثُونَ صَاعا على سِتِّينَ مِسْكينا لكل مِسْكين نصف صَاع. وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي بعض طرق عَائِشَة عِنْد مُسلم: فَجَاءَهُ عرقان، وَالْمَشْهُور فِي غَيرهَا: عرق، وَرجحه الْبَيْهَقِيّ، وَجمع غَيره بَينهمَا بِتَعَدُّد الْوَاقِعَة. وَقَالَ: الَّذِي يظْهر أَن التَّمْر كَانَ قدر عرق، لكنه كَانَ فِي عرقين فِي حَال التحميل على الدَّابَّة ليَكُون أسهل فِي الْحمل، فَيحْتَمل أَن الْآتِي بِهِ لما وصل أفرغ أَحدهمَا فِي الآخر، فَمن قَالَ: عرقان، أَرَادَ ابْتِدَاء الْحَال، وَمن قَالَ: عرق، أَرَادَ مَا آل إِلَيْهِ. قلت: كَون الْمَشْهُور فِي غير طرق عَائِشَة عرقا لَا يسْتَلْزم رد مَا رُوِيَ فِي بعض طرق عَائِشَة: أَنه عرقان، وَمن أَيْن تَرْجِيح رِوَايَة غير مُسلم على رِوَايَة مُسلم؟ فَهَذَا مُجَرّد دَعْوَى لتمشية مذْهبه. وَقَول من يَدعِي تعدد الْوَاقِعَة غير صَحِيح، لِأَن مخرج الحَدِيث وَاحِد، وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد. وَقَول هَذَا الْقَائِل: وَالَّذِي يظْهر ... إِلَى آخِره، سَاقِط جدا وَتَأْويل فَاسد، فَمن أَيْن هَذَا الظُّهُور الَّذِي يذكرهُ بِغَيْر أصل وَلَا دَلِيل من نفس الْكَلَام وَلَا قرينَة من الْخَارِج؟ وَإِنَّمَا هُوَ من آثَار أريحية التعصب نصْرَة لما ذهب إِلَيْهِ، وَالْحق أَحَق أَن يتبع، وَالله ولي الْعِصْمَة.
النَّوْع الثَّالِث: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَدَاوُد وَأهل الظَّاهِر على أَنه: لَا يلْزم فِي الْجِمَاع على الرجل وَالْمَرْأَة إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، إِذْ لم يذكر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم الْمَرْأَة، وَهُوَ مَوضِع الْبَيَان، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأَبُو ثَوْر: تجب الْكَفَّارَة على الْمَرْأَة أَيْضا إِن طاوعته، وَقَالَ القَاضِي: وَسوى الْأَوْزَاعِيّ بَين المكرهة والطائعة على مذْهبه، وَقَالَ مَالك، فِي الْمَشْهُور من مذْهبه فِي المكرهة: يكفر عَنْهَا بِغَيْر الصَّوْم. وَقَالَ سَحْنُون: لَا شَيْء عَلَيْهَا، وَلَا عَلَيْهِ لَهَا، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَلم يخْتَلف مَذْهَبنَا فِي قَضَاء المركهة والنائمة إلاَّ مَا ذكره ابْن الْقصار عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل عَن مَالك أَنه لَا غسل على الْمَوْطُوءَة نَائِمَة وَلَا مُكْرَهَة إلاَّ أَن تلتذ قَالَ ابْن قصار: فَتبين من هَذَا أَنَّهَا غير مفطرة، وَقَالَ القَاضِي: وظاهرة أَنه لَا قَضَاء على المكرهة إِلَّا أَن تلتذ، وَلَا على النائمة لِأَنَّهَا كالمحتلمة، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر فِي النائمة والمكرهة.
وَاخْتلف فِي وجوب الْكَفَّارَة على الْمُكْره على الوطىء لغيره. على هَذَا، وَحكى ابْن الْقصار عَن أبي حنيفَة: لَا يلْزم الْمُكْره عَن نَفسه وَلَا على من أكرهه، وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : وَأما على الْمَرْأَة فَتجب عَلَيْهَا أَيْضا الْكَفَّارَة إِذا كَانَت مطاوعة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: فِي قَول: لَا يجب عَلَيْهَا أصلا، وَفِي قَول: يجب عَلَيْهَا ويتحملها الزَّوْج. وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر حكم الْمَرْأَة وَهُوَ مَوضِع الْبَيَان، أَن الْمَرْأَة لَعَلَّهَا كَانَت مُكْرَهَة أَو ناسية لصومها، أَو من يُبَاح لَهَا الْفطر ذَلِك الْيَوْم لعذر الْمَرَض أَو السّفر أَو الصغر أَو الْجُنُون أَو الْكفْر أَو الْحيض أَو طَهَارَتهَا من حَيْضهَا فِي أثْنَاء النَّهَار.
النَّوْع الرَّابِع: فِي أَن الْوَاجِب إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا خلافًا لما رُوِيَ عَن الْحسن أَنه رأى أَن يطعم أَرْبَعِينَ مِسْكينا عشْرين صَاعا، حَكَاهُ ابْن التِّين عَنهُ، وحكوا عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: يجْزِيه أَن يدْفع طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا إِلَى مِسْكين وَاحِد. قَالُوا: والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: الَّذِي حكى مَذْهَب أبي حنيفَة لم يعرف مذْهبه فِيهِ، وَحكي من غير معرفَة، ومذهبه أَنه إِذا دفع إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي شَهْرَيْن يجوز، فَلَا يكون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، لِأَن الْمَقْصُود سد خلة الْمُحْتَاج، وَالْحَاجة تتجدد بتجدد الْأَيَّام فَكَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي كمسكين آخر حَتَّى لَو أعْطى مِسْكينا وَاحِدًا كُله فِي يَوْم وَاحِد لَا يَصح إلاَّ عَن يَوْمه، ذَلِك، لِأَن الْوَاجِب(11/27)
عَلَيْهِ التَّفْرِيق وَلم يُوجد، ثمَّ الشَّرْط فِي الْإِطْعَام غداآن إِن وعشاآن، أَو غداء وعشاء فِي يَوْم وَاحِد.
النَّوْع الْخَامِس: فِي أَن التَّرْتِيب فِي الْكَفَّارَة وَاجِب، فَتَحْرِير رَقَبَة أَولا فَإِن لم يُوجد فَصِيَام شَهْرَيْن وَإِن لم يسْتَطع الصَّوْم فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا، بِدَلِيل عطف بعض الْجمل على الْبَعْض بِالْفَاءِ الْمرتبَة المعقبة كَمَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة، وَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى التَّخْيِير لقَوْله فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (صم شَهْرَيْن أَو أطْعم) ، فخيره: بِأَو، الَّتِي موضوعها التَّخْيِير، وَعَن ابْن الْقَاسِم: لَا يعرف مَالك غير الْإِطْعَام، وَذكر مقلدوه حجَجًا لذَلِك كَثِيرَة لَا تقاوم مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث من وجوب التَّرْتِيب واستحبابه، وَزعم بَعضهم أَن الْكَفَّارَة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات قَالَ ابْن التِّين: وَإِلَيْهِ ذهب الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَابنَا، فوقت المجاعة الْإِطْعَام أولى، وَإِن كَانَ خصبا فالعتق أولى، وَأمر بعض الْمُفْتِينَ أهل الْغنى الْوَاسِع بِالصَّوْمِ لمشقته عَلَيْهِ، وَعَن أبي ليلى هُوَ مُخَيّر فِي الْعتْق وَالصِّيَام، فَإِن لم يقدر عَلَيْهِمَا أطْعم، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن جرير، قَالَا: وَلَا سَبِيل إِلَى الْإِطْعَام إلاَّ عِنْد الْعَجز عَن الْعتْق أَو الصّيام. وَقَالَ ابْن قدامَة: الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك أَحْمد أَن كَفَّارَة الْوَطْء فِي رَمَضَان ككفارة الظِّهَار فِي التَّرْتِيب: الْعتْق إِن أمكن، فَإِن عجز انْتقل إِلَى الصّيام، فَإِن عجز انْتقل إِلَى الْإِطْعَام، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنَّهَا على التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام، وبأيها كفر أَجزَأَهُ، وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك، فَإِن عجز عَن هَذِه الْأَشْيَاء سَقَطت الْكَفَّارَة عَنهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما رأى عجز الْأَعرَابِي عَنْهَا قَالَ: (أطْعمهُ أهلك) وَلم يَأْمُرهُ بكفارة أُخْرَى، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَعَن الزُّهْرِيّ: لَا بُد من التَّكْفِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْأَنْوَاع.
النَّوْع السَّادِس فِي أَن إِطْلَاق الرَّقَبَة فِي الحَدِيث يدل على جَوَاز الْمسلمَة والكافرة، وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِير وَالْكَبِير، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَجعلُوا هَذَا كالظهار مستدلين بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن مُجَاهِد (عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الَّذِي أفطر فِي رَمَضَان يَوْمًا بكفارة الظِّهَار) ، وَإِطْلَاق الحَدِيث أَيْضا يَقْتَضِي جَوَاز الرَّقَبَة المعيبة، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَمَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ شرطُوا الْإِيمَان فِي إِجْزَاء الرَّقَبَة، بِدَلِيل تقييدها فِي كَفَّارَة الْقَتْل، وَهِي مَسْأَلَة حمل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَقَالَ عَطاء: إِن لم يجد رقبه أهْدى بَدَنَة، فَإِن لم يجد فبقرة، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَنَحْوه عَن الْحسن.
النَّوْع السَّابِع: فِي أَن التَّتَابُع فِي صَوْم الشَّهْرَيْنِ شَرط بِالنَّصِّ بِشَرْط أَن لَا يكون فيهمَا رَمَضَان، وَأَيَّام منهية، وَهِي: يَوْم الْفطر وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ ابْن أبي ليلى، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجب التَّتَابُع فِي الصّيام، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
النَّوْع الثَّامِن: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي قَضَاء ذَلِك الْيَوْم مَعَ الْكَفَّارَة، فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق: عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن كفر بِالْعِتْقِ وَالْإِطْعَام صَامَ يَوْمًا مَكَان ذَلِك الْيَوْم الَّذِي أفطر، وَإِن صَامَ شَهْرَيْن مُتَتَابعين دخل فيهمَا قَضَاء ذَلِك الْيَوْم، وَقَالَ قوم: لَيْسَ فِي الْكَفَّارَة صِيَام ذَلِك الْيَوْم، قَالَ أَبُو عمر: لِأَنَّهُ لم يرد فِي حَدِيث عَائِشَة وَلَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي نقل الْحفاظ للْأَخْبَار الَّتِي لَا عِلّة فِيهَا ذكر الْقَضَاء، وَإِنَّمَا فِيهَا الْكَفَّارَة. قلت: جَاءَ فِي خبر أبي هُرَيْرَة وَغَيره: الْقَضَاء، وروى ابْن مَاجَه عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن عبد الله بن وهب عَن عبد الْجَبَّار بن عمر عَن يحيى بن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، أَي: بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: هَلَكت، وَقد تقدم قبله، ثمَّ قَالَ: (ويصوم يَوْمًا مَا مَكَانَهُ) .
النَّوْع التَّاسِع: أَجمعُوا على أَن من وطىء فِي رَمَضَان فِي يَوْم آخر أَن عَلَيْهِ كَفَّارَة أُخْرَى، وَأَجْمعُوا أَنه لَيْسَ على من وطىء مرَارًا فِي يَوْم وَاحِد إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، فَإِن وطىء فِي يَوْم من رَمَضَان وَلم يكفر حَتَّى وطىء فِي يَوْم آخر، فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: أَن عَلَيْهِ لكل يَوْم كَفَّارَة، كفر أم لَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة إِذا وطىء قبل أَن يكفر وَقَالَ الثَّوْريّ: أحب إِلَيّ أَن يكفر عَن كل يَوْم، وَأَرْجُو أَن يجْزِيه كَفَّارَة وَاحِدَة مَا لم يكفر.
النَّوْع الْعَاشِر: فِي حَدِيث الْبَاب دلَالَة على التَّمْلِيك الضمني من قَوْله: (تصدق بِهَذَا) ، قَالَ صَاحب الْمُفْهم: يلْزم مِنْهُ أَن يكون قد ملكه إِيَّاه ليتصدق بِهِ عَن كَفَّارَته، قَالَ: وَيكون هَذَا كَقَوْل الْقَائِل: أعتقت عَبدِي عَن فلَان، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن سبقية الْملك عِنْد قوم، قَالَ: وأباه أَصْحَابنَا مَعَ الِاتِّفَاق على أَن الْوَلَاء للْمُعْتق فِيهِ، وَأَن الْكَفَّارَة تسْقط بذلك.(11/28)
03 - (بابٌ إِذا جامَعَ فِي رَمَضَانَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَيءٌ فتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فلْيُكَفِّرْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا جَامع الصَّائِم فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا، وَالْحَال أَنه لم يكن لَهُ شَيْء يعْتق بِهِ، وَلَا شَيْء يطعم بِهِ، وَلَا لَهُ قدرَة يَسْتَطِيع الصّيام بهَا، ثمَّ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِقدر مَا يجْزِيه، فليكفر بِهِ لِأَنَّهُ صَار واجدا بِهِ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْإِعْسَار لَا يسْقط الْكَفَّارَة عَن ذمَّته.
6391 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبً عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنِي حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ جاءَهُ رجُلٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكْتُ قَالَ مالَكَ قَالَ وقَعْتُ علَى امْرَأتِي وَأَنا صَائِمٌ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلْ تَجِدُ رَقبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لاَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتتابِعَيْنِ قَالَ لاَ فَقال فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينا قَالَ لاَ قَالَ فمَكَثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرً والْعَرَقُ المِكْتَلُ قَالَ أيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقَ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله فَوالله مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا يُرِيدُ الحرَّتَيْنِ أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِنْ أهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أطْعِمْهُ أهْلَكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: (وَقعت على امْرَأَتي وَأَنا صَائِم) عبارَة عَن الْجِمَاع.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْمدنِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الرَّاوِي عَن الزُّهْرِيّ هُوَ شُعَيْب، وَالزهْرِيّ هُوَ الرَّاوِي عَن حميد، وروى مَا ينيف على أَرْبَعِينَ نفسا عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة وهم: ابْن عُيَيْنَة وَاللَّيْث وَمعمر وَمَنْصُور عِنْد الشَّيْخَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيّ وَشُعَيْب وَإِبْرَاهِيم بن سعد عِنْد البُخَارِيّ، وَمَالك، وَابْن جريج عِنْد مُسلم، وَيحيى بن سعيد وعراك بن مَالك عِنْد النَّسَائِيّ، وَعبد الْجَبَّار بن عمر عِنْد أبي عوَانَة، والجوزقي وَعبد الرَّحْمَن بن مُسَافر عِنْد الطَّحَاوِيّ، وَعقيل عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَابْن أبي حَفْصَة عِنْد أَحْمد وَيُونُس وحجاج بن أَرْطَأَة وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق عِنْد الْبَزَّار، والنعمان بن رَاشد عِنْد الطَّحَاوِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب وَعبد الرَّحْمَن بن نمر وَأَبُو وأويس وَعبد الْجَبَّار بن عمر الْأَيْلِي وَعبيد الله بن عمر، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة وَمُحَمّد بن أبي عَتيق ومُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن عِيسَى وَإِسْحَاق بن يحيى العوصي وَهَبَّار بن عقيل وثابت بن ثَوْبَان وقرة بن عبد الرَّحْمَن وَزَمعَة بن صَالح وفخر السقاء والوليد بن مُحَمَّد وَشُعَيْب بن خَالِد ونوح بن أبي مَرْيَم وَعبد الله بن أبي بكر وفليح بن سُلَيْمَان وَعَمْرو بن عُثْمَان المَخْزُومِي وَيزِيد بن عِيَاض وشبل بن عباد. وَقد رَوَاهُ هِشَام بن سعد عَن الزُّهْرِيّ فَخَالف الْجَمَاعَة فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ: عَنهُ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَزَاد فِيهِ: (وصم يَوْمًا مَكَانَهُ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عوَانَة الاسفرائني: غلط فِيهِ هِشَام بن سعد، وَقد رَوَاهُ أَيْضا عبد الْجَبَّار ابْن عمر الْأَيْلِي بِإِسْنَاد آخر رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبد الْجَبَّار بن عمر عَن يحيى بن سعيد وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ: عبد الْجَبَّار، لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقد ورد من حَدِيث مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة مُخْتَصرا، وَمن حَدِيث مُحَمَّد بن كَعْب عَن أبي هُرَيْرَة(11/29)
رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ وَضعفهمَا. وَفِيه: أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عِنْد مُسلم، وَعقيل عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَأبي أويس عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ بَين حميد وَأبي هُرَيْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الإدب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَعَن القعْنبِي وَفِي النَّفَقَات عَن أَحْمد بن يُونُس وَفِي النذور عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن عُثْمَان وَفِي الْمُحَاربين عَن قُتَيْبَة وَفِي الْهِبَة وَالنُّذُور أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر ابْن حَرْب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَمُحَمّد وَعِيسَى وَعَن القعْنبِي بِهِ وَعَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن نصر بن عَليّ وَأبي عمار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد ابْن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن أبي الْأسود وَإِسْحَاق بن مُضر وَفِي الشُّرُوط عَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد مر غيرَة أَن أصل: بَيْنَمَا، بَين فأشبعت فَتْحة النُّون وَصَارَ: بَينا، ثمَّ زيدت فِيهِ: الْمِيم، فَصَارَ: بَيْنَمَا، ويضاف إِلَى جملَة إسمية وفعلية، وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والأفصح فِي جوابها أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا، وَلَكِن يَجِيء بِهَذَا كثيرا هُنَا كَذَلِك، وَهُوَ قَوْله: (إِذْ جَاءَهُ رجل) وَقَالَ بَعضهم: وَمن خَاصَّة: بَيْنَمَا، أَنَّهَا تتلقى بإذ، وبإذا حَيْثُ تَجِيء للمفاجأة، بِخِلَاف: بَينا، فَلَا تتلقى بِوَاحِدَة مِنْهُمَا، وَقد ورد فِي هَذَا الحَدِيث كَذَلِك. قلت: هَذَا تصرف فِي الْعَرَبيَّة من عِنْده، وَلَيْسَ مَا قَالَه بِصَحِيح، وَقد ذكرُوا أَن كلا مِنْهُمَا يتلَقَّى بِوَاحِدَة مِنْهُمَا، غير أَن الْأَفْصَح كَمَا ذكرنَا أَن لَا يتلقيا بهما، وَقد ورد فِي الحَدِيث: بإذ، فِي الأول وَفِي الثَّانِي بِدُونِ إِذْ، وَإِذا على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْأَفْصَح، فَأَي شَيْء دَعْوَى الخصوصية فِي بَيْنَمَا بإذ وَإِذا ونفيها فِي بَينا؟ وَلم يقل بِهَذَا أحد؟ قَوْله: (عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حسن الْأَدَب فِي التَّعْبِير، كَمَا تشعر العندية بالتعظيم بِخِلَاف مَا لَو قَالَ: مَعَ. قلت: لَفْظَة: عِنْد، موضوعها الحضرة وَمن أَيْن الْإِشْعَار فِيهِ بالتعظيم؟ قَوْله: (إِذا جَاءَ رجل) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي حَدِيث عَائِشَة.، قَوْله: (هَلَكت) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: (احترقت) كَمَا مر، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (مَا أُراني إلاَّ قد هَلَكت) ، وَقد رُوِيَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: (هَلَكت وأهلكت) ، قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذِه اللَّفْظَة غير مَوْجُودَة فِي شَيْء من رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَأَصْحَاب سُفْيَان لم يرووها عَنهُ إِنَّمَا ذكرُوا قَوْله: (هَلَكت) ، حسب، قَالَ: غير أَن بعض أَصْحَابنَا حَدثنِي أَن الْمُعَلَّى بن مَنْصُور روى هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان، فَذكر هَذَا الْحَرْف فِيهِ وَهُوَ غير مَحْفُوظ، والمعلى لَيْسَ بذلك فِي الْحِفْظ والإتقان. انْتهى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَا يرضاها أَصْحَاب الحَدِيث، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَيست مَحْفُوظَة عِنْد الْحفاظ الْأَثْبَات.
وَقَالَ شَيخنَا زيد الدّين، رَحمَه الله: وَردت هَذِه اللَّفْظَة مُسندَة من طرق ثَلَاثَة: أَحدهَا: الَّذِي ذكره الْخطابِيّ، وَقد رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي ثَوْر، قَالَ: حَدثنَا مُعلى بن مَنْصُور حَدثنَا سُفْيَان بن عينة، فَذكره الدَّارَقُطْنِيّ، تفرد بِهِ أَبُو ثَوْر عَن مُعلى بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة، بقوله: (وأهلكت) ، قَالَ: وهم ثِقَات. الطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَقد رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ، ثمَّ نقل عَن الْحَاكِم أَنه ضعف هَذِه اللَّفْظَة، وَحملهَا على أَنَّهَا أدخلت على مُحَمَّد بن الْمسيب الأرغياني، ثمَّ اسْتدلَّ على ذَلِك. وَالطَّرِيق الثَّالِث: من رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ، رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي غير السّنَن، وَقَالَ: حَدثنَا النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن عَزِيز حَدثنِي سَلامَة بن روح عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، فَذكره، وَقد تكلم فِي سَماع مُحَمَّد بن عَزِيز من سَلامَة، وَفِي سَماع سَلامَة من عقيل، وَتكلم فيهمَا: أما مُحَمَّد بن عَزِيز فضعفه النَّسَائِيّ مرّة، وَقَالَ مرّة: لَا بَأْس بِهِ، وَأما سَلامَة فَقَالَ أَبُو زرْعَة: ضَعِيف مُنكر، وأجود طرق هَذِه اللَّفْظَة طَرِيق الْمُعَلَّى بن مَنْصُور، على أَن الْمُعَلَّى وَإِن اتّفق الشَّيْخَانِ على إِخْرَاج حَدِيثه فقد تَركه أَحْمد، وَقَالَ: لم أكتب عَنهُ، كَانَ يحدث بِمَا وَافق الرَّأْي، وَكَانَ كل يَوْم يخطىء فِي حديثين أَو ثَلَاثَة. قلت: هُوَ من أَصْحَاب أبي حنيفَة(11/30)
وَوَثَّقَهُ يحيى بن معِين، وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: ثِقَة، فِيمَا تفرد بِهِ وشورك فِيهِ، متقن صَدُوق فَقِيه مَأْمُون. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة صَاحب سنة وَكَانَ نبيلاً، طلبوه للْقَضَاء غير مرّة فَأبى. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ صَدُوقًا صَاحب حَدِيث ورأي وَفقه، مَاتَ سنة أحد عشرَة وَمِائَتَيْنِ.
قَوْله: (قَالَ: مَالك؟) بِفَتْح اللَّام وَهُوَ اسْتِفْهَام عَن حَاله، وَفِي رِوَايَة عقيل: (وَيحك {مَا شَأْنك؟) وَلابْن أبي حَفْصَة: (وَمَا الَّذِي أهْلكك وَمَا ذَاك؟) وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: (وَيحك} مَا صنعت؟) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (وَمَا الَّذِي أهْلكك؟) وَكَذَا فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْله: (وَقعت على امْرَأَتي) وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (أصبت أَهلِي) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: (وطِئت امْرَأَتي) . قَوْله: (وَأَنا صَائِم) جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي وَقعت. فَإِن قلت: من أَيْن يعلم أَنه كَانَ صَائِما فِي رَمَضَان حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وجوب الْكَفَّارَة؟ قلت: وَقع فِي أول هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة مَالك وَابْن جريج (أَن رجلا أفطر فِي رَمَضَان) الحَدِيث، وَوَقع أَيْضا فِي رِوَايَة عبد الْجَبَّار بن عمر: (وَقعت على أَهلِي الْيَوْم، وَذَلِكَ فِي رَمَضَان) . وَفِي رِوَايَة سَاق مُسلم إسنادها وسَاق أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) متنها أَنه قَالَ: (أفطرت فِي رَمَضَان) ، وَبِهَذَا يرد على الْقُرْطُبِيّ فِي دَعْوَاهُ تعدد الْقِصَّة، لِأَن مخرج الحَدِيث وَاحِد، والقصة وَاحِدَة، وَوَقع فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عَن سعيد بن مَنْصُور: (أصبت امْرَأَتي ظهرا فِي رَمَضَان) ، وبتعيين رَمَضَان، يفهم الْفرق فِي وجوب كَفَّارَة الْجِمَاع فِي الصَّوْم بَين رَمَضَان وَغَيره من الْوَاجِبَات كالنذر، وَبَعض الْمَالِكِيَّة أوجبوا الْكَفَّارَة على من أفسد صَوْمه مُطلقًا، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، ورد عَلَيْهِم بِالَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (هَل تَجِد رَقَبَة تعتقها؟) وَفِي رِوَايَة مَنْصُور: (أتجد مَا تحرر رَقَبَة) . وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (أتستطيع أَن تعْتق رَقَبَة؟) وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وَالْأَوْزَاعِيّ: (فَقَالَ: أعتق رَقَبَة) . وَزَاد فِي رِوَايَة عَن أبي هُرَيْرَة: (فَقَالَ: بئس مَا صنعت {أعتق رَقَبَة) . وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : (جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي أفطرت يَوْمًا من رَمَضَان، فَقَالَ: من غير عذر وَلَا سقم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: بئس مَا صنعت. قَالَ: أجل، مَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أعتق رَقَبَة) . قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ الرجل: لَا أجد رَقَبَة، وَفِي رِوَايَة ابْن مُسَافر: (فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله) . وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (لَيْسَ عِنْدِي) ، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: (فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا ملكت رَقَبَة قطّ) . قَوْله: (فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن؟) قَالَ الْقُرْطُبِيّ أَي: تقوى وتقدر؟ وَفِي حَدِيث سعد: (قَالَ: لَا أقدر) وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: (وَهل لقِيت مَا لقِيت إلاَّ من الصّيام؟) وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق هَذِه تَقْتَضِي أَن عدم استطاعته شدَّة شبقه وَعدم صبره عَن الوقاع، فَهَل يكون ذَلِك عذرا فِي الِانْتِقَال عَن الصَّوْم إِلَى الْإِطْعَام حَتَّى يعد صَاحبه غير مستطيع للصَّوْم أم لَا؟ وَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة اعْتِبَار ذَلِك، فيسوغ لَهُ الِانْتِقَال إِلَى الْإِطْعَام، ويلتحق بِهِ من يجد رَقَبَة، وَهُوَ غير مستغنٍ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يسوغ لَهُ الِانْتِقَال إِلَى الصَّوْم مَعَ وجودهَا لكَونه فِي حكم غير الْوَاجِد. انْتهى. قلت: فِي هَذَا كُله نظر لِأَن الشَّارِع رتب هَذِه الْخِصَال بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ للتَّرْتِيب والتعقيب، فَكيف ينْقض هَذَا؟ قَوْله: (مُتَتَابعين) فِيهِ اشْتِرَاط التَّتَابُع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (فَهَل تَجِد إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا) . وَزَاد فِي رِوَايَة ابْن مُسَافر: (يَا رَسُول الله. .) وَوَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان: (هَل تَسْتَطِيع إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؟) وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وعراق بن مَالك: (فأطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا أجد) ، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (أفتستطيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا) . وَذكر الْحَاجة، وَفِي حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا أشْبع أَهلِي} ) وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: أضَاف الْإِطْعَام الَّذِي هُوَ مصدر أطْعم إِلَى سِتِّينَ، فَلَا يكون ذَلِك مَوْجُودا فِي حق من أطْعم سِتَّة مَسَاكِين عشرَة أَيَّام مثلا، وَمن أجَاز ذَلِك فَكَأَنَّهُ استنبط من النَّص معنى يعود عَلَيْهِ بالإبطال، وَالْمَشْهُور عَن الْحَنَفِيَّة الْإِجْزَاء حَتَّى لَو أطْعم الْجَمِيع مِسْكينا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا كفى. قلت: هَؤُلَاءِ الَّذين يشتغلون بالحنفية يحفظون شَيْئا وتغيب عَنْهُم أَشْيَاء، أَفلا يعلمُونَ أَن المُرَاد هَهُنَا سد خلة الْفَقِير؟ فَإِذا وجد ذَلِك مَعَ مُرَاعَاة معنى السِّتين، فَلَا طعن فِيهِ، ثمَّ المُرَاد من الْإِطْعَام الْإِعْطَاء لَهُم بِحَيْثُ يتمكنون من الْأكل، وَلَيْسَ المُرَاد حَقِيقَة الْإِطْعَام من وضع المطعوم فِي فَم الْآكِل. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي هَذِه الْخِصَال الثَّلَاثَة وَمَا الْمُنَاسبَة بَينهمَا؟ قلت: الَّذِي انتهك حُرْمَة الصَّوْم بِالْجِمَاعِ عمدا فِي نَهَار رَمَضَان، فقد أهلك نَفسه بالمعصية، فَنَاسَبَ أَن يعْتق رَقَبَة فيفدي نَفسه، بهَا، وَثَبت فِي (الصَّحِيح) (أَن من أعتق رَقَبَة أعتق الله بِكُل عُضْو(11/31)
مِنْهَا عضوا من النَّار) . وَأما الصّيام فمناسبته ظَاهِرَة لِأَنَّهُ كالمقاصة بِجِنْس الْجِنَايَة، وَأما كَونه شَهْرَيْن فَلِأَنَّهُ لما أَمر بمصابرة النَّفس فِي حفظ كل يَوْم من شهر رَمَضَان على الْوَلَاء، فَلَمَّا أفسد مِنْهُ يَوْمًا كَانَ كمن أفسد الشَّهْر كُله من حَيْثُ إِنَّه عبَادَة وَاحِدَة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سَبِيل الْمُقَابلَة لنقيض قَصده. وَأما الْإِطْعَام فمناسبته ظَاهِرَة، لِأَن مُقَابلَة كل يَوْم بإطعام مِسْكين، ثمَّ إِن هَذِه الْخِصَال جَامِعَة لاشتمالها على حق الله تَعَالَى وَهُوَ الصَّوْم، وَحقّ الْأَحْرَار بِالْإِطْعَامِ وَحقّ الأرقاء بِالْإِعْتَاقِ وَحقّ الْجَانِي بِثَوَاب الِامْتِثَال. قَوْله: (فَمَكثَ) بِالْمِيم وَفتح الْكَاف وَضمّهَا وبالثاء الْمُثَلَّثَة. وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من وَجْهَيْن عَن أبي الْيَمَان: أَحدهمَا: (مكث) مثل مَا هُوَ هُنَا. وَالْآخر: (فَسكت) ، من السُّكُوت وَفِي رِوَايَة أبي عُيَيْنَة (فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فَجَلَسَ) . قَوْله: (فَبينا نَحن على ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس كَذَلِك) ، قيل: يحْتَمل أَن يكون سَبَب أمره بِالْجُلُوسِ لانتظار مَا يُوحى إِلَيْهِ فِي حَقه، وَيحْتَمل أَنه كَانَ عرف أَنه سيؤتى بِشَيْء يُعينهُ بِهِ. قَوْله: (أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا هُوَ على بِنَاء الْمَجْهُول عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (إِذْ أُتِي) وَهُوَ جَوَاب قَوْله: بَينا، وَقد مر فِي قَوْله: (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس) أَن بَعضهم قَالَ: إِن بَينا لَا يتلَقَّى بإذ وَلَا بإذا، وَهَهُنَا فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة جَاءَ بإذ، وَهُوَ يرد مَا قَالَه، فَكَأَنَّهُ ذهل عَن هَذَا، والآتي من هُوَ لم يدر، وَقَالَ بَعضهم: والآتي الْمَذْكُور لم يسم. قلت: فِي أَيْن ذكر الْآتِي حَتَّى قَالَ: لم يسم؟ لَكِن وَقع فِي الْكَفَّارَات على مَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَة معمر: (فجَاء رجل من الْأَنْصَار) ، وَهُوَ أَيْضا غير مَعْلُوم. فَإِن قلت: عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن سعيد بن الْمسيب مُرْسلا، (فَأتى رجل من ثَقِيف) . قلت: رِوَايَة الصَّحِيح أصح، وَيُمكن أَن يحمل على أَنه كَانَ حليفا للْأَنْصَار، فَأطلق عَلَيْهِ الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: أَو إِطْلَاق الْأنْصَارِيّ، بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ. قلت: لَا وَجه لذَلِك لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يُطلق على كل من كَانَ من أَي قَبيلَة كَانَ أَنْصَارِيًّا بِهَذَا الْمَعْنى، وَلم يقل بِهِ أحد. قَوْله: (بعرق) ، قد مر تَفْسِيره عَن قريب مُسْتَوفى. قَوْله: (والمكتل) تَفْسِير الْعرق وَقد مر تَفْسِير المكتل أَيْضا وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَابْن خُزَيْمَة (المكتل الضخم) فَإِن قلت تَفْسِير الْعرق بالمكتل مِمَّن؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من الصَّحَابِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من الروَاة، قيل: فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة مَا يشْعر بِأَنَّهُ الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة مَنْصُور فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا: وَهُوَ بَاب المجامع فِي رَمَضَان فَأتي بعرق فِيهِ تمر، وَهُوَ الزبيل، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (فَأتي بزبيل) ، وَقد مر تَفْسِير الزبيل أَيْضا مُسْتَوفى. قَوْله: (أَيْن السَّائِل؟) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم يكن لذَلِك الرجل سُؤال، بل كَانَ لَهُ مُجَرّد إِخْبَار بِأَنَّهُ هلك، فَمَا وَجه إِطْلَاق لفظ السَّائِل عَلَيْهِ؟ قلت: كَلَامه مُتَضَمّن للسؤال أَي: هَلَكت، فَمَا مُقْتَضَاهُ وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ؟ فَإِن قلت: لم يبين فِي هَذَا الحَدِيث مِقْدَار مَا فِي المكتل من التَّمْر؟ قلت: وَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا) ، وَفِي رِوَايَة مُؤَمل عَن سُفْيَان: (فِيهِ خَمْسَة عشر أَو نَحْو ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة مهْرَان بن أبي عمر عَن الثَّوْريّ عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (فِيهِ خَمْسَة عشر أَو عشرُون) وَكَذَا هُوَ عِنْد مَالك، وَفِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ الْجَزْم بِعشْرين صَاعا، وَوَقع فِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (فَأتي بعرق فِيهِ عشرُون صَاعا) ، وَقَالَ بَعضهم: من قَالَ: عشرُون، أَرَادَ أصل مَا كَانَ فِيهِ، وَمن قَالَ: خَمْسَة عشر، أَرَادَ قدر مَا تقع بِهِ الْكَفَّارَة، وَيبين ذَلِك حَدِيث عَليّ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ: (يطعم سِتِّينَ مِسْكينا لكل مِسْكين مد) وَفِيه: (فَأتي بِخَمْسَة عشر صَاعا، فَقَالَ: أطْعمهُ سِتِّينَ مِسْكينا) . وَكَذَا فِي رِوَايَة حجاج عَن الزُّهْرِيّ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: وَفِيه رد على الْكُوفِيّين فِي قَوْلهم: إِن واجبه من الْقَمْح ثَلَاثُونَ صَاعا، وَمن غَيره سِتُّونَ صَاعا، وعَلى أَشهب فِي قَوْله: لَو غدَّاهم أَو عشَّاهم كفى لصدق الْإِطْعَام، وَلقَوْل الْحسن: يطعم أَرْبَعِينَ مِسْكينا عشْرين صَاعا، وَلقَوْل عَطاء: إِن أفطر بِالْأَكْلِ أطْعم عشْرين صَاعا، أَو بِالْجِمَاعِ أطْعم خَمْسَة عشر، وَفِيه رد على الْجَوْهَرِي حَيْثُ قَالَ فِي (الصِّحَاح) : المكتل تشبه الزبيل، يسع خَمْسَة عشر صَاعا لِأَنَّهُ لَا حصر فِي ذَلِك. انْتهى. قلت: لَيْت شعري كَيفَ فِيهِ رد على الْكُوفِيّين وهم قد احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم: (فَجَاءَهُ عرقان فيهمَا طَعَام) ، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن مَا فِي العرقين يكون ثَلَاثِينَ صَاعا، فَيعْطى لكل مِسْكين نصف صَاع، بل الرَّد على أئمتهم حَيْثُ احْتَجُّوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بالروايات المضطربة، وَفِي بَعْضهَا الشَّك، فالعجب(11/32)