أَن يكون مثلت لَهُم أَحْوَالهم الَّتِي كَانَت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا كَيفَ تعبودا وَكَيف حجُّوا وَكَيف لبوا، وَلِهَذَا قَالَ: كَأَنِّي، وَيحْتَمل أَن يكون إخْبَاره ذَلِك بِالْوَحْي عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك فِي الْمَنَام، ومنام الْأَنْبِيَاء وَحي، وَحَدِيث مُسلم الْمَذْكُور حجَّة على الْمُهلب، ورد لما قَالَه وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمُنَاسب لذكر الدَّجَّال ذكر عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: قَالَ ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى أَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هُوَ الَّذِي يقتل الدَّجَّال، وَلَو كَانَ لَهُ اطلَاع على الحَدِيث الْمَذْكُور لما ادّعى هَذِه الْمُنَاسبَة.
13 - (بابٌ كيُفَ تُهِلُ الحَائِضُ والنُّفَساءُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة إهلال الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَالْمرَاد بالإهلال الْإِحْرَام.
أهَلَّ تَكَلَّمَ بِهِ وَاسْتَهْلَلْنَا وأهْلَلْنَا الهِلاَلَ كُلّهُ مِنَ الظّهُورِ وَاسْتَهَلَّ المَطَرُ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ وَمَا أُهِلَّ لِغيرِ الله وَهْوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِيِّ
جرى البُخَارِيّ على دأبه أَنه إِذا رأى مَادَّة من الْكَلَام تسْتَعْمل فِي معانٍ كَثِيرَة مِمَّا جَاءَ فِي الْكتاب أَو فِي السّنة يذكر ذَلِك ويبينه، وَذكر أَشْيَاء مِنْهَا، قَوْله: (أهلَّ: تكلم بِهِ) يَعْنِي: إِذا تكلم أظهره مَا فِي قلبه. وَمِنْهَا قَوْله: (استهللنا وأهللنا الْهلَال) ، يَعْنِي: طلبنا ظُهُوره، وَيُقَال: أهل الْهلَال واستهل، على مَا لم يسم فَاعله، وَيُقَال أَيْضا: اسْتهلّ على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَمَعْنَاهُ: تبين، وَلَا يُقَال أهلَّ. وَيُقَال: أَهْلَلْنَا عَن لَيْلَة كَذَا، وَلَا يُقَال: أهللناه فَهَل، كَمَا يُقَال: أدخلْنَاهُ فَدخل وَهُوَ قِيَاسه. وَمِنْهَا: (اسْتهلّ الْمَطَر) إِذا ظهر نُزُوله من السَّحَاب بِصَوْت، وَيُقَال: تهلل وَجه الرجل من فرحه، واستهل إِذا ظهر سروره، وتهللت دُمُوعه إِذا سَالَتْ، وانهلت السَّمَاء: صبَّتْ، وانهل الْمَطَر إنهلالاً إِذا سَالَ بِشدَّة، وَمِنْهَا قَوْله: {وَمَا أهلَّ لغير الله} مَعْنَاهُ: إِذا نُودي عَلَيْهِ بِغَيْر إسم الله، وَأَصله رفع صَوت الذَّابِح عِنْد الذّبْح. وَمِنْهَا قَوْله: (وَهُوَ من استهلال الصَّبِي) وَهُوَ ظُهُور صياحه عِنْد الْولادَة، وَمِنْه: أهل الْمُعْتَمِر، إِذا رفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (كُله من الظُّهُور) أَي: كل وَاحِد من أهلَّ واستهللنا، وأهللنا من الظُّهُور، وَهَذَا كَانَ مَحَله أَن يذكر بعد قَوْله: (وَهُوَ من استهلال الصَّبِي) ، لِأَن جَمِيع مَا ذكره من الْموَاد الْمَذْكُورَة من الظُّهُور، وَذكره بعد قَوْله: (وأهللنا الْهلَال) فِي غير مَحَله.
6551 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ خَرَجْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فأهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قالَ النبيُّ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وأنَا حائِضٌ ولَمْ أطُفْ بِالبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ فشَكَوْتُ ذالكَ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ انْقُضِي رأْسَكِ وَامتَشِطِي وَأهِلِّي بالحَجِّ ودعِي العُمْرَةَ فَفَعَلْتُ فلَمَّا قَضَيْنَا الحَجَّ أرْسَلَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمَ فاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هاذَا مَكانُ عُمْرَتِكَ قالَتْ فَطَافَ الَّذِينَ كانُوا أهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ثُمَّ أحَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافا وَاحِدا بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنىً وَأمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فإنَّمَا طافُوا طَوَافا واحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (انقضي رَأسك وامتشطي) إِلَى قَوْله: (هَذِه مَكَان عمرتك) .
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَعبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين: هُوَ القعْنبِي، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْحيض، وَعقد لَهُ بَابا بقوله: بَاب كَيفَ تهل الْحَائِض بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة: حَدثنَا يحيى بن بكير، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث، وَبَين الطَّرِيقَيْنِ والمتن(9/182)
تفَاوت يسير يعرف بِالنّظرِ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْمَغَازِي عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي مُصعب عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن يحيى النَّيْسَابُورِي، وَعَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي، وَفِيه وَفِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار وَأبي مُصعب، كِلَاهُمَا عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، وَكَانَت فِي سنة عشر من الْهِجْرَة، وَلم يحجّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة بعد الْهِجْرَة غَيرهَا وَمَا قبلهَا لما كَانَ بِمَكَّة حج حجَجًا لَا يعلم عَددهَا إِلَّا الله، وَسميت: حجَّة الْوَدَاع: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعظهم وودعهم، فسميت بذلك حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (فأهللنا بِعُمْرَة) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم فِي: بَاب الْحيض، وَسَيَجِيءُ فِي: بَاب التَّمَتُّع، أَنهم كَانُوا لَا يرَوْنَ إِلَّا الْحَج؟ قلت: مَعْنَاهُ: وَلَا يرَوْنَ عِنْد الْخُرُوج إلاَّ ذَلِك فَبعد ذَلِك أَمرهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالاعتمار رفعا لما اعتقدوا من حُرْمَة الْعمرَة فِي أشهر الْحَج. انْتهى. قلت: لَو وقف الْكرْمَانِي على الرِّوَايَات الَّتِي رويت عَن عَائِشَة لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا السُّؤَال وَلَا إِلَى الْجَواب عَنهُ: فَإِن الرِّوَايَات اخْتلفت فِي إِحْرَام عَائِشَة اخْتِلَافا كثيرا، فههنا فأهللنا بِعُمْرَة، وَفِي أُخْرَى: فمنا من أهل بِعُمْرَة وَمنا من أهل بِحَجّ. قَالَت: وَلم أهل إلاَّ بِعُمْرَة. وَفِي أُخْرَى: خرجنَا لَا نُرِيد إلاَّ الْحَج، وَفِي أُخْرَى: لبينا بِالْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى: مهلين بِالْحَجِّ، وَالْكل صَحِيح. وَفِي رِوَايَة: وَكنت مِمَّن تمتّع وَلم يسق الْهَدْي. وَقَالَ أَبُو عمر: وَالْأَحَادِيث عَن عَائِشَة فِي هَذَا مضطربة جدا، وَكَذَا قَالَ القَاضِي عِيَاض، وَذكر أَن فِي الرِّوَايَات عَنْهَا اخْتِلَافا شَدِيدا. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (تمهيده) : دفع الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية حَدِيث عُرْوَة هَذَا، وَقَالُوا: هُوَ غلط لم يُتَابع عُرْوَة على ذَلِك أحد من أَصْحَاب عَائِشَة. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: اجْتمع هَؤُلَاءِ يَعْنِي: الْقَاسِم وَالْأسود وَعمرَة على أَن أم الْمُؤمنِينَ كَانَت مُحرمَة بِحجَّة لَا بِعُمْرَة، فَعلمنَا بذلك أَن الرِّوَايَة الَّتِي رويت عَن عُرْوَة غلط، لِأَن عُرْوَة قَالَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام عَنهُ: حَدثنِي غير وَاحِد أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهَا: دعِي عمرتَكِ، فَدلَّ على أَنه لم يسمع الحَدِيث مِنْهَا. وَقَالَ ابْن حزم: حَدِيث أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَحَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَنْهَا منكران وخطآن عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وَقد سبقَنا إِلَى تخطئة حَدِيث أبي الْأسود هَذَا أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ مَالك: لَيْسَ الْعَمَل عندنَا على حَدِيث عُرْوَة عَنْهَا قَدِيما وَلَا حَدِيثا. قَوْله: (من كَانَ مَعَه هدي) بِسُكُون الدَّال أَو بِكَسْرِهَا وَتَشْديد الْيَاء وَإِسْكَان الدَّال أفْصح، وَسوى بَينهمَا ثَعْلَب، وَالتَّخْفِيف لُغَة أهل الْحجاز، والتثقيل لُغَة تَمِيم، وَوَاحِد الْهَدْي: هَدِيَّة، وَقد قرى مُبْهما جَمِيعًا فِي قَوْله: {حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 691) . وَهُوَ مَا يهدي إِلَى الْحرم من النعم. قَوْله: (مِنْهُمَا) أَي: من الْحَج وَالْعمْرَة. قَوْله: (فَقدمت) ، بِضَم التَّاء، وَهُوَ إِخْبَار عَائِشَة عَن نَفسهَا. قَوْله: (وَأَنا حَائِض) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (ذَلِك) أَي: ترك الطّواف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة بِسَبَب الْحيض. قَوْله: (انقضي رَأسك) من النَّقْض، بالنُّون وَالْقَاف وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيجوز بِالْفَاءِ إِن صحت الرِّوَايَة. قلت: لِأَن كلا مِنْهُمَا بِمَعْنى، وَلَكِن رِوَايَة الْفَاء مَا ثبتَتْ. قَوْله: (وامتشطي) ، من امتشاط الشّعْر وَهُوَ: تسريحه. قَوْله: (ودعي الْعمرَة) يدل على أَنَّهَا كَانَت قارنة. قَوْله: (فَفعلت) أَي: نقض الرَّأْس والامتشاط. قَوْله: (مَعَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر) ، هُوَ أَخُوهَا شقيقها، وأمهما أم رُومَان بنت عَامر. قَوْله: (إِلَى التَّنْعِيم) ، قد مر تَفْسِيره مرّة، وَهُوَ طرف حرم مَكَّة من نَاحيَة الشَّام، وَهُوَ الْمَشْهُور بمساجد عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (هَذِه مَكَان عمرتك) بِرَفْع مَكَان على أَنه خبر، أَي: عوض عمرتك الْفَائِتَة، وَيجوز بِالنّصب على الظّرْف، قيل: النصب أوجه، وَلَا يجوز غَيره، وَالْعَامِل فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذِه كائنة مَكَان عمرتك أَو مجعولة مَكَانهَا. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالرَّفْع أوجه عِنْدِي إِذْ لم يرد بِهِ الظّرْف، إِنَّمَا أَرَادَ عوض عمرتك، فَمن قَالَ: كَانَت قارنة، قَالَ: مَكَان عمرتك الَّتِي أردْت أَن تَأتي بهَا مُفْردَة، وَمن قَالَ: كَانَت مُفْردَة، قَالَ: مَكَان عمرتك الَّتِي فسخت الْحَج إِلَيْهَا وَلم تتمكني من الْإِتْيَان بهَا للْحيض، وَكَانَ ابْتِدَاء حَيْضهَا يَوْم السبت لثلاث خلون من ذِي الْحجَّة بسرف، وطهرت يَوْم السبت وَهُوَ يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وَبَين الصَّفَا والمروة)(9/183)
أَي: وطافوا بَين الصَّفَا والمروة، وَأَرَادَ بِهِ السَّعْي بَينهمَا. قَوْله: (طَوافا وَاحِدًا) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والجرجاني: (طَوافا آخر) . وَقَالَ عِيَاض هُوَ الصَّوَاب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْحجَّة لمن يَقُول بأفضلية الْقُرْآن لقَوْله: فَمن كَانَ مَعَه هدي فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعمرَة، وَهَذَا هُوَ الْقُرْآن، لِأَن فِيهِ الْجمع بَين النُّسُكَيْنِ فِي سفرة وَاحِدَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: (ثمَّ لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا) هَذَا هُوَ حكم الْقُرْآن بِلَا نزاع، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى تَفْضِيل الْقُرْآن بِهِ وبالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا الدَّالَّة على أَفضَلِيَّة الْقُرْآن، وعَلى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا فِي حجَّة الْوَدَاع: شَقِيق بن سَلمَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق والمزني من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (الْمُجَرّد) . وَإِمَّا حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاخْتلف فِيهِ بِحَسب الْمذَاهب، وَالْأَظْهَر قَول أَحْمد: لَا أَشك أَنه كَانَ قَارنا، والمتعة أحب إِلَيّ. فَإِن قلت: قد رُوِيَ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد الْحَج، وَرُوِيَ: أَنه تمتّع، وَرُوِيَ: أَنه قرن، فَمَا التَّوْفِيق فِيهَا؟ قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: طَرِيق التَّوْفِيق فِيهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم بِعُمْرَة فِي بَدْء أمره فَمضى فِيهَا مُتَمَتِّعا، ثمَّ أحرم بِحجَّة قبل طَوَافه وإفرادها بِالْإِحْرَامِ، فَصَارَ بهَا قَارنا. فَإِن قلت: فِيهِ إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة فَمَا حكمه؟ قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اتّفق الْعلمَاء على جَوَاز إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، وشذ بعض النَّاس فَمَنعه، وَقَالَ: لَا يدْخل بِإِحْرَام على إِحْرَام، كَمَا فِي الصَّلَاة. وَاخْتلفُوا فِي عَكسه، وَهُوَ إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج، فجوزه أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَمنعه آخَرُونَ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ خَاصّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قُلْنَا: دَعْوَى الخصوصية تحْتَاج إِلَى دَلِيل.
وَفِيه: أَن الْمُتَمَتّع إِذا فرغ من أَعمال الْعمرَة لم يحل حَتَّى يحرم بِالْحَجِّ إِذا كَانَ مَعَه هدي، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا عملا بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا بِنَقْض رَأسهَا ثمَّ بالامتشاط، فَقَالَ الشَّافِعِي: تَأْوِيله أَنه أَمر لَهَا أَن تدع الْعمرَة وَتدْخل عَلَيْهَا الْحَج فَتَصِير قارنة. وَقَالَ ابْن حزم: وَالصَّحِيح أَنَّهَا كَانَت قارنة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الحَدِيث مُشكل جدا إلاَّ أَن يؤول على التَّرَخُّص لَهَا أَن تدع الْعمرَة وَتدْخل على الْحَج، فَتكون قارنة. لَا أَن تدع الْعمرَة نَفسهَا. فَإِن قلت: يوهن هَذَا التَّأْوِيل لفظ: (انقضي رَأسك وامتشطي) . قلت: لَا، لِأَن نقض الرَّأْس والامتشاط جائزان فِي الْإِحْرَام بِحَيْثُ لَا تنتف شعرًا، وَقد يتَأَوَّل بِأَنَّهَا كَانَت معذورة بِأَن كَانَ برأسها أَذَى، فأباح لَهَا كَمَا أَبَاحَ لكعب بن عجْرَة للأذى. وَقيل: المُرَاد بالامتشاط تَسْرِيح الشّعْر بالأصابع لغسل الْإِحْرَام بِالْحَجِّ، وَيلْزمهُ مِنْهُ نقضه.
وَفِيه: فِي قَوْلهَا: (فَقدمت مَكَّة وَأَنا حَائِض وَلم أطف بِالْبَيْتِ وَلَا بَين الصَّفَا والمروة) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ دلَالَة على أَن طواف الْمُحدث لَا يجوز، وَلَو كَانَ ذَلِك لأجل الْمَسْجِد لقَالَ: لَا يدْخل الْمَسْجِد، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَعَن أَحْمد: طواف الْمُحدث وَالْجنب لَا يَصح، وَعنهُ: يَصح. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الطَّهَارَة لَيست بِشَرْط فَلَو طَاف وَعَلِيهِ نَجَاسَة أَو طَاف مُحدثا أَو جنبا صَحَّ طَوَافه، لقَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . أَمر بِالطّوافِ مُطلقًا، وتقييده بِالطَّهَارَةِ بِخَبَر الْوَاحِد زِيَادَة على النَّص فَلَا يجوز، وَلَكِن إِن طَاف مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة، وَإِن طَاف جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة، ويعيده مَا دَامَ فِي مَكَّة، وَعَن دَاوُد: الطَّهَارَة لَهُ وَاجِبَة. فَإِن طَاف مُحدثا أَجزَأَهُ إلاَّ الْحَائِض. وَعند الشَّافِعِي: الطَّهَارَة شَرط فَلَا يَصح بِدُونِهَا، وَمذهب الْجُمْهُور: أَن السَّعْي يَصح من الْمُحدث وَالْجنب وَالْحَائِض. وَعَن الْحسن: أَنه إِن كَانَ قبل التَّحَلُّل أعَاد السَّعْي، وَإِن كَانَ بعده فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَفِيه: حجَّة لمن قَالَ: الطّواف الْوَاحِد وَالسَّعْي الْوَاحِد يكفيان للقارن، وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَالْحسن وطاووس، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد، وَقَالَ مُجَاهِد وَجَابِر بن زيد وَشُرَيْح القَاضِي وَالشعْبِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ بن حُسَيْن وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالْأسود بن يزِيد وَالْحسن بن حَيّ وَحَمَّاد بن سَلمَة وَحَمَّاد ابْن سُلَيْمَان وَالْحكم بن عُيَيْنَة وَزِيَاد بن مَالك وَابْن شبْرمَة وَابْن أبي ليلى وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا بُد للقارن من طوافين وسعيين، وَحكي ذَلِك عَن عمر وَعلي وإبنيه: الْحسن وَالْحُسَيْن، وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، هُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد. وروى مُجَاهِد عَن ابْن عمر أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، وَقَالَ: سبيلهما وَاحِد، وَطَاف لَهما طوافين وسعى لَهما سعيين، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنع كَمَا صنعت، وَعَن عَليّ: أَنه جمع بَينهمَا، وَفعل ذَلِك ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله(9/184)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: طَاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمرته وحجته طوافين وسعى سعيين، وَأَبُو بكر وَعمر وَعلي، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وَضَعفه، وَالله أعلم.
23 - (بابُ مَنْ أهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ كإهْلالِ النبيِّ قالَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أهلَّ، أَي: أحرم فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى جَوَاز الْإِحْرَام على الْإِيهَام ثمَّ يصرفهُ الْمحرم لما شَاءَ لكَون ذَلِك وَقع فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَنْهَهُ عَن ذَلِك، وَقيل: كَانَ البُخَارِيّ لما لم ير إِحْرَام التَّقْلِيد وَلَا الْإِحْرَام الْمُطلق ثمَّ يعين بعد ذَلِك أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة بقوله: بَاب من أهل فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كإهلاله، إِلَى أَن هَذَا خَاص بذلك الزَّمن، فَلَيْسَ لأحد أَن يحرم مَا أحرم بِهِ فلَان، بل لَا بُد أَن يعين الْعِبَادَة الَّتِي يَرَاهَا، ودعت الْحَاجة إِلَى الْإِطْلَاق وَالْحوالَة على إِحْرَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن عليا وَأَبا مُوسَى لم يكن عِنْدهمَا أصل يرجعان إِلَيْهِ فِي كَيْفيَّة الْإِحْرَام، فأحالا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما الْآن فقد اسْتَقَرَّتْ الْأَحْكَام وَعرفت مَرَاتِب كيفيات الْإِحْرَام. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه سلمناه فِي بعضه، وَلَا نسلم فِي قَوْله: كَانَ البُخَارِيّ لم ير إِحْرَام التَّقْلِيد وَلَا الْإِحْرَام الْمُطلق، أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى هَذَا خَاص بذلك الزَّمن، لِأَنَّهُ ذكر فِي التَّرْجَمَة مُطلقًا. من أهل كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن أَيْن تَأتي هَذِه الْإِشَارَة إِلَى مَا ذكره؟ فالترجمة ساكتة عَن ذَلِك وَلَا يُعلم رَأْي البُخَارِيّ فِي هَذَا الحكم مَا هُوَ؟ فَافْهَم. قَوْله: (قَالَ ابْن عمر) أَي: قَالَ هَذَا الْمَذْكُور الَّذِي هُوَ التَّرْجَمَة عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَيُشِير بِهِ إِلَى مَا أخرجه فِي: بَاب بعث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْيمن، فِي (كتاب الْمَغَازِي) من طَرِيق بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن ابْن عمر، فَذكر حَدِيثا فِيهِ: (فَقدم علينا عَليّ بن أبي طَالب من الْيمن حَاجا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بِمَ أَهلَلْت فَإِن مَعنا أهلك؟ فَقَالَ: أَهلَلْت بِمَا أهلَّ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) الحَدِيث. وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: (فَإِن مَعنا أهلك) لِأَن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت قد تمتعت بِالْعُمْرَةِ وَأحلت، كَمَا بَينه مُسلم فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: (وَقدم علينا عَليّ من الْيمن ببدن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوجدَ فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مِمَّن حل ولبست ثيابًا صبيغا واكتحلت إِلَى أَن قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَاذَا قلت حِين فرضت الْحَج؟ قَالَ: قلت: أللهم إِنِّي أهل بِمَا أهل بِهِ رَسُولك. قَالَ: فَإِن معي الْهَدْي فَلَا تحل) . وَفِي هَذَا دَلِيل لمَذْهَب الشَّافِعِي وَمن وَافقه، فَإِنَّهُ يَصح الْإِحْرَام مُعَلّقا بِأَن يَنْوِي إحراما كإحرام زيد، فَيصير هَذَا الْمُعَلق كإحرام زيد، فَإِن كَانَ زيد أحرم بِحَجّ كَانَ هَذَا بِحَجّ أَيْضا، وَإِن كَانَ بِعُمْرَة فبعمرة، وَإِن كَانَ بهما فبهما، فَإِن كَانَ زيد أحرم مُطلقًا صَار هَذَا محرما وإحراما مُطلقًا، فيصرفه إِلَى مَا شَاءَ من حج أَو عمْرَة وَلَا يلْزمه مُوَافقَة زيد فِي الصّرْف، قَالَه النَّوَوِيّ: وَحكى الرَّافِعِيّ وَجها أَنه يلْزمه مُوَافَقَته فِي الصّرْف، وَالصَّوَاب الأول، وَلَا يجوز عِنْد سَائِر الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة، رَحِمهم الله، الْإِحْرَام بِالنِّيَّةِ المبهمة. لقَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَلقَوْله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . وَلِأَن هَذَا كَانَ لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خُصُوصا، وَكَذَا لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَسَيَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
7551 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جابِرٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليَّا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أَن يُقِيمَ عَلَى إحْرَامِهِ وذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا أَن يُقيم على إِحْرَامه) ، وَذَلِكَ أَنه قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْيمن وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَكَّة، وَكَانَ قد أرْسلهُ إِلَى الْيمن قبل حجَّة الْوَدَاع، وَكَانَ عَليّ أحرم كإحرام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ: بِمَ أَهلَلْت؟ فَقَالَ: بإهلالك يَا رَسُول الله، فَأمره أَن يُقيم على إِحْرَامه وَلَا يحل لِأَنَّهُ كَانَ مَعَه هدي.
ذكر رِجَاله: وهم: أَرْبَعَة: الأول: الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد الْحَنْظَلِي التَّمِيمِي الْبَلْخِي أَبُو السكن، وَهُوَ من جملَة من روى عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ سنة أَربع عشر وَمِائَتَيْنِ ببلخ، وَقد قَارب مائَة سنة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ الْمَنْسُوب إِلَى مَكَّة(9/185)
المشرفة، وَقد اعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن قَالَ: مَنْسُوب إِلَى مَكَّة وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ اسْمه، وَهُوَ من بَلخ قلت: أَرَادَ بِهِ الْكرْمَانِي أَنه على صُورَة النِّسْبَة إِلَى مَكَّة وَلم يدَّعِ أَنه مَنْسُوب إِلَى مَكَّة حَقِيقَة. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: عَطاء بن أبي رَبَاح. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بلخي وان ابْن جريج وَعَطَاء مكيان. وَفِيه: قَالَ عَطاء وَقَالَ جَابر وَهُوَ صُورَة التَّعْلِيق، وَهُوَ من رباعيات البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عليا أَن يُقيم على إِحْرَامه) ، وَذَلِكَ حِين قدم عَليّ من الْيمن كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَأمره أَن يُقيم على إِحْرَامه الَّذِي كَانَ أحرم بِهِ كإحرام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يحل لِأَن مَعَه الْهَدْي قَوْله: (وَذكر قَول سراقَة) ، أَي: ذكر جَابر فِي حَدِيثه قَول سراقَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَاعل ذكر إِمَّا الْمَكِّيّ، وَإِمَّا جَابر، فقائله إِمَّا البُخَارِيّ، وَإِمَّا عَطاء. وسراقة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء بعد الْألف قَاف: ابْن مَالك بن جعْشم، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الشين الْمُعْجَمَة، وَقيل بفتجها الْكِنَانِي، بالنونين: المدلجي، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالجيم: الْحِجَازِي، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعَة عشر حَدِيثا، روى البُخَارِيّ مِنْهَا وَاحِدًا، مَاتَ فِي أول خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة أَربع وَعشْرين، وَقَول سراقَة مَا ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب عمْرَة التَّنْعِيم، من حَدِيث حبيب الْمعلم عَن عَطاء (حَدثنِي جَابر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهلَّ هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أحد مِنْهُم هدي غير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَطَلْحَة، وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قدم من الْيمن وَمَعَهُ هدي. .) الحَدِيث. وَفِيه: (أَن سراقَة لَقِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْعقبَةِ وَهُوَ يرميها، فَقَالَ: ألكم هَذِه خَاصَّة يَا رَسُول الله؟ قَالَ لَا، بل لأبد الْأَبَد) . وَرَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد ابْن حَاتِم: حَدثنَا يحيى الْقطَّان أخبرنَا ابْن جريج (أَخْبرنِي عَطاء، سَمِعت جَابِرا قَالَ: قدم عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من سعايته، فَقَالَ: بِمَ أَهلَلْت؟ قَالَ: بِمَا أهلَّ بِهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ: فامكث حَرَامًا. قَالَ: وأهد لَهُ هَديا؟ فَقَالَ سراقَة بن مَالك بن جعْشم: يَا رَسُول الله! لِعَامِنَا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ فَقَالَ: لأبد) . فَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَذكره البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَليّ بن أبي طَالب وخَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، من (كتاب الْمَغَازِي) عَن الْمَكِّيّ بِسَنَدِهِ، وَلم يذكر الْمُزنِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، وَلَا من سلفه أَن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرجه فِيهِ وَهُوَ ثَابت فِيهِ، فِيمَا رَأَيْت من نسخ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى.
8551 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ الخَلاَّلُ الهُذْلِيُّ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حدَّثنا سَليمُ بنُ حَيَّانَ قَالَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأصْفَرَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ اليَمَنِ فقالَ بِمَ أهْلَلْتَ قَالَ بِمَا أهَلَّ بِه النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ لَوْلاَ أنَّ مَعِي الهَدْيَ لأحْلَلْتُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: الْحسن بن عَليّ الْخلال، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام الأولى: أَبُو عَليّ الْهُذلِيّ، بِضَم الْهَاء وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة، مَاتَ فِي مَكَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَقد مر. الثَّالِث: سليم، بِفَتْح السِّين وَكسر اللَّام: ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون، مر فِي: بَاب التَّكْبِير على الْجِنَازَة. الرَّابِع: مَرْوَان الْأَصْفَر. وَيُقَال: الْأَحْمَر أَبُو خلف، وَيُقَال: اسْم أَبِيه خاقَان، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ عَن أنس سوى هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من أَفْرَاد الصَّحِيح. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه حلواني، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى حلوان، سكن مَكَّة وَأَن عبد الصَّمد وَسليمَان ومروان بصريون، وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى الْقَبِيلَة وَهِي هُذَيْل بن مدركة وَإِلَى الحرفة. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُور بلقبه.
ذكر من(9/186)
أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن حجاج بن الشَّاعِر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عبد الْوَارِث ابْن عبد الصَّمد، وَقَالَ: حسن غَرِيب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِمَا أَهلَلْت؟) أَي: بِمَا أَحرمت، وَقَالَ ابْن التياني: كَذَا وَقع، أَي: لفظ: (بِمَا أَهلَلْت؟) . وَفِي الْأُمَّهَات بِالْألف وَصَوَابه بِغَيْر ألف لِأَنَّهُ اسْتِفْهَام. قَوْله: (بِمَا أهل بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بِالَّذِي أهل بِهِ، أَي: أحرم بِهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لَوْلَا أَن معي الْهَدْي لأحللت) أَي: من الْإِحْرَام، وتمتعت لِأَن صَاحب الْهَدْي لَا يُمكنهُ التَّحَلُّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، وَهُوَ فِي يَوْم النَّحْر. قَوْله: (لأحللت) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، و: أحللت، من أحلَّ من إِحْرَامه فَهُوَ محلٌّ وحِلٌّ. قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} (الْمَائِدَة: 2) . وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : اعْلَم أَن فِي حَدِيث أنس مُوَافقَة لرأي الْجَمَاعَة فِي إِفْرَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْمُهلب: ويردهم حَدِيث أنس، أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قرن، واتفاقه مَعَ الْجَمَاعَة أولى من الإتباع مِمَّا انْفَرد بِهِ وَخَالفهُم فِيهِ، فتسويغ الشَّارِع لنَفسِهِ لَوْلَا الْهَدْي يدل أَنه كَانَ مُفردا لِأَنَّهُ لَا يجوز للقارن الْإِحْلَال، وَإِن لم يكن مَعَه الْهَدْي حَتَّى يفرغ من الْحَج. قلت: قَالَ الْخطابِيّ: فِي حَدِيث سليم دلَالَة على أَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ قَارنا لِأَن الْهَدْي لَا يجب على غير الْقَارِن أَو الْمُتَمَتّع، وَلَو كَانَ مُتَمَتِّعا لحل من إِحْرَامه للْعُمْرَة ثمَّ اسْتَأْنف إحراما لِلْحَجِّ، وَبِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور احْتج الشَّافِعِي على جَوَاز الْإِحْرَام الْمُبْهم وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَزَادَ مُحَمَّدُ بنُ بَكْرٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ أهْلَلْتَ يَا عَلَّيُّ قَالَ بَمَا أهَلَّ بِهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فأهْدِ وامْكُثْ حَرَاما كَمَا أنْتَ
أَي: زَاد مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي الَّذِي مر ذكره فِي: بَاب تَضْييع الصَّلَاة، فِي كتاب الْمَوَاقِيت عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء عَن جَابر، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن بشار وَأَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن عمار، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن بكر بِهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا تَعْلِيق من ابْن جريج أَو دَاخل تَحت الْإِسْنَاد الأول. قلت: إِذا كَانَ دَاخِلا فِي الْإِسْنَاد الأول لَا يكون تَعْلِيقا إلاَّ بِحَسب الصُّورَة.
قَوْله: (فاهد) ، بِفَتْح الْهمزَة لِأَنَّهَا همزَة الْقطع من الرباعي. قَوْله: (وامكث) ، أَمر من: مكث يمْكث مكثا إِذا لبث، وَذَلِكَ لأجل سوق الْهَدْي، وَمن سَاقه لَا يحل حَتَّى يتم الْحَج. قَوْله: (حَرَامًا) ، نصب على الْحَال أَي: محرما. قَوْله: (كَمَا أَنْت) أَي: على مَا أَنْت عَلَيْهِ، وللنحويين فِي هَذَا الْمِثَال أعاريب: أَحدهَا: أَن: مَا، مَوْصُولَة، وَأَنت، مُبْتَدأ مَحْذُوف خَبره. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَوْصُولَة و: أَنْت، خبر حذف مبتدؤه أَي: كَالَّذي هُوَ أَنْت. وَالثَّالِث: أَن: مَا، زَائِدَة ملغاة، وَالْكَاف جَارة، وَأَنت ضمير مَرْفُوع أنيب عَن الْمَجْرُور كَمَا فِي قَوْلهم: مَا أَنا كَأَنْت، وَالْمعْنَى: كن فِيمَا تسْتَقْبل مماثلاً لنَفسك فِيمَا مضى. وَالرَّابِع: أَن، مَا، كَافَّة، وَأَنت مُبْتَدأ حذف خَبره أَي: عَلَيْهِ، أَو كَائِن وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالُوا: فِيهِ دَلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا، إِذْ وجوب الْهَدْي إِنَّمَا هُوَ على الْقَارِن والمتمتع لَا الْمُفْرد، وَلَيْسَ مُتَمَتِّعا لِأَن لفظ: أمكث يدل على عَدمه.
9551 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ قَيْسِ بنِ مُسْلمٍ عنْ طَارِقٍ بنِ شِهَابٍ عنْ أبي مُوسى ارضي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ بعَثَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى قَوْمٍ بِاليَمَنِ فَجِئْتُ وَهْوَ بِالبَطْحَاءِ فَقَالَ بِمَ أهْلَلْتَ قُلْتُ أهْلَلْتُ كإهْلاَلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ قُلْتُ لاَ فأمرَنِي فَطُفْتُ بِالبيْتِ وبِالصَّفَا وَالمَرْوةِ ثُمَّ أمرنِي فأحْللْتُ فأتيتُ امْرأةً مِنْ قَوْمي فمَشطَتْنِي أوْ غَسَلَتْ رَأسِي فقَدِمَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. فَقَالَ إنْ نَأخُذْ بِكِتَابِ الله فإنَّهُ يأمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَالَ الله وَأتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله وَإنْ نأخُذْ بسنَّةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإنَّهُ لَمُ يَحِلَّ حَتَّى نحَرَ الهَدْيَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَهلَلْت بإهلال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي أَبُو مُحَمَّد. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: قيس بن مُسلم بِلَفْظ الْفَاعِل من الْإِسْلَام الجدلي. الرَّابِع: طَارق(9/187)
ابْن شهَاب بن عبد شمس البَجلِيّ الأحمسي، وَقد مر فِي: بَاب زِيَادَة الْإِيمَان. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَصله من دمشق وَالثَّلَاثَة الَّذين بعده كوفيون. وَفِيه: قيس بن مُسلم عَن طَارق وَفِي رِوَايَة أَيُّوب بن عَائِد فِي الْمَغَازِي عَن قيس بن مُسلم: سَمِعت طَارق بن شهَاب، وَفِيه: طَارق عَن أبي مُوسَى، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب الْمَذْكُور: حَدثنِي أَبُو مُوسَى.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار بِهِ، وَعَن عبد الله بن معَاذ وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي مُوسَى وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قوم بِالْيمن) ، كَانَ بَعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه إِلَى الْيمن فِي السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة قبل حجَّة الْوَدَاع، وَعَن أبي بردة قَالَ: (بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا مُوسَى ومعاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى الْيمن، وَبعث كل وَاحِد مِنْهُمَا على مخلاف) . قَالَ: واليمن مخلافان، والمخلاف بِكَسْر الْمِيم فِي الْيمن كالرستاق فِي الْعرَاق، وَجمعه: مخاليف. قَوْله: (وَهُوَ بالبطحاء) الْوَاو فِي: وَهُوَ، للْحَال، والبطحاء: بطحاء مَكَّة، وَهُوَ المحصب، وَهُوَ فِي الأَصْل مسيل واديها، وبطحاء الْوَادي حَصَاة اللين فِي بطن المسيل. قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ من حَدِيد خيف بني كنَانَة، وَحده من الْحجُون ذَاهِبًا إِلَى منى، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَن قيس الْآتِيَة فِي: بَاب مَتى يحل الْمُعْتَمِر وَهُوَ منيخ، أَي: نَازل بهَا. قَوْله: (فَأمرنِي فطفت) ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (طف بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة) . قَوْله: (فأحللت) من: أحل يحل إحلالاً، وَمَعْنَاهُ: خرجت من الْإِحْرَام. قَوْله: (فَأتيت امْرَأَة من قومِي) ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (امْرَأَة من قيس) ، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ قيس غيلَان لِأَنَّهُ لَا نِسْبَة بَينهم وَبَين الْأَشْعَرِيين، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ أَبوهُ قيس بن سليم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة أَيُّوب بن عَائِد: (امْرَأَة من بني قيس) ، وَهُوَ أَبُو أبي مُوسَى، وَقَالَ بَعضهم: وَكَانَت الْمَرْأَة زَوْجَة بعض إخْوَة أبي مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ لَهُ من الْإِخْوَة: أَبُو رهم وَأَبُو بردة وَمُحَمّد. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: (فَأتيت امْرَأَة) مَحْمُول على أَن هَذِه الْمَرْأَة كَانَت محرما لَهُ، وَامْرَأَة الْأَخ لَيست بِمحرم، فَالصَّوَاب مَعَ الْكرْمَانِي، فَيحمل حِينَئِذٍ على أَن الْمَرْأَة كَانَت بنت بعض أخوته. قَوْله: (أَو غسلت رَأْسِي، بِالشَّكِّ) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وغسلت) ، بواو الْعَطف. قَوْله: (فَقدم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) لم يكن قدوم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي تِلْكَ الْحجَّة على مَا يفهم من ظَاهر الْكَلَام بل المُرَاد من قدومه مَا كَانَ فِي خِلَافَته، اخْتَصَرَهُ البُخَارِيّ وَبسطه مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى وَابْن بشار، قَالَ ابْن الْمثنى: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق بن شهَاب (عَن أبي مُوسَى قَالَ: قدمت على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ منيخ بالبطحاء، فَقَالَ لي: حججْت؟ فَقلت: نعم. فَقَالَ: بِمَ أَهلَلْت؟ قلت: لبيت بإهلال كإهلال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فقد أَحْسَنت، طف بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة، ثمَّ أتيت امْرَأَة من بني قيس، فغسلت رَأْسِي ثمَّ أَهلَلْت بِالْحَجِّ، فَكنت أُفْتِي بِهِ النَّاس حَتَّى كَانَ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ لَهُ رجل: يَا أَبَا مُوسَى أَو يَا عبد الله بن قيس رويدك بعض فتياك، فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا أحدث أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي النّسك بعْدك، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس من كُنَّا أفتيناه فتيا فليتئد، فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قادم عَلَيْكُم فبه فائتموا، قَالَ: فَقدم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: إِن نَأْخُذ بِكِتَاب الله تَعَالَى، فَإِن كتاب الله تَعَالَى يَأْمر بالتمام، وَإِن نَأْخُذ بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحل حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله) ، وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَفِي لَفظه: (فَكنت أُفْتِي النَّاس بذلك إِمَارَة أبي بكر وإمارة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَإِنِّي لقائم بِالْمَوْسِمِ إِذْ جَاءَنِي رجل فَقَالَ: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أحدث أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي النّسك. .) الحَدِيث. قَوْله: (بِهِ) فِي رِوَايَة مُسلم، وَبِذَلِك فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ أَي: بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. قَوْله: (رويدك بعض فتياك) ، ويروى: (رويد بعض فتياك) ، و: رويد، اسْم فعل، وَمَعْنَاهُ: أمْهل. قَوْله: (فليتئذ) ، أَي: فليتأنَّ وليصبر، من اتأد إِذا تأنَّى، وَأَصله من: تئد يتأد تأدا. قَوْله: (إِن نَأْخُذ) بنُون الْجَمَاعَة ظَاهر، وَهَذَا من عمر إِنْكَار فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة وإتمام الْحَج، وَاحْتج بِالْآيَةِ وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} (الْبَقَرَة: 691) . أَمر الله تَعَالَى بإتمام أفعالهما بعد الشُّرُوع فيهمَا، وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . أَن يحرم من دويرة أَهله. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: بلغنَا أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى(9/188)
عَنهُ، قَالَ فِي قَول الله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: من تَمامهَا أَن يفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا من الآخر، وَأَن يعْتَمر فِي غير أشهر الْحَج، إِن الله تَعَالَى يَقُول: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) . قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لم يحل) أَي: لم يخرج من إِحْرَامه (حَتَّى نحر الْهَدْي) فِي منى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على جَوَاز الْإِحْرَام الْمُعَلق، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي، وَقد ذَكرْنَاهُ مَعَ الْجَواب عَنهُ. وَفِيه: فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَنهى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الْمُتْعَة. وَقَالَ الْمَازرِيّ: قيل: إِن الْمُتْعَة الَّتِي نهى عَنْهَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَقيل: وَنهى عمر عَن الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، ثمَّ الْحَج من عَامَّة، وعَلى الثَّانِي: إِنَّمَا نهى عَنْهَا ترغيبا فِي الْإِفْرَاد الَّذِي هُوَ أفضل، لَا أَنه يعْتَقد بُطْلَانهَا وتحريمها. وَقَالَ عِيَاض: الظَّاهِر أَنه نهى عَن الْفَسْخ، وَلِهَذَا كَانَ يضْرب النَّاس عَلَيْهَا، كَمَا رَوَاهُ مُسلم، بِنَاء على أَن الْفَسْخ كَانَ خَاصّا بِتِلْكَ السّنة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمُخْتَار أَنه نهى عَن الْمُتْعَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي هِيَ الاعتمار فِي أشهر الْحَج، ثمَّ الْحَج من عَامَّة، وَهُوَ على التَّنْزِيه للترغيب فِي الْإِفْرَاد، ثمَّ انْعَقَد الْإِجْمَاع على جَوَاز التَّمَتُّع من غير كَرَاهَة. وَقيل: عِلّة كَرَاهَة عمر الْمُتْعَة أَن يكون معرسا بِالْمَرْأَةِ ثمَّ يشرع فِي الْحَج وَرَأسه يقطر، وَذَلِكَ أَنه كَانَ من رَأْيه عدم الترفه للْحَاج بِكُل طَرِيق، فكره لَهُم قرب عَهدهم بِالنسَاء لِئَلَّا يسْتَمر الْميل إِلَى ذَلِك، بِخِلَاف من بعد عَهده مِنْهُنَّ، وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم عَن أبي مُوسَى أَنه كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ رجل: رويدك بِبَعْض فتياك فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا أحدث أَمِير الْمُؤمنِينَ بعد، حَتَّى لقِيه بعد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قد علمت أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد فعله وَأَصْحَابه، وَلَكِن كرهت أَن يظلوا معرسين بِهن فِي الْأَرَاك ثمَّ يروحون فِي الْحَج تقطر رؤوسهم. وَفِيه: حجَّة لأبي حنيفَة وَأحمد من أَن الْمُعْتَمِر إِذا كَانَ مَعَه الْهَدْي لَا يتَحَلَّل من عمرته حَتَّى ينْحَر هَدْيه يَوْم النَّحْر. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِنَّه إِذا طَاف وسعى وَحلق حل من عمرته وَحل لَهُ كل شَيْء فِي الْحَال، سَوَاء كَانَ سَاق هَديا أم لَا. والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِمَا. فَإِن قلت: كَيفَ أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا مُوسَى فِي هَذَا الحَدِيث بالإحلال وَلم يَأْمر عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْحَال أَن كلا مِنْهُمَا قَالَ: إهلالي كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لِأَن أمره لأبي مُوسَى بالإحلال على معنى مَا أَمر بِهِ غَيره بِالْفَسْخِ بِالْعُمْرَةِ لمن لَيْسَ مَعَه هدي، وَأمره لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يهدي وَيمْكث حَرَامًا إِمَّا لِأَنَّهُ وَالله تَعَالَى أعلم كَانَ مَعَه هدي، أَو قد يكون قد اعْتقد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يهدي عَنهُ، أَو يكون خصّه بذلك، أَو لما كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بسوق هَذِه الْبدن من الْيمن فَكَانَ كمن مَعَه هدي، وَلَا يظنّ أَن هَذِه الْبدن من السّعَايَة وَالصَّدَََقَة بِوَجْه، إِذْ لَا يحل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّدَقَة، وَلَا يهدي مِنْهَا. وَالْأَشْبَه أَن عليا اشْتَرَاهَا بِالْيمن كَمَا اشْترى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقيتها، وَجَاء بهَا من الْمَدِينَة على مَا جَاءَ فِي حَدِيث أَيْضا: أَنه اشْترى هَدْيه بِقديد، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: فساق الْهَدْي مَعَه من ذِي الحليفة، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد أعلمهُ أَنه سيعطيه هَديا مِنْهَا، وَفِي حَدِيث جَابر: أَنه قدم ببدن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد يحْتَمل أَنه كَانَ لَهُ فِيهَا هدي لم يحْتَج إِلَى ذكرهَا فِي الحَدِيث، فَلم يُمكنهُ أَن يحل. وَيدل على هَذَا سُؤال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأبي مُوسَى: هَل سَاق هَديا؟ وَلم يسْأَل عَليّ، فَدلَّ على علمه بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّن أهْدى أَو مِمَّن حكمه حكم من أهْدى، وَالله أعلم.
33 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَول الله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول فِي إعرابها: فَقَوله: {الْحَج} مُبْتَدأ. وَقَوله: {أشهر} خَبره. وَقَوله: {مَعْلُومَات} صفة الْأَشْهر، وَمن شَرط الْخَبَر أَن يَصح بِهِ الْإِخْبَار عَن الْمُبْتَدَأ فَلَا يَصح أَن يخبر بِالْأَشْهرِ عَن الْحَج، فَلذَلِك قدر فِيهِ حذف تَقْدِيره: وَقت الْحَج أشهر مَعْلُومَات، وَيُقَال: تَقْدِيره الْحَج حج أشهر مَعْلُومَات، فعلى الأول الْمُقدر قبل الْمُبْتَدَأ، وعَلى الثَّانِي قبل الْخَبَر، وَإِن كَانَ يصلح فِيهِ تَقْدِير كلمة: فِي، فَلَا يُقَال إلاَّ بِالرَّفْع، وَكَذَلِكَ كَلَام الْعَرَب يَقُولُونَ: الْبرد شَهْرَان، فَلَا ينصبونه، وَقَالَ الواحدي: يُمكن حمله على غير إِضْمَار، وَهُوَ أَن الْأَشْهر جعلت نفس الْحَج اتساعا لكَون الْحَج يَقع فِيهَا، كَقَوْلِهِم: ليل نَائِم. قَوْله: (أشهر) جمع شهر، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ ثَلَاثَة أشهر كوامل، وَلَكِن المُرَاد(9/189)
شَهْرَان وَبَعض الثَّالِث، وَوَجهه أَن اسْم الْجمع يشْتَرك فِيهِ مَا وَرَاء الْوَاحِد، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) . وَلَو قَالَ: الْحَج ثَلَاثَة أشهر كَانَ يتَوَجَّه السُّؤَال وَقيل: نزل بعض الشَّهْر منزلَة كُله، كَمَا يُقَال: رَأَيْتُك سنة كَذَا، أَو على عهد فلَان، وَلَعَلَّ الْعَهْد عشرُون سنة أَو أَكثر، وَإِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَة مِنْهَا. قَوْله: (مَعْلُومَات) يَعْنِي: معروفات عِنْد النَّاس لَا تشكل عَلَيْهِم. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَفِيه: أَن الشَّرْع لم يَأْتِ على خلاف مَا عرفوه، وَإِنَّمَا جَاءَ مقررا لَهُ. قَوْله: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) . أَي: فَمن ألزم نَفسه بِالتَّلْبِيَةِ أَو بتقليد الْهَدْي وسوقه. وَقَوله: {فَلَا رفث} هُوَ جَوَاب: من، الشّرطِيَّة.، وَقَالَ القتبي: الْفَرْض هُوَ وجوب الشَّيْء، يُقَال: فرضت عَلَيْكُم أَي أوجبت. قَالَ الله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم} (الْبَقَرَة: 732) . فَمن: أهل فِيهِنَّ بِالْحَجِّ. قَوْله: (فَلَا رفث) ، نفي، وَمَعْنَاهُ النَّهْي أَي: فَلَا ترفثوا، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عمر {فَلَا رفث وَلَا فسوق} (الْبَقَرَة: 791) . أَي ألزمتم أَنفسكُم وَقَالَ ابْن عَبَّاس الْفَرْض التَّلْبِيَة وَقَالَ الضَّحَّاك هُوَ الْإِحْرَام قَالَ عَطاء فَمن فرض فِيهِنَّ بِالرَّفْع مَعَ التَّنْوِين، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنّصب بِغَيْر تَنْوِين، وَاتَّفَقُوا فِي قَوْله: {وَلَا جِدَال} بِالنّصب غير أبي جَعْفَر الْمدنِي فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِالرَّفْع، وَهَذَا يُقَال لَهُ: لَا، التبرئة فَفِي كل مَوضِع يدْخل فِيهِ: لَا، التبرئة فصاحبه بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ نَصبه بِغَيْر تَنْوِين، وَإِن شَاءَ ضمه بِالتَّنْوِينِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ وجوب انتفائها وَأَنَّهَا حَقِيقَة بِأَن لَا تكون، وقرىء المنفيات الثَّلَاث بِالنّصب وَالرَّفْع، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كثير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْأَوَّلين بِالرَّفْع وَالْآخر بِالنّصب، لِأَنَّهُمَا حملا الْأَوَّلين على معنى النَّهْي، كَأَنَّهُ قيل: فَلَا يكونن رفث وَلَا فسوق، وَالثَّالِث على معنى الْإِخْبَار بِانْتِفَاء الْجِدَال، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا شكّ وَلَا خلاف فِي الْحَج.
النَّوْع الثَّانِي: فِي مَعْنَاهَا: قَوْله: (الْحَج) فِي اللُّغَة: الْقَصْد، من حججْت الشَّيْء أحجه حجا: إِذا قصدته. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وأصل الْحَج من قَوْلك: حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى، فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه كل سنة، وَالْحج فِي اصْطِلَاح الشَّرْع: قصد إِلَى زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام على وَجه التَّعْظِيم بِأَفْعَال مَخْصُوصَة. قَوْله: (أشهر) جمع شهر، جمع قلَّة، لِأَنَّهُ على وزن: أفعل، بِضَم الْعين، والشهر عبارَة عَن الزَّمَان الَّذِي بَين الهلالين، واشتقاقه من الشُّهْرَة، والهلال أول لَيْلَة من الشَّهْر وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة، ثمَّ هُوَ قمر بعد ذَلِك إِلَى آخر الشَّهْر، وَفِي اللَّيْلَة الرَّابِعَة عشر يُقَال لَهُ: بدر، لتمامه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِنَّمَا سمي بَدْرًا لمبادرته الشَّمْس بالطلوع. وَقَالَ الْفراء: هُوَ فِي أول لَيْلَة هِلَال، ثمَّ قمير ثمَّ قمر ثمَّ بدر. قَوْله: {فَلَا رفث} : الرَّفَث الْجِمَاع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} (الْبَقَرَة: 781) . وَهُوَ حرَام على الْمحرم، وَكَذَلِكَ دواعيه من الْمُبَاشرَة والتقبيل. وَنَحْو ذَلِك، وَكَذَا التَّكَلُّم بِحَضْرَة النِّسَاء، وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا يُونُس أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس أَن نَافِعًا أخبرهُ أَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَقُول: الرَّفَث إتْيَان النِّسَاء، والتكلم بذلك بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذا ذكرُوا ذَلِك بأفواههم. وَقَالَ ابْن وهب: وحَدثني أَبُو صَخْر عَن مُحَمَّد بن كَعْب مثله، وَقَالَ عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه: سَأَلت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) . قَالَ: الرَّفَث التَّعَرُّض بِذكر الْجِمَاع، وَهِي: العرابة، فِي كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ أدنى الرَّفَث. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: الرَّفَث الْجِمَاع وَمَا دونه من قَول الْفُحْش، وَكَذَا قَالَ عَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ: وَكَانُوا يكْرهُونَ العرابة، وَهُوَ التَّعْرِيض بِذكر الْجِمَاع وَهُوَ محرم، وَقَالَ طَاوُوس: هُوَ أَن يَقُول للْمَرْأَة إِذا حللت أصبتك، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة، وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: الرَّفَث غشيان النِّسَاء، وَكَذَا قَالَ سعيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم وَأَبُو الْعَالِيَة وَمَكْحُول وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَعَطَاء بن يسَار وعطية وَالربيع وَالزهْرِيّ وَالسُّديّ وَمَالك بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَعبد الْكَرِيم بن مَالك وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَآخَرُونَ. قَوْله: (وَلَا فسوق) ، قَالَ مقسم وَغير وَاحِد عَن ابْن عَبَّاس: هِيَ الْمعاصِي، وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَعَطَاء بن يسَار وَمُقَاتِل بن حَيَّان، وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: الفسوق مَا أُصِيب من معاصي الله صيدا أَو غَيره، وروى ابْن وهب عَن يُونُس عَن نَافِع: أَن عبد الله ابْن عمر كَانَ يَقُول: الفسوق إتْيَان معاصي الله تَعَالَى فِي الْحرم. وَقَالَ آخَرُونَ: الفسوق هَهُنَا السباب، قَالَه ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَمُجاهد وَالسُّديّ وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن، وَقد تمسك هَؤُلَاءِ بِمَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر) ، وروى(9/190)
ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: الفسوق هَهُنَا الذّبْح للأصنام، وَقَالَ الضَّحَّاك: الفسوق التَّنَابُز بِالْأَلْقَابِ. قَوْله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا مجادلة فِي وَقت الْحَج وَفِي مَنَاسِكه. وَالثَّانِي: أَن المُرَاد بالجدال هَهُنَا الْمُخَاصمَة، وَعَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) . قَالَ: أَن تُمَارِي صَاحبك حَتَّى تغضبه، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْجِدَال المراء والملاحاة حَتَّى تغْضب أَخَاك وَصَاحِبك، فَنهى الله عَن ذَلِك. وَعَن ابْن عمر: الْجِدَال المراء والسباب والخصومات.
النَّوْع الثَّالِث: فِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بأشهر الْحَج: قَالَ الله تَعَالَى: {أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) . وَهِي: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن عَطاء وطاووس وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَمَكْحُول وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالربيع بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي يُوسُف وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، ويحكى عَن عمر، وَعلي وَابْن مَسْعُود وَعبد الله بن الزبير وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة بِكَمَالِهِ، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عمر أَيْضا ابْن وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنَا أَبُو أَحْمد حَدثنَا شريك عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، قَالَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا ابْن وهب أَخْبرنِي ابْن جريج، قَالَ: قلت لنافع: سَمِعت عبد الله بن عمر يُسمى شهور الْحَج؟ قَالَ: نعم، كَانَ عبد الله يُسَمِّي شَوَّال وَذَا الْقعدَة وَذَا الْحجَّة. قَالَ ابْن جريج: وَقَالَ ذَلِك ابْن شهَاب وَعَطَاء وَجَابِر بن عبد الله صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى ابْن جريج، وَحكي هَذَا أَيْضا عَن مُجَاهِد وطاووس وَعُرْوَة بن الزبير وَالربيع بن أنس وَقَتَادَة، قَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَجَاء فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه مَوْضُوع رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق حُصَيْن بن الْمخَارِق، وَهُوَ مُتَّهم بِالْوَضْعِ عَن يُونُس بن عبيد عَن شهر بن حَوْشَب عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أشهر مَعْلُومَات: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة) ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت لَا يَصح رَفعه، وَاحْتج الْجُمْهُور بِمَا علقه البُخَارِيّ على مَا يَجِيء، قَالَ ابْن عمر: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة، وَرَوَاهُ ابْن جرير: حَدثنِي أَحْمد بن حَازِم بن أبي عزْرَة حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا وَرْقَاء عَن عبد الله بن دِينَار (عَن ابْن عمر: أشهر الْحَج مَعْلُومَات؟ قَالَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر ذِي الْحجَّة) إِسْنَاده صَحِيح، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه) عَن الْأَصَم عَن الْحسن بن عَليّ بن عَفَّان عَن عبد الله بن نمير عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر فَذكره. وَقَالَ: على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَعَن الْحَاكِم رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه، وَمِمَّا احْتج بِهِ مَالك مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أشهر الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة) ، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود نَحوه، وَعَن عبد الله بن الزبير نَحوه. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ من قَالَ: أشهر الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة، أَن هَذِه الْأَشْهر لَيست أشهر الْعمرَة إِنَّمَا هِيَ لِلْحَجِّ وَإِن كَانَ الْحَج يَنْقَضِي بِانْقِضَاء إيام منى. قلت: الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فِيهَا أكمل من الْإِحْرَام بِهِ فِيمَا عَداهَا، وَإِن كَانَ صَحِيحا. وَالْقَوْل بِصِحَّة الْإِحْرَام فِي جَمِيع السّنة مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعيد، وَمذهب الشَّافِعِي: أَنه لَا يَصح الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج، فَلَو أحرم بِهِ قبلهَا لم ينْعَقد إِحْرَامه بِهِ، وَهل ينْعَقد عمْرَة؟ فِيهِ قَولَانِ عَنهُ: وَالْقَوْل بِأَنَّهُ: لَا يَصح الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر، وَبِه يَقُول طَاوُوس وَعَطَاء وَمُجاهد. فَإِن قلت: هَل يدْخل يَوْم النَّحْر فِي عشر ذِي الْحجَّة أم لَا؟ قلت: قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: يدْخل، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يدْخل، وَهُوَ الْمَشْهُور الْمُصَحح عَنهُ، وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: تسع من ذِي الْحجَّة، وَلَا يَصح فِي يَوْم النَّحْر وَلَا ليلته، وَهُوَ شَاذ.
{ويَسْألُونَكَ عنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لَلنَّاسِ وَالحَجِّ} (الْبَقَرَة: 981) .
وَقَوله: {ويسألونك عَن الْأَهِلّة} (الْبَقَرَة: 981) . عطف على: قَول الله تَعَالَى أَي: وَفِي بَيَان تَفْسِير قَول الله تَعَالَى. وَقَالَ الْعَوْفِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، سَأَلَ الناسُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَهِلّة فَنزلت هَذِه الْآيَة يعلمُونَ بهَا حل دينهم وعدة نِسَائِهِم وَوقت حجهم، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: عَن الرّبيع عَن أبي الْعَالِيَة: بلغنَا أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله! لم خلقت الْأَهِلّة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة} (الْبَقَرَة: 981) . وَقَالَ(9/191)
الواحدي: عَن معَاذ: يَا رَسُول الله إِن الْيَهُود تغشانا، ويكثرون مَسْأَلَتنَا، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : نزلت هَذِه الْآيَة فِي عدي بن حَاتِم ومعاذ بن جبل سَأَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْهلَال، فَنزلت أَي: يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة مَا لَهَا تبدو صَغِيرَة ثمَّ تصير بدورا ثمَّ تعود كالعرجون؟ وَمَا معنى تغير أحوالها؟ وَقَالَ الْكَلْبِيّ: نزلت فِي معَاذ وثعلبة بن غنمة الأنصاريين، قَالَا: يَا رَسُول الله مَا بَال الْهلَال يَبْدُو دَقِيقًا مثل الْخَيط، ثمَّ يزِيد ثمَّ ينقص؟ فَنزلت، والأهلة: جمع هِلَال، وَهُوَ إِذا كَانَ لليلة أَو لَيْلَتَيْنِ، وَسمي بِهِ لِأَن النَّاس يرفعون أَصْوَاتهم عِنْد رُؤْيَته. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر الْحَج بالخصوص من بَين الْعِبَادَات؟ قلت: لكَونه أهم وأشق، وَلِهَذَا ذكره البُخَارِيّ بعد هَذِه الْآيَة.
وقالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أشْهُرُ الحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو القِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الحِجَّةِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن جرير، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَوَصله الطَّبَرِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من طَرِيق وَرْقَاء عَن عبد الله بن دِينَار، عَنهُ، قَالَ: (الْحَج أشهر مَعْلُومَات، شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة) . فَإِن قلت: روى مَالك فِي الْمُوَطَّأ) عَن عبد الله بن دِينَار (عَن ابْن عمر، قَالَ: من اعْتَمر فِي أشهر الْحَج شَوَّال أَو ذِي الْقعدَة أَو ذِي الْحجَّة قبل الْحَج فقد استمتع) ؟ قلت: لَعَلَّه تجوز فِي ذكر ذِي الْحجَّة بِكَمَالِهِ، وَبِهَذَا يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مِنَ السُّنَّةِ أنْ لاَ يُحْرِمَ بِالحَجِّ إلاَّ فِي أشْهُرِ الحَجِّ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق الحكم عَن مقسم عَنهُ، قَالَ: (لَا يحرم بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج فَإِن من سنة الْحَج أَن لَا يحرم بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج فَإِن من سنة الْحَج أَن لَا يحرم بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج) . وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: من السّنة أَي من الشَّرِيعَة، إِذْ هُوَ وَاجِب وَلَا ينْعَقد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أشهره عِنْد الشَّافِعِي، وَأما عِنْد غَيره: فَلَا يَصح شَيْء من أَفعَال الْحَج إلاَّ فِيهَا. قلت: هَذَا تَفْسِير على مساعدة مَا قَالَه إِمَامه، وَلَكِن لَا يساعده هَذَا فَإِن قَوْله: (من السّنة) ، لَا يدل على الْوُجُوب قطعا، إِذْ يحْتَمل أَن يكون من السّنة الَّتِي إِذا فعلهَا كَانَ لَهُ أجر، وَإِذا تَركهَا لَا يفْسد مَا فعله من الْإِحْرَام قبل أشهر الْحَج. وَأَيْضًا قَوْله: وَأما عِنْد غَيره، فَلَيْسَ بقسيم لما قبله مِمَّا قَالَه الشَّافِعِي، لِأَن قسيمه أَن يُقَال: وَأما عِنْد غَيره فَينْعَقد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ قبل أشهر الْحَج، وَالَّذِي ذكره مُتَّفق عَلَيْهِ، أَفعَال الْحَج أَفعَال الْحَج قبل أشهر الْحَج لَا تصح بِلَا خلاف.
وَكِرِهَ عُثْمَانُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أوْ كَرْمانَ
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عبد الْأَعْلَى عَن يُونُس عَن الْحسن: أَن ابْن عَامر أحرم من خُرَاسَان فعاب عَلَيْهِ وعيره فكرهوه، وروى أَحْمد بن سيار فِي (تَارِيخ مرو) : من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد، قَالَ: لما فتح عبد الله بن عَامر خُرَاسَان قَالَ: لأجعلن شكري لله أَن أخرج من موضعي هَذَا محرما فَأحْرم من نيسابور، فَلَمَّا قدم على عُثْمَان لأمه على مَا صنع. قلت: عبد الله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي العبشمي، ابْن خَال عُثْمَان ابْن عَفَّان، ولد حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتغفل فِي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واستنابه عُثْمَان على الْبَصْرَة بعد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وولاه بِلَاد فَارس بعد عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وعمره إِذْ ذَاك خمس وَعِشْرُونَ سنة، فَفتح خُرَاسَان كلهَا وأطراف فَارس وكرمان وسجستان وبلاد غزيَّة، وَقتل كسْرَى فِي أَيَّامه وَهُوَ يزدجرد، مَاتَ فِي سنة ثَمَانِيَة وَخمسين من الْهِجْرَة، وَأما خُرَاسَان فإقليم وَاسع من الغرب الْمَفَازَة الَّتِي بَينهَا وَبَين بِلَاد الْجَبَل وجرجان، وَمن الْجنُوب مفازة واصلة بَينهَا وَبَين فَارس وقومس، وَمن الشرق نواحي سجستان وبلاد الْهِنْد، وَمن الشمَال بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر وَشَيْء من تركستان. وخراسان يشْتَمل على كور كَثِيرَة كل كورة مِنْهَا نَحْو إقليم، وَلها مدن كَثِيرَة، مِنْهَا: بَلخ فِي وسط خُرَاسَان، خرج مِنْهَا خلق من الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ لَا يُحصونَ. وَمِنْهَا: جرجان وطالعان وطابران وكشمهين ونسا وهراة، وَأما كرمان، فبفتح الْكَاف وَقيل بِكَسْرِهَا، وَفِي (الْمُشْتَرك) : هُوَ صقع كَبِير بَين فَارس وسجستان، وَحدهَا يتَّصل بخراسان، وَمن بلادها الْمَشْهُورَة: زرند والسيرجان، وَهُوَ أكبر مدن كرمان.(9/192)
0651 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار قَالَ حدَّثني أبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ قَالَ حدَّثنا أفْلَحُ بنُ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ عنْ عَائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قالَتْ خَرَجْنا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أشْهُرِ الحَجِّ ولَيَالي الحَجِّ وَحُرِم الْحَج فنِزَلْنا بِسَرِفَ قالَتْ فخَرَجَ إِلَى أصْحَابِهِ فَقَالَ مَنُ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فأحَبَّ أنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَل وَمَنْ كانَ معَهُ الهَديُ فلاَ قالَتْ فالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أصْحَابِهِ قالَتْ فأمَّا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرِجَالٌ مِنْ أصْحَابِهِ فَكانُوا أهْلَ قُوَّةٍ وكانَ مَعَهُمْ الهَدْيُ فَلَم يَقْدِرُوا عَلَى العُمْرَةِ قالَتْ فدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهْ قُلْتُ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ قالَ وَما شأنَكَ قُلْتُ لَا أُصَلَّي قَالَ فَلاَ يَضِيرُكِ إنَّمَا أنْتِ امْرَأةٍ مِنْ بَنَاتٍ آدَمَ كَتَبَ الله عَلَيْكِ مَا كتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى الله أنْ يَرْزُقَيكِهَا قالَتْ فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَظَهَرَتُ ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فأفَضْتُ بِالبَيْتِ قالَتْ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي النَّفَرِ الآخرِ حَتَّى نَزلَ المُحَصَّبَ ونَزَلْنَا مَعَهُ فدعَا عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبي بَكْرِ فَقَالَ اخْرُج بأختِكَ منَ الحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغا ثُمَّ ائْتِيَا هاهُنَا فانِّي أنظُرُ كَمَا حَتَّى تأتِيَانِي قالَتْ فخَرَجْنَا حَتَّى إذَا فَرَغْتُ وفَرَغتُ مِنَ الطُّوافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ هَلْ فَرَغْتُمْ فقُلْتُ نعَمْ فآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أصْحَابِهِ فارْتَحَلَ النَّاسِ فَمَرَّ مُتَوَجِّها إلَى المَدِينَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أشهر الْحَج وليالي الْحَج وَحرم الْحَج) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة: الملقب ببندار، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: أَبُو بكر الْحَنَفِيّ واسْمه عبد الْكَبِير بن عبد الْمجِيد. الثَّالِث: أَفْلح بن حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن نَافِع الْأنْصَارِيّ، مر فِي: بَاب هَل يدْخل الْجنب يَده. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين بصريان والاثنين الآخرين مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَحرم الْحَج) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الرَّاء، ويروى بِضَم الْحَاء وَفتح الرَّاء، فَالْمَعْنى على الأول: أزمنة الْحَج وأمكنته وحالاته، وعَلى الثَّانِي: مُحرمَات الْحَج وممنوعاته لِأَنَّهُ جمع حُرْمَة. فَإِن قلت: كَانَ مُقْتَضى التَّرْكِيب أَن يُقَال: أشهر الْحَج ولياليه وَحرمه، بالإضمار فِي الآخرين. قلت: بلَى، د وَلَكِن لما قصد بذلك التَّعْظِيم لَهُ والتفخيم ذكر بِالظَّاهِرِ مَوضِع الْمُضمر. قَوْله: (بسرف) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره فَاء. وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث لِأَنَّهُ إسم بقْعَة قريبَة من مَكَّة، وَأول حُدُودهَا. قَوْله: (فَخرج) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج من قُبَّته الَّتِي ضربت لَهُ إِلَى أَصْحَابه. قَوْله: (فَلْيفْعَل) أَي: فَلْيفْعَل الْعمرَة، وَهَذَا يدل على أَن الْأَمر بذلك لمن كَانُوا مفردين بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمر بِالْفَسْخِ لمن أفرد لَا لمن قرن، وَلَا لمن أهلَّ بِعُمْرَة، فَأَمرهمْ بذلك ليتمتعوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، فَعلم من ذَلِك أَن الْأَمر بِالْفَسْخِ كَانَ بسرف، وَإِنَّمَا أَرَادَت فسخ الْحَج فمنعت من ذَلِك، وَقَالَ عِيَاض: وَالَّذِي تدل عَلَيْهِ النُّصُوص من أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا إِنَّمَا قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد إحرامهم بِالْحَجِّ، وَيحْتَمل أَنه كرر الْأَمر بذلك فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَن الْعَزِيمَة كَانَت آخرا حِين أَمرهم بِالْفَسْخِ إِلَى الْعمرَة. قَوْله: (فَلَا) أَي: فَلَا يفعل. قَوْله: (فالآخذ بهَا) ، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ و (التارك) عطف عَلَيْهِ وَخَبره هُوَ قَوْله: (من أَصْحَابه) وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِتَقْدِير(9/193)
كَانَ التَّامَّة أَي: فَكَانَ الْآخِذ بهَا والتارك لَهَا، وَالضَّمِير فِي: بهَا وَلها، يرجع إِلَى الْعمرَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره التَّخْيِير، فَلذَلِك كَانَ مِنْهُم الْآخِذ والتارك، لَكِن لما ظهر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَزْم حِين غَضَبه، قَالُوا: تحللنا وَسَمعنَا وأطعنا، وَكَانَ ترددهم لأَنهم مَا كَانُوا يرَوْنَ الْعمرَة فِي أشهر الْحَج جَائِزَة، وَأَنَّهَا من أفجر الْفُجُور، فَبين لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَاز ذَلِك. قَوْله: (وَأَنا أبْكِي) جملَة حَالية. قَوْله: (يَا هنتاه) يَعْنِي: يَا هَذِه من غير أَن يُرَاد بِهِ مدح أَو ذمّ، وأصل هَذَا مَأْخُوذ من: هن، على وزن: أَخ، وَهُوَ كِنَايَة عَن شَيْء لَا تذكره باسمه، وَتقول فِي النداء: يَا هن، للرجل وللمرأة يَا هنة، وَلَك أَن تذخل فيهمَا الْهَاء لبَيَان الْحَرَكَة فَتَقول: يَا هنة وَيَا هنته، وَإِذا أشبعت الْحَرَكَة تتولد الْألف فَتَقول حِينَئِذٍ: يَا هَناه وَيَا هنتاه، وَلَا يستعملان إلاَّ فِي النداء وَقَالَ السفاقسي: ضبط فِي رِوَايَة أبي ذَر بِإِسْكَان النُّون، وَفِي رِوَايَة أبي الْحسن بِفَتْحِهَا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: تضم الْهَاء الْآخِرَة وتسكن وَتقول فِي التَّثْنِيَة للمذكر: هنان، وللجمع: هنون وللمؤنث هنتان وهنات، وَقيل: معنى يَا هنتاه: يَا بلهاء، كَأَنَّهَا نسبت إِلَى قلَّة الْمعرفَة بمكائد النَّاس وشرورهم. وَقَالَ التَّيْمِيّ: الْألف وَالْهَاء فِي آخِره كالألف وَالْهَاء فِي الندبة. قَوْله: (قلت لَا أُصَلِّي) كِنَايَة عَن أَنَّهَا حَاضَت، وَفِيه رِعَايَة الْأَدَب وَحسن المعاشرة. قَوْله: (فَلَا يضيرك) ، من الضير بالضاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء الضَّرَر وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة (لَا يَضرك) بتَشْديد الرَّاء من الضَّرَر. قَوْله: (أَن يرزقيكها) أَي: الْعمرَة. قَوْله: (فِي النَّفر الآخر) ، وَهُوَ الْيَوْم الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة، والنفر الأول هُوَ الثَّانِي عشر مِنْهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: النَّفر، بِسُكُون الْفَاء وَفتحهَا. قَوْله: (حَتَّى نزل المحصب) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ مَكَان متسع بَين مَكَّة وَمنى، وَسمي بِهِ لِاجْتِمَاع الْحَصْبَاء فِيهِ بِحمْل السَّيْل، وَأَنه مَوضِع منهبط، وَهُوَ الأبطح والبطحاء، وحدوه بِأَنَّهُ مَا بَين الجبلين إِلَى الْمَقَابِر وَلَيْسَت الْمقْبرَة مِنْهُ، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: الحصاب، بِكَسْر الْحَاء. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ من حُدُود خيف بني كنَانَة، وَحده من الْحجُون ذَاهِبًا إِلَى منى. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: وَهُوَ الْخيف. قَالَ ياقوت: وَهُوَ غير المحصب مَوضِع رمي الْجمار بمنى. قَوْله: (فلتهل) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: من الإهلال، وَهُوَ الْإِحْرَام. قَوْله: (ثمَّ أفرغا) أَمر لعبد الرَّحْمَن وَعَائِشَة كليهمَا أَي: أفرغا من الْعمرَة، وَهَذَا يدل على أَن عبد الرَّحْمَن أَيْضا اعْتَمر مَعَ عَائِشَة. قَوْله: (هَهُنَا) أَي: المحصب. قَوْله: (فَإِنِّي أنظركما) بِمَعْنى: انتظركما، وَفِي رِوَايَة للكشميهني: (انتظركما) ، من الِانْتِظَار. قَوْله: (حَتَّى تأتياني) وَفِي غَالب النّسخ، تأتيان، بنُون الْوِقَايَة وَحذف الْيَاء الَّتِي للمتكلم والإكتفاء بالكسرة عَنْهَا. قَوْله: (حَتَّى إِذا فرغت وفرغت) بالتكرار وصلَة الأول محذوفة أَي: فرغت من الْعمرَة وفرغت من الطّواف، وَحذف الأول للْعلم بِهِ، ويروى: (حَتَّى إِذا فرغت وَفرغ) ، بِلَفْظ الْغَائِب أَي: حَتَّى إِذا فرغت أَنا من الْعمرَة وَطواف الْوَدَاع وَفرغ عبد الرَّحْمَن أَيْضا. قَوْله: (بِسحر) ، بِفَتْح الرَّاء بِدُونِ التَّنْوِين وبجرها مَعَ التَّنْوِين، وَهُوَ عبارَة عَن قبيل الصُّبْح الصَّادِق، فَإِذا أردْت بِهِ سحر ليلتك بِعَيْنِه لم تصرفه لِأَنَّهُ معدول عَن السحر، وَهُوَ علم لَهُ، وَإِن أردْت نكرَة صفة فَهُوَ منصرف، وَالْأولَى هُنَا هُوَ الأول. قَوْله: (هَل فَرَغْتُمْ؟) خطاب لعبد الرَّحْمَن ولعائشة وَمن مَعَهُمَا فِي ذَلِك الإعمار، وإلاَّ فَالْقِيَاس أَن يُقَال: هَل فرغتما، أَو نقُول: إِن أقل الْجمع اثْنَان. قَوْله: (فآذن بالرحيل) أَي: فَاعْلَم النَّاس بالارتحال. قَوْله: (مُتَوَجها) أَي: حَال كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَوَجها نَحْو الْمَدِينَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن من كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْعمرَة فميقاته لَهَا الْحل، وَإِنَّمَا وَجب الْخُرُوج إِلَيْهِ ليجمع فِي نُسكه بَين الْحل وَالْحرم، كَمَا يجمع الْحَاج بَينهمَا، فَإِن عَرَفَات من الْحل. وَفِيه: النُّزُول بالمحصب، فَظَاهره أَن النُّزُول فِيهِ سنة كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كَانَ ابْن عمر يرَاهُ سنة، وَقَالَ نَافِع: حصب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده، أخرجه مُسلم، وَزعم ابْن حبيب أَن مَالِكًا كَانَ يَأْمر بالتحصيب ويستحبه، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء، وَهُوَ عِنْد الْحِجَازِيِّينَ أوكد مِنْهُ عِنْد الْكُوفِيّين، وَأَجْمعُوا أَنه لَيْسَ بِوَاجِب، وَأخرج مُسلم عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانُوا ينزلون بِالْأَبْطح) ، وأخرجت الْأَئِمَّة السِّتَّة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِنَّمَا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحصب ليَكُون أسمح لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسنة، فَمن شَاءَ نزله وَمن شَاءَ لم ينزله.(9/194)
ضَيْرَ مِنْ ضارَ يَضِيرُ ضَيْرا ويُقَالُ ضار يَضُورُ ضَوْرا وضَرَّ يَضُرُّ ضَرَّا
لما كَانَت رِوَايَتَانِ فِي قَوْله: (فَلَا يضيرك) إِحْدَاهمَا: (فَلَا يضيرك) وَالْأُخْرَى: (فَلَا يَضرك) أَشَارَ بقوله: (ضير) بالأجوف اليائي إِلَى أَن مصدر: لَا يضيرك، ضير وَأَشَارَ إِلَى أَن فِيهِ لغتين إِحْدَاهمَا: (ضار يضير) من: بَاب بَاعَ يَبِيع، وَالْأُخْرَى: ضار يضور) من بَاب، قَالَ يَقُول، وَأَشَارَ إِلَى الرِّوَايَة الثَّانِيَة بقوله: (وضر يضر ضرا) من: بَاب فعل يفعل، بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي، وَضمّهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وضرا مصدره بِضَم الضَّاد، وَيَجِيء أَيْضا مصدره ضَرَرا بِفتْحَتَيْنِ. وَفِي (الْمطَالع) : الضَّرَر والضير والضر والضر والضرار كل ذَلِك بِمَعْنى قلت: وَفِي الحَدِيث: (لَا ضَرَر وَلَا ضرار) ، فعلى مَا ذكره يكون هَذَا للتَّأْكِيد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا فَقَالَ: الضَّرَر وَمَا تضر بِهِ صَاحبك مِمَّا تنْتَفع أَنْت بِهِ، والضرار أَن تضره من غير أَن تَنْفَع نَفسك، وَمَتى قرن بالنفع لم يكن فِيهِ إلاَّ الضّر والضر لَا ضير.
43 - (بابُ التَّمَتُّعِ وَالإقْرَانِ وَالإفرَادِ بِالحَجِّ وفَسْخِ الحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّمَتُّع، وَهُوَ أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج، ثمَّ بعد الْفَرَاغ مِنْهَا يحرم بِالْحَجِّ فِي تِلْكَ السّنة. قَوْله: (والإقران) ، بِكَسْر الْهمزَة من أقرن بَين الْعمرَة وَالْحج، وَهُوَ أَن يحرم بهما بِأَن يَقُول: لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، يَعْنِي بِكَسْر الْهمزَة فِي أَوله، قَالَ عِيَاض: وَهُوَ خطأ من حَيْثُ اللُّغَة. وَفِي (الْمطَالع) : الْقرن فِي الْحَج جمعه بَين الْحَج وَالْعمْرَة فِي الْإِحْرَام، يُقَال مِنْهُ: قرن، وَلَا يُقَال: أقرن. قلت: رُوِيَ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه نهى عَن الْقرَان إلاَّ أَن يسْتَأْذن أحدكُم صَاحبه. قَالَ ابْن الْأَثِير: ويروى عَن الإقران فَإِذا روى الإقران فِي كَلَام الفصيح كَيفَ يُقَال إِنَّه غلط؟ وَكَيف يُقَال يُقَال مِنْهُ: قرن، وَلَا يُقَال: أقرن؟ فالقران من الثلاثي والإقران من الْمَزِيد، من قرن يقرن من: بَاب ضرب يضْرب، قَالَه ابْن التِّين: وَفِي (الْمُحكم) و (الصِّحَاح) من: بَاب نصر ينصر. قَوْله: (والإفراد بِالْحَجِّ) ، وَهُوَ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ وَحده. قَوْله: (وَفسخ الْحَج) هُوَ أَن يحرم بِالْحَجِّ ثمَّ يتَحَلَّل مِنْهُ بِعَمَل عمْرَة فَيصير مُتَمَتِّعا، أما الْقرَان والإفراد بِالْحَجِّ فَلَا خلاف فِي جوازهما، وَأما فسخ الْحَج فَفِي جَوَازه خلاف، وَقَالَ بَعضهم: وَظَاهر تصرف المُصَنّف إِجَازَته، فَإِن تَقْدِير التَّرْجَمَة: بَاب مَشْرُوعِيَّة التَّمَتُّع ... إِلَى آخِره. قلت: لَا نسلم هَذَا التَّقْدِير، بل الظَّاهِر أَن التَّقْدِير فِي بَيَان التَّمَتُّع. . إِلَى آخِره، وَهُوَ أَعم مِمَّا ذكره قَوْله: (لمن لم يكن مَعَه هدي) ، قيد بِهِ لِأَن من سَاق الْهَدْي مَعَه لَا يجوز لَهُ فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة.
1651 - حدَّثنا عُثْمَانُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلاَ نُرَي إلاَّ أنَّهُ الحَج فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ فأمرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ ساقَ الهَدْيَ أنْ يُحِلَّ فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ ساقَ الهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فأحْلَلْنَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَحِضْتُ فَلَمْ أطُفْ بِالبَيْتِ فَلَمَّا كانَتْ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ قالَتْ يَا رسولَ الله يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ وأرْجِعُ أَنا بِحَجَّةٍ قَالَ وَما طُفْتُ لَيَالي قَدِمْنَا مَكَّةَ قُلْتُ لاَ قَالَ فاذْهَبِي مَعَ أخِيكِ إلَى التَّنْعِيمِ فأهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ كذَا وكَذَا قالَتْ صَفِيَّةُ مَا أُرَانِي إلاَّ حابَسْتَهُمْ قَالَ عَقْرَى حَلُقَى أوْ مَا طُفْتُ يَوْمَ النَّحْرِ قالَتْ قُلْتُ بَلَى قَالَ لاَ بَأسَ انْفِرِي قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَلَقِيَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأنَا منْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا أوْ أنَا مُصْعِدَةٌ وَهْوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الْأَخير مِنْهَا، وَهُوَ قَوْله: (وَفسخ الْحَج لمن لم يكن مَعَه هدي) فِي قَوْله: (فَأمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،(9/195)
من لم يكن سَاق الْهَدْي أَن يحل) أَي: من الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَهَذَا هُوَ فسخ الْحَج.
وَرِجَاله قد ذكرُوا فِي: بَاب من سَأَلَ، فِي كتاب الْعلم، وَعُثْمَان هُوَ ابْن أبي شيبَة، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَالْأسود بن يزِيد خَال إِبْرَاهِيم وَكلهمْ كوفيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن جرير، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن قدامَة عَن جرير بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَكَانَ خُرُوجهمْ فِي أشهر الْحَج كَمَا قد بَينه فِي الحَدِيث الَّذِي مضى فِي الْبَاب السَّابِق. قَوْله: (وَلَا نرى) ، بِضَم النُّون أَي: وَلَا نظن، وَقَالَ ابْن التِّين: ضَبطه بَعضهم بِفَتْح النُّون وَبَعْضهمْ بضَمهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَانَ هَذَا قبل أَن يعلمن بِأَحْكَام الْإِحْرَام وأنواعه، وَقيل: يحْتَمل أَن ذَلِك كَانَ اعتقادها من قبل أَن تهل ثمَّ أهلت بِعُمْرَة، وَيحْتَمل أَن تُرِيدُ بقولِهَا: لَا نرى حِكَايَة عَن فعل غَيرهَا من الصَّحَابَة، وهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ غَيره، وَزعم عِيَاض أَنَّهَا كَانَت أَحرمت بِالْحَجِّ ثمَّ أَحرمت بِالْعُمْرَةِ، ثمَّ أَحرمت بِالْحَجِّ، وَيدل على أَن المُرَاد بقولِهَا: لَا نرى إلاَّ الْحَج، من فعل غَيرهَا، قَوْله: (فَلَمَّا قدمنَا تطوفنا بِالْبَيْتِ) ، تَعْنِي بذلك: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس غَيرهَا لِأَنَّهَا لم تطف بِالْبَيْتِ فِي ذَلِك الْوَقْت لأجل حَيْضهَا، وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة: (خرجنَا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مهلين بِالْحَجِّ) وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق الْقَاسِم عَنْهَا: (لَا تذكر إلاَّ الْحَج) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ أَيْضا كَذَلِك، وَقد مَضَت فِي كتاب الْحيض، وَله أَيْضا من هَذَا الْوَجْه: (لبينا بِالْحَجِّ) ، وَظَاهر هَذَا يَقْتَضِي أَن عَائِشَة كَانَت مَعَ الصَّحَابَة أَولا محرمين بِالْحَجِّ، لَكِن فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا هُنَا: (فمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل بِحَجّ وَعمرَة، وَمنا من أهل بِالْحَجِّ) . فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا؟ قلت: يحمل الأول على أَنَّهَا ذكرت مَا كَانُوا يعهدونه من ترك الاعتمار فِي أشهر الْحَج فَيخْرجُونَ لَا يعْرفُونَ إلاَّ الْحَج، قَالَت: مهلين بِالْحَجِّ، وَلَا نرى إلاَّ أَنه الْحَج، ثمَّ بَين لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُجُوه الْإِحْرَام وَجوز لَهُم الاعتمار فِي أشهر الْحَج. فَإِن قلت: قد مر فِي كتاب الْحيض أَنَّهَا قَالَت: أَهلَلْت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع، فَكنت فِيمَن تمنع وَلم يسق الْهَدْي؟ قلت: الْجَواب عَنهُ مَا قَالَه عِيَاض الَّذِي قد ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَوْلهَا: وَكنت مِمَّن أهل بِعُمْرَة، وَقد مضى فِي كتاب الْحيض، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، وَادّعى إِسْمَاعِيل القَاضِي وَغَيره أَن هَذَا غلط من عُرْوَة وَأَن الصَّوَاب رِوَايَة الْأسود وَالقَاسِم وَعُرْوَة عَنْهَا أَنَّهَا أهلت بِالْحَجِّ مُفردا، ورد عَلَيْهِ بِأَن قَول عُرْوَة صَرِيح أَنَّهَا أهلت بِعُمْرَة، وَقَول الْأسود وَغَيره عَنْهَا: لَا نرى إلاَّ الْحَج، فَلَيْسَ بِصَرِيح فِي إهلالها بِحَجّ مُفْرد، فالجمع بَينهمَا بِمَا ذَكرْنَاهُ، فَلَا يحْتَاج إِلَى تغليط عُرْوَة وَهُوَ أعلم النَّاس بحديثها. قَوْله: (أَن يحل أَي: بِأَن يحل من الْحَج، وَهُوَ بِضَم الْيَاء من الْإِحْلَال، وَهُوَ الْخُرُوج من الْإِحْرَام، قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِأَن يحل، بِفَتْح الْيَاء أَي: يصير حَلَالا، وَالْأول يُنَاسب قَوْلهَا: فأحللن، وَالثَّانِي: يُنَاسب قَوْلهَا: فَحل فَإِن قلت: قَوْله: (فَأمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْفَاء فِيهِ تَقْتَضِي التعقيب، فتدل على أَن الْأَمر كَانَ بعد الطّواف مَعَ أَنه قد سبق الْأَمر بِهَذَا؟ قلت: أجَاب الْكرْمَانِي أَنه قَالَ مرَّتَيْنِ: قبل الْقدوم وَبعده، فَالثَّانِي تكْرَار للْأولِ وتأكيد لَهُ. قَوْله: ونساؤه لم يسقن) أَي: نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسقن الْهَدْي، فَلذَلِك أحللن قَوْله: (فَلم أطف) قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا منَاف لقَوْله: (تطوفنا) ، ثمَّ أجَاب بقوله: المُرَاد بِلَفْظ الْجمع الصَّحَابَة، وَهَذَا تَخْصِيص لذَلِك الْعَام. قلت: قد ذكرنَا أَنَّهَا تَعْنِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه، لِأَنَّهَا لم تطف وَلم تدخل نَفسهَا فيهم، فَكيف يكون تَخْصِيصًا لذَلِك الْعَام؟ ثمَّ قَالَ أَيْضا: فَكيف صَحَّ حَجهَا بِدُونِ الطّواف؟ فَأجَاب بِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد طواف ركن الْحَج، بِدَلِيل قَوْلهَا فِي حَدِيث الْبَاب السَّابِق: (ثمَّ خرجت من منى فأفضت بِالْبَيْتِ) . قَوْله: (لَيْلَة الحصبة) أَي: اللَّيْلَة الَّتِي بعد ليَالِي التَّشْرِيق الَّتِي ينزل الْحجَّاج فِيهَا فِي المحصب، وَالْمَشْهُور فِي الحصبة سُكُون الصَّاد، وَجَاء فتحهَا وَكسرهَا، وَهِي أَرض ذَات حَصى. قَوْله: (وأرجع أَنا بِحجَّة) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وأرجع لي بِحجَّة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَمَا قَول من قَالَ: إِنَّهَا كَانَت قارنة؟ فَأجَاب بقوله: إِنَّهُم يرجعُونَ بِحَجّ مُنْفَرد وارجع لَيْسَ لي عمْرَة مُنْفَرِدَة؟ قَوْله: (قَالَت صَفِيَّة) هِيَ أم الْمُؤمنِينَ، سبقت فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض بعد الْإِفَاضَة. قَوْله: (مَا أَرَانِي) أَي: مَا أَظن نَفسِي إلاَّ حابسة الْقَوْم عَن التَّوَجُّه إِلَى الْمَدِينَة، لِأَنِّي حِضْت وَمَا طفت بِالْبَيْتِ، فلعلهم بسببي(9/196)
يتوقفون إِلَى زمَان طوافي بعد الطَّهَارَة، وَإسْنَاد الْحَبْس إِلَيْهَا على سَبِيل الْمجَاز. قَوْله: (عقري حلقي) قَالَ أَبُو عبيد: مَعْنَاهُ عقرهَا الله وأصابها وجع فِي حلقها، هَذَا على مَا يرويهِ المحدثون، وَالصَّوَاب: عقرا وحلقا أَي: مصدرين بِالتَّنْوِينِ فيهمَا، وَقيل لَهُ لِمَ لَا يجوز: فعلى؟ قَالَ: لِأَن: فعلى، يَجِيء نعتا، وَلم يَجِيء فِي الدُّعَاء، وَهَذَا دُعَاء. وَقَالَ صَاحب (الْمُحكم) : مَعْنَاهُ عقرهَا الله وَحلق شعرهَا أَو أَصَابَهَا فِي حلقها بالوجع، فعقرى هَهُنَا مصدر كدعوى، وَقيل: مَعْنَاهُ تعقر قَومهَا وتحلقهم بشؤمها، وَهُوَ جمع عقير، وَهُوَ مثل: جريح وجرحى لفظا وَمعنى. وَقيل: عقرى عَاقِر لَا تَلد، وحلقى أَي مشؤمة. قَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: أَصبَحت أمه حالقا أَي ثاكلاً، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وعَلى الْأَقْوَال كلهَا هِيَ كلمة اتسعت فِيهَا الْعَرَب فَصَارَت تلفظها وَلَا تُرِيدُ بهَا حَقِيقَة مَعْنَاهَا الَّتِي وضعت لَهُ: كتربت يَدَاهُ، وقاتله الله. قَالَ: إِن الْمُحدثين يَرْوُونَهُ بِالْألف الَّتِي هِيَ ألف التَّأْنِيث، ويكتبونه بِالْيَاءِ، وَلَا ينونونه. وَقيل: مَعْنَاهُ مشؤمة مؤذية. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال ذَلِك لأمر يعجب مِنْهُ، وَيُقَال: إمرأة حالق إِذا حلقت قَومهَا بشؤمها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يُرِيد: أَنْت طَوِيلَة اللِّسَان لما كَلمته بِمَا يكره، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْحلق الَّذِي يخرج مِنْهُ الْكَلَام. قَوْله: (انفري) ، بِكَسْر الْفَاء أَي: ارجعي واذهبي، إِذْ لَا حَاجَة لَك إِلَى طواف الْوَدَاع لِأَنَّهُ سَاقِط عَن الْحَائِض. قَوْله: (فلقيني النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره الْوَاو فِي قَوْله: (وَهُوَ مصعد) للْحَال، وَكَذَا الْوَاو فِي قَوْله: (وَأَنا منهبطة) ، إِنَّمَا حكت الْأَمر على وَجهه، وَشك الْمُحدث أَي الْكَلِمَتَيْنِ قَالَت، وَإِنَّمَا لقيها وَهُوَ يُرِيد المحصب وَهُوَ يهْبط إِلَى مَكَّة، والمصعد فِي اللُّغَة المبتدىء فِي السّير، والصاعد الراقي إِلَى الْأَعْلَى من الْأَسْفَل.
ذكر فَوَائِد فِيهِ: ذكر الْحَج والتمتع، فالحج إِذا ذكر مُطلقًا يتَنَاوَل الْمُفْرد وَغَيره من التَّمَتُّع وَالْقُرْآن، والتمتع الْجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، يتَحَلَّل بَينهمَا إِن لم يكن سائقا للهدي. قَالَ ابْن سَيّده: الْمُتْعَة ضم الْعمرَة إِلَى الْحَج، وَقد تمتّع واستمتع، وَقَالَ الْقَزاز فِي (جَامعه) : الْمُتْعَة هُوَ أَن يدْخل الرجل مَكَّة فِي أشهر الْحَج بِعُمْرَة، ثمَّ يُقيم فِيهَا حَتَّى يحجّ وَقد خرج من إِحْرَامه، وتمتع بِالنسَاء وَالطّيب. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: التَّمَتُّع الترفق بأَدَاء النُّسُكَيْنِ على وَجه الصِّحَّة فِي سفرة وَاحِدَة من غير أَن يلم بأَهْله إلماما صَحِيحا، وَلِهَذَا لم يتَحَقَّق من الْمَكِّيّ، وَقيل: سمي تمتعا لأَنهم يتمتعون بِالنسَاء وَالطّيب بَين الْعمرَة وَالْحج، قَالَه عَطاء وَآخَرُونَ، والمحرمون عشرَة: مُفْرد بِالْحَجِّ. مُفْرد بِالْعُمْرَةِ. قَارن متمتع. مُطلق. مُتَطَوّع بِحَجّ: مُتَطَوّع بِعُمْرَة. مُتَطَوّع بقران. متمتع. مُطلق. مُعَلّق يَعْنِي: كإحرام فلَان، وَالْكل جَائِز عِنْد أهل الْعلم كَافَّة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا كَانَا ينهيان عَن التَّمَتُّع، وَقيل: كَانَ نهي تَنْزِيه، وَقيل: إِنَّمَا نهينَا عَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، لِأَن ذَلِك كَانَ خَاصّا بالصحابة، وَذهب أَحْمد إِلَى جَوَاز فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَقد استقصينا الْكَلَام فِي الْأَفْضَل من الْإِفْرَاد والتمتع وَالْقرَان عَن قريب.
2651 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الأسْوَدِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ نَوْفَلٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا قالَتْ خرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ ومِنَّا مَنْ أهَلَّ بحَجَّةٍ عمْرَة ومِنَّا مَنْ أهَلَّ بِالحَجِّ وَأهَلَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحجِّ فأمَّا مَنْ أهَلَّ بِالحَجِّ أوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كانَ يَوْمُ النَّحْرِ..
هَذَا وَجه آخر من حَدِيث عَائِشَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت عَائِشَة: لَا نرى إلاَّ أَنه الْحَج، فَكيف أهلوا بِالْعُمْرَةِ؟ وَأجَاب بقوله: ذَلِك الظَّن كَانَ عِنْد الْخُرُوج، وَأما الانقسام إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة من التَّمَتُّع وَالْقرَان والإفراد فَهُوَ بعد ذَلِك. قلت: قد ذكرنَا فِي هَذَا عَن قريب بِأَحْسَن من هَذَا وأبسط، وَقد ذكرنَا أَن الرِّوَايَات عَن عَائِشَة مُخْتَلفَة فِيمَا أَحرمت بِهِ، حَتَّى قَالَ مَالك: لَيْسَ الْعَمَل عندنَا على حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَدِيما وَلَا حَدِيثا، وَقَالَ أَبُو عمر: الْأَحَادِيث عَنْهَا مضطربة.
2651 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الأسْوَدِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ نَوْفَلٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا قالَتْ خرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ ومِنَّا مَنْ أهَلَّ بحَجَّةٍ عمْرَة ومِنَّا مَنْ أهَلَّ بِالحَجِّ وَأهَلَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحجِّ فأمَّا مَنْ أهَلَّ بِالحَجِّ أوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كانَ يَوْمُ النَّحْرِ..
هَذَا وَجه آخر من حَدِيث عَائِشَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت عَائِشَة: لَا نرى إلاَّ أَنه الْحَج، فَكيف أهلوا بِالْعُمْرَةِ؟ وَأجَاب بقوله: ذَلِك الظَّن كَانَ عِنْد الْخُرُوج، وَأما الانقسام إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة من التَّمَتُّع وَالْقرَان والإفراد فَهُوَ بعد ذَلِك. قلت: قد ذكرنَا فِي هَذَا عَن قريب بِأَحْسَن من هَذَا وأبسط، وَقد ذكرنَا أَن الرِّوَايَات عَن عَائِشَة مُخْتَلفَة فِيمَا أَحرمت بِهِ، حَتَّى قَالَ مَالك: لَيْسَ الْعَمَل عندنَا على حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَدِيما وَلَا حَدِيثا، وَقَالَ أَبُو عمر: الْأَحَادِيث عَنْهَا مضطربة.
3651 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حأقنا غُنْدُرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ عَلِيِّ بنِ حُسَيْن(9/197)
ٍ عَنْ مَرْوَانَ بنِ الْحَكَمِ قَالَ شَهِدْتُ عُثْمَانَ وعلِيّا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وعُثْمَانُ يَنْهَى عنِ المُتْعَةِ وَأنْ يُجْمَعَ بَينَهُما فلَمَّا رَأى عَليٌّ أهَلَّ بهمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ قَالَ مَا كُنْتْ لأِدَعَ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِقَوْلِ أحَدٍ.
(الحَدِيث 3651 طرفه فِي: 9651) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أهل بهما) ، أَي: بِالْعُمْرَةِ وَالْحج، وَهَذَا هُوَ القِران، وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الثَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْفَقِيه الْكُوفِي، وَعلي بن الْحُسَيْن هُوَ زين العابدين. وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شهِدت عُثْمَان وعليا) كَانَ شُهُوده إيَّاهُمَا بعسفان على مَا يَأْتِي. قَوْله: (وَعُثْمَان) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (عَن الْمُتْعَة) اخْتلفُوا فِي الْمُتْعَة الَّتِي نهى عَنْهَا. فَقيل: هِيَ فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة لِأَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ السّنة الَّتِي حج فِيهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ تَحْقِيقا مَا عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من منع الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، وَقيل: هُوَ التَّمَتُّع الْمَشْهُور، وَالنَّهْي للتنزيه ترغيبا للإفراد. قَوْله: (وَأَن يجمع بَينهمَا) أَي: بَين الْعمرَة وَالْحج، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي الْقرَان، ثمَّ قَالَ: مَا المُرَاد مِنْهُ؟ ثمَّ أجَاب: بِأَنَّهُ قَالَ ابْن عبد الْبر: القِران أَيْضا نوع من التَّمَتُّع لِأَنَّهُ تمتّع بِسُقُوط سَفَره للنسك الآخر من بَلَده، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن تكون الْوَاو فِي قَوْله: (وَأَن يجمع بَينهمَا) ، عاطفة فَيكون النَّهْي عَن التَّمَتُّع وَالْقرَان مَعًا، وَيحْتَمل إِن تكون تفسيرية، وَذَلِكَ لِأَن السّلف كَانُوا يطلقون على الْقرَان تمتعا. انْتهى. قلت: الْوَاو هُنَا عاطفة قطعا، وَلَا إِجْمَال فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ حَتَّى يُقَال: إِنَّهَا تفسيرية، وَهُوَ قد رد على نَفسه كَلَامه بقوله: إِن السّلف كَانُوا يطلقون على الْقرَان تمتعا، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون عطف التَّمَتُّع على الْمُتْعَة، وَهُوَ غير جَائِز. قَوْله: (فَلَمَّا رأى عَليّ) مَفْعُوله مَحْذُوف تَقْدِيره: فَلَمَّا رأى عَليّ النَّهْي (أهل بهما) أَي: بِالْعُمْرَةِ وَالْحج. وَقَوله: (إهل) جَوَاب لما، وَفِي رِوَايَة سعيد بن الْمسيب: (فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا تُرِيدُ إِلَى أَن تنهي عَن أَمر فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ أَن تنْهى) ، بِحرف الِاسْتِثْنَاء، وَفِي رِوَايَة مُسلم من هَذَا الْوَجْه زِيَادَة، وَهِي: (فَقَالَ عُثْمَان: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أدعك) . قَوْله: (لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة) مقول لمقدر، وَالتَّقْدِير: أهل بهما حَال كَونه قَائِلا: لبيْك. قَوْله: (قَالَ: مَا كنت) أَي: قَالَ عَليّ، وَهُوَ اسْتِئْنَاف كَأَن قَائِلا يَقُول: لِمَ خَالفه، فَقَالَ: مَا كنت ... إِلَى آخِره، وَحَاصِله أَنه مُجْتَهد لَا يجوز عَلَيْهِ أَن يُقَلّد مُجْتَهدا آخر، لَا سِيمَا مَعَ وجود السّنة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي: (فَقَالَ عُثْمَان: تَرَ أَنِّي أنهى النَّاس وَأَنت تَفْعَلهُ؟ فَقَالَ: مَا كنت لأدع) ، أَي: لأترك، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِشَاعَة الْعَالم مَا عِنْده من الْعلم وإظهاره ومناظرته وُلَاة الْأُمُور وَغَيرهم فِي تَحْقِيقه لمن قوي على ذَلِك لقصد منا صِحَة الْمُسلمين. وَفِيه: الْبَيَان بِالْفِعْلِ مَعَ القَوْل، لِأَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَمر وَفعل مَا نَهَاهُ عَنهُ عُثْمَان: وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ عُثْمَان من الْحلم أَنه لَا يلوم مخالفه. وَفِيه: أَن الْقَوْم لم يَكُونُوا يسكتون عَن قَول يرَوْنَ أَن غَيره أمثل مِنْهُ إلاَّ بَينُوهُ. وَفِيه: أَن طَاعَة الإِمَام إِنَّمَا تجب فِي الْمَعْرُوف، وَفِيه: أَن مُعظم الْقَصْد الَّذِي بوب عَلَيْهِ هُوَ مَشْرُوعِيَّة الْمُتْعَة لجَمِيع النَّاس. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أبي ذَر أَنه قَالَ: كَانَت مُتْعَة الْحَج لأَصْحَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَاصَّة فِي (صَحِيح مُسلم) ؟ قلت: قَالُوا: هَذَا قَول صَحَابِيّ يُخَالف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، وَقَول من هُوَ خير مِنْهُ. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} (الْبَقَرَة: 691) . وَهَذَا عَام، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على إِبَاحَة التَّمَتُّع فِي جَمِيع الْأَعْصَار، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي فَضله. وَأما السّنة، فَحَدِيث سراقَة: (الْمُتْعَة لنا خَاصَّة أَو هِيَ لِلْأَبَد؟ قَالَ: بل هِيَ لِلْأَبَد) . وَحَدِيث جَابر الْمَذْكُور فِي (صَحِيح مُسلم) فِي صفة الْحَج نَحْو هَذَا، وَمَعْنَاهُ: أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا لَا يجيزون التَّمَتُّع، وَلَا يرَوْنَ الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، فجوزا، فبيَّن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الله قد شرع الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، وَجوز الْمُتْعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من قَول طَاوُوس، وَزَاد فِيهِ: (فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَام أَمر النَّاس أَن يعتمروا فِي أشهر الْحَج، فَدخلت الْعمرَة فِي أشهر الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) ، وَقد خَالف أَبَا ذَر عَليّ وَسعد وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعمْرَان بن حُصَيْن وَسَائِر الصَّحَابَة وَسَائِر الْمُسلمين، قَالَ عمرَان: تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنزل فِيهِ الْقُرْآن وَلم ينهنا عَنهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم ينسخها شَيْء، فَقَالَ فِيهَا رجل بِرَأْيهِ مَا شَاءَ، مُتَّفق عَلَيْهِ.(9/198)
وَقَالَ سعد بن أبي وَقاص: (فعلناها مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: الْمُتْعَة، وَهَذَا يَعْنِي الَّذِي نهى عَنْهَا يَوْمئِذٍ كَافِر بالعرش، يَعْنِي بيُوت مَكَّة) رَوَاهُ مُسلم. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد عَن سعيد بن الْمسيب أَن رجلا من الصَّحَابَة أَتَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَشهد عِنْده أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْهَى عَن الْمُتْعَة قبل الْحَج؟ قلت: أُجِيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ حَالَة مُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، كَحَدِيث أبي ذَر، بل هُوَ أدنى حَالا مِنْهُ، فَإِن فِي إِسْنَاده مقَالا. فَإِن قلت: قد نهى عَنْهَا عمر وَعُثْمَان وَمُعَاوِيَة قلت: قد أنكر عَلَيْكُم عُلَمَاء الصَّحَابَة وخالفوهم فِي فعلهَا، وَالْحق مَعَ المنكرين عَلَيْهِم دونهم.
4651 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثنا ابنُ طَاوُوسٍ عَنْ أبِيهِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانُوا يَرَوْنَ أنَّ العُمْرَةَ فِي أشْهُرِ الحَجِّ من أفْجَرِ الْفُجُورَ فِي الأرْضِ ويَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفرا ويَقُولونَ إذَا بَرَأ الدَّبَرْ وعَفا الأثَرْ وانْسَلَخَ صَفَرْ حلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بالْحَجِّ فأمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فتعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقالُوا يَا رسُولَ الله أيُّ الحلِّ قَالَ حِل كُلّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَمرهمْ أَن يجعلوها عمْرَة) ، وَهِي فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَرِجَال الحَدِيث قد تقدمُوا غير مرّة، ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله، يروي عَن أَبِيه طَاوُوس.
وَأخرجه ابخاري أَيْضا فِي أَيَّام الْجَاهِلِيَّة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن حَاتِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانُوا) أَي: أهل الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (يرَوْنَ) ، أَي: يَعْتَقِدُونَ أَن الْعمرَة إِلَى آخِره، وروى دَاوُد (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: وَالله مَا أعمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة فِي ذِي الْحجَّة إلاَّ ليقطع بذلك أَمر أهل الشّرك، فَإِن هَذَا الْحَيّ من قُرَيْش من دَان دينهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِذا عَفا الْأَثر وبرأ الدبر وَدخل صفر فقد حلت الْعمرَة لمن اعْتَمر، وَكَانَ يحرمُونَ الْعمرَة حَتَّى يَنْسَلِخ ذُو الْحجَّة وَالْمحرم) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا، فَفِي هَذَا تعْيين الْقَائِلين الْمَذْكُورين فِي قَوْله: وَيَقُولُونَ: قَوْله: (من أفجر الْفُجُور) ، أَي: من أعظم الذُّنُوب، وَهَذَا من تحكماتهم الْبَاطِلَة الْمَأْخُوذَة من غير أصل، والفجور: الانبعاث فِي المعاضي، يُقَال: فجر يفجر فجورا من: بَاب نصر ينصر. قَوْله: (ويجعلون الْمحرم صفرا) أَي: يجْعَلُونَ الصفر من الْأَشْهر الْحرم، وَلَا يجْعَلُونَ الْمحرم مِنْهَا. قَوْله: (صفر) قَالَ بَعضهم: كَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول من الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قَوْله: (صفرا) هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ مَصْرُوف بِلَا خلاف، وَوَقع فِي مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى: صفر بِغَيْر ألف. قلت: هَذَا يرد مَا قَالَه بَعضهم، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَوْله: صفر، كَذَا هُوَ بِغَيْر ألف فِي أصل الدمياطي، رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِي مُسلم: الصَّوَاب صفرا بِالْألف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كَانَ يَنْبَغِي أَن يكْتب بِالْألف، وَلَكِن على تَقْدِير حذفهَا لَا بُد من قِرَاءَته مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ منصرف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللُّغَة الربيعية أَنهم يَكْتُبُونَ الْمَنْصُوب بِلَا ألف. وَقَالَ: وتقرأ هَذِه الْأَلْفَاظ كلهَا سَاكِنة الآخر مَوْقُوفا عَلَيْهَا، لِأَن مُرَادهم السجع. وَفِي (الْمُحكم) وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة لَا يصرفهُ، فَقيل لَهُ: لِمَ لم تصرفْهُ؟ لِأَن النَّحْوِيين قد أَجمعُوا على صرفه وَقَالُوا لَا يمْنَع الْحَرْف من الصّرْف إلاَّ العلتان فَأخْبرنَا بالعلتين فِيهِ؟ فَقَالَ: نعم، العلتان الْمعرفَة والساعة. وَقَالَ: أَبُو عمر الْمُطَرز، يرى أَن الْأَزْمِنَة كلهَا سَاعَات، والساعات مُؤَنّثَة، وَقَالَ عِيَاض: قيل صفر دَاء يكون فِي الْبَطن كالحيات إِذا اشْتَدَّ جوع الْإِنْسَان عضه، وَقَالَ رؤبة: هِيَ حَيَّة تلتوي فِي الْبَطن، وَهِي أعدى من الجرب عِنْد الْعَرَب قلت: هَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صفر، وَهَهُنَا غير مُنَاسِب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَت الْعلمَاء: المُرَاد الْإِخْبَار عَن النسيء الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكَانُوا يسمون الْمحرم صفرا، ويحلونه، ويؤخرون تَحْرِيم الْمحرم إِلَى نفس صفر، لِئَلَّا يتوالى عَلَيْهِم ثَلَاثَة أشهر مُحرمَة، فيضيق عَلَيْهِم فِيهَا مَا اعتادوه من الْمُقَاتلَة والغارة والنهب، فضللهم الله فِي ذَلِك فَقَالَ: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر يضل بِهِ الَّذين كفرُوا} (التَّوْبَة: 73) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، النسيء، هُوَ تَأْخِير حُرْمَة الشَّهْر إِلَى شهر آخر وَرُبمَا زادوا فِي عدد الشَّهْر فيجعلونها ثَلَاثَة عشر أَو أَرْبَعَة عشر ليتسع لَهُم الْوَقْت، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِن الْعَرَب كَانُوا يؤخرون الْمحرم إِلَى صفر، وَهُوَ النسيء الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} (التَّوْبَة: 73) . وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أول من نسأ القلمّس واسْمه: حُذَيْفَة(9/199)
ابْن عبيد الْكِنَانِي، ثمَّ ابْنه عباد، ثمَّ ابْنه قلع بن عباد، ثمَّ أُميَّة بن قلع، ثمَّ عَوْف بن أُميَّة، ثمَّ جُنَادَة بن أُميَّة وَعَلِيهِ قَامَ الْإِسْلَام. وَقيل: أول من نسأ نعيم بن ثَعْلَبَة، ثمَّ جُنَادَة، وَهُوَ الَّذِي أدْركهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: مَالك بن كنَانَة، وَقيل: عَمْرو بن طَيء. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الصفران شَهْرَان من السّنة سمي أَحدهمَا فِي الْإِسْلَام: الْمحرم، وَفِي (الْمُحكم) : قَالَ بَعضهم: سمي صفرا لأَنهم كَانُوا يمتارون الطَّعَام فِيهِ من الْمَوَاضِع، وَقَالَ بَعضهم: سمي بذلك لإصفار مَكَّة من أَهلهَا إِذا سافروا، وروى عَن رؤبة أَنه قَالَ: سموا الشَّهْر صفرا لأَنهم كَانُوا يغزون فِيهِ الْقَبَائِل فيتركون من لقوا صفرا من الْمَتَاع، وَذَلِكَ إِذا كَانَ صفر بعدالمحرم، فَقَالُوا: صفر النَّاس منَّا صفرا، فَإِذا جَمَعُوهُ مَعَ الْمحرم قَالُوا: صفران وَالْجمع أصفار. وَقَالَ الْقَزاز: قَالُوا إِنَّمَا سموا الشَّهْر صفرا لأَنهم كَانُوا يخلون الْبيُوت فِيهِ لخروجهم إِلَى الْبِلَاد، يُقَال لَهَا الصفرية، يمتارون مِنْهَا. وَقيل: لأَنهم كَانُوا يخرجُون إِلَى الْغَارة فَتبقى بُيُوتهم صفرا، وَفِي الْعلم الْمَشْهُور لأبي الْخطاب: الْعَرَب تَقول: صفر وصفران وصفارين وأصفار. قَالَ: وَقيل: إِن الْعَرَب كَانُوا يزِيدُونَ فِي كل أَربع سِنِين شهرا يسمونه صفرا الثَّانِي، فَتكون السّنة ثَلَاثَة عشر شهرا، وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السّنة اثْنَي عشر شهرا) وَكَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: (إِن الْأُمُور فِيهِ منغلقة، والآفات فِيهِ وَاقعَة. قَوْله: (إِذا برأَ الدبر) ، برأَ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة مَعْنَاهُ: إِذا أَفَاق، والدبر، بِفَتْح الدَّال وَالْبَاء الْمُوَحدَة ثمَّ الرَّاء، وَهُوَ مَا يتأثر فِي ظهر الْإِبِل بِسَبَب اصطكاك القتب وَالْحمل عَلَيْهَا فِي السّفر. وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يَكُونُوا أَرَادوا برْء الدبر فِي ظهر الْإِبِل إِذا انصرفت من الْحَج. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْجمع أدبار، ودبر دبرا، فَهُوَ دبر وَأدبر، وَالْأُنْثَى: دبرة ودبراء، وإبل دبراء، وَقد أدبرها الْحمل، قَالَ عِيَاض: وَقيل: هُوَ أَن يقرح خف الْبَعِير. قَوْله: (وَعَفا الْأَثر) أَي: ذهب أثر الدبر، يُقَال: عَفا الشَّيْء بِمَعْنى درس، وَوَقع فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَعَفا الْوَبر: يَعْنِي كثر وبر الْإِبِل الَّذِي حلقته رحال الْحَاج، وَعفى من الأضداد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَعْرُوف فِي عَامَّة الرِّوَايَات: عَفا الْوَبر يَعْنِي بِالْوَاو كَمَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى عفوا وَقَالُوا} (الْأَعْرَاف: 59) . أَي: كَثُرُوا. قَوْله: (حلت الْعمرَة) أَي: صَار الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ لمن أَرَادَ أَن يحرم بهَا جَائِزا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا وَجه تعلق انسلاخ صفر بالاعتمار فِي أشهر الْحَج الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود من الحَدِيث، وَالْمحرم وصفر ليسَا من أشهر الْحَج؟ فَأجَاب بقوله: لما سموا الْمحرم صفرا. وَكَانَ من جملَة تصرفاتهم فعل السّنة ثَلَاثَة عشر شهرا، صَار صفر على هَذَا التَّقْدِير آخر السّنة وَآخر أشهر الْحَج، إِذْ لَا برْء فِي أقل من هَذِه الْمدَّة غَالِبا. وَأما ذكر انسلاخ صفر الَّذِي من الْأَشْهر الْحرم بزعمهم فلأجل أَنه لَو وَقع قتال فِي الطَّرِيق، وَفِي مَكَّة لقدروا على الْمُقَاتلَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا انْقَضى شهر الْحَج وأثره، والشهر الْحَرَام، جَازَ الاعتمار، أَو يُرَاد بالصفر الْمحرم، وَيكون إِذا انْسَلَخَ صفر كالبيان وَالْبدل لقَوْله: (إِذا برأَ الدبر) فَإِن الْغَالِب أَن البرى لَا يحصل من أثر سفر الْحَج إلاَّ فِي هَذِه الْمدَّة، وَهِي مَا بَين أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَى خمسين، وَنَحْوه. قَوْله: (قدم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا وَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَوَقع فِي رِوَايَة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن وهيب فِي أَيَّام الْجَاهِلِيَّة بِلَفْظ: فَقدم، بِزِيَادَة فَاء الْعَطف، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق بهز بن أَسد والإسماعيلي من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج، كِلَاهُمَا عَن وهيب وَهُوَ الْوَجْه. قَوْله: (صَبِيحَة رَابِعَة) أَي: لَيْلَة رَابِعَة من ذِي الْحجَّة، وَهِي يَوْم الْأَحَد. قَوْله: (مهلِّين) نصب على الْحَال، أَي: حَال كَونهم مهلين بِالْحَجِّ، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج: وهم يلبون بِالْحَجِّ، وَهَذِه الرِّوَايَة تفسر قَوْله: مهلين، قَوْله: (فتعاظم ذَلِك) أَي: الاعتمار فِي أشهر الْحَج، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج: فَكبر ذَلِك عِنْدهم، أَرَادَ أَنه تعاظم عِنْدهم مُخَالفَة الْعِبَادَة الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا من تَأْخِير الْعمرَة عَن أشهر الْحَج. قَوْله: (أَي الْحل) مَعْنَاهُ: أَي شَيْء من الْأَشْيَاء يحل علينا، لِأَنَّهُ قَالَ: اعتمروا وَأَحلُّوا، فَقَالَ: حل كُله، يَعْنِي جَمِيع مَا يحرم على الْمحرم حَتَّى الْجِمَاع، وَذَلِكَ تَمام الْحل، كَأَنَّهُمْ يعْرفُونَ أَن لِلْحَجِّ تحليلين، فأرادوا بَيَان ذَلِك بقَوْلهمْ: أَي الْحل، فَبين لَهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحل كُله، لِأَن الْعمرَة لَيْسَ لَهَا إلاَّ تحلل وَاحِد، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (أَي الْحل نحل؟ قَالَ: الْحل كُله) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة الَّذِي بوب عَلَيْهِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب دُخُول مَكَّة نَهَارا، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبِه قَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَاب الشَّافِعِي، وَالْوَجْه الثَّانِي: دُخُولهَا لَيْلًا وَنَهَارًا سَوَاء لَا فَضِيلَة لأَحَدهمَا على الآخر، وَهُوَ قَول طَاوُوس وَالثَّوْري، وَعَن عَائِشَة وَسَعِيد بن جُبَير وَعمر بن عبد الْعَزِيز: دُخُولهَا لَيْلًا أفضل من النَّهَار. وَقَالَ مَالك: يسْتَحبّ دُخُولهَا نَهَارا، فَمن جاءها لَيْلًا فَلَا بَأْس بِهِ. قَالَ: وَكَانَ عمر بن(9/200)
عبد الْعَزِيز يدخلهَا لطواف الزِّيَارَة لَيْلًا. وَفِيه: حجَّة لمن قَالَ: كَانَ حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُفردا، وَمن قَالَ: كَانَ قَارنا لَا يلْزم من إهلاله بِالْحَجِّ أَن لَا يكون أَدخل عَلَيْهِ الْعمرَة.
5651 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ قَيْسِ بنِ مُسْلِمٍ عنُ طَارق بنِ شِهَابٍ عنْ أبِي مُوسى ارضي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَدِمْتُ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَهُ بِالحِلِّ..
هَذَا الحَدِيث أوردهُ هُنَا مُخْتَصرا، وَقد مضى بِتَمَامِهِ فِي: بَاب من أهلَّ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن قيس بن مُسلم إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مَبْسُوطا. قَوْله: (فَأمره بِالْحلِّ) ، رِوَايَة الْكشميهني على الِالْتِفَات، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَأمرنِي بِالْحلِّ) .
6651 - حدَّثنا إسْمَاعيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ (ح) وَحدثنَا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ حَفْصَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّها قالَتْ يَا رسولَ الله مَا شأنُ النَّاسِ حَلّزا بِعُمْرَةٍ ولَمْ تَحْلِلْ أنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إنِّي لَبَّدْتُ رأسِي وقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أحِلُّ حتَّى أنْحَرَ..
هَذَانِ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: عَن سُلَيْمَان بن أبي أويس واسْمه عبد الله الأصبحي الْمدنِي، ابْن أُخْت مَالك بن أنس، يروي عَن مَالك عَن نَافِع. وَالْآخر: عَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي عَن مَالك عَن نَافِع، وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرِوَايَة الْأَخ عَن أُخْته لِأَن حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب، وَعبد الله بن عمر أَخُوهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي موضِعين: فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِيه، وَفِي اللبَاس عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْحَج أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد، وَفِي الْمَغَازِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد وَعَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة: وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حلوا بِعُمْرَة) ، لم يَقع لَفْظَة بِعُمْرَة فِي رِوَايَة مُسلم، وَقَالَ أَبُو عمر: زعم بعض النَّاس أَنه لم يقل أحد فِي هَذَا الحَدِيث: عَن نَافِع، وَلم تحلل أَنْت عَن عمرتك إلاَّ مَالك وَحده، قَالَ: وَهَذِه اللَّفْظَة قَالَهَا عَن نَافِع جمَاعَة مِنْهُم عبيد الله بن عمر، وَأَيوب بن أبي تَمِيمَة، وهما وَمَالك حفاظ أَصْحَاب نَافِع. وَقَالَ أَبُو عمر: لما لم يكن لأحد من الْعلمَاء سَبِيل إِلَى الْأَخْذ بِكُل مَا تعَارض وتدافع من الْآثَار فِي هَذَا الْبَاب، وَلم يكن بُد من الْمصير إِلَى وَجه وَاحِد مِنْهَا صَار كل وَاحِد إِلَى مَا صَحَّ عِنْده بمبلغ اجْتِهَاده، وَقَالَ السفاقسي فِي قَوْلهَا: (مَا شَأْن النَّاس حلوا وَلم تحلل أَنْت من عمرتك؟) يحْتَمل أَن تُرِيدُ، من حجتك، لِأَن مَعْنَاهُمَا مُتَقَارب، يُقَال: حج الرجل الْبَيْت إِذا قَصده، فعبرت بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر، وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا يَقع على نوع مَخْصُوص من الْقَصْد والنسك. وَقيل: إِنَّهَا لما سمعته يَأْمر النَّاس بسرف بِفَسْخ الْحَج فِي الْعمرَة ظنت أَنه فسخ الْحَج فِيهَا، وَقيل: اعتقدت أَنه كَانَ مُعْتَمِرًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْلهَا وَقَول ابْن عَبَّاس: من عمرتك، أَي: بعمرتك، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} أَي: بِأَمْر الله، عبر بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ عَن الْقرن لِأَنَّهَا السَّابِقَة فِي إِحْرَام الْقَارِن قولا وَنِيَّة، وَلَا سِيمَا على مَا ظهر من حَدِيث ابْن عمر: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مُفردا. قَوْله: (وَلم تملك) بِكَسْر اللَّام الأولى أَي لم تحل وَفك فِيهِ الْإِدْغَام وَقد غلم أَن فِي مثل هَذَا الْمَوْضُوع يجوز الْوَجْهَانِ الْإِدْغَام وفكه قَوْله: (لبدت) ، بِكَسْر اللَّام الْمُوَحدَة من التلبيد، وَهُوَ أَن يَجْعَل الْمحرم فِي رَأسه شَيْئا من الصمغ ليجتمع الشّعْر، وَلِئَلَّا يَقع فِيهِ الْقمل. قَوْله: (وقلدت) من تَقْلِيد الْهَدْي، وَهُوَ تَعْلِيق شَيْء فِي عنق الْهَدْي من النعم ليعلم أَنه هدي، قَوْله: (حَتَّى أنحر) أَي: الْهَدْي.(9/201)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن من سَاق الْهَدْي لَا يتَحَلَّل من عمل الْعمرَة حَتَّى يهلَّ بِالْحَجِّ ويفرغ مِنْهُ. وَفِيه: أَنه لَا يحل حَتَّى ينْحَر هَدْيه، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد. وَفِيه: اسْتِحْبَاب التلبيد والتقليد. وَفِيه: دَلِيل أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ قَارنا لِأَن ثمَّة عمْرَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَمَا دخل التلبيد فِي الْإِحْلَال وَعَدَمه؟ ثمَّ أجَاب بقوله: الْغَرَض بَيَان: أَنِّي مستعد من أول الْأَمر بِأَن يَدُوم إحرامي إِلَى أَن يبلغ الْهَدْي مَحَله.
7651 - حدَّثنا آدمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أخبرَنا أبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ تَمَتَّعْتُ فنَهَانِي ناسٌ فسألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فأمرَنِي فرَأيْتُ فِي المَنامِ كأنَّ رجُلاً يَقُولْ لِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وعُمْرَةٌ مُتَقَبِّلَةٌ فأخبرْتُ ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سُنَّةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لي أقِمْ عِنْدِي فأجْعَلَ لَكَ سَهْما مِنْ مَالِي قَالَ شُعْبَةُ فقُلْتُ لِمَ فَقَالَ لِلرُّؤيَا الَّتِي رأيْتُ.
(الحَدِيث 7651 طرفه فِي: 8861) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمرنِي) ، أَي: ابْن عَبَّاس أَمرنِي بالتمتع.
وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَأَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وبالراء: اسْمه نصر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة: الضبعِي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر فِي: بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم عَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَأمرنِي) ، أَي: فَأمرنِي ابْن عَبَّاس بالتمتع، وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة فِي زمن عبد الله بن الزبير، وَكَانَ ينْهَى عَن التَّمَتُّع كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن الزبير عَنهُ، وَعَن جَابر، وَنقل ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن الزبير: أَنه كَانَ لَا يرى التَّمَتُّع إلاَّ للمحصر، وَوَافَقَهُ عَلْقَمَة وَإِبْرَاهِيم، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا اخْتِصَاص بذلك للمحصر. قَوْله: (حج مبرور) ارْتِفَاع حج على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا حج، ومبرور، صفته أَي: مَقْبُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَمُسلم من طَرِيق غنْدر (عَن شُعْبَة: فَأتيت ابْن عَبَّاس فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَأمرنِي بهَا ثمَّ انْطَلَقت إِلَى الْبَيْت فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ: عمْرَة متقبلة وَحج مبرور. قَالَ: فَأتيت ابْن عَبَّاس فَأَخْبَرته بِالَّذِي رَأَيْت، فَقَالَ: الله أكبر الله أكبر سنة أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَلَام إضافي مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، تَقْدِيره: هَذِه سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيجوز فِيهِ النصب على تَقْدِير: وَافَقت سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (فَقَالَ لي) أَي: قَالَ لي ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فأجعل لَك) أَي: فَأَنا أجعَل لَك، ويروى: وَأَجْعَل لَك، بِالْوَاو الَّتِي تدل على الْحَال، ويروى: اجْعَل، بِدُونِ الْفَاء وَالْوَاو. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: إجعل، بِالنّصب. قلت: وَجهه أَن يكون مَنْصُوبًا بِأَن الْمقدرَة أَي: بِأَن أجعَل لَك، وَيجوز الْجَزْم بِأَن يكون جَوَابا لِلْأَمْرِ، قَوْله: (سَهْما) ، أَي: نَصِيبا. قَوْله: (قَالَ شُعْبَة: فَقلت) ، يَعْنِي لأبي جَمْرَة. قَوْله: (لِمَ؟) اسْتِفْهَام عَن سَبَب ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: أَبُو جَمْرَة. قَوْله: (للرؤيا) أَي: لأجل الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة الَّتِي رَأَيْت، وَهُوَ بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَسَببه أَن الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة.
وَفِيه: مَا كَانُوا عَلَيْهِ من التعاون على الْبر وَالتَّقوى، وحمدهم لمن يفعل الْخَيْر، فخشي أَبُو جَمْرَة من تمتعه هبوط الْأجر وَنقص الثَّوَاب للْجمع بَينهمَا فِي سفر وَاحِد، وإحرام وَاحِد، وَكَانَ الَّذين أمروا بِالْإِفْرَادِ إِنَّمَا أَمرُوهُ بِفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَاصَّة نَفسه لينفرد الْحَج وَحده، ويخلص عمله من اشْتِرَاك فِيهِ، فَأرَاهُ الله الرُّؤْيَا ليعرفه أَن حجه مبرور وعمرته متقبلة، وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس: أقِم عِنْدِي ليقص على النَّاس هَذِه الرُّؤْيَا المبينة لحَال التَّمَتُّع. وَفِيه: دَلِيل الرُّؤْيَا الصادقة شاهدة على أُمُور الْيَقَظَة، وَكَيف لَا وَهُوَ جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة؟ وَفِيه: أَن الْعَالم يجوز لَهُ أَخذ الْأُجْرَة على الْعلم.
8651 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا أبُو شِهابٍ قَالَ قَدِمْتُ مُتَمَتِّعا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاثَةِ أيَّامٍ فَقَالَ لي أناسٌ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ تَصيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكّيَّةً فَدَخَلْتُ عَلَى عَطاءٍ أسْتَفْتِيهِ فَقَالَ حدَّثني جابرُ بنُ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّهُ حَجَّ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ ساقَ البُدْنَ معَهُ وقَدْ(9/202)
أهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدا فَقَالَ لَهُمْ أحِلُّوا منْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ البَيْتِ وبَيْنَ الصَّفا وَالمَرْوَةِ وقَصِّرُوا ثمَّ أقِيمُوا حَلالاً حَتَّى إذَا كانَ يَوْمَ الترْوِيةِ فأهِلُّوا بِالحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً فَقالُوا كَيْفَ نَجْعَلُها مُتْعَةً وقَدْ سَمَّيْنا الحَجَّ فَقَالَ افْعَلُوا مَا أمرْتُكُمْ فَلَوْلاَ أنِّي سُقْتُ الهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أمَرْتُكُمْ ولاكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدُيُ مَحِلَّهُ فَفَعَلُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وَأَبُو شهَاب الْأَكْبَر الحناط، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون، واسْمه مُوسَى بن نَافِع الْهُذلِيّ الْكُوفِي، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أبي نعيم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مُتَمَتِّعا) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي قدمت. قَوْله: (بِعُمْرَة) أَيْضا حَال، أَي: ملتبسا بِعُمْرَة. قَوْله: (مَكِّيَّة) أَي: قَليلَة الثَّوَاب لقلَّة مشقتها، وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ أَنَّك تنشيء حجك من مَكَّة كَمَا ينشيء أهل مَكَّة مِنْهَا، فيفوتك فضل الْإِحْرَام من الْمِيقَات وَقَوله: (حجتك مَكِّيَّة) ، هَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (حجا مكيا) . قَوْله: (على عَطاء) ، هُوَ عَطاء بن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ. قَوْله: (استفتيه) ، من الْأَحْوَال الْمقدرَة. قَوْله: (يَوْم سَاق الْبدن) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الدَّال وسكونها، جمع بَدَنَة، وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع. وَفِي رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ: (عَام سَاق الْهَدْي) . قَوْله: (وَقد أهلوا بِالْحَجِّ مُفردا) بِفَتْح الرَّاء وبكسرها، قَالَ الْكرْمَانِي: بِاعْتِبَار كل وَاحِد. قلت: لَا ضَرُورَة فِي كَونه حَالا من الْحَج، وَمَا قَالَه بالتأويل. قَوْله: (فَقَالَ لَهُم) أَي: قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أحلُّوا من إحرامكم بِالطّوافِ، أَي: اجعلوا حَجكُمْ عمْرَة وتحللوا مِنْهَا بِالطّوافِ وَالسَّعْي، أَو التَّقْدِير: اجعلوا إحرامكم عمْرَة ثمَّ أحلُّوا مِنْهُ بِالطّوافِ. قَوْله: (وَبَين الصَّفَا والمروة) أَي: وبالسعي بَين الصَّفَا والمروة، وَهَذَا معنى فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الحَدِيث أبين مَا فِي هَذِه من فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. قَوْله: (وَقصرُوا) أَمرهم بالتقصير لأَنهم يهلون بعد قَلِيل بِالْحَجِّ، وَأخر الْحلق لِأَن بَين دُخُولهمْ وَبَين يَوْم التَّرويَة أَرْبَعَة أَيَّام فَقَط. قَوْله: (حَلَالا) ، نصب على الْحَال بِمَعْنى: محلين. قَوْله: (وَاجْعَلُوا الَّتِي) أَي: الْحجَّة المفردة الَّتِي أهللتم بهَا (مُتْعَة) أَي: عمْرَة، وَأطلق على الْعمرَة: مُتْعَة، مجَازًا، والعلاقة بَينهمَا ظَاهِرَة. قَوْله: (وَلَكِن لَا يحل مني حرَام) ، بِكَسْر حاء يحل، وَالْمعْنَى: لَا يحل مني مَا حرم عَليّ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يحل مني حَرَامًا) ، بِالنّصب على المفعولية، لَكِن بِضَم الْيَاء فِي: لَا يحل، وفاعله مَحْذُوف، وَتَقْدِيره: لَا يحل طول الْمكْث، وَنَحْو ذَلِك مني شَيْئا حَرَامًا (حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله) وَهُوَ منى، فينحر فِيهِ.
قالَ أبُو عَبْدُ الله أبُو شِهَابٍ لَيْسَ لَهُ مُسْنَدٌ إلاَّ هاذَا
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، أَي لم يرو أَبُو شهَاب حَدِيثا مَرْفُوعا إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَقيل: المُرَاد لَيْسَ لَهُ مُسْند عَن عَطاء إلاَّ هَذَا لَا مُطلقًا. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) كَأَنَّهُ يَقُول: من كَانَ هَكَذَا لَا يَجْعَل حَدِيثه أصلا من أصُول الْعلم، وَهَذَا طرف من حَدِيث جَابر بن عبد الله الَّذِي رَوَاهُ مطولا جدا، وَلأبي بكر إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَلَيْهِ كتاب سَمَّاهُ: (التَّخْيِير) استنبط مِنْهُ مائَة نوع ونيفا وَخمسين نوعا من وُجُوه الْعلم، وَالْبُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكر جلّ حَدِيث جَابر الَّذِي انْفَرد بِهِ مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة. وَمن فَوَائِد هَذِه الْقطعَة الَّتِي سَاقهَا البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: التَّقْصِير للمعتمر ليتوفر السّفر للحلاق يَوْم النَّحْر.
9651 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ الأعْوَرُ عنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ عَن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ قَالَ اخْتَلَفَ عليٌّ وعثمانُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وهُمَا بِعُسْفَانَ فِي المُتْعَةِ فَقَالَ عَليٌّ مَا تُرِيدُ إلاَّ أنْ تَنْتَهي عَن أمْرٍ فَعلَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَلَمَّا رَى ذلِكَ عَلِيٌّ أهَلَّ بِهِما جَمِيعا.
(انْظُر الحَدِيث 3651) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
قَوْله: (وهم بعسفان) ، جملَة حَالية أَي: كائنان بعسفان، وَهُوَ بِضَم الْعين وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالفاء وَبعد الْألف نون: وَهِي قَرْيَة جَامِعَة بهَا مِنْبَر على سِتَّة وَثَلَاثِينَ ميلًا من مَكَّة، وَيُقَال: على(9/203)
قدر مرحلَتَيْنِ من مَكَّة قَوْله: (مَا نُرِيد إلاَّ أَن تنْهى) أَي: مَا تُرِيدُ إِرَادَة منتهية إِلَى النَّهْي، أَو ضمن الْإِرَادَة معنى الْميل. قَوْله: (فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا وَقعت صفة. لقَوْله: (عَن أَمر) . قَوْله: (أهل بهما) أَي: بِالْعُمْرَةِ وَالْحج، وَهَذَا هُوَ الْقرَان. فَإِن قلت: كَيفَ تَقول: هَذَا قرَان؟ وَالِاخْتِلَاف بَينهمَا كَانَ فِي التَّمَتُّع؟ قلت: من وُجُوه التَّمَتُّع أَن يتمتع الرجل بِالْعُمْرَةِ وَالْحج، وَهُوَ أَن يجمع بَينهمَا فيهل بهما جَمِيعًا فِي أشهر الْحَج أَو غَيرهَا، يَقُول: لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا، وَهَذَا هُوَ الْقرَان، وَإِنَّمَا جعل القِران من بَاب التَّمَتُّع لِأَن الْقَارِن يتمتع بترك النصب فِي السّفر إِلَى الْعمرَة مرّة، وَإِلَى الْحَج أُخْرَى، ويتمتع بجمعهما، وَلم يحرم لكل وَاحِد من مِيقَاته، وَضم الْحَج إِلَى الْعمرَة، فَدخل تَحت قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) .
53 - (بابُ مَنْ لَبَّى بالْحَجِّ وسَمَّاهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من قَالَ: لبيْك بِالْحَجِّ، وَسَماهُ أَي: عينه.
0751 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ قالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدا يَقُول حَدثنَا جابِرُ بنُ عَبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونَحْنُ نَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بالحَجِّ فأمرَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَعَلْنَاها عُمْرَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك بِالْحَجِّ) فَإِنَّهُ لبّى وَسَماهُ أَي: عينه بقوله: بِالْحَجِّ، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن التَّعْيِين أفضل وَأَن يُسَمِّيه فِي تلبيته سَوَاء كَانَ مُفردا أَو مُتَمَتِّعا أَو قَارنا. وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ. والْحَدِيث أخرجه مُسلم رَحمَه الله تَعَالَى عَن خلف بن هِشَام وَأبي الرّبيع وقتيبة عَن حَمَّاد بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَيُؤْخَذ مِنْهُ فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَقد ذكرنَا أَنه مَنْسُوخ عِنْد الْجُمْهُور.
63 - (بابُ التَّمَتُّعِ عَلَى عهد النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من تمتّع فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب التَّمَتُّع، فَقَط، وَفِي رِوَايَة بَعضهم لفظ: بَاب مُجَرّد بِغَيْر ذكر تَرْجَمَة، وَكَذَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ وَرِوَايَة أبي ذَر أولى.
1751 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حدَّثني مُطَرِّفٌ عَن عِمْرَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنزَلَ القُرْآنُ قَالَ رَجُلٌ بِرَأيِهِ مَا شاءَ.
(الحَدِيث 1751 طرفه فِي: 8154) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: همام بن يحيى بن دِينَار العوذي. الثَّالِث: قَتَادَة بن دعامة. الرَّابِع: مطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالفاء ابْن الشخير. الْخَامِس: عمرَان بن الْحصين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الصَّمد ابْن عبد الْوَارِث عَن همام قَتَادَة عَن مطرف، (عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم ينزل فِيهِ الْقُرْآن: قَالَ رجل بِرَأْيهِ مَا شَاءَ) . وَفِي لفظ لَهُ: (وَلم تنزل آيَة تنسخ ذَلِك) ، وَفِي لفظ: (وَلم ينزل فِيهِ قُرْآن يحرمه) ، وَفِي لفظ: (ثمَّ لم ينزل فِيهَا كتاب الله وَلم ينْه عَنْهَا نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي لفظ: (ثمَّ لم تنزل آيَة تنسخ آيَة مُتْعَة الْحَج) .
قَوْله: (فَنزل الْقُرْآن) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} (الْبَقَرَة: 691) . الْآيَة، وَلم تنزل بعد هَذِه الْآيَة آيَة تنسخ هَذِه الْآيَة، وألفاظ مُسلم كلهَا تخبر(9/204)
بذلك. قَوْله: (قَالَ رجل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: ظَاهر سِيَاق هَذَا الْكَلَام يقْضِي أَن يكون المُرَاد بِهِ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَأَنَّهُ يُرِيد عُثْمَان، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون أَبَا بكر أَو عمر أَو عُثْمَان، وَفِيه تَأمل، لَا يخفى. وَقَالَ النَّوَوِيّ والقرطبي: يَعْنِي عمر بن الْخطاب، وَحكى الْحميدِي أَنه وَقع فِي البُخَارِيّ فِي رِوَايَة أبي رَجَاء عَن عمرَان، قَالَ البُخَارِيّ: يُقَال: إِنَّه عمر، أَي الرجل الَّذِي عناه عمرَان بن حُصَيْن قيل: الأولى أَن يُفَسر بهَا عمر، فَإِنَّهُ أول من نهى عَنْهَا، وَأما من نهي بعده فِي ذَلِك فَهُوَ تَابع لَهُ. وَقَالَ عِيَاض. وَغَيره جازمين بِأَن الْمُتْعَة الَّتِي نهى عَنْهَا عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، هِيَ فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، لَا الْعمرَة الَّتِي يحجّ بعْدهَا. قلت: يرد عَلَيْهِم مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم فِي بعض طرقه التَّصْرِيح بِكَوْنِهَا مُتْعَة الْحَج، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِي رِوَايَة لَهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعمر بعض أَهله فِي الْعشْر، وَفِي رِوَايَة لَهُ: جمع بَين حج وَعمرَة، وَمرَاده التَّمَتُّع الْمَذْكُور، وَهُوَ الْجمع بَينهمَا فِي عَام وَاحِد.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وُقُوع الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام بَين الصَّحَابَة، وإنكار بعض الْمُجْتَهدين على بعض بِالنَّصِّ.
73 - (بابُ تَفْسِيرِ قَوْلِ الله تعَالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الْحَرَامُ} (الْبَقَرَة: 691) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل: {ذَلِك لمن لم يكن. .} (الْبَقَرَة: 691) . إِلَى آخِره. قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى التَّمَتُّع لِأَنَّهُ سيق فِيهَا، وَهُوَ قَوْله: {فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام، وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} (الْبَقَرَة: 691) . قَوْله: {فَإِذا أمنتم} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: إِذا تمكنتم من أَدَاء الْمَنَاسِك، فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ أَي: فَمن كَانَ مِنْكُم مُتَمَتِّعا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، وَهُوَ يَشْمَل من أحرم بهما أَو أحرم بِالْعُمْرَةِ أَولا، فَلَمَّا فرغ مِنْهَا أحرم بِالْحَجِّ، وَهَذَا هوالتمتع الْخَاص. والتمتع الْعَام يَشْمَل الْقسمَيْنِ. قَوْله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: فَعَلَيهِ مَا قدر عَلَيْهِ من الْهَدْي يذبحه، وَأقله شَاة. قَوْله: {فَمن لم يجد} أَي: هَديا: {فَعَلَيهِ صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج} أَي: فِي أَيَّام الْمَنَاسِك. قَوْله: {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} أَي: وَعَلِيهِ صِيَام سَبْعَة أَيَّام إِذا رجعتم إِلَى أوطانكم وَقيل: إِذا فَرَغْتُمْ عَن مَنَاسِككُم. قَوْله: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} تَأْكِيد، كَمَا تَقول: رَأَيْت بعيني وَسمعت بأذني وكتبت بيَدي. قَوْله: {ذَلِك} أَي: التَّمَتُّع {لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} وَأَصله: حاضرين، فَلَمَّا أضيف إِلَى الْمَسْجِد سَقَطت النُّون للإضافة، وَسَقَطت الْيَاء فِي الْوَصْل لسكونها وَسُكُون اللَّام فِي الْمَسْجِد.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي: {حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} من هم؟ فَذهب طَاوُوس وَمُجاهد إِلَى أَنهم أهل الْحرم، وَبِه قَالَ دَاوُد، وَقَالَت طَائِفَة: من أهل مَكَّة بِعَينهَا، رُوِيَ هَذَا عَن نَافِع وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، وَهُوَ قَول مَالك: هم أهل مَكَّة ذِي طوى وَشبههَا، وَأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل: قديد وَمر الظهْرَان، وَعُسْفَان فَعَلَيْهِم الدَّم. وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى: أَنهم أهل الْمَوَاقِيت، فَمن دونهم إِلَى مَكَّة، وَهُوَ قَول عَطاء وَمَكْحُول، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بالعراق، وَقَالَ الشَّافِعِي أَيْضا، وَأحمد: من كَانَ من الْحرم على مَسَافَة لَا تقصر فِي مثلهَا الصَّلَاة فَهُوَ من حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك وَدَاوُد: أَن الْمَكِّيّ لَا يكره لَهُ التَّمَتُّع وَلَا الْقرَان، وَإِن تمتّع لم يلْزمه دم وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يكره لَهُ التَّمَتُّع وَالْقرَان، فَإِن تمتّع أَو قرن فَعَلَيهِ دم جبرا، وهما فِي حق الأفقي مستحبان، وَيلْزمهُ الدَّم شكرا.
وَقَالَ أبُو كامِلٍ فُضَيْلُ بنُ حُسَيْنٍ البَصْرِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو مَعْشَرٍ حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ غِياثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَالَ أهَلَّ المُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأزْوَاجُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَأهْلَلْنَا فلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلُوا إهْلاَلَكُمْ بالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ. طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبالصَّفَا وَالمَرْوَةِ ونَسَكْنَا مَناسِكَ وأتَيْنَا النِّسَاءَ ولَبِسْنَا الثِّيَابَ وقَالَ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فإنَّهُ لاَ يَحِلُ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ ثُمَّ أمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أنْ نُهِلَّ(9/205)
بِالحَجِّ فَإذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} (الْبَقَرَة: 691) . إلَى أمْصَارِكُمْالشَّاةُ تَجْزِي فَجَمَعُوا نُسْكَيْنِ فِي عامٍ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ فإنَّ الله تَعَالَى أنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وسَنَّهُ نبِيُّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيرَ أهْلِ مَكَّةَ قَالَ الله ذالِكَ لِمَنْ لَم يَكُنْ أهْلُهِ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ. وأشْهُرِ الحَجِّ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى شَوَّالٌ وذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ فَمَنْ تمَتَّعَ فِي هاذِهِ الأشْهُرِ فعَلَيْهِ دَمٌ أوْ صَوْمٌ والرَّفْثُ الجِمَاعُ والْفُسوقُ والمَعَاصِي والْجِدَالُ المِرَاءُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَالَ: حَدثنَا الْقَاسِم الْمُطَرز حَدثنَا أَحْمد بن سِنَان حَدثنَا أَبُو كَامِل فَذكره بِطُولِهِ، لكنه قَالَ: عُثْمَان بن سعد، بدل عُثْمَان بن غياث، وَكِلَاهُمَا بصريان لَهما رِوَايَة عَن عِكْرِمَة، لَكِن عُثْمَان بن غياث ثِقَة، وَعُثْمَان بن سعد ضَعِيف.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: أَبُو كَامِل فُضَيْل بن حُسَيْن الجحدري، مَاتَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو معشر، بِفَتْح الْمِيم: واسْمه يُوسُف بن يزِيد الْبَراء، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء، وَكَانَ يبري الْعود، الْعَطَّار أَيْضا الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عُثْمَان بن غياث، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف ثاء مُثَلّثَة: الرَّاسِبِي، بِالْبَاء الْمُوَحدَة: الْبَاهِلِيّ. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حجَّة الْوَدَاع) ، بِفَتْح الْحَاء وَالْوَاو وكسرهما. قَوْله: (فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة) ، أَي: فَلَمَّا قربنا من مَكَّة، لِأَن ذَلِك كَانَ بسرف. قَوْله: (اجعلوا) ، خطاب لمن كَانَ أهلَّ بِالْحَجِّ مُفردا لأَنهم كَانُوا ثَلَاث فرق. قَوْله: (طفنا) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فطفنا) ، بِالْفَاءِ العاطفة، قَالَ بَعضهم: هُوَ الْوَجْه. قلت: كِلَاهُمَا موجه. أما الرِّوَايَة بِالْفَاءِ فظاهرة، وَأما الرِّوَايَة الْمُجَرَّدَة عَنْهَا فوجهها أَنه اسْتِئْنَاف، وَيجوز أَن يكون جَوَاب. (فَلَمَّا قدمنَا) . قَوْله: (وَقَالَ) ، جملَة حَالية، و: قد، مقدرَة فِيهَا لِأَن الْجُمْلَة الفعلية إِذا كَانَ فعلهَا مَاضِيا وَوَقعت حَالا فَلَا بُد أَن يكون فِيهَا كلمة: قد، إِمَّا ظَاهِرَة أَو مقدرَة. قَوْله: (ونسكنا الْمَنَاسِك) أَي: من الْوُقُوف وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة وَغير ذَلِك. قَوْله: (وأتينا النِّسَاء) ، وَابْن عَبَّاس غير دَاخل فِيهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لم يكن مدْركا، وَإِنَّمَا هُوَ يَحْكِي ذَلِك عَنْهُم. قَوْله: (ثمَّ أمرنَا) ، بِفَتْح الرَّاء أَي: ثمَّ أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَشِيَّة التَّرويَة) أَي: بعد الظّهْر ثامن ذيي الْحجَّة. قَوْله: (فَإِذا فَرغْنَا من الْمَنَاسِك) أَي: الْوُقُوف بِعَرَفَة وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة وَرمي يَوْم الْعِيد وَالْحلق. قَوْله: (فقد تمّ حجنا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، وَقد تمّ بِالْوَاو، وَمن هَهُنَا إِلَى آخر الحَدِيث مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس، وَمن أَوله إِلَى هُنَا مَرْفُوع. قَوْله: (كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) .) قد فسرناه عَن قريب. قَوْله: (إِذا رجعتم إِلَى أمصاركم) تَفْسِير من ابْن عَبَّاس بِمَعْنى: الرُّجُوع. قَوْله: (الشَّاة تجزي) تَفْسِير من ابْن عَبَّاس، و: تجزي، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: تَكْفِي لدم التَّمَتُّع. فَإِن قلت: مَا وَقعت هَذِه الْجُمْلَة أَعنِي: (الشَّاة تجزي) . قلت: جملَة حَالية وَقعت حَالا بِلَا وَاو وَهُوَ جَائِز كَمَا فِي قَوْلك: كَلمته فوه إِلَى فِي. قَوْله: (بَين نسكين) وهما: الْحَج وَالْعمْرَة. قَوْله: (بَين الْحَج وَالْعمْرَة) فَائِدَة ذكرهمَا الْبَيَان والتأكيد لِأَنَّهُمَا نفس النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ بِإِسْكَان السِّين. قَالَ الْجَوْهَرِي: النّسك، بالإسكان الْعِبَادَة، وبالضم الذَّبِيحَة. قَوْله: (فَإِن الله أنزلهُ) أَي: أنزل الْجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة أخذا من قَوْله: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} (الْبَقَرَة: 691) . قَوْله: (وسنَّهُ) أَي: شرَّعه نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أَمر بِهِ أَصْحَابه. قَوْله: (وأباجه) أَي: وأباح التَّمَتُّع للنَّاس غير أهل مَكَّة وَيجوز فِي غير النصب والجر، أما النصب فعلى الِاسْتِثْنَاء، وَأما الْجَرّ فعلى أَنه صفة للنَّاس. وَقَالَ بَعضهم بِنصب: غير، وَيجوز كَسره. قلت: الْكسر لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي الْمَبْنِيّ، وَفِي المعرب لَا يسْتَعْمل إلاَّ بِالْجَرِّ. قَوْله: (ذَلِك) أَي: التَّمَتُّع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا دَلِيل للحنفية فِي أَن لفظ ذَلِك للتمتع لَا لحكمه، ثمَّ أجَاب بقوله: قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الشَّافِعِي، إِذْ الْمُجْتَهد لَا يجوز لَهُ تَقْلِيد الْمُجْتَهد؟ قلت: هَذَا جَوَاب واهٍ مَعَ إساءة الْأَدَب، لَيْت شعري مَا وَجه هَذَا القَوْل الَّذِي يأباه الْعقل؟ فَإِن مثل ابْن عَبَّاس كَيفَ لَا يحْتَج بقوله؟(9/206)
وَأي مُجْتَهد بعد الصَّحَابَة يلْحق ابْن عَبَّاس أَو يقرب مِنْهُ حَتَّى لَا يقلده؟ فَإِن هَذَا عسف عَظِيم. قَوْله: (الَّتِي ذكر الله تَعَالَى) أَي: فِي الْآيَة الَّتِي بعْدهَا آيَة التَّمَتُّع، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) . قَوْله: (فِي هَذِه الْأَشْهر) وَفَائِدَة هَذَا التَّقْيِيد هُوَ التَّنْبِيه على أَن التَّمَتُّع الَّذِي يُوجب الدَّم أَو الصَّوْم الَّذِي فِي أشهر الْحَج. قَوْله: (شَوَّال) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة. قَوْله: (والرفث) إِلَى آخِره، قد مر بَيَانه مستقصىً. قَوْله: (والفسوق) ، الْمعاصِي فِيهِ إِشْعَار أَن الفسوق جمع فسق لَا مصدر، وَتَفْسِير الْأَشْهر، وَسَائِر الْأَلْفَاظ زِيَادَة للفوائد بِاعْتِبَار أدنى مُلَابسَة بَين الْآيَتَيْنِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة التَّمَتُّع، وَأَن الْمُتَمَتّع على قسمَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون سائق الْهَدْي، فَلَا يتَحَلَّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، وَالْآخر: غير سائق الْهَدْي، فَإِنَّهُ يتَحَلَّل إِذا فرغ عَن عمرته، ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ. وَفِيه: أَن الْمَكِّيّ لَا تمتّع عَلَيْهِ، وَعند الْجُمْهُور: التَّمَتُّع أَن يجمع الشَّخْص بَين الْعمرَة وَالْحج فِي سفر وَاحِد فِي أشهر الْحَج فِي عَام وَاحِد، وَأَن يقدم الْعمرَة، وَأَن لَا يكون مكيا، فَمَتَى اخْتَلَّ شَرط من هَذِه الشُّرُوط لم يكن مُتَمَتِّعا. وَفِيه: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج لمن لَا يجد الْهَدْي، وَالْأَفْضَل عِنْد أبي حنيفَة أَن يَصُوم السَّابِع وَالثَّامِن وَالتَّاسِع من ذِي الْحجَّة، رَجَاء أَن يقدر على الْهَدْي الَّذِي هُوَ الأَصْل، وَالْمُسْتَحب فِي السَّبْعَة أَن يكون صَومهَا بعد رُجُوعه إِلَى أَهله، إِذْ جَوَاز ذَلِك مجمع عَلَيْهِ، وَيجوز إِذا رَجَعَ إِلَى مَكَّة بعد أَيَّام التَّشْرِيق فِي مَكَّة، وَفِي الطَّرِيق، وَهُوَ محكي عَن مُجَاهِد وَعَطَاء، وَهُوَ قَول مَالك، وَجوزهُ أَيْضا فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَعَائِشَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ، وَلم يجوزه عَليّ بن أبي طَالب للنَّهْي عَن ذَلِك. وَقَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس، وَقَالَ إِسْحَاق: يصومها فِي الطَّرِيق، وَللشَّافِعِيّ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَصَحهَا: عَنهُ رُجُوعه إِلَى أَهله. الثَّانِي: الرُّجُوع هُوَ التَّوَجُّه من مَكَّة. الثَّالِث: الرُّجُوع من منى إِلَى مَكَّة. الرَّابِع: الْفَرَاغ من أَفعَال الْحَج، فَإِن فَاتَهُ صَوْم الثَّلَاثَة حَتَّى أَتَى يَوْم النَّحْر لم يجزه عِنْد أبي حنيفَة إلاَّ الدَّم. رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس وَمُجاهد وَالْحسن وَعَطَاء، وَجوز صَومهَا بعد أَيَّام التَّشْرِيق حَمَّاد وَالثَّوْري، وَللشَّافِعِيّ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: لَا يَصُوم وينتقل إِلَى الْهَدْي. الثَّانِي: عَلَيْهِ صَوْم عشرَة أَيَّام يفرق بِيَوْم. الثَّالِث: عشرَة أَيَّام مُطلقًا. الرَّابِع: يفرق بأَرْبعَة أَيَّام فَقَط. الْخَامِس: يفرق بِمدَّة إِمْكَان السّير. السَّادِس: بأَرْبعَة أَيَّام، وَمُدَّة إِمْكَان السّير، وَهُوَ أَصَحهَا عِنْدهم، وَخرج ابْن شُرَيْح وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي قولا: أَن الصَّوْم يسْقط ويستقر فِي ذمَّته. وَالله أعلم.
83 - بابُ الإغْتِسالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب الِاغْتِسَال عِنْد دُخُول مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى.
3751 - حدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ قَالَ أخْبَرَنا أيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كانَ بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا دَخَلَ أدْنَى الْحَرَمُ أمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبيتُ بذِي طِوىً ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ ويَغْتَسِلُ ويُحَدِّثُ أنَّ نبيَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَفْعَلُ ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويغتسل بِذِي طوى لدُخُول مَكَّة) . وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بأتم مِنْهُ مُعَلّقا فِي: بَاب الإهلال مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً. وَابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
قَوْله: (أدنى الْحرم) أَي: أول مَوضِع مِنْهُ. قَوْله: (أمسك عَن التَّلْبِيَة) ، أَي: يَتْرُكهَا، وَالظَّاهِر أَن هَذَا كَانَ مذْهبه، وإلاَّ فالإمساك عَنْهَا فِي يَوْم الْعِيد أَو كَانَ يستأنفها، ذَلِك أَو كَانَ تَركهَا لسَبَب من الْأَسْبَاب. قَوْله: (ويغتسل) أَي: يغْتَسل بِذِي طوى. قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى مَا فعله من الْإِمْسَاك عَن التَّلْبِيَة إِذا دخل أدنى الْحرم والبيتوتة بِذِي طوى والاغتسال فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الِاغْتِسَال لدُخُول مَكَّة مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي تَركه عَامِدًا عِنْدهم فديَة. وَقَالَ أَكْثَرهم: الْوضُوء يجزىء فِيهِ. وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتَوَضَّأ أَحْيَانًا ويغتسل أَحْيَانًا. وروى ابْن نَافِع عَن مَالك. أَنه اسْتحبَّ الْأَخْذ بقول ابْن عمر: يتَوَضَّأ أَحْيَانًا ويغتسل أَحْيَانًا للإهلال بِذِي الحليفة وبذى طوى لدُخُول(9/207)
مَكَّة وَعند الرواح إِلَى عَرَفَة. قَالَ: وَلَو تَركه تَارِك من عذر لم أر شَيْئا. وأوجبه أهل الظَّاهِر فرضا على من يُرِيد الْإِحْرَام، وَالْأمة على خلافهم، وَرُوِيَ عَن الْحسن أَنه إِذا نسي الْغسْل للْإِحْرَام يغْتَسل إِذا ذكر، وَاخْتلف فِيهِ عَن عَطاء، فَقَالَ مرّة: يَكْفِي مِنْهُ الْوضُوء، وَقَالَ مرّة غير ذَاك، وَالْغسْل لدُخُول مَكَّة لَيْسَ لكَونهَا محرما، وَإِنَّمَا هُوَ لحُرْمَة مَكَّة حَتَّى يسْتَحبّ لمن كَانَ حَلَالا أَيْضا، وَقد اغْتسل لَهَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام الْفَتْح وَكَانَ حَلَالا، أَفَادَ ذَلِك الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي (الْأُم) . فَإِن قلت: لِمَ أمسك ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن التَّلْبِيَة من أول الْحرم وَكَانَ محرما بِالْحَجِّ. قلت: تَأَول أَنه قد بلغ إِلَى الْموضع الَّذِي دعى إِلَيْهِ، وَرَأى أَن يكبر الله ويعظمه ويسبحه إِذا سقط عَنهُ معنى التَّلْبِيَة بِالْبُلُوغِ، وَكره مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، التَّلْبِيَة حول الْبَيْت. وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: مَا رَأَيْت أحدا يَقْتَدِي بِهِ يُلَبِّي حول الْبَيْت إلاَّ عَطاء بن السَّائِب، وَرُوِيَ عَن سَالم أَنه كَانَ يُلَبِّي فِي طَوَافه، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأحمد وَإِسْحَاق، وكل وَاسع. وَقَالَ ابْن حبيب: إِذا اغْتسل الْمحرم لدخولها يغسل جسده دون رَأسه، وَحكى مُحَمَّد عَن مَالك أَن الْمحرم لَا يتدلك فِي غسل دُخُول مَكَّة وَلَا الْوُقُوف بِعَرَفَة، ولايغسل رَأسه إلاَّ بِالْمَاءِ وَحده يصبهُ صبا وَلَا يغيب رَأسه فِي المَاء.
93 - (بابُ دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارا أوْ لَيْلاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة دُخُول مَكَّة فِي النَّهَار أَو فِي اللَّيْل.
باتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي طوى حَتَّى أصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ
هَذَا متن حَدِيث ابْن عمر، يذكرهُ الْآن، وَقد ترك سَنَده أَولا ثمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ، وَهُوَ قَوْله.
4751 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى اعن عُبَيْدِ الله قَالَ حَدثنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ باتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذي طُوىً حتَّى أصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ.
يحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب الإهلال مُسْتَقْبل الْقبْلَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا صَرِيح فِي أَنه دخل نَهَارا، وَذكر فِي التَّرْجَمَة أَنه دخل لَيْلًا أَيْضا؟ قلت: كلمة: ثمَّ، للتراخي فَهُوَ أَعم من أَن يدخلهَا نَهَار تِلْكَ اللَّيْلَة أَو ليلته الَّتِي بعْدهَا. قلت: هَذَا لَا يروي الغليل وَلَا يشفي العليل، لِأَن دُخُوله، مَكَّة لَيْلًا لم يعلم إلاَّ عمْرَة الْجِعِرَّانَة، وَهُوَ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أحرم مِنْهَا وَدخل مَكَّة لَيْلًا، فَقضى أَمر الْعمرَة ثمَّ رَجَعَ لَيْلًا، فَأصْبح بالجعرانة كبائت. وَقَالَ النَّسَائِيّ: دُخُول مَكَّة لَيْلًا: أَخْبرنِي عمرَان بن يزِيد الدِّمَشْقِي عَن شُعَيْب يَعْنِي ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنَا ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي مُزَاحم بن أبي مُزَاحم عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن محرش الكعبي أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج لَيْلًا من الْجِعِرَّانَة حَتَّى أَمْسَى مُعْتَمِرًا فَأصْبح بالجعرانة كبائت، حَتَّى إِذا زَالَت الشَّمْس خرج عَن الْجِعِرَّانَة فِي بطن سرف حَتَّى جَامع الطَّرِيق، طَرِيق الْمَدِينَة من سرف، وَلما ورد فِي الحَدِيث الدُّخُول نَهَارا وليلاً جَمِيعًا، ذكرهمَا فِي التَّرْجَمَة، وَذكر حَدِيث الدُّخُول نَهَارا لكَونه على شَرطه، وَسكت عَن حَدِيث الدُّخُول لَيْلًا لعدم كَونه على شَرطه، وَنبهَ بِذكرِهِ لَيْلًا على ذَلِك، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن ذكر، لَيْلًا، وَقع مِنْهُ اتِّفَاقًا لَا قصدا.
04 - (بابُ مِنْ أيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ جَوَاب من يسْأَل وَيَقُول: من أَيْن يدْخل الْمحرم مَكَّة؟ وَكلمَة: أَيْن، للاستفهام عَن الْمَكَان. فَإِن قلت: أَيْن زيد؟ مَعْنَاهُ: فِي الدَّار، أَو: فِي السُّوق؟
5751 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرُ قَالَ حدَّثني مَعْنٌ قَالَ حَدثنِي مالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا ويَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.
(الحَدِيث 5751 طرفه فِي: 6751) .(9/208)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه جَوَاب للسؤال الَّذِي فِيهَا.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة، وَالْكل قد ذكرُوا، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ من أَفْرَاده، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: ابْن عِيسَى بن يحيى أَبُو يحيى الْقَزاز، بِالْقَافِ وَتَشْديد الزَّاي الأولى: الْمدنِي.
قَوْله: (من الثَّنية الْعليا) يَعْنِي: يدْخل مَكَّة من الثَّنية الْعليا الَّتِي ينزل مِنْهَا إِلَى الْمُعَلَّى، مَقْبرَة أهل مَكَّة، يُقَال لَهَا: كداء، بِالْفَتْح وَالْمدّ، وَيخرج من الثَّنية السُّفْلى وَهِي الَّتِي أَسْفَل مَكَّة عِنْد بَاب شبيكة، يُقَال لَهَا: كدى، بِضَم الْكَاف مَقْصُور، بِقرب شعب الشاميين وَشعب ابْن الزبير عِنْد قعيقعان. وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: كدى الَّتِي دخل مِنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ الْعقبَة الصُّغْرَى الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّة الَّتِي يهْبط مِنْهَا على الأبطح، والمقبرة مِنْهَا على يسارك، وَكَذَا الَّتِي خرج مِنْهَا هِيَ الْعقبَة الْوُسْطَى الَّتِي بِأَسْفَل مَكَّة، وَعند أبي ذَر: الْقصر فِي الأول مَعَ الضَّم، وَفِي الثَّانِي: الْفَتْح مَعَ الْمَدّ، عَن عُرْوَة، من حَدِيث عبد الْوَهَّاب: أَكثر مَا يدْخل من كدى، مضموم مَقْصُور للأصيلي والحموي وَأبي الْهَيْثَم، ومفتوح مَقْصُور للقابسي وَالْمُسْتَمْلِي، وَمن حَدِيث أبي مُوسَى: دخل من كدى، مَقْصُور مضموم، وَعند مُحَمَّد دخل من كدى، وَخرج من كدى، كَذَا لكافتهم، وللمستملي عكس ذَلِك، وَهُوَ أشهر. وَعند مُسلم دخل يَوْم الْفَتْح من كداء من أَعْلَاهَا، بِالْمدِّ للرواة إلاَّ السَّمرقَنْدِي، فَعنده: كدى، بِالضَّمِّ وَالْقصر، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ اخْتلف فِي ضبط هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ والإكثر مِنْهُم على أَن الْعليا بِالْفَتْح وَالْمدّ والسفلى بِالضَّمِّ وَالْقصر وَقيل بِالْعَكْسِ، وَالْحكمَة فِي الدُّخُول من الْعليا وَالْخُرُوج من السُّفْلى أَن نِدَاء أَبينَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ من جِهَة الْعُلُوّ، وَأَيْضًا فالعلو تناسب للمكان العالي الَّذِي قَصده، والسفلى تناسب لمكانه الَّذِي يذهب إِلَيْهِ. وَقيل: ءن من جَاءَ من هَذِه الْجِهَة كَانَ مُسْتَقْبلا للبيت، وَقيل: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانَ خرج مختفيا من الْعليا أَرَادَ أَن يدخلهَا ظَاهرا، وَقيل: ليتبرك بِهِ كل من فِي طَرِيقَته وَيَدْعُو لَهُم، وَقيل: ليغيظ الْمُنَافِقين بِظُهُور الدّين وَعز الْإِسْلَام، وَقيل: ليري السعَة فِي ذَلِك. وَقيل: فعله تفاؤلاً بِتَغَيُّر الْأَحْوَال إِلَى أكمل مِنْهُ، كَمَا فعل فِي الْعِيد، وليشهد لَهُ الطريقان.
14 - (بابٌ منْ أيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ جَوَاب من يسْأَل وَيَقُول: من أَيْن يخرج الْخَارِج من مَكَّة؟
6751 - حدَّثني مُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَدٍ البَصْرِيُّ قَالَ حَدثنَا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كدَاءٍ مِنَ الثَنِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي بِالبَطْحَاءِ وخَرَجَ مِنَ الثَّنْيَةِ السُّفْلَى.
(انْظُر الحَدِيث 5751) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم ابْن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل ومسدد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ.
قَوْله: (من كداء) ، بِفَتْح الْكَاف وَالْمدّ. قَوْله: (وَخرج من الثَّنية) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وكل عقبَة فِي جبل أَو طَرِيق عَال فِيهِ تسمى ثنية.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله كانَ يُقالُ هُوَ مُسَدَّدٌ كاسْمِهِ قالَ أبُو عَبْدِ الله سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ يقولُ سَمعْتُ يَحْيى بنَ سَعِيدٍ يقُولُ لَوْ أنَّ مُسَدَّدا أتيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فحَدَّثْتُهُ لاَسْتَحَقَّ ذالِكَ ومَا أبَالِي كُتُبِي كانَتُ عِنْدِي أوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِكَلَامِهِ هَذَا إِلَى الْمُبَالغَة فِي تَوْثِيق مُسَدّد بن مسرهد حَيْثُ قَالَ: هُوَ مُسَدّد أَي: مُحكم من التسديد، وَهُوَ الإحكام، وَمِنْه السداد وَهُوَ الْقَصْد فِي الْأَمر وَالْعدْل فِيهِ، والسداد الاسْتقَامَة أَيْضا، وَمِنْه المسدد، وَهُوَ لَازم الطَّرِيق المستقيمة، واشتقاق السد أَيْضا مِنْهُ لِأَنَّهُ الْبناء الْمُحكم الْقوي، وَلم يكتف بتوثيقه إِيَّاه بِنَفسِهِ حَتَّى نقل عَن يحيى بن معِين(9/209)
الإِمَام فِي بَاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل حَيْثُ نقل عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان، إِنَّه قَالَ: لَو أَن مُسَددًا ... إِلَى آخِره، وَهَذَا مِنْهُ غَايَة فِي التَّعْدِيل وَنِهَايَة فِي التوثيق.
8751 - حدَّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ المَرْوَزِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ قالَ حدَّثنا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ عامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءِ وخَرَجَ منْ كُدا مِنْ أعْلَى مَكَّةَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة، وَلَكِن أَبَا أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة قلب فِي رِوَايَته حَيْثُ ذكر أَن دُخُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ من كداء، بِالْفَتْح وَالْمدّ، وَأَنه خرج من كدى، بِالضَّمِّ وَالْقصر، فَجعل كدى الَّذِي هُوَ بِالضَّمِّ وَالْقصر من أَعلَى مَكَّة، وكذاء الَّذِي بِالْفَتْح وَالْمدّ من أَسْفَل مَكَّة، وَالصَّوَاب مَا رَوَاهُ غَيره بِالْعَكْسِ. وَقد روى أَحْمد أَن أَبَا أُسَامَة رَوَاهُ على الصَّوَاب، فَهَذَا يدل على أَن الْقلب مِمَّن دون أبي أُسَامَة.
9751 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخْبَرَنَا عَمْرٌ وعنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ عامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أعْلَى مَكَّةَ قالَ هِشَامٌ وكانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلى كِلْتَيْهِمَا مِنْ كدَاءٍ وَكُدا وأكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كدَاءٍ وكانَتْ أقْرَبَهُمَا إلَى مَنْزِلِهِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن أَحْمد. قيل: هُوَ أَحْمد بن عِيسَى التسترِي. وَقَالَ ابْن مَنْدَه: كل مَا قَالَ البُخَارِيّ: أَحْمد عَن ابْن وهب، وَهُوَ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن عَمْرو بن الْحَارِث الْمصْرِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد.
قَوْله: (قَالَ هِشَام) ، هُوَ ابْن عُرْوَة، قَالَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (وَكَانَ عُرْوَة يدْخل على كلتيهما) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الثَّنية الْعليا والثنية السُّفْلى، وَبَين كلتيهما بقوله: (من كدا، وكدى) وَفِي الْأصيلِيّ: كليهمَا وَالصَّوَاب: كلتيهما، وَقَالَ ابْن التِّين فِي الْأُمَّهَات: كلتاهما. قَوْله: (وَأكْثر مَا يدْخل) أَي: عُرْوَة: (من كداء) بِالْفَتْح وَالْمدّ لِأَنَّهَا كَانَت أقرب إِلَى منزله. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ هِشَام: أَكثر مَا كَانَ أبي يدْخل من كدىً بِالضَّمِّ، كَذَا روينَاهُ، وَرَوَاهُ غَيْرِي بِالْمدِّ وَالْفَتْح، وَفِي قَول هِشَام: وَكَانَت أقربهما إِلَى منزله، اعتذار لِأَبِيهِ عُرْوَة، لِأَنَّهُ روى الحَدِيث وَخَالفهُ، لِأَنَّهُ رأى أَن ذَلِك لَيْسَ بِلَازِم حتم، وَكَانَ رُبمَا فعله، وَكَثِيرًا مَا يفعل غَيره لقصد التَّيْسِير.
0851 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا حَاتِمٌ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ قالَ دَخَلَ(9/210)
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ منْ أَعلَى مَكَّةَ أكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءِ وَكانَ أقْرَبَهُمَا إلَى مَنْزِلِهِ..
هَذَا مَوْقُوف على عُرْوَة، وَقد اخْتلف على هِشَام بن عُرْوَة فِي وصل هَذَا الحَدِيث وإرساله، وَذكر البُخَارِيّ الْوَجْهَيْنِ منبها على أَن رِوَايَة الْإِرْسَال لَا تقدح فِي رِوَايَة الْوَصْل لِأَن الَّذِي وَصله حافط، وَهُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تَابعه ثقتان: عَمْرو وحاتم الْمَذْكُورَان، وَعبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وحاتم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمَكْسُورَة: ابْن إِسْمَاعِيل أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، سكن الْمَدِينَة، وَقد مر فِي: بَاب اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء. قَوْله: (من كداء) ، بِالْفَتْح وَالْمدّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأكْثر دُخُول عُرْوَة من كداء، بِالْفَتْح وَالْمدّ.
1851 - حدَّثنا مُوسَى قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَال حدَّثنا هِشَامٌ عَنْ أبِيهِ دخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءِ وكانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا وَأكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أقْرَبِهِمَا إِلَيّ مَنْزِلِهِ..
هَذَا طَرِيق آخر من مَرَاسِيل عُرْوَة يرويهِ البُخَارِيّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري عَن وهيب، بِضَم الْوَاو: ابْن خَالِد عَن هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير. قَوْله: (من كداء) ، بِالْفَتْح وَالْمدّ. قَوْله: (مِنْهُمَا) أَي: كداء بِالْفَتْح، وكدا بِالضَّمِّ. قَوْله: (كليهمَا) وَفِي بعض النّسخ، كِلَاهُمَا بِالْألف، وَهُوَ على مَذْهَب من يجعلهما فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث على صُورَة وَاحِدَة. قَوْله: (أقربهما) بجر الْأَقْرَب إِمَّا بَيَان أَو بدل.
قالَ أبُو عُبَيْدَ الله كَدَاءٌ وكُدا مَوْضِعَانِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، فسر كدا وكدي بقوله: موضعان، وَهَذَا تَفْسِير لَا يُفِيد شَيْئا لِأَنَّهُمَا علما مِمَّا مضى أَنَّهُمَا موضعان، وَهَذَا لم يَقع إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَتركهَا أَجْدَر على مَا لَا يخفى، وَالله أعلم.
24 - (بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل مَكَّة، شرفها الله وَفِي بنيانها. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب ذكر لبَيَان بُنيان مَكَّة، فَلِمَ لم يقْتَصر على قَوْله: بَاب فضل مَكَّة؟ قلت: لما كَانَ بُنيان الْكَعْبَة سَببا لبنيان مَكَّة وعمارتها اكْتفى بِهِ.
وَلَكنهُمْ اخْتلفُوا فِي أول من بنى الْكَعْبَة، فَقيل: أول من بناها آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، ذكره ابْن إِسْحَاق: وَقيل: أول من بناها شِيث. عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَت قبل أَن يبنيها خيمة من ياقوتة حَمْرَاء يطوف بهَا آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويأنس بهَا، لِأَنَّهَا أنزلت إِلَيْهِ من الْجنَّة. وَقيل: أول من بناها الْمَلَائِكَة، وَذَلِكَ لما قَالُوا: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 03) . الْآيَة، خَافُوا وطافوا بالعرش سبعا يسترضون الله ويتضرعون إِلَيْهِ، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يبنوا الْبَيْت الْمَعْمُور فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَأَن يجْعَلُوا طوافهم لَهُ لكَونه أَهْون من طواف الْعَرْش ثمَّ أَمرهم أَن يبنوا فِي كل سَمَاء بَيْتا، وَفِي كل أَرض بَيْتا. قَالَ مُجَاهِد: هِيَ أَرْبَعَة عشر بَيْتا. وَرُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة حِين أسست الْكَعْبَة انشقت الأَرْض إِلَى مُنْتَهَاهَا، وقذفت مِنْهَا حِجَارَة أَمْثَال الْإِبِل، فَتلك الْقَوَاعِد من الْبَيْت الَّتِي وضع عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْبَيْت، فَلَمَّا جَاءَ الطوفان رفعت وأودع الْحجر الْأسود أَبَا قبيس، وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء وَسَعِيد بن الْمسيب: أَن آدم بناه من خَمْسَة أجبل: من حراء وطور سيناء، وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وَهَذَا غَرِيب، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي بِنَاء الْكَعْبَة فِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَرْفُوعا: بعث الله جِبْرِيل إِلَى آدم وحواء، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَأَمرهمَا بِبِنَاء الْكَعْبَة، فبناه آدم عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ أَمر بِالطّوافِ بِهِ. وَقيل لَهُ: أَنْت أول النَّاس، وَهَذَا أول بَيت يوضع للنَّاس. وَقَالَ ابْن كثير: إِنَّه كَمَا ترى من مُفْرَدَات ابْن لَهِيعَة، وَهِي ضَعِيف وَالْأَشْبَه أَن يكون هَذَا مَوْقُوفا على عبد الله بن عَمْرو، وَيكون من الزاملتين اللَّتَيْنِ أصابهما يَوْم اليرموك من كَلَام أهل الْكتاب.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأمْنا وَاتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّىً وعَهِدْنَا إلَى(9/211)
إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائفِينَ والعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هاذا بَلَدا آمِنا وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ قالَ ومَنْ كَفَرَ فأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أضطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وبِئْسَ المَصِيرُ. وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . (الْبَقَرَة: 521 821) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَوْله فضل مَكَّة، وَالتَّقْدِير وَفِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا} (الْبَقَرَة: 521 821) . الخ وَهَذِه أَرْبَعَة آيَات سيقت كلهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ بعض الْآيَة الأولى، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر كل الْآيَة الأولى: ثمَّ قَالُوا: إِلَى قَوْله {التواب الرَّحِيم} (الْبَقَرَة: 521 821) [/ ح.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت} أَي: وَاذْكُر إِذْ جعلنَا الْبَيْت، وَالْبَيْت اسْم غَالب للكعبة كالنجم للثريا. قَوْله: (مثابة) أَي: مباءة ومرجعا للحجاج والعمار، فينصرفون عَنهُ ثمَّ يثوبون إِلَيْهِ. قَالَ الزّجاج: أصل مثابة مثوبة نقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى الثَّاء وقلبت الْوَاو ألفا لتحركها فِي الأَصْل، وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء مثابات. وَقَالَ ابْن جرير: قَالَ بعض نحاة الْبَصْرَة: ألحقت الْهَاء فِي المثابة لما كثر من يثوب إِلَيْهِ كَمَا يُقَال: سيارة ونسابة، وَقَالَ بعض نحاة الْكُوفَة: بل المثاب والمثابة بِمَعْنى وَاحِد نَظِير الْمقَام والمقامة، فالمقام ذكر على قَوْله لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ الْموضع الَّذِي يُقَام فِيهِ، وأنثت المقامة لِأَنَّهُ أُرِيد بهَا الْبقْعَة، وَأنكر هَؤُلَاءِ أَن تكون المثابة نظيرة للسيارة والنسابة، وَقَالُوا: إِنَّمَا أدخلت الْهَاء فِي السيارة والنسابة تَشْبِيها لَهَا بالداهية، والمثابة مفعلة من ثاب الْقَوْم إِلَى الْموضع إِذا رجعُوا إِلَيْهِ، فهم يثوبون إِلَيْهِ مثابا ومثابة وثوابا، بِمَعْنى: جعلنَا الْبَيْت مرجعا للنَّاس ومعادا يأتونه كل عَام ويرجعون إِلَيْهِ، فَلَا يقضون مِنْهُ وطرا، وَمِنْه أثاب إِلَيْهِ عقله إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ بعد عزوبه عَنهُ. فَإِن قلت: الْبَيْت، مُذَكّر، ومثابة مُؤَنّثَة، والتطابق بَين الصّفة والموصوف شَرط؟ قلت: لَيست التَّاء فِيهِ للتأنيث، بل هُوَ كَمَا يُقَال: دِرْهَم ضرب الْأَمِير، والمصدر قد يُوصف بِهِ. يُقَال: رجل عدل رَضِي، أَي: معدل مرضى، وَقيل: الْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة لِكَثْرَة من يثوب إِلَيْهِ، مثل: عَلامَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء أخبرنَا إِسْرَائِيل عَن مُسلم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: مثابة، قَالَ: يثوبون إِلَيْهِ ثمَّ يرجعُونَ. قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة وَسَعِيد بن جُبَير فِي رِوَايَة وَعَطَاء وَالْحسن وعطية وَالربيع بن أنس وَالضَّحَّاك نَحْو ذَلِك، وَقَالَ سعيد بن جُبَير فِي رِوَايَة أُخْرَى، وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي: {مثابة للنَّاس} أَي: مجمعا. قَوْله: {وَأمنا} أَي: مَوضِع أَمن. كَقَوْلِه تَعَالَى: {حرما أمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} (العنكبوت: 76) . وَلِأَن الْجَانِي يأوي إِلَيْهِ فلايتعرض لَهُ حَتَّى يخرج. وَقَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، أَي: أمنا للنَّاس. وَقَالَ الرّبيع بن أنس عَن أبي الْعَالِيَة يَعْنِي: أمنا من الْعَدو، وَأَن يحمل فِيهِ السَّلَام. قَوْله: {وَاتَّخذُوا} ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَاتَّخذُوا على إِرَادَة القَوْل، أَي: وَقُلْنَا اتَّخذُوا مِنْهُ مَوضِع صَلَاة تصلونَ فِيهِ، وَهِي على وَجه الِاخْتِيَار والاستحباب دون الْوُجُوب، وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر: وَاتَّخذُوا، على صِيغَة الْمَاضِي، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ على صِيغَة الْأَمر.
وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا هُوَ؟ فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا عمر بن شبه النمري حَدثنَا أَبُو خلف يَعْنِي: عبد الله بن عِيسَى حَدثنَا دَاوُد بن أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} قَالَ: مقَام إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَعَن ابْن عَبَّاس: مقَام إِبْرَاهِيم الْحَج لَهُ، ثمَّ فسره عَطاء فَقَالَ: التَّعْرِيف وصلاتان بِعَرَفَة والمشعر وَمنى وَرمي الْجمار وَالطّواف بَين الصَّفَا والمروة. وَقَالَ سُفْيَان عَن عبد الله بن مُسلم عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: الْحجر مقَام إِبْرَاهِيم، فَكَانَ يقوم عَلَيْهِ ويتناول إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة. وَقَالَ السّديّ: الْمقَام الْحجر الَّذِي وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، تَحت قدم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه. حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ، وَضَعفه. وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي (تَفْسِيره) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع بن أنس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد الصَّباح، حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن ابْن جريج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَذَا مقَام أَبينَا إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أَفلا تتخذه مصلى؟ فَأنْزل الله عز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَقد كَانَ الْمقَام مُلْصقًا بجدار الْكَعْبَة قَدِيما، ومكانه مَعْرُوف الْيَوْم إِلَى جَانب(9/212)
الْبَاب مِمَّا يَلِي الْحجر، وَإِنَّمَا أَخّرهُ عَن جِدَار الْكَعْبَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن حميد الْأَعْرَج عَن مُجَاهِد، قَالَ: أول من أخر الْمقَام إِلَى مَوْضِعه الْآن عمر بن الْخطاب.
قَوْله {وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم} قَالَ أَبُو اللَّيْث فِي تَفْسِيره: أَي: أمرنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا، بِأَن طهرا الْبَيْت، أَي: بالتطهير من الْأَوْثَان، وَيُقَال: من جَمِيع النَّجَاسَات، للطائفين أَي: لأجل الطائفين الَّذين يطوفون الغرباء، والعاكفين وهم أهل الْحرم المقيمون بِمَكَّة من أهل مَكَّة وَغَيرهم. قَوْله: (والركع) أهل الصَّلَاة، وَهُوَ جمع رَاكِع. وَقَوله: (السُّجُود) مصدر، وَفِيه حذف أَي: الركع ذَوي السُّجُود. قَوْله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} أَي: وَاذْكُر إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم: {رب اجْعَل هَذَا} أَي: الْحرم. {بَلَدا آمنا} وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: اجْعَل بَلَدا ذَا أَمن. كَقَوْلِه: عيشة راضية وآمنا من فِيهِ، كَقَوْلِك: ليل نَائِم، وَفِي (خُلَاصَة الْبَيَان) : والبلد ينْطَلق على كل مَوضِع من الأَرْض عَامر مسكون أَو خَال، والبلد فِي هَذِه الْآيَة مَكَّة، وَقد صَارَت مَكَّة حَرَامًا بسؤال إِبْرَاهِيم، وَقَبله كَانَت حَلَالا. قلت: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر: أَنَّهَا كَانَت حَرَامًا قبل ذَلِك بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن هَذَا الْبَلَد حرَام يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض) قَوْله: {وارزق أَهله من الثمرات} يَعْنِي: أَنْوَاع الثمرات، فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، حِين اقتلع الطَّائِف من مَوضِع الْأُرْدُن، ثمَّ طَاف بهَا حول الْكَعْبَة، فسميت الطَّائِف. قَوْله: {من آمن مِنْهُم} بدل: من أَهله، قَالَ أَبُو اللَّيْث: وَإِنَّمَا اشْترط هَذَا الشَّرْط لِأَنَّهُ قد سَأَلَ الْإِمَامَة لذريته، فَلم يستجب لَهُ فِي الظَّالِمين، فخشي إِبْرَاهِيم أَن يكون أَمر الرزق هَكَذَا فَسَأَلَ الرزق للْمُؤْمِنين خَاصَّة، فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه يرْزق الْكَافِر وَالْمُؤمن، وَأَن أَمر الرزق لَيْسَ كأمر الْإِمَامَة. قَالُوا: لِأَن الْإِمَامَة فضل والرزق عدل، فَالله تَعَالَى يُعْطي فَضله لمن يَشَاء مِمَّن كَانَ أَهلا لذَلِك، وعدله لجَمِيع النَّاس لأَنهم عباده، وَإِن كَانُوا كفَّارًا. قَوْله: {وَمن كفر} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وارزق من كفر فأمتعه، وَيجوز أَن يكون من: كفر، مُبْتَدأ متضمنا معنى الشَّرْط. وَقَوله: فأمتعه، جَوَاب الشَّرْط أَي: وَمن كفر فَأَنا أمتعه، وقرىء: فأمتعه فاضطره فالزَّه إِلَى عَذَاب النَّار لز الْمُضْطَر الَّذِي لَا يملك الإمتناع مِمَّا اضْطر إِلَيْهِ. وَقَرَأَ أبي: {فنمتعه قَلِيلا ثمَّ نضطره} وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: {فاضطره} بِكَسْر الْهمزَة، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: {فأمتعه قَلِيلا ثمَّ أضطره} على لفظ الْأَمر. قَوْله: {وَإِذ يرفع} أَي وَاذْكُر إِذْ يرفع {إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد} ، وَهِي جمع قَاعِدَة، وَهِي السارية والأساس. قَوْله: (من الْبَيْت) أَي: الْكَعْبَة. وَقَالَ مقَاتل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، مَعْنَاهُ: وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل الْقَوَاعِد من الْبَيْت، وَيُقَال: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، يُعينهُ وَالْمَلَائِكَة يناقلون الْحجر من إِسْمَاعِيل، وَكَانُوا ينقلون الْحجر من خَمْسَة أجبل: طور سينا، وطور زيتا وجودي ولبنان وحراء. قَوْله: (رَبنَا) أَي: قَالَا: رَبنَا {تقبل منا} أَعمالنَا {إِنَّك أَنْت السَّمِيع} لدعائنا، الْعَلِيم بنياتنا، وَقَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، قد أُجِيب لَك فاسأل شَيْئا آخر: {قَالَا رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك} د يَعْنِي: مُخلصين لَك، وَيُقَال: واجعلنا متثبتين على الْإِسْلَام، وَيُقَال: مُطِيعِينَ لَك، ثمَّ: {قَالَا وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك} يَعْنِي: اجْعَل بعض ذريتنا من يخلص لَك وَيثبت على الْإِسْلَام، ثمَّ قَالَ: {وأرنا مناسكنا} يَعْنِي: علمنَا أُمُور مناسكنا، ذكر الرُّؤْيَة وَأَرَادَ بِهِ الْعلم، ثمَّ قَالَ: {وَتب علينا} يَعْنِي: تجَاوز عَنَّا الزلة {إِنَّك أَنْت التواب} المتجاوز {الرَّحِيم} بعبادك.
2851 - حَدثنَا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا أبُو عاصِمٍ قَالَ أخبرنِي ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الحِجَارَةَ فقالَ العَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلْ إزَارَكَ عَلى رَقَبتِكَ فَخَرَّ إِلَى الأرْضِ وطَمِحتْ عَيْنَاهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أرِنِي إزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لما بنيت الْكَعْبَة) ، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بُنيان مَكَّة، وَفِي الحَدِيث بُنيان الْكَعْبَة؟ قلت: قد ذكرت فِي أول الْبَاب أَن بُنيان الْكَعْبَة كَانَ سَببا لبنيان مَكَّة، وَبَين السَّبَب والمسبب ملائمة، فيستأنس بِهَذَا وَجه الْمُطَابقَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: أَبُو عَاصِم النَّبِيل، واسْمه: الضَّحَّاك(9/213)
بن مخلد. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن دِينَار. الخاسم: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، ويروى بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي التحديث عَن شَيْخه. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بخاري، وَأَبُو عَاصِم بَصرِي، وَابْن جريج وَعَمْرو مكيان. وَفِيه: أَن أحدهم مَذْكُور بكنيته وَالْآخر بنسبته إِلَى جده من غير ذكر اسْمه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بُنيان الْكَعْبَة عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن حَاتِم. كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن بكر وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَمُحَمّد بن رَافع، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق، وَهَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل جَابر لِأَنَّهُ لم يدْرك هَذِه الْقِصَّة، وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون سَمعهَا من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو مِمَّن حضرها من الصَّحَابَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : ومرسله حجَّة، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب كَرَاهِيَة التعري فِي الصَّلَاة، فَإِن البُخَارِيّ أخرجه هُنَاكَ عَن مطر بن الْفضل عَن روح عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق (عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله يحدث: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْقل مَعَهم الْحِجَارَة للكعبة وَعَلِيهِ إزَاره) الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما بنيت الْكَعْبَة) اشتقاق الْكَعْبَة من الكعب، وكل شَيْء علا وارتفع فَهُوَ كَعْب، وَمِنْه سميت الْكَعْبَة للبيت الْحَرَام لارتفاعه وعلوه، وَقيل: سميت بِهِ لتكعبها أَي: تربيعها. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام، سمي بذلك لتربيعه. وَعَن مقَاتل: سميت كعبة لانفرادها من الْبناء، وَسمي الْبَيْت الْحَرَام لِأَن الله تَعَالَى حرمه وعظمه، وَأما مَكَّة فَهُوَ اسْم بَلْدَة فِي وَاد بَين غير ذِي زرع، وَقَالَ السُّهيْلي: أما مَكَّة فَمن تمككت الْعظم، أَي: اجتذبت مَا فِيهِ من المخ، وتمكك الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة، فَكَأَنَّهَا تحتذب مَا من نَفسهَا فِي الْبِلَاد والأقوات الَّتِي تأتيها فِي المواسم، وَقيل: لما كَانَت فِي بطن وادٍ فَهِيَ تمكك المَاء من جبالها وأخشابها عِنْد نزُول الْمَطَر، وتنجذب إِلَيْهَا السُّيُول. وَقَالَ الصغاني: مَكَّة الْبَلَد الْحَرَام واشتقاقها من: مك الصَّبِي ثدي أمه يمكه مكا إِذا استقصى مصه، وَسميت مَكَّة لقلَّة المَاء بهَا، وَلِأَنَّهُم يمتكون المَاء أَي: يستخرجونه باستقصاء. وَيُقَال: سميت مَكَّة، لِأَنَّهَا كَانَت تبك من ظلمَ بهَا، أَي: تهلكه. وَيُقَال أَيْضا: بكة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: بكة اسْم مَوضِع الطّواف، وَقيل: بكة مَكَان الْبَيْت، وَمَكَّة سَائِر الْبَلَد، وَسميت بكة لِأَن النَّاس يبك بَعضهم بَعْضًا فِي الطّواف، أَي: يدْفع. وَقيل: لِأَنَّهَا تبك أَعْنَاق الْجَبَابِرَة إِذا ألحدوا فِيهَا بظُلْم، وَقيل: من المتباك وَهُوَ الإزدحام، قَالَ الراجز:
(إِذا الفصيل أَخَذته أكة ... فحلِّهِ حَتَّى يبك بكة)
الأكة، بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْكَاف: الشدَّة، وَقَالَ الْعُتْبِي: مَكَّة وبكة شَيْء وَاحِد، وَالْبَاء تبدل من الْمِيم كثيرا، ولمكة أسامي: مِنْهَا: الناسة، بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: من النس، سميت لقلَّة مَائِهَا، وَفِي (الْمُنْتَخب) : الكراع النساسة، وَعَن الْأَعرَابِي: النباسة، وَعند الْخطابِيّ: الباسة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، ويروى: الناشة، بالنُّون والشين الْمُعْجَمَة: تنش من ألحد فِيهَا، أَي: تطرده وتنفيه. وَمِنْهَا: الراس، وَصَلَاح، وَأم صبح وَأم رحم، بِضَم الْحَاء وسكونها وَأم رحم وَأم زحم بالزاي من الازدحام فِيهَا. وطيبة ونادر وَأم الْقرى والحاطمة وَالْعرش. والقادس، والمقدسة، وسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّته: الْبَلدة، وَفِي (أمالي ثَعْلَب) : عَن ابْن الْأَعرَابِي، سَأَلَ رجل عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من أهلكم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ عَليّ: نَحن قوم من كوثى، فَقَالَت طَائِفَة: أَرَادَ كوثى، وَهِي الْمَدِينَة الَّتِي ولد بهَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَت طَائِفَة: أَرَادَ بكوثى مَكَّة، وَذَلِكَ لِأَن محلّة بني عبد الدَّار يُقَال لَهَا: كوثى، مَشْهُورَة عِنْد الْعَرَب، فَأَرَادَ بقوله: كوثى أَنا مكيون من أم الْقرى، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي أول من بناها.
قَوْله: (إجعل إزارك على رقبتك) ، وَفِي (صَحِيح الْإِسْمَاعِيلِيّ) من حَدِيث عبد الرَّزَّاق أَنبأَنَا ابْن جريج، (وَأَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار، سمع جَابِرا لما بنت قُرَيْش الْكَعْبَة ذهب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعباس ينقلان الْحِجَارَة، فَقَالَ عَبَّاس للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجعل إزارك على رقبتي من الْحِجَارَة، فَفعل، فَخر إِلَى الأَرْض وطمحت. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: قد جعل عبد الرَّزَّاق وضع الْإِزَار(9/214)
على رَقَبَة الْعَبَّاس. قَوْله: (فَخر إِلَى الإرض) ، من الخرور، وَهُوَ الْوُقُوع، وَفِي رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن دِينَار الَّذِي مضى فِي: بَاب كَرَاهِيَة التعري فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، (فَحله فَجعله على مَنْكِبَيْه فَسقط مغشيا عَلَيْهِ) . وَفِي (طَبَقَات ابْن سعد) من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، دخل حَدِيث بَعضهم فِي حَدِيث بعض (قَالُوا: بَينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينْقل مَعَهم الْحِجَارَة يَعْنِي للبيت، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة، وَكَانُوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الْحِجَارَة، فَفعل ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلبط: (أَي: سقط) من قيام، وَنُودِيَ: عورتك، فَكَانَ ذَلِك أول مَا نُودي، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالب: يَا ابْن أخي، إجعل إزارك على رَأسك، فَقَالَ: مَا أصابني إلاَّ فِي تعري) . وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي وَالِدي عَمَّن حَدثهُ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ، فِيمَا يذكر من حفظ الله تَعَالَى إِيَّاه إِنِّي لمع غلْمَان وهم أسناني، قد جعلنَا أزرنا على أعناقنا لحجارة نلقها إِذْ لكمني لاكم لكمة شَدِيدَة، ثمَّ قَالَ: اشْدُد عَلَيْك إزارك، وَعند السُّهيْلي فِي خبر آخر: لما سقط ضمه الْعَبَّاس إِلَى نَفسه وَسَأَلَهُ عَن شَأْنه، فَأخْبرهُ أَنه نُودي من السَّمَاء: أَن اشْدُد عَلَيْك إزارك يَا مُحَمَّد، قَالَ: وَإنَّهُ أول مَا نُودي. وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من حَدِيث سماك بن حَرْب، (عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: حَدثنِي الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب قَالَ: لما بنت قُرَيْش الْكَعْبَة انفردنا رجلَيْنِ رجلَيْنِ ينقلون الْحِجَارَة، وَكنت أَنا وَابْن أخي، فَجعلنَا نَأْخُذ أزرنا فنضعها على مناكبنا، ونجعل عَلَيْهَا الْحِجَارَة، فَإِذا دنونا من النَّاس لبسنا أزرنا، فَبَيْنَمَا هُوَ أَمَامِي إِذْ صرع، فسعيت وَهُوَ شاخص ببصره إِلَى السَّمَاء، قَالَ فَقلت: يَا ابْن أخي مَا شَأْنك؟ قَالَ: نهيت أَن أَمْشِي عُريَانا، قَالَ: فكتمته حَتَّى أظهر الله نبوته) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من طَرِيق النَّضر أبي عمر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَلَيْسَ فِيهِ الْعَبَّاس، وَقَالَ فِي آخِره: (فَكَانَ أول شَيْء رأى من النُّبُوَّة) ، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَكَانَ ابْن عَبَّاس أَرَادَ بقوله: أول شَيْء رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النُّبُوَّة أَن قيل لَهُ: استتر، وَهُوَ غُلَام، هَذِه الْقِصَّة، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن لَهِيعَة عَن أبي الزبير، قَالَ: سَأَلت جَابِرا: هَل يقوم الرجل عُريَانا؟ فَقَالَ: أَخْبرنِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لما انْهَدَمت الْكَعْبَة نقل كل بطن من قُرَيْش، وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نقل مَعَ الْعَبَّاس: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَانُوا يضعون ثِيَابهمْ على الْعَوَاتِق، فيتقوون بهَا أَي: عل حمل الْحِجَارَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فاعتقلت رجْلي، فحررت وَسقط ثوبي، فَقلت للْعَبَّاس: هَلُمَّ ثوبي فلست أتعرى بعْدهَا إلاَّ لغسل. وَابْن لَهِيعَة فِيهِ مقَال، وَفِي رِوَايَة أَن الْملك نزل فَشد عَلَيْهِ إزَاره. قَوْله: (فطمحت عَيناهُ) أَي: شخصتا وارتفعتا، وَقَالَ ابْن سَيّده: طمح ببصره يطمح طمحا، شخص وَقيل، رمي بِهِ إِلَى الشَّيْء، وَرجل طماح بعيد الطّرف، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن أبي جريج فِي أَوَائِل (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) : ثمَّ أَفَاق. قَوْله: (أَرِنِي إزَارِي) ، قَالَ ابْن التِّين: ضَبطه بِإِسْكَان الرَّاء وبكسرها، قَالَ وَالْكَسْر أحسن عِنْد بعض أهل اللُّغَة، لِأَن مَعْنَاهُ: أَعْطِنِي، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ من الرُّؤْيَة، وَوَقع فِي (شرح ابْن بطال) : إزَارِي إزَارِي، مكررا وَمَعْنَاهُ صَحِيح إِن ساعدته الرِّوَايَة، قَوْله: (فشده عَلَيْهِ) زَاد زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق: (فَمَا رُؤِيَ بعد ذَلِك عُريَانا) .
3851 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ بنِ عبدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ مُحَمَّدٍ بنِ أبي بَكْرَ أخبر عبدَ الله بنَ عُمَرَ عَن عائشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَها ألَمْ تَرَيْ أنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنُوا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ فقُلْتُ يَا رَسولَ الله أَلا تَرُدُّهَا عَلى قَوَاعِدِ إبرَاهِيمَ قَالَ لَوْلا حِدْثانُ قومِكِ بِالكُفْرِ لفَعلْتُ. فَقَالَ عَبْدُ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَئِنْ كانتْ عائِشةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سَمِعَتْ هاذا مِنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أُرَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترَكَ استِلاَمَ الرُّكْعَتَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيانِ الحِجْرَ إلاَّ أنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَواعِدِ إبْرَاهِيمَ..
حَدِيث عَائِشَة هَذَا رَوَاهُ من أَرْبَعَة طرق على مَا يَأْتِي، فَإِن قلت: مَا وَجه إِيرَاده فِي: بَاب فضل مَكَّة، والْحَدِيث فِي شَأْن الْكَعْبَة؟ قلت: قد ذكرنَا فِي أول الْبَاب أَن بُنيان الْكَعْبَة، لما كَانَ سَببا لبنيان مَكَّة، اكْتفى بِهِ، وَمَا كَانَ من فضل الْكَعْبَة فمكة دَاخِلَة فِيهِ، وَالله تَعَالَى ذكر فضل مَكَّة فِي غير مَوضِع من كِتَابه، وَمن أعظم فَضلهَا أَنه، عز وَجل، فرض على عباده حَجهَا، وألزمهم قَصدهَا، وَلم(9/215)
يقبل من أحد صَلَاة إِلَّا باستقبالها، وَهِي قبْلَة أهل دينه أَحيَاء وأمواتا.
وَرِجَال هَذَا الطَّرِيق قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَأبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الْعلم وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أبي بكر بن قُحَافَة. قَوْله: (أخبر عبد الله بن عمر) بِنصب، عبد الله على المفعولية، وَالْفَاعِل مُضْمر. قَوْله: (عَن عَائِشَة) ، مُتَعَلق بقوله: (أخبر) ، وَظَاهر هَذَا الْكَلَام يَقْتَضِي حُضُور سَالم، لذَلِك فَيكون من رِوَايَته عَن عبد الله بن مُحَمَّد. قَوْله: (ألم تري) أَي: ألم تعرفي. قَوْله: (أَن قَوْمك) ، هم قُرَيْش. قَوْله: (اقتصروا عَن قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام) وَالْقَوَاعِد جمع قَاعِدَة، وَهِي الأساس أصل ذَلِك، وَمَا روى (عَن عبد الله بن عمر قَالَ: لما أهبط الله تَعَالَى آدم من الْجنَّة، قَالَ: إِنِّي مهبط مَعَك أَو منزل مَعَك بَيْتا يُطَاف حوله، كَمَا يُطَاف حول عَرْشِي وَيصلى عِنْده، كَمَا يصلى عِنْد عَرْشِي، فَلَمَّا كَانَ زمن الطوفان رفع، فَكَانَت الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يحجونه وَلَا يعلمُونَ مَكَانَهُ حَتَّى بوأه الله تَعَالَى لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وأعلمه مَكَانَهُ) . فبناه من خَمْسَة أجبل كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَعَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد وَغَيره من أهل الْعلم أَن الله تَعَالَى لما بوأ لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَكَان الْبَيْت خرج إِلَيْهِ من الشَّام وَمَعَهُ إِسْمَاعِيل، وَأمه وَهُوَ طِفْل يرضع، وحملوا على الْبراق، وَمَعَهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، يدله على مَوَاضِع الْبَيْت، ومعالم الْحرم، فَكَانَ لَا يمر بِقُرْبِهِ إلاَّ قَالَ: بِهَذِهِ أمرت يَا جِبْرِيل؟ فَيَقُول: جِبْرِيل أمضه حَتَّى قدم بِهِ مَكَّة وَهِي إِذْ ذَاك عضاه سلم وَسمر وَبهَا أنَاس، وَيُقَال لَهُم: العماليق، خَارج مَكَّة وَمَا حولهَا، وَالْبَيْت يَوْمئِذٍ ربوة حَمْرَاء مَدَرَة، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لجبريل، عَلَيْهِمَا السَّلَام، أههنا أمرت أَن أضعهما، قَالَ: نعم فَعمد بهما إِلَى مَوضِع الْحجر، فأنزلهما فِيهِ وَأمر هَاجر أَن تتَّخذ فِيهِ عَرِيشًا ثمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَهله، والقصة طَوِيلَة عرفت فِي موضعهَا. ثمَّ إِنَّه بدا لإِبْرَاهِيم فَقَالَ لأَهله: أَنِّي مطلع تركتي، فجَاء فَوَافَقَ إِسْمَاعِيل من وَرَاء زَمْزَم يصلح نبْلًا لَهُ، فَقَالَ يَا إِسْمَاعِيل: إِن رَبك، عز وَجل، أَمرنِي أَن أبني لَهُ بَيْتا، فَقَالَ: أطع رَبك، عز وَجل، قَالَ: إِنَّه أَمرنِي أَن تعينني عَلَيْهِ، قَالَ: إِذا افْعَل أَو كَمَا قَالَ، قَالَ: فَقَامَ فَجعل إِبْرَاهِيم يَبْنِي وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة، وَعَن السّديّ أخذا المعاول لَا يدريان أَيْن الْبَيْت، فَبعث الله ريحًا يُقَال لَهَا: الحجوج، لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأس فِي صُورَة حَيَّة، فدلت لَهما مَا حول الْبَيْت على أساس الْبَيْت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حَتَّى وضعا الأساس، فَلَمَّا بنيا الْقَوَاعِد وبلغا مَكَان الرُّكْن قَالَ: يَا إِسْمَاعِيل، أطلب لي حجرا حسنا أَضَعهُ هُنَا، قَالَ: يَا أبه، إِنِّي لغب. قَالَ: عَليّ ذَلِك، فَانْطَلق يتطلب حجرا، وَجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْحجرِ الْأسود من الْهِنْد، وَكَانَ ياقوتة بَيْضَاء مثل النعامة، وَكَانَ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط بِهِ من الْجنَّة، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل الْحجر، قَالَ: يَا أبه من جَاءَك بِهَذَا؟ قَالَ: من هُوَ أنشط مِنْك. وَفِي (الدَّلَائِل) للبيهقي: عَن عبد الله بن عَمْرو: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعث الله عز وَجل، جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى آدم وحواء عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهما: ابنيا لي بَيْتا، فحط لَهما جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَجعل آدم يحْفر، وحواء تنقل حَتَّى أَصَابَهُ المَاء نُودي من تَحت حَسبك يَا آدم، فَلَمَّا بناه أوحى الله إِلَيْهِ أَن يطوف بِهِ، وَقيل لَهُ: أَنْت أول النَّاس، وَهَذَا أول بَيت، ثمَّ تناسخت الْقُرُون حَتَّى حجه نوح. عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ تناسخت الْقُرُون حَتَّى رفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْهُ. وَفِي كتاب (التيجان) : لما عَبث قوم نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وهدموا الْكَعْبَة قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: انْتظر الْآن هلاكهم إِذا فار التَّنور. وَفِي كتاب الْأَزْرَقِيّ: جعل إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طول بِنَاء الْكَعْبَة فِي السَّمَاء تِسْعَة أَذْرع، وطولها فِي الأَرْض ثَلَاثِينَ ذِرَاعا، وعرضها فِي الأَرْض اثْنَيْنِ وَعشْرين ذِرَاعا، وَكَانَت بِغَيْر سقف، وَلما بنتهَا قُرَيْش جعلُوا طولهَا ثَمَانِي عشر ذِرَاعا فِي السَّمَاء، ونقصوا من طولهَا فِي الأَرْض سِتَّة أَذْرع وشير، وتركوها فِي الْحجر، وَلما بناها ابْن الزبير جعل طولهَا فِي السَّمَاء عشْرين ذِرَاعا، وَلم يُغير الْحجَّاج طولهَا حِين هدمها، وَهُوَ إِلَى الْآن على ذَلِك، وَقيل: إِنَّه بنى فِي أَيَّام جرهم مرّة أَو مرَّتَيْنِ، لِأَن السَّيْل كَانَ قد صدع حَائِطه، وَقيل: لم يكن بنيانا إِنَّمَا كَانَ إصلاحا لما وهى مِنْهُ، وجدار بني(9/216)
بَينه وَبَين السَّيْل بناه عَامر الجادر.
وَعَن عَليّ، لما بناه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مر عَلَيْهِ الدَّهْر فانهدم، فبنته جرهم، فَمر عَلَيْهِ الدَّهْر فانهدم، فبنته قُرَيْش وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمئِذٍ شَاب. وَصحح الْحَاكِم أصل هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن شهَاب: لما بلغ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْحلم أجمرت امْرَأَة الْكَعْبَة، فطارت شرارة من مجمرتها فِي بَاب الْكَعْبَة، فاحترقت، فهدموها. فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي وضع الرُّكْن دخل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ غُلَام عَلَيْهِ وشاح نمرة، فحكموه فَأمر بِثَوْب ... الحَدِيث، وَفِيه: فَوَضعه هُوَ فِي مَكَانَهُ ثمَّ طفق لَا يزْدَاد على ألسن الأَرْض حَتَّى دَعوه الْأمين، وَعند مُوسَى بن عقبَة: كَانَ بنيانها قبل الْبعْثَة بِخمْس عشرَة سنة، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعُرْوَة وَمُحَمّد بن جُبَير بن مطعم وَغَيرهم. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة) : وَلما بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمْسا وَثَلَاثِينَ أَجمعت قُرَيْش لبنيان الْكَعْبَة، وَكَانُوا يهمون لذَلِك ليسقفوها ويهابون هدمها، وَإِنَّمَا كَانَت رضما فَوق الْقَامَة، فأرادوا رَفعهَا وتسقيفها، وَذَلِكَ أَن نَفرا سرقوا كنز الْكَعْبَة، وَإِنَّمَا يكون فِي بِئْر فِي جَوف الْكَعْبَة، وَكَانَ الَّذِي وجد عِنْده الْكَنْز دويك مولى بني مليح بن عَمْرو من خُزَاعَة، فَقطعت قُرَيْش يَده، وَيَزْعُم النَّاس أَن الَّذين سَرقُوهُ وضعوه عِنْد دويك، وَكَانَ الْبَحْر قد رمى بسفينة إِلَى جدة لرجل من تجار الرّوم فتحطمت فَأخذُوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وَكَانَ بِمَكَّة رجل قبْطِي نجار فتهيأ لَهُم، فِي أنفسهم بعض مَا يصلحها، وَكَانَت حَيَّة تخرج من بِئْر الْكَعْبَة الَّتِي كَانَت تطرح فِيهَا مَا يهدى لَهَا كل يَوْم، فتشرف على جِدَار الْكَعْبَة، وَكَانَت مِمَّا يهابون ذَلِك أَنه كَانَ لَا يدنو مِنْهَا أحد إلاَّ أخزلت، وكشطت وَفتحت فاها، وَكَانُوا يهابونها، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْم تشرف على جِدَار الْكَعْبَة، كَمَا كَانَت تصنع بعث الله إِلَيْهَا طائرا، فاختطفها، فَذهب بهَا فَقَالَت قُرَيْش: إِنَّا لنَرْجُو أَن يكون الله تَعَالَى، رَضِي مَا أردنَا، عندنَا عَامل رَفِيق، وَعِنْدنَا خشب، وكفانا الله الْحَيَّة، ثمَّ اجْتمعت الْقَبَائِل من قُرَيْش فَجمعُوا الْحِجَارَة لبنائها، كل قَبيلَة على حِدة، ثمَّ بنوها حَتَّى بلغ الْبُنيان مَوضِع الرُّكْن، يَعْنِي: الْحجر الْأسود، فاختصموا فِيهِ، كل قَبيلَة تُرِيدُ أَن ترفعه إِلَى مَوْضِعه دون الْأُخْرَى، فآخر الْأَمر إِن أَبَا أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمرَان بن مَخْزُوم كَانَ عامئذ أسن قُرَيْش كلهم، فَقَالَ: يَا معشر قُرَيْش إجعلوا بَيْنكُم فِيمَا تختلفون فِيهِ أول من يدْخل من بَاب هَذَا الْمَسْجِد يقْضِي بَيْنكُم فِيهِ، فَقَالُوا: وَكَانَ أول دَاخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأمين رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّد، فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ الْخَبَر قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلُمَّ إليَّ ثوبا، فأُتي لَهُ، فَأخذ الرُّكْن يَعْنِي: الْحجر الْأسود فَوَضعه فِيهِ بِيَدِهِ، ثمَّ قَالَ: لتأْخذ كل قَبيلَة بِنَاحِيَة من الثَّوْب، ثمَّ ارفعوه جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذا بلغُوا بِهِ مَوْضِعه وَضعه هُوَ بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (لَوْلَا حدثان قَوْمك) ، الْحدثَان، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، بِمَعْنى: الْحُدُوث، مَعْنَاهُ: قرب عَهدهم بالْكفْر، وَخبر الْمُبْتَدَأ مَحْذُوف. قَوْله: (لفَعَلت) ، أَي: لرددتها على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم. قَوْله: (قَالَ) أَي: عبد الله بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، ويروى: فَقَالَ: وَقَالَ، بِالْفَاءِ وَالْوَاو، ويروى: قَالَ عبد الله. قَوْله: (لَئِن كَانَت عَائِشَة) ، لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مِنْهُ على سَبِيل التَّضْعِيف لروايتها والتشكيك فِي صدقهَا، لِأَنَّهَا كَانَت صديقَة حافظة ضابطة، غَايَة مَا يُمكن بِحَيْثُ لَا تستراب فِي حَدِيثهَا، وَلَكِن كثيرا يَقع فِي كَلَام الْعَرَب صُورَة التشكيك، وَالْمرَاد بِهِ التَّقْرِير وَالْيَقِين. كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه فتْنَة لكم} (الْأَنْبِيَاء: 111) . و {قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي} (سبأ: 05) . قَوْله: (مَا أرى) ، بِضَم الْهمزَة أَي: مَا أَظن، وَهِي رِوَايَة معمر، وَزَاد فِي آخر الحَدِيث: (وَلَا طَاف النَّاس من وَرَاء الْحجر إلاَّ لذَلِك) قَوْله: (استلام الرُّكْنَيْنِ) الاستلام افتعال من السَّلَام، يُقَال: اسْتَلم الْحجر إِذا لمسه، وَالْمرَاد: لمس الرُّكْنَيْنِ بالقبلة أَو بِالْيَدِ. قَوْله: (يليان الْحجر) ، أَي: يقربان من الْحجر، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم، وَهُوَ مَعْرُوف على صفة نصف الدائرة، وقدرها تسع وَثَلَاثُونَ ذِرَاعا وَقَالُوا: سِتَّة أَذْرع مِنْهُ مَحْسُوب من الْبَيْت بِلَا خلاف، وَفِي الزَّائِد خلاف. قَوْله: (إِلَّا أَن الْبَيْت) ، أَي: الْكَعْبَة (لم يتمم على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم الَّتِي رَفعهَا) ، يُرِيد: أَن كَانَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر سلم من السَّهْو فِي نَقله عَن عَائِشَة، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك ذَلِك ... إِلَى آخِره، فَأخْبر ابْن عمر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك استلامهما، وَمُقْتَضَاهُ أَنه قصد تَركهمَا، وإلاَّ فَلَا يُسمى تَارِكًا فِي الْعرف من أَرَادَ من الْكَعْبَة شَيْئا فَمَنعه مِنْهُ مَانع، فَكَانَ ابْن عمر علم ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاستلام وَلم يعلم علته، فَلَمَّا أخبرهُ عبد الله بن مُحَمَّد بِخَبَر عَائِشَة هَذَا عرف عِلّة ذَلِك، وَهُوَ كَونهمَا لَيْسَ على الْقَوَاعِد، بل أخرج مِنْهُ بعض الْحجر وَلم يبلغ بِهِ ركن الْبَيْت الَّذِي من تِلْكَ الْجِهَة، والركنان اللَّذَان الْيَوْم من(9/217)
جِهَة الْحجر لَا يستلمان كَمَا لَا يسْتَلم سَائِر الْجدر، لِأَنَّهُ حكم مُخْتَصّ بالأركان، وَعَن عُرْوَة وَمُعَاوِيَة: استلام الْكل، وَأَنه لَيْسَ من الْبَيْت شَيْء مهجور، وَذكر عَن ابْن الزبير أَيْضا، وَكَذَا عَن جَابر وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يسْتَلم إِلَّا الرُّكْن الْأسود خَاصَّة، وَلَا يسْتَلم الْيَمَانِيّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسنة، فَإِن استلمه فَلَا بَأْس.
4851 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أَبُو الأحْوَصِ قَالَ حدَّثنا الأشْعَثُ عنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ سألْتُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الجَدْرِ أمِنَ البيْتِ هُوَ قَالَ نَعَم قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمُ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ قَالَ إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلتُ فمَا شأنُ بابِهِ مُرتَفِعا قالَ فَعلَ ذالِكَ قَومُكِ لِيُدْخِلوا مَنْ شاؤا ويَمْنَعُوا منْ شاؤوا ولَوْلاَ أنَّ قَوْمَكِ حَديثٌ عَهدُهُمْ بِالجَاهِلِيَّةِ فأخافُ أنْ تُنْكِرَ قُلوبُهُمْ أنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ وأنْ أُلْصِقَ بابَهُ بالأرْضِ..
هَذَا طَرِيق ثَان فِي حَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص سَلام بن سليم الْحَنَفِيّ عَن الْأَشْعَث بن أبي الشعْثَاء الْمحَاربي عَن الْأسود بن يزِيد.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور عَن أبي الْأَحْوَص وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَكَذَا أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن الْجدر) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: الْجِدَار، وَقَالَ الْخَلِيل: الْجدر لُغَة فِي الْجِدَار، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وبضم الْجِيم أَيْضا، وَالظَّاهِر أَنه وهم، لِأَن المُرَاد الْحجر، وَفِي (مُسْند الطَّيَالِسِيّ) : عَن أبي الْأَحْوَص شيخ مُسَدّد فِيهِ الْجدر أَو الْحجر بِالشَّكِّ، وَعند أبي عوَانَة من طَرِيق شَيبَان عَن الْأَشْعَث: الْحجر بِلَا شكّ. قَوْله: (أَمن الْبَيْت هُوَ؟) الْهمزَة فِيهِ للإستفهام. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الْجدر. قَوْله: (قَالَ نعم) أَي: قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: نعم الْجدر من الْبَيْت، هَذَا يدل على أَن الْحجر كُله من الْبَيْت، وَبِذَلِك كَانَ يُفْتِي عبد الله بن عَبَّاس، كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن أَبِيه عَن مرْثَد بن شُرَحْبِيل، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس، يَقُول: لَو وليت من الْبَيْت مَا ولي ابْن الزبير لأدخلت الْحجر كُله فِي الْبَيْت، فلِمَ يُطاف بِهِ إِن لم يكن من الْبَيْت؟ وروى التِّرْمِذِيّ: قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَت: كنت أحب أَن أَدخل الْبَيْت فأُصلي فِيهِ، فَأخذ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيَدي فَأَدْخلنِي الْحجر، فَقَالَ: صلي فِي الْحجر إِن أردْت دُخُول الْبَيْت فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَة من الْبَيْت، وَلَكِن قَوْمك استقصروه حِين بنوا الْكَعْبَة فأخرجوه من الْبَيْت) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ عَلْقَمَة ابْن أبي عَلْقَمَة بن بِلَال. قلت: أما أمه فاسمها مرْجَانَة، ذكرهَا ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وَهُوَ الدَّرَاورْدِي، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة سعيد بن جُبَير (أَن عَائِشَة قَالَت: يَا رَسُول الله، كل نِسَائِك دخل الْكَعْبَة غَيْرِي؟ قَالَ: فانطلقي إِلَى قرابتك شيبَة يفتح لَك الْكَعْبَة، فَأَتَتْهُ، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَالله مَا فتحت بلَيْل قطّ فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام، وَإِن أَمرتنِي أَن أفتحها فتحتها. قَالَ: لَا، ثمَّ قَالَ: إِن قَوْمك قصرت بهم النَّفَقَة فقصروا فِي الْبُنيان، وَإِن الْحجر من الْبَيْت فاذهبي فَصلي فِيهِ) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي هَذَا الحَدِيث: أَن الْحجر كُله من الْبَيْت، وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي (الْمُخْتَصر) . وَمُقْتَضى كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابه كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الصَّحِيح، وَعَلِيهِ نَص الشَّافِعِي، وَبِه قطع جَمَاهِير أَصْحَابنَا، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا رَجحه ابْن الصّلاح قبله، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الصَّحِيح أَن لَيْسَ كُله من الْبَيْت، بل الَّذِي هُوَ من الْبَيْت قدر سِتَّة أَذْرع مُتَّصِل بِالْبَيْتِ، وَبِه قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَابْنه إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَالْبَغوِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن قَوْمك حَدِيث عهد بشركٍ لهدمت الْكَعْبَة وألزقتها بِالْأَرْضِ، د ولجعلت لَهَا بَابَيْنِ: بَابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فِيهَا سِتَّة أَذْرع من الْحجر فَإِن قُريْشًا اقتصرتها حِين بنت الْكَعْبَة) .
وَقَالَ ابْن الصّلاح اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَات، فِيهِ، فَفِي رِوَايَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : الْحجر من الْبَيْت، وَرُوِيَ سِتَّة أَذْرع أَو نَحْوهَا، وَرُوِيَ خَمْسَة أَذْرع،(9/218)
وَرُوِيَ قَرِيبا من سبع. قَالَ ابْن الصّلاح: وَإِذا اضْطَرَبَتْ الروايت تعين الْأَخْذ بأكثرها ليسقط الْفَرْض بِيَقِين.
وَقَالَ بَعضهم: بعد أَن ذكر حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَبعد أَن قَالَ: وَنَحْوه لأبي دَاوُد من طَرِيق صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَلأبي عوَانَة من طَرِيق قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَلأَحْمَد من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: هَذِه الرِّوَايَات كلهَا مُطلقَة، وَقد جَاءَت رِوَايَات أصح مِنْهَا مُقَيّدَة. لمُسلم من طَرِيق أبي قزعة عَن الْحَارِث بن عبد الله عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: فِي حَدِيث الْبَاب: حَتَّى أَزِيد فِيهِ من الْحجر، وَله من وَجه آخر عَن الْحَارِث عَنْهَا: (فَإِن بدا لقَوْمك أَن يبنوه بعدِي فهلمي لأريك مَا تَرَكُوهُ مِنْهُ، فأراها قَرِيبا من سَبْعَة أَذْرع) ، ثمَّ ذكر الرِّوَايَات المضطربة فِيهِ الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن قريب، ثمَّ قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَات كلهَا تَجْتَمِع على أَنَّهَا فَوق السِّتَّة وَدون السَّبْعَة انْتهى. قلت: قَوْله: وَقد جَاءَت رِوَايَات أصح مِنْهَا، غير مُسلم، لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على أَن الْحجر كُله من الْبَيْت، وأصرح مِنْهُ حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي لَفظه: (إِن الْحجر من الْبَيْت) ، فَكل ذَلِك صَحِيح، وترجيح رِوَايَة الْحَارِث عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على رِوَايَة الْأسود بن يزِيد عَنْهَا بالأصحية لَا دَلِيل عَلَيْهِ، ثمَّ تكلّف فِي الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات بِالْكَسْرِ والجبر. فَالْأَوْجه والأصوب فِيهِ مَا قَالَه ابْن الصّلاح، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا. ثمَّ إِن ثَبت أَن الْحجر كُله أَو بعضه من الْبَيْت فَلَا تصح صَلَاة كل مُسْتَقْبل شَيْئا مِنْهُ، وَهُوَ غير مُسْتَقْبل لشَيْء من الْكَعْبَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَحَادِيث فِي هَذَا آحَاد، إِنَّمَا تفِيد الظَّن، وَقد أمرنَا باستقبال الْمَسْجِد الْحَرَام يَقِينا على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي التَّفْصِيل بَين الْحَاضِر والبعيد، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب عِنْد الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ أَنه لَا يَصح اسْتِقْبَال شَيْء من الْحجر فِي الصَّلَاة مَعَ عدم اسْتِقْبَال شَيْء من الْكَعْبَة.
قَوْله: (قصرت بهم النَّفَقَة) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُشَدّدَة أَي النَّفَقَة الطّيبَة الَّتِي أخرجوها، ويروى، قصرت، بِضَم الصَّاد المخففة، وروى أَبُو إِسْحَاق فِي (السِّيرَة) : عَن عبد الله بن أبي نجيح أَنه أخبر عَن عبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة أَن وهب بن عَائِد بن عمرَان بن مَخْزُوم، وَهُوَ جد جعدة بن هُبَيْرَة بن أبي وهب المَخْزُومِي، قَالَ لقريش: لَا تدْخلُوا فِيهِ من كسبكم إلاَّ طيبا، وَلَا تدْخلُوا فِيهِ مهر بغي وَلَا بيع رَبًّا وَلَا مظْلمَة من أحد من النَّاس. قَوْله: (ليدخلوا) ، من الإدخال، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: يدخلُوا، بِغَيْر لَام، وَفِي لفظ مُسلم: (هَل تدرين لِمَ كَانَ قَوْمك رفعوا بَابهَا؟ قَالَت: قلت: لَا. قَالَ: تَحَرُّزًا أَن لَا يدخلهَا إلاَّ من أَرَادوا، وأفَكان الرجل إِذا هُوَ أَرَادَ أَن يدخلهَا يَدعُونَهُ يرتقي حَتَّى إِذا كَاد أَن يدْخل دفعوه فَسقط؟) قَوْله: (حَدِيث عَهدهم) ، بتنوين: حَدِيث، و: الْعَهْد، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعله، ويروى بِإِضَافَة: حَدِيث، إِلَى: عَهدهم. قَوْله: (بالجاهلية) بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بجاهلية، بِدُونِ الْألف وَاللَّام. فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب: لَوْلَا؟ قلت: مَحْذُوف تَقْدِيره: لأدخلت الْجدر فِي الْبَيْت. قَوْله: (فَأَخَاف أَن تنكر قُلُوبهم) ، وَفِي رِوَايَة شَيبَان عَن أَشْعَث: تنفر، بِالْفَاءِ بدل الْكَاف، وَنقل ابْن بطال عَن بعض عُلَمَائهمْ أَن النفرة الَّتِي خشيها، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن ينسبوه إِلَى الإنفراد بالفخر دونهم. قَوْله: (أَن أَدخل الْجدر) . كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أَخَاف إِنْكَار قُلُوبهم بِإِدْخَال الْجدر فِي الْبَيْت. قَوْله: (وَأَن ألصق) ، عطف على مَا قبله، أَي: وَبِأَن ألصق أَي: وبإلصاق بَابه بِالْأَرْضِ.
5851 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسامةَ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قالَ لِي رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ حدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لنَقَضْتُ البَيْتَ ثُمَّ لَبَنيْتُهُ علَى أساسِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلامُ، فإنَّ قُرَيْشا اسْتَقْصَرَتْ بِناءهُ وجَعَلَتْ لهُ خَلْفا قَالَ أبُو مُعَاوِيَةَ حَدثنَا هِشامٌ خَلْفا يَعْني بَابا..
هَذَا طَرِيق ثَالِث فِي طَرِيق عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ عَن عبيد، بِضَم الْعين: إِبْنِ إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، يروي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة ابْن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (عَن أَبِيه عَن عَائِشَة) ، كَذَا رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة، وَالنَّسَائِيّ من(9/219)
طَرِيق عَبدة بن سُلَيْمَان، وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق عَليّ بن مسْهر، وَأحمد عَن عبد الله بن نمير، كلهم عَن هِشَام، وَخَالفهُم الْقَاسِم بن معن فَرَوَاهُ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن أَخِيه عبد الله بن الزبير عَن عَائِشَة، أخرجه أَبُو عوَانَة، وَرِوَايَة الْجَمَاعَة أرجح لِأَن رِوَايَة عُرْوَة عَن عَائِشَة لهَذَا الحَدِيث مَشْهُورَة من غير وَجه كَذَا قَالَه بَعضهم. قلت: لَا مَانع أَن يكون عُرْوَة قد سمع من عَائِشَة بِدُونِ وَاسِطَة، وَسمع أَيْضا عَن أَخِيه عَنْهَا بِوَاسِطَة. قَوْله: (وَجعلت) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمُتَكَلّم عطفا على قَوْله: (لبنيته) ، وضبطها الْقَابِسِيّ: بِفَتْح اللَّام وَسُكُون التَّاء عطفا على قَوْله: (استقصرت) . قَوْله: (خلفا) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام بعْدهَا فَاء، أَي: بَابا، وَضَبطه الْحَرْبِيّ فِي (الْغَرِيب) بِكَسْر الْخَاء. قَوْله: (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة) ، وَهُوَ مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالزاي: الضَّرِير، حَدثنَا هِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة خلفا يَعْنِي بَابا، يَعْنِي فسهر بِالْبَابِ، وَهَذَا مُعَلّق وَصله مُسلم، قَالَ: حَدثنَا يحيى ابْن يحيى، قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (لَوْلَا حَدَاثَة عهد قَوْمك بالْكفْر لنقضت الْكَعْبَة ولجعلتها على أساس إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِن قُريْشًا حِين بنت الْبَيْت استقصرت، ولجعلت لَهَا خلفا) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا.
6851 - حدَّثنا بَيانُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حَدثنَا يَزِيدُ قَالَ حدَّثنا جريرُ بنُ حازِمٍ قَالَ حدَّثنا يَزيدُ ابنُ رُومَانَ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لَها يَا عَائِشَةَ لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فأدْخَلْتُ فِيهِ مَا أخْرِجَ مِنْهُ وَألْزَقْتُهُ بالأرْضِ وجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابا شرْقِيا وبَابا غرْبِيا فبلَغْتُ بِهِ أساسَ إبْرَاهِيمَ فذالِكَ الَّذِي حَمَلَ ابنَ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَلى هَدْمِهِ. قالَ يَزِيدُ وشَهِدْتُ ابنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وبَناهُ وأدْخَلَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ وقَدْ رأيْتُ أسَاسَ إبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كأسْنِمَةِ الإبِلِ قَالَ جَرِيرٌ فقُلْتُ لَهُ أيْنَ مَوْضِعُهُ قَالَ أُرِيكِهُ الآنَ فدَخَلْتُ معَهُ الحِجْرَ فأشارَ إلَى مكانٍ فقالَ هاهُنَا قَالَ جَرير فَحزَرْتُ مِنَ الحِجْرِ سَتَّةَ أذْرُعٍ..
هَذَا طَرِيق رَابِع فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: بَيَان، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف نون: ابْن عَمْرو، بِالْوَاو، وَقد مر فِي: بَاب تعاهد رَكْعَتي الْفجْر، الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن هَارُون، وَقد مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: جرير، بِفَتْح الْجِيم ابْن حزم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي. الرَّابِع: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن رُومَان، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَتَخْفِيف الْمِيم وَبعد الْألف نون: مولى آل الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس: عَائِشَة، أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده من أهل بخارء من قصر كج خَارج الدَّرْب، وَإِن يزِيد بن هَارُون واسطي وَأَن جرير بن حَازِم بَصرِي وَأَن يزِيد بن رُومَان وَعُرْوَة مدنيان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن سَلام عَن يزِيد بن هَارُون عَن جرير ابْن حَازِم.
قَوْله: (عَن عُرْوَة) ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من أَصْحَاب يزِيد بن هَارُون عَنهُ، وَكَذَا عِنْد أَحْمد بن حَنْبَل وَأحمد ابْن سِنَان وَأحمد بن منيع فِي (مسانيدهم) وَكَذَا عِنْد النَّسَائِيّ والزعفراني والإسماعيلي، كلهم عَن يزِيد بن هَارُون، وَخَالفهُم الْحَارِث ابْن أبي أُسَامَة فَرَوَاهُ عَن يزِيد بن هَارُون، فَقَالَ: عَن عبد الله بن الزبير، بدل: عُرْوَة بن الزبير، وَهَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي الْأَزْهَر عَن وهب بن جرير بن حَازِم عَن أَبِيه. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن كَانَ أَبُو الْأَزْهَر ضَبطه فَكَأَن يزِيد ابْن رُومَان سَمعه من الأخوان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَدِيث عهد) ، بِالْإِضَافَة عِنْد جَمِيع الروَاة، قَالَ المطرزي: لَا يجوز حذف الْوَاو فِي مثل هَذَا، وَالصَّوَاب: حديثوا الْعَهْد. قَوْله: (مَا أخرج مِنْهُ) ، فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول. قَوْله: (فأدخلت) ، و (مَا أخرج مِنْهُ) ، هُوَ(9/220)
الْمُسَمّى بِالْحجرِ. قَوْله (وألزقته) ، أَي: أَلْصَقته بِحَيْثُ يكون بَابه على وَجه الأَرْض غير مُرْتَفع. قَوْله: (بَابا شرقيا) ، هُوَ مثل الْمَوْجُود الْيَوْم، فَفِيهِ ثَلَاث تَصَرُّفَات على خلاف مَا بنى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (فَذَلِك الَّذِي حمل ابْن الزبير) أَي عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على هَدمه أَي: هدم الْبَيْت، وَزَاد وهب فِي رِوَايَته: وبنائه. قَوْله: (قَالَ يزِيد) ، هُوَ ابْن رُومَان، أَي: قَالَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (وَشهِدت ابْن الزبير) إِلَى قَوْله: (كأسنمة الْإِبِل) ، هَكَذَا ذكره يزِيد ابْن رُومَان مُخْتَصرا، وَقد رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عَطاء بن أبي رَبَاح مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا هناد بن السّري، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي زَائِدَة، قَالَ: أخبرنَا ابْن أبي سُلَيْمَان (عَن عَطاء قَالَ: لما احْتَرَقَ الْبَيْت، زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة حِين غزاه أهل الشَّام فَكَانَ من أمره مَا كَانَ، تَركه ابْن الزبير حَتَّى قدم النَّاس الْمَوْسِم يُرِيد أَن يخزيهم أَو يحزنهم على أهل الشَّام، فَلَمَّا صدر النَّاس قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس! أَشِيرُوا عليَّ فِي الْكَعْبَة أنقضها ثمَّ أبني بناءها وَأصْلح مَا وَهَى مِنْهَا؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَأَنِّي قد فرق لي رَأْي فِيهَا، أرى أَن تصلح مَا وهَى مِنْهَا وَتَدَع بَيْتا أسلم النَّاس عَلَيْهِ، وأحجارا أسلم النَّاس عَلَيْهَا، وَبعث عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ ابْن الزبير: لَو كَانَ أحدكُم احْتَرَقَ بَيته مَا رَضِي حَتَّى يجدده، فَكيف بَيت ربكُم؟ إِنِّي مستخير رَبِّي ثَلَاثًا، ثمَّ عازم على أَمْرِي، فَلَمَّا مَضَت ثَلَاث أجمع رَأْيه على أَن ينْقضه، فتحاماه النَّاس أَن ينزل بِأول النَّاس يصعد فِيهِ أَمر من السَّمَاء، حَتَّى صعده رجل فَألْقى مِنْهُ حِجَارَة، فَلَمَّا لم يره النَّاس أَصَابَهُ تتابعوا فنقضوه حَتَّى بلغُوا بِهِ الأَرْض، فَجعل ابْن الزبير أعمدة فَستر عَلَيْهَا الستور تى ارْتَفع بِنَاؤُه، وَقَالَ ابْن الزبير: سَمِعت عَائِشَة تَقول: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَوْلَا أَن النَّاس حَدِيث عَهدهم بِكفْر، وَلَيْسَ عِنْدِي من النَّفَقَة مَا يقوى على بنائِهِ لَكُنْت أدخلت فِيهِ من الْحجر خَمْسَة أَذْرع، ولجعلت لَهُ بَابا يدْخل مِنْهُ النَّاس، وبابا يخرجُون مِنْهُ. قَالَ: فَأَنا الْيَوْم أجد مَا أنْفق وَلست أَخَاف النَّاس. قَالَ: فَزَاد فِيهِ خَمْسَة أَذْرع من الْحجر حَتَّى أبدى أُسّا نظر النَّاس إِلَيْهِ فَبنى عَلَيْهِ الْبناء، وَكَانَ ذول الْكَعْبَة ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا، فَلَمَّا زَاد فِيهِ استقصره، فَزَاد فِي طوله عشرَة أَذْرع، وَجعل لَهُ مَا بَين أَحدهمَا بَابَيْنِ: يدْخل مِنْهُ، وَالْآخر يخرج مِنْهُ، فَلَمَّا قتل ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان يُخبرهُ بذلك، ويخبره أَن ابْن الزبير قد وضع الْبناء على أسٍّ نظر إِلَيْهِ الْعُدُول من أهل مَكَّة، فَكتب إِلَيْهِ عبد الْملك إِنَّا لسنا من تلطيخ ابْن الزبير فِي شَيْء، أما مَا زَاد من طوله فأقره، وَأما مَا زَاد فِيهِ من الْحجر فَرده إِلَى بنائِهِ، وسُدَّ الْبَاب الَّذِي فَتحه، فنقضه وَأَعَادَهُ إِلَى بنائِهِ. قَوْله: (وبناه) أَي: بنى الْبَيْت. قَالَ ابْن سعد: لم يبن ابْن الزبير الْكَعْبَة حَتَّى حج بِالنَّاسِ سنة أَربع وَسِتِّينَ، ثمَّ بناها حِين اسْتقْبل سنة خمس وَسِتِّينَ، وَحكي عَن الْوَاقِدِيّ أَنه رد ذَلِك، وَقَالَ: الأثبت أَنه ابْتَدَأَ بناءها بعد رحيل الْجَيْش لسَبْعين يَوْمًا. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ ذَلِك فِي نصف جمادي الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَيُمكن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن يكون ابْتِدَاء الْبناء فِي ذَلِك الْوَقْت، وامتد أمده إِلَى الْمَوْسِم ليراه أهل الْآفَاق، ليشنع بذلك على بني أُميَّة، وَفِي (تَارِيخ المسجى) : كَانَ الْفَرَاغ من بِنَاء الْبَيْت فِي سنة خمس وَسِتِّينَ، وَزَاد الْمُحب الطَّبَرِيّ أَنه: كَانَ فِي شهر رَجَب. قلت: الْجَيْش هُوَ جَيش الشَّام من قبل يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ أَمِيرهمْ الْحصين بن نمير، وَمَا ارتحلوا من مَكَّة حَتَّى أَتَاهُم موت يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَذَلِكَ بعد أَن أفسدوا فِي حرم الله تَعَالَى وسفكوا الدِّمَاء وأوهنوا الْكَعْبَة من حِجَارَة المجانيق. قَوْله: (وَقد رَأَيْت) ، الرَّائِي يزِيد بن رُومَان. قَوْله: (كأسنمة الْإِبِل) ، الأسنمة: جمع سَنَام، وَفِي (كتاب مَكَّة) للفاكهي، من طَرِيق أبي أويس عَن يزِيد بن رُومَان. فكشفوا لَهُ، أَي لِابْنِ الزبير، عَن قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهِي صَخْر أَمْثَال الْخلف من الْإِبِل، ورأوه بنيانا مربوطا بعضه بِبَعْض، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من طَرِيق ابْن سابط عَن يزِيد: أَنهم كشفوا عَن الْقَوَاعِد، فأذا الْحجر مثل الْخلقَة، وَالْحِجَارَة مشبك بَعْضهَا بِبَعْض، وَفِي رِوَايَة للفاكهي عَن عَطاء، قَالَ: كنت فِي الْأَبْنَاء الَّذين جمعُوا على حفره، فَحَفَرُوا قامة وَنصفا، فَهَجَمُوا على حِجَارَة لَهَا عروق تتصل بزرد عروق الْمَرْوَة، فضربوه فارتجت قَوَاعِد الْبَيْت، فَكبر النَّاس، فَبنى عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مرْثَد عِنْد عبد الرَّزَّاق: فكشف عَن ربض فِي الْحجر آخذ بعضه بِبَعْض، فَتَركه مكشوفا ثَمَانِيَة أَيَّام ليشهدوا عَلَيْهِ، فَرَأَيْت ذَلِك الربض مثل خلف الْإِبِل، وَجه حجر وَوجه حجر وَوجه حجران، وَرَأَيْت الرجل يَأْخُذ العثلة فَيضْرب بهَا من نَاحيَة الرُّكْن فيهتز الرُّكْن الآخر. قلت: الْخلف، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وَفِي آخِره فَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخلف الْمَخَاض، وَهِي(9/221)
الْحَوَامِل من النوق، الْوَاحِدَة: خلفة. قَوْله: (قَالَ جرير) ، هُوَ جرير بن حَازِم الْمَذْكُور فِي السَّنَد. قَوْله: (فحزرت) ، بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، أَي: قدَّرت سِتَّة أَذْرع، وَقد ورد ذَلِك مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا تقدم فِي الطَّرِيق الثَّانِي، فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالله أعلم.
34 - (بابُ فَضْلِ الحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحرم، أَي: حرم مَكَّة، وَهُوَ مَا أحاطها من جوانبها، جعل الله حكمه فِي الْحُرْمَة تَشْرِيفًا لَهَا، وحدَّه من الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَمن الْيمن وَالْعراق على سَبْعَة، وَمن الْجدّة على عشرَة. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: حد الْحرم من طَرِيق الْمَدِينَة دون التَّنْعِيم عِنْد بيُوت تعار على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة، وَمن طَرِيق الْيمن طرف أضاة على سَبْعَة أَمْيَال من مَكَّة، وَمن طَرِيق الطَّائِف إِلَى بطن بيرة على أحد عشر ميلًا، وَمن طَرِيق الْعرَاق، إِلَى ثنية رَحل عشرَة أَمْيَال، وَمن طَرِيق جعرانة فِي شعب آل عبد الله بن خَالِد بن أسيد على خَمْسَة أَمْيَال، وَمن طَرِيق جدة مُنْقَطع الأعناس، وَمن الطَّائِف سَبْعَة أَمْيَال عِنْد طرف عُرَنَة، وَمن بطن عُرَنَة أحد عشر ميلًا. وَقيل: إِن الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما وضع الْحجر الْأسود فِي الرُّكْن أَضَاء مِنْهُ نور وَصلى إِلَى أَمَاكِن الْحُدُود، فَجَاءَت الشَّيَاطِين فوقفت عِنْد الْأَعْلَام، فبناها الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حاجزا. رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أرى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَوضِع أنصاب الْحرم، فنصبها ثمَّ جددها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ جددها قصي بن كلاب، ثمَّ جددها سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعث أَرْبَعَة من قُرَيْش فنصبوا أنصاب الْحرم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (المنتظم) : وَأما حُدُود الْحرم: فَأول من وَضعهَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ جِبْرِيل يرِيه، ثمَّ لم يجدد حَتَّى كَانَ قصي فجددها، ثمَّ قلعتها قُرَيْش فِي زمَان نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: إِنَّهُم سيعيدونها، فَرَأى رجال مِنْهُم فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول: حرم أكْرمكُم الله بِهِ نزعتم أنصابه؟ الْآن تختطفكم الْعَرَب، فأعادوها. فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: قد أعادوها. فَقَالَ: قد أَصَابُوا. قَالَ: مَا وضعُوا مِنْهَا نصبا إلاَّ بيد ملك، ثمَّ بعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام الْفَتْح تَمِيم بن أَسد فجددها، ثمَّ جددها عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ جددها مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ جددها عبد الْملك بن مَرْوَان. فَإِن قلت: مَا السَّبَب فِي بعد بعض الْحُدُود وَقرب بَعْضهَا مِنْهُ؟ قلت: إِن الله عز وَجل، لما أهبط على آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَيْتا من ياقوتة، أَضَاء لَهُ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، فنفرت الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، وَأَقْبلُوا ينظرُونَ، فَجَاءَت مَلَائِكَة فوقفوا مَكَان الْحرم إِلَى مَوضِع انْتِهَاء نوره، وَكَانَ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يطوف بِهِ ويأنس بِهِ.
ونفسر الْأَلْفَاظ الَّتِي وَقعت هُنَا، فَنَقُول: تعار، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف رَاء: وَهُوَ جبل من جبال أبلى، على وزن: فعلى، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة على طَرِيق الْآخِذ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة على بطن نخل، وتعار جبل لَا ينْبت شَيْئا، وَقَالَ كثير:
(أجيبك مَا دمت بِنَجْد وَشَيْخه ... وَمَا ثبتَتْ إبليٌّ بِهِ وتعار)
والتنعيم على لفظ الْمصدر من: نعْمَته تنعيما، وَهُوَ بَين مر وسرف، بَينه وَبَين مَكَّة فرسخان، وَمن التَّنْعِيم يحرم من أَرَادَ الْعمرَة. وَسمي التَّنْعِيم لِأَن الْجَبَل عَن يَمِينه يُقَال لَهُ: نعيم، وَالَّذِي عَن يسَاره يُقَال لَهُ: ناعم، والوادي نعْمَان. وَمر، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: مُضَاف إِلَى الظهْرَان، بالظاء الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، بَينه وَبَين الْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا، وسرف، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء، وَفِي آخِره فَاء، وَقَالَ الْبكْرِيّ: بِسُكُون الرَّاء، وَهُوَ مَاء على سِتَّة أَمْيَال من مَكَّة، وَهنا أعرس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بميمونة مرجعه من مَكَّة حَتَّى قضى نُسكه، وَهُنَاكَ مَاتَت مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهَا اعتلت بِمَكَّة. فَقَالَت: أَخْرجُونِي من مَكَّة، وَلِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبرنِي أَنِّي لَا أَمُوت بهَا، فحملوها حَتَّى أَتَوا بهَا سَرفًا إِلَى الشَّجَرَة الَّتِي بنى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتهَا مَوضِع الْقبَّة فَمَاتَتْ هُنَاكَ، سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، وَهُنَاكَ عِنْد قبرها سِقَايَة، وروى الزُّهْرِيّ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حمى السَّرف والربذة، هَكَذَا أورد فِي الحَدِيث: السَّرف، بِالْألف وَاللَّام، ذكره البُخَارِيّ. والأضاة، بِفَتْح الْهمزَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، قَالَ الْجَوْهَرِي:(9/222)
هُوَ الغدير، وَقَالَ السُّهيْلي: بَينهَا وَبَين مَكَّة عشرَة أَمْيَال. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أضاة بني غفار بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (بيرة) .
وقَوْلِهِ تعالَى: {إنَّمَا أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هذهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المُسْلِمينَ} (النَّمْل: 19) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على مَا قبله الْمَجْرُور بِالْإِضَافَة. وَجه تعلق هَذِه الْآيَة بالترجمة من جِهَة أَنه اختصها من بَين جَمِيع الْبِلَاد بِإِضَافَة إسمه إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أحب بِلَاده إِلَيْهِ وَأَكْرمهَا عَلَيْهِ وَأَعْظَمهَا عِنْده، حَيْثُ أَن حرمهَا لَا يسفك فِيهَا دم حرَام، وَلَا يظلم فِيهَا أحد وَلَا يهاج صيدها، وَلَا يخْتَلى خَلاهَا. وَلما بيَّن الله تَعَالَى قبل هَذِه الْآيَة المبدأ والمعاد ومقدمات الْقِيَامَة وَأَحْوَالهَا، وَصفَة أهل الْقِيَامَة من الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَذَلِكَ كَمَال مَا يتَعَلَّق بأصول الدّين، ذكر هَذِه الْآيَة وَختم مَا قبله بِهَذِهِ الخاتمة، فَقَالَ: قل يَا مُحَمَّد: إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة، أَي: أَنِّي أخص رب هَذِه الْبَلدة بِالْعبَادَة، وَلَا اتخذ لَهُ شَرِيكا. والبلدة: مَكَّة، وَقَالَ الزّجاج: قرىء: هَذِه الْبَلدة، الَّتِي، وَهِي قَليلَة، وَتَكون الَّتِي فِي مَوضِع خفض من نعت للبلدة، وَفِي قِرَاءَة: الَّذِي، يكون: الَّذِي، فِي مَوضِع نصب من نعت رب، وَأَشَارَ إِلَيْهَا إِشَارَة تَعْظِيمًا لَهَا وتقريبا دَالا على أَنَّهَا موطن نبيه ومهبط وحيه، وَوصف ذَاته بِالتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ خَاص، وصفهَا فأجزل بذلك قسمهَا فِي الشّرف والعلو، ووصفها بِأَنَّهَا مُحرمَة لَا ينتهك حرمتهَا إلاَّ ظَالِم مضاد لرَبه، وَله كل شَيْء خلقا وملكا، وَجعل دُخُول كل شَيْء تَحت ربوبيته وملكوته، و: أمرت، الثَّانِي عطف على: أمرت، الأول يَعْنِي: أمرت أَن أكون من الحنفاء الثابتين على مِلَّة الْإِسْلَام.
وقولِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أوَ لَمْ تُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَما آمِنا يَجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقا مِنْ لَدُنَّا وَلاكِنَّ أكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الْقَصَص: 75) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله الْمَاضِي. وَتعلق هَذِه الْآيَة أَيْضا بالترجمة من حَيْثُ: إِن الله تَعَالَى وصف الْحرم بالأمن، ومنَّ على عباده بِأَن مكن لَهُم هَذَا الْحرم، وروى النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير: (أَن الْحَارِث بن عَامر بن نَوْفَل قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} (الْقَصَص: 75) . فَأنْزل الله، عز وَجل، ردا عَلَيْهِ: {أَو لم نمكن لَهُم حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) . الْآيَة، مَعْنَاهُ: جعلهم الله فِي بلد أَمِين وهم مِنْهُ فِي أَمَان فِي حَال كفرهم، فَكيف لَا يكون لَهُم أَمن بعد أَن أَسْلمُوا وتابعوا الْحق. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : وَنزلت هَذِه الْآيَة فِي الْحَارِث بن عُثْمَان بن نَوْفَل بن عبد منَاف، وَذَلِكَ أَنه أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنَّا لنعلم أَن الَّذِي تَقول حق، وَلَكِن يمنعنا من اتباعك أَن الْعَرَب تتخطفنا من أَرْضنَا لإجماعهم على خلافنا وَلَا طَاقَة لنا بهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فَحكى أَولا عَن قَوْلهم بقوله: {وَقَالُوا: إِن نتبع الْهَدْي مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} (الْقَصَص: 75) . ثمَّ رد عَلَيْهِم بقوله: {أَو لم نمكن لَهُم. .} (الْقَصَص: 75) . الْآيَة، أَي: أَو لم نسكنهم حرما ونجعله مَكَانا لَهُم؟ وَمعنى: آمنا، ذُو أَمن يَأْمَن النَّاس فِيهِ، وَذَلِكَ أَن الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت يُغير بَعضهم على بعض، وَأهل مَكَّة آمنون فِي الْحرم من السَّبي وَالْقَتْل والغارة، أَي: فَكيف يخَافُونَ إِذا أَسْلمُوا وهم فِي حرم آمن؟ قَوْله: (يَجِيء) قَرَأَ نَافِع بِالتَّاءِ من فَوق، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، قَوْله: {إِلَيْهِ} أَي: إِلَى الْحرم، أَي: تجلب وَتحمل من النواحي {ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا} (الْقَصَص: 75) . أَي: من عندنَا، وَلَكِن أَكثر أهل مَكَّة لَا يعلمُونَ أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي فعل بهم فيشكرونه.
7851 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا جرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ إنَّ هاذا البَلَدَ حَرَّمَهُ الله لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ولاَ يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله) ، وَفِيه تَعْظِيم لَهُ، وتعظيمه يدل على فَضله واختصاصه من بَين سَائِر الْبِلَاد، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه(9/223)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن عَليّ بن عبد الله، وَأخرجه فِي الْحَج أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَفِي الْجِهَاد عَن آدم وَعَن عَليّ بن عبد الله وَعَمْرو بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، د وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فيهمَا عَن عُثْمَان بِهِ مقطعا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج فِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور، وَفِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن قدامَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حرمه الله) أَي: جعله حَرَامًا، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي: بَاب غَزْوَة الْفَتْح: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ يَوْم الْفَتْح، فَقَالَ: إِن الله حرم مَكَّة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهِيَ حرَام بحراح الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. .) الحَدِيث. وَقَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس من غير وَجه. فَإِن قلت: إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حرم مَكَّة وَأَنا أحرم مَا بَين لابتيها) أَي: لابتي الْمَدِينَة، يُعَارض هَذَا الحَدِيث؟ قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَن معنى قَوْله: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة) ، أعلن بتحريمها وَعرف النَّاس بِأَنَّهَا حرَام بِتَحْرِيم الله، إِيَّاهَا، فَلَمَّا لم يعرف تَحْرِيمهَا إلاَّ فِي زَمَانه على لِسَانه أضيف إِلَيْهِ. وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الله يتوفى الْأَنْفس} (الزمر: 24) . فَإِنَّهُ أضَاف إِلَيْهِ التوفي. وَفِي آيَة أُخْرَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} (السَّجْدَة: 11) . أضَاف إِلَيْهِ التوفي، وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة} (النَّحْل: 82) . فأضاف إِلَيْهِم التوفي. وَفِي الْحَقِيقَة المتوفي هُوَ الله عز وَجل، وأضاف إِلَى غَيره لِأَنَّهُ ظهر على أَيْديهم. قَوْله: (لَا يعضد شَجَرهَا) أَي: لَا يقطع، من عضدتُ الشّجر أعضده عضد، أَمْثَال: ضرب، إِذا قطعته، وَفِي (الْمُحكم) : الشّجر معضود وعضيد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى: لَا يعضد لَا يفْسد وَيقطع، وَأَصله من عضد الرجل الرجل إِذا أصَاب عضده بِسوء. قَوْله: (وَلَا ينفر صَيْده) أَي: لَا يزعج من مَكَانَهُ. وَهُوَ تَنْبِيه من الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَلَا يضْرب وَلَا يقتل بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (وَلَا يلتقط) على صِيغَة الْمَعْلُوم، ولقطته مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (إلاَّ من عرفهَا) ، أَي: إلاَّ مَنْ عرف أَنَّهَا لقطَة فيلتقطها ليردها إِلَى صَاحبهَا وَلَا يتملكها.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن مَكَّة حرَام فَلَا يجوز لأحد أَن يدخلهَا إلاَّ بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه: وَمَالك فِي رِوَايَة، وَهِي قَوْله الصَّحِيح، وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَمَالك فِي رِوَايَة، وَدَاوُد بن عَليّ وَأَصْحَابه من الظَّاهِرِيَّة: لَا بَأْس بِدُخُول الْحرم بِغَيْر إِحْرَام، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ أَيْضا، قَالَه عِيَاض، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) ، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل مَكَّة وعَلى رَأسه مغفر. .) الحَدِيث. وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن دُخُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَكَّة كَانَ وَهِي حَلَال ساعتئذ، فَكَذَلِك دَخلهَا وَهُوَ غير محرم، وَأَنه كَانَ خَاصّا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ عَادَتْ حَرَامًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلَا يجوز دُخُولهَا لأحد بِغَيْر إِحْرَام.
وَفِيه: أَنه لَا يجوز قطع شَوْكَة وَلَا قطع شَجَرَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم، وَقَالَ الإِمَام: اخْتلف النَّاس فِي قطع شجر الْحرم: هَل فِيهِ جَزَاء أم لَا؟ فَعِنْدَ مَالك: لَا جَزَاء فِيهِ، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِيهِ الْجَزَاء، وجزاؤه عِنْد الشَّافِعِي فِي الدوحة بقرة وَمَا دونهَا شَاة، وَعند أبي حنيفَة: يُؤْخَذ مِنْهُ قيمَة ذَلِك، يشترى بِهِ هدي، فَإِن لم تبلغ ثمنه ذَلِك تصدق بِهِ بِنصْف صَاع لكل مِسْكين، وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي الْخشب وَمَا أشبه قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت، وَالْمحرم والحلال فِي ذَلِك سَوَاء، وَأجْمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة أَخذ كل مَا ينبته النَّاس فِي الْحرم من الْبُقُول والزروع والرياحين وَغَيرهَا، وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم، فَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار أَنهم رخصوا فِي ذَاك، وَحكى أَبُو ثَوْر ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَكَانَ عَطاء يرخص فِي أَخذ ورق السنا يستمشي بِهِ وَلَا ينْزع من أَصله، ورخصوا فِيهِ عَمْرو بن دِينَار، وَفِيه أَنه لَا يجوز رفع لقطتهَا إلاَّ المنشد، قَالَ القَاضِي عِيَاض: حكم اللّقطَة فِي سَائِر الْبِلَاد وَاحِد، وَعند الشَّافِعِي: أَن لقطَة مَكَّة بِخِلَاف غَيرهَا من الْبِلَاد، وَأَنَّهَا لَا تحل إلاَّ لمن يعرفهَا، وَمذهب الْحَنَفِيَّة كمذهب مَالك لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) ، من غير فصل.(9/224)
44 - (بابُ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وبَيْعِهَا وشِرَائِهَا وَأنَّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ سَوَاءٌ خاصَّةٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَوْرِيث دور مَكَّة وَبَيْعهَا وشرائها، وَإِنَّمَا لم يبين الحكم بِالْجَوَازِ أَو بِعَدَمِهِ لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى تَضْعِيف حَدِيث عَلْقَمَة بن نَضْلَة، قَالَ: توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَمَا ترعى رباع مَكَّة إلاَّ السوائب، من احْتَاجَ سكن، رَوَاهُ ابْن مَاجَه، قلت: لَيْت شعري مَا وَجه هَذِه الْإِشَارَة؟ وَالْإِشَارَة لَا تكون إلاَّ للحاضر. وروى هَذَا الحَدِيث الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين بِرِجَال ثِقَات، وَلكنه مُنْقَطع، لِأَن عَلْقَمَة بن نَضْلَة لَيْسَ بصحابي، وَلَفظ الطَّحَاوِيّ فِي أحد الطَّرِيقَيْنِ، عَن عَلْقَمَة بن نَضْلَة، قَالَ: كَانَت الدّور على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مَا تبَاع وَلَا تكرى وَلَا ترعى إلاَّ السوائب، من احْتَاجَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه عَن عَلْقَمَة بن نَضْلَة الْكِنَانِي، قَالَ: كَانَت بيُوت مَكَّة ترعى السوائب، لم يبع رباعها فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا أبي بكر وَلَا عمر، من احْتَاجَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن. قَوْله: السوائب، جمع سائبة، وَأَصلهَا من تسييب الدَّوَابّ، وَهُوَ: إرسالها تذْهب وتجيء كَيفَ شَاءَت، وَأَرَادَ بهَا: أَنَّهَا كَانَت سائبة لكل أحد من شَاءَ كَانَ يسكنهَا فَإِذا فرغ مِنْهَا أسكن غَيره فَلَا بيع وَلَا إجَازَة، والرباع جمع رَبع، وَهُوَ الْمنزل، قَالَ الْجَوْهَرِي: الرّبع الدَّار بِعَينهَا حَيْثُ كَانَت، وَجَمعهَا: رباع وَأَرْبع وربوع وأرباع وَالرّبع: الْمحلة، أَيْضا وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث مُجَاهِد عَن عبد الله بن عَمْرو، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يحل بيع بيُوت مَكَّة وَلَا إِجَارَتهَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى هَذِه الْآثَار فَقَالُوا: لَا يجوز بيع أَرض مَكَّة وَلَا إِجَارَتهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل: أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَالثَّوْري. قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ، عَطاء بن أبي رَبَاح ومجاهدا ومالكا وَإِسْحَاق وَأَبا عبيد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَا بَأْس بِبيع أرْضهَا وإجارتها، وجعلوها فِي ذَلِك كَسَائِر الْبلدَانِ، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى هَذَا القَوْل أَبُو يُوسُف. قلت: أَرَادَ بالآخرين طاووسا وَعَمْرو بن دِينَار وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَابْن الْمُنْذر مَعَهم، وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِحَدِيث الْبَاب، على مَا يَأْتِي. قَوْله: (فَإِن النَّاس) ، عطف على قَوْله: (فِي دور مَكَّة) ، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان أَن النَّاس فِي مَسْجِد الْحرم سَوَاء أَي: متساوون. قَالَ الْكرْمَانِي: أَي فِي نفس الْمَسْجِد، لَا فِي سَائِر الْمَوَاضِع من مَكَّة. قلت: هَذَا ميل مِنْهُ إِلَى تَرْجِيح مذْهبه، وَالْمرَاد من الْمَسْجِد الْحَرَام: الْحرم كُله، ورد ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد. أخرجه ابْن أبي حَاتِم وَغَيرهم عَنْهُم، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عمر: أَن الْحرم كُله مَسْجِد ويروى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، بِالْألف وَاللَّام فِي الْمَسْجِد قَوْله: (خَاصَّة) قيد لِلْمَسْجِدِ الْحَرَام، وَقد قُلْنَا إِن الْمَسْجِد الْحَرَام كُله حرم.
لِقَوْلِهِ تَعَالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ عنْ سَبِيلِ الله والمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيِهِ والْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ} (الْحَج: 52) .
هَذَا تَعْلِيل لقَوْله: (وَإِن النَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام سَوَاء) . قَوْله: {إِن الَّذين كفرُوا} يَعْنِي: أهل مَكَّة. قَوْله: {ويصدون عَن سَبِيل الله} أَي: ويصرفون النَّاس عَن دين الْإِسْلَام. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الصدود مِنْهُم مُسْتَمر دَائِم للنَّاس، أَي للَّذين يَقع عَلَيْهِم اسْم النَّاس من غير فرق بَين حَاضر وباد وناى وظارىء مكي وآفقي وَقد اسْتشْهد بِهِ أَصْحَاب أبي حنيفَة قائلين بِأَن المُرَاد من الْمَسْجِد الْحَرَام مَكَّة على امْتنَاع بيع دور مَكَّة وإجارتها. وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي (تَفْسِيره) وَهَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خرج من الْمَدِينَة مَنعهم الْمُشْركُونَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام، ثمَّ وصف الْمَسْجِد الْحَرَام فَقَالَ: {اللَّذين جَعَلْنَاهُ للنَّاس سَوَاء} للْمُؤْمِنين جَمِيعًا، ثمَّ قَالَ: {العاكف فِيهِ والبادي} يَعْنِي: سَوَاء الْمُقِيم فِي الْحرم، وَمن دخل مَكَّة من غير أَهلهَا، وَيُقَال: الْمُقِيم والغريب سَوَاء. وَقَرَأَ عَاصِم فِي رِوَايَة حَفْص: {سَوَاء} بِالنّصب يَعْنِي: جَعَلْنَاهُ سَوَاء، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ سواءُ، على معنى الِابْتِدَاء، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَجه النصب أَنه ثَانِي مفعولي: جَعَلْنَاهُ، أَي: جَعَلْنَاهُ مستويا العاكف فِيهِ والبادي، وَفِي الْقِرَاءَة بِالرَّفْع الْجُمْلَة مفعول ثَان. قَوْله: {وَمن يرد فِيهِ بإلحاد} الْبَاء فِيهِ صلَة، وَأَصله: وَمن يرد فِيهِ إلحادا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تنْبت بالدهن} (الْمُؤْمِنُونَ: 02) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ومفعول: يرد، مَتْرُوك ليتناول كل متناول كَأَنَّهُ قَالَ: وَمن يرد فِيهِ مرَادا مَا عادلاً عَن الْقَصْد ظَالِما، وقرىء: يرد، بِفَتْح الْيَاء من الْوُرُود، وَمَعْنَاهُ: من أَتَى فِيهِ بإلحاد ظَالِما(9/225)
الْإِلْحَاد الْعُدُول عَن الْقَصْد، وَقيل: الْإِلْحَاد فِي الْحرم منع النَّاس عَن عِمَارَته، وَعَن سعيد بن جُبَير: الاحتكار، وَقيل: الظُّلم، وَقَالَ مقَاتل: نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن أنيس بن خطل الْقرشِي، وَذَاكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلَيْنِ أَحدهمَا مُهَاجِرِي وَالْآخر أَنْصَارِي، فافتخرا فِي الْأَنْسَاب. فنضب عبد الله بن أنيس فَقتل الْأنْصَارِيّ، ثمَّ ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام، وهرب إِلَى مَكَّة، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة بقتْله فَقتل. قَوْله: {بإلحاد بظُلْم} حالان مُتَرَادِفَانِ، وَعَن الْحسن: وَمن يرد إلحاده بظُلْم، أَرَادَ إلحادا فِيهِ، فأضافه على الاتساع فِي الظّرْف، كمكر اللَّيْل وَمَعْنَاهُ: من يرد أَن يلحذ فِيهِ ظَالِما، وَخبر: أَن، مَحْذُوف لدلَالَة جَوَاب الشَّرْط عَلَيْهِ، تَقْدِيره: أَن الَّذين كفرُوا ويصدون عَن سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام يذيقهم من عَذَاب أَلِيم وكل من ارْتكب فِيهِ ذَنبا فَهُوَ كَذَلِك.
البادِ الطَّارى مَعْكُوفا مَحْبُوسا
هَذَا تَفْسِير من البُخَارِيّ بِالْمَعْنَى، وَمعنى الطاري الْمُسَافِر، كَمَا أَن معنى العاكف الْمُقِيم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: معكوفا، إِشَارَة إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْي معكوفا أَن يبلغ مَحَله} (الْحَج: 52) . قلت: لَيست هَذِه الْكَلِمَة فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة، فَلَا مُنَاسبَة لذكرها هُنَا، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا ذكر المعكوف لكَون العاكف مَذْكُورا هَهُنَا، وَفِيه مَا فِيهِ.
8851 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أخْبَرَنِي ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ حُسَيْن عنْ عَمْرِو بنِ عُثْمَانَ عنْ أسامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ يَا رسولَ الله أيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ فقالَ وهَلْ ترَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أوْ دُورٍ وكانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أبَا طَالِبٍ هُوَ وطَالِبٌ ولَمْ يَرثْهُ جَعْفَرٌ ولاَ عَلِيٌّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا شَيْئا لأِنَّهُمَا كانَا مُسْلِمَيْنِ وكانَ عَقِيلٌ مطَالب كافِرَيْنِ فَكانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ لاَ يَرِثُ الْمُؤمِنُ الْكَافِرَ. قَالَ ابنُ شِهَابٍ وكانُوا يتأوَّلُونَ قَوْلَ الله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أولائكَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الْأَنْفَال: 27) . الْآيَة..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَهل ترك عقيل من رباع أَو دور وَكَانَ عقيل ورث أَبَا طَالب) إِلَى قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: أصبغ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، الْخَامِس: عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَشْهُور بزين العابدين. السَّادِس: عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان أَمِير الْمُؤمنِينَ. السَّابِع: أُسَامَة ابْن زيد بن حَارِثَة حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاه.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَابْن وهب مصريان وَأَن يُونُس أيلي والبقية مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق، وَفِي الْمَغَازِي عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن مهْرَان وَابْن أبي عمر وَعبد بن حميد وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَيْن تنزل فِي دَارك؟) قَالَ بَعضهم: حذفت أَدَاة الِاسْتِفْهَام(9/226)
من قَوْله: فِي دَارك. قلت: هَذَا كَلَام من لَا يفهم الْعَرَبيَّة وَلَا استنباط الْمعَانِي من الْأَلْفَاظ، وَقَوله: أَيْن، كلمة اسْتِفْهَام، فَلم يبْق وَجه لتقدير حرف الِاسْتِفْهَام، فَمَا وَجه قَوْله: حذفت أَدَاة الِاسْتِفْهَام من قَوْله: فِي دَارك؟ والاستفهام عَن النُّزُول فِي الدَّار لَا عَن نفس الدَّار؟ فَافْهَم. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ ستأتي فِي الْمَغَازِي: أَيْن تنزل غَدا. قَوْله: (وَهل ترك عقيل؟) وَفِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره، (وَهل ترك لنا؟) قَوْله: (من رباع؟) ، جمع ربع، وقذ ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (أَو دور؟) للتَّأْكِيد إِذا فسر الرّبع بِالدَّار أَو وَهُوَ شكّ من الرَّاوِي، قَوْله: (وَكَانَ عقيل) ، إدراج من بعض الروَاة، وَلَعَلَّه من أُسَامَة، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي: وَعقيل بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة. قَوْله: (هُوَ) أَي: عقيل. قَوْله: (وطالب) أَي: ورث طَالب مَعَ عقيل أباهما أَبَا طَالب، وَاسم أبي طَالب: عبد منَاف، وكنى بِابْنِهِ طَالب، قَوْله: (وَلم يَرِثهُ جَعْفَر) ، وَهُوَ الْمَشْهُور بالطيار ذِي الجناحين، وطالب أسن من عقيل، وَهُوَ من جَعْفَر وَهُوَ من عَليّ، والتفاوت بَين كل وَاحِد وَالْآخر عشر سِنِين، وَهُوَ من النَّوَادِر. قَوْله: (كَافِرين) نصب على أَنه خبر: كَانَ، أَي: وَكَانَ كِلَاهُمَا كَافِرين عِنْد وَفَاة أَبِيهِمَا، وَلِأَن عقيلاً أسلم بعد ذَلِك عِنْد الْحُدَيْبِيَة قيل: لما كَانَ أَبُو طَالب أكبر ولد عبد الْمطلب احتوى على أملاكه وحازها وَحده على عَادَة الْجَاهِلِيَّة من تَقْدِيم الأسن، فتسلط عقيل أَيْضا بعد هِجْرَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: بَاعَ عقيل مَا كَانَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلمن هَاجر من بني عبد الْمطلب، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بدور من هَاجر من الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا أمضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصَرُّفَات عقيل كرما وجودا، وَإِمَّا استمالة لعقيل، وَإِمَّا تَصْحِيحا بتصرفات الْجَاهِلِيَّة، كَمَا أَنه يصحح أنكحة الْكفَّار، وَقَالُوا: فقد طَالب ببدر فَبَاعَ عقيل الدَّار كلهَا، وَقيل: وَلم تزل الدَّار بيد أَوْلَاد عقيل إِلَى أَن باعوها لمُحَمد بن يُوسُف أخي الْحجَّاج بن يُوسُف بِمِائَة ألف دِينَار، وَكَانَ عَليّ ابْن الْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَقُول: من أجل ذَلِك بتركنا نصيبنا من الشّعب، أَي: حِصَّة جدهم عَليّ من أَبِيه أبي طَالب. قَوْله: (فَكَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: لَا يَرث الْمُؤمن الْكَافِر) هَذَا مَوْقُوف على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد ثَبت مَرْفُوعا بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ عِنْد البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من طَرِيق مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة وَمعمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه مُفردا فِي الْفَرَائِض من طَرِيق ابْن جريج عَنهُ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَمن أجل ذَلِك كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول ... قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، هُوَ الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث. قَوْله: (وَكَانُوا يتأولون) أَي: السّلف كَانُوا يفسرون الْولَايَة فِي هَذِه الْآيَة بِولَايَة الْمِيرَاث. قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا} (الْأَنْفَال: 27) . أَي: صدقُوا بتوحيد الله تَعَالَى، وَبِمُحَمَّدٍ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْقُرْآن {وَهَاجرُوا} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَجَاهدُوا} الْعَدو {بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} أَي: فِي طَاعَة الله، وَفِيمَا فِيهِ رضى الله تَعَالَى، ثمَّ ذكر الْأَنْصَار فَقَالَ: {وَالَّذين آووا} يَعْنِي أووا الْمُهَاجِرين: يَعْنِي: أنزلوهم وأسكنوهم فِي دِيَارهمْ {ونصروا} رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالسَّيْفِ {أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} يَعْنِي فِي الْمِيرَاث وَفِي الْولَايَة. قَوْله: (الْآيَة) ، يَعْنِي الْآيَة بِتَمَامِهَا، أَو: إقرأ الْآيَة، وتمامها: {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر إلاَّ على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق، وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْأَنْفَال: 27) . قَوْله: {وَلم يهاجروا} يَعْنِي: إِلَى الْمَدِينَة {مَا لكم من ولايتهم من شَيْء} فِي الْمِيرَاث {حَتَّى يهاجروا} إِلَى الْمَدِينَة، وَقَالُوا: يَا رَسُول الله! هَل نعينهم إِذا استعانوا بِنَا؟ يَعْنِي: الَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا؟ فَنزل: {وَإِن استنصروكم فِي الدّين} يَعْنِي: إِن اسْتَغَاثُوا بكم على الْمُشْركين فانصروهم {فَعَلَيْكُم النَّصْر} على من قَاتلهم {إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق} أَي: عهد يَعْنِي إلاَّ أَن يقاتلوا قوما بَيْنكُم وَبينهمْ عهد وميثاق فَلَا تنصروهم عَلَيْهِم وَأَصْلحُوا بَينهم {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فِي العون والنصرة، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة، قَالَ: كَانَ الْمُسلمُونَ يتوارثون بِالْهِجْرَةِ وبالمؤاخاة الَّتِي وآخى بَينهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانُوا يتوارثون بِالْإِسْلَامِ وبالهجرة، وَكَانَ الرجل يسلم وَلَا يُهَاجر فَلَا يَرث أَخَاهُ، فنسخ ذَلِك بقوله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} (الْأَنْفَال: 57) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث الشَّافِعِي على جَوَاز بيع دور مَكَّة بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجَاز بيع عقيل الدّور الَّتِي ورثهَا، وَكَانَ عقيل وطالب ورثا أباهما لِأَنَّهُمَا إِذْ ذَاك كَانَا كَافِرين فورثا، ثمَّ أسلم عقيل وباعها. قَالَ الْخطابِيّ: وَعِنْدِي أَن تِلْكَ الدّور، وَإِن كَانَت قَائِمَة على ملك عقيل، لم ينزلها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهَا دور هجروها لله تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر هَذِه الْإِضَافَة أَنَّهَا كَانَت ملكه، يدل عَلَيْهِ قَوْله: (وَهل ترك لنا عقيل من رباع) فأضافها إِلَى نَفسه، وظاهرها الْملك، فَيحْتَمل أَن عقيلاً أَخذهَا وَتصرف فِيهَا كَمَا فعل أَبُو سُفْيَان بدور الْمُهَاجِرين. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا الحَدِيث حديثُ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن(9/227)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: لَا يحل بيع بيُوت مَكَّة وَلَا إِجَارَتهَا) ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (مَكَّة مناخ لَا تبَاع رباعها وَلَا يُؤَاجر بيوتها) . قلت: الأَصْل فِي بَاب الْمُعَارضَة التَّسَاوِي، وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو لَا يُقَاوم حَدِيث أُسَامَة، لِأَن فِي سَنَد حَدِيث عبد الله بن عمر وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر، ضعفه يحيى وَالنَّسَائِيّ، وَعَن يحيى مرّة: لَا شَيْء، فَحِينَئِذٍ يسْقط حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، وَلَئِن سلمنَا الْمُسَاوَاة فَلَا يَكْتَفِي بهَا، بل يكْشف وَجه ذَلِك من طَرِيق النّظر، فَوَجَدنَا أَن مَا يقْضِي بِهِ حَدِيث أُسَامَة أولى وأصوب من حَدِيث عبد الله، بَيَان ذَلِك أَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَغَيره من الْمَسَاجِد وَجَمِيع الْمَوَاضِع الَّتِي لَا تدخل فِي ملك أحد لَا يجوز لأحد أَن يَبْنِي فِيهَا بِنَاء، أَو يحتجر موضعا مِنْهَا، ألاَ ترى أَن مَوضِع الْوُقُوف بِعَرَفَة لَا يجوز لأحد أَن يَبْنِي فِيهَا بِنَاء، وَكَذَلِكَ منى لَا يجوز لأحد أَن يَبْنِي فِيهَا دَارا لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: (قلت: يَا رَسُول الله أَلا تتَّخذ لَك بمنى بَيْتا تستظل فِيهِ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَة! إِنَّهَا مناخ لمن سبق) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد والطَّحَاوِي، وَوجدنَا مَكَّة على خلاف ذَلِك، لِأَنَّهُ قد أُجِيز فِيهَا الْبناء، وَقد قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم دخل مَكَّة: (من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن) ، فَهَذَا يذل على أَن مَكَّة مِمَّا يبْنى فِيهَا الدّور، وَمِمَّا يغلق عَلَيْهَا الْأَبْوَاب، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون صفتهَا صفة الْمَوَاضِع الَّتِي تجْرِي عَلَيْهَا الْأَمْلَاك، وَتَقَع فِيهَا الْمَوَارِيث، فَحِينَئِذٍ يجوز بيع الدّور الَّتِي فِيهَا، وَيجوز إِجَارَتهَا، وَقَالَ ابْن قادمة: أضَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّار إِلَى أبي سُفْيَان إِضَافَة ملك، يَقُول: من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن، وَلِأَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُم دور بِمَكَّة: دَار لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وللزبير وَحَكِيم بن حزَام وَغَيرهم مِمَّا يكثر تعدادهم، فبعضٌ بيعَ وبعضٌ فِي يَد أَعْقَابهم إِلَى الْيَوْم، وَأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اشْترى من صَفْوَان بن أُميَّة دَارا بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، وَاشْترى مُعَاوِيَة من حَكِيم بن حزَام دارين بِمَكَّة: إِحْدَاهمَا بستين ألف دِرْهَم، وَالْأُخْرَى بِأَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم، وَهَذِه قصَص اشتهرت فَلم تنكر، فَصَارَت إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا أَرض حَيَّة لم ترد عَلَيْهَا صَدَقَة مُحرمَة، فَجَاز بيعهَا كَسَائِر الْأَرَاضِي، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَإِن احْتج مُحْتَج فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا ويصدون عَن سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي} (الْحَج: 52) . قيل لَهُ: قد رُوِيَ فِي تَأْوِيل هَذَا عَن الْمُتَقَدِّمين مَا حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن عبد الله بن مُسلم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: {سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي} قَالَ: خلق الله فِيهِ سَوَاء، فَثَبت بذلك أَنه إِنَّمَا قصد بذلك إِلَى الْبَيْت أَو إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام لَا إِلَى سَائِر مَكَّة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يتساوى النَّاس فِي غير الْمَسْجِد الْحَرَام، لِأَن بَعضهم يكونُونَ ملاكا وَبَعْضهمْ يكونُونَ سكانا، فالمالك يجوز لَهُ بيع ملكه وإجارته وَنَحْوهمَا، ويخدش هَذَا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، قَالَ: كَانُوا يرَوْنَ الْحرم كُله مَسْجِدا سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي، وروى الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَا أهل مَكَّة لَا تَتَّخِذُوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حَيْثُ شَاءَ، وروى عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن عمر نهى أهل مَكَّة أَن يغلقوا أَبْوَاب دُورهمْ دون الْحَاج، وروى ابْن أبي نجيح عَن عبيد الله بن عمر، قَالَ: من أكل كِرَاء بيُوت أهل مَكَّة، فَإِنَّمَا يَأْكُل نَارا فِي بَطْنه.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن فِيهِ: دَلِيلا على بَقَاء دور مَكَّة لأربابها، وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمُسلم لَا يَرث الْكَافِر، وفقهاء الْأَمْصَار على ذَلِك إلاَّ مَا حُكيَ عَن مُعَاوِيَة ومعاذ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَإِسْحَاق: أَن الْمُسلم يَرث الْكَافِر، وَأَجْمعُوا على أَن الْكَافِر لَا يَرث الْمُسلم.
54 - (بابُ نُزُولِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نزُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَكَّة، وَمرَاده بَيَان مَوضِع نُزُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9851 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ أرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ مَنْزِلُنَا غَدا إنْ شَاءَ الله تَعَالَى بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (منزلنا غَدا) إِلَى آخِره.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى(9/228)
بن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (حِين أَرَادَ قدوم مَكَّة) ، يَعْنِي: حِين رُجُوعه من منى وتوجهه إِلَى الْبَيْت. قَوْله: (منزلنا) مَرْفُوع على الِابْتِدَاء. (وَغدا) نصب على الظّرْف. و (إِن شَاءَ الله) كَلَام معترض بَين الْمُبْتَدَأ وَخَبره، ذكره للتبرك والامتثال لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا. .} (الْكَهْف: 32) . الْآيَة. قَوْله: (بخيف بني كنَانَة) أَي: فِي خيف، وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء، وَهُوَ مَا انحدر من الْجَبَل وارتفع عَن المسيل، و: كنَانَة، بِكَسْر الْكَاف وَتَخْفِيف النُّون الأولى. قَوْله: (حَيْثُ تقاسموا) أَي: تحالفوا على الْكفْر. قَالَ النَّوَوِيّ: معنى تقاسمهم على الْكفْر تحالفهم على إِخْرَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبني هَاشم وَالْمطلب من مَكَّة إِلَى هَذَا الشّعب، وَهُوَ خيف بني كنَانَة، وَكَتَبُوا بَينهم الصَّحِيفَة الْمَشْهُورَة فِيهَا أَنْوَاع من الْبَاطِل، فَأرْسل الله عَلَيْهَا الأرضة فَأكلت مَا فِيهَا من الْكفْر وَتركت مَا فِيهَا من ذكر الله تَعَالَى، فَأخْبر جِبْرِيل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَأخْبر بِهِ عَمه أَبَا طَالب، فَأخْبرهُم عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فوجدوه كَمَا قَالَه، والقصة مَشْهُورَة، نوضحها بِأَكْثَرَ من ذَلِك عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
0951 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حَدثنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني الزُّهرِيُّ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وهْوَ بِمِنًى نَحْنُ نازُلُونَ غَدا بِخَيْفِ بَني كِنَانَةَ حَيْثَ تَقاسَمُوا عَلى الكُفْرِ يَعْني ذالِكَ المُحَصَّبَ وذالِكَ أنَّ قُرَيْشا وكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبُ أوْ بَنِي المُطَّلِّبِ أنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمِوا إلَيْهِمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ عَن عبد الله بن الزبير الْحميدِي الْمَكِّيّ عَن الْوَلِيد بن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (من الْغَد) أَصله: من الغدو، فحذفوا اللَّام وَهُوَ أول النَّهَار، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الغدوة، بِضَم الْغَيْن: مَا بَين الصُّبْح وطلوع الشَّمْس. قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، نصب على الظّرْف، أَي: قَالَ: فِي غَدَاة يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وَهُوَ بمنى) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (نَحن نازلون) ، مقول قَوْله: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يَعْنِي ذَلِك المحصب) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (يَعْنِي بذلك المحصب) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النُّزُول فِي المحصب هُوَ فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة لَا فِي الْيَوْم الثَّانِي من الْعِيد الَّذِي هُوَ الْغَد حَقِيقَة؟ قلت: تجوز عَن الزَّمَان الْمُسْتَقْبل الْقَرِيب بِلَفْظ الْغَد، كَمَا يتجوز بالْأَمْس عَن الْمَاضِي. قَوْله: (وَذَلِكَ أَن قُريْشًا وكنانة) ، عطف على قُرَيْش مَعَ أَن قُريْشًا هم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، فَيكون من بَاب التَّعْمِيم بعد التَّخْصِيص، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بكنانة غير قُرَيْش، فقريش قسيم لَهُ لَا قسم مِنْهُ قيل: لم يعقب النَّضر غير مَالك، وَلَا مَالك غير فهر، فقريش ولد النَّضر بن كنَانَة، وَأما كنَانَة فأعقب من غير النَّضر، فَلهَذَا وَقعت الْمُغَايرَة. قَوْله: (أَو بني الْمطلب) كَذَا وَقع عِنْده بِالشَّكِّ، وَوَقع عِنْد الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن الْوَلِيد. (وَبني الْمطلب) بِغَيْر شكّ. وَقَالَ الدَّاودِيّ قَوْله: (بني عبد الْمطلب) . وهم قَوْله: (تحالفت) كَانَ الْقيَاس فِيهِ: تحالفوا، وَلَكِن أفرده بِصِيغَة الْمُفْرد الْمُؤَنَّث بِاعْتِبَار الْجَمَاعَة. قَوْله: (أَن لَا يناكحوهم) ، يَعْنِي: لَا يَقع بَينهم عقد نِكَاح بِأَن لَا يتَزَوَّج قُرَيْش وكنانة امْرَأَة من بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب، وَلَا يزوجوا امْرَأَة مِنْهُم إيَّاهُم، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى فِي قَوْله: (وَلَا يبايعوهم) ، بِأَن لَا يبيعوا لَهُم وَلَا يشتروا مِنْهُم، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن مُصعب عَن الْأَوْزَاعِيّ عِنْد أَحْمد: (أَن لَا يناكحوهم وَلَا يخالطوهم) . وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (وَلَا يكون بَينهم وَبينهمْ شَيْء) ، وَهَذَا أَعم. قَوْله: (حَتَّى يسلمُوا) ، بِضَم الْيَاء. وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة فِيمَا ذكر فِي (الطَّبَقَات) : لما بلغ قُريْشًا فعل النَّجَاشِيّ بِجَعْفَر وَأَصْحَابه، وإكرامه لَهُم، كبر ذَلِك عَلَيْهِم جدا وغضبوا وَأَجْمعُوا على قتل سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَتَبُوا كتابا على بني هَاشم أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا يخالطوهم، وَكَانَ الَّذِي كتب الصَّحِيفَة مَنْصُور بن عِكْرِمَة الْعَبدَرِي فشُلَّت يَده، وَفِي الْأَنْسَاب للزبير بن أبي بكر، اسْمه: بغيض بن عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ(9/229)
مَنْصُور بن عَامر بن هَاشم أَخُو عِكْرِمَة بن عَامر بن هَاشم، ثمَّ ذكر فِي (الطَّبَقَات) : وعلقوا الصَّحِيفَة فِي جَوف الْكَعْبَة، وَقَالَ بَعضهم: بل كَانَت عِنْد أم الْجلاس بنت مخربة الحنظلية، خَالَة أبي جهل، وحصروا بني هَاشم فِي شعب أبي طَالب لَيْلَة هِلَال الْمحرم سنة سبع من حِين النُّبُوَّة، وانحاز بَنو الْمطلب بن عبد منَاف إِلَى أبي طَالب فِي شُعْبَة، وَخرج أَبُو لَهب إِلَى قُرَيْش فظاهرهم على بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَقَطعُوا عَنْهُم الْميرَة والمارة، فَكَانُوا لَا يخرجُون إلاَّ من موسم إِلَى موسم حَتَّى بَلغهُمْ الْجهد، فأقاموا فِيهِ ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أطلع الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَمر صحيفتهم وَأَن الأرضة أكلت مَا كَانَ فِيهَا من جور وظلم. وَبَقِي مَا كَانَ فِيهَا من ذكر الله، عز وَجل، وَفِي لفظ: (ختموا على الْكتاب ثَلَاثَة خَوَاتِيم) فَذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي طَالب، فَقَالَ أَبُو طَالب لكفار قُرَيْش: إِن ابْن أخي أَخْبرنِي، وَلم يكذبنِي قطّ، أَن الله تَعَالَى قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست مَا كَانَ فِيهَا من جور وظلم وَبَقِي فِيهَا كل مَا ذكر بِهِ الله تَعَالَى، فَإِن كَانَ ابْن أخي صَادِقا نزعتم عَن سوء رَأْيكُمْ، وَإِن كَانَ كَاذِبًا دَفعته إِلَيْكُم فقتلتموه أَو استحييتموه. قَالُوا: قد أنصفتنا، فَإِذا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسقط فِي أَيْديهم ونكسوا على رؤوسهم، فَقَالَ أَبُو طَالب: علام نحبس ونحصر، وَقد بَان الْأَمر؟ فتلاوم رجال من قُرَيْش على مَا صَنَعُوا ببني هَاشم، مِنْهُم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وَزَمعَة بن الْأسود وَأَبُو البحتري بن هَاشم وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة، ولبسوا السِّلَاح ثمَّ خَرجُوا إِلَى بني هَاشم وَبني الْمطلب فأمروهم بِالْخرُوجِ إِلَى مساكنهم، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش ذَلِك سقط فِي أَيْديهم وَعرفُوا أَن لن يسلموهم، وَكَانَ خُرُوجهمْ من الشّعب فِي السّنة الْعَاشِرَة.
وقالَ سَلاَمَةُ عنْ عُقَيْلٍ ويَحْيى بنُ الضَّحاكِ عنِ الأوْزَاعِيِّ: أخبَرَنِي ابْن شِهَابٍ وقَالا بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله بَنِي المطَّلِبِ أشْبِهُ
سَلامَة هُوَ ابْن روح، بِفَتْح الرَّاء: الْأَيْلِي، هُوَ يروي عَن عَمه عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه. قَوْله: (وَيحيى عَن الضَّحَّاك) ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وكريمة بِلَفْظ: عَن الضَّحَّاك، وَالصَّحِيح: وَيحيى بن الصحاك، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن الضَّحَّاك الْبَابلُتِّي، بباءين موحدتين الثَّانِيَة مَضْمُومَة وَبعدهَا اللَّام المضمومة وَبعدهَا تَاء مثناة من فَوق مُشَدّدَة، نِسْبَة إِلَى: بابلت، قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وظني أَنَّهَا مَوضِع بالجزيرة، وَقَالَ الرشاطي: مَوضِع بِالريِّ، وَنسبَة يحيى هَذَا إِلَى جده وَلَيْسَ لَهُ رِوَايَة فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَهُوَ يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ يحيى بن معِين: يحيى بن عبد الله بن الضَّحَّاك الْبَابلُتِّي، وَالله لم يسمع من الْأَوْزَاعِيّ شَيْئا، وَذكر الْهَيْثَم بن خلف الدوري أَن أمه كَانَت تَحت الْأَوْزَاعِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا يبعد سَمَاعه مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي حجره، وَقَالَ عَنْبَسَة بن خَالِد: لم يكن لِسَلَامَةِ ابْن روح من السن مَا يسمع من عقيل بن خَالِد، وَتَعْلِيق يحيى عَن الضَّحَّاك وَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) والخطيب فِي (المدرج) . قَوْله: (وَقَالا) ، أَي: سَلامَة وَيحيى أَن روايتهما عَن شيخهما عَن ابْن شهَاب هُوَ بني الْمطلب دون لفظ: عبد، بِخِلَاف رِوَايَة الْوَلِيد فَإِنَّهَا مترددة بَين الْمطلب وَعبد الْمطلب. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه بني الْمطلب أشبه بِالصَّوَابِ يَعْنِي بِحَذْف العَبْد، لِأَن عبد الْمطلب هُوَ ابْن هَاشم، وَلَفظ هَاشم مغن عَنهُ، وَأما الْمطلب فَهُوَ أَخُو هَاشم وهما ابْنَانِ لعبد منَاف، فالمقصود أَنهم تحالفوا على بني عبد منَاف.
[با 64
(بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وإذُ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هاذا البَلدَ آمِنا وَاجْنُبْني وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ رَبِّ أنَّهُنَّ أضْللْنَ كَثيرا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَني فإنَّهُ مِنِّي ومَنْ عصَاني فإنَّكَ غَفُورٌ رحيمٌ. ربَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فاجْعَلْ أفئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إلَيْهِم} الْآيَة (إِبْرَاهِيم: 53) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} (إِبْرَاهِيم: 53) . إِلَى آخِره إِنَّمَا لم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة حَدِيثا، فَقَالَ(9/230)
بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قصَّة إسكان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَاجر وَابْنهَا فِي مَكَان مَكَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله تَعَالَى، لَعَلَّ غَرَضه مِنْهُ الْإِشْعَار بِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا بِشَرْطِهِ مناسبا لَهَا، أَو ترْجم الْأَبْوَاب أَولا ثمَّ ألحق بِكُل بَاب كل مَا اتّفق وَلم يساعده الزَّمَان بإلحاق حَدِيث بِهَذَا الْبَاب، وَهَكَذَا حكم كل تَرْجَمَة هِيَ مثلهَا. قلت: الْوَجْه الأول: من الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا الْكرْمَانِي بعيد، وَأبْعد مِنْهُ مَا ذكره بَعضهم، لِأَن الْإِشَارَة لَا تكون إلاَّ للحاضر، فَالَّذِي يطلع على هَذِه التَّرْجَمَة كَيفَ يَقُول: هَذِه إِشَارَة إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ لم يطلع عَلَيْهِ وَلَا عرفه؟ وَلَا أقرب فِي هَذَا من الْوَجْه الثَّانِي: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي، فَافْهَم. قَوْله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} (إِبْرَاهِيم: 53) . أَي: أذكر {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد} أَي: مَكَّة {آمنا} من الْقَتْل والغارة، وَيُقَال من الجذام والبرص. {واجنبني وَبني} أَي: احفظني، وَبني {أَن نعْبد الْأَصْنَام} وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، لما فرغ من بِنَاء الْبَيْت سَأَلَ ربه أَن يَجْعَل الْبَلَد آمنا، وَخَافَ على بنيه لِأَنَّهُ رأى قوما يعْبدُونَ الْأَصْنَام والأوثان، فَسَأَلَ أَن يجتنبهم عَن عبادتها. قَوْله: {أَن نعْبد} أَي: بِأَن نعْبد أَي: عبَادَة الْأَوْثَان، لِأَن: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: {رب} يَعْنِي: يَا رب. {إنَّهُنَّ} أَي: الْأَصْنَام {أضللن كثيرا من النَّاس} لِأَنَّهُنَّ كُنَّ سَببا لضلالهم، فنسب الضلال إلَيْهِنَّ، وَإِن لم يكن مِنْهُنَّ عمل فِي الْحَقِيقَة، وَقيل: كَانَ الإضلال مِنْهُنَّ لِأَن الشَّيْطَان كَانَ يدْخل فِي جَوف الْأَصْنَام وَيتَكَلَّم قلت: هَذَا أَيْضا لَيْسَ مِنْهُنَّ فِي الْحَقِيقَة. قَوْله: {فَمن تَبِعنِي} يَعْنِي من آمن بِي {فَإِنَّهُ مني} أَي: على ديني، وَيُقَال: فَهُوَ من أمتِي {وَمن عَصَانِي} فَلم يطعني وَلم يوحدك {فَإنَّك غَفُور رَحِيم} إِن تَابَ أَو توفقه حَتَّى يسلم. قَوْله: {رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي} أَي: أنزلت بعض ذريتي، وَهُوَ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بوادٍ غير ذِي زرع، وَهُوَ مَكَّة وَهُوَ: قَوْله: {عِنْد بَيْتك الْمحرم} يَعْنِي: الَّذِي فِيهِ حرم الْقِتَال والاصطياد، وَأَن يدْخل فِيهِ أحد بِغَيْر إِحْرَام. قَوْله: {رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة} يَعْنِي: وفقهم ليقيموها، وَإِنَّمَا ذكر الصَّلَاة لِأَنَّهَا أولى الْعِبَادَات وأفضلها، قَوْله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس} أَي: قلوبا، وَهُوَ جمع فؤاد {تهوى إِلَيْهِم} أَي: تشتاق إِلَيْهِم وتسرع إِلَيْهِم. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: لَو قَالَ: أَفْئِدَة النَّاس، يَعْنِي بِغَيْر: من، لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، وَلكنه خص قَوْله: {وارزقهم من الثمرات} يَعْنِي: من الثمرات الَّتِي تكون فِي بِلَاد الرِّيف، يَجِيء بهَا النَّاس. قَوْله: {لَعَلَّهُم يشكرون} أَي: لكَي يشكروا فِيمَا ترزقهم.
0951 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حَدثنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني الزُّهرِيُّ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وهْوَ بِمِنًى نَحْنُ نازُلُونَ غَدا بِخَيْفِ بَني كِنَانَةَ حَيْثَ تَقاسَمُوا عَلى الكُفْرِ يَعْني ذالِكَ المُحَصَّبَ وذالِكَ أنَّ قُرَيْشا وكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبُ أوْ بَنِي المُطَّلِّبِ أنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمِوا إلَيْهِمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ عَن عبد الله بن الزبير الْحميدِي الْمَكِّيّ عَن الْوَلِيد بن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (من الْغَد) أَصله: من الغدو، فحذفوا اللَّام وَهُوَ أول النَّهَار، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الغدوة، بِضَم الْغَيْن: مَا بَين الصُّبْح وطلوع الشَّمْس. قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، نصب على الظّرْف، أَي: قَالَ: فِي غَدَاة يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وَهُوَ بمنى) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (نَحن نازلون) ، مقول قَوْله: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يَعْنِي ذَلِك المحصب) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (يَعْنِي بذلك المحصب) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النُّزُول فِي المحصب هُوَ فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة لَا فِي الْيَوْم الثَّانِي من الْعِيد الَّذِي هُوَ الْغَد حَقِيقَة؟ قلت: تجوز عَن الزَّمَان الْمُسْتَقْبل الْقَرِيب بِلَفْظ الْغَد، كَمَا يتجوز بالْأَمْس عَن الْمَاضِي. قَوْله: (وَذَلِكَ أَن قُريْشًا وكنانة) ، عطف على قُرَيْش مَعَ أَن قُريْشًا هم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، فَيكون من بَاب التَّعْمِيم بعد التَّخْصِيص، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بكنانة غير قُرَيْش، فقريش قسيم لَهُ لَا قسم مِنْهُ قيل: لم يعقب النَّضر غير مَالك، وَلَا مَالك غير فهر، فقريش ولد النَّضر بن كنَانَة، وَأما كنَانَة فأعقب من غير النَّضر، فَلهَذَا وَقعت الْمُغَايرَة. قَوْله: (أَو بني الْمطلب) كَذَا وَقع عِنْده بِالشَّكِّ، وَوَقع عِنْد الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن الْوَلِيد. (وَبني الْمطلب) بِغَيْر شكّ. وَقَالَ الدَّاودِيّ قَوْله: (بني عبد الْمطلب) . وهم قَوْله: (تحالفت) كَانَ الْقيَاس فِيهِ: تحالفوا، وَلَكِن أفرده بِصِيغَة الْمُفْرد الْمُؤَنَّث بِاعْتِبَار الْجَمَاعَة. قَوْله: (أَن لَا يناكحوهم) ، يَعْنِي: لَا يَقع بَينهم عقد نِكَاح بِأَن لَا يتَزَوَّج قُرَيْش وكنانة امْرَأَة من بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب، وَلَا يزوجوا امْرَأَة مِنْهُم إيَّاهُم، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى فِي قَوْله: (وَلَا يبايعوهم) ، بِأَن لَا يبيعوا لَهُم وَلَا يشتروا مِنْهُم، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن مُصعب عَن الْأَوْزَاعِيّ عِنْد أَحْمد: (أَن لَا يناكحوهم وَلَا يخالطوهم) . وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (وَلَا يكون بَينهم وَبينهمْ شَيْء) ، وَهَذَا أَعم. قَوْله: (حَتَّى يسلمُوا) ، بِضَم الْيَاء. وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة فِيمَا ذكر فِي (الطَّبَقَات) : لما بلغ قُريْشًا فعل النَّجَاشِيّ بِجَعْفَر وَأَصْحَابه، وإكرامه لَهُم، كبر ذَلِك عَلَيْهِم جدا وغضبوا وَأَجْمعُوا على قتل سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَتَبُوا كتابا على بني هَاشم أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا يخالطوهم، وَكَانَ الَّذِي كتب الصَّحِيفَة مَنْصُور بن عِكْرِمَة الْعَبدَرِي فشُلَّت يَده، وَفِي الْأَنْسَاب للزبير بن أبي بكر، اسْمه: بغيض بن عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ مَنْصُور بن عَامر بن هَاشم أَخُو عِكْرِمَة بن عَامر بن هَاشم، ثمَّ ذكر فِي (الطَّبَقَات) : وعلقوا الصَّحِيفَة فِي جَوف الْكَعْبَة، وَقَالَ بَعضهم: بل كَانَت عِنْد أم الْجلاس بنت مخربة الحنظلية، خَالَة أبي جهل، وحصروا بني هَاشم فِي شعب أبي طَالب لَيْلَة هِلَال الْمحرم سنة سبع من حِين النُّبُوَّة، وانحاز بَنو الْمطلب بن عبد منَاف إِلَى أبي طَالب فِي شُعْبَة، وَخرج أَبُو لَهب إِلَى قُرَيْش فظاهرهم على بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَقَطعُوا عَنْهُم الْميرَة والمارة، فَكَانُوا لَا يخرجُون إلاَّ من موسم إِلَى موسم حَتَّى بَلغهُمْ الْجهد، فأقاموا فِيهِ ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أطلع الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَمر صحيفتهم وَأَن الأرضة أكلت مَا كَانَ فِيهَا من جور وظلم. وَبَقِي مَا كَانَ فِيهَا من ذكر الله، عز وَجل، وَفِي لفظ: (ختموا على الْكتاب ثَلَاثَة خَوَاتِيم) فَذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي طَالب، فَقَالَ أَبُو طَالب لكفار قُرَيْش: إِن ابْن أخي أَخْبرنِي، وَلم يكذبنِي قطّ، أَن الله تَعَالَى قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست مَا كَانَ فِيهَا من جور وظلم وَبَقِي فِيهَا كل مَا ذكر بِهِ الله تَعَالَى، فَإِن كَانَ ابْن أخي صَادِقا نزعتم عَن سوء رَأْيكُمْ، وَإِن كَانَ كَاذِبًا دَفعته إِلَيْكُم فقتلتموه أَو استحييتموه. قَالُوا: قد أنصفتنا، فَإِذا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسقط فِي أَيْديهم ونكسوا على رؤوسهم، فَقَالَ أَبُو طَالب: علام نحبس ونحصر، وَقد بَان الْأَمر؟ فتلاوم رجال من قُرَيْش على مَا صَنَعُوا ببني هَاشم، مِنْهُم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وَزَمعَة بن الْأسود وَأَبُو البحتري بن هَاشم وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة، ولبسوا السِّلَاح ثمَّ خَرجُوا إِلَى بني هَاشم وَبني الْمطلب فأمروهم بِالْخرُوجِ إِلَى مساكنهم، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش ذَلِك سقط فِي أَيْديهم وَعرفُوا أَن لن يسلموهم، وَكَانَ خُرُوجهمْ من الشّعب فِي السّنة الْعَاشِرَة.
وقالَ سَلاَمَةُ عنْ عُقَيْلٍ ويَحْيى بنُ الضَّحاكِ عنِ الأوْزَاعِيِّ: أخبَرَنِي ابْن شِهَابٍ وقَالا بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله بَنِي المطَّلِبِ أشْبِهُ
سَلامَة هُوَ ابْن روح، بِفَتْح الرَّاء: الْأَيْلِي، هُوَ يروي عَن عَمه عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه. قَوْله: (وَيحيى عَن الضَّحَّاك) ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وكريمة بِلَفْظ: عَن الضَّحَّاك، وَالصَّحِيح: وَيحيى بن الصحاك، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن الضَّحَّاك الْبَابلُتِّي، بباءين موحدتين الثَّانِيَة مَضْمُومَة وَبعدهَا اللَّام المضمومة وَبعدهَا تَاء مثناة من فَوق مُشَدّدَة، نِسْبَة إِلَى: بابلت، قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وظني أَنَّهَا مَوضِع بالجزيرة، وَقَالَ الرشاطي: مَوضِع بِالريِّ، وَنسبَة يحيى هَذَا إِلَى جده وَلَيْسَ لَهُ رِوَايَة فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَهُوَ يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ يحيى بن معِين: يحيى بن عبد الله بن الضَّحَّاك الْبَابلُتِّي، وَالله لم يسمع من الْأَوْزَاعِيّ شَيْئا، وَذكر الْهَيْثَم بن خلف الدوري أَن أمه كَانَت تَحت الْأَوْزَاعِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا يبعد سَمَاعه مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي حجره، وَقَالَ عَنْبَسَة بن خَالِد: لم يكن لِسَلَامَةِ ابْن روح من السن مَا يسمع من عقيل بن خَالِد، وَتَعْلِيق يحيى عَن الضَّحَّاك وَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) والخطيب فِي (المدرج) . قَوْله: (وَقَالا) ، أَي: سَلامَة وَيحيى أَن روايتهما عَن شيخهما عَن ابْن شهَاب هُوَ بني الْمطلب دون لفظ: عبد، بِخِلَاف رِوَايَة الْوَلِيد فَإِنَّهَا مترددة بَين الْمطلب وَعبد الْمطلب. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه بني الْمطلب أشبه بِالصَّوَابِ يَعْنِي بِحَذْف العَبْد، لِأَن عبد الْمطلب هُوَ ابْن هَاشم، وَلَفظ هَاشم مغن عَنهُ، وَأما الْمطلب فَهُوَ أَخُو هَاشم وهما ابْنَانِ لعبد منَاف، فالمقصود أَنهم تحالفوا على بني عبد منَاف.
[با 64
(بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وإذُ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هاذا البَلدَ آمِنا وَاجْنُبْني وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ رَبِّ أنَّهُنَّ أضْللْنَ كَثيرا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَني فإنَّهُ مِنِّي ومَنْ عصَاني فإنَّكَ غَفُورٌ رحيمٌ. ربَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فاجْعَلْ أفئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إلَيْهِم} الْآيَة (إِبْرَاهِيم: 53) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} (إِبْرَاهِيم: 53) . إِلَى آخِره إِنَّمَا لم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة حَدِيثا، فَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قصَّة إسكان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَاجر وَابْنهَا فِي مَكَان مَكَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله تَعَالَى، لَعَلَّ غَرَضه مِنْهُ الْإِشْعَار بِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا بِشَرْطِهِ مناسبا لَهَا، أَو ترْجم الْأَبْوَاب أَولا ثمَّ ألحق بِكُل بَاب كل مَا اتّفق وَلم يساعده الزَّمَان بإلحاق حَدِيث بِهَذَا الْبَاب، وَهَكَذَا حكم كل تَرْجَمَة هِيَ مثلهَا. قلت: الْوَجْه الأول: من الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا الْكرْمَانِي بعيد، وَأبْعد مِنْهُ مَا ذكره بَعضهم، لِأَن الْإِشَارَة لَا تكون إلاَّ للحاضر، فَالَّذِي يطلع على هَذِه التَّرْجَمَة كَيفَ يَقُول: هَذِه إِشَارَة إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ لم يطلع عَلَيْهِ وَلَا عرفه؟ وَلَا أقرب فِي هَذَا من الْوَجْه الثَّانِي: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي، فَافْهَم. قَوْله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} (إِبْرَاهِيم: 53) . أَي: أذكر {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد} أَي: مَكَّة {آمنا} من الْقَتْل والغارة، وَيُقَال من الجذام والبرص. {واجنبني وَبني} أَي: احفظني، وَبني {أَن نعْبد الْأَصْنَام} وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، لما فرغ من بِنَاء الْبَيْت سَأَلَ ربه أَن يَجْعَل الْبَلَد آمنا، وَخَافَ على بنيه لِأَنَّهُ رأى قوما يعْبدُونَ الْأَصْنَام والأوثان، فَسَأَلَ أَن يجتنبهم عَن عبادتها. قَوْله: {أَن نعْبد} أَي: بِأَن نعْبد أَي: عبَادَة الْأَوْثَان، لِأَن: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: {رب} يَعْنِي: يَا رب. {إنَّهُنَّ} أَي: الْأَصْنَام {أضللن كثيرا من النَّاس} لِأَنَّهُنَّ كُنَّ سَببا لضلالهم، فنسب الضلال إلَيْهِنَّ، وَإِن لم يكن مِنْهُنَّ عمل فِي الْحَقِيقَة، وَقيل: كَانَ الإضلال مِنْهُنَّ لِأَن الشَّيْطَان كَانَ يدْخل فِي جَوف الْأَصْنَام وَيتَكَلَّم قلت: هَذَا أَيْضا لَيْسَ مِنْهُنَّ فِي الْحَقِيقَة. قَوْله: {فَمن تَبِعنِي} يَعْنِي من آمن بِي {فَإِنَّهُ مني} أَي: على ديني، وَيُقَال: فَهُوَ من أمتِي {وَمن عَصَانِي} فَلم يطعني وَلم يوحدك {فَإنَّك غَفُور رَحِيم} إِن تَابَ أَو توفقه حَتَّى يسلم. قَوْله: {رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي} أَي: أنزلت بعض ذريتي، وَهُوَ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بوادٍ غير ذِي زرع، وَهُوَ مَكَّة وَهُوَ: قَوْله: {عِنْد بَيْتك الْمحرم} يَعْنِي: الَّذِي فِيهِ حرم الْقِتَال والاصطياد، وَأَن يدْخل فِيهِ أحد بِغَيْر إِحْرَام. قَوْله: {رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة} يَعْنِي: وفقهم ليقيموها، وَإِنَّمَا ذكر الصَّلَاة لِأَنَّهَا أولى الْعِبَادَات وأفضلها، قَوْله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس} أَي: قلوبا، وَهُوَ جمع فؤاد {تهوى إِلَيْهِم} أَي: تشتاق إِلَيْهِم وتسرع إِلَيْهِم. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: لَو قَالَ: أَفْئِدَة النَّاس، يَعْنِي بِغَيْر: من، لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، وَلكنه خص قَوْله: {وارزقهم من الثمرات} يَعْنِي: من الثمرات الَّتِي تكون فِي بِلَاد الرِّيف، يَجِيء بهَا النَّاس. قَوْله: {لَعَلَّهُم يشكرون} أَي: لكَي يشكروا فِيمَا ترزقهم.
74 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {جَعَلَ الله الكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرامَ قِياما لِلنَّاسِ والشَّهْرَ الحرامَ وَالهدْيَ وَالقَلائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ ومَا فِي الأرْضِ وأنَّ الله بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} (الْمَائِدَة: 79) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى، عز وَجل: جعل الله ... إِلَى آخِره، وَوَقع فِي شرح ابْن بطال بِأَنَّهُ ضم الْبَاب السَّابِق إِلَى هَذَا وجعلهما وَاحِدًا، فَقَالَ بعد قَوْله: {لَعَلَّهُم يشكرون} (إِبْرَاهِيم: 53) . وَقَول الله تَعَالَى: {جعل الله الْكَعْبَة} (الْمَائِدَة: 79) . إِلَى آخِره، قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن المُرَاد بقوله: {قيَاما} أَي: قواما، وَأَنَّهَا مَا دَامَت مَوْجُودَة فالدين قَائِم.
قلت: السِّرّ فِي هَذَا وَالتَّحْقِيق أَنه جعل هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تَرْجَمَة وَأَشَارَ بهَا إِلَى أُمُور. الأول: أَشَارَ فِيهِ إِلَى أَن قوام أُمُور النَّاس وانتعاش أَمر دينهم ودنياهم بِالْكَعْبَةِ المشرفة يدل على قَوْله {قيَاما للنَّاس} (الْمَائِدَة: 79) . فَإِذا زَالَت الْكَعْبَة على يَد ذِي السويقتين تختل أُمُورهم، فَلذَلِك أورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِيهِ مُنَاسبَة لهَذَا، فَتَقَع بِهِ الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. وَالثَّانِي: أَشَارَ بِهِ إِلَى تَعْظِيم الْكَعْبَة وتوقيرها، يدل عَلَيْهِ قَوْله: {الْبَيْت الْحَرَام} حَيْثُ وصفهَا بِالْحُرْمَةِ، فأورد حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِيهِ مُنَاسبَة لهَذَا، فَتَقَع بِهِ الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، وَذَلِكَ فِي قَوْله: (وَكَانَ يَوْمًا تستر فِيهِ الْكَعْبَة) . وَالثَّالِث: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْكَعْبَة لَا تَنْقَطِع الزوار عَنْهَا، وَلِهَذَا تحج بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج الَّذِي يكون فِيهِ من الْفِتَن والشدائد مَا لَا يُوصف، فَلذَلِك أورد حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِيهِ مُنَاسبَة لهَذَا، وَهُوَ قَوْله: (ليحجن الْبَيْت وليعتمرن بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج) ، وَيدل على هَذَا الْوَجْه أَيْضا قيَاما، فَتَقَع بِهِ الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. قَوْله: (الْبَيْت الْحَرَام) ، نصب على أَنه عطف بَيَان على جِهَة الْمَدْح لَا على التَّوْضِيح كَمَا تَجِيء الصّفة، كَذَلِك قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: (قيَاما) أَي: عمادا للنَّاس فِي أَمر دينهم ودنياهم ونهوضا إِلَى أغراضهم ومقاصدهم فِي معاشهم ومعادهم لما يتم لَهُم من أَمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم، وَرُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: لَو تركوها عَاما وَاحِدًا(9/231)
لم ينْظرُوا وَلم يتجروا، وَقَرَأَ ابْن عَامر: قيمًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قيَاما، وَأَصله: قواما، وَيُقَال معني: قيَاما، معالم للحق، وَقَالَ مقَاتل: يَعْنِي علما لقبلتهم يصلونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ سعيد بن جُبَير صلاحا لدينهم. قَوْله: {والشهر الْحَرَام} وَهُوَ الشَّهْر الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الْحَج، وَهُوَ ذُو الْحجَّة، لِأَن اخْتِصَاصه من بَين الْأَشْهر بِإِقَامَة موسم الْحَج فِيهِ، شَأْنًا عرفه الله تَعَالَى، وَقيل: عَنى بِهِ جنس أشهر الْحرم. قَوْله: {وَالْهَدْي} وَهُوَ مَا يهدي بِهِ قَوْله: {والقلائد} يَعْنِي المقلدات أَو ذَات القلائد، وَالْمعْنَى: جعل الله الشَّهْر الْحَرَام وَالْهَدْي والقلائد أمنا للنَّاس لأَنهم إِذا توجهوا إِلَى مَكَّة وقلدوا الْهَدْي أمنُوا من الْعَدو، لِأَن الْحَرْب كَانَت قَائِمَة بَين الْعَرَب إلاَّ فِي الْأَشْهر الْحرم، فَمن لقوه على هَذِه الْحَالة لم يتَعَرَّضُوا لَهُ. قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى جعل الْكَعْبَة قيَاما للنَّاس، أَو إِلَى مَا ذكر من حفظ حُرْمَة الْإِحْرَام بترك الصَّيْد وَغَيره،، قَوْله: {وَإِن الله بِكُل شَيْء عليم} أَي: من السِّرّ وَالْعَلَانِيَة.
1951 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا زِيادُ بنُ سَعْدٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشةِ.
(الحَدِيث 1951 طرفه فِي: 6951) .
مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا آنِفا. وَرِجَاله سِتَّة: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَزِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن سعد بن عبد الرَّحْمَن، يكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِي من أهل بَلخ يُقَال إِنَّه من الْعَرَب سكن مَكَّة وانتقل مِنْهَا إِلَى الْيمن فسكن فِي قَرْيَة إسمها: عك، وَمَات بهَا، يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج، وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بن سعيد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يخرب الْكَعْبَة) فعل ومفعول (وَذُو السويقتين) فَاعله، وَهَذِه تَثْنِيَة سويقة، والسويقة مصغر السَّاق، وَألْحق بهَا التَّاء فِي التصغير لِأَن السَّاق مُؤَنّثَة، والتصغير للتحقير، وَالْإِشَارَة إِلَى الدقة لِأَن فِي سيقان الْحَبَشَة دقة وخموشة، وَالتَّقْدِير: يخرب الْكَعْبَة ضَعِيف من هَذِه الطَّائِفَة. قَوْله: (من الْحَبَشَة) كلمة: من، بَيَانِيَّة أَي من هَذَا الْجِنْس من بني آدم. قَالُوا: الْحَبَش جنس من السودَان، وهم الأحبش والحبشان والحبشة، لَيْسَ بِصَحِيح فِي الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا وَاحِد لَهُ على مِثَال فَاعل، فَيكون مكسرا على فعله، والأحبوش جمَاعَة الْحَبَش قَالَ العجاج.
(كَأَن صيران المهى الأخلاط ... والرمل أحبوش من الأنباط)
وَقيل: هم الْجَمَاعَة أيا كَانُوا لأَنهم إِذا اجْتَمعُوا اسودوا. وَفِي (الصِّحَاح) : الْحَبَش والحبشة جنس من السودَان، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: فَأَما قَوْلهم: الْحَبَشَة، فعلى غير قِيَاس، وَقد قَالُوا: حبشان أَيْضا، وَلَا أَدْرِي كَيفَ هُوَ. قلت: إنكارهم لفظ الْحَبَشَة على هَذَا الْوَزْن لَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ ورد فِي لفظ الفصيح، بل أفْصح النَّاس، وَقَالَ الرشاطي: وهم من ولد كوش بن حام، وهم أَكثر مُلُوك السودَان وَجَمِيع ممالك السودَان يُعْطون الطَّاعَة للحبش.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي: كَانَ أَوْلَاد حام سَبْعَة أخوة كأولاد سَام: السَّنَد والهند والزنج والقبط والحبشة والنوبة وكنعان، فَأخذُوا مَا بَين الْجنُوب وَالدبور وَالصبَا. وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا خير فِي الْحَبَش، إِن جَاعُوا سرقوا، وَإِن شَبِعُوا زنوا، وَإِن فيهم حسنتين إطْعَام الطَّعَام وإلباس يَوْم الْبَأْس) . وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (التيجان) : أول من جرى لِسَان الْحَبَشَة على لِسَانه سحلب بن أداد بن ناهس بن سرعَان بن حام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ تولدت من هَذَا اللِّسَان ألسن استخرجت مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الأَصْل.
وَجَاء فِي تخريب الْكَعْبَة أَحَادِيث. مِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ بقوله: بَاب هدم الْكَعْبَة، على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ بِسَنَد صَحِيح فِي: يُبَايع لرجل بَين الرُّكْن وَالْمقَام، وَأول من يسْتَحل هَذَا الْبَيْت أَهله، فَإِذا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا تسْأَل عَن هلكة الْعَرَب ثمَّ تَجِيء الْحَبَشَة فيخربونه خرابا لَا يعمر بعده، وهم الَّذين يستخرجون كنزه، وَذكر الْحَلِيمِيّ: أَن ذَلِك فِي زمن عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَن الصَّرِيخ يَأْتِيهِ بِأَن ذَا السويقتين قد سَار إِلَى الْبَيْت يهدمه فيبعث، إِلَيْهِ عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طَائِفَة بَين الثمان إِلَى التسع. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم بِسَنَد فِيهِ مَجْهُول: كَأَنِّي أنظر إِلَى أصيلع أَقرع أفحج على ظهر الْكَعْبَة يَهْدِمهَا بالكرزنة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتركوا الْحَبَشَة(9/232)
مَا تركوكم، فَإِنَّهُ لَا يسْتَخْرج كنز الْكَعْبَة إِلَّا ذُو السويقتين من الْحَبَشَة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة، ويسلب حليها ويجردها من كسوتها، وَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ أصيدع أفيدع يضْرب عَلَيْهَا مسحاته ومعوله) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر حَدِيثا فِيهِ طول، وَفِيه: (وخراب مَكَّة من الْحَبَشَة على يَد حبشِي أفحج السَّاقَيْن أَزْرَق الْعَينَيْنِ أفطس الْأنف كَبِير الْبَطن مَعَه أَصْحَابه، ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حَتَّى يرموا بهَا يَعْنِي: الْكَعْبَة إِلَى الْبَحْر، وخراب الْمَدِينَة من الْجُوع وخراب الْيمن من الْجَرَاد) . وَفِي (كتاب الْغَرِيب) لأبي عبيد: عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (استكثروا من الطّواف بِهَذَا الْبَيْت قبل أَن يُحَال بَيْنكُم وَبَينه، فَكَأَنِّي بِرَجُل من الْحَبَشَة أصلع وأصمع حمش السَّاقَيْن قَاعد عَلَيْهَا وَهِي تهدم) . وخرجه الْحَاكِم مَرْفُوعا (وَفِيه: أصمع أَقرع بِيَدِهِ معول وَهُوَ يَهْدِمهَا حجرا حجرا) . وَذكر الْغَزالِيّ فِي (مَنَاسِكه) : لَا تغرب الشَّمْس من يَوْم إلاَّ وَيَطوف بِهَذَا الْبَيْت رجل من الأبدال، وَلَا يطلع الْفجْر من لَيْلَة إلاَّ طَاف بِهِ أحد من الْأَوْتَاد، وَإِذا انْقَطع ذَلِك كَانَ سَبَب رَفعه من الأَرْض، فَيُصْبِح النَّاس وَقد رفعت الْكَعْبَة لَيْسَ مِنْهَا أثر، وَهَذَا إِذا أَتَى عَلَيْهَا سبع سِنِين لم يحجها أحد ثمَّ، يرفع الْقُرْآن الْعَظِيم من الْمَصَاحِف، ثمَّ من الْقُلُوب، ثمَّ يرجع النَّاس إِلَى الْأَشْعَار والأغاني وأخبار الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ يخرج الدَّجَّال وَينزل عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي (كتاب الْفِتَن) لنعيم بن حَمَّاد: حَدثنَا بَقِيَّة عَن صَفْوَان عَن شُرَيْح (عَن كَعْب: تخرج الْحَبَشَة خرجَة ينتهون فِيهَا إِلَى الْبَيْت، ثمَّ يتفرغ إِلَيْهِم أهل الشَّام فيجدونهم قد افترشوا الأَرْض، فيقتلونهم أَوديَة بني عَليّ، وَهِي قريبَة من الْمَدِينَة، حَتَّى إِن الحبشي يُبَاع بالشملة) . قَالَ صَفْوَان: وحَدثني أَبُو الْيَمَان (عَن كَعْب، قَالَ: يخربون الْبَيْت وليأخذن الْمقَام فيدركون على ذَلِك، فيقتلهم الله تَعَالَى. وَفِيه (وَيخرجُونَ بعد يَأْجُوج) . (وَعَن عبد الله بن عَمْرو: تخرج الْحَبَشَة بعد نزُول عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيبعث عِيسَى طَائِفَة فيهزمون) ، وَفِي رِوَايَة: (يهدم مرَّتَيْنِ وَيرْفَع الْحجر فِي الْمرة الثَّالِثَة) ، وَفِي رِوَايَة، وَيرْفَع فِي الثَّانِيَة. وَفِي رِوَايَة (ويستخرجون كنز فِرْعَوْن بمنوف من الْفسْطَاط، وَيقْتلُونَ بوسيم) وَفِي لفظ: (فَيَأْتُونَ فِي ثَلَاثمِائَة ألف عَلَيْهِم أسيس أَو أسيس) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: إِن خرابه يكون بعد رفع الْقُرْآن من الصُّدُور والمصاحف، وَذَلِكَ بعد موت عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الصَّحِيح.
فَإِن قلت: قَالَ تَعَالَى: {حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) . وَهُوَ يُعَارض مَا ذكرْتُمْ من هَذِه الْأَشْيَاء؟ قلت: قَالُوا: لَا يلْزم من قَوْله: {حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) . أَن يكون ذَلِك دَائِما فِي كل الْأَوْقَات، بل إِذا حصلت لَهُ حُرْمَة وَأمن فِي وَقت مَا، صدق عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظ وَصَحَّ الْمَعْنى، وَلَا يُعَارضهُ ارْتِفَاع ذَلِك الْمَعْنى فِي وَقت آخر. فَإِن قلت: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله أحل لي مَكَّة سَاعَة من نَهَار، ثمَّ عَادَتْ حرمتهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . قلت: الحكم بِالْحُرْمَةِ وَالْأَمر لَا يرْتَفع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، أما وُقُوع الْخَوْف فِيهَا وَترك الْحُرْمَة فقد وجد من ذَلِك فِي أَيَّام يزِيد وَغَيره كثيرا، وَقَالَ عِيَاض: {حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) . أَي: إِلَى قرب الْقِيَامَة، وَقيل: يخْتَص مِنْهُ قصَّة ذِي السويقتين. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن قيل مَا السِّرّ فِي حراسة الْكَعْبَة من الْفِيل وَلم تحرس فِي الْإِسْلَام مِمَّا صنع بهَا الْحجَّاج والقرامطة وَذُو السويقتين؟ فَالْجَوَاب: إِن حبس الْفِيل كَانَ من أَعْلَام النُّبُوَّة لسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَلَائِل رسَالَته لتأكيد الْحجَّة عَلَيْهِم بالأدلة الَّتِي شوهدت بالبصر قبل الْأَدِلَّة الَّتِي ترى بالبصائر، وَكَانَ حكم الْحَبْس أَيْضا دلَالَة على وجود النَّاصِر.
2951 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (ح) وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ قَالَ أخبرَني عَبْدُ الله هُوَ ابنُ المُبَارَكِ قَالَ أخبرنَا محَمَّدُ بنُ أبي حَفْصَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانُوا يَصُومُونَ عاشُوراءَ قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ وكانَ يَوْما تُسْتَرُ فيهِ الكَعْبةُ فلَمَّا فرَضَ الله رمضَانَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ شاءَ أنْ يَصُومَهُ فلْيَصُمْهُ ومنْ شاءَ أَن يَتْرُكهُ فَلْيَتْرُكْهُ..
قد مر وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، وَوجه آخر وَهُوَ: أَن الْمُشْركين كَانُوا يعظمون الْكَعْبَة قَدِيما بالستور(9/233)
وَالْكِسْوَة، ويقومون إِلَيْهَا كَمَا يقوم الْمُسلمُونَ، وَبَين الله تَعَالَى فِي الْآيَة الْمَذْكُور أَنه جعل الْكَعْبَة بَيْتا حَرَامًا، وَمن حرمتهَا تعظيمها فَعَظَّمَهَا الْمُسلمُونَ، وَمن جملَة تعظيمهم إِيَّاهَا أَنهم كَانُوا يكسونها فِي كل سنة يَوْم عَاشُورَاء الَّذِي هُوَ من الْأَيَّام المعظمة، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة حصلت الْمُطَابقَة بَين الْآيَة الَّتِي هِيَ تَرْجَمَة وَبَين الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم: تِسْعَة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: مُحَمَّد بن مقَاتل، بِضَم الْمِيم على وزن اسْم الْفَاعِل من الْمُقَاتلَة: أَبُو الْحسن المجاور بِمَكَّة. السَّابِع: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّامِن: مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة، واسْمه ميسرَة، ضد الميمنة. التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه يحيى وَاللَّيْث مصريان، وَأَن عقيلاً أيلي، وَأَن ابْن شهَاب وَعُرْوَة مدنيان، وَأَن شَيْخه مُحَمَّد بن مقَاتل من أَفْرَاده، وَأَنه وَابْن الْمُبَارك مروزيان، وَمُحَمّد بن أبي حَفْصَة بَصرِي. وَفِيه: أَنه رَوَاهُ من طَرِيقين، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: جمع البُخَارِيّ بَين رِوَايَة عقيل وَابْن أبي حَفْصَة فِي الْمَتْن، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة عقيل ذكر السّتْر، ثمَّ سَاقه بِدُونِهِ من طَرِيق عقيل، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَعَادَة البُخَارِيّ التَّجَوُّز فِي مثل هَذَا. وَقيل: أَرَادَ من حَدِيث عقيل التَّصْرِيح بِسَمَاع ابْن شهَاب من عُرْوَة. قلت: لَيْسَ لما ذكره فَإِنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ، نعم هُوَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم، وَقد روى الفاكهي من طَرِيق ابْن أبي حَفْصَة، وَصرح بِسَمَاع الزُّهْرِيّ لَهُ من عُرْوَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانُوا) ، أَي: الْمُسلمُونَ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء وَهُوَ الْيَوْم الْعَاشِر من محرم، وَكَانَ فرضا، فَلَمَّا نزل فرض رَمَضَان نسخ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَهُوَ مَمْدُود غير منصرف، وَقَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي (كتاب الْمَمْدُود والمقصور) : عَاشُورَاء على وزن فاعولاء، وَلَا نعلم من هَذَا الْمِثَال غَيره. قَوْله: (وَكَانَ) أَي كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا تستر فِيهِ الْكَعْبَة، وَكَانَت تُكْسَى فِي كل سنة مرّة يَوْم عَاشُورَاء، ثمَّ إِن مُعَاوِيَة كَانَ يَكْسُوهَا مرَّتَيْنِ، ثمَّ الْمَأْمُون كَانَ يَكْسُوهَا ثَلَاثًا الديباج الْأَحْمَر يَوْم التَّرويَة، وَالْقَبَاطِي هِلَال رَجَب، والديباج الْأَبْيَض يَوْم سبع وَعشْرين من رَمَضَان، وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (السّير) أَن تبان أسعد أَبُو كرب وَهُوَ تبع الآخر ابْن كلكيكرب بن زيد، وَهُوَ تبع الأول ابْن عَمْرو، وسَاق نسبه إِلَى يعرب بن قحطان، ثمَّ قَالَ: كَانَ هُوَ وَقَومه أَصْحَاب أوثان يعبدونها، توجه إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا كَانَ بَين عسفان وأمج أَتَاهُ نفر من هُذَيْل بن مدركة، فَقَالُوا: أَلا ندلك على بَيت مَال داثر؟ قَالَ: بلَى. قَالُوا: مَكَّة، وَإِنَّمَا أَرَادَ الهذليون هَلَاكه، لما عرفُوا هَلَاك من أَرَادَهُ من الْمُلُوك، فَقَالَ لَهُ حبران كَانَا مَعَه: إِنَّمَا إراد هَؤُلَاءِ هلاكك. قَالَ: فبماذا تأمراني , قَالَا: نصْنَع عِنْده مَا يصنع أَهله، نحلق عِنْده ونطوف وننحر، فَفعل فَأَقَامَ بِمَكَّة سِتَّة أَيَّام ينْحَر للنَّاس ويطعمهم، فأري فِي الْمَنَام أَن يكسو الْبَيْت فَكَسَاهُ الخصف، ثمَّ أرِي أَن يكسوه أحسن من ذَلِك فَكَسَاهُ المعافر، ثمَّ أرِي أَن يكسوه أحسن من ذَلِك فَكَسَاهُ الملاء، والوصائل، فَكَانَ تبع فِيمَا يَزْعمُونَ أول من كسا الْبَيْت، وَذكر ابْن قُتَيْبَة أَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت قبل الْإِسْلَام بتسعمائة سنة. وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة: حَدثنَا أَبُو زرْعَة عَمْرو سعمت سهل بن سعد رَفعه: (لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ قد أسلم) . وَفِي (مغايض الْجَوْهَر فِي أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَذكر ابْن أبي شيبَة فِي (تَارِيخه) : أول من كساها عدنان بن أدد، وَزعم الزبير أَن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وَذكر الْمَاوَرْدِيّ: أَن أول من كساها الديباج خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب أَحْمد لطيمة يحل الْبر، وَوجد فِيهَا إنماطا فعلقها على الْكَعْبَة، وَذكر الْحَافِظ: أَن أول من علقها عبد الله بن الزبير وَفِي كتاب ابْن إِسْحَاق: أول من حلاها عبد الْمطلب بن عبد منَاف لما حفرهَا بالفزالين اللَّذين وجدهما من ذهب فِيهَا. وَعَن لَيْث بن أبي سليم، قَالَ: كَانَت كسْوَة الْكَعْبَة على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الانطاع والمسوح. وَقَالَ ابْن دحْيَة: كساها الْمهْدي الْقبَاطِي والخز والديباج، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ ابْن جريج: زعم بعض عُلَمَائِنَا أَن أول من كساها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَحكى البلاذري: أَن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أدد، وروى الْوَاقِدِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي ربيعَة، قَالَ: كسي الْبَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة الأنطاع، ثمَّ كَسَاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الثِّيَاب اليمانية، ثمَّ كَسَاه عمر وَعُثْمَان الْقبَاطِي، ثمَّ كَسَاه الْحجَّاج الديباج. وَقَالَ(9/234)
ابْن إِسْحَاق: بَلغنِي أَن الْبَيْت لم يكْسَ فِي عهد أبي بكر وَعمر، يَعْنِي: لم يجدد لَهُ كسْوَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج: أخْبرت أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَكْسُوهَا الْقبَاطِي. وَأَخْبرنِي غير وَاحِد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كساها الْقبَاطِي والحبرات، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأول من كساها الديباج عبد الْملك بن مَرْوَان، وَأَن أول من أدْرك ذَلِك من الْفُقَهَاء قَالُوا: أصَاب، مَا نعلم لَهَا من كسْوَة أوفق مِنْهُ وروى أَبُو عرُوبَة فِي (الْأَوَائِل) لَهُ: عَن الْحسن، قَالَ: أول من لبس الْكَعْبَة الْقبَاطِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (المؤتلف) : أَن أول من كسا الْكَعْبَة الديباج تنيلة بنت جنان وَالِدَة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، كَانَت أضلت الْعَبَّاس صَغِيرا فنذرت إِن وجدته أَن تكسو الْكَعْبَة الديباج، وَذكر الزبير بن بكار أَنَّهَا أضلت ضِرَارًا ابْنهَا، فَرده عَلَيْهَا رجل من جذام، فكست الْكَعْبَة ثيابًا بَيْضَاء، وَهُوَ مَحْمُول على تعدد الْقِصَّة، وكسيت فِي أَيَّام الفاطميين الديباج الْأَبْيَض، وَكَسَاهَا السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين ديباجا أصفر، وَكَسَاهَا نَاصِر العباسي ديباجا أَخْضَر، ثمَّ كساها ديباجا أسود، فاستمر إِلَى الْآن، وَلم تزل الْمُلُوك يتداولون كسوتها إِلَى أَن وقف عَلَيْهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل بن النَّاصِر فِي سنة نَيف وَخمسين وَسَبْعمائة، قَرْيَة بنواحي الْقَاهِرَة، وَلم تزل تُكْسَى من هَذَا الْوَقْف.
3951 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا إبْراهِيمُ عنِ الحَجَّاجِ بنِ حَجَّاجٍ عنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبي عُتْبَةَ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ ولَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأجُوجَ ومَأجُوجَ.
قد مر وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الب اب.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن أبي عَمْرو، واسْمه حَفْص بن عبد الله بن رَاشد أَبُو عَليّ السّلمِيّ، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص أَبُو عَمْرو، قَاضِي نيسابور، الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن طهْمَان أَبُو سعيد. الرَّابِع: الْحجَّاج بن الْحجَّاج الْأَسْلَمِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَحول. الْخَامِس: قَتَادَة بن دعامة. السَّادِس: عبد الله بن أبي عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. مولى أنس بن مَالك. السَّابِع: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه ذكر فِي بعض النّسخ مُجَردا، وَفِي بَعْضهَا أَحْمد بن حَفْص، وَأَنه وأباه نيسابوريان وَأَن إِبْرَاهِيم هروي سكن نيسابور ثمَّ سكن مَكَّة، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة، وَأَن الْحجَّاج وَقَتَادَة وَعبد الله بصريون.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (ليحجن) ، بِضَم الْيَاء وَفتح الْحَاء وَالْجِيم على صِيغَة الْمَجْهُول، مؤكدا بالنُّون الثَّقِيلَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: (ليعتمرن) . قَوْله: (يَأْجُوج وَمَأْجُوج) إسمان أعجميان بِدَلِيل منع الصّرْف، وقرىء فِي الْقُرْآن مهموزين، وَقيل: يَأْجُوج من التّرْك، وَمَأْجُوج من الجيل والديلم، وَقيل: هم على صنفين: طوال مفرطوا الطول، وقصار مفرطوا الْقصر.
تابَعَهُ أبانُ وعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ
أَي: تَابع عبد الله بن أبي عتبَة أبان بن يزِيد الْعَطَّار عَن قَتَادَة، وَكَذَلِكَ تَابعه عمرَان الْقطَّان عَن قَتَادَة، ومتابعتهما على لفظ الْمَتْن. أما مُتَابعَة أبان فوصلها الإِمَام أَحْمد: عَن عَفَّان وسُويد بن عَمْرو الْكَلْبِيّ، وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، ثَلَاثَتهمْ عَن أبان، فَذكر مثله، وَأما مُتَابعَة عمرَان فوصلها أَحْمد أَيْضا: عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنهُ، وَكَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو يعلى من طَرِيق الطَّيَالِسِيّ، وَقد تَابع هَؤُلَاءِ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، أخرجه عبد بن حميد عَن روح بن عبَادَة عَنهُ، وَلَفظه: (أَن النَّاس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النّخل بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج) .
وَقَالَ عَبْدُ الرحمانِ عَن شُعْبَةَ قَالَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ
أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة بِهَذَا السَّنَد: لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يحجّ الْبَيْت، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْحَاكِم من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ.
وَالأوَّلُ أكْثَرُ(9/235)
أَرَادَ البُخَارِيّ بِالْأولِ من تقدم ذكرهم قبل شُعْبَة، وَإِنَّمَا قَالَ: أَكثر، لِاتِّفَاق أُولَئِكَ على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وانفراد شُعْبَة بِمَا يخالفهم، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن ظاهرهما التَّعَارُض، لِأَن الأول يدل على أَن الْبَيْت يحجّ بعد أَشْرَاط السَّاعَة. وَالثَّانِي: يدل على أَنه لَا يحجّ، وَيُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن يُقَال: لَا يلْزم من حج النَّاس بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج أَن يمْتَنع الْحَج فِي وَقت مَا عِنْد قرب ظُهُور السَّاعَة، وَالَّذِي يظْهر، وَالله أعلم، أَن يكون المُرَاد بقوله: (ليحجن الْبَيْت) أَي: مَكَان الْبَيْت، وَيدل على ذَلِك مَا رُوِيَ أَن الْحَبَشَة إِذا خربوه لم يعمر بعد ذَلِك على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ التَّيْمِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: وَالْأول أَكثر، يَعْنِي: الْبَيْت يحجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
سَمِعَ قَتَادةُ عَبْدَ الله وعَبْدُ الله أبَا سَعِيدٍ
وَفِي بعض النّسخ قَالَ أَبُو عبد الله أَي: البُخَارِيّ نَفسه، سمع قَتَادَة عبد الله بن أبي عُتَيّة الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن قَتَادَة لما كَانَ مدلسا صرح بِأَن عنعنته مقرونة بِالسَّمَاعِ. قَوْله: (وَعبد الله) أَي: سمع عبد الله بن أبي عتبَة أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ.
84 - (بابُ كِسْوَةِ الكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التصوف فِي كسْوَة الْكَعْبَة.
4951 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ قَالَ حَدثنَا واصِلٌ الأحْدَبُ عنْ أبِي وَائِلٍ قَالَ جِئتُ إِلَيّ شَيْبَةَ (ح) وحدَّثنا قَبيصَةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ وَاصِلٍ عنْ أبي وَائِلٍ قَالَ جلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلى الكُرْسِيِّ فِي الكَعْبَةِ فقالَ لَقَدْ جَلَسَ هاذا المَجْلِسَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فقالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ لَا أدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ ولاَ بَيْضَاءَ إلاَّ قَسَمْتُهُ قُلْتُ أنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا قالَ هُمَا المَرْآنِ أقْتَدِي بِهِمَا.
(الحَدِيث 4951 طرفه فِي: 5727) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من وُجُوه:
الأول: أَنه مَعْلُوم أَن الْمُلُوك فِي كل زمَان كَانُوا يتفاخرون بكسوة الْكَعْبَة برفيع الثِّيَاب المنسوجة بِالذَّهَب وَغَيره، كَمَا يتفاخرون بتسبيل الْأَمْوَال لَهَا، فَأَرَادَ البُخَارِيّ أَن عمر بن الْخطاب لما رأى قسْمَة الذَّهَب وَالْفِضَّة صَوَابا، كَانَ حُكْم الْكسْوَة حُكم المالِ يجوز قسمتهَا، بل مَا فضل من كسوتها أولى بِالْقِسْمَةِ.
الثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَن يكون مَقْصُود البُخَارِيّ التَّنْبِيه على أَن كسْوَة الْكَعْبَة مَشْرُوعَة، وَالْحجّة فِيهَا أَنَّهَا لم تزل تقصد بِالْمَالِ فَيُوضَع فِيهَا على معنى الزِّينَة إعظاما لَهَا، فالكسوة من هَذَا الْقَبِيل.
الثَّالِث: أَنه يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ مَا فِي بعض طرق الحَدِيث كعادته، وَيكون هُنَاكَ طَرِيق مُوَافقَة للتَّرْجَمَة وَتَركه إِيَّاه إِمَّا لخلل شَرطه وَإِمَّا لتبحر النَّاظر فِيهِ.
الرَّابِع: أَنه يحْتَمل أَن يكون أَخذه من قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا أخرج حَتَّى أقسم مَال الْكَعْبَة، فَالْمَال يُطلق على كل مَا يتمول بِهِ، فَيدْخل فِيهِ الْكسْوَة.
الْخَامِس: أَنه لَعَلَّ الْكَعْبَة كَانَت مكسوة وَقت جُلُوس عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَحَيْثُ لم يُنكره وقررها دلّ على جَوَازهَا، والترجمة يحْتَمل أَن يُقَال فِيهَا: بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة الْكسْوَة كَمَا ذكرنَا.
السَّادِس: أَنه يحْتَمل أَن يكون الحَدِيث مُخْتَصرا طوى فِيهِ ذكر الْكسْوَة.
فَمن هَذِه الْوُجُوه يتَوَجَّه الرَّد على الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي قَوْله: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب لكسوة الْكَعْبَة ذكرٌ، يَعْنِي فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم: ثَمَانِيَة: الأول: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي. الثَّانِي: خَالِد بن الْحَارِث أَبُو عبد الله الحَجبي. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ فِي الطَّرِيقَيْنِ. الرَّابِع: وأصل بن حَيَّان الأحدب الْأَسدي. الْخَامِس: أَبُو وَائِل شَقِيق ابْن سَلمَة. السَّادِس: شيبَة بن عُثْمَان الحَجبي، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم المفتوحتين، الْعَبدَرِي، أسلم يَوْم الْفَتْح وَأعْطى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ وَلابْن عَمه عُثْمَان بن طَلْحَة مِفْتَاح الْكَعْبَة، وَقَالَ: خذوها يَا بني أبي طَلْحَة خالدة تالدة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا يَأْخُذ مِنْكُم(9/236)
إِلَّا ظَالِم، وَهُوَ الْآن فِي يَد بني شيبَة، مَاتَ سنة تسع وَخمسين. السَّابِع: قبيصَة بن عقبَة أَبُو عَامر السوَائِي. الثَّامِن: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه فِي الطَّرِيق الأول من أَفْرَاده، وَقدمه مَعَ أَنه نَازل لتصريح سُفْيَان فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَنه بَصرِي. وَفِيه: أَن خَالِدا أَيْضا من أَفْرَاده، وَأَنه أَيْضا بَصرِي وسُفْيَان وواصل وَأَبُو وَائِل كوفيون، وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي شَيْخه قبيصَة وَهُوَ أَيْضا من أَفْرَاده، وَهُوَ كُوفِي. وَفِيه: صحابيان شيبَة وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَهَذَا الحَدِيث جعله الْحميدِي وَأَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وقبلهما الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند شيبَة، وَذكره الْمزي أَيْضا فِي مُسْند شيبَة، وَذكره غَيرهم فِي مُسْند عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عَمْرو بن الْعَبَّاس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على الْكُرْسِيّ) ، الْكُرْسِيّ وَاحِد الكراسي، وَرُبمَا قَالُوا: كرْسِي بِكَسْر الْكَاف، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْكُرْسِيّ: مَا يجلس عَلَيْهِ وَلَا يفضل عَن الْقَاعِد، وَلَيْسَت الْيَاء فِيهِ للنسبة، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوع على هَيْئَة النِّسْبَة كَمَا فِي زفني وقلطي وبختي وبردي. قَوْله: (أَن لَا أدع) أَي: أَن لَا أترك. قَوْله: (فِيهَا) أَي: فِي الْكَعْبَة. قَوْله: (صفراء وَلَا بَيْضَاء) أَي: ذَهَبا وَلَا فضَّة، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: غلط من ظن أَن المُرَاد بذلك حلية الْكَعْبَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْكَنْز الَّذِي بهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يهدى إِلَيْهَا فيدخر مَا يزِيد عَن الْحَاجة. وَأما الْحلِيّ فمحبّسة عَلَيْهَا كالقناديل، فَلَا يجوز صرفهَا إِلَى غَيرهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يهْدُونَ إِلَى الْكَعْبَة تَعْظِيمًا لَهَا فيجتمع فِيهَا. قَوْله: (إلاَّ قسمته) ، ذكر الضَّمِير بِاعْتِبَار المَال، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن شيبَة فِي (كتاب مَكَّة) : عَن قبيصَة شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: (إِلَّا قسمتهَا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان عِنْد البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام (إلاَّ قسمتهَا بَين الْمُسلمين) . وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه: (لَا أخرج حَتَّى أقسم مَال الْكَعْبَة بَين فُقَرَاء الْمُسلمين) . قَوْله: (قلت: إِن صاحبيك لم يفعلا) . الْقَائِل هُوَ شيبَة، وَأَرَادَ بالصاحبين، النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي: (قلت: مَا أَنْت بفاعل! قَالَ: لِمَ؟ قلت: لَمْ يَفْعَله صاحباك) . وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه، (قَالَ: ولِمَ ذَاك؟ قلت: لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد رأى مَكَانَهُ وَأَبُو بكر، وهما أحْوج مِنْك إِلَى المَال، فَلم يحركاه) . قَوْله: (قَالَ: هما المرآن) أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هما أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مرآن يَعْنِي: رجلَيْنِ كَامِلين فِي الْمُرُوءَة. قَوْله: (أقتدي بهما) أَي: بالمرأين الْمَذْكُورين، وهما النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَعْنَاهُ لَا أفعل مَا لم يفعلا، وَلَا أتعرض لما لم يتعرضا، وبمثل هَذِه الْقَضِيَّة وَقع بَين أبي بن كَعْب وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق الْحسن (عَن عمر: أَرَادَ أَن يَأْخُذ كنز الْكَعْبَة فينفقه فِي سَبِيل الله، فَقَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: قد سَبَقَك صاحباك، فَلَو كَانَ فضلا لفعلاً) . وَفِي لفظ: (فَقَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: وَالله مَا ذَاك لَك؟ قَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: أقره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ عمر لكثرته إِنْفَاقه فِي سَبِيل الله وَفِي مَنَافِع الْمُسلمين، ثمَّ لما ذكر بِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يتَعَرَّض لَهُ أمسك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: التَّنْبِيه على مَشْرُوعِيَّة الْكسْوَة. وَفِيه: مَا يدل من قَول عمر أَن صرف المَال فِي الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين آكِد من صرفه فِي كسْوَة الْكَعْبَة، لَكِن الْكسْوَة فِي هَذِه الْأمة أهم، لِأَن الْأُمُور المتقادمة تتأكد حرمتهَا فِي النُّفُوس، وَقد صَار ترك الْكسْوَة فِي الْعرف عضا فِي الْإِسْلَام، وإضعافا لقلوب الْمُسلمين. وَقَالَ ابْن بطال: مَا جعل فِي الْكَعْبَة وسبل لَهَا يجْرِي مجْرى الْأَوْقَاف، فَلَا يجوز تَغْيِيره من وَجهه، وَفِي ذَلِك تَعْظِيم الْإِسْلَام، وترهيب لِلْعَدو. وَفِي (شرح التَّهْذِيب) : قَالَ صَاحب (التَّلْخِيص) : لَا يجوز بيع أَسْتَار الْكَعْبَة المشرفة، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْفضل بن عبد، لِأَنَّهُ لَا يجوز قطع أستارها وَلَا قطع شَيْء من ذَلِك، وَلَا يجوز نَقله، وَلَا بَيْعه وَلَا شِرَاؤُهُ. قَالَ: وَمن عمل شَيْئا من ذَلِك كَمَا يَفْعَله الْعَامَّة، يشترونه من بني شيبَة، لزمَه رده وَوَافَقَهُ على ذَلِك الرَّافِعِيّ، وَقَالَ ابْن الصّلاح: الْأَمر فِيهَا إِلَى الإِمَام يصرفهُ فِي مصارف بَيت المَال بيعا وَعَطَاء، وَاحْتج بِمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ: أَن عمر كَانَ ينْزع كسْوَة الْبَيْت كل سنة، فَيقسمهَا على الْحَاج، وَعند الْأَزْرَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، أَنَّهُمَا قَالَا: وَلَا بَأْس أَن يلبس كسوتها من صَارَت(9/237)
إِلَيْهِ من حَائِض وجنب وَغَيرهمَا، وَكَذَا قالته أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي ليلى، وَسُئِلَ عَن رجل سرق من الْكَعْبَة، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ قطع؟ وَيُقَال: الظَّاهِر جَوَاز قسْمَة الْكسْوَة العتيقة إِذْ بَقَاؤُهَا تَعْرِيض لفسادها بِخِلَاف النَّقْدَيْنِ.
94 - (بابُ هَدْمِ الكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر هدم الْكَعْبَة فِي آخر الزَّمَان.
قالَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ
هَذَا طرف من حَدِيث ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي أَوَائِل الْبيُوع من طَرِيق نَافِع بن جُبَير عَن عَائِشَة بِلَفْظ: (يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة حَتَّى إِذا كَانُوا ببيداء من الأَرْض خسف بأولهم وَآخرهمْ، ثمَّ يبعثون على نياتهم) وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (قَالَت عَائِشَة) ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِغَيْر وَاو، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَقَالَت، بِالْوَاو، ومطابقة هَذَا الْمُعَلق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن غَزْو الْكَعْبَة فِي هَذَا مُقَدّمَة لهدمها، لِأَن غزوها يَقع مرَّتَيْنِ، فَفِي الأولى: هلاكهم، وَفِي الثَّانِيَة: هدمها، ومقدمة الشَّيْء تَابِعَة لَهُ. فَافْهَم.
5951 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ الأخْنَسِ قَالَ حدَّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كأنِّي بِهِ أسْوَدَ أفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرا حَجَرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ بن يحيى بن كثير أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الصَّيْرَفِي. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير عبد بن الْأَخْنَس، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون وَفِي آخِره سين مُهْملَة: أَبُو مَالك النَّخعِيّ. الرَّابِع: عبد الله بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: هُوَ عبد الله ابْن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، واسْمه زُهَيْر التَّيْمِيّ الْأَحول، القَاضِي على عهد ابْن الزبير. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَيحيى بصريان وَعبيد الله بن الْأَخْنَس كُوفِي وَابْن أبي مليكَة مكي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَأَنِّي بِهِ) ، الْكَلَام فِي الضَّمِير فِي لفظ: بِهِ، يحْتَمل ثَلَاثَة أوجه: الأول: أَن يعود إِلَى الْبَيْت، والقرينة الحالية تدل عَلَيْهِ، أَي: كَأَنِّي ملتبس بِهِ. الثَّانِي: أَن يعود إِلَى القالع بِالْقَرِينَةِ الحالية أَيْضا. الثَّالِث: مَا قَالَه الطَّيِّبِيّ، وَهُوَ أَنه ضمير مُبْهَم يفسره مَا بعده على أَنه تَمْيِيز، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات} (فصلت: 21) . فَإِن ضمير: هن، هُوَ الْمُبْهم الْمُفَسّر: بِسبع سموات، وَهُوَ تَمْيِيز، وَهَذِه الْأَوْجه صَحِيحَة مَاشِيَة على قَاعِدَة الْعَرَبيَّة، فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير حذف، كَمَا قَالَ بَعضهم، وَالَّذِي يظْهر أَن فِي الحَدِيث شَيْئا حذف، ثمَّ أكد كَلَامه بقوله: وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ مَا وَقع فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (غَرِيب الحَدِيث) لأبي عُبَيْدَة من طَرِيق أبي الْعَالِيَة: (عَن عَليّ، قَالَ: استكثروا من الطّواف بِهَذَا الْبَيْت، قبل أَن يُحَال بَيْنكُم وَبَينه، فَكَأَنِّي بِرَجُل من الْحَبَشَة أصلع أَو قَالَ: أصمع حمش السَّاقَيْن، قَاعد عَلَيْهَا وَهِي تهدم) . وَرَوَاهُ الفاكهي من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظه: أصعل، بدل: أصلع، وَقَالَ: قَائِما عَلَيْهَا يَهْدِمهَا بمسحاته، وَرَوَاهُ يحيى الْحمانِي فِي مُسْنده من وَجه آخر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا. انْتهى. قلت: إِنَّمَا يقدر الْحَذف فِي مَوضِع يحْتَاج إِلَيْهِ للضَّرُورَة، وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، ودعواه الظُّهُور غير ظَاهِرَة لِأَنَّهُ لَا وَجه فِي تَقْدِير مَحْذُوف لَا حَاجَة إِلَيْهِ بِمَا جَاءَ فِي أثر عَن صَحَابِيّ، وَلَا يُقَال الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، لأَنا نقُول: هَذَا إِنَّمَا يكون عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، فَلَا احْتِيَاج هَهُنَا إِلَى ذَلِك. قَوْله: (أسود) ، مَرْفُوع، وَفِي رَفعه وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (يقلعها) ، وَالْجُمْلَة حَال بِدُونِ الْوَاو، وَهَذَا على تَقْدِير أَن يكون الضَّمِير فِي: بِهِ، للبيت، وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون ارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، على أَن يكون الضَّمِير للقالع، وَالتَّقْدِير: كَأَنِّي بالقالع هُوَ أسود. وَقَوله: (أفحج) ، خبر بعد خبر، وَيجوز(9/238)
أَن يكون أسود أفحج، حَالين متداخلين أَو مترادفتين من الضَّمِير فِي: بِهِ، ويروى أسود مَنْصُوبًا على الذَّم أَو الِاخْتِصَاص، وَلَيْسَ من شَرط الْمَنْصُوب على الِاخْتِصَاص أَن لَا يكون نكرَة، فَهَذَا الزَّمَخْشَرِيّ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَائِما بِالْقِسْطِ} (آل عمرَان: 81) . أَنه مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، وَيجوز أَن يكون بَدَلا من الضَّمِير الَّذِي فِي: بِهِ، وَيجوز إِبْدَال الْمظهر من الْمُضمر الْغَائِب، نَحْو: ضَربته زيدا، قَوْله: (أفحج) ، على وزن: أفعل، بفاء ثمَّ حاء مُهْملَة ثمَّ جِيم من الفحج، وَفِي (الْمُنْتَهى) ؛ هُوَ تداني صُدُور الْقَدَمَيْنِ وتباعد العقبين، وَقد فحج يفحج من بَاب علم يعلم، فَهُوَ أفحج، ودابة فحجاء، وَهُوَ عيب فِي الْخَيل، والفحج، بِالْكَسْرِ، مشْيَة الأفحج، وَقد فحج يفحج من بَاب ضرب يضْرب، وفحج يفحج من بَاب، فتح يفتح، وَيُقَال: الفحج بِالتَّحْرِيكِ: تبَاعد مَا بَين السَّاقَيْن، وَمن الدَّوَابّ مَا بَين العرقوبين. وَفِي (الْمُحكم) : فحج فحجا، وَعَن اللحياني فحجة أَيْضا. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الفحج تبَاعد مَا بَين الفخذين. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ تبَاعد مَا بَين الرجلَيْن، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ تبَاعد مَا بَين السَّاقَيْن فِي الْإِنْسَان وَالدَّابَّة. قَوْله فِي حَدِيث عَليّ: أصلع، وَهُوَ الَّذِي ذهب شعر مقدم رَأسه، والأصلع الصَّغِير الرَّأْس، والأصمع الصَّغِير الْأُذُنَيْنِ. قَوْله: (حمش السَّاقَيْن) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، أَي: دَقِيق. قَوْله: (حجرا حجرا) ، نصب على الْحَال نَحْو: بوبته بَابا بَابا أَي: مبوبا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو بدل من الضَّمِير يَعْنِي الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي يقلعها.
6951 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 1951) .
قد مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام} (الْمَائِدَة: 79) . فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن زِيَاد بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، وَهَهُنَا رَوَاهُ عَن يحيى بن أبي بكير المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، عَن اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ، عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَالله أعلم.
05 - (بابُ مَا ذُكِرَ فِي الحَجَرِ الأسْوَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر فِي شَأْن الْحجر الْأسود، وَهُوَ الَّذِي فِي ركن الْكَعْبَة الْقَرِيب بِبَاب الْبَيْت من جَانب الشرق، وَيُقَال لَهُ: الرُّكْن الْأسود، ارتفاعه من الأَرْض ذراعان وَثلثا ذِرَاع، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: ارتفاعه من الأَرْض ثَلَاثَة أَذْرع إلاَّ سبع أَصَابِع.
7951 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عابِسِ بنِ رَبِيعَةَ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ جاءَ إلَى الحَجَرِ الأسْوَدِ فقَبَّلَهُ فَقَالَ إنِّي أعلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ ولاَ تَنْفَعُ ولَوْلاَ أنِّي رأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الَّذِي عِنْده على شَرطه هَذَا الحَدِيث، وإلاَّ فَفِيهِ وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة وضعيفة على مَا سنذكر شَيْئا من ذَلِك.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن كثير ضد الْقَلِيل أَبُو عبد الله الْعَبدَرِي، مر فِي كتاب الْعلم. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَابس، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة: ابْن ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: النَّخعِيّ. السَّادِس: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية كلهم كوفيون. قَوْله: (عَن إِبْرَاهِيم) هُوَ النَّخعِيّ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن إِبْرَاهِيم ابْن عبد الْأَعْلَى عَن سُوَيْد بن غَفلَة عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(9/239)
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ. وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع) ، تكلم الشارحون فِي مُرَاد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَذَا الْكَلَام، فَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن النَّاس كَانُوا حَدِيثي عهد بِعبَادة الْأَصْنَام، فخشي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يظنّ الْجُهَّال بِأَن استلام الْحجر، هُوَ مثل مَا كَانَت الْعَرَب تَفْعَلهُ، فَأَرَادَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يعلم أَن استلامه لَا يقْصد بِهِ إلاَّ تَعْظِيم الله، عز وَجل، وَالْوُقُوف عِنْد أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن ذَلِك من شَعَائِر الْحَج الَّتِي أَمر الله بتعظيمها، وَأَن استلامه مُخَالف لفعل الْجَاهِلِيَّة فِي عِبَادَتهم الْأَصْنَام، لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تقربهم إِلَى الله زلفى، فنبه عمر على مُخَالفَة هَذَا الِاعْتِقَاد، وَأَنه لَا يَنْبَغِي أَن يعبد إلاَّ من يملك الضَّرَر والنفع، وَهُوَ الله جلّ جَلَاله، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أَن قَول عمر لذَلِك طلب مِنْهُ للآثار وَبحث عَنْهَا وَعَن مَعَانِيهَا. قَالَ: وَلما رأى أَن الْحجر يسْتَلم وَلَا يعلم لَهُ سَبَب يظْهر للحس، وَلَا من جِهَة الْعقل، ترك فِيهِ الرَّأْي وَالْقِيَاس، وَصَارَ إِلَى مَحْض الِاتِّبَاع، كَمَا صنع فِي الرمل. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي حَدِيث عمر من الْفِقْه أَن مُتَابعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاجِبَة وَإِن لم يُوقف فِيهَا على علل مَعْلُومَة وَأَسْبَاب معقولة، وَأَن أعيانها حجَّة على من بلغته وَإِن لم يفقه مَعَانِيهَا، وَمن الْمَعْلُوم أَن تَقْبِيل الْحجر إكرام وإعظام لحقه. قَالَ: وفضَّل الله بعض الْأَحْجَار على بعض، كَمَا فضل بعضَ الْبِقَاع على بعض، وَبَعض اللَّيَالِي وَالْأَيَّام على بعض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْحِكْمَة فِي كَون الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود يجمع فِيهِ بَين التَّقْبِيل والاستلام، كَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، وَفِيه الْحجر الْأسود، وَأَن الرُّكْن الْيَمَانِيّ اقْتصر فِيهِ على الاستلام لكَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وَلم يقبَّل، وَإِن الرُّكْنَيْنِ الغربيين لَا يقبلان وَلَا يستلمان لفقد الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين فيهمَا. قَوْله: (وَلَا تضر وَلَا تَنْفَع) يَعْنِي إلاَّ بِإِذن الله، وروى الْحَاكِم من حَدِيث أبي سعيد: (حجَجنَا مَعَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا دخل الطّواف اسْتقْبل الْحجر، فَقَالَ: إِنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبَّلك مَا قبلتك، ثمَّ قبله، فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه يضر وينفع. قَالَ: بِمَ؟ قَالَ: بِكِتَاب الله تَعَالَى. عز وَجل {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أَنفسكُم أَلَسْت بربكم؟ قَالُوا: بلَى} (الْأَعْرَاف: 271) . وَذَلِكَ أَن الله لما خلق آدم مسح يَده على ظَهره فقررهم بِأَنَّهُ الرب، وَأَنَّهُمْ العبيد وَأخذ عهودهم ومواثيقهم، وَكتب ذَلِك فِي رق، وَكَانَ لهَذَا الْحجر عينان ولسان، فَقَالَ: إفتح، فَفتح فَاه فألقمه ذَلِك الرّقّ، فَقَالَ: أشهد لمن وافاك بالموافاة يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنِّي أشهد لسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بِالْحجرِ الْأسود وَله لِسَان دلق يشْهد لمن يستلمه بِالتَّوْحِيدِ، فَهُوَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يضر وينفع. فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أعوذ بِاللَّه من قوم لست فيهم يَا أَبَا الْحسن) . وَفِي سَنَده أَبُو هَارُون، عمَارَة بن جُوَيْن ضَعِيف، وَرَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ أَيْضا فِي (تَارِيخ مَكَّة) وَفِي لَفظه: (أعوذ بِاللَّه أَن أعيش فِي قوم لست فيهم) .
وَمن الْحِكْمَة فِي تَقْبِيل الْحجر الْأسود غير مَا ذكر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر أَنه من أَحْجَار الْجنَّة على، مَا يَأْتِي، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فالتقبيل ارتياح إِلَى الْجنَّة وآثارها. وَمِنْهَا: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَنه يَمِين الله فِي الأَرْض) ، رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي (غَرِيب الحَدِيث) . وَفِي (فَضَائِل مَكَّة) للجندي من حَدِيث ابْن جريج عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر عَن ابْن عَبَّاس: (إِن هَذَا الرُّكْن الْأسود هُوَ يَمِين الله فِي الأَرْض، يُصَافح بِهِ عباده مصافحة الرجل أَخَاهُ) . وَمن حَدِيث الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة عَنهُ زِيَادَة: (فَمن لم يدْرك بيعَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتَلم الْحجر فقد بَايع الله وَرَسُوله) . وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من فاوض الْحجر الْأسود فَكَأَنَّمَا يفاوض يَد الرَّحْمَن) . وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَالْمعْنَى فِي كَونه يَمِين الله، وَالله أعلم، أَن كل ملك إِذا قدم عَلَيْهِ قبلت يَمِينه، وَلما كَانَ الْحَاج والمعتمر أول مَا يقدمان يسن لَهما تقبيله، فَنزل منزلَة يَمِين الْملك، وَيَده، وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى، وَلذَلِك من صافحه كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد، كَمَا أَن الْملك يُعْطي الْعَهْد بالمصافحة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن تَقْبِيل الْحجر الْأسود سنة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم يستحبون(9/240)
تَقْبِيل الْحجر، فَإِن لم يُمكنهُ وَلم يصل إِلَيْهِ اسْتَلم بِيَدِهِ، وَقيل يَده، وَإِن كَانَ لم يصل إِلَيْهِ استقبله إِذا حَاذَى بِهِ وَكبر، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي انْتهى. وَخَالف مَالك فِي تَقْبِيل الْيَد، فَقَالَ: يستلمه وَلَا يقبل يَده، وَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ عَنهُ، وَالْجُمْهُور على أَنه يستلمه ثمَّ يقبل يَده، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَجَابِر وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَابْن أبي مليكَة وَعِكْرِمَة بن خَالِد وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد وَعَمْرو بن دِينَار، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وروى الْحَاكِم من حَدِيث جَابر: (بَدَأَ بِالْحجرِ الْأسود فاستلمه، وفاضت عَيناهُ بالبكاء وَقَبله، وَوضع يَده عَلَيْهِ وَمسح بهما وَجهه) . وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَنهُ أَنه قبله ثَلَاثًا. وَعند الْحَاكِم: وَسجد عَلَيْهِ، وَصحح إِسْنَاده، وَفِيه كَرَاهَة تَقْبِيل مَا لم يرد الشَّرْع بتقبيله من الْأَحْجَار وَغَيرهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَأما قَول الشَّافِعِي: وَمهما قبل من الْبَيْت فَحسن، فَإِنَّهُ لم يرد بالْحسنِ مَشْرُوعِيَّة ذَلِك، بل أَرَادَ إِبَاحَة ذَلِك، والمباح من جملَة الْحسن، كَمَا ذكره الأصوليون. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَقَالَ أَيْضا: وَأما تَقْبِيل الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة على قصد التَّبَرُّك، وَكَذَلِكَ تَقْبِيل أَيدي الصَّالِحين وأرجلهم فَهُوَ حسن مَحْمُود بِاعْتِبَار الْقَصْد وَالنِّيَّة، وَقد سَأَلَ أَبُو هُرَيْرَة الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يكْشف لَهُ الْمَكَان الَّذِي قبله، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سرته، فَقبله تبركا بآثاره وَذريته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَ ثَابت الْبنانِيّ لَا يدع يَد أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى يقبلهَا، وَيَقُول: يَد مست يَد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَيْضا: وَأَخْبرنِي الْحَافِظ أَبُو سعيد ابْن العلائي قَالَ: رَأَيْت فِي كَلَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي جُزْء قديم عَلَيْهِ خطّ ابْن نَاصِر وَغَيره من الْحفاظ، أَن الإِمَام أَحْمد سُئِلَ عَن تَقْبِيل قبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتقبيل منبره، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، قَالَ: فأريناه للشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية فَصَارَ يتعجب من ذَلِك، وَيَقُول: عجبت أَحْمد عِنْدِي جليل يَقُوله؟ هَذَا كَلَامه أَو معنى كَلَامه؟ وَقَالَ: وَأي عجب فِي ذَلِك وَقد روينَا عَن الإِمَام أَحْمد أَنه غسل قَمِيصًا للشَّافِعِيّ وَشرب المَاء الَّذِي غسله بِهِ، وَإِذا كَانَ هَذَا تَعْظِيمه لأهل الْعلم فَكيف بمقادير الصَّحَابَة؟ وَكَيف بآثار الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ وَلَقَد أحسن مَجْنُون ليلى حَيْثُ يَقُول:
(أَمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا الْجِدَار)
(وَمَا حب الدَّار شغفن قلبِي ... وَلَكِن حبُّ من سكن الديارا)
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَيُمكن أَن يستنبط من تَقْبِيل الْحجر واستلام الْأَركان جَوَاز تَقْبِيل مَا فِي تقبيله تَعْظِيم الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِن لم يرد فِيهِ خبر بالندب لم يرد بِالْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَقد رَأَيْت فِي بعض تعاليق جدي مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف: أَن بَعضهم كَانَ إِذا رأى الْمَصَاحِف قبلهَا، وَإِذا رأى أَجزَاء الحَدِيث قبلهَا، وَإِذا رأى قُبُور الصَّالِحين قبلهَا، قَالَ: وَلَا يبعد هَذَا، وَالله أعلم فِي كل مَا فِيهِ تَعْظِيم لله تَعَالَى.
وَفِيه: فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، التَّسْلِيم للشارع فِي أُمُور الدّين وَحسن الإتباع فِيمَا لم يكْشف عَن مَعَانِيهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: تَسْلِيم الْحِكْمَة وَترك طلب الْعِلَل وَحسن الإتباع فِيمَا لم يكْشف لنا عَنهُ من الْمَعْنى، وَأُمُور الشَّرِيعَة على ضَرْبَيْنِ: مَا كشف عَن علته وَمَا لم يكْشف، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيم.
وَفِيه: قَاعِدَة عَظِيمَة فِي اتِّبَاع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيمَا يَفْعَله وَلَو لم يعلم الْحِكْمَة فِيهِ. وَفِيه: دفع مَا وَقع لبَعض الْجُهَّال من أَن فِي الْحجر الْأسود خاصية ترجع إِلَى ذَاته. وَفِيه: بَيَان السّنَن بالْقَوْل وَالْفِعْل. وَفِيه: أَن للْإِمَام إِذا خشِي على أحد من فعله فَسَادًا اعْتِقَاده أَن يُبَادر إِلَى بَيَان الْأَمر ويوضح ذَلِك.
فَائِدَة: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْحجر الْأسود: (وَإنَّهُ ليَبْعَثهُ الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة، لَهُ عينان يبصر بهما، ولسان ينْطق بِهِ يشْهد على من استلمه بِحَق) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْأَوْسَط) من حَدِيث عبد الله ابْن عَمْرو: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يُؤْتى الرُّكْن يَوْم الْقِيَامَة أعظم من أبي قبيس، لَهُ لِسَان وشفتان يتَكَلَّم عَمَّن استلمه بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ يَمِين الله الَّتِي يُصَافح بهَا خلقه) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح. وَفِيه: جَوَاز كَلَام الجمادات، وَمِنْه تَسْبِيح الْحَصَى وَكَلَام الْحجر وَوُجُود اللِّسَان والعينين للحجر الْأسود هَل يخلقه الله تَعَالَى فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة أَو هُوَ مَوْجُود فِيهِ قبل ذَلِك؟ وَإِنَّمَا هُوَ أَمر خَفِي غامض يحْتَمل الْأَمريْنِ. وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أَن هَذَا الْوَصْف كَانَ مَوْجُودا لَهُ من يَوْم {لست بربكم} (الْأَعْرَاف: 271) . قَوْله: (يشْهد على من استلمه) ، على: هُنَا بِمَعْنى: اللَّام، وَقد ورد فِي رِوَايَة الأحمد والدارمي فِي مسنديهما يشْهد لمن استلمه بِحَق وَكَذَلِكَ(9/241)
فِي (صَحِيح ابْن حبَان) . وَقَوله: (بِحَق) ، يحْتَمل أَن يتَعَلَّق بقوله: يشْهد، وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بقوله: استلمه، وروى معمر عَن رجل عَن الْمنْهَال ابْن عَمْرو عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: يَأْتِي الْحجر وَالْمقَام يَوْم الْقِيَامَة كل وَاحِد مِنْهُمَا مثل أحد، فيناديان بِأَعْلَى صوتهما يَشْهَدَانِ لمن وافاهما بِالْوَفَاءِ، وَعَن أنس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان من يَوَاقِيت الْجنَّة. قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَعَن ابْن عمر قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان من يَوَاقِيت الْجنَّة طمس الله نورهما، وَلَوْلَا ذَلِك لأضاء مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب) . أخرجه الْحَاكِم، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد على شَرط مُسلم، وَزَاد: (وَلَوْلَا مَا مسهما من خَطَايَا بني آدم، مَا مسهما من ذِي عاهة إلاَّ شفي، وَمَا على الأَرْض من الْجنَّة غَيره) . وَعَن ابْن عَبَّاس رَفعه: (لَوْلَا مَا طبع الله الرُّكْن من أنجاس الْجَاهِلِيَّة وأرجاسها وأيدي الظلمَة وَالْأَئِمَّة لاستشفي بِهِ من كل عاهة، ولألقاه الله كَهَيْئَته يَوْم خلقه تَعَالَى، وَإِنَّمَا غَيره الله تَعَالَى بِالسَّوَادِ لِئَلَّا ينظر أهل الدُّنْيَا إِلَى زِينَة الْجنَّة، وَأَنه لياقوتة من ياقوت الْجنَّة بَيْضَاء، وَضعه لآدَم حَيْثُ أنزلهُ فِي مَوضِع الْكَعْبَة، وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ طَاهِرَة لم يعْمل فِيهَا شَيْء من الْمعاصِي، وَلَيْسَ لَهَا أهل ينجسونها، وَوضع لَهَا صفا من الْمَلَائِكَة على أَطْرَاف الْحرم يحرسونه من جَان الأَرْض، وسكانها يَوْمئِذٍ الْجِنّ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُم أَن ينْظرُوا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ شَيْء من الْجنَّة، وَمن نظر إِلَى الْجنَّة دَخلهَا فهم على أَطْرَاف الْحرم حَيْثُ أَعْلَامه ليَوْم يحدقون بِهِ من كل جَانب، بَينه وَبَين الْحرم، وروى الطَّبَرَانِيّ عَن عَائِشَة: (اسْتَمْتعُوا من هَذَا الْحجر الْأسود قبل أَن يرفع فَإِنَّهُ خرج من الْجنَّة، وَأَنه لَا يَنْبَغِي لشَيْء خرج من الْجنَّة أَن لَا يرجع إِلَيْهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة) . وَفِي رِوَايَة الجندي عَن مُجَاهِد: الرُّكْن من الْجنَّة وَلَو لم يكن مِنْهَا لفني. وَعند الجندي عَن سعيد بن الْمسيب: (الرُّكْن وَالْمقَام حجران من حِجَارَة الْجنَّة) .
أُخْرَى: كَانَ أَبُو طَاهِر القرمطي من الباطنية وَقَالَ بِسوء رَأْيه: هَذَا الْحجر مغنطيس بني آدم، فجَاء إِلَى مَكَّة وَقلع الْبَاب وأصعد رجلا من أَصْحَابه ليقطع الْمِيزَاب، فتردى على رَأسه إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المآب، وَأخذ أسلاب مَكَّة والحاج وَألقى الْقَتْلَى فِي بِئْر زَمْزَم فَهَلَك تَحت الْحجر من مَكَّة إِلَى الْكُوفَة أَرْبَعُونَ جملا، فعلقه لعنة الله عَلَيْهِ على الأسطوانة السَّابِعَة من جَامع الْكُوفَة من الْجَانِب الغربي ظنا مِنْهُ أَن الْحَج ينْتَقل إِلَى الْكُوفَة، قَالَ ابْن دحْيَة: ثمَّ حمل الْحجر إِلَى هجر سنة سبع عشرَة وثلاثمائة، وَبَقِي عِنْد القرامطة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة إلاَّ شهرا، ثمَّ رد لخمس خلون من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة، وَكَانَ يحكم التركي بذل لَهُم فِي دِرْهَم خمسين ألف دِينَار، فَمَا فعلوا وَقَالُوا: أخذناه بِأَمْر وَلَا نرده إلاَّ بِأَمْر وَقيل: إِن القرمطي بَاعَ الْحجر من الْخَلِيفَة المقتدر بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار، ثمَّ أرسل الْحجر إِلَى مَكَّة على قعُود أعجف، فسمن تَحْتَهُ وَزَاد حسنه إِلَى مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى.
15 - (بابُ إغلاقِ البَيْتِ ويُصَلِّي فِي أيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شاءَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إغلاق بَاب الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام، يُقَال: أغلقت الْبَاب فَهُوَ مغلق، والأسم الغلق، وغلقت الْبَاب غلقا لُغَة رَدِيئَة، قَالَه الْجَوْهَرِي، وغلَّقت الْأَبْوَاب شدد للكثرة. قَوْله: (وَيُصلي) أَي: الدَّاخِل فِي الْبَيْت يُصَلِّي فِي أَي نَاحيَة شَاءَ من نواحي الْبَيْت، وكل نَاحيَة من نواحي الْبَيْت من دَاخله سَوَاء، كَمَا أَن كل نواحيه من خَارجه فِي الصَّلَاة إِلَيْهِ سَوَاء. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ الشَّافِعِي: من صلى فِي جَوف الْبَيْت مُسْتَقْبلا حَائِطا من حيطانها فَصلَاته جَائِزَة، وَإِن صلى نَحْو بَاب الْبَيْت وَكَانَ مغلقا، فَكَذَلِك وَإِن كَانَ مَفْتُوحًا فباطلة، لِأَنَّهُ لم يسْتَقْبل شَيْئا مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بغلق بَاب الْكَعْبَة حِين صلوا. وَقد يُقَال: إِنَّمَا أغلقه لِكَثْرَة النَّاس عَلَيْهِ فصلوا بِصَلَاتِهِ، وَيكون ذَلِك عِنْدهم من مَنَاسِك الْحَج، كَمَا فعل فِي صَلَاة اللَّيْل حِين لم يخرج إِلَيْهِم خشيَة أَن يكْتب عَلَيْهِم، وَمَتى فتح، وَكَانَت العتبة قدر ثُلثي ذِرَاع صحت أَيْضا، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا إِذا انْهَدَمت وَصلى كَمَا ألزمنا ابْن الْقصار بِهِ، لِأَنَّهُ صلى إِلَى الْجِهَة. انْتهى. قَالَ النَّوَوِيّ: إِذا كَانَ الْبَاب مسدودا أَو لَهُ عتبَة قدر ثُلثي ذِرَاع يجوز، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَفِي وَجه: يقدر بِذِرَاع، وَقيل: يَكْفِي شخوصها، وَقيل: يشْتَرط قدر قامة طولا وعرضا، وَلَو وضع بَين يَدَيْهِ مَتَاعا واستقبله لم يجزه. قلت: الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة جَائِزَة فَرضهَا ونفلها، وَهُوَ قَول عَامَّة أهل الْعلم، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك: لَا يصلى فِي الْبَيْت وَالْحجر فَرِيضَة وَلَا رَكعَتَا الطّواف الواجبتان وَلَا الْوتر وَلَا رَكعَتَا الْفجْر، وَغير ذَلِك، لَا بَأْس بِهِ، ذكره فِي ذخيرتهم. وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن مَالك أَنه: لَا يُصَلِّي الْفَرْض وَلَا السّنَن، وَيُصلي التَّطَوُّع، فَإِن صلى فِيهِ مَكْتُوبَة(9/242)
أعَاد فِي الْوَقْت كمن صلى إِلَى غير الْقبْلَة بالإجتهاد. وَعند ابْن حبيب وَأصبغ: يُعِيد أبدا، وَبقول مَالك قَالَ أَحْمد، وَقَالَ ابْن عبد الحكم: لَا يُعِيد مُطلقًا، وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ منع الْجَمِيع فِيهَا.
8951 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قالَ دَخَلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْتَ هُوَ وأسَامةُ بنُ زَيْدٍ وبِلالٌ وَعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ فأغْلَقُوا عليْهِمْ فلَمَّا فتَحُوا كُنْتُ أوَّلَ منْ ولَجَ فلَقِيتُ بِلالاً فسَألْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَعَمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِييْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أغلقوا عَلَيْهِم) فَإِن قلت: من جملَة التَّرْجَمَة قَوْله: (وَيُصلي فِي أَي نواحي الْبَيْت شَاءَ) ، وَهَذَا يدل على التَّخْيِير، وَفِي الحَدِيث بَين اليمانيين، وَهُوَ يدل على التَّعْيِين فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة. قلت: لم تكن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْموضع قصدا، وَإِنَّمَا وَقع اتِّفَاقًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّخْيِير، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ قصدا، وَلَكِن لم يكن قَصده تحتما وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِيَارا لذَلِك الْموضع لمزية فضلَة على غَيره، فَلَا يدل على التَّعْيِين.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة، وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْت) أَي: الْكَعْبَة، وَكَانَ ذَلِك فِي عَام الْفَتْح، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة يُونُس بن يزِيد عَن نَافِع عِنْد البُخَارِيّ، كَمَا فِي كتاب الْجِهَاد. وَلَفظه: (أقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح من أَعلَى مَكَّة على رَاحِلَته) ، وَفِي رِوَايَة فليح عَن نَافِع فِي الْمَغَازِي: وَهُوَ مردف أُسَامَة يَعْنِي ابْن زيد على الْقَصْوَاء، ثمَّ اتفقَا، وَمَعَهُ بِلَال وَعُثْمَان بن طَلْحَة حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة فليح: عِنْد الْبَيْت، وَقَالَ لعُثْمَان: ائتنا بالمفتاح، فَجَاءَهُ بالمفتاح فَفتح لَهُ الْبَاب فَدخل، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَعبد الرَّزَّاق من رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع: ثمَّ دعى عُثْمَان بن طَلْحَة بالمفتاح فَذهب إِلَى أمه فَأَبت أَن تعطيه، فَقَالَ: وَالله لتعطينه أَو لأخْرجَن هَذَا السَّيْف من صلبي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِك أَعطَتْهُ، فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفتح الْبَاب. وَظهر من رِوَايَة فليح أَن فَاعل: فتح، هُوَ عُثْمَان الْمَذْكُور، وَلَكِن روى الفاكهي من طَرِيق ضَعِيف عَن ابْن عمر قَالَ: كَانَ بَنو أبي طَلْحَة يَزْعمُونَ أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد فتح الْكَعْبَة غَيرهم، فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِفْتَاح فَفَتحهَا بِيَدِهِ، وَعُثْمَان الْمَذْكُور هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة بن عبد الْعُزَّى بن عبد الدَّار بن قصي بن كلاب، وَيُقَال لَهُ: الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم، ولآل بَيته الحجبة لحجبهم الْكَعْبَة، ويعرفون الْآن بالشيبين نِسْبَة إِلَى شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ ابْن عَم عُثْمَان هَذَا لَا وَلَده، وَله أَيْضا صُحْبَة وَرِوَايَة، وَاسم أم عُثْمَان الْمَذْكُور: سلافة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام وَفتح الْفَاء. قَوْله: (هُوَ وَأُسَامَة) ، هُوَ: ضمير الْفَصْل يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أَنهم دخلُوا الْبَيْت مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق آخر: وَلم يدخلهَا مَعَهم أحد، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عدي عَن نَافِع: وَمَعَهُ الْفضل بن عَبَّاس فيكونون أَرْبَعَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: حَدثنِي أخي الْفضل، وَكَانَ مَعَه حِين دَخلهَا، أَنه لم يصلِّ فِي الْكَعْبَة. قَوْله: (فأغلقوا عَلَيْهِم) ، أَي: الْبَاب، وَفِي رِوَايَة حسان بن عَطِيَّة عَن نَافِع عِنْد أبي عوَانَة: من دَاخل، وَزَاد يُونُس: فَمَكثَ نَهَارا طَويلا، وَفِي رِوَايَة فليح: زَمَانا، بدل: نَهَارا. وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية عَن نَافِع الَّتِي مَضَت فِي أَوَائِل الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة بَين السَّوَارِي: فَأطَال، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة ابْن عون عَن نَافِع: فَمَكثَ فِيهَا مَلِيًّا وَله من عبيد الله عَن نَافِع، فأجافوا عَلَيْهِم الْبَاب طَويلا، وَمن رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع، (فَمَكثَ فِيهَا سَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن أبي مليكَة: (فَوجدت شَيْئا فَذَهَبت، ثمَّ جِئْت سَرِيعا فَوجدت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَارِجا مِنْهَا) . فَإِن قلت: وَقع فِي (الْمُوَطَّأ) فأغلقاها عَلَيْهِ، وَالضَّمِير لعُثْمَان وبلال، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن عون عَن نَافِع: (فأجاف عَلَيْهِم عُثْمَان الْبَاب. قلت: كَانَ عُثْمَان هُوَ الْمُبَاشر لذَلِك لِأَنَّهُ من وظيفته، وَالظَّاهِر أَن بِلَالًا كَانَ ساعده فِي ذَلِك، فأضيف إِلَيْهِ لكَونه مساعدا. قَوْله: (فَلَمَّا فتحُوا كنت أول من ولج) ، أَي: دخل، من الولوج، وَهُوَ الدُّخُول، وَفِي رِوَايَة فليح: (ثمَّ خرج فابتدر النَّاس: الدُّخُول، فسبقتهم) . وَفِي رِوَايَة أَيُّوب: (وَكنت رجلا(9/243)
شَابًّا قَوِيا فبادرت النَّاس فبدرتهم) . وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية: (كنت أول النَّاس ولج على إثره) . وَفِي رِوَايَة ابْن عون: (فرقيت الدرجَة فَدخلت الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُجَاهِد الَّتِي مَضَت فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة عَن ابْن عمر وَأَجد بِلَالًا قَائِما بَين النَّاس، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي كتاب مَكَّة أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ على الْبَاب يذب عَنهُ النَّاس، وَكَأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَمَا دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأغلق. قَوْله: (فَلَقِيت بِلَالًا فَسَأَلته) . وَفِي رِوَايَة مَالك عَن نَافِع الَّتِي مَضَت فِي: بَاب الصَّلَاة بَين السَّوَارِي، فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، فَسَأَلت بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين خرج مَا صنع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية وَيُونُس وَجُمْهُور أَصْحَاب نَافِع فَسَأَلت بِلَالًا أَيْن صلى؟ اختصروا أول السُّؤَال، وَثَبت فِي رِوَايَة سَالم الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب حَيْثُ قَالَ: هَل صلى فِيهِ؟ قَالَ: نعم. وَكَذَا فِي رِوَايَة مُجَاهِد وَابْن أبي مليكَة عَن ابْن عمر، فَقلت: أصلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْكَعْبَة؟ قَالَ: نعم، فَظهر أَنه استثبت أَولا: هَل صلى أم لَا؟ ثمَّ سَأَلَ عَن مَوضِع صلَاته من الْبَيْت، وَوَقع فِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن شهَاب عِنْد مُسلم: فَأَخْبرنِي بِلَال أَو عُثْمَان بن طَلْحَة، على الشَّك، وَالْمَحْفُوظ أَنه سَأَلَ بِلَالًا، كَمَا فِي رِوَايَة الْجُمْهُور، وَوَقع عِنْد أبي عوَانَة من طَرِيق الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عمر: أَنه سَأَلَ بِلَالًا وَأُسَامَة بن زيد حِين خرجا: أَيْن صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ؟ فَقَالَا: على جِهَته، وَكَذَا أخرجه الْبَزَّار نَحوه، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي الشعْثَاء عَن ابْن عمر، فَقَالَ: أَخْبرنِي أُسَامَة أَنه صلى فِيهِ هَهُنَا. وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر (فَقلت: أَيْن صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) فَقَالَ: فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا حمل على أَنه ابْتَدَأَ بِلَالًا بالسؤال، كَمَا تقدم تَفْصِيله، ثمَّ أَرَادَ زِيَادَة الاستثباب فِي مَكَان الصَّلَاة، فَسَأَلَ عُثْمَان أَيْضا وَأُسَامَة. فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن أُسَامَة بن زيد أخبرهُ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصل فِيهِ، وَلكنه كبَّر فِي نواحيه؟ قلت: وَجه الْجمع بَينهمَا أَن أُسَامَة حَيْثُ أثبتها اعْتمد فِي ذَلِك على غَيره، وَحَيْثُ نفاها أَرَادَ مَا فِي علمه لكَونه لم يرَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين صلى، وَجَوَاب آخر أَنه يحْتَمل أَن يكون أُسَامَة غَابَ عَنهُ بعد دُخُوله لحَاجَة، فَلم يشْهد صلَاته، وَبِه أجَاب الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث أُسَامَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى صورا فِي الْكَعْبَة، فَكنت آتيه بِمَاء فِي الدَّلْو يضْرب بِهِ الصُّور، فقد أخبر أُسَامَة أَنه كَانَ يخرج لنقل المَاء، وَكَانَ ذَلِك كُله يَوْم الْفَتْح، وَقَالَ ابْن حبَان الْأَشْبَه عِنْدِي أَن يحمل الخبران على دخولين متغايرين: أَحدهمَا يَوْم الْفَتْح وَصلى فِيهِ، وَالْآخر: فِي حجَّة الْوَدَاع وَلم يصلِّ فِيهِ) من غير أَن يكون بَينهمَا تضَاد، وَمِمَّا يرجح بِهِ إِثْبَات صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْبَيْت على من نفاها كَثْرَة الروَاة لَهَا، فَالَّذِينَ أثبتوها بِلَال وَعمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن طَلْحَة وَشَيْبَة بن عُثْمَان، وَالَّذين نفوها أُسَامَة وَالْفضل بن عَبَّاس وَعبد الله بن الْعَبَّاس، وَأما الْفضل فَلَيْسَ فِي الصَّحِيح أَنه دخل مَعَهم، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ أخبر عَن أَخِيه الْفضل وَلم يدْخل مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْبَيْت. وَمن الْأَجْوِبَة أَن الْقَاعِدَة تَقْدِيم الْمُثبت على النَّافِي. قَوْله: (بَين العمودين اليمانيين) ، وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية: (بَين العمودين المقدمين) ، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن نَافِع: (جعل عمودا عَن يَمِينه وعمودا عَن يسَاره) . وَوَقع فِي رِوَايَة فليح الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي: (بَين ذَيْنك العمودين المقدمين) ، وَكَانَ الْبَيْت على سِتَّة أعمدة، شطرين صلى بَين العمودين من الشّطْر الْمُقدم وَجعل بَاب الْبَيْت خلف ظَهره، وَقَالَ فِي آخر رِوَايَته: (وَعند الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ مرمرة حَمْرَاء) ، وكل هَذَا إِخْبَار عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْت قبل أَن يهدم، ويبنى فِي زمن ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَوْله: (اليمانيين) ، بتَخْفِيف الْيَاء لأَنهم جعلُوا الْألف بدل إِحْدَى ياءي النِّسْبَة، وَجوز سِيبَوَيْهٍ التَّشْدِيد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة الدُّخُول الْبَيْت بِدَلِيل دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مَعَه، ومشروعية الصَّلَاة فِيهِ، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : يسْتَحبّ دُخُول الْكَعْبَة وَالصَّلَاة فِيهَا، وَأَقل مَا يصلى رَكْعَتَيْنِ، زَاد فِي الْمَنَاسِك: جَافيا، وروى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من دخل الْبَيْت دخل فِي حَسَنَة وَخرج من سَيِّئَة مغفورا لَهُ) . وَفِي سَنَده عبد الله بن المؤمل وَفِيه مقَال، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَجعله من قَول مُجَاهِد، وَحكى الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَن دُخُول الْبَيْت من مَنَاسِك الْحَج، ورده بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا دخله عَام الْفَتْح وَلم يكن حِينَئِذٍ محرما، يسْتَحبّ للداخل أَن لَا يرفع بَصَره إِلَى السّقف(9/244)
قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: عجبا للمرء إِذا دخل الْكَعْبَة كَيفَ يرفع بَصَره قبل السّقف، يدع ذَلِك إجلالاً لله تَعَالَى، وإعظاما لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة خلف بَصَره مَوضِع سُجُوده، حَتَّى خرج مِنْهَا. قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَفِي (التلويج) وَقد أَسف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على دُخُولهَا. قَالَت عَائِشَة: (دخل عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حَزِين، فَقلت: يَا رَسُول الله! خرجت من عِنْدِي وَأَنت قرير الْعين طيب النَّفس، فَمَا بالك؟ فَقَالَ: إِنِّي دخلت الْكَعْبَة، وودت أَنِّي لم أكن فعلته إِنِّي أَخَاف أَن أكون قد أَتعبت أمتِي من بعدِي) قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ، وَالْحَاكِم وَصَححهُ، وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الدُّخُول فِي حجَّته، وَلَا يُخَالف حَدِيث ابْن أبي أوفى أَنه لم يدْخل، لِأَن حَدِيثه فِي الْعمرَة على مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيثه أَنه سُئِلَ: أَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمرته الْبَيْت؟ فَقَالَ: لَا، وَإِنَّمَا لم يدْخل فِي عمرته لما كَانَ فِي الْبَيْت من الْأَصْنَام والصور، وَكَانَ إِذْ ذَاك لَا يتَمَكَّن من إِزَالَتهَا بِخِلَاف عَام الْفَتْح، وَالله أعلم.
25 - (بابُ الصَّلاةِ فِي الكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة.
9951 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرَنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مُوسى بنُ عُقْبَةَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ كانَ إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةِ مَشَى قِبَلَ الوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ ويجْعَلُ البابَ قِبَلَ الظُّهْرِ يَمْشي حَتَّى يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبا مِنْ ثَلاثِ أذْرُعٍ فيُصَلِّي يَتَوَخَّى المَكَانَ الَّذِي أخْبَرَهُ بِلالٌ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ ولَيْسَ عَلى أحَدٍ بأسٌ فِي أنْ يُصَلِّيَ فِي أيِّ نَوَاحِيَ البَيْتِ شاءَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب الصَّلَاة بَين السَّوَارِي فِي كتاب الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم ابْن الْمُنْذر عَن أبي ضَمرَة عَن مُوسَى بن عقبَة، وَهنا أخرجه عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أبي الْعَبَّاس السمسار الْمروزِي، وَقد مر فِي كتاب الْوضُوء عَن عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي. قَوْله: (قبل الْوَجْه) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، بِمَعْنى الْمُقَابل، قَوْله: (قَرِيبا) نصب على أَنه خبر، قَوْله: يكون، واسْمه مَحْذُوف تَقْدِيره: حَتَّى يكون الْمِقْدَار أَو الْمسَافَة قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع. قَوْله: (يتوخى) ، جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: فَيصَلي، وَهُوَ بتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة أَي: يقْصد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
35 - (بابُ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الكَعْبَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر من لم يدْخل الْكَعْبَة حِين حج، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّد على من زعم أَن دُخُول الْكَعْبَة من مَنَاسِك الْحَج، وَذكر فِي الِاحْتِجَاج فِي ذَلِك فعل ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ أشهر من روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُخُول الْكَعْبَة، فَلَو كَانَ دُخُولهَا عِنْده من الْمَنَاسِك، لما أخل بِهِ مَعَ كَثْرَة أَتْبَاعه.
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يحُجُّ كَثِيرا ولاَ يَدْخُلُ
وصل هَذَا الْمُعَلق سُفْيَان الثَّوْريّ فِي (جَامعه) رِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن حَنْظَلَة عَن طَاوُوس، قَالَ: كَانَ ابْن عمر يحجّ كثيرا وَلَا يدْخل الْبَيْت. وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا معَارض لما ذكره البُخَارِيّ قبل: (كَانَ ابْن عمر إِذا دخل الْكَعْبَة مَشى) الحَدِيث. قلت: لَا مُعَارضَة لِأَنَّهُ يحمل على وَقت دون وَقت، وروى مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا أمرْتُم بِالطّوافِ وَلم تؤمروا بِدُخُولِهِ: أَخْبرنِي أُسَامَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما دخل الْبَيْت دَعَا فِي نواحيه كلهَا، وَلم يصلِّ فِيهِ حَتَّى خرج، فَلَمَّا خرج ركع فِي قبل الْبَيْت(9/245)
رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَذِه الْقبْلَة، وَزَاد الْحَاكِم: قَالَ عَطاء لم يكن يُنْهِي عَن دُخُوله، وَلَكِن سمعته يَقُول: أَخْبرنِي أُسَامَة، وَعند ابْن أبي شيبَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: يَا أَيهَا النَّاس! إِن دخولكم الْبَيْت لَيْسَ من حَجكُمْ فِي شَيْء، وَسَنَده صَحِيح، وَعَن إِبْرَاهِيم: إِن شَاءَ دخل وَإِن شَاءَ لم يدْخل. وَقَالَ خَيْثَمَة: لَا يَضرك وَالله أَن لَا تدخله.
0061 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إسماعِيلُ بنُ أبي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي أوْفَى اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَطَافَ بِالبَيْتِ وصَلى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ومعَهُ منْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فقَالَ لَهُ رجُلٌ أدَخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَةَ قَالَ لَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله أَرْبَعَة، وخَالِد بن عبد الله هُوَ الطَّحَّان الْبَصْرِيّ، وَهَذَا الْإِسْنَاد نصفه بَصرِي وَنصفه كُوفِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَعَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن مُسَدّد عَن خَالِد وَعَن تَمِيم بن الْمُنْتَصر عَن إِسْحَاق بن يُوسُف عَن شريك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن سعيد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن ابْن نمير.
قَوْله: (اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، المُرَاد بِهِ عمْرَة الْقَضَاء، فَكَانَت فِي سنة سبع من الْهِجْرَة قبل فتح مَكَّة. قَوْله: (خلف الْمقَام) أَي: مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْوَاو فِي (وَمَعَهُ) للْحَال. قَوْله: (أدَخَلَ؟) الْهمزَة للاستفهام، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: سَبَب ترك دُخُوله مَا كَانَ فِي الْبَيْت من الْأَصْنَام والصور، وَلم يكن الْمُشْركُونَ يتركونه ليغيرها، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْح أمرنَا بِإِزَالَة الصُّور ثمَّ دَخلهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَانَت الْأَصْنَام ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ صنما، لأَنهم كَانُوا يعظمون كل يَوْم صنما ويخصون أعظمها بصنمين، وروى الإِمَام أَحْمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (مُسْنده) (عَن جَابر، قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَة صور، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يمحوها فَبل عمر ثوبا ومحاها بِهِ، فَدَخلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِيهَا شَيْء) .
45 - (بابُ مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من كبر فِي نواحي الْكَعْبَة.
1061 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ قَالَ حدَّثنا عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَّا قَدِمَ أبَى أنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ فأمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فأخْرَجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ فِي أيْدِيهِمَا الأزْلاَمُ فقالَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاتَلَهُمُ الله أمَا وَالله قَدْ عَلِمُوا أنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا فدَخَلَ الْبَيْتَ فكَبَّرَ فِي نَوَاحِيِهِ ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكبر فِي نواحيه) ، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عمر، والمقعد الْبَصْرِيّ وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَفِي (التَّوْضِيح) : والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَلَيْسَ كَذَلِك، بل أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي معمر بِهِ.
قَوْله: (لما قدم) أَي: مَكَّة. قَوْله: (أَبى أَن يدْخل الْبَيْت) أَي: امْتنع عَن دُخُول الْبَيْت. قَوْله: (وَفِيه) أَي: وَالْحَال أَن فِي الْبَيْت: (الْآلهَة) أَي: الْأَصْنَام الَّتِي لأهل الْجَاهِلِيَّة، أطلق عَلَيْهَا الْآلهَة بِاعْتِبَار مَا كَانُوا يَزْعمُونَ. قَوْله: (فَأمر بهَا فأخرجت) وَفِي رِوَايَة: (تَأتي فِي الْأَنْبِيَاء: (حَتَّى أَمر بهَا فمحيت) . قَوْله: (فأخرجوا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا السَّلَام) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا فِي بَاب: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) . دخل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْبَيْت فَوجدَ فِيهِ صُورَة إِبْرَاهِيم وَصُورَة مَرْيَم، فَقَالَ: أما هم فقد سمعُوا أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ صُورَة، هَذَا إِبْرَاهِيم مُصَور، فَمَا باله يستقسم. قَوْله: (الأزلام) جمع: زلم، وَهِي الأقلام.
وَقَالَ ابْن التِّين: الأزلام: القداح، وَهِي أَعْوَاد نحتوها وَكَتَبُوا فِي إِحْدَاهَا: إفعل، وَفِي الآخر: لَا تفعل، وَلَا شَيْء فِي الآخر فَإِذا أَرَادَ أحدهم سفرا أَو حَاجَة أَلْقَاهَا، فَإِن خرج: إفعل، فعل، وَإِن خرج: لَا تفعل، لم(9/246)
يفعل، وَإِن خرج الآخر أعَاد الضَّرْب حَتَّى يخرج لَهُ: إفعل، أَو: لَا تفعل. فَكَانَت سَبْعَة على صفة وَاحِدَة مَكْتُوب عَلَيْهَا: لَا. نعم، مِنْهُم، من غَيرهم، ملصق، الْعقل، فضل الْعقل، وَكَانَ بيد السادن فَإِذا أَرَادوا خُرُوجًا أَو تزويجا أَو حَاجَة ضرب السادن، فَإِن خرج: نعم، ذهب، فَإِن خرج: لَا، كف، وَإِن شكوا فِي نسب أَتَوا بِهِ إِلَى الصَّنَم، فَضرب بِتِلْكَ الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ: مِنْهُم، من غَيرهم، ملصق، فَإِن خرج: مِنْهُم، كَانَ من أوسطهم نسبا، وَإِن خرج: من غَيرهم، كَانَ حليفا، وَإِن خرج ملصق لم يكن لَهُ نسب وَلَا حلف، وَإِذا جنى أحد جِنَايَة وَاخْتلفُوا على من الْعقل، ضربوا فَإِن خرج: الْعقل، على من ضربه عَلَيْهِ عقل وبرىء الْآخرُونَ، وَكَانُوا إِذا عقلوا الْعقل وَفضل الشَّيْء مِنْهُ وَاخْتلفُوا فِيهِ أَتَوا السادن فَضرب، فعلى من وَجب أَدَّاهُ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت الْجَاهِلِيَّة يتخذون الأقلام ويكتبون على بَعْضهَا: نهاني رَبِّي، وعَلى بَعْضهَا: أَمرنِي رَبِّي، وعَلى بَعْضهَا، نعم، وعَلى بَعْضهَا: لَا، فَإِذا أَرَادَ أحدهم سفرا أَو غَيره دفعوها إِلَى بَعضهم حَتَّى يقبضهَا، فَإِن خرج الْقدح الَّذِي عَلَيْهِ: أَمرنِي رَبِّي، مضى، أَو: نهاني، كف.
والاستقسام مَا قسم لَهُ من أَمر يزعمه، وَقيل: كَانَ إِذا أَرَادَ أحدهم أمرا أَدخل يَده فِي الْوِعَاء الَّذِي فِيهِ الأقلام فَأخْرج مِنْهَا زلما وَعمل بِمَا عَلَيْهِ، وَقيل: الأزلام حَصى بيض كَانُوا يضْربُونَ بهَا، والاستقسام استفعال من قسم الرزق والحاجات، وَذَلِكَ طلب أحدهم بالأزلام على مَا قسم لَهُ فِي حَاجته الَّتِي يلتمسها من نجاح أَو حرمَان، وأبطل الرب تَعَالَى ذَلِك، وَأخْبر أَنه فسق لأَنهم كَانَ يستقسمون عِنْد ألهتهم الَّتِي يعتقدونها، وَيَقُولُونَ: يَا إل هُنَا أخرج الْحق فِي ذَلِك، ثمَّ يعْملُونَ بِمَا خرج فِيهِ، فَكَانَ ذَلِك كفرا بِاللَّه تَعَالَى لإضافتهم مَا يكون من ذَلِك من صَوَاب أَو خطأ إِلَى أَنه من قسم آلِهَتهم الَّتِي لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَأخْبر الشَّارِع عَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنَّهُمَا لم يَكُونَا يفوضان أمورهما إلاَّ إِلَى الله الَّذِي لَا يخفى عَلَيْهِ علم مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِن، لِأَن الْآلهَة لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلذَلِك قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد علمُوا أَنهم لم يستقسما بهَا قطّ) . لأَنهم قد علمُوا أَن أباءهم أحدثوها، وَكَانَ فيهم بَقِيَّة من دين إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهَا: الْخِتَان، وَتَحْرِيم ذَوَات الْمَحَارِم إلاَّ امْرَأَة الْأَب، وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ.
قَوْله: (قَاتلهم الله) أَي: لعنهم الله. قَالَ التَّيْمِيّ: يَعْنِي قَاتل الله الْمُشْركين الَّذين صوروا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، ونسبوا إِلَيْهِمَا الضَّرْب بِالْقداحِ، وَكَانَا بريئين من ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء أحدثه الْكفَّار الَّذين غيروا دين إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وأحدثوا أحداثا. قَوْله: (أما وَالله) . وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أم وَالله، وَحذف الْألف مِنْهُ للتَّخْفِيف، وَكلمَة: أما، لافتتاح الْكَلَام. قَوْله: (قد علمُوا) ويروى: (لقد علمُوا) ، بِزِيَادَة اللَّام لزِيَادَة التَّأْكِيد، قيل: وَجه ذَلِك أَنهم كَانُوا يعلمُونَ إسم أول من أحدث الاستقسام بالأزلام، وَهُوَ عَمْرو بن لحي، فَكَانَت نسبتهم الاستقسام بالأزلام إِلَى إِبْرَاهِيم وَولده إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام، افتراء عَلَيْهِمَا. قَوْله: (لم يستقسما) أَي: إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (بهَا) ، أَي: بالأزلام، ويروى: بهما، مثنى، وَهُوَ بِاعْتِبَار أَن الأزلام على نَوْعَيْنِ: خير وَشر، وَقد ذكرنَا أَن الاستقسام طلب الْقسم، يَعْنِي: طلب معرفَة مَا قسم لَهُ وَمَا لم يقسم لَهُ بالأزلام، وَكَذَا معرفَة مَا أَمر بِهِ وَمَا نهي عَنهُ، وَقيل: هُوَ قسمهم الْجَزُور على الْأَنْصِبَاء الْمَعْلُومَة. قَوْله: (فَدخل الْبَيْت) أَي: فَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة، (فَكبر فِي نواحيه) أَي: فِي جَوَانِب الْبَيْت: (وَلم يصل فِيهِ) صَلَاة. فَهَذَا ابْن عَبَّاس نفى الصَّلَاة وَأثبت التَّكْبِير، وبلال أثبت الصَّلَاة وَلم يتَعَرَّض للتكبير، وَقد ذكرنَا وَجه ذَلِك مستقصىً فِي: بَاب إغلاق الْبَيْت، وَهَذَا البُخَارِيّ صحّح حَدِيث ابْن عَبَّاس مَعَ كَونه يرى تَقْدِيم حَدِيث بِلَال فِي إِثْبَات الصَّلَاة. فَإِن قلت: كَيفَ وَجه هَذَا يُصَحِّحهُ ويتركه؟ قلت: لم يتْرك لَا حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَلَا حَدِيث بِلَال، وَترْجم هُنَا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس لأجل الزِّيَادَة فِيهِ، وَهُوَ التَّكْبِير فِي نواحي الْبَيْت، وَلكنه قدم حَدِيث ابْن عَبَّاس لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ، وَإِنَّا أسْند نفي الصَّلَاة تَارَة لأسامة وَتارَة لِأَخِيهِ الْفضل، مَعَ أَنه لم يثبت كَون الْفضل مَعَهم إِلَّا فِي رِوَايَة شَاذَّة. وَالْوَجْه الآخر: إِن قَول الْمُثبت يرحج لِأَن فِيهِ زِيَادَة الْعلم، وَالله تَعَالَى أعلم.
55 - (بابٌ كَيفَ كانَ بَدْءُ الرَّمَلِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيْفيَّة ابْتِدَاء مَشْرُوعِيَّة الرمل فِي الطّواف، والرمل، بِفَتْح الرَّاء وَالْمِيم: هُوَ سرعَة الْمَشْي مَعَ تقَارب(9/247)
فِي الخطوة. وَفِي (الْمُحكم) : رمل يرمل رملاً ورملاً: إِذا مَشى دون الْعَدو. قَالَ الْقَزاز: هُوَ الْعَدو الشَّديد. وَفِي الجمهرة: شَبيه بالهرولة وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ الهرولة، وَفِي (المغيث) هُوَ الخبب، وَقيل: هُوَ أَن يهز مَنْكِبه وَلَا يسْرع الْعَدو، وَفِي (كتاب المسالك) لِابْنِ الْعَرَبِيّ: هُوَ مَأْخُوذ من التحرك، وَهُوَ أَن يُحَرك الْمَاشِي مَنْكِبَيْه لشدَّة الْحَرَكَة فِي مَشْيه.
2061 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ هُوَ ابنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عَنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحَابُهُ فَقَالَ المُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُم وقَدْ وهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فأمَرَهُمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثَّلاثَةَ وأنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ ولَمْ يَمْنَعْهُ أنْ يأمُرَهُمْ أنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.
(الحَدِيث 2061 طرفه فِي: 6524) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر القادمين مَعَه إِلَى مَكَّة أَن يرملوا، وَكَانَ هَذَا هُوَ ابْتِدَاء مَشْرُوعِيَّة الرمل، وَرِجَاله قد تكرروا.
وَأعَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْمَغَازِي عَن سُلَيْمَان بن حَرْب أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان لوبن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه) أَي: مَكَّة. قَوْله: (فَقَالَ الْمُشْركُونَ إِنَّه يقدم عَلَيْكُم) بِفَتْح الدَّال، وَالضَّمِير فِي: أَنه، يرجع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي: وهنهم، لأَصْحَابه، وَله وَجه آخر يَأْتِي بَيَانه عَن قريب، وَفِي لفظ مُسلم: (فَقَالَ الْمُشْركُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذين زعمتم أَن الْحمى وهنتهم، هَؤُلَاءِ أجلد من كَذَا وَكَذَا) . وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (وَالْمُشْرِكُونَ من جبل قعيقعان) ، وَفِي لفظ لمُسلم: (وَكَانُوا يحسدونه) ، وَفِي لفظ: (وَكَانَ أهل مَكَّة قوما حسدا) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (يقدم عَلَيْكُم قوم عُرَاة، فَأطلع الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا قَالُوا، فَأَمرهمْ أَن يرملوا وَأَن يمشوا) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه حِين أَرَادوا دُخُول مَكَّة فِي عمرته بعد الْحُدَيْبِيَة: إِن قومكم غَدا سيرونكم، فليرونكم جلدا. فَلَمَّا دخلُوا الْمَسْجِد الْحَرَام استلموا الرُّكْن ورملوا وَهُوَ مَعَهم) ، وللطبراني عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: من شَاءَ فليرمل وَمن شَاءَ فَلَا يرمل، إِنَّمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرمل ليرى الْمُشْركُونَ قوته، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (تهذيبه) : لما اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغه أَن أهل مَكَّة يَقُولُونَ: إِن بِأَصْحَابِهِ هزالًا. فَقَالَ لَهُم حِين قدم: شدوا مآزركم وأعضادكم، وارملوا حَتَّى يَقُول قومكم: إِن بكم قُوَّة، قَالَ ثمَّ حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يرمل، قَالُوا: وَإِنَّمَا رمل فِي عمْرَة الْعقبَة، وَفِي إِسْنَاده حجاج بن أَرْطَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه اعتمروا من جعرانة، يَعْنِي فِي عمْرَة الْقَضَاء، فرملوا بِالْبَيْتِ وَجعلُوا أرديتهم تَحت آباطهم، ثمَّ قدموها على عواتقهم الْيُسْرَى، وَفِي لفظ: (كَانُوا إِذا بلغُوا الرُّكْن الْيَمَانِيّ وتغيبوا من قُرَيْش مَشوا، ثمَّ إِذا اطلعوا عَلَيْهِم يرملون، تَقول قُرَيْش: كَأَنَّهُمْ الغزلان) . قَوْله: (قد وهنهم) ويروى (وَقد وهنهم) بواو الْعَطف، وحرف التَّقْرِيب، وَالْجُمْلَة حَالية، وَهَذَا بِحرف الْعَطف وبحذفها رِوَايَة ابْن السكن. وَقَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الكافة بِالْفَاءِ، وَهُوَ الصَّوَاب يَعْنِي: وَفد بِمَعْنى الْجَمَاعَة القادمين، فعلى هَذَا يكون ارتفاعه على أَنه فَاعل. قَوْله: (يقدم) ، وَيكون قَوْله وهنهم فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا تكون صفة لوفد، وعَلى هَذَا يكون الضَّمِير فِي قَوْله (إِنَّه يقدم) ، ضمير الشان، وعَلى رِوَايَة ابْن السكن: يرجع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكرنَا عَن قريب، ويروى: وهنهم، بِالتَّشْدِيدِ من التوهين. وَقَوله: (حمى يثرب) بِالرَّفْع فَاعله، والوهن الضعْف، يُقَال: وَهن يهن مثل: وعد، ووهن ورم، والواهن الضَّعِيف فِي قوته لَا بَطش عِنْده، وَعَن صَاحب (الْعين) : الوهن الضعْف فِي الْعَمَل وَالْأَمر، وَكَذَلِكَ فِي الْعظم، وهَنَ الشَّيْء وأوهنه، والوهن بِفَتْح الْهَاء لُغَة فِي الوهن بالتسكين، وَرجل واهن فِي الْأَمر وَالْعَمَل، وموهون فِي الْعظم وَالْبدن، وَعَن ابْن دُرَيْد: وَهن يوهن. قَوْله: (يثرب) اسْم مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (أَن يرملوا) ، بِضَم الْمِيم أَي: وَأَن يرملوا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: يَأْمُرهُم بالرمل. قَوْله: (الأشواط) جمع شوط، بِفَتْح الشين وَهُوَ الطلق، وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم: جرى الْفرس شوطا إِذا بلغ مجْرَاه، ثمَّ عَاد، فَكل من أَتَى موضعا ثمَّ انْصَرف عَنهُ فَهُوَ شوط، وَالْمرَاد هَهُنَا: الطوفة حول الْكَعْبَة، وانتصاب الأشواط على الظّرْف. قَوْله: (وَأَن يمشوا) ، عطف على قَوْله: (أَن يرملوا) . قَوْله: (مَا بَين الرُّكْنَيْنِ) أَي: اليمانيين. قَوْله: (إلاَّ الْإِبْقَاء) ، بِكَسْر الْهمزَة وبالباء الْمُوَحدَة وَالْقَاف، وَهُوَ الرِّفْق(9/248)
والشفقة، أَي: لم يمنعهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَمرهم بالرمل فِي الْكل إلاَّ الرِّفْق بهم، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: روينَاهُ بِالرَّفْع على أَنه فَاعل يمنعهُم، وَيجوز النصب على أَن يكون مَفْعُولا من أَجله.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الرمل فِي الطّواف. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ: هَل هُوَ سنة من سنَن الْحَج لَا يجوز تَركهَا؟ أَو لَيْسَ بِسنة لِأَنَّهُ كَانَ لعِلَّة وَقد زَالَت، فَمن شَاءَ فعله اخْتِيَارا؟ فَروِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر: أَنه سنة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِسنة، فَمن شَاءَ فعله وَمن شَاءَ تَركه، روى ذَلِك عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم طَاوُوس وَعَطَاء وَالْحسن وَالقَاسِم وَسَالم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَجُمْهُور الْعلمَاء، على أَن الرمل من الْحجر إِلَى الْحجر، وَفِي (التَّوْضِيح) : ثمَّ الْجُمْهُور على أَنه يستوعب الْبَيْت بالرمل، وَفِي قَول: لَا يرمل بَين الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، وَالْمَرْأَة لَا ترمل بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ يقْدَح فِي السّتْر وَلَيْسَت من أهل الْجلد وَلَا تهرول أَيْضا بَين الصَّفَا والمروة فِي السَّعْي، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن عمر وَعَائِشَة وَجَمَاعَة، فَإِن ترك الرمل فِي الطّواف والهرولة فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ ذكر وَهُوَ قريب، فَمرَّة قَالَ مَالك: يُعِيد، وَمرَّة قَالَ: لَا يُعِيد، وَبِه قَالَ ابْن الْقَاسِم، وَاخْتلف أَيْضا هَل عَلَيْهِ دم أم لَا. وَفِيه: جَوَاز تَسْمِيَة الطوفة شوطا. وَنقل عَن الشَّافِعِي كَرَاهَته. وَفِي (الْأُم) : قَالَ الشَّافِعِي: لَا يُقَال شوط وَلَا دور، وَعَن مُجَاهِد: لَا تَقولُوا شوطا وَلَا شوطين، وَلَكِن قُولُوا: دورا اودورين. وَفِيه: مَا يُؤْخَذ جَوَاز إِظْهَار الْقُوَّة بالعدة وَالسِّلَاح وَنَحْو ذَلِك للْكفَّار إرهابا لَهُم، وَلَا يعد ذَلِك من الرِّيَاء. وَفِيه: جَوَاز المعاريض بِالْفِعْلِ، كَمَا يجوز بالْقَوْل، وَرُبمَا يكون بِالْفِعْلِ أولى.
65 - (بابُ اسْتِلاَمِ الحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ ويَرْمُلُ ثَلاثا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان استلام الْحجر الْأسود، والاستلام هُوَ الْمسْح بِالْيَدِ، مُشْتَقّ من السَّلَام الَّذِي هُوَ التَّحِيَّة. وَقيل: من السَّلَام بِكَسْر السِّين، وَهُوَ الْحِجَارَة. وَقَالَ ابْن سيدة: اسْتَلم الْحجر واستلأمه، بِالْهَمْزَةِ، أَي: قبله أَو اعتنقه، وَلَيْسَ أَصله الْهَمْز، وَيُقَال استلمت الْحجر إِذْ لمسته. كَمَا يُقَال: اكتحلت من الكهل، وَفِي (الْجَامِع) وَقيل: هُوَ استفعل من اللأمة، واللأمة هِيَ الدرْع وَالسِّلَاح وَإِنَّمَا يلبس اللامة ليمتنع بهَا من الْأَعْدَاء، فَكَانَ هَذَا إِذا لمس الْحجر فقد تحصن من الْعَذَاب. قَوْله: (أول) ، مَنْصُوب على الظّرْف، ظرف للاستلام. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات.
3061 - حدَّثنا أصْبَغُ بنُ الفَرَجِ قَالَ أخْبَرَنِي ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سالِمٍ عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رَأيْتُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا لِأَن مَعْنَاهُ معنى التَّرْجَمَة سَوَاء، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله بن عمر يروي عَن أَبِيه عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي الظَّاهِر. وحرملة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر وَسليمَان بن دَاوُد، كلهم عَن ابْن وهب بِهِ.
قَوْله: (إِذا اسْتَلم) ظرف لَا شَرط، وَبدل عَن قَوْله: (حِين يقدم) . قَوْله: (أول) ، نصب على الظّرْف مُضَاف إِلَى كلمة: مَا، المصدرية. قَوْله: (يخب) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله: (رَأَيْت) ، وَهُوَ بِفَتْح يَاء المضارعة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: من الخبب، وَهُوَ ضرب من الْعَدو. وَقيل: خب الْفرس إِذا نقل أيامنه وإياسره جَمِيعًا. وَقيل: هُوَ أَن يراوح بَين يَدَيْهِ، وَقيل: الخبب السرعة، وَقد خبت الدَّابَّة تخب خببا وخبيبا وأخبت وَقد أخبها ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْمُنْتَهى) يُقَال: خب خبيبا وأخبه صَاحبه إخبابا. وَفِي (الجمهرة) وأخببته أَنا، وَفِي الْكِفَايَة لأبي إِسْحَاق الأجداني: إِذا ارْتَفع سير الْبَعِير حَتَّى يكون عدوا يراوح بَين يَدَيْهِ، فَذَلِك الخبب. قَوْله: (ثَلَاثَة) ، وَإِن كَانَ مُبْهما، لَكِن الْمَقْصُود مِنْهُ الثَّلَاثَة الأول. قَوْله: (من السَّبع) أَي: الطوفات السَّبع، ويروى: السَّبْعَة، بِاعْتِبَار الأطواف. وَقَالَت النُّحَاة: إِذا كَانَ الْمُمَيز غير مَذْكُور جَازَ فِي الْعدَد التَّذْكِير والتأنيث.(9/249)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: إِن سنة الدَّاخِل إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام أَن يبْدَأ بِالْحجرِ الْأسود فيقبله، ثمَّ الخبب، إِنَّمَا يشرع فِي طواف يعقبه سعي وَيتَصَوَّر ذَلِك فِي طواف الْقدوم والإفاضة، وَلَا يتَصَوَّر فِي طواف الْوَدَاع لِأَن شَرطه أَن يكون قد طَاف طواف الْإِفَاضَة، فعلى هَذَا القَوْل إِذا طَاف للقدوم، وَفِي نِيَّته أَن يسْعَى بعده اسْتحبَّ الرمل فِيهِ، وَإِن لم يكن هَذَا فِي نِيَّته لم يرمل فِي طواف الْإِفَاضَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وثمة قَول آخر، وَهُوَ أَنه يرمل فِي طواف الْقدوم سَوَاء أَرَادَ السَّعْي بعده أم لَا، وروى الْحَاكِم عَن عَطاء عَن أبي سعيد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرمل فِي السَّبع الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ، وَقَالَ عَطاء: لَا رمل فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: يفهم مِنْهُ أَن الرمل إِنَّمَا هُوَ فِي جَمِيع المطاف، وَمن الحَدِيث الأول حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (وليمشوا بَين الرُّكْنَيْنِ) أَنه فِي بعضه. قلت: قَالَ النَّوَوِيّ، ذَلِك مَنْسُوخ لِأَنَّهُ كَانَ فِي عمْرَة الْقَضَاء سنة سبع، قبل الْفَتْح، وَكَانَ بِالْمُسْلِمين ضعف فِي أبدانهم، وَإِنَّمَا رملوا إِظْهَارًا للقوة والاحتياج إِلَيْهِ كَانَ فِي غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، لِأَن الْمُشْركين كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحجر وَلَا يرونهم من هذَيْن الرُّكْنَيْنِ، ويرونهم فِيمَا سواهُمَا، فَلَمَّا حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع سنة عشر رمل من الْحجر إِلَى الْحجر، فَوَجَبَ الْأَمر بالمتأخر.
75 - (بابُ الرَّمَلِ فِي الحَجِّ والْعُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الرمل فِي بعض الطّواف، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه: لَيْسَ بِسنة، من شَاءَ رمل وَمن شَاءَ لم يرمل.
4061 - حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا سُرَيْحُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدثنَا فُلَيْحٌ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَعَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاَثَةَ أشْوَاطٍ ومَشَى أرْبَعَةً فِي الحَجِّ والْعُمْرَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي الْحَج وَالْعمْرَة) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، ذكر غير مَنْسُوب وَذكر فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: الأول: قَول الْحَاكِم هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي. الثَّانِي: هُوَ مُحَمَّد بن رَافع حَكَاهُ الجياني. الثَّالِث: مُحَمَّد بن سَلام حَكَاهُ أَبُو عَليّ ابْن السكن. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير حَكَاهُ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) قيل: الصَّوَاب أَنه ابْن سَلام، كَمَا نسبه أَبُو ذَر، وَحَكَاهُ ابْن السكن. لَا يُقَال إِنَّه اشْتِبَاه يقْدَح، لأَنا نقُول: إِنَّه روى عَنْهُم، فَلَا بَأْس بِهَذَا الِاشْتِبَاه فَلَا قدح. الثَّانِي: سُرَيج، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم ابْن النُّعْمَان الْجَوْهَرِي الْبَغْدَادِيّ. الثَّالِث: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَقد مر فِي أول كتاب الْعلم. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شيخ شَيْخه شَيْخه أَيْضا لِأَنَّهُ روى عَن سُرَيج أَيْضا. وَقد قيل: إِن المُرَاد من قَوْله: حَدثنِي مُحَمَّد هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، فعلى هَذَا يكون رَاوِيا عَن شَيْخه سُرَيج بن النُّعْمَان. وَفِيه: أَن فليحا اسْمه عبد الْملك وَغلب عَلَيْهِ لقبه فليح، وكنيته أَبُو يحيى وَهُوَ مدنِي.
قَوْله: (سعي) أَي: رمل فِي الطوفات الثَّلَاث الأول. قَوْله: (فِي الْحَج) أَي: فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (وَالْعمْرَة) وَهِي عمْرَة الْقَضِيَّة، لِأَن الْحُدَيْبِيَة لم يُمكن فِيهَا من الطّواف، والجعرانة لم يكن ابْن عمر مَعَه فِيهَا، وَلِهَذَا أنكرها.
تابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني كَثِيرُ بنُ فَرْقَدٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع سريجا الليثُ بن سعد، وَهَذِه الْمُتَابَعَة رَوَاهَا النَّسَائِيّ من طَرِيق شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه فَذكره، وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي ... فَذكره بِلَفْظ: أَن عبد الله بن عمر كَانَ يخب فِي طَوَافه حِين يقدم فِي حج أَو عمْرَة ثَلَاثًا وَيَمْشي أَرْبعا، قَالَ: وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك.
5061 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخبرَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أخبرَنِي زَيْدُ بنُ أسْلَم(9/250)
َ عَنْ أبيهِ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لِلرُّكْنِ أمَا وَالله إنِّي لأَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ ولاَ تَنْفَعُ وَلَوْلا أنِّي رأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ فَمَا لَنَا ولِلرَّمْلِ إنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ وقَدْ أهْلَكَهُمْ الله ثُمَّ قَالَ شَيءٌ صَنَعَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ نُحِبُّ أنْ نَتْرُكَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ وَزيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة يروي عَن أَبِيه أسلم مولى عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يكنى أَبَا خَالِد، كَانَ من سبي الْيمن، مَاتَ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة وَمِائَة سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أَحْمد بن سِنَان عَن يزِيد بن هَارُون. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن هَارُون بن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الغافقي.
قَوْله: (قَالَ للركن) أَي: للحجر الْأسود خاطبه بذلك ليسمع الْحَاضِرُونَ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: بعد استلامه. قَوْله: (مَا لنا وللرمل) ، ويروى: والرمل، بِغَيْر لَام، وَالنّصب فِيهِ على الْأَفْصَح. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق هِشَام بن سعيد عَن زيد بن أسلم: (فيمَ الرمل والكشف عَن المناكب؟) الحَدِيث. قَوْله: (إِنَّمَا كُنَّا راءينا) من المراءاة، أَي: أردنَا أَن نظهر الْقُوَّة للْمُشْرِكين بالرمل ليعلموا أَنا لَا نعجز عَن مقاومتهم، وَلَا نضعف عَن محاربتهم، وَقد أهلكهم الله تَعَالَى فَمَا لنا حَاجَة الْيَوْم إِلَى ذَلِك؟ وَقَالَ عِيَاض: راءينا، بِوَزْن: فاعلنا، من الرُّؤْيَة أَي: أريناهم بذلك أَنا أقوياء. وَقَالَ ابْن مَالك: من الرِّيَاء، أَي: أظهرنَا الْقُوَّة وَنحن ضعفاء وَلِهَذَا روى: رايينا، بياءين حملا لَهُ على الرِّيَاء. قلت: الَّذِي قَالَه ابْن مَالك هُوَ على مَنْهَج الصَّوَاب دون مَا قَالَه عِيَاض يظْهر بِالتَّأَمُّلِ. قَوْله: (وَقد أهلكهم الله) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (شي صنعه النَّبِي) ، ارْتِفَاع: شَيْء، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا شَيْء صنعه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: لَا يجوز أَن يكون: شَيْء مُبْتَدأ؟ وَقَوله: (فَلَا نخب) خَبره؟ قلت: شَرط الْمُبْتَدَأ الَّذِي يتَضَمَّن من معنى الشَّرْط أَن لَا يكون معينا نَحْو: كل رجل يأتيني فَلهُ دِرْهَم، وَهَذَا شَيْء معِين، أللهم، إلاَّ أَن يُقَال: الْمَعْنى: كل شَيْء صنعه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا صنعه لإِظْهَار الْجلد وَالْقُوَّة للْمُشْرِكين، فَلَمَّا أهلكهم الله لَا حَاجَة بِهِ، ثمَّ استدرك فَقَالَ: لما فعله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا نحب أَن نتركه اتبَاعا لَهُ. قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، طلوبا للآثار، بحوثا عَنْهَا وَعَن مَعَانِيهَا لما رأى الْحجر يسْتَلم وَلَا يعلم فِيهِ سَببا يظْهر للحس، أَو يتَبَيَّن فِي الْعقل، ترك فِيهِ الرَّأْي وَصَارَ إِلَى الِاتِّبَاع، وَلما رأى الرمل قد ارْتَفع سَببه الَّذِي كَانَ قد أحدث من أَجله فِي الزَّمَان الأول هَمَّ بِتَرْكِهِ، ثمَّ لَاذَ بِاتِّبَاع السّنة متبركا بِهِ، وَقد يحدث شَيْء من أَمر الدّين بِسَبَب من الْأَسْبَاب فيزول ذَلِك السَّبَب وَلَا يَزُول حكمه، كالعرايا والاغتسال للْجُمُعَة. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: ثَبت أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رمل فِي حجَّته وَلَا مُشْرك يَوْمئِذٍ يرَاهُ، فَعلم أَنه من مَنَاسِك الْحَج، غير أَنا لَا نرى على من ترك عَامِدًا وَلَا سَاهِيا قَضَاء وَلَا فديَة، لِأَن من تَركه فَلَيْسَ بتارك الْعَمَل، وَإِنَّمَا هُوَ تَارِك لهيئته وَصفته كالتلبية الَّتِي فِيهَا رفع الصَّوْت، فَإِن خفص صَوته بهَا كَانَ غير مضيع لَهَا وَلَا تاركها، وَإِنَّمَا ضيع صفة من صفاتها وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن أَفعَال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْوُجُوب حَتَّى يقوم دَلِيل على خِلَافه. وَفِيه: أَن فِي الشَّرْع مَا هُوَ تعبد مَحْض وَمَا هُوَ مَعْقُول الْمَعْنى. وَفِيه: دَلِيل على غَايَة اتِّبَاع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للآثار، وَفِيه: دَلِيل على أَن الرمل لَا يتْرك، وَلَكِن إِن تَركه لَا يُوجب شَيْئا. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه لَا رمل على من أحرم بِالْحَجِّ من مَكَّة من غير أَهلهَا، وَاخْتلفُوا فِي أهل مَكَّة: هَل عَلَيْهِم رمل؟ فَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لَا يرَاهُ عَلَيْهِم، وَبِه قَالَ أَحْمد واستحبه مَالك وَالشَّافِعِيّ للمكي.
6061 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عَن عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هاذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخاءٍ مُنْذُ رأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَلِمُهُمَا قُلْتُ لِنَافِعٍ أكانَ ابنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ قَالَ إنَّمَا كانَ يَمْشِي لِيَكُونَ أيْسَرَ لاِسْتِلامِهِ.
(الحَدِيث 6061 طرفه فِي: 1161) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن نَافِعًا لما سُئِلَ، أَكَانَ ابْن عمر يمشي بَين الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: (إِنَّمَا كَانَ يمشي ليَكُون إيسر(9/251)
لاستلامه) ، فَيدل على أَن الْبَاقِي من الْبَيْت كَانَ بِخِلَاف الْمَشْي وَهُوَ الرمل، فَهَذَا يرد على الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَوْله: لَيْسَ هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَبُو عُثْمَان الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي. وَقد تكَرر ذكره.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد ابْن الْمثنى وَعبيد الله بن سعيد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (هذَيْن الرُّكْنَيْنِ) أَي: اليمانيين دون غَيرهمَا، فَكَانَ يرمل فِي غَيرهمَا. قَوْله: (قلت لنافع) ، الْقَائِل هُوَ: عبيد الله الرَّاوِي. قَوْله: (أَكَانَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ يمشي) أَي: لَا يرمل. (ليَكُون أيسر) أَي: أرْفق ليقوى على الاستلام عِنْد الازدحام، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
85 - (بابُ اسْتِلاَمِ الرُّكْنِ بالمِحْجَن)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان استلام الرُّكْن أَي الْحجر الْأسود. قَوْله: (بالمحجن) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم وَفِي آخِره نون: وَهُوَ عطا فِي طرفه اعوجاج، وَهُوَ مثل الصولجان. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ الْعَصَا المعوجة، وكل مَعْطُوف معوج كَذَلِك، وَقَالَ الأصمغي: المحجن عَصَاهُ معوجة الرَّأْس. وَفِي (مجمع الغرائب) : هُوَ شبه الصولجان يجذب بِهِ الشَّيْء، وَقَالَ ابْن سَيّده: حجن الْعود يحجنه حجنا وحجنه) عطفه، والحجن والحجنة والتحجن: اعوجاج الشَّيْء.
7061 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ ويَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قالاَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخبرَني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ طافَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يسْتَلم الرُّكْن بمحجن) .
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر، توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ. الثَّالِث: عبد الله بن وهب. الرَّابِع: يُونُس بن يزِيد. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. السَّادِس: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن لَهُ شيخين أَحْمد بن صَالح مصري، وَيحيى بن سُلَيْمَان كُوفِي سكن مصر، وَكِلَاهُمَا من أَفْرَاده، وَابْن وهب مصري وَيُونُس أيلي وَابْن شهَاب وَعبيد الله مدنيان.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن صَالح، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر، وَأخرج مُسلم أَيْضا: (عَن أبي الطُّفَيْل: رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يطوف بِالْبَيْتِ ويستلم الرُّكْن بمحجن مَعَه، وَيقبل المحجن) . وروى مُسلم أَيْضا عَن جَابر: (طَاف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حجَّة الْوَدَاع على رَاحِلَته، يسْتَلم الْحجر بِمِحْجَنِهِ لِأَن يرَاهُ النَّاس، وليشرف ليسألوه) . وروى عَن عَائِشَة أَيْضا قَالَت: (طَاف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حجَّة الْوَدَاع حول الْكَعْبَة على بعيره يسْتَلم الرُّكْن كَرَاهِيَة أَن يصرف النَّاس عَنهُ) . وروى أَبُو دَاوُد عَن صَفِيَّة بنت شيبَة، قَالَت: (لما اطْمَأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَكَّة عَام الْوَدَاع، طَاف على بعيره يسْتَلم الرُّكْن بمحجن فِي يَده، قَالَت: وَأَنا أنظر إِلَيْهِ) . قلت: هَذَا يرد قَول النَّسَائِيّ وَالْبرْقَانِي أَن صَفِيَّة لَيست لَهَا صُحْبَة، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث أَيمن بن نابل عَن قدامَة بن عبد الله قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يطوف بِالْبَيْتِ يسْتَلم الْحجر بِمِحْجَنِهِ، وخرجه الْحَاكِم من حَدِيث أبي عَاصِم عَن أَيمن، قَالَ: صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ، وروى أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ من حَدِيث أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ عَن أَبِيه: (رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يطوف حول الْبَيْت، فَإِذا ازْدحم النَّاس عَلَيْهِ اسْتَلم الرُّكْن بمحجن بِيَدِهِ) .(9/252)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع على بعير) قَالَ ابْن بطال: استلامه بالمحجن رَاكِبًا يحْتَمل أَن يكون لشكوى بِهِ. قلت: روى أَبُو دَاوُد: (قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة وَهُوَ يشتكي، فَطَافَ على رَاحِلَته، فَلَمَّا أَتَى على الرُّكْن اسْتَلم بمحجن، فَلَمَّا فرغ من طَوَافه أَنَاخَ فصلى رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن أبي زِيَاد وَفِيه مقَال. قَوْله: (يسْتَلم) جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (الرُّكْن) أَي: الْحجر الْأسود، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: الْأَفْضَل أَن يطوف مَاشِيا وَلَا يركب إلاَّ لعذر مرض أَو نَحوه، أَو كَانَ مِمَّن يحْتَاج إِلَى ظُهُوره لِيَسْتَفْتِيَ ويقتدي بِهِ، فَإِن كَانَ لغير عذر جَازَ بِلَا كَرَاهَة، لكنه خلاف الأولى، وَقَالَ أَمَام الْحَرَمَيْنِ: من أَدخل الْبَهِيمَة الَّتِي لَا يُؤمن من تلويثها الْمَسْجِد بِشَيْء. فَإِن أمكن الاستيثاق فَذَاك، وإلاَّ فإدخالها الْمَسْجِد مَكْرُوه، وَجزم جمَاعَة من أَصْحَابنَا بِكَرَاهَة الطّواف رَاكِبًا من غير عذر، مِنْهُم الْمَاوَرْدِيّ والبندنيجي وَأَبُو الطّيب والعبدري، وَالْمَشْهُور الأول وَالْمَرْأَة وَالرجل فِي ذَلِك سَوَاء، والمحمول على الأكتاف كالراكب، وَبِه قَالَ أَحْمد وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر، وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: إِن طَاف رَاكِبًا لعذر أَجزَأَهُ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ لغير عذر فَعَلَيهِ دم. قَالَ أَبُو حنيفَة: وَإِن كَانَ بِمَكَّة أعَاد الطّواف، فَلَو طَاف زحفا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام فَهُوَ صَحِيح، لكنه يكره، وَقَالَ أَبُو الطّيب فِي (التعليقة) : طَوَافه زحفا كطوافه مَاشِيا منتصبا، لَا فرق بَينهمَا، وَاعْتَذَرُوا عَن ركُوب سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَن النَّاس كَثُرُوا عَلَيْهِ وغشوه بِحَيْثُ إِن الْعَوَاتِق خرجن من الْبيُوت لينظرن إِلَيْهِ، أَو لِأَنَّهُ يستفتى، أَو لِأَنَّهُ كَانَ يشكو كَمَا تقدم، وَاسْتدلَّ المالكيون بِأَن فِي الحَدِيث دلَالَة على طَهَارَة بَوْل الْبَعِير، وَذهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين إِلَى نَجَاسَته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَنه إِذا عجز عَن تَقْبِيل الْحجر استلمه بِيَدِهِ أَو بعصا، ثمَّ قبل مَا اسْتَلم بِهِ، كَمَا مر فِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي الطُّفَيْل. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَانْفَرَدَ مَالك عَن الْجُمْهُور، فَقَالَ: لَا يقبل يَده، وَإِذا عجز عَن الاستلام أَشَارَ بِيَدِهِ أَو بِمَا فِي يَده، وَلَا يُشِير إِلَى الْقبْلَة بالفم، لِأَنَّهُ لم ينْقل ويراعى ذَلِك فِي كل طوفة، فَإِن لم يفعل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قَالَ الْمُهلب: واستلامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحجن يدل على أَنه لَيْسَ بِفَرْض، وَإِنَّمَا هُوَ سنة. أَلا ترى إِلَى قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبَّلك مَا قبَّلتك.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن فِي قَوْله فِي حجَّة الْوَدَاع ردا على من كره تَسْمِيَة حجَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حجَّة الْوَدَاع وَالْمُنكر غالط. وَقَالَ الْمُهلب: وَفِيه: أَنه لَا يجب أَن يطوف أحد فِي وَقت صَلَاة الْجَمَاعَة إلاَّ من وَرَاء النَّاس، وَلَا يطوف بَين الْمُصَلِّين وَبَين الْبَيْت، فيشغل الإِمَام وَالنَّاس ويؤذيهم، وَترك أَذَى الْمُسلم أفضل من صَلَاة الْجَمَاعَة، كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أكل من هَذِه الشَّجَرَة فَلَا يقربن مَسْجِدنَا) .
تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَن ابْن أخِي الزُّهْرِيِّ عنْ عَمِّهِ
أَي: تَابع يُونُس عَن ابْن شهَاب عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَالرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَكسر الدَّال، وَقد تقدم فِي: بَاب الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة، وَهُوَ يرْوى عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن أخي مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَتقدم هُوَ فِي: بَاب إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة، وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْحسن: حَدثنَا مُحَمَّد بن عباد الْمَكِّيّ، حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن ابْن أخي الزُّهْرِيّ عَن عَمه عَن عبيد الله (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف بِالْبَيْتِ يسْتَلم الرُّكْن بالمحجن) .
95 - (بابُ مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إلاَّ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من لم يسْتَلم إلاَّ الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، أَي: دون الرُّكْنَيْنِ الشاميين، وَالْيَاء فِي اليمانيين مُخَفّفَة على الْمَشْهُور، لِأَن الْألف فِيهِ عوض عَن يَاء النِّسْبَة، فَلَو شددت يلْزم الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض، وَجوز سِيبَوَيْهٍ التَّشْدِيد، وَقَالَ: إِن الْألف زَائِدَة كَمَا زيدت النُّون فِي صنعاني، وهما: الرُّكْن الْأسود والركن الْيَمَانِيّ الَّذِي يَلِيهِ، فَقيل لَهما: اليمانيان، تَغْلِيبًا، كَمَا يُقَال: الأبوان.(9/253)
8061 - وقالَ محَمَّدُ بنُ بَكْرٍ أخبرَنا ابنُ جُرَيْجٍ أخبرَني عَمْرُو بنُ دِينارٍ عَن أبي الشَّعْثَاءِ أنَّهُ قالَ ومَنْ يَتَّقِي شَيْئا مِنَ البَيْتِ وكانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأرْكَانَ فَقَالَ لَهُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما إنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هاذَانِ الرُّكْنَانِ فَقَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورا وكانَ ابنُ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَسْتَلمُهُنَّ كُلّهُنَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يسْتَلم هَذَانِ الركنان) أَي: الركنان الشاميان، فَإِذا لم يستلما ينْحَصر الاستلام على الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، وَهَذَا الحَدِيث مُعَلّق، علقه عَن مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة وبالنون: نِسْبَة إِلَى برسان، حَيّ من الأزد، وَقد تقدم فِي: بَاب تَضْييع الصَّلَاة، وَهُوَ يرْوى عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن زيد أبي الشعْثَاء، مؤنث الْأَشْعَث، وَقد تقدم فِي: بَاب الْغسْل بالصاع، وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق الإِمَام أَحْمد فِي (مُسْنده) فَقَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق حَدثنَا معمر وَالثَّوْري (و) حَدثنَا روح حَدثنَا الثَّوْريّ عَن ابْن خَيْثَم (عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: كنت مَعَ ابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، فَكَانَ مُعَاوِيَة لَا يمر بِرُكْن إلاَّ استلمه، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن عَبَّاس: لَا يسْتَلم هَذَا الركنان) (ح) قَالَ: وَحدثنَا روح، حَدثنَا سعيد وَعبد الْوَهَّاب عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أبي الطُّفَيْل (و) حَدثنَا مَرْوَان بن شُجَاع حَدثنِي خصيف عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، فَذكره.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث عَن قَتَادَة دون قصَّة مُعَاوِيَة بِلَفْظ: (لم أرَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين) ، وَوَصله التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: كنت مَعَ ابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، فَكَانَ مُعَاوِيَة لَا يمر بِرُكْن إلاَّ استلمه، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَلم إلاَّ الْحجر واليماني، فَقَالَ مُعَاوِيَة: لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت مهجور، أَو روى أَحْمد أَيْضا من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة (عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: حج مُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس، فَجعل ابْن عَبَّاس يسْتَلم الْأَركان كلهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَة إِنَّمَا اسْتَلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هذَيْن الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ من أَرْكَانه شَيْء مهجور) ، قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي (الْعِلَل) : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: قلبه شُعْبَة، يَقُول: النَّاس يخالفونني فِي هَذَا، وَلكنه سمعته من قَتَادَة هَكَذَا. انْتهى. وَقد رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة على الصَّوَاب أخرجه أَحْمد أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَمن يَتَّقِي شَيْئا؟) كلمة: من، استفهامية على سَبِيل الْإِنْكَار، فَلذَلِك لم يحذف الْيَاء من: يَتَّقِي، وَيجوز أَن تكون شَرْطِيَّة على رِوَايَة من يروي: فَكَانَ مُعَاوِيَة، بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ على لُغَة من لَا يُوجب الْجَزْم فِيهِ. قَوْله: (وَكَانَ مُعَاوِيَة يسْتَلم الْأَركان) أَي: الْأَركان الْأَرْبَعَة، أَي: اليمانيان والشاميان، والركن الْأسود فِيهِ فضيلتان: كَون الْحجر الْأسود فِيهِ وَكَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، واليماني فِيهِ الْفَضِيلَة الثَّانِيَة فَقَط. وَأما الشاميان فَلَيْسَ شَيْء من الفضيلتين، فَلِذَا اخْتصَّ الْأسود بشيئين: الاستلام والقبلة، وَأما الْيَمَانِيّ فيستلم وَلَا يقبل، لِأَن فِيهِ فَضِيلَة وَاحِدَة. وَأما الْآخرَانِ فَلَا يستلمان وَلَا يقبلان، وَقَالَ التَّيْمِيّ: الركنان اللَّذَان يليان الْحجر ليسَا بركنين أصليين، لِأَن وَرَاء ذَلِك الْحجر، وَهُوَ من الْبَيْت فَلَو رفع جِدَار الْحجر وَضم إِلَى الْكَعْبَة فِي الْبناء كَمَا كَانَ على بِنَاء إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَكَانَ يستلمان. وَالله أعلم. قَوْله: (إِنَّه) ، أَي: إِن الشان. قَوْله: (لَا يسْتَلم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول الْغَائِب، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (لَا نستلم هذَيْن الرُّكْنَيْنِ) ، بالنُّون فِي أَوله على صِيغَة الْمُتَكَلّم. وَقَوله: (هذَيْن الرُّكْنَيْنِ) بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (مَهْجُورًا) ، بِالنّصب وَيجوز رَفعه على أَن يكون صفة لقَوْله: شَيْء. قَوْله: (وَكَانَ ابْن الزبير يستلمهن كُلهنَّ) أَي: وَكَانَ عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يسْتَلم الْأَركان كلهَا، وَهَذَا وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عباد بن عبد الله بن الزبير: أَنه رأى أَبَاهُ عبد الله بن الزبير يسْتَلم الْأَركان كلهَا، وَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ شَيْء مِنْهُ مَهْجُورًا وَفِي مُسْند الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنبأَنَا مُوسَى الربذي عَن مُحَمَّد بن كَعْب أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يمسح على الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَالْحجر، وَكَانَ ابْن الزبير يمسح الْأَركان كلهَا، وَيَقُول: لَا يَنْبَغِي لبيت الله أَن يكون شَيْء مِنْهُ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث ابْن أبي ليلى، عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة، وَرَآهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يسْتَلم الْأَركان كلهَا: يَا يعلى مَا نَفْعل؟(9/254)
قَالَ استلمها كلهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت يهجر، فَقَالَ عمر: أما رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم مِنْهَا إِلَّا الْحجر؟ قَالَ يعلى: بلَى، قَالَ: فَمَا لَك أُسْوَة؟ قَالَ: بلَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث مذهبان: الأول: من يسْتَلم الْأَركان كلهَا، وَهُوَ مَذْهَب مُعَاوِيَة وَعبد الله ابْن الزبير وَجَابِر بن زيد وَعُرْوَة بن الزبير وسُويد بن غَفلَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ مَذْهَب جَابر بن عبد الله وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَأنس بن مَالك. الثَّانِي: مَذْهَب ابْن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ومذهبهما أَنه: لَا يسْتَلم إلاَّ الرُّكْن الْأسود والركن الْيَمَانِيّ، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة أَيْضا لِأَنَّهُمَا على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم: لَا يسن استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين. وروى ابْن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا ابْن نمير عَن حجاج عَن عَطاء قَالَ: أدْركْت شَيخنَا ابْن عَبَّاس وجابرا وَأَبا هُرَيْرَة وَعبيد بن عُمَيْر لَا يستلمون غَيرهمَا من الْأَركان، يَعْنِي: الْأسود واليماني. قَالَ: وَحدثنَا عبيد الله عَن عُثْمَان بن أبي الْأسود عَن مُجَاهِد، قَالَ: الركنان اللَّذَان يليان الْحجر لَا يستلمان. وَفِي كتاب الْحميدِي، من حَدِيث النَّخعِيّ عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: (مَا مَرَرْت بالركن الْيَمَانِيّ قطّ إلاَّ وجدت جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، قَائِما عِنْده) . وَمن حَدِيث الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مثله، بِزِيَادَة قَوْله: (يَا مُحَمَّد أدن فاستلم) . وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة (وكَلَ الله بِهِ سبعين ألف ملك) . وَفِي حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: (مسحهما كَفَّارَة للخطايا) ، رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَالله أعلم.
06 - (بابُ تَقْبِيلِ الحَجَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة تَقْبِيل الْحجر وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم وَهُوَ الْحجر الْأسود.
0161 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا يَزيدُ بنُ هَارُونَ قَالَ أخبرَنا ورْقَاءُ قَالَ أخبرنَا زَيْدُ بنُ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ قالَ رَأيْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَبَّلَ الحَجَرَ وَقَالَ لَوْلا أنِّي رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ.
(انْظُر الحَدِيث 7951 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر هَذَا الحَدِيث بأتم مِنْهُ فِي: بَاب الرمل فِي الْحَج وَالْعمْرَة. أخرجه عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه إِلَى آخِره، وَمر أَيْضا فِي: بَاب مَا ذكر فِي الْحجر الْأسود، أخرجه عَن مُحَمَّد ابْن كثير عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَابس بن ربيعَة عَن عمر إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن أَحْمد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى: أَبُو جَعْفَر الْقطَّان الوَاسِطِيّ صَاحب الْمسند إِمَام زَمَانه، مَاتَ بعد البُخَارِيّ سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، عَن يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ، وَقد مر فِي: بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء، عَن زيد بن أسلم، بِلَفْظ الْمَاضِي، الحبشي البجاوي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم: مولى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ زمن عبد الْملك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
1161 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عَنِ الزّبَيْرِ بنِ عَرَبِيٍّ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ اسْتِلامِ الْحَجَرِ فَقَالَ رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَلِمُهُ ويُقَبِّلُهُ قَالَ قُلْتُ أرَأيْتَ إنْ زُحِمْتُ أرَأيْتَ إنْ غُلِبْتُ قَالَ اجْعَلْ أرَأيْتَ بالْيَمَنِ رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَلِمُهُ ويُقَبِّلُهُ.
(انْظُر الحَدِيث 6061) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُسَدّد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: زبير بن عَرَبِيّ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالراء وبالباء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة ثمَّ يَاء النِّسْبَة، وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ عَن أبي أَحْمد الْجِرْجَانِيّ الزبير بن عدي، بدال مُهْملَة مَكْسُورَة بعْدهَا يَاء مُشَدّدَة. وَقَالَ الغساني هُوَ وهم. الرَّابِع: الرجل الْمَجْهُول ظَاهرا وَلَكِن هُوَ الزبير بن عَرَبِيّ الرَّاوِي، كَذَلِك وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن حَمَّاد حَدثنَا الزبير سَأَلت ابْن عمر.(9/255)
الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: أَن شَيْخه وَمن بعدهمَا بصريون. وَفِيه: أَن حمادا ذكر مُجَردا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت ذكر باسم أَبِيه حَمَّاد بن زيد.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يستلمه) أَي: يمسحه بِالْيَدِ. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (إِن زحمت) ، بِضَم الزَّاي على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى: (إِن زوحمت) ، بِزِيَادَة الْوَاو من الْمُزَاحمَة. قَوْله: (إِن غلبت) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة على صِيغَة الْمَجْهُول للمتكلم، أَي: أَخْبرنِي عَن حكمه عِنْد الإزدحام وَالْغَلَبَة. قَوْله: (قَالَ) الْقَائِل هُوَ عبد الله بن عمر. قَوْله: (أَرَأَيْت بِالْيمن؟) أَي: إجعل لفظ أَرَأَيْت بِالْيمن، وَكَانَ السَّائِل يمنينا. وَقَوله: أَرَأَيْت فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول: إجعل، بالتأويل الْمَذْكُور. وَقَوله: (بِالْيمن) فِي مَحل النصب على الْحَال. حَاصِل هَذَا الْكَلَام: إِذا كنت طَالب السّنة فاترك الرَّأْي. وقولك: أَرَأَيْت وَنَحْوه بِالْيمن، وَاتبع السّنة وَلَا تتعرض لغير ذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ فهم مِنْهُ مُعَارضَة الحَدِيث بِالرَّأْيِ. قَوْله: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من كَلَام ابْن عمر، أَعَادَهُ للتَّأْكِيد وَفهم مِنْهُ أَنه لَا يرى الزحام عذرا فِي ترك الاستلام، وَقد روى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يزاحم على الرُّكْن حَتَّى يدمي، وروى الفاكهي من طرق عَن ابْن عَبَّاس كَرَاهَة الْمُزَاحمَة، وَقَالَهُ: لَا تؤذي وَلَا تؤذى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيُّ وَجدْتُ فِي كِتابِ أبي جَعْفَرَ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله الزُّبَيْرُ بنُ عَدِيٍّ كُوفِيٌّ والزُّبَيْرُ بنُ عَرَبيٍّ بَصَرِيٌّ
لما وقف البُخَارِيّ على التَّصْحِيف فِي الزبير بن عَرَبِيّ، بالراء، حَيْثُ رُوِيَ بِالدَّال، نبه عَلَيْهِ بقوله الزبير بن عَرَبِيّ بالراء، بَصرِي، وَالزُّبَيْر بن عدي بِالدَّال كُوفِي، وهما راويان تابعيان، وَنقل ذَلِك الْفربرِي. وَقَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف الْفربرِي، وَهُوَ أحد الروَاة الْمَشْهُورين عَن البُخَارِيّ. قَوْله: (وجدت فِي كتاب أبي جَعْفَر) وَهُوَ مُحَمَّد بن أبي حَاتِم ورَّاق البُخَارِيّ. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، مقول قَول الْفربرِي، وَالْمرَاد مِنْهُ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه فرق بَين الزبير لِأَن الزبير بن عَرَبِيّ بالراء بَصرِي وَالزُّبَيْر بن عدي بِالدَّال كُوفِي، وَأَرَادَ بِهِ أَن الرَّاوِي هُنَا السَّائِل عَن عبد الله بن عمر هُوَ الزبير بن عَرَبِيّ بالراء، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا: الزبير، هَذَا يَعْنِي الَّذِي يروي عَنهُ حَمَّاد هُوَ ابْن عَرَبِيّ، يَعْنِي بالراء، وَالزُّبَيْر بن عدي بِالدَّال كُوفِي يكنى أَبَا سَلمَة، وَذكر البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم وَغَيرهمَا أَن أَبَا سَلمَة كنية الزبير بن عَرَبِيّ، وَالزُّبَيْر بن عدي كنيته أَبُو عدي، وَلما ذكر أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة حَمَّاد حَدثنَا الزبير بن الْعَرَبِيّ قَالَ: سَأَلت ابْن عمر، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ بِالْألف واللاَّم، وَهَذَا أَيْضا مِمَّا يزِيل الْإِشْكَال، وَيُؤَيِّدهُ أَن الرَّاوِي هُنَا هُوَ ابْن عَرَبِيّ، بالراء لَا بِالدَّال.
16 - (بابُ مَنْ أشارَ إِلَى الرُّكْنِ إذَا أتَى إلَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من أَشَارَ إِلَى الرُّكْن أَي: الْحجر الْأسود إِذا أَتَى إِلَيْهِ من الطّواف.
2161 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ طَافَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أتَى عَلى الرُّكْنِ أشارَ إلَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب استلام الرُّكْن بمحجن، وَفِيه: يسْتَلم الرُّكْن بمحجن، وَلَيْسَ فِيهِ: كلما أَتَى على الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: تقدم أَنه كَانَ يستلمه بمحجن، فَدلَّ على قربه من الْبَيْت، لَكِن من طَاف رَاكِبًا، يسْتَحبّ لَهُ أَن يبعد إِن خَافَ أَن يُؤْذِي أحدا فَيحمل فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْأَمْن من ذَلِك، وَأَن يكون فِي حَال إِشَارَته بَعيدا حَيْثُ خَافَ ذَلِك.
وَرِجَال الحَدِيث الْمَذْكُور: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد أَبُو مُوسَى، يعرف بالزمن الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الْبَصْرِيّ، وخَالِد بن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَوَقع خَالِد هُنَا مُجَردا، وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَة: خَالِد الْحذاء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن إِسْحَاق الوَاسِطِيّ ومسدد وَفِي(9/256)
الطَّلَاق أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْحَج، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا كِلَاهُمَا عَن بشر بن هِلَال. قَوْله: (أَشَارَ إِلَيْهِ) أَي: بالمحجن الَّذِي فِي يَده، وَإِن لم يكن فِي يَده شَيْء يُشِير إِلَيْهِ بِيَدِهِ. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث صَرِيح بِجَوَاز الطّواف على الْبَعِير، وَهل يجوز على الْخَيل فيقاس على الْبَعِير أم لَا. قلت: قد ورد عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، منع الطّواف على الْخَيل فِيمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: طَاف رجل على فرس فمنعوه، وَقَالَ: أتمنعوني أَن أَطُوف على كَوْكَب؟ قَالَ: فَكتب بذلك إِلَى عمر، فَكتب عمر: أَن امنعوه، وَهَذَا مُنْقَطع. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَلَعَلَّ الْمَنْع فِي الْخَيل من الْخُيَلَاء والتعاظم. قلت: فعلى هَذَا لَا يمْنَع من الطّواف على الْحمار، أللهم إلاَّ إِذا كَانَ الْمَنْع من جِهَة الْخَوْف من تلويثه بِمَا يخرج مِنْهُ.
26 - (بابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب التَّكْبِير عِنْد الرُّكْن أَي: الْحجر الْأسود.
3161 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا خالِدٌ الحَذَّاءُ عنُ عِكْرِمَةَ عَنُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ طَافَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أتَى الرُّكْنَ أشَارَ إلَيْهِ بِشَيءٍ كانَ عِنْدَهُ وكَبَّرَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس، أخرجه عَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان عَن خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، وَفِيه زِيَادَة على حَدِيثه الْمَاضِي فِي الْبَاب السَّابِق، وَهِي قَوْله: (بِشَيْء كَانَ عِنْد فَكبر) فَدلَّ هَذَا على اسْتِحْبَاب التَّكْبِير عِنْد الرُّكْن الْأسود فِي كل طوفة.
تابَعَهُ إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ
أَي: تَابع خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان إِبْرَاهِيم بن طهْمَان الْهَرَوِيّ أَبُو سعيد عَن خَالِد الْحذاء فِي التَّكْبِير، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الطَّلَاق.
36 - (بابُ مَنْ طافَ بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلَى بَيْتِهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ بَيَان من طَاف بِالْبَيْتِ ... إِلَى آخِره، وَكلمَة: من، مَوْصُولَة، وَمرَاده بِهَذِهِ التَّرْجَمَة بَيَان أَن: من قدم مَكَّة حَاجا أَو مُعْتَمِرًا أَن يطوف بِالْبَيْتِ ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يخرج إِلَى الصَّفَا وَيسْعَى بَينه وَبَين الْمَرْوَة، فَإِن كَانَ مُعْتَمِرًا حل وَحلق، وَإِن كَانَ حَاجا ثَبت على إِحْرَامه حَتَّى يخرج إِلَى منى يَوْم التَّرويَة لعمل الْحَج، وَقَالَ ابْن بطال: غَرَضه بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على من زعم أَن الْمُعْتَمِر إِذا طَاف حل قبل أَن يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة. قلت: مَذْهَب ابْن عَبَّاس: أَن الْمُعْتَمِر يحل من عمرته بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ، وَلَا يحْتَاج إِلَى السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: الْعمرَة الطّواف، وَبِه قَالَ ابْن رَاهَوَيْه، فَأَرَادَ البُخَارِيّ رد هَذَا القَوْل، وَبَين أَن الْعمرَة هِيَ الطّواف بِالْبَيْتِ وَصَلَاة رَكْعَتَيْنِ بعده، ثمَّ الْخُرُوج إِلَى الصَّفَا للسعي بَينه وَبَين الْمَرْوَة، وَأَشَارَ بقوله: (من طَاف بِالْبَيْتِ) إِلَى آخِره أَن صُورَة الْعمرَة هِيَ هَذَا، وَبَينهَا بِثَلَاثَة أَشْيَاء: أَولهَا: هُوَ قَوْله: (من طَاف بِالْبَيْتِ إِذا قدم مَكَّة) ، فَعلم من هَذَا أَن من قدم مَكَّة وَدخل الْمَسْجِد لَا يشْتَغل بِشَيْء، بل يبْدَأ بِالطّوافِ ويقصد الْحجر الْأسود، وَهُوَ تَحِيَّة الْمَسْجِد الْحَرَام، ثمَّ الِابْتِدَاء بِالطّوافِ مُسْتَحبّ لكل أحد سَوَاء كَانَ محرما أَو غَيره، إلاَّ إِذا خَافَ فَوت الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة عَن وَقتهَا، أَو فَوتهَا مَعَ الْجَمَاعَة، وَإِن كَانَ الْوَقْت وَاسِعًا أَو كَانَ عَلَيْهِ مَكْتُوبَة فَائِتَة، فَإِنَّهُ يقدم هَذَا كُله على الطّواف، ثمَّ هَذَا الطّواف يُسمى طواف الْقدوم، وَهُوَ سنة، فَلَو تَركه صَحَّ حجه وَلَا شَيْء عَلَيْهِ إلاَّ فَوت الْفَضِيلَة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : هَذَا هُوَ الْمَذْهَب، وَذكر جمَاعَة من الخراسانيين وَغَيرهم وُجُوبه فِي وَجه ضَعِيف شَاذ، وَيلْزم بِتَرْكِهِ دم. الثَّانِي: هُوَ قَوْله: (ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) ، لما فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل: (لما فرغ من رَكْعَتي الطّواف رَجَعَ إِلَى الرُّكْن فاستلمه، ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا وَالسَّعْي بَينهمَا) . الثَّالِث: هُوَ قَوْله: (ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا) يَعْنِي للسعي بَينه وَبَين الْمَرْوَة.(9/257)
4161 - حدَّثنا أصْبَغُ عنِ ابنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرٌ وعنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ. قَالَ فأخْبَرَتْنِي عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن أوَّلَ شَيءٍ بَدَأ بِهِ حِينَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ تَوَضَّ ثُمَّ طافَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أبُو بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا مِثْلَهُ ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أبِي الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فأوَّلُ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافُ ثُمَّ رَأيْتُ المُهاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ وقَدْ أخْبَرَتْنِي أُمِّي أنَّها أهَلَّتْ هيَ وأُخْتُهَا والزُّبَيْرُ وفُلانٌ وفُلانٌ بِعُمْرَةٍ فلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تَوَضَّأ ثمَّ طَاف) .
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: أصبغ ابْن الْفرج، وَقد مر عَن قريب، الثَّانِي: عبد الله بن وهب، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن الْحَارِث. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْأسود النَّوْفَلِي الْمَعْرُوف بيتيم عُرْوَة. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار بِصِيغَة الْإِخْبَار فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: الذّكر. وَفِيه: أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مصريون والإثنان الْآخرَانِ مدنيان.
أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي على مَا نذكرهُ الْآن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ذكرت لعروة) أَي: ذكرت لعروة مَا قيل فِي حكم القادم إِلَى مَكَّة، وَحذف البُخَارِيّ صُورَة السُّؤَال وَجَوَابه، وَاقْتصر على الْمَرْفُوع مِنْهُ، وَقد ذكره مُسلم مكملاً فَقَالَ: حَدثنِي هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو، وَهُوَ ابْن الْحَارِث، (عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن: أَن رجلا من أهل الْعرَاق قَالَ لَهُ: سل لي عُرْوَة بن الزبير عَن رجل يهل بِالْحَجِّ، فَإِذا طَاف بِالْبَيْتِ أيحلّ أَو لَا؟ فَإِن قَالَ لَك: لَا يحل، فَقل لَهُ: إِن رجلا يَقُول فِي ذَلِك فَسَأَلته فَقَالَ: لَا يحل من أهلَّ بِالْحَجِّ إلاَّ بِالْحَجِّ. قلت: فَإِن رجلا كَانَ يَقُول ذَلِك، قَالَ: بئس مَا قَالَ، فتصداني الرجل فَسَأَلَنِي، فَحَدَّثته، فَقَالَ: قل لَهُ فَإِن رجلا كَانَ يخبر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد فعل ذَلِك، وَمَا شَأْن أَسمَاء وَالزُّبَيْر فعلا ذَلِك؟ قَالَ: فَجِئْته فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَمَا باله لَا يأتيني نَفسه يسألني؟ أَظُنهُ عراقيا؟ قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَإِنَّهُ قد كذب، قد حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرتني عَائِشَة أَن أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَنه تَوَضَّأ ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ، ثمَّ حج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ أول شَيْء بَدَأَ بِهِ الطّواف بِالْبَيْتِ، ثمَّ لم يكن غَيره، ثمَّ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مثل ذَلِك، ثمَّ حج عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فرأيته أول شَيْء بَدَأَ بِهِ الطّواف بِالْبَيْتِ، ثمَّ لم يكن غَيره، ثمَّ مُعَاوِيَة وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ حججْت مَعَ أبي الزبير بن الْعَوام، فَكَانَ أول شَيْء بَدَأَ بِهِ الطّواف بِالْبَيْتِ، ثمَّ لم يكن غَيره، ثمَّ رَأَيْت الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار يَفْعَلُونَ ذَلِك، ثمَّ لم يكن غَيره، ثمَّ آخر من رَأَيْت فعل ذَلِك ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ثمّ لم ينقضها بِعُمْرَة، وَهَذَا ابْن عمر عِنْدهم، أَفلا يسألونه؟ وَلَا أحد مِمَّن مضى كَانُوا يبدأون بِشَيْء حِين يضعون أَقْدَامهم أول من الطّواف بِالْبَيْتِ، ثمَّ لَا يحلونَ، وَقد رَأَيْت أُمِّي وخالتي حِين تقدمان لَا تبتدآن بِشَيْء أول من الْبَيْت تطوفان بِهِ، ثمَّ لَا تحلان، وَقد أَخْبَرتنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقبلت هِيَ وَأُخْتهَا وَالزُّبَيْر وَفُلَان وَفُلَان بِعُمْرَة قطّ، فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن حلوا، وَقد كذب فِيمَا ذكر من ذَلِك) . وَإِنَّمَا سقت هَذَا بِتَمَامِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لحَدِيث البُخَارِيّ، ونشرح حَدِيث مُسلم ليظْهر لَك المُرَاد من حَدِيث البُخَارِيّ الَّذِي اقْتصر مِنْهُ على الْمَرْفُوع.
قَوْله: (إِن رجلا) ، مُبْهَم لم يدر. قَوْله: (أَيحلُّ؟) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فتصداني) ، أَي: تعرض لي، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النّسخ بالنُّون، وَالْأَشْهر فِي اللُّغَة: تصدى لي، بِاللَّامِ. قَوْله: (ثمَّ لم يكن غَيره هَكَذَا) ، هُوَ فِي جَمِيع النّسخ بالغين الْمُعْجَمَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ عِيَاض: هُوَ تَصْحِيف، وَصَوَابه، ثمَّ لم تكن عمْرَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وبالميم، وَكَانَ السَّائِل لعروة إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة على مَذْهَب من يرى، وَاحْتج بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم بذلك فِي حجَّة الْوَدَاع، فَأعلمهُ عُرْوَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يفعل ذَلِك بِنَفسِهِ وَلَا من جَاءَ بعده، وَقَالَ النَّوَوِيّ:(9/258)
لَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، بل هُوَ صَحِيح فِي الرِّوَايَة صَحِيح الْمَعْنى لِأَن قَوْله: (غَيره) ، يتَنَاوَل الْعمرَة وَغَيرهَا وَيكون تَقْدِير الْكَلَام: ثمَّ حج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَانَ أول شَيْء بَدَأَ بِهِ الطّواف بِالْبَيْتِ، ثمَّ لم يكن غَيره أَي: غير الْحَج، وَلم يفسخه إِلَى غَيره لَا عمْرَة وَلَا قرَان. قَوْله: (ثمَّ حججْت مَعَ أبي الزبير بن الْعَوام) ، أَي: مَعَ وَالِدي، وَهُوَ الزبير. وَقَوله: (الزبير) بدل من أبي، قَالَه النَّوَوِيّ، وَالْأَظْهَر أَنه عطف بَيَان. قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن) أَي: الْحجر الْأسود (حلوا) أَي: صَارُوا حَلَالا. قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بالماسحين من سوى عَائِشَة، وإلاَّ فعائشة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لم تمسح الرُّكْن قبل الْوُقُوف بِعَرَفَات فِي حجَّة الْوَدَاع، بل كَانَت قارنة، ومنعها الْحيض من الطّواف قبل يَوْم النَّحْر.
ثمَّ جِئْنَا إِلَى شرح حَدِيث البُخَارِيّ. فَقَوله: (بَدَأَ) وَقَوله: (قدم) تنَازعا فِي الْعَمَل. قَوْله: (ثمَّ لم تكن عمْرَة) ، قَالَ عِيَاض: كَانَ السَّائِل لعروة إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة على مَذْهَب من رأى ذَلِك، فَأعلمهُ عُرْوَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يفعل ذَلِك بِنَفسِهِ، وَلَا من جَاءَ بعده، وَفِي إِعْرَاب: عمْرَة، وَجْهَان: الرّفْع على أَن: كَانَ، تَامَّة وَيكون مَعْنَاهُ: ثمَّ لم تحصل عمْرَة، وَالنّصب على أَن: كَانَ، نَاقِصَة وَيكون مَعْنَاهُ: ثمَّ لم تكن تِلْكَ الفعلة عمْرَة، وَقد ذكرنَا أَنه وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: غَيره، بدل: عمْرَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ آنِفا. قَوْله: (مثله) أَي: مثل حج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثمَّ حججْت مَعَ أبي الزبير) أَي: حجَّة مصاحبة مَعَ أبي، أَي: مَعَ وَالِدي وَهُوَ الزبير بن الْعَوام. وَقَوله: (الزبير) ، بدل من أبي أَو عطف بَيَان، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم، وَقد ذَكرنَاهَا آنِفا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (ثمَّ حججْت مَعَ ابْن الزبير) يَعْنِي: أَخَاهُ عبد الله بن الزبير، قَالَ عِيَاض: وَهُوَ تَصْحِيف، وَجه ذَلِك أَنه وَقع فِي طَرِيق آخر فِي الحَدِيث على مَا يَأْتِي: مَعَ أبي الزبير بن الْعَوام، وَفِيه بعد ذكر أبي بكر وَعمر ذكر عُثْمَان ثمَّ مُعَاوِيَة وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: ثمَّ حججْت مَعَ أبي الزبير، فَذكره، وَقد عرف أَن قتل الزبير كَانَ قبل موت مُعَاوِيَة وَابْن عمر، وَكَانَ قتل الزبير ابْن الْعَوام يَوْم الْجمل فِي جمادي الأولى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، وقبره بوادي السبَاع نَاحيَة الْبَصْرَة، وَكَانَ موت مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فِي رَجَب سنة تسع وَخمسين، وَمَوْت عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَ سنة ثَلَاث وَسبعين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سنة أَربع وَسبعين، وَكَانَت وفاتخ بِمَكَّة المشرفة. قَوْله: (وأخبرتني أُمِّي) ، وَهِي: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، وَأُخْتهَا عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَإِن قلت: لم تطف عَائِشَة فِي تِلْكَ الْحجَّة لأجل حَيْضهَا، فَمَا وَجه ذكرهَا هُنَا؟ قلت: يحمل على أَنه أَرَادَ حجَّة أُخْرَى غير حجَّة الْوَدَاع، وَقد حجت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا. قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن) ، أَي: الْحجر الْأسود، ومسحه يكون فِي أول الطّواف، وَلَكِن لَا يحصل التَّحَلُّل بِمُجَرَّد الْمسْح فِي أول الطّواف، فَلَا بُد من التَّقْدِير، وَتَقْدِيره: فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن وَأَتمُّوا طوافهم وسعيهم وحلقوا حلوا، وحذفت هَذِه المقدرات للْعلم بهَا لظهورها، وَقد أَجمعُوا على أَنه لَا يتَحَلَّل قبل تَمام الطّواف.
تمّ مَذْهَب الْجُمْهُور أَنه لَا بُد أَيْضا من السَّعْي بعده ثمَّ الْحلق أَو التَّقْصِير، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل، إِذْ مسح الرُّكْن كِنَايَة عَن الطّواف، سِيمَا وَالْمسح يكون أَيْضا فِي الأطواف السَّبْعَة، فَالْمُرَاد: لما فرغوا من الطّواف حلوا، وَأما السَّعْي وَالْحلق فهما عِنْد بعض الْعلمَاء ليسَا بركنين. انْتهى. قلت: لَا بُد من التَّأْوِيل لِأَن الْكَلَام على مَذْهَب الْجُمْهُور، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَأَرَادَ بقوله: عِنْد بعض الْعلمَاء مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس وَابْن رَاهَوَيْه من أَن الْمُعْتَمِر يتَحَلَّل بعد الطّواف، فَلَا حَاجَة إِلَى السَّعْي، وَقد ردوا عَلَيْهِمَا ذَلِك، وَقَالَ ابْن التِّين قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا حلوا) يُرِيد ركن الْمَرْوَة، وَأما ركن الْبَيْت فَلَا يحل بمسحه حَتَّى يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة، وَقَالَ بَعضهم، وَهُوَ متعقب بِرِوَايَة أبي الْأسود عَن عبد الله مولى أَسمَاء: (عَن أَسمَاء قَالَت: اعْتَمَرت أَنا وَعَائِشَة وَالزُّبَيْر، وَفُلَان وَفُلَان، فَلَمَّا مسحنا الْبَيْت أَحللنَا) وَسَيَأْتِي هَذَا فِي أَبْوَاب الْعمرَة. انْتهى. قلت: يقدر هُنَا أَيْضا مَا قدر فِي قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن حلوا) فَلَا اعْتِرَاض حِينَئِذٍ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مطلوبية الْوضُوء للطَّواف، وَاخْتلفُوا هَل هُوَ وَاجِب أَو شَرط؟ فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ بِشَرْط، فَلَو طَاف على غير وضوء صَحَّ طَوَافه، فَإِن كَانَ ذَلِك للقدوم فَعَلَيهِ صَدَقَة، وَأَن كَانَ طواف الزِّيَارَة فَعَلَيهِ شَاة، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: هُوَ شَرط. وَفِيه: أَن أول شَيْء يَفْعَله دَاخل الْحرم الِابْتِدَاء بِالطّوافِ للقدوم، وَاسْتثنى الشَّافِعِي من هَذَا الْمَرْأَة الجميلة والشريفة الَّتِي لَا تبرز للرِّجَال، فَيُسْتَحَب لَهَا تَأْخِير الطّواف وَدخُول الْمَسْجِد إِلَى اللَّيْل، لِأَنَّهُ أستر لَهَا وَأسلم من الْفِتْنَة. وَقَالَ(9/259)
ابْن الْمُنْذر: سنّ الشَّارِع للقادمين المحرمين بِالْحَجِّ تَعْجِيل الطّواف وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة عِنْد دُخُولهمْ، وَفعل هُوَ ذَلِك على مَا روته عَائِشَة، وَأمر من حل من أَصْحَابه أَن يحرموا إِذا انْطَلقُوا إِلَى منى، وَأما من أحرم من مَكَّة من أَهلهَا أَو غَيرهم فهم يؤخرون طوافهم وسعيهم إِلَى يَوْم النَّحْر، بِخِلَاف القادمين التَّفْرِيق السّنة بَين الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: يَا أهل مَكَّة إِنَّمَا طوافكم بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة يَوْم النَّحْر.
حَدثنَا ابراهيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنَا أَبُو ضَمرَة أنس قَالَ حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا طَاف فِي الْحَج أَو الْعمرَة أول مَا يقدم يسْعَى ثَلَاثَة أطواف وَمَشى أَرْبَعَة ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ ثمَّ يطوف بَين الصَّفَا والمروة
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أول مَا يقدم يسْعَى. .) إِلَى آخِره، وَأَبُو ضَمرَة بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم هُوَ أنس بن عِيَاض. .
قَوْله: (أول) ، نصب على أَنه ظرف، وَالْعَامِل فِيهِ: يسْعَى. قَوْله: (أَرْبَعَة) أَي: أَرْبَعَة أطواف. قَوْله: (سَجْدَتَيْنِ) أَي: رَكْعَتَيْنِ للطَّواف، وَهُوَ من إِطْلَاق الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل.
7161 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِيَاضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا طافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الأول يَخُبُّ ثَلاثَةَ أطْوَافٍ ويَمْشِي أرْبَعَةً وأنَّهُ كانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إذَا طافَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ..
هَذَا وَجه آخر فِي حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور، كِلَاهُمَا من رِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر، لَكِن الأول: عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع، وَالثَّانِي: عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، والراوي عَنْهُمَا وَاحِد وَهُوَ أنس عَن عِيَاض.
قَوْله: (الطّواف الأول) ، يُرِيد بِهِ طَوافا بعده سمي احْتِرَازًا عَن مثل طواف الْوَدَاع. قَوْله: (يخب) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة أَي: يرمل. قَوْله: (يسْعَى) أَي: بعد وَقَوله: (بطن المسيل) ، مَنْصُوب على الظّرْف، والمسيل بالوادي الَّذِي بَين الصَّفَا والمروة، وَهُوَ قدر مَعْرُوف، وَذَلِكَ قبل الْوُصُول إِلَى الْميل الأخضرين اللَّذين أَحدهمَا بِفنَاء الْمَسْجِد، وَالْآخر بدار الْعَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
46 - (بابُ طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم طواف النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، هَل يختلطن بِالرِّجَالِ أَو يطفن مَعَهم على حِدة من غير اخْتِلَاط بهم أَو ينفردن؟
(وَقَالَ لي عَمْرو بن عَليّ حَدثنَا أَبُو عَاصِم قَالَ ابْن جريج أَخْبرنِي عَطاء إِذْ منع ابْن هِشَام النِّسَاء الطّواف مَعَ الرِّجَال قَالَ كَيفَ تمنعهن وَقد طَاف نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الرِّجَال قلت أبعد الْحجاب أَو قبل قَالَ إِي لعمري لقد أَدْرَكته بعد الْحجاب قلت كَيفَ يخالطن الرِّجَال قَالَ لم يكن يخالطن كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَطوف حجرَة من الرِّجَال لَا تخالطهم فَقَالَت امْرَأَة انطلقي نستلم يَا أم الْمُؤمنِينَ قَالَت عَنْك وأبت فَكُن يخْرجن متنكرات بِاللَّيْلِ فيطفن مَعَ الرِّجَال ولكنهن كن إِذا دخلن الْبَيْت قمن حَتَّى يدخلن وَأخرج الرِّجَال وَكنت آتِي عَائِشَة أَنا وَعبيد بن عُمَيْر وَهِي مجاورة فِي جَوف ثبير قلت وَمَا حجابها قَالَ هِيَ فِي قبَّة تركية لَهَا غشاوة وَمَا بَيْننَا وَبَينهَا غير ذَلِك وَرَأَيْت عَلَيْهَا درعا موردا)(9/260)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ من أَفْرَاده وَهُوَ من بَاب الْعرض والمذاكرة وَقد سقط فِي بعض النّسخ وَهُوَ مَوْجُود فِي الْأُصُول وأطراف خلف وَذكره الْبَيْهَقِيّ وصاحبا المستخرجين وَقَالَ أَبُو نعيم هُوَ حَدِيث عَزِيز ضيق الْمخْرج وَأخرجه أَولا من طَرِيق البُخَارِيّ ثمَّ أخرجه من طَرِيق أبي قُرَّة مُوسَى بن طَارق عَن ابْن جريج قَالَ مثله غير قصَّة عَطاء مَعَ عبيد بن عُمَيْر وَأخرجه عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه عَن ابْن جريج بِتَمَامِهِ وَرِجَاله أَرْبَعَة عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج أَبُو الْوَلِيد الْمَكِّيّ وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ وَمن لطائف هَذَا السَّنَد أَن البُخَارِيّ يذكر عَن شَيْخه عَمْرو بن عَليّ وَهُوَ يروي عَن شيخ البُخَارِيّ أَيْضا وَهُوَ أَبُو عَاصِم (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " إِذْ منع " أَي حِين منع ابْن هِشَام وَهُوَ فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لأخبرني وَقَالَ الْكرْمَانِي الْمَفْعُول الثَّانِي هُوَ قَالَ كَيفَ تمنعهن وَقَالَ يجوز أَن يكون إِذْ منع مَفْعُولا ثَانِيًا وَالتَّقْدِير أَخْبرنِي بِزَمَان الْمَنْع قَائِلا كَيفَ تمنعهن وَابْن هِشَام هُوَ إِبْرَاهِيم بن هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم خَال هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان ووالي الْمَدِينَة كَمَا قَالَه الْكَلْبِيّ وَأَخُوهُ مُحَمَّد بن هِشَام وَكَانَا خاملين قبل الْولَايَة وَقيل ابْن هِشَام فِي الْخَبَر هُوَ مُحَمَّد أَخُو إِبْرَاهِيم تولى مُحَمَّد إمرة مَكَّة وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيم إمرة الْمَدِينَة وفوض هِشَام لإِبْرَاهِيم إمرة الْحَج بِالنَّاسِ فِي خِلَافَته وَقَالَ خَليفَة بن خياط فِي تَارِيخه وَفِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة كتب الْوَلِيد بن يزِيد إِلَى يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ فَقدم عَلَيْهِ فَدفع إِلَيْهِ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي ومحمدا وَإِبْرَاهِيم ابْني هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم المخزوميين وَأمره بِقَتْلِهِم فعذبهم حَتَّى قَتلهمْ ثمَّ الظَّاهِر أَن الَّذِي منع النِّسَاء الطّواف مَعَ الرِّجَال هُوَ هَذَا ابْن هِشَام وَقد روى الفاكهي من طَرِيق زَائِدَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ نهى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن يطوف الرِّجَال مَعَ النِّسَاء قَالَ فَرَأى رجلا مَعَهُنَّ فَضَربهُ بِالدرةِ قَالَ الفاكهي وَيذكر عَن ابْن عُيَيْنَة أول من فرق بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الطّواف خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي (قلت) الأول اسْم لفرد سَابق وكل وَاحِد أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بعده وَكَانَت إمرة خَالِد فِي مَكَّة فِي زمن عبد الْملك بن مَرْوَان وَذَلِكَ قبل ابْن هِشَام بِمدَّة طَوِيلَة " قَالَ كَيفَ تمنعهن " بِلَفْظ الْخطاب وبلفظ الْغَيْبَة أَي كَيفَ يمنعهن الْمَانِع قَوْله " وَقد طَاف نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الرِّجَال " يَعْنِي طفن فِي وَقت وَاحِد غير مختلطات بِالرِّجَالِ لِأَن سنتهن أَن يطفن ويصلين من وَرَاء الرِّجَال وَقَالَ ابْن بطال من السّنة إِذا أَرَادَ النِّسَاء دُخُول الْبَيْت أَن يخرج الرِّجَال مِنْهُ بِخِلَاف الطّواف بِهِ قَوْله " أبعد الْحجاب " مقول ابْن جريج والهمزة فِي أبعد للاستفهام وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره بِدُونِ الِاسْتِفْهَام وَمعنى بعد الْحجاب بعد آيَة الْحجاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} أَو قَوْله تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} قَوْله " أَو قبل " بِالضَّمِّ أَو بِالتَّنْوِينِ قَوْله " أَي لعمري " بِكَسْر الْهمزَة بِمَعْنى نعم قَوْله " أَدْرَكته " أَي قَالَ عَطاء أدْركْت طواف النِّسَاء مَعَهم وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك عَطاء لدفع وهم من يتَوَهَّم أَنه حمل ذَلِك عَن غَيره وَدلّ على أَنه رأى ذَلِك مِنْهُنَّ قَوْله " كَيفَ يخالطن " وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي " يخالطهن " فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالرِّجَال بِالرَّفْع على الفاعلية قَوْله " حجرَة " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم بعْدهَا رَاء أَي نَاحيَة من النَّاس معتزلة قَالَ الْقَزاز هُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم نزل فلَان حجرَة من النَّاس أَي مُعْتَزِلا وَقيل بِمَعْنى مَحْجُورا بَينهَا وَبَين الرِّجَال بِثَوْب وَنَحْوه وَقَالَ ابْن قرقول هُوَ بِسُكُون الْجِيم وَفتح الْحَاء لَا غير وَفِيه نظر لِأَن ابْن عديس ذكر فِي كِتَابه الْمثنى تعد حجرَة وحجرة بِالْفَتْح وَالضَّم أَي نَاحيَة وَقَالَ ابْن سَيّده وَجَمعهَا حواجر على غير قِيَاس وَفِي رِوَايَة الْكشميهني حجزة بالزاي وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق هَكَذَا بالزاي قَوْله " فَقَالَت امْرَأَة " وَزَاد الفاكهي فِي رِوَايَته مَعهَا وَلم يدر اسْمهَا وَقيل يحْتَمل أَن يكون دقرة بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف امْرَأَة روى عَنْهَا يحيى بن أبي كثير أَنَّهَا كَانَت تَطوف مَعَ عَائِشَة بِاللَّيْلِ فَذكر قصَّة ذكرهَا الفاكهي قَوْله " تستلم " بِالرَّفْع والجزم ويروى " تستلمي " بِحَذْف النُّون قَوْله " انطلقي عَنْك " أَي عَن جِهَة نَفسك ولأجلك قَوْله " وأبت " أَي منعت عَائِشَة الاستلام قَوْله " يخْرجن " وَفِي رِوَايَة الفاكهي " وَكن يخْرجن " إِلَى آخِره قَوْله " متنكرات " قَالَ وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق مستترات قَوْله " إِذا دخلن الْبَيْت قمن " وَفِي رِوَايَة الفاكهي " سترن " قَوْله " حِين يدخلن " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " حَتَّى يدخلن " وَقَالَ(9/261)
الْكرْمَانِي مَا معنى هَذَا التَّرْكِيب إِذْ هُوَ غير ظَاهر ثمَّ قَالَ أَي إِذا أردن الدُّخُول وقفن قائمات حَتَّى يدخلن حَال كَون الرِّجَال مخرجين مِنْهُ قَوْله " وَأخرج الرِّجَال " بِلَفْظ أخرج على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " وَكنت آتِي عَائِشَة " أَي قَالَ كنت أجيء إِلَى عَائِشَة أَنا وَعبيد بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ الْحِجَازِي قَاضِي مَكَّة ولد فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَهِي مجاورة " الْوَاو للْحَال أَي مُقِيمَة قَوْله " ثبير " بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء وَهُوَ جبل عَظِيم بِالْمُزْدَلِفَةِ على يسَار الذَّاهِب مِنْهَا إِلَى منى وعَلى يَمِين الذَّاهِب من منى إِلَى عَرَفَات وَهُوَ منصرف وَذكر ياقوت أَن بِمَكَّة سَبْعَة جبال كل مِنْهَا يُسمى ثبيرا الأول أعظم جبال مَكَّة بَينهَا وَبَين عَرَفَة وَقَالَ الْأَصْمَعِي هُوَ ثبير حراء وَهُوَ المُرَاد بقَوْلهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة أشرق ثبير كَيْمَا تغير. الثَّانِي ثبير الزنج لِأَن الزنج كَانُوا يَلْعَبُونَ عِنْده. الثَّالِث ثبير الْأَعْرَج. الرَّابِع ثبير الحضراء. الْخَامِس ثبير النصع وَهُوَ جبل الْمزْدَلِفَة. السَّادِس ثبير عيناء كل هَذِه جبال مَكَّة. السَّابِع ثبير مَا فِي ديار مزينة أقطعه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شُرَيْح بن ضَمرَة الْمُزنِيّ وَقَالَ الْبكْرِيّ السَّابِع ثبير الأحدب على الْإِضَافَة وَحَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي على النَّعْت وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ثبيران جبلان مفترقان تصب بَينهمَا أفاعية وَهِي وَاد يصب من منى يُقَال لأَحَدهمَا ثبير عيناء وَالْآخر ثبير الْأَعْرَج قَوْله " وَمَا حجابها " زَاد الفاكهي حِينَئِذٍ قَوْله " هِيَ قبَّة " أَي عَائِشَة فالقبة وَهِي خيمة فِي الأَصْل والقبلة التركية تعْمل من لبود تضرب فِي الأَرْض قَوْله " وَرَأَيْت عَلَيْهَا " أَي على عَائِشَة " درعا موردا " أَي قَمِيصًا أَحْمَر لَونه لون الْورْد وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق " درعا معصفرا وَأَنا صبي " فَبين بذلك سَبَب رُؤْيَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاهَا وَيحْتَمل أَن يكون رأى مَا عَلَيْهَا اتِّفَاقًا لَا قصدا (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ طواف النِّسَاء متنكرات. وَفِيه طواف اللَّيْل. وَفِيه ستر نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ذَلِك وحجبهن وَفِيه رِوَايَة الْمَرْأَة عَن الْمَرْأَة. وَفِيه الْمُجَاورَة بِمَكَّة وَهُوَ نوع من الِاعْتِكَاف وَهُوَ ضَرْبَان مجاورة لَيْلًا وَنَهَارًا أَو مجاورة نَهَارا فَقَط. وَفِيه جَوَاز الْمُجَاورَة فِي الْحرم كُله وَإِن لم يكن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام كَذَا قَالَه ابْن بطال وَفِيه نظر لِأَن ثبيرا خَارج من مَكَّة. وَفِيه طواف النِّسَاء من وَرَاء الرِّجَال -
9161 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ زَيْنَبَ بنْتِ أبي سلَمَةَ عنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ شكَوْتُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنِّي أشْتَكِي فَقَالَ طُوفي مِنْ ورَاءِ النَّاسِ وأنْتِ راكِبَةٌ فطُفْتُ ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي الصُّبْحَ إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وهُوَ يَقْرأُ والطُّورِ وكِتَابٍ مَسْطُورٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (طوفي من وَرَاء النَّاس) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك، وَمُحَمّد هُوَ يَتِيم عُرْوَة، وَزَيْنَب هِيَ بنت أم سَلمَة ربيبة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ اسْمهَا برة فسماها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زَيْنَب، ولدت بِأَرْض الْحَبَشَة وأبوها أَبُو سَلمَة واسْمه عبد الله بن عبد الْأسد، وَأمّهَا أم سَلمَة، وَاسْمهَا: هِنْد بنت أبي أُميَّة.
وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد فِي كتاب الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِنِّي أشتكي) أَي: شَكَوْت إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مرضِي وَإِنِّي ضَعِيفَة. قَوْله: (وَأَنت) الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَلِكَ الْوَاو فِي: وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يُصَلِّي) ، جملَة فعلية وَقعت حَالا، وَكَذَا الْوَاو فِي قَوْله: (وَهُوَ يقْرَأ) للْحَال، وَإِنَّمَا أمرهَا بِالطّوافِ من وَرَاء النَّاس لِأَن سنة النِّسَاء التباعد عَن الرِّجَال فِي الطّواف، وَلِأَن قربهَا يخَاف مِنْهُ تأذي النَّاس بدابتها، وَإِنَّمَا طافت فِي حَال صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليَكُون أستر لَهَا، وَكَانَت هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح.
وَفِيه: الصَّلَاة بِجنب الْبَيْت والجهر بِالْقِرَاءَةِ.(9/262)
56 - (بابُ الكَلامِ فِي الطَّوَافِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة الْكَلَام فِي الطّواف، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين الحكم فِيهِ من حَيْثُ إِن المُرَاد مُطلق الْإِبَاحَة من الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْمُؤَاخَذَة، كَمَا ورد فِي الحَدِيث الْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا: (الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إلاَّ أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ الْكَلَام فِيهِ، فَمن نطق فَلَا ينْطق إلاَّ بِخَير) ، رَوَاهُ الْحَاكِم. وَفِي لفظ: (الطّواف مثل الصَّلَاة إلاَّ أَنكُمْ تتكلمون، فَمن تكلم فِيهِ فَلَا يتَكَلَّم إلاَّ بِخَير) ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث فُضَيْل بن عِيَاض عَن عَطاء بِلَفْظ: (الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إلاَّ أَن الله أحل فِيهِ النُّطْق، فَمن نطق فَلَا ينْطق إلاَّ بِخَير) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الطّواف حول الْبَيْت مثل الصَّلَاة، إلاَّ أَنكُمْ تتكلمون فِيهِ، فَمن تكلم فِيهِ فَلَا يتَكَلَّم إلاَّ بِخَير) . وَقَالَ أَبُو عِيسَى: وَقد رُوِيَ عَن ابْن طَاوُوس وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَلَا نعرفه مَرْفُوعا، ألاَّ من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة، فأقلوا بِهِ الْكَلَام) . وَقَالَ الشَّافِعِي: حَدثنَا سعيد بن سَالم عَن حَنْظَلَة عَن طَاوُوس عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: (أقلوا الْكَلَام فِي الطّواف، فَإِنَّمَا أَنْتُم فِي صَلَاة) ، وَعِنْده أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع قَالَ: (كلمت طاووسا فِي الطّواف فكلمني) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم أَنهم يستحبون أَن لَا يتَكَلَّم الرجل فِي الطّواف إلاَّ بحاجة أَو بِذكر الله أَو من الْعلم. وَقَالَ أَبُو عمر عَن عَطاء: أَنه كَانَ يكره الْكَلَام فِي الطّواف إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير، وَكَانَ مُجَاهِد يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فِي الطّواف. وَقَالَ مَالك: لَا أَدْرِي ذَلِك، وليقبل على طَوَافه. وَقَالَ الشَّافِعِي: أَنا أحب الْقِرَاءَة فِي الطّواف وَهُوَ أفضل مَا يتَكَلَّم بِهِ الْإِنْسَان. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : يكره للْإنْسَان الطَّائِف الْأكل وَالشرب فِي الطّواف، وَكَرَاهَة الشّرْب أخف، وَلَا يبطل الطّواف بِوَاحِد مِنْهُمَا وَلَا بهما جَمِيعًا. وقالالشافعي: روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه شرب وَهُوَ يطوف، وَقَالَ ابْن بطال: كره جمَاعَة قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف، مِنْهُم عُرْوَة وَالْحسن وَمَالك، وَقَالَ: مَا ذَاك من عمل النَّاس وَلَا بَأْس بِهِ إِذا أخفاه، وَلَا يكثر مِنْهُ، وَقَالَ عَطاء: قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف مُحدث.
0261 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أخبرَنِي سُلَيْمانُ الأحْوَلُ أنَّ طاوُوسا أخْبَرَهُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ وَهْوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بإنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إنْسَانٍ بِسَيْرٍ أوْ بِخَيْطٍ أوْ بِشَيْءٍ غَيْرَ ذلِكَ فقَطَعَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ ثُمَّ قالَ قُدْهُ بِيَدِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قده بِيَدِهِ) ، فَإِنَّهُ تكلم وَهُوَ طائف.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ابْن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق يعرف بالصغير. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج. الرَّابِع: سُلَيْمَان بن أبي مُسلم الْأَحول. الْخَامِس: طَاوُوس بن كيسَان. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه رازي وهشاما صنعاني يماني قاضيها وَأَن ابْن جريج وَسليمَان مكيان وَأَن طاووسا يماني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن أبي عَاصِم النَّبِيل، وَكَذَا أخرجه عَنهُ فِي الْحَج. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن يحيى بن معِين. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْحَج عَن يُوسُف بن سعيد بن مُسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ يطوف) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (بِإِنْسَان) يتَعَلَّق بقوله: مر، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج إِلَى إِنْسَان آخر، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (بِإِنْسَان قد ربظ يَده بِإِنْسَان) . قَوْله: (بسير) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَهُوَ مَا يقد من الْجلد، وَالْقد الشق طولا، يُقَال: قددت السّير أقده. قيل: إِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا(9/263)
يَعْتَقِدُونَ أَنهم يَتَقَرَّبُون بِمثلِهِ إِلَى الله تَعَالَى. قَوْله: (وبشيء غير ذَلِك) كَأَن الرَّاوِي لم يضْبط مَا كَانَ مربوطا بِهِ، فلأجل ذَلِك شكّ فِيهِ، وَغير السّير وَالْخَيْط نَحْو المنديل الَّذِي يرْبط بِهِ أَو الْوتر أَو غَيرهمَا. قَوْله: (قده) ، بِضَم الْقَاف: أَمر من قَادَهُ يَقُودهُ من القيادة أَو الْقود، وَهُوَ الْجَرّ والسجب، ويروى: (قد بِيَدِهِ) ، بِدُونِ الضَّمِير فِي: قده، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: قده، بالضمير. وَفِي (التَّلْوِيح) بِخَط مُصَنفه: خُذ بِيَدِهِ، قيل: ظَاهر الحَدِيث أَن المقود كَانَ ضريرا، ورد بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون لِمَعْنى آخر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: إسم الرجل المقود ثَوَاب ضد الْعقَاب وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر ذَلِك لغيره، وَلَا أَدْرِي من أَيْن أَخذه. قلت: إِن هَذَا مِمَّا يتعجب مِنْهُ، فَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته كَذَلِك، عدم رُؤْيَة الْغَيْر، وَلَا اطلع هُوَ على الْمَوَاضِع الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا جَمِيعًا جتى يستغرب ذَلِك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الْكَلَام بِالْخَيرِ فِي الطّواف. وَفِيه: أَنه يجوز للطائف فعل مَا خف من الْأَفْعَال. وَفِيه: أَنه إِذا رأى مُنْكرا فَلهُ أَن يُغير بِيَدِهِ. وَفِيه: أَن من نذر مَالا طَاعَة لله فِيهِ لَا يلْزمه، ذكره الدَّاودِيّ وَاعْتَرضهُ ابْن التِّين، فَقَالَ: لَيْسَ هُنَا نذر ذَلِك، وغفل أَنه ذكره فِي النّذر، وَقد روى أَحْمد من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أدْرك رجلَيْنِ وهما مقترنان، فَقَالَ: مَا بَال القِران؟ قَالَا: إِنَّا نذرنا لنقترنن حَتَّى نأتي الْكَعْبَة. فَقَالَ: أطلقا أنفسكما، لَيْسَ هَذَا نذرا إِنَّمَا النّذر مَا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله) . وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق فَاطِمَة بنت مُسلم: (حَدثنِي خَليفَة بن بشر عَن أَبِيه أَنه أسلم، فَرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله وَولده، ثمَّ لقِيه هُوَ وَابْنه طلق بن بشر مقترنين بِحَبل، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: حَلَفت لَئِن رد الله عَليّ مَالِي وَوَلَدي لأحجن بَيت الله مَقْرُونا. فَأخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَبل فَقَطعه، وَقَالَ لَهما: حجا، إِن هَذَا من عمل الشَّيْطَان) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: قطعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّير مَحْمُول على أَنه لم يُمكن إِزَالَة هَذَا الْمُنكر إلاَّ بِقطعِهِ.
فروع ذكرهَا الشَّافِعِيَّة: وَهِي: يجوز لَهُ إنشاد الشّعْر وَالرجز فِي الطّواف إِذا كَانَ مُبَاحا، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ، وَتَبعهُ صَاحب (الْبَحْر) وَيكرهُ أَن يبصق فِيهِ أَو يتنخم أَو يغتاب أَو ينم فَلَا يفْسد طَوَافه بِشَيْء من ذَلِك، وَإِن أَثم صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ، وَقيل: لَا يكره لَهُ التَّعْلِيم فِيهِ كَمَا فِي الِاعْتِكَاف، قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَيكرهُ أَن يضع يَده على فَمه كَمَا فِي الصَّلَاة، قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ للتثاوب فَلَا بَأْس بذلك، وَلَو طافت الْمَرْأَة متنقبة وَهِي غير مُحرمَة، قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : فَمُقْتَضى مَذْهَبنَا كَرَاهَته كَمَا فِي الصَّلَاة. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تَطوف متنقبة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَكَرِهَهُ طَاوُوس وَغَيره، وَالله أعلم.
66 - (بابٌ إذَا رأى سَيْرا أوْ شَيْئا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن شخصا إِذا رأى سيرا ربط بِهِ آخر فِي الطّواف وَهُوَ يُقَاد بِهِ قطعه. قَوْله: (أَو رأى شَيْئا يكره فعله فِي الطّواف مَنعه) قَوْله: (يكره) على صِيغَة الْمَجْهُول، صفة لقَوْله: شَيْئا، ويروى: يكرههُ الرَّائِي من فعل مُنْكرا أَو قَول مُنكر، وَقَوله: (قطعه) بِصِيغَة الْمَاضِي جَوَاب إِذا، وَلَكِن مَعْنَاهُ فِي السّير على الْحَقِيقَة، وَفِي الشَّيْء الَّذِي يكره بِمَعْنى الْمَنْع كَمَا ذَكرْنَاهُ.
1261 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَن سُلَيْمَانَ الأحْوَلِ عنْ طَاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجُلاً يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بِزِمَام أَو غَيْرِهِ فقَطَعَهُ..
هَذَا وَجه آخر من حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور. أخرجه عَن أبي عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن سُلَيْمَان بن أبي مُسلم الْأَحول إِلَى آخِره. قَوْله: (أَو غَيره) شكّ من الرَّاوِي.
76 - (بابٌ لاَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ولاَ يَحُجُّ مُشْرِكٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يطوف ... إِلَى آخِره.
2261 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابنُ شِهَابٍ حدَّثني حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أخْبَرَهُ أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بعَثَهُ فِي الحَجَّةِ الَّتِي أمَّرَهُ عَلَيْهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤذِّنُ فِي النَّاسِ ألاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
.(9/264)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعيد الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَحميد، بِضَم الْحَاء: ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقطعَة وافرة من الحَدِيث مَضَت فِي: بَاب مَا يستر من الْعَوْرَة، فِي كتاب الصَّلَاة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن أخي ابْن شهَاب عَن معن عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَعثه) أَي: بعث أَبَا هُرَيْرَة. قَوْله: (فِي الْحجَّة الْبَيْت أمره عَلَيْهَا) ، بتَشْديد الْمِيم، أَي: جعله أَمِيرا عَلَيْهَا. وَقَالَ التَّيْمِيّ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة تسع من الْهِجْرَة ليحج بِالنَّاسِ، وَكَانَ مَعَه أَبُو هُرَيْرَة. وَقَالَ السُّهيْلي: كَانَ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم من تَبُوك أَرَادَ الْحَج، فَذكر مُخَالطَة الْمُشْركين للنَّاس فِي حجهم وتلبيتهم بالشرك وطوافهم عُرَاة بِالْبَيْتِ، وَكَانُوا يقصدون بذلك أَن يطوفوا، كَمَا ولدُوا بِغَيْر الثِّيَاب الَّتِي أذنبوا فِيهَا وظلموا، فَأمْسك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَج فِي ذَلِك الْعَام، وَبعث أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِسُورَة بَرَاءَة لينبذ إِلَى كل ذِي عهد عَهده من الْمُشْركين إلاَّ بعض بني بكر الَّذين كَانَ لَهُم عهد إِلَى أجل خَاص، ثمَّ أرْدف بعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرجع أَبُو بكر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَل أنزل فِي قُرْآن؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن أردْت أَن يبلغ عني من هُوَ من أهل بَيْتِي. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَأمرنِي عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن أَطُوف فِي الْمنَازل من منى بِبَرَاءَة، فَكنت أصيح حَتَّى صَحِلَ حلقي، فَقيل لَهُ: بِمَ كنت تنادي؟ قَالَ: بِأَرْبَع: أَن لَا يدْخل الْجنَّة إلاَّ مُؤمن، وَأَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَأَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَمن كَانَ لَهُ عهد فَلهُ أجل أَرْبَعَة أشهر. ثمَّ لَا عهد لَهُ. وَكَانَ الْمُشْركُونَ إِذا سمعُوا النداء بِبَرَاءَة يَقُولُونَ لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَتَرَوْنَ بعد الْأَرْبَعَة أشهر بِأَنَّهُ لَا عهد بَيْننَا وَبَين ابْن عمك إلاَّ الطعْن وَالضَّرْب، ثمَّ إِن النَّاس فِي تِلْكَ الْمدَّة رَغِبُوا فِي الْإِسْلَام حَتَّى دخلُوا فِيهِ طَوْعًا وَكرها. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لما خرج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْحَج نزل صدر بَرَاءَة بعده، فَقيل: يَا رَسُول الله لَو بعثت بهَا إِلَى أبي بكر، فَقَالَ: إِنَّه لَا يُؤَدِّيهَا عني إلاَّ رجل من أهل بَيْتِي، ثمَّ دَعَا عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأرْسلهُ، فَخرج رَاكِبًا على نَاقَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العضباء حَتَّى أدْرك أَبَا بكر بالعرج، فَقَالَ لَهُ: أَبُو بكر: استعملك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْحَج؟ قَالَ: لَا وَلَكِن بَعَثَنِي بِقِرَاءَة بَرَاءَة على النَّاس.
قَالُوا: وَالْحكمَة فِي إِعْطَاء بَرَاءَة لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَن فِيهَا نقض الْعَهْد، وَكَانَت سيرة الْعَرَب أَنه لَا يحل العقد إلاَّ الَّذِي عقده أَو رجل من أهل بَيته، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقطع أَلْسِنَة الْعَرَب بِالْحجَّةِ. وَقيل: إِن فِي سُورَة بَرَاءَة فَضِيلَة لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِي {ثَانِي اثْنَيْنِ} (بَرَاءَة (التَّوْبَة) : 04) . فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون يَقْرَأها غَيره.
قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، ظرف لقَوْله: بَعثه. قَوْله: (فِي رَهْط) أَي: فِي جملَة رَهْط، والرهط من الرِّجَال مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى الْأَرْبَعين، وَلَا يكون فيهم امْرَأَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَيجمع على: أرهط وأرهاط وأراهط جمع القَوْل. قَوْله: (يُؤذن) ، الضَّمِير فِيهِ رَاجع إِلَى الرَّهْط بِاعْتِبَار اللَّفْظ، وَيجوز أَن يكون لأبي هُرَيْرَة على الِالْتِفَات، وَهُوَ من الإيذان وَهُوَ الْإِعْلَام. قَوْله: (ألاَ لَا يحجّ) ، كلمة: ألاَ، بِفَتْح الْهمزَة، واللاَّم المخففة تَأتي على أوجه، وَلَكِن هُنَا للتّنْبِيه، فتدل على تحقق مَا بعْدهَا. قَوْله: (لَا يحجّ) نفي، وفاعله، قَوْله: مُشْرك، ويروى: أَن لَا يحجّ، بِالنّصب بِكَلِمَة: أَن، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي التَّفْسِير: أَن لَا يَحُجن، بنُون التَّأْكِيد، وَفِي بعض النّسخ: ألاَّ بِفَتْح الْهمزَة: يحجّ، وبتشديد اللاَّم، وَعَلِيهِ تكلم الْكرْمَانِي، فَقَالَ: إِن أَصله: أَن لَا يحجّ، وَأَن مخففةٍ من الثَّقِيلَة أَي: أَن الشَّأْن. قلت: تَقْدِيره أَنه لَا يحجّ، فَيكون: لَا يحجّ، مَرْفُوعا على كل حَال. قَوْله: (وَلَا يطوف) ، بِالرَّفْع عطفا على: لَا يحجّ، وعَلى رِوَايَة: أَن لَا يحجّ، يكون بِالنّصب عطفا عَلَيْهِ. وَقَوله: (عُرْيَان) فَاعل: لَا يطوف، وَفِي مُسلم عَن هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة، قَالَ: كَانَت الْعَرَب يطوفون عُرَاة، إلاَّ أَن يعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرِّجَال الرِّجَال وَالنِّسَاء النِّسَاء، وَكَانَت الحمس لَا يخرجُون من الْمزْدَلِفَة، وَكَانَ النَّاس كلهم يبلغون عَرَفَات، وروى مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مُسلم البطين عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة، وَتقول:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... فَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله)
فَنزلت: {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} (الْأَعْرَاف: 13) . وَذكر الْأَزْرَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَت قبائل الْعَرَب من بني عَامر وَغَيرهم يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، الرِّجَال بِالنَّهَارِ وَالنِّسَاء بِاللَّيْلِ، فَإِذا بلغ أحدهم بَاب الْمَسْجِد قَالَ للحمس: من يعير معوزا؟ فَإِن أَعَارَهُ(9/265)
أحمسي ثَوْبه طَاف فِيهِ، وإلاَّ ألْقى ثِيَابه بِبَاب الْمَسْجِد ثمَّ طَاف سبعا عُريَانا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نطوف فِي الثِّيَاب الَّتِي قارفنا فِيهَا الذُّنُوب. وَكَانَ بعض نِسَائِهِم تتَّخذ سيورا تعلقهَا فِي حقويها وتستر بهَا، وَفِيه تَقول العامرية:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا نحلّه)
ثمَّ من طَاف مِنْهُم فِي ثِيَابه لم يحل لَهُ أَن يلبسهَا أبدا، وَلَا ينْتَفع بهَا، وللرياشي زِيَادَة فِي الْبَيْت الْمَذْكُور:
(كم من لَبِيب لبُّه يضلُّهُ ... وناظرٍ ينظر مَا يملُّهُ)
(جهمٍ من الجثم عَظِيم ظلُّهُ)
قلت: كَانَت هَذِه الْمَرْأَة ضباعة بنت عَامر، وَكَانَت تَحت عبد الله بن جدعَان، وطافت بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة وَهِي وَاضِعَة يَديهَا على فخذيها، وقريش أحدثت بهَا وَهِي تَقول هَذِه الأبيات، وطافت بِالْبَيْتِ الْحَرَام أسبوعا. وَفِي (تَارِيخ ابْن عَسَاكِر) : كَانَت تغطي جَسدهَا بشعرها، وَكَانَت إِذا جَلَست أخذت من الأَرْض شَيْئا كثيا لعظم خلقهَا. وَفِي (صَحِيح مُسلم) عَن ابْن عَبَّاس: كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة، تَقول: من يعيرني تطوافا، يَعْنِي: ثوبا تَطوف بِهِ، تَجْعَلهُ على فرجهَا، وَتقول:
الْيَوْم يبدون ... إِلَى آخِره.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: حكمان: الأول: لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالنداء بذلك حِين نزلت {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} (التَّوْبَة: 82) . وَالْمرَاد بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام هُنَا، الْحرم كُله، فَلَا يُمكن مُشْرك من دُخُول الْحرم بِحَال، وَكَذَلِكَ لَا يُمكن أهل الذِّمَّة من الْإِقَامَة بعد ذَلِك، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب) قَالَه فِي مرض مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قلت: إِن الْحَبَشَة يخربون الْكَعْبَة حجرا حجرا. قلت: لفظ الحَدِيث نهي لَا خبر، وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يجْتَمع الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بعد عَامهمْ هَذَا) فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَانْفَرَدَ بِهِ، فَقَالَ: حَدثنَا عَليّ ابْن خشرم أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي إِسْحَاق (عَن زيد بن أشْبع قَالَ: سَأَلت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَيّ شَيْء بعثت؟ قَالَ: (بِأَرْبَع: لَا يدْخل الْجنَّة إلاَّ نفس مسلمة، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَلَا يجْتَمع الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بعد عَامهمْ هَذَا. .) الحَدِيث. الحكم الثَّانِي: أَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَاحْتج مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة بِهَذَا، فَقَالُوا بِاشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة، وَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى أَنه لَو طَاف عُريَانا يجْبر بِدَم.
86 - (بابٌ إذَا وقَفَ فِي الطَّوَافِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وقف الطَّائِف فِي طَوَافه هَل يَنْقَطِع طَوَافه أم لَا يَنْقَطِع؟ وَإِنَّمَا أطلق لوُجُود الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُور: إِذا عرض لَهُ أَمر فِي طَوَافه فَوقف يَبْنِي ويتمه وَلَا يسْتَأْنف طَوَافه، وَقَالَ الْحسن: إِذا أُقِيمَت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَهُوَ فِي الطّواف فَقَطعه، فَإِنَّهُ يستأنفه وَلَا يَبْنِي على مَا مضى. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم قَالَه غَيره، وَقَالَ ابْن بطال: جُمْهُور الْعلمَاء يرَوْنَ لمن أُقِيمَت عَلَيْهِ الصَّلَاة الْبناء على طَوَافه إِذا فرغ من صلَاته، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء وَابْن الْمسيب وطاووس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : فَإِن حضرت جَنَازَة فِي أثْنَاء الطّواف فمذهب الشَّافِعِي وَمَالك إتْمَام الطّواف أولى، وَبِه قَالَ عَطاء وَعَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: لَا يخرج، وَإِن خرج اسْتَأْنف، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْحسن بن صَالح: يخرج لَهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاَةُ أوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ إذَا سَلَّمَ يَرْجَعُ إلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِي
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِنَّمَا لم يذكر البُخَارِيّ حَدِيثا يدل على التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَنه لم يجد فِي الْبَاب حَدِيثا بِشَرْطِهِ. قلت: لم يلْزم البُخَارِيّ مَا ذكره، فَإِنَّهُ إِذا ذكر تَرْجَمَة وأتى بأثر من صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ مُطلق للتَّرْجَمَة فَإِنَّهُ يَكْفِي، وَذكر مَا قَالَه عَطاء، وَهُوَ تَابِعِيّ كَبِير بيَّن مُرَاده من التَّرْجَمَة، وَهُوَ أَن الطَّائِف إِذا حصل لَهُ شَيْء فَقطع طَوَافه فَإِنَّهُ يبْنى على مَا مضى وَلَا يستأنفه، وَوصل هَذَا الْمُعَلق عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قلت لعطاء: الطّواف الَّذِي تقطعه على الصَّلَاة، واعتد بِهِ يجزىء؟ قَالَ: نعم. وَأحب إِلَيّ أَن ألاَّ يعْتد بِهِ. فَأَرَدْت أَن أركع قبل أَن أتم سبعي! قَالَ: لَا أوفِ سبعك إِلَّا أَن يمْنَع من الطّواف. وَقَالَ سعيد بن(9/266)
مَنْصُور: حَدثنَا هشيم حَدثنَا عبد الْملك عَن عَطاء أَنه كَانَ يَقُول فِي الرجل يطوف بعض طَوَافه ثمَّ تحضر الْجِنَازَة يخرج فَيصَلي عَلَيْهَا، يرجع فَيَقْضِي مَا بَقِي عَلَيْهِ من طَوَافه. قَوْله: (فيبنى) أَي: على طَوَافه، أَي: يعتبره مَا سلف مِنْهُ وَيتم الْبَاقِي وَلَا يسْتَأْنف الطّواف.
ويُذْكَرُ نَحْوُهُ عنِ ابنِ عُمَرَ وعبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَي: يذكر نَحْو مَا قَالَه عَطاء عَن عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق. أما مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر فقد وَصله سعيد ابْن مَنْصُور: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا عَن جميل بن زيد، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر طَاف بِالْبَيْتِ، فأقيمت الصَّلَاة فصلى مَعَ الْقَوْم ثمَّ قَامَ فَبنى على مَا مضى من طَوَافه. وَأما مَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فقد وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء أَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر طَاف فِي إِمَارَة عَمْرو بن سعيد على مَكَّة يَعْنِي فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، فَخرج عَمْرو إِلَى الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن أَنْظرنِي حَتَّى أنصرف على وتر، فَانْصَرف على ثَلَاثَة أطواف، يَعْنِي ثمَّ صلى ثمَّ أتم مَا بَقِي.
96 - (بابٌ صَلَّى النبيُّ لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... . إِلَى آخِره. قَوْله: (لسبوعه) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بِمَعْنى: الْأُسْبُوع يُقَال: طفت بِالْبَيْتِ أسبوعا أَي: سبع مَرَّات، وسبوع بِدُونِ الْهمزَة لُغَة قَليلَة فِيهِ. وَقيل: هُوَ جمع سبع أَو سبع كبرد وبرود، وَضرب وضروب.
وَقَالَ نافَعٌ كَانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا كَانَ يُصَلِّي لسبوعه رَكْعَتَيْنِ فَكَذَلِك ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ يُصَلِّي لكل سبوعه رَكْعَتَيْنِ. قَوْله: (وَقَالَ نَافِع) ، مُعَلّق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم بن عبد الله عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يطوف بِالْبَيْتِ سبعا ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَعَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يكره قرن الطّواف، وَيَقُول: على كل سبع صَلَاة رَكْعَتَيْنِ.، وَكَانَ لَا يقرن.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بنُ أميَّةَ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِئُهُ المَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيِ الطُّوَافِ فَقَالَ السُّنَّةُ أفْضَلُ لَمْ يَطُفِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُبُوعا قَطُّ إلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي الْمَكِّيّ، وَقد مر فِي كتاب الزَّكَاة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الْمدنِي، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ، وَهَذَا الْمُعَلق وَصله عبد الرَّزَّاق، عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن يحيى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: مَضَت السّنة أَن مَعَ كل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ، وروى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم تَمام بن مُحَمَّد الرَّازِيّ فِي (فَوَائده) : حَدثنَا أَحْمد بن الْقَاسِم بن المفرح بن مهْدي الْبَغْدَادِيّ، حَدثنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَبدة القَاضِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الشَّامي حَدثنَا عدي بن الْفضل عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: سنّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لكل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن عَمْرو، عَن الْحسن، قَالَ: مَضَت السّنة أَن مَعَ كل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ لَا يجزىء مِنْهُمَا تطوع وَلَا فَرِيضَة. قَوْله: (تجزئة الْمَكْتُوبَة) بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا، يُقَال: أجزاني الشَّيْء أَي كفاني، والمكتوبة الْفَرِيضَة. قَوْله: (السّنة أفضل) يَعْنِي: مُرَاعَاة السّنة، وَهِي أَن تصلي بعد كل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ غير الْمَكْتُوبَة والتطوع، كَمَا مر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ هَكَذَا آنِفا.
3261 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سألْنا ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأتِهِ فِي العُمْرَةِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ قَالَ قَدِمَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(9/267)
فَطَافَ بِالْبَيتِ سَبْعا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وطَافَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ وَقَالَ: {لقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رسولِ الله أُسْوَةٌ حسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 32) . . قَالَ وسألْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا فَقال لاَ يَقْرَبُ امْرَأتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 32) . لِأَبْنِ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَرَادَ بِهَذَا أَن السّنة أَن يُصَلِّي بعد الْأُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يطوف بَين الصَّفَا والمروة، لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل ذَلِك، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي بَاب قَول الله عز وَجل {اتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . فِي كتاب الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان إِلَى آخِره نَحوه، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو بن دِينَار وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (أيقع؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، وَيَقَع من الوقاع وَهُوَ: الْجِمَاع. قَوْله: (قبل أَن يطوف بَين الصَّفَا والمروة) قيل فِيهِ: تجوز، لِأَنَّهُ يُسمى سعيا لَا طَوافا، إِذْ حَقِيقَة الطّواف الشَّرْعِيَّة فِيهِ غير مَوْجُودَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن حَقِيقَة الطّواف هِيَ الدوران، وَهُوَ مَوْجُود فِي السَّعْي. قَوْله: (قَالَ وَسَأَلت) ، الْقَائِل هُوَ عَمْرو بن دِينَار الرَّاوِي عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
07 - (بابُ مَنْ لَمْ يَقْرُبِ الكَعْبَةَ ولَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ ويَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأوَّلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من لم يقرب الْكَعْبَة أَي: من لم يطف طَوافا آخر غير طواف الْقدوم، لِأَن الْحَاج لَا طواف عَلَيْهِ غير طواف الْقدوم حَتَّى يخرج إِلَى عَرَفَات، وينصرف وَيَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة. قَوْله: (حَتَّى يخرج) أَي: إِلَى أَن يخرج. قَوْله: (وَيرجع) ، بِالنّصب عطف على: يخرج. قَوْله: (بعد الطّواف الأول) ، أَي: طواف الْقدوم، وَقرب الشَّيْء بِالضَّمِّ يقرب إِذا دنا، وقربته بِالْكَسْرِ أقربه أَي: دَنَوْت مِنْهُ.
5261 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا فُضَيْلٌ قَالَ حدَّثنا موسَى بنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ فَطافَ وسَعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ ولَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الثَّقَفِيّ مَوْلَاهُم الْمَعْرُوف بالمقدمي. الثَّانِي: فُضَيْل، بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن سُلَيْمَان النمري، يكنى أَبَا سُلَيْمَان. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَبَّاس الْأَسدي أَبُو مُحَمَّد. الرَّابِع: كريب، بِضَم الْكَاف: مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مصريان، ومُوسَى وكريب مدنيان، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَن لَا طواف بعد طواف الْقدوم، وَلَكِن لَا يمْنَع مِنْهُ، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَعَلَّه ترك الطّواف بعد طواف الْقدوم خشيَة أَن يظنّ أحد أَنه وَاجِب، وَكَانَ يحب التَّخْفِيف على أمته، وَاعْتمد الْكرْمَانِي على ظَاهر الحَدِيث وَقَالَ: الْمَقْصُود أَن الْحَاج لَا يطوف بعد طواف الْقدوم، وَلَيْسَ كَذَلِك، لما قُلْنَا. وَمَالك اخْتَار أَن لَا يتَنَفَّل بِطواف بعد طواف الْقدوم حَتَّى يتم حجه، وَقد جعل الله لَهُ فِي ذَلِك سَعَة، فَمن أَرَادَ أَن يطوف بعد طواف الْقدوم فَلهُ ذَلِك لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا لَا سِيمَا إِن كَانَ من أقاصي الْبلدَانِ وَلَا عهد لَهُ بِالطّوافِ، وَقد قَالَ مَالك: الطّواف بِالْبَيْتِ أفضل من النَّافِلَة لمن كَانَ من الْبِلَاد الْبَعِيدَة لقلَّة وجود السَّبِيل إِلَى الْبَيْت، وَرُوِيَ عَن عَطاء وَالْحسن: إِذا قَامَ الْغَرِيب بِمَكَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَانَت الصَّلَاة لَهُ أفضل من الطّواف. وَقَالَ أنس: الصَّلَاة للغرباء أفضل. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الطّواف أفضل من الصَّلَاة، وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: الصَّلَاة لأهل مَكَّة أفضل(9/268)
وَالطّواف للغرباء أفضل. وَأما الاعتمار وَالطّواف إيهما أفضل؟ فَفِي (التَّوْضِيح) : فَحكى بعض الْمُتَأَخِّرين منا ثَلَاثَة أوجه: ثَالِثهَا إِن استغرقه الطّواف وَقت الْعمرَة كَانَ أفضل، وإلاَّ فَهِيَ أفضل.
17 - (بابُ منْ صَلَّى رَكْعَتَيِّ الطَّوَافِ خَارِجا مِنَ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز صَلَاة من صلى رَكْعَتي الطّواف حَال كَونه خَارِجا من الْمَسْجِد الْحَرَام، وَحَاصِله أَنه لَيْسَ لركعتي الطّواف مَوضِع معِين، بل يجوز إقامتهما فِي أَي مَوضِع أَرَادَ الطَّائِف وَإِن كَانَ ذَلِك خلف الْمقَام أفضل، وَلذَلِك ذكر عقيب هَذَا الْبَاب بَاب من صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام. فَإِن قلت: لم أطلق وَلم يبين الحكم. قلت: لِأَنَّهُ ذكر فِي هَذَا الْبَاب أثر عمر وَحَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أما عمر فَإِنَّهُ إِنَّمَا أخر رَكْعَتي الطّواف لكَونه طَاف: بعد الصُّبْح وَكَانَ لَا يرى التَّنَفُّل بعد الصُّبْح مُطلقًا. وَأما: أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَلِأَن تَركهَا رَكْعَتي الطّواف لكَونهَا شاكية، فَاحْتمل أَن يكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن لَهُ عذر.
وصَلَّى عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ خَارِجا مِنَ الحَرَمِ
أَي: صلى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَكْعَتي الطّواف خَارج الْحرم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن ابْن شهَاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن: أَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي أخبرهُ أَنه كَانَ مَعَ عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد صَلَاة الصُّبْح بِالْكَعْبَةِ، فَلَمَّا قضى طَوَافه نظر فَلم ير الشَّمْس، فَركب حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طوى فسبح رَكْعَتَيْنِ.
6261 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مَالِكٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن عُرْوَةَ عنْ زَيْنَبَ عَن أم سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ شَكَوْت إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ح) وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا أبُو مرْوَانَ يَحْيَى بنُ أبي زَكَرِيَّا الغَسَّانِيُّ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَهْوَ بِمَكَّةَ وأرادَ الخُرُوجَ ولَمْ تَكُنْ أُمُّ سلَمةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وأرَادتِ الخُروجَ فَقالَ لَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ فَطُوفي عَلى بَعِيرِكِ والنَّاسُ يُصَلُّونَ ففَعَلَتْ ذالِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حتَّى خَرَجَتْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلم تصل حَتَّى خرجت) ، أَي: فَلم تصل رَكْعَتي الطّواف حَتَّى خرجت من الْحرم، أَو من الْمَسْجِد، ثمَّ صلت. فَدلَّ هَذَا على جَوَاز تَأْخِير رَكْعَتي الطّواف إِلَى خَارج الْحرم وَأَن تَعْيِينهَا بِموضع غير لَازم، لِأَن التَّعْيِين لَو كَانَ شرطا لَازِما لما أقرّ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أم سَلمَة على ذَلِك، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة حسانن: (إِذا قَامَت صَلَاة الصُّبْح فطوفي على بعيرك من وَرَاء النَّاس وهم يصلونَ. قَالَت: فَفعلت ذَلِك وَلم أصل حَتَّى خرجت) أَي: فَصليت.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ أخرجه عَن طَرِيقين: الأول: عَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، عَن مَالك، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن نَوْفَل بن الْأسود الْأَسدي الْقرشِي الْمدنِي، يَتِيم عُرْوَة، عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أمهَا أم سَلمَة. وَالطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن جرب ضد الصُّلْح ابْن حربان أبي عبد الله الشَّامي، عَن أبي مَرْوَان يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الغساني الشَّامي، عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير، عَن أم سَلمَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين أَحدهمَا فِي رِوَايَته عَن شَيْخه، وَالْآخر: عَن شيخ شَيْخه وبصيغة الْإِفْرَاد عَن شَيْخه الآخر. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: مَالك وَمُحَمّد وَهِشَام وَعُرْوَة مدنيون، وَمُحَمّد بن حَرْب وَأَبُو مَرْوَان شاميان. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة الصحابية عَن الصحابية(9/269)
وَهِي رِوَايَة الْبِنْت عَن الْأُم. وَفِيه: رِوَايَة عُرْوَة عَن أم سَلمَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة، وَزَيْنَب زَائِدَة فِي هَذَا الطَّرِيق.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: وَهُوَ أَن البُخَارِيّ قد تجوز فِيهِ حَيْثُ عطف الطَّرِيق الثَّانِي على الطَّرِيق الأول، وَالْحَال أَن اللَّفْظَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، فَإِنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث بِالطَّرِيقِ الأول بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي بَاب إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد لِلْعِلَّةِ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره نَحوه، وَكَذَلِكَ أخرجه فِي: بَاب طواف النِّسَاء بِالرِّجَالِ، عَن قريب عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك إِلَى آخِره، وَقد قُلْنَا: إِن زَيْنَب فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ زَائِدَة، لِأَن أَبَا عَليّ بن السكن أخرجه: عَن عَليّ بن عبد الله بن مُبشر عَن مُحَمَّد بن حَرْب شيخ البُخَارِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر زَيْنَب. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب التتبع) : فِي طَرِيق يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الْمَذْكُور هَذَا مُنْقَطع، فقد رَوَاهُ حَفْص بن غياث عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أمهَا أم سَلمَة وَلم يسمعهُ عُرْوَة من أم سَلمَة، وَقَالَ الغساني: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَليّ بن السكن عَن الْفربرِي مُرْسلا، لم يذكر بَين عُرْوَة وَأم سَلمَة زَيْنَب، وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَة عَبدُوس الطليطلي عَن أبي زيد الْمروزِي، وَوَقع فِي نُسْخَة الْأصيلِيّ عُرْوَة عَن زَيْنَب عَنْهَا مُتَّصِلا، وَرِوَايَة ابْن السكن الْمُرْسلَة أصح فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ الْمَحْفُوظ. قيل: سَماع عُرْوَة عَن أم سَلمَة مُمكن، لِأَن مولده سنة سِتّ وَعشْرين، وَتوفيت أم سَلمَة قَرِيبا من السِّتين، وَهُوَ قطين بَلَدهَا فَمَا الْمَانِع من أَن يكون سَمعه أَولا من زَيْنَب عَنْهَا، ثمَّ سَمعه مِنْهَا؟ وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: وَوَقع لأبي الْحسن الْقَابِسِيّ فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث تَصْحِيف فِي نسب يحيى بن أبي زَكَرِيَّا، قَالَ العشاني، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة المخففة. وَقَالَ ابْن التِّين: يَعْنِي نِسْبَة إِلَى بني عشانة، وَقيل: هُوَ بِالْهَاءِ بِلَا نون نِسْبَة إِلَى بني عشاة. وَقيل: هُوَ العثماني، وكل ذَلِك تَصْحِيف، وَالصَّوَاب: الغساني، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى بني غَسَّان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِيمَن نسي رَكْعَتي الطّواف حَتَّى خرج من الْحرم أَو رَجَعَ إِلَى بِلَاده. فَقَالَ عَطاء وَالْحسن: يركعهما حَيْثُ مَا ذكر من حل أَو غَيره، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ مُوَافق لحَدِيث أم سَلمَة هَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهَا صلتهما فِي الْحرم أَو فِي الْحل. وَقَالَ الثَّوْريّ: يركعهما حَيْثُ شَاءَ مَا لم يخرج من الْحرم. وَقَالَ مَالك: إِن لم يركعهما حَتَّى تبَاعد وَرجع إِلَى بِلَاده فَعَلَيهِ دم، وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : من طَاف فِي غير أبان صَلَاة إخر الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِن خرج إِلَى الْحل ركعهما فِيهِ وتجزيانه مَا لم ينْتَقض وضوؤه، وَإِن انْتقض قبل أَن يركعهما وَكَانَ طَوَافه ذَلِك وَاجِبا فابتدأ بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ، وَركع لِأَن الرَّكْعَتَيْنِ من الطّواف توصلا بِهِ إِلَى أَن يتباعد، فليركعهما وَيهْدِي وَلَا يرجع، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ ذَلِك أَكثر من الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، وَلَيْسَ على من تَركهَا إلاَّ قَضَاؤُهَا حَيْثُ مَا ذكرهَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: وَإِذا فرغ من الطّواف يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي (السِّرَاجِيَّة) ، وَهُوَ الْأَفْضَل: وَإِن لم يقدر هُنَاكَ يُصَلِّي حَيْثُ تيَسّر لَهُ من الْمَسْجِد، وَفِي (الْخَانِية) : وَإِن صلى فِي غير الْمَسْجِد جَازَ، وَهَاتَانِ الركعتان واجبتان عندنَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: سنة، وَلنَا أنهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما انْتهى إِلَى مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . فصلى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ فيهمَا فَاتِحَة الْكتاب، وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد. ثمَّ عَاد إِلَى الرُّكْن فاستلمه ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا. رَوَاهُ مُسلم وَأحمد، فنبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن صلَاته كَانَت امتثالاً لأمر الله تَعَالَى، وَالْأَمر للْوُجُوب، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول، وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ عَنهُ: أَنَّهُمَا سنة وليستا بواجبتين. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: أَنَّهُمَا واجبتان فِي طواف الْفَرْض، سنتَانِ فِي طواف التَّطَوُّع، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِن فِي طرق الْأَئِمَّة مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا ركن أَو شَرط فِي الطّواف، وَهَذَا قَول رَابِع.
27 - (بابُ منْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ المَقَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي الطَّائِف الَّذِي صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام، وَكلمَة: من، هَذِه مَوْصُولَة وَلَيْسَت بشرطية، فَحَدِيث الْبَاب يدل عَلَيْهِ.
7261 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا عمرُو بنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي(9/270)
الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعا وصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَى الصَّفا وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى {لقَدْ كانَ لكُمْ فِي رسولِ الله أسوةٌ حسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 32) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي بَاب قَول الله عز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار الحَدِيث، وَقد مضى أَيْضا قبل هَذَا ببابين، وَالْمقَام حجر، وَقَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) : سَمِعت أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، قَامَ بِهَذَا الْمقَام، فيزعمون أَن ذَلِك أثر مقَامه، فَأوحى الله عز وَجل إِلَى أَن تفرج عَنهُ حَتَّى يرى أثر الْمَنَاسِك.
37 - (بابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ والْعَصْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الطّواف بعد صَلَاة الصُّبْح وَبعد صَلَاة الْعَصْر، هَذَا تَقْدِير الْكَلَام بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن يقدر هَكَذَا: بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة عقيب الطّواف بعد صَلَاة الصُّبْح وَبعد صَلَاة الْعَصْر، وَإِن لم يقدر. هَكَذَا لَا تقع الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين أَحَادِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين الحكم لوُرُود الْآثَار الْمُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ بَعضهم: وَيظْهر من صَنِيعه أَنه يخْتَار التَّوسعَة. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَاب السّنَن، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَغَيره من حَدِيث جُبَير بن مطعم: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يَا بني عبد منَاف، من ولي مِنْكُم من أَمر النَّاس شَيْئا فَلَا يمنعن أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت وَصلى أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار) . وَإِنَّمَا لم يُخرجهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه. انْتهى. قلت: لَيْت شعري من أَيْن يظْهر صَنِيعه بذلك، والترجمة مُطلقَة، وَمن أَيْن علم أَنه أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله؟ وَمن أَيْن علم أَنه وقف على حَدِيث جُبَير بن مطعم حَتَّى اعتذر عَنهُ بِأَنَّهُ لم يُخرجهُ لعدم شَرطه؟
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطُّوَاف مَا لَمْ تَطْلُعِ الشِّمْسُ
مطابقته للتَّرْجَمَة إِنَّمَا تتَوَجَّه من حَيْثُ التَّقْدِير الَّذِي قدرناه آنِفا. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عَطاء أَنهم صلوا الصُّبْح فغلس وَطَاف ابْن عمر بعد الصُّبْح سبعا، ثمَّ الْتفت، إِلَى أفق السَّمَاء، فَرَأى أَن عَلَيْهِ غلسا. قَالَ: فاتبعته حَتَّى أنظر أَي شَيْء يصنع، فصلى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: وَحدثنَا دَاوُد الْعَطَّار عَن عَمْرو بن دِينَار وَرَأَيْت ابْن عمر طَاف سبعا بعد الْفجْر، وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَرَاء الْمقَام. انْتهى. وَبِهَذَا قَالَ عَطاء وطاووس وَالقَاسِم وَعُرْوَة بن الزبير وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَذهب مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك فِي رِوَايَة إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة للطَّواف بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِعُمُوم حَدِيث عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، قَالَ: (ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَانَا أَن نصلي فِيهِنَّ) الحَدِيث، وَقد مر فِي: مَوَاقِيت الصَّلَاة، وَمَعَ هَذَا روى الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عمر خلاف مَا علقه البُخَارِيّ. قَالَ: حَدثنَا ابْن خُزَيْمَة حَدثنَا حجاج حَدثنَا همام حَدثنَا نَافِع أَن ابْن عمر قدم عِنْد صَلَاة الصُّبْح فَطَافَ وَلم يصلِّ إلاَّ بَعْدَمَا طلعت الشَّمْس، وَقَالَ سعيد بن أبي عرُوبَة فِي (الْمَنَاسِك) عَن أَيُّوب عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ لَا يطوف بعد صَلَاة الْعَصْر وَلَا بعد صَلَاة الصُّبْح، وَأخرجه ابْن الْمُنْذر أَيْضا من طَرِيق حَمَّاد عَن أَيُّوب أَيْضا، من طَرِيق أُخْرَى عَن نَافِع: كَانَ ابْن عمر إِذا طَاف بعد الصُّبْح لَا يُصَلِّي حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَإِذا طَاف بعد الْعَصْر لَا يُصَلِّي حَتَّى تغرب الشَّمْس. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) من رِوَايَة سعيد بن سَالم القداح عَن عبد الله بن المؤمل المَخْزُومِي عَن حميد مولى عفراء عَن قيس بن سعيد عَن مُجَاهِد، قَالَ: قدم أَبُو ذَر فَأخذ بِعِضَادَةِ بَاب الْكَعْبَة، ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا يصلين أحد بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَلَا بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، إلاَّ بِمَكَّة) . فَهَذَا يرد عُمُوم النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة. قلت: عبد الله بن المؤمل ضَعِيف، وَمُجاهد لم يسمع من أبي ذَر. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: يَا بني عبد منَاف! يَا بني عبد الْمطلب إِن وليتم هَذَا الْأَمر فَلَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت فصلى أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار) . قلت: قَالَ(9/271)
الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس إلاَّ سليم بن مُسلم.
وطافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوىً
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي عَن عمر بِهِ، وروى الْأَثْرَم عَن أَحْمد عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ مثله، إلاَّ أَنه قَالَ: عَن عُرْوَة، بدل: حميد، قَالَ أَحْمد: أَخطَأ فِيهِ سُفْيَان. قَالَ الْأَثْرَم: وَقد حَدثنِي بِهِ نوح بن يزِيد من أَصله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ، كَمَا قَالَ سُفْيَان. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخر الصَّلَاة إِلَى أَن يدْخل وفتها، وهذ بِحَضْرَة جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلم يُنكره عَلَيْهِ مِنْهُم أحد، وَلَو كَانَ ذَلِك الْوَقْت عِنْده وَقت صَلَاة الطّواف لصلى، وَلما أخر ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لأحد طَاف بِالْبَيْتِ إلاَّ أَن يُصَلِّي حِينَئِذٍ إلاَّ من عذر، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: (كُنَّا نطوف وَنَمْسَح الرُّكْن الْفَاتِحَة والخاتمة، وَلم نَكُنْ نطوف بعد صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَلَا بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب. قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: تطلع الشَّمْس فِي قَرْني شَيْطَان) ، وَفِي (سنَن) سعيد بن مَنْصُور وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه طَاف بعد الصُّبْح، فَلَمَّا فرغ جلس حَتَّى طلعت الشَّمْس. وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور: وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَالْحسن وَمُجاهد يكْرهُونَ ذَلِك أَيْضا.
8261 - حدَّثني الحسنُ بنُ عُمَرَ البَصْرِيُّ قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عنْ حَبِيبٍ عنْ عَطاءٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ نَاسا طَافُوا بالبَيْتِ بَعْدَ صلاةِ الصُّبحِ ثُمَّ قعدُوا إلَى المُذَكِّر حتَّى إِذا طلَعَتِ الشِّمْسُ قامُوا يُصلُّونَ فقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قعَدُوا حَتَّى إذَا كانَتِ السَّاعةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاةُ قامُوا يُصَلُّونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تتأتى إلاَّ من حَيْثُ التَّقْدِير الَّذِي قدرناه فِي التَّرْجَمَة، وَقَالَ بَعضهم: وَجه تعلق أَحَادِيث هَذَا الْبَاب بالترجمة إِمَّا من جِهَة أَن الطّواف صَلَاة، فحكمهما وَاحِد، أَو من جِهَة أَن الطّواف مُسْتَلْزم للصَّلَاة الَّتِي تشرع بعده. قلت: هَذَا أخده من كَلَام الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ بِوَجْه سديد، وَلَا نسلم أَن الطّواف صَلَاة، وَالَّذِي ورد فِي الحَدِيث: (أَن الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة) مجَاز لَيْسَ بِحَقِيقَة، وَلَا نسلم أَن حكمهمَا وَاحِد، فَإِن الطَّهَارَة شَرط فِي الصَّلَاة دون الطّواف، وَدَعوى الاستلزام مَمْنُوعَة كَمَا لَا يخفى.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: الْحسن بن عمر بن شَقِيق الْبَصْرِيّ قدم بَلخ فاقام بهَا نَحْو خمسين سنة ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَة فِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَمَات بهَا بعد ذَلِك الثَّانِي يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: حبيب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن أبي قريبَة الْمعلم، نَص عَلَيْهِ هَكَذَا الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ وحبِيب وَيزِيد بصريون وَعَطَاء مكي وَعُرْوَة مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون من غير نِسْبَة.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمُذكر) بتَشْديد الْكَاف الْمَكْسُورَة: اسْم فَاعل من التَّذْكِير، وَهُوَ الْوَعْظ، قَوْله: (حَتَّى طلعت الشَّمْس) يَعْنِي: إِلَى أَن طلعت الشَّمْس، يَعْنِي: كَانَ قعودهم منتهيا إِلَى طُلُوع الشَّمْس. قَوْله: (حَتَّى إِذا كَانَت السَّاعَة) أَي: عِنْد الطُّلُوع، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي هَهُنَا سؤالاً على قَاعِدَة مذْهبه، وَهُوَ أَن الْمَكْرُوه مِنْهَا يَعْنِي فِي هَذِه السَّاعَة صَلَاة لَا سَبَب لَهَا، وَهَذِه الصَّلَاة لَهَا سَبَب، وَهُوَ الطّواف ثمَّ أجَاب بقوله: هم كَانُوا يتحرون ذَلِك الْوَقْت ويؤخرونها إِلَيْهِ قصدا، فَلذَلِك ذمَّته، يَعْنِي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والتحري لَهُ وَإِن كَانَ لصَلَاة لَهَا سَبَب مَكْرُوه. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا يمشي إِذا كَانَت عَائِشَة ترى أَن الطّواف سَبَب لَا يكره مَعَ وجوده الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات المنهية، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن النَّهْي عِنْدهَا على الْعُمُوم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد حسن عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن عبد الْملك عَن عَطاء (عَن عَائِشَة، رَضِي(9/272)
الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَت: إِذا أردْت الطّواف بِالْبَيْتِ بعد صَلَاة الْفجْر أَو الْعَصْر فَطُفْ، وَأخر الصَّلَاة حَتَّى تغيب الشَّمْس أَو حَتَّى تطلع فصلِّ لكل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ) .
9261 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتْ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْهَى عنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وعِنْدَ غُرُوبِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة قد علمت فِيمَا مضى، ومباحثه قد تقدّمت فِي كتاب الصَّلَاة فِي الْمَوَاقِيت، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الخزامي الْمَدِينِيّ، وَأَبُو ضَمرَة، بالضاد الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة: اسْمه أنس بن عِيَاض الْمدنِي، وَكَانَ قد قدم بَلخ فِي ولَايَة نصر بن سيار، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة.
0361 - حدَّثني الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الزَّعْفَرَانِي قَالَ حدَّثنا عَبيدةُ بنُ حُمَيْدٍ قَالَ حدَّثني عَبْدُ العَزِيزِ بنُ رفيعٍ قَالَ رأيْتُ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَطوفُ بَعْدَ الفَجْرِ ويْصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ عَبْدُ العَزيزِ ورأيْتُ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي بَعْدَ العَصْرِ ويُخْبِرُ أنَّ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إلاَّ صَلاَّهُمَ..
قد مر وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الْبَاب وَلأَجل اخْتِلَاف الحكم فِي هَذَا الْبَاب لاخْتِلَاف الْآثَار فِيهِ، أطلق التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح أَبُو عَليّ الزَّعْفَرَانِي، مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ لثمان بَقينَ من رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عُبَيْدَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن حميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم التَّيْمِيّ. وَقيل: الضَّبِّيّ النَّحْوِيّ، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة تسعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة، أَتَى عَلَيْهِ نَيف وَتسْعُونَ سنة، وَكَانَ يتَزَوَّج فَلَا يمْكث حَتَّى تَقول الْمَرْأَة فارقني، من كَثْرَة جمَاعه. الرَّابِع: عبد الله بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوَاضِع ثَلَاثَة وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: الرُّؤْيَة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بغدادي وَعبيدَة كُوفِي وَعبد الْعَزِيز مكي سكن الْكُوفَة. وَفِيه: أَنه أوضح شَيْخه بقوله: هُوَ الزَّعْفَرَانِي لِأَن فِي الروَاة فِي الْكتاب الْحسن بن مُحَمَّد الْحَرَّانِي، وَالْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ، والزعفراني نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تَحت كلواذا وإليها ينْسب درب الزَّعْفَرَان بِبَغْدَاد، وَكثير من الْمُحدثين ينْسب إِلَى هَذَا الدَّرْب، وَجَمَاعَة مِنْهُم ينسبون إِلَى بيع الزَّعْفَرَان، وَفِي نواحي هَمدَان قَرْيَة تسمى: الزعفرانية، وَمِنْهُم من ينْسب إِلَى الزعافر. وَفِيه: أَن شَيْخه مَاتَ بعده بِأَرْبَع سِنِين لِأَن وَفَاته فِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، ووفاة شَيْخه سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَالَته لِأَن عَائِشَة خَالَة عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَفِيه: أَن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يطوف) جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (قَالَ عبد الْعَزِيز) هُوَ عبد الْعَزِيز بن رفيع الرَّاوِي، يَعْنِي: قَالَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَيْسَ بمعلق. قَوْله: (إلاَّ صلاهما) أَي: الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب مَا يصلى بعد الْعَصْر.
47 - (بابُ المَريض يَطُوفُ رَاكِبا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَرِيض حَال كَونه يطوف رَاكِبًا. قَوْله: (يطوف) و (رَاكِبًا) حالان مترادفتان أَو متداخلتان.
2361 - حدَّثني إسْحَاقُ الوَاسِطِيُّ قَالَ حَدثنَا خالِدٌ عَنْ خالِدٍ الحْذَّاءِ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاس(9/273)
ٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف بالبَيْتِ وَهْوَ عَلى بَعِيرٍ كُلَّما أَتَى على الرُّكْنِ أشارَ إلَيْهِ بِشَيءٍ فِي يَدِهِ وكبَّرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب التَّكْبِير عِنْد الرُّكْن. أخركه عَن مُسَدّد عَن خَالِد ... إِلَى آخِره. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب من أَشَارَ إِلَى الرُّكْن عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن خَالِد، وَهنا أخرجه عَن إِسْحَاق الوَاسِطِيّ وَهُوَ إِسْحَاق بن شاهين أَبُو بشر، وَفِي بعض النّسخ هَكَذَا: إِسْحَاق بن شاهين، بنسبته إِلَى أَبِيه، وَهُوَ من أَفْرَاده يروي عَن خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان عَن خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
3361 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنُ مُحمَّدِ بنِ عبْدِ الرحمانِ بنِ نوْفلٍ عنْ عُرْوَةَ عَن زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمةَ عَن أُمِّ سَلمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ شَكوْتُ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنِّي أشْتَكِي فَقَالَ طُوفي مِنْ وراءِ النَّاسِ وأنْتِ راكِبةٌ فطُفْتُ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ وهْوَ يَقرأ بالطُّورِ وكِتابٍ مسْطورٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب طواف النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك عَن مَالك، وَهنا أخرجه: عَن عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين القعْنبِي عَن مَالك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً. وَالله أعلم.
57 - (بابُ سِقَايَةِ الْحَاجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر سِقَايَة الْحَاج، والسقاية بِكَسْر السِّين مَا يبْنى للْمَاء، وَأما السِّقَايَة الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {اجعلتم سِقَايَة الْحَاج} (التَّوْبَة: 91) . فَهُوَ مصدر، وَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} (يُوسُف: 07) . مشربَة الْملك. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ الصواع الَّذِي كَانَ الْملك يشرب فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: سِقَايَة الْحَاج مَا كَانَت قُرَيْش تسقيه الْحَاج من الزَّبِيب المنبوذ فِي المَاء وَكَانَ يَليهَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، وَقَالَ الفاكهي: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد بن عبيد الله حَدثنَا ابْن جريج عَن عَطاء، قَالَ: سِقَايَة الْحَاج زَمْزَم. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ عبد منَاف يتَحَمَّل المَاء فِي الرَّوايا والقِرَب إِلَى مَكَّة ويسكبه فِي حِيَاض من أَدَم بِفنَاء الْكَعْبَة للْحَاج، ثمَّ فعله ابْنه هِشَام بعده، ثمَّ عبد الْمطلب، فَلَمَّا حفر زَمْزَم كَانَ يَشْتَرِي الزَّبِيب فنبذه فِي مَاء زَمْزَم. ويسقي النَّاس. وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: لما ولي قصي بن كلاب أَمر الْكَعْبَة كَانَ إِلَيْهِ الحجابة والسقاية واللواء والوفادة وَدَار الندوة، ثمَّ تصالح بنوه على أَن لعبد منَاف السِّقَايَة والوفادة، والبقية للآخرين. ثمَّ ذكر نَحْو مَا تقدم. قَالَ: ثمَّ ولي السِّقَايَة من بعد عبد الْمطلب وَلَده الْعَبَّاس، وَهُوَ يَوْمئِذٍ من أحدث إخْوَته سنا، فَلم تزل بِيَدِهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَام، وَهِي بِيَدِهِ، وأقرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه فَهِيَ الْيَوْم إِلَى بني الْعَبَّاس.
3461 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبي الأسْوَدِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عَن نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ اسْتأذَنَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَبيتَ بِمكَّةَ لَياليَ مِنىً منْ أجْلِ سِقايَتهِ فأذِنَ لهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من أجل سقايته) لِأَن السِّقَايَة كَانَت بِيَدِهِ بعد أَبِيه عبد الْمطلب كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا. والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأسود ضد الْأَبْيَض. وَقد مر فِي: بَاب فضل أللهم رَبنَا لَك الْحَمد، وَأَبُو ضَمرَة بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء، واسْمه أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قَوْله: (ليَالِي منى) هِيَ: لَيْلَة الْحَادِي عشر، وَالثَّانِي عشر، وَالثَّالِث عشر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا يدل على مَسْأَلَتَيْنِ:(9/274)
إِحْدَاهمَا: أَن الْمبيت بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق مَأْمُور بِهِ، وَهل هُوَ وَاجِب أَو سنة؟ قَالَ أَبُو حنيفَة: سنة. وَالْآخرُونَ: وَاجِب. وَالثَّانيَِة: يجوز لأهل السِّقَايَة أَن يتْركُوا هَذَا الْمبيت ويذهبوا إِلَى مَكَّة ليستقوا بِاللَّيْلِ المَاء من زَمْزَم، ويجعلوه فِي الْحِيَاض مسبلاً للْحَاج، وَلَا يخْتَص ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي بِالْعَبَّاسِ، بل كل من تولى السِّقَايَة كَانَ لَهُ ذَلِك، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تخْتَص الرُّخْصَة بِالْعَبَّاسِ، وَقَالَ بَعضهم: بآل الْعَبَّاس. انْتهى. قلت: قَالَ بَعضهم: تخْتَص ببني هَاشم من آل عَبَّاس وَغَيرهم، وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكره أَن لَا يبيت بمنى ليالى الرَمَل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَات بهَا، وَكَذَا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ يُؤَدب على تَركه، فَلَو بَات فِي غَيره مُتَعَمدا لَا يلْزمه شَيْء. وَقَالَ بَعضهم: الْمبيت فِي هَذِه اللَّيَالِي سنة عندنَا، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: رُوِيَ نَحوه عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن، وَقَالَ ابْن بطال: رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمبيت بمنى ليَالِي التَّشْرِيق من سنَن الْحَج بِلَا خلاف، إلاَّ لِذَوي السِّقَايَة أَو الرُّعَاة، وَمن تعجل بالنفر فِي ترك ذَلِك فِي لَيْلَة وَاحِدَة أَو جَمِيع اللَّيَالِي كَانَ عَلَيْهِ دم عِنْد مَالك، وَقَالَ السفاقسي: الْمبيت بهَا مَأْمُور بِهِ، وإلاَّ فَكَانَ يجوز للْعَبَّاس وَغَيره ذَلِك دون إرخاص، وَهُوَ أَن يبيت من جَمْرَة الْعقبَة إِلَيْهَا، وَقَالَ مَالك: من بَات وَرَاء الْجَمْرَة فَعَلَيهِ الْفِدْيَة وَوَجهه أَنه يبيت بِغَيْر منى وَهُوَ مبيت مَشْرُوع فِي الْحَج فَلَزِمَ الدَّم بِتَرْكِهِ كالمبيت بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَعند ابْن أبي شيبَة عَن زيد بن حباب أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع أَنبأَنَا عَمْرو ابْن دِينَار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا رميت الْجمار بت حَيْثُ شِئْت. حَدثنَا زيد بن حباب أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابْن أبي نجيح عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس أَن يبيت الرجل بِمَكَّة ليَالِي منى إِذا كَانَ فِي ضيعته. وَمن حَدِيث لَيْث عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لَا يبيتن أحد من وَرَاء الْعقبَة لَيْلًا بمنى أَيَّام التَّشْرِيق. وَمن حَدِيث عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن عمر كَانَ ينْهَى أَن يبيت أحد من وَرَاء الْعقبَة، وَكَانَ يَأْمُرهُم أَن يدخلُوا منى. وَمن حَدِيث حجاج عَن عَطاء أَن ابْن عمر كَانَ يكره أَن ينَام أحد أَيَّام منى بِمَكَّة. وَمن حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد: لَا بَأْس أَن يكون أول اللَّيْل بِمَكَّة وَآخره بمنى، وَلَا بَأْس أَن يكون أول اللَّيْل بمنىٍ وأخره بِمَكَّة. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب من السّنة إِذا زرت الْبَيْت أَن لَا تبيت إلاَّ بمنى. وَعَن أبي قلَابَة: إجعلوا أَيَّام منى بمنى. وَعَن عُرْوَة: لَا يبيتن أحد من وَرَاء الْعقبَة أَيَّام التَّشْرِيق. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا بَات دون الْعقبَة اهراق لذَلِك دَمًا. وَعَن عَطاء: يتَصَدَّق بدرهم أَو نَحوه. وَعَن سَالم: يتَصَدَّق بدرم، والأسانيد إِلَيْهِم صَحِيحَة.
وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : وَمن المعذورين من لَهُ مَال يخَاف ضيَاعه إِن اشْتغل بالمبيت، أَو يخَاف على نَفسه، أَو كَانَ بِهِ مرض أَو لَهُ مَرِيض يطْلب آبقا وَشبه ذَلِك، فَفِي هَؤُلَاءِ وَجْهَان، الصَّحِيح الْمَنْصُوص: يجوز لَهُم ترك الْمبيت، وَلَا شَيْء عَلَيْهِم بِسَبَبِهِ، وَلَهُم النَّفر بعد الْغُرُوب وَلَو ترك البيات نَاسِيا كَانَ كتركه عَامِدًا. وَفِي (التَّوْضِيح) : لَا يحصل الْمبيت إلاَّ بمعظم اللَّيْل، وَفِي قَول: إِن الِاعْتِبَار بِوَقْت بِطُلُوع الْفجْر، وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : من بَات عَنْهَا كل اللَّيْل فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من كَانَ لَهُ مناخ بِمَكَّة يخْشَى عَلَيْهِ ضيَاعه بَات بهَا، وَمُقْتَضَاهُ إِبَاحَته للْعُذْر، وَعَلِيهِ دم على مُقْتَضى قَول ابْن نَافِع فِي (مبسوطه) : من زار الْبَيْت فَمَرض وَبَات بِمَكَّة فَعَلَيهِ هدي يَسُوقهُ من الْحل إِلَى الْحرم، وَإِن بَات اللَّيَالِي كلهَا بِمَكَّة قَالَ الدَّاودِيّ: فَقيل: عَلَيْهِ شَاة، وَقيل: بَدَنَة.
5361 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فاسْتَسْقَى فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا فَضْلُ اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ فاتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ اسْقِنِي قَالَ يَا رَسولَ الله إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيهِمْ فِيهِ قَالَ إسْقِنِي فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أتَى زَمْزْمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فِيهَا فقَال اعْمَلُوا فإنَّكُمُ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حَتَّى أضَعَ الحَبْلَ عَلى هاذهِ يَعْنِي عاتِقَهُ وأشَارَ إلَى عاتِقِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، هَذَا الأسناد بِعَيْنِه مضى فِي أول: بَاب الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن(9/275)
شاهين الوَاسِطِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هُوَ إِسْحَاق بن بشر، وَهُوَ وهم، وخَالِد الأول: هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وَالثَّانِي: خَالِد ابْن مهْرَان الْحذاء.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، قد ذكرنَا أَن السِّقَايَة مَا يبْنى للْمَاء، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسقى فِيهِ المَاء، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ فِيهِ الشَّرَاب فِي الْمَوْسِم وَغَيره. قَوْله: (فَاسْتَسْقَى) أَي: طلب الشّرْب. قَوْله: (يَا فضل) ، هُوَ ابْن الْعَبَّاس أَخُو عبد الله، وأمهما لبَابَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. قَوْله: (إِنَّهُم يجْعَلُونَ إيديهم فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْعَبَّاس وَهُوَ فِي السِّقَايَة فَقَالَ: إسقوني. قَالَ الْعَبَّاس: إِن هَذَا قد مرت يَعْنِي: قد مرس أَفلا أسقيك مِمَّا فِي بُيُوتنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إسقوني مِمَّا يشرب النَّاس، فَأتى بِهِ فذاقه، فقطب ثمَّ دَعَا بِمَاء فَكَسرهُ، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ نبيذكم فاكسروه بِالْمَاءِ، وتقطيبه مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لحموضة فَقَط، وكسره بِالْمَاءِ ليهون عَلَيْهِ شربه، وَمثل ذَلِك يحمل على مَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ لَا غير. وروى مُسلم من حَدِيث بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ ابْن عَبَّاس عِنْد الْكَعْبَة، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي فَقَالَ: مَا لي أرى بني عمكم يسقون الْعَسَل وَاللَّبن وَأَنْتُم تسقون النَّبِيذ؟ أَمن حَاجَة بكم أم من بخل؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْحَمد لله، مَا بِنَا من حَاجَة وَلَا بخل، قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَاحِلَته وَخَلفه أُسَامَة، فَاسْتَسْقَى، فأتيناه بِإِنَاء فِيهِ نَبِيذ فَشرب وَسَقَى فَضله أُسَامَة، وَقَالَ: أَحْسَنْتُم وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا، وَلَا نزيد مَا أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ: اسْقِنِي) ويروى: (فَقَالَ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَذهب فَأتى بِالشرابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إسقني. قَوْله: (وهم يسقون) ، جملَة حَالية أَي: يسقون النَّاس. قَوْله: (ويعملون فِيهَا) ، أَي: ينزحون مِنْهَا المَاء. قَوْله: (لَوْلَا أَن تغلبُوا) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لَوْلَا أَن يجْتَمع عَلَيْكُم النَّاس، وَمن كَثْرَة الزحام تصيرون مغلوبين. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي أَنكُمْ لَا تتركوني أستقي وَلَا أحب أَن أفعل بكم مَا تَكْرَهُونَ فتغلبوا. وَقيل: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَن تقع عَلَيْكُم الْغَلَبَة بِأَن يجب عَلَيْكُم ذَلِك بِسَبَب فعلي. وَقيل. مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تغلبُوا بِأَن ينتزعها الْوُلَاة مِنْكُم حرصا على حِيَازَة هَذِه المكرمة. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني عبد الْمطلب وهم يسقون على زَمْزَم، فَقَالَ: إنزغوا بني عبد الْمطلب، فلولا أَن يغلبكم النَّاس على سِقَايَتكُمْ لنزغت مَعكُمْ، فناولوه دلوا فَشرب مِنْهُ) . وَذكر ابْن السكن أَن الَّذِي نَاوَلَهُ الدَّلْو هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن الظَّاهِر أَن أَفعاله فِيمَا يتَّصل بِأُمُور الشَّرِيعَة على الْوُجُوب، فَتَركه الْفِعْل شَفَقَة أَن يتَّخذ سنة، قَالَه الْخطابِيّ. وَفِيه: الشّرْب من سِقَايَة الْحَاج، وَقَالَ طَاوُوس: الشّرْب من سِقَايَة الْعَبَّاس من تَمام الْحَج، وَقَالَ عَطاء: لقد أدْركْت هَذَا الشَّرَاب، وَأَن الرجل ليشْرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فَلَمَّا ذهبت الْحُرِّيَّة وَولى العبيد تهاونوا بِالشرابِ واستخفوا بِهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن السَّائِب بن عبد الله أَنه أَمر مُجَاهدًا مَوْلَاهُ بِأَن يشرب من سِقَايَة الْعَبَّاس وَيَقُول: إِنَّه من تَمام السّنة. وَقَالَ الرّبيع بن سعد: أَتَى أَبُو جَعْفَر السِّقَايَة فَشرب وَأعْطى جعفرا فَضله، وَمِمَّنْ شرب مِنْهَا: سعيد بن جُبَير وَأمر بِهِ سُوَيْد بن غَفلَة: وروى ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن عمر لم يكن يشرب من النَّبِيذ فِي الْحَج، وَكَذَا روى خَالِد ابْن أبي بكر أَنه حج مَعَ سَالم مَا لَا يُحْصى، فَلم يره يشرب من نَبِيذ السِّقَايَة. وَفِيه: إِثْبَات أَمر السِّقَايَة للْحَاج، وَأَن مشروعيته من بَاب إكرام الضَّيْف واصطناع الْمَعْرُوف. وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تحرم عَلَيْهِ الصَّدقَات الَّتِي سَبِيلهَا الْمَعْرُوف كالمياه الَّتِي تكون فِي السقايات تشربها الْمَارَّة. وَقَالَ ابْن التِّين: شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو أَن يكون ذَلِك من مَال الْكَعْبَة الَّذِي كَانَ يُؤْخَذ لَهَا من الْخمس، أَو من مَال الْعَبَّاس الَّذِي عمله للغني وَالْفَقِير، فَشرب مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليسهل على النَّاس. وَفِيه: أَنه لَا يكره طلب السَّقْي من الْغَيْر. وَفِيه: رد مَا يعرض على الْمَرْء من الْإِكْرَام إِذا عارضته مصلحَة أولى مِنْهُ، لِأَن رده لما عرض عَلَيْهِ الْعَبَّاس مِمَّا يُؤْتى بِهِ من بَيته لمصْلحَة التَّوَاضُع الَّتِي ظَهرت من شربه مِمَّا يشرب مِنْهُ النَّاس. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي سقِِي المَاء خُصُوصا مَاء زَمْزَم. وَفِيه: تواضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: حرص أَصْحَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الِاقْتِدَاء بِهِ. وَفِيه: كَرَاهَة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الطَّهَارَة لتنَاوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الشَّرَاب الَّذِي غمست فِيهِ الْأَيْدِي، قَالَه ابْن التِّين، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.(9/276)
(بابُ مَا جاءَ فِي زَمْزَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي ذكر زَمْزَم من الْآثَار. قيل: وَلم يذكر مَا جَاءَ فِيهِ من فَضله، لِأَنَّهُ كَانَ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ، وَاكْتفى بِذكرِهِ مُجَردا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن حَدِيث الْبَاب يدل على فَضلهَا، لِأَن فِيهِ: (فَفرج صَدْرِي ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) ، وَهَذَا يدل قطعا على فَضلهَا حَيْثُ اخْتصَّ غسل صَدره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمَائِهَا دون غَيرهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وسقيا إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي (مُعْجم مَا استعجم) : هِيَ بِفَتْح الأول وَسُكُون الثَّانِي وَفتح الزَّاي الثَّانِيَة، قَالَ: وَيُقَال بِضَم الأول وَفتح الثَّانِي وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة، وَيُقَال بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه وتشديده وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة. وَفِي (كتاب الْأَزْهَرِي) عَن ابْن الْأَعرَابِي: زَمْزَم وزمم وزمزام، وَتسَمى: ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وهمزمة جِبْرِيل، وهزمة جِبْرِيل، بِتَقْدِيم الزَّاي، وهزمة الْملك، وَتسَمى: الشباعة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَرَوَاهُ الخازرنجي: شباعة، وَقَالَ صاعد فِي (الفصوص) وَمن أسمائها: تكْتم، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت زَمْزَم لِأَن بابل بن ساسان حَيْثُ سَار إِلَى الْيمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، فَلَمَّا احتفرها عبد الْمطلب أصَاب السيوف والحلي فِيهِ سميت زَمْزَم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَأْخُذ المَاء يَمِينا وَشمَالًا، وَلَو تركت لساحت على وَجه الأَرْض حَتَّى مَلأ كل شَيْء. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: سميت بزمزمة المَاء، وَهُوَ حركته، وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مُشْتَقَّة من قَوْلهم: مَاء زمزوم وزمزام أَي: كثير. وَفِي (الموعب) : مَاء زَمْزَم وزمازم، وَهُوَ الْكثير وَعَن ابْن هِشَام: الزمزمة عِنْد الْعَرَب الْكَثْرَة والاجتماع، وَذكر المَسْعُودِيّ أَن الْفرس كَانَت تحج إِلَيْهَا فِي الزَّمن الأول، والزمزمة صَوت تخرجه الْفرس من خياشيمها.
وَمن فضائلها: مَا رَوَاهُ مُسلم: شرب أَبُو ذَر مِنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْسَ لَهُ طَعَام غَيرهَا. وَأَنه سمن، فَأخْبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَقَالَ: إِنَّهَا مباركة، إِنَّهَا طَعَام طعم وَزَاد أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وشفاء سقم، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: (مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ) ، رِجَاله ثقاة إلاَّ أَنه اخْتلف فِي إرْسَاله وَوَصله، وإرساله أصح. وَعَن أم أَيمن، قَالَت: (مَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شكى جوعا قطّ وَلَا عطشا، كَانَ يَغْدُو إِذا أصبح فيشرب من مَاء زَمْزَم شربه، فَرُبمَا عرضنَا عَلَيْهِ الطَّعَام فَيَقُول: لَا أَنا شبعان شبعان) . ذكره فِي (المُصَنّف الْكَبِير) فِي شرف الْمُصْطَفى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن عقيل ابْن أبي طَالب، قَالَ: كُنَّا إِذا أَصْبَحْنَا وَلَيْسَ عندنَا طَعَام قَالَ لنا أبي ائْتُوا زَمْزَم فنأتيها فنشرب مِنْهَا فنجتزىء، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا: (وَهِي هزمة جِبْرِيل وسقيا إِسْمَاعِيل) ، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أنبط بِئْر زَمْزَم مرَّتَيْنِ: مرّة لآدَم، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى انْقَطَعت زمن الطوفان، وَمرَّة لإسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام، وروى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد: (أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لرجل: إِذا شربت من زَمْزَم فَاسْتقْبل الْكَعْبَة، وَاذْكُر اسْم الله، عز وَجل، فَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: آيَة مَا بَيْننَا وَبَين الْمُنَافِقين أَنهم لَا يتضلعون من زَمْزَم) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَن عبد الله كَانَ إِذا شرب مِنْهَا، قَالَ: أللهم إِنِّي أسأك علما نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وشفاء من كل دَاء. وروى أَحْمد بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث جَابر فِي ذكر حجَّته، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ عَاد إِلَى الْحجر ثمَّ ذهب إِلَى زَمْزَم فَشرب مِنْهَا وصب على رَأسه، ثمَّ رَجَعَ فاستلم الرُّكْن ... الحَدِيث.
5361 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فاسْتَسْقَى فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا فَضْلُ اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ فاتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ اسْقِنِي قَالَ يَا رَسولَ الله إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيهِمْ فِيهِ قَالَ إسْقِنِي فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أتَى زَمْزْمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فِيهَا فقَال اعْمَلُوا فإنَّكُمُ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حَتَّى أضَعَ الحَبْلَ عَلى هاذهِ يَعْنِي عاتِقَهُ وأشَارَ إلَى عاتِقِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، هَذَا الأسناد بِعَيْنِه مضى فِي أول: بَاب الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هُوَ إِسْحَاق بن بشر، وَهُوَ وهم، وخَالِد الأول: هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وَالثَّانِي: خَالِد ابْن مهْرَان الْحذاء.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، قد ذكرنَا أَن السِّقَايَة مَا يبْنى للْمَاء، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسقى فِيهِ المَاء، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ فِيهِ الشَّرَاب فِي الْمَوْسِم وَغَيره. قَوْله: (فَاسْتَسْقَى) أَي: طلب الشّرْب. قَوْله: (يَا فضل) ، هُوَ ابْن الْعَبَّاس أَخُو عبد الله، وأمهما لبَابَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. قَوْله: (إِنَّهُم يجْعَلُونَ إيديهم فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْعَبَّاس وَهُوَ فِي السِّقَايَة فَقَالَ: إسقوني. قَالَ الْعَبَّاس: إِن هَذَا قد مرت يَعْنِي: قد مرس أَفلا أسقيك مِمَّا فِي بُيُوتنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إسقوني مِمَّا يشرب النَّاس، فَأتى بِهِ فذاقه، فقطب ثمَّ دَعَا بِمَاء فَكَسرهُ، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ نبيذكم فاكسروه بِالْمَاءِ، وتقطيبه مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لحموضة فَقَط، وكسره بِالْمَاءِ ليهون عَلَيْهِ شربه، وَمثل ذَلِك يحمل على مَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ لَا غير. وروى مُسلم من حَدِيث بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ ابْن عَبَّاس عِنْد الْكَعْبَة، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي فَقَالَ: مَا لي أرى بني عمكم يسقون الْعَسَل وَاللَّبن وَأَنْتُم تسقون النَّبِيذ؟ أَمن حَاجَة بكم أم من بخل؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْحَمد لله، مَا بِنَا من حَاجَة وَلَا بخل، قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَاحِلَته وَخَلفه أُسَامَة، فَاسْتَسْقَى، فأتيناه بِإِنَاء فِيهِ نَبِيذ فَشرب وَسَقَى فَضله أُسَامَة، وَقَالَ: أَحْسَنْتُم وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا، وَلَا نزيد مَا أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ: اسْقِنِي) ويروى: (فَقَالَ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَذهب فَأتى بِالشرابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إسقني. قَوْله: (وهم يسقون) ، جملَة حَالية أَي: يسقون النَّاس. قَوْله: (ويعملون فِيهَا) ، أَي: ينزحون مِنْهَا المَاء. قَوْله: (لَوْلَا أَن تغلبُوا) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لَوْلَا أَن يجْتَمع عَلَيْكُم النَّاس، وَمن كَثْرَة الزحام تصيرون مغلوبين. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي أَنكُمْ لَا تتركوني أستقي وَلَا أحب أَن أفعل بكم مَا تَكْرَهُونَ فتغلبوا. وَقيل: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَن تقع عَلَيْكُم الْغَلَبَة بِأَن يجب عَلَيْكُم ذَلِك بِسَبَب فعلي. وَقيل. مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تغلبُوا بِأَن ينتزعها الْوُلَاة مِنْكُم حرصا على حِيَازَة هَذِه المكرمة. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني عبد الْمطلب وهم يسقون على زَمْزَم، فَقَالَ: إنزغوا بني عبد الْمطلب، فلولا أَن يغلبكم النَّاس على سِقَايَتكُمْ لنزغت مَعكُمْ، فناولوه دلوا فَشرب مِنْهُ) . وَذكر ابْن السكن أَن الَّذِي نَاوَلَهُ الدَّلْو هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن الظَّاهِر أَن أَفعاله فِيمَا يتَّصل بِأُمُور الشَّرِيعَة على الْوُجُوب، فَتَركه الْفِعْل شَفَقَة أَن يتَّخذ سنة، قَالَه الْخطابِيّ. وَفِيه: الشّرْب من سِقَايَة الْحَاج، وَقَالَ طَاوُوس: الشّرْب من سِقَايَة الْعَبَّاس من تَمام الْحَج، وَقَالَ عَطاء: لقد أدْركْت هَذَا الشَّرَاب، وَأَن الرجل ليشْرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فَلَمَّا ذهبت الْحُرِّيَّة وَولى العبيد تهاونوا بِالشرابِ واستخفوا بِهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن السَّائِب بن عبد الله أَنه أَمر مُجَاهدًا مَوْلَاهُ بِأَن يشرب من سِقَايَة الْعَبَّاس وَيَقُول: إِنَّه من تَمام السّنة. وَقَالَ الرّبيع بن سعد: أَتَى أَبُو جَعْفَر السِّقَايَة فَشرب وَأعْطى جعفرا فَضله، وَمِمَّنْ شرب مِنْهَا: سعيد بن جُبَير وَأمر بِهِ سُوَيْد بن غَفلَة: وروى ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن عمر لم يكن يشرب من النَّبِيذ فِي الْحَج، وَكَذَا روى خَالِد ابْن أبي بكر أَنه حج مَعَ سَالم مَا لَا يُحْصى، فَلم يره يشرب من نَبِيذ السِّقَايَة. وَفِيه: إِثْبَات أَمر السِّقَايَة للْحَاج، وَأَن مشروعيته من بَاب إكرام الضَّيْف واصطناع الْمَعْرُوف. وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تحرم عَلَيْهِ الصَّدقَات الَّتِي سَبِيلهَا الْمَعْرُوف كالمياه الَّتِي تكون فِي السقايات تشربها الْمَارَّة. وَقَالَ ابْن التِّين: شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو أَن يكون ذَلِك من مَال الْكَعْبَة الَّذِي كَانَ يُؤْخَذ لَهَا من الْخمس، أَو من مَال الْعَبَّاس الَّذِي عمله للغني وَالْفَقِير، فَشرب مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليسهل على النَّاس. وَفِيه: أَنه لَا يكره طلب السَّقْي من الْغَيْر. وَفِيه: رد مَا يعرض على الْمَرْء من الْإِكْرَام إِذا عارضته مصلحَة أولى مِنْهُ، لِأَن رده لما عرض عَلَيْهِ الْعَبَّاس مِمَّا يُؤْتى بِهِ من بَيته لمصْلحَة التَّوَاضُع الَّتِي ظَهرت من شربه مِمَّا يشرب مِنْهُ النَّاس. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي سقِِي المَاء خُصُوصا مَاء زَمْزَم. وَفِيه: تواضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: حرص أَصْحَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الِاقْتِدَاء بِهِ. وَفِيه: كَرَاهَة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الطَّهَارَة لتنَاوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الشَّرَاب الَّذِي غمست فِيهِ الْأَيْدِي، قَالَه ابْن التِّين، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
(بابُ مَا جاءَ فِي زَمْزَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي ذكر زَمْزَم من الْآثَار. قيل: وَلم يذكر مَا جَاءَ فِيهِ من فَضله، لِأَنَّهُ كَانَ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ، وَاكْتفى بِذكرِهِ مُجَردا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن حَدِيث الْبَاب يدل على فَضلهَا، لِأَن فِيهِ: (فَفرج صَدْرِي ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) ، وَهَذَا يدل قطعا على فَضلهَا حَيْثُ اخْتصَّ غسل صَدره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمَائِهَا دون غَيرهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وسقيا إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي (مُعْجم مَا استعجم) : هِيَ بِفَتْح الأول وَسُكُون الثَّانِي وَفتح الزَّاي الثَّانِيَة، قَالَ: وَيُقَال بِضَم الأول وَفتح الثَّانِي وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة، وَيُقَال بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه وتشديده وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة. وَفِي (كتاب الْأَزْهَرِي) عَن ابْن الْأَعرَابِي: زَمْزَم وزمم وزمزام، وَتسَمى: ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وهمزمة جِبْرِيل، وهزمة جِبْرِيل، بِتَقْدِيم الزَّاي، وهزمة الْملك، وَتسَمى: الشباعة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَرَوَاهُ الخازرنجي: شباعة، وَقَالَ صاعد فِي (الفصوص) وَمن أسمائها: تكْتم، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت زَمْزَم لِأَن بابل بن ساسان حَيْثُ سَار إِلَى الْيمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، فَلَمَّا احتفرها عبد الْمطلب أصَاب السيوف والحلي فِيهِ سميت زَمْزَم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَأْخُذ المَاء يَمِينا وَشمَالًا، وَلَو تركت لساحت على وَجه الأَرْض حَتَّى مَلأ كل شَيْء. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: سميت بزمزمة المَاء، وَهُوَ حركته، وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مُشْتَقَّة من قَوْلهم: مَاء زمزوم وزمزام أَي: كثير. وَفِي (الموعب) : مَاء زَمْزَم وزمازم، وَهُوَ الْكثير وَعَن ابْن هِشَام: الزمزمة عِنْد الْعَرَب الْكَثْرَة والاجتماع، وَذكر المَسْعُودِيّ أَن الْفرس كَانَت تحج إِلَيْهَا فِي الزَّمن الأول، والزمزمة صَوت تخرجه الْفرس من خياشيمها.
وَمن فضائلها: مَا رَوَاهُ مُسلم: شرب أَبُو ذَر مِنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْسَ لَهُ طَعَام غَيرهَا. وَأَنه سمن، فَأخْبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَقَالَ: إِنَّهَا مباركة، إِنَّهَا طَعَام طعم وَزَاد أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وشفاء سقم، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: (مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ) ، رِجَاله ثقاة إلاَّ أَنه اخْتلف فِي إرْسَاله وَوَصله، وإرساله أصح. وَعَن أم أَيمن، قَالَت: (مَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شكى جوعا قطّ وَلَا عطشا، كَانَ يَغْدُو إِذا أصبح فيشرب من مَاء زَمْزَم شربه، فَرُبمَا عرضنَا عَلَيْهِ الطَّعَام فَيَقُول: لَا أَنا شبعان شبعان) . ذكره فِي (المُصَنّف الْكَبِير) فِي شرف الْمُصْطَفى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن عقيل ابْن أبي طَالب، قَالَ: كُنَّا إِذا أَصْبَحْنَا وَلَيْسَ عندنَا طَعَام قَالَ لنا أبي ائْتُوا زَمْزَم فنأتيها فنشرب مِنْهَا فنجتزىء، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا: (وَهِي هزمة جِبْرِيل وسقيا إِسْمَاعِيل) ، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أنبط بِئْر زَمْزَم مرَّتَيْنِ: مرّة لآدَم، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى انْقَطَعت زمن الطوفان، وَمرَّة لإسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام، وروى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد: (أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لرجل: إِذا شربت من زَمْزَم فَاسْتقْبل الْكَعْبَة، وَاذْكُر اسْم الله، عز وَجل، فَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: آيَة مَا بَيْننَا وَبَين الْمُنَافِقين أَنهم لَا يتضلعون من زَمْزَم) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَن عبد الله كَانَ إِذا شرب مِنْهَا، قَالَ: أللهم إِنِّي أسأك علما نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وشفاء من كل دَاء. وروى أَحْمد بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث جَابر فِي ذكر حجَّته، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ عَاد إِلَى الْحجر ثمَّ ذهب إِلَى زَمْزَم فَشرب مِنْهَا وصب على رَأسه، ثمَّ رَجَعَ فاستلم الرُّكْن ... الحَدِيث.
6361 - وَقَالَ عَبْدَانُ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزهْرِيِّ قَالَ أنَسُ بنُ مالِكٍ كانَ أبُو ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فُرِجَ سَقْفِي وَأَنا بِمَكَّةَ فنَزَلَ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلاَمُ ففَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِىءٍ حكْمَةً وَإيمَانا فأفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أطْبَقَهُ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ قَالَ منْ هاذا قَالَ جِبْرِيلُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) ، فَإِن ذكر زَمْزَم جَاءَ فِي الحَدِيث وَهُوَ يدل على فضل زَمْزَم حَيْثُ اخْتصَّ غسله(9/277)
بهَا دون غَيرهَا من الْمِيَاه، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب كَيفَ فرضت الصَّلَاة فِي الْإِسْرَاء، فِي أول كتاب الصَّلَاة مُسْندًا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَر يحدث ... إِلَى آخِره، وَذكره هُنَا مُخْتَصرا مُعَلّقا عَن عَبْدَانِ، واسْمه عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي عَن عبد الله ابْن الْمُبَارك الْمروزِي عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
7361 - حدَّثنا محَمَّدٌ هُوَ ابنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا الْفَزَارِيُّ عنْ عاصِمٍ عنِ الشَّعْبِيِّ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حدَّثَهُ قَالَ سَقَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وهْوَ قائِمٌ قالَ عَاصِمٌ فحَلَفَ عِكْرَمَةُ مَا كانَ يَوْمَئِذٍ إلاَّ عَلى بَعِيرٍ.
(الحَدِيث 7361 طرفه فِي: 7165) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ ذكر زَمْزَم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام بن الْفرج أَبُو عبد الله البيكندي. الثَّانِي: الْفَزارِيّ، بِكَسْر الْفَاء بعْدهَا الزَّاي، وَهُوَ مَرْوَان بن مُعَاوِيَة. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه ذكر مُجَردا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: هُوَ ابْن سَلام، بِذكر أَبِيه. وَفِيه: أَن الْفَزارِيّ وَالشعْبِيّ كوفيان، وَأَن عَاصِمًا بَصرِي. وَفِيه: أَن الْفَزارِيّ وَالشعْبِيّ مذكوران بِالنِّسْبَةِ، وَأَن شَيْخه فِي أَكثر الرِّوَايَة وعاصما مذكوران مجردين عَن النِّسْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي كَامِل الجحدري، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَعَن شُرَيْح بن يُونُس وَعَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي وَإِسْمَاعِيل بن سَالم وَعَن عبد الله بن معَاذ وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَشْرِبَة عَن أَحْمد بن منيع، وَفِي الشَّمَائِل عَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن سُوَيْد بن سعيد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَحلف عِكْرِمَة: مَا كَانَ) أَي: مَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ يَعْنِي يَوْم سقى ابْن عَبَّاس، رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مَاء زَمْزَم، وَفِي لفظ ابْن مَاجَه، قَالَ عَاصِم: فَذكرت ذَلِك لعكرمة فَحلف بِاللَّه مَا فعل! أَي: مَا شرب قَائِما لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الرُّخْصَة فِي الشّرْب قَائِما. وَقيل: إِن الشّرْب من زَمْزَم من غير قيام يشق لارْتِفَاع مَا عَلَيْهَا من الْحَائِط. وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن الشّرْب من مَاء زَمْزَم من سنَن الْحَج. فَإِن قلت: روى ابْن جرير عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ لَا يشرب مِنْهَا فِي الْحَج قلت: لَعَلَّه إِنَّمَا تَركه لِئَلَّا يظنّ أَن شربه من الْفَرْض اللَّازِم، وَقد فعله أَولا مَعَ أَنه كَانَ شَدِيد الِاتِّبَاع للآثار، بل لم يكن أحدا تبع لَهَا مِنْهُ، وَنَصّ أَصْحَاب الشَّافِعِي على شربه، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: نجدها فِي كتاب الله: شراب الْأَبْرَار، وَطَعَام طعم وشفاء سقم، لَا تنزح وَلَا تزم، من شرب مِنْهَا حَتَّى يتضلع أحدثت لَهُ شِفَاء وأخرجت عَنهُ دَاء.
وَاعْلَم أَنه رُوِيَ فِي الشّرْب قَائِما أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: النَّهْي عَن ذَلِك، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ مُسلم بقوله: بَاب الزّجر عَن الشّرْب قَائِما. وَحدثنَا هداب بن خَالِد حَدثنَا همام حَدثنَا قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زجر عَن الشّرْب قَائِما، وَفِي لفظ لَهُ عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه نهى أَن يشرب الرجل قَائِما. قَالَ قَتَادَة: فَقُلْنَا: فالأكل؟ قَالَ: ذَاك أَشد وأخبث. وَفِي رِوَايَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زجر عَن الشّرْب قَائِما. وَفِي لفظ: نهى عَن الشّرْب قَائِما، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يشربن أحدكُم قَائِما، فَمن نسي فليستق) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْجَارُود بن الْمُعَلَّى أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن الشّرْب قَائِما. وَمِنْهَا: إِبَاحَة الشّرْب قَائِما، فَمن ذَلِك(9/278)
مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: بَاب الشّرْب قَائِما، على مَا يَأْتِي، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم حدنا مسعر عَن عبد الْملك بن ميسرَة عَن النزال، قَالَ: أَتَى عَليّ.، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على بَاب الرحبة بِمَاء، فَشرب قَائِما، فَقَالَ: إِن نَاسا يكره أحدهم أَن يشرب وَهُوَ قَائِم، وَإِنِّي رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل كَمَا رَأَيْتُمُونِي فعلت) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (كُنَّا نَأْكُل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نمشي، وَنَشْرَب وَنحن قيام) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح غَرِيب، وروى أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده. (قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشرب قَائِما وَقَاعِدا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وروى الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا ربيع الجيزي قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق ابْن أبي فَرْوَة الْمدنِي، قَالَ: حَدَّثتنَا عُبَيْدَة بنت نابل عَن عَائِشَة بنت سعد) عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشرب قَائِما) . وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي (مُسْنده) نَحوه، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الْكَرِيم ابْن مَالك: (قَالَ: أَخْبرنِي الْبَراء بن زيد أَن أم سليم حدثته أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرب وَهُوَ قَائِم فِي قربَة) . وَفِي لفظ لَهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل عَلَيْهَا، وَفِي بَيته قربَة معلقَة، فَشرب من الْقرْبَة قَائِما. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن هَذِه الْأَحَادِيث أشكل مَعْنَاهَا على بعض الْعلمَاء، حَتَّى قَالَ فِيهَا أقوالاً بَاطِلَة، وَالصَّوَاب مِنْهَا: أَن النَّهْي مَحْمُول على كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَأما شربه قَائِما فلبيان الْجَوَاز، وَمن زعم نسخا فقد غلط، فَكيف يكون النّسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع، وَإِنَّمَا يكون نسخا لَو ثَبت التاريح فأنَّى لَهُ ذَلِك؟ وَقَالَ الطَّحَاوِيّ مَا ملخصه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بِهَذَا النَّهْي الإشفاق على أمته، لِأَنَّهُ يخَاف من الشّرْب قَائِما الضَّرَر، وحدوث الدَّاء، كَمَا قَالَ لَهُم: أما أَنا فَلَا آكل مُتكئا. انْتهى. قلت: اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِيهِ، فَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة: إِلَى كَرَاهَة الشّرْب قَائِما. وَرُوِيَ ذَلِك عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذهب الشّعبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وزادان وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد إِلَى أَنه لَا بَأْس بِهِ، ويروى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَسعد وَعمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
77 - (بابُ طَوَاف القَارِن)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان طواف الْقَارِن، فَهَل يَكْتَفِي بِطواف وَاحِد. أَو لَا بُد لَهُ من طوافين، وَإِنَّمَا لم يبين ذَلِك، بل أطلق للِاخْتِلَاف فِيهِ على مَا يجيىء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
8361 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فأهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قالَ مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بالحَجِّ والْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنا حائِضٌ فلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنا أرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمانِ إلَى التَّنْعِيمُ فاعْتَمَرْتُ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ فَطَافَ الَّذِينَ أهَلُّوا بِالعُمْرَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافا آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنىً وأمَّا الَّذِين جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والْعُمْرَةِ فإنَّمَا طَافُوا طَوَافا وَاحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة) لِأَنَّهُ هُوَ الْقَارِن، فِيهِ بَيَان طَوَافه أَنه وَاحِد، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب كَيفَ تهل الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وَهنا: عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن مَالك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً، وَلَكِن نتكلم فِيهِ للرَّدّ على بَعضهم فِي رده على الإِمَام أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ من غير وَجه لأريحية العصبية فِيهِ.
فَنَقُول أَولا مَا ذكره الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: بَاب الْقَارِن كم عَلَيْهِ من الطّواف لعمرته ولحجته؟ حَدثنَا صَالح بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن إِدْرِيس الْمَكِّيّ قَالَا: حَدثنَا سعيد بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز(9/279)
ابْن مُحَمَّد عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة كَفاهُ لَهما طواف وَاحِد وسعي وَاحِد، ثمَّ لَا يحل حَتَّى لَا يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالُوا: على الْقَارِن بَين الْحَج وَالْعمْرَة طواف وَاحِد لَا يجب عَلَيْهِ من الطّواف غَيره، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: بل يطوف لكل وَاحِد مِنْهُمَا طَوافا وَاحِدًا وَيسْعَى سعيا وَاحِدًا، وَكَانَ من الْحجَّة لَهُم فِي ذَلِك أَن هَذَا الحَدِيث خطأ أَخطَأ فِيهِ الدَّرَاورْدِي فرفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أَصله عَن ابْن عمر نَفسه، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ وهم مَعَ هَذَا لَا يحتجون بالدراوردي، عَن عبيد الله أصلا، فَلم يحتجون لَهُ فِي هَذَا، فَأَما مَا رَوَاهُ الْحفاظ من ذَلِك عَن عبيد الله، فَمَا حَدثنَا صَالح بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا سعيد ابْن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا هشيم، قَالَ: حَدثنَا عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، أَنه كَانَ يَقُول: إِذا قرن طَاف لَهما طَوافا وَاحِدًا، فَإِذا فرق طَاف لكل مِنْهُمَا طَوافا، وسعى سعيا انْتهى. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل، بعد أَن نقل كَلَام الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ تَعْلِيل مَرْدُود، فالدراوردي صدق، وَلَيْسَ مَا رَوَاهُ مُخَالفا لما رَوَاهُ غَيره، فَلَا مَانع أَن يكون الحَدِيث عِنْد نَافِع على الْوَجْهَيْنِ. انْتهى. قلت: الْمَرْدُود مَا قَالَه وَذهب إِلَيْهِ من غير تَحْقِيق النّظر فِيهِ، فَهَل يحل رد مَا لَا يرد لأجل مَا قصر فِيهِ فهمه، وَكثر تعنته ومصادمته للحق الأبلج؟ أَفلا وقف هَذَا على مَا قَالَه التِّرْمِذِيّ بعد أَن ذكر الحَدِيث الْمَذْكُور؟ وَقد رَوَاهُ غير وَاحِد عَن عبيد الله وَلم يرفعوه، وَهُوَ أصح. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : لم يرفعهُ أحد عَن عبيد الله غير الدَّرَاورْدِي وكل من رَوَاهُ عَنهُ غَيره، أوقفهُ على ابْن عمر، وَكَذَا رَوَاهُ مَالك عَن نَافِع مَوْقُوفا، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: الدَّرَاورْدِي سيء الْحِفْظ، ذكره عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي (الكاشف) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَحَدِيثه عَن عبيد الله مُنكر، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ كثير الحَدِيث يغلط.
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: واحتجت الْحَنَفِيَّة بِمَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَطَافَ لَهما طوافين وسعى لَهما سعيين، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل، وَطَرِيقه عَن عَليّ عِنْد عبد الرَّزَّاق وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهمَا ضَعِيفَة، وَكَذَا أخرج من حَدِيث ابْن مَسْعُود بِإِسْنَاد ضَعِيف نَحوه، وَأخرج من حَدِيث ابْن عمر نَحْو ذَلِك، وَفِيه: الْحسن بن عمَارَة وَهُوَ مَتْرُوك. انْتهى. قلت: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) عَن حَمَّاد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ (عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: طفت مَعَ أبي، وَقد جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَطَافَ لَهما طوافين، وسعى لَهما سعيين، وحَدثني أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فعل ذَلِك، وحدثه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك.
فَإِن قلت: قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) وَحَمَّاد: هَذَا ضعفه الْأَزْدِيّ؟ قلت: ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من وُجُوه عَن الْحسن ابْن عمَارَة، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوك، وَعَن حَفْص بن أبي دَاوُد عَن ابْن أبي ليلى. وَقَالَ حَفْص: ضَعِيف، وَعَن عِيسَى بن عبد الله ابْن عَليّ، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوك، قلت: إِذا كثرت طرق الحَدِيث، وَلَو كَانَ فِيهَا ضعفاء تتعاضد وتتقوى.
وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا (عَن أبي النَّضر، قَالَ: أَهلَلْت بِالْحَجِّ فأدركت عليا فَقلت لَهُ: إِنِّي أَهلَلْت بِالْحَجِّ أفأستطيع أَن أضيف إِلَيْهِ عمْرَة؟ قَالَ: لَا لَو كنت أَهلَلْت بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أردْت أَن تضيف إِلَيْهَا الْحَج ضممته. قَالَ: قلت: كَيفَ أصنع إِذا أردْت ذَلِك؟ قَالَ: تصب عَلَيْك إداوة مَاء، ثمَّ تحرم بهما جَمِيعًا وَتَطوف لكل وَاحِد مِنْهُمَا طَوافا) ، وَعنهُ عَن عَليّ وَعبد الله قَالَا: الْقَارِن يطوف طوافين، وَيسْعَى سعيين ثمَّ اعْترض هَذَا الْقَائِل أَيْضا على الطَّحَاوِيّ حَيْثُ قَالَ، فِي قَول عَائِشَة: وَأما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا، أَن مرادها جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة جمع مُتْعَة لَا جمع قرَان، بقوله: وَإِنِّي لكثير التَّعَجُّب مِنْهُ فِي هَذَا الْموضع، كَيفَ سَاغَ لَهُ هَذَا التَّأْوِيل؟ وَحَدِيث عَائِشَة مفصل للحالتين، فَإِنَّهَا صرحت بِفعل من تمتّع، ثمَّ بِمن قرن حَيْثُ، قَالَت: فَطَافَ الَّذين أهلوا بِالْعُمْرَةِ ثمَّ حلوا، ثمَّ طافوا طَوافا آخر بعد أَن رجعُوا من منى، فَهَؤُلَاءِ أهل التَّمَتُّع، ثمَّ قَالَت: وَأما الَّذين جمعُوا، إِلَى آخِره، فَهَؤُلَاءِ أهل القِران، وَهَذَا أبين من أَن يحْتَاج إِلَى بَيَان. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره مُتَعَجِّبا أَخذه من كَلَام الْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ شنع على الطَّحَاوِيّ فِي كتاب (الْمعرفَة) بِغَيْر معرفَة، حَيْثُ قَالَ: وَزعم بعض من يَدعِي فِي هَذَا تَصْحِيح الْأَخْبَار على مذْهبه، إِنَّمَا أَرَادَت بِهَذَا الْجمع جمع مُتْعَة لَا جمع قرَان. قَالَت: فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا فِي حجتهم، لِأَن حجتهم كَانَت مَكِّيَّة، وَالْحجّة المكية لَا يُطَاف لَهَا قبل عَرَفَة، وَكَيف استجاز لدينِهِ أَن يَقُول مثل هَذَا، وَفِي حَدِيثهَا أَنَّهَا أفردت من جمع بَينهمَا جمع مُتْعَة أَولا بِالذكر، فَذكرت كَيفَ طافوا فِي عمرتهم ثمَّ كَيفَ طافوا فِي حجتهم، ثمَّ لم يبْق إلاَّ المفردون والقارنون،(9/280)
فَجمعت بَينهم فِي الذّكر، وأخبرت أَنهم إِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا، وَأَنَّهَا أَرَادَت بَين الصَّفَا والمروة، وَلما ذكرنَا من الدّلَالَة مَعَ كَونه معقولاً، وَلَو اقتصرت على اللَّفْظَة الْأَخِيرَة لم يجز حملهَا أَيْضا، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اقتصارا على طواف وَاحِد لكل مَا حصل بِهِ الْجمع، وَالْجمع إِنَّمَا حصل بِالْعُمْرَةِ وَالْحج جَمِيعًا، فَيَقْتَضِي اقتصارا على طواف وَاحِد لَهما جَمِيعًا لَا لأَحَدهمَا، والمتمتع لَا يقْتَصر على طواف وَاحِد بِالْإِجْمَاع، فَدلَّ على أَنَّهَا أَرَادَت بِهَذَا الْجمع جمع قرَان. انْتهى. قلت: لم يتَأَمَّل الْبَيْهَقِيّ كَلَام الطَّحَاوِيّ لغشيان التعصب على فكره، أَلا ترى كَيفَ يؤول قَوْلهَا: فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا أَنَّهَا أَرَادَت بِهَذَا السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، فَمَا الضَّرُورَة إِلَى تَأْوِيل الطّواف بالسعي؟ بل المُرَاد الطّواف بِالْبَيْتِ. وَقَوله: تَقْتَضِي اقتصارا على طواف وَاحِد ... إِلَى آخِره، لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ: إِن حجتهم تِلْكَ صَارَت مَكِّيَّة وَالْحجّة المكية يُطَاف لَهَا بعد عَرَفَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يقْتَصر الْمُتَمَتّع على طواف وَاحِد، على أَنا نقُول: أَحَادِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي هَذَا الْبَاب مضطربة جدا لَا يتم بهَا الِاسْتِدْلَال لأحد من الْخُصُوم. وَقد قَالَت فِي رِوَايَة: أَهْلَلْنَا بِعُمْرَة وَفِي أُخْرَى فمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل بِحَجّ. قَالَت: وَلم أهل إلاَّ بِحَجّ، وَفِي أُخْرَى: خرجنَا لَا نُرِيد إلاَّ الْحَج، وَفِي أُخْرَى لبينا بِالْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى: مهلين بِالْحَجِّ، وَالْكل صَحِيح. وَفِي رِوَايَة: وَكنت مِمَّن تمتّع وَلم يسق الْهَدْي حَتَّى، قَالَ مَالك: لَيْسَ الْعَمَل على حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَدِيما وحديثا.
وَسَأَلَ الْكرْمَانِي عَن وَجه الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات، ثمَّ قَالَ: قَالُوا وَجهه أَنهم أَحْرمُوا بِالْحَجِّ، ثمَّ لما أَمرهم بِالْفَسْخِ إِلَى الْعمرَة أحرم أَكْثَرهم متمتعين، وَبَعْضهمْ بِسَبَب الْهَدْي بقوا على مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَبَعْضهمْ صَارُوا قارنين، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل الْمُعْتَرض: قَالَ عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سَلمَة بن كهيل، قَالَ: حلف طَاوُوس مَا طَاف أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحجه وعمرته إلاَّ طَوافا وَاحِدًا، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَفِيه: بَيَان ضعف مَا روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا من ذَلِك، انْتهى. قلت: لَيْسَ شعري مَا وَجه هَذَا الْبَيَان؟ وعجبي كَيفَ يلهج هَذَا الْقَائِل بِهَذَا القَوْل الَّذِي لَا يجديه شَيْئا؟ وَنقل هَذَا الْيَمين عَن طَاوُوس كَاد أَن يكون محالاً لعدم الْقُدْرَة على الْإِحَاطَة على أطوفة الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ، وَالْكَلَام أَيْضا فِي الروَاة من دون عبد الرَّزَّاق.
قَوْله: (فَلَمَّا قضينا حجنا) ، وَذَلِكَ بعد أَن طهرت وطافت بِالْبَيْتِ أرسلها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى التَّنْعِيم، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون، وبالعين الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة. قَوْله: (مَكَان عمرتك) ، نصب على الظّرْف أَي بدل عمرتك، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تطييبا لقلبها، وَيُقَال: مَعْنَاهُ مَكَان عمرتك الَّتِي تركتهَا لأجل حيضك. قَوْله: (فَإِنَّمَا طافوا) ، وَفِي كثير من النّسخ طافوا بِدُونِ لفظ، فَإِنَّمَا، وَبِدُون الْفَاء فِي طافوا، وَهَذَا دَلِيل جَوَاز حذف الْفَاء فِي جَوَاب: أما، مَعَ أَن النُّحَاة صَرَّحُوا بِلُزُوم ذكره إلاَّ فِي ضَرُورَة الشّعْر، وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز حذف الْفَاء مُسْتقِلّا، لَكِن يجوز حذفهَا مَعَ القَوْل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتهم بعد إيمَانكُمْ} (آل عمرَان: 601) . إِذْ تَقْدِيره: فَالْقَوْل لَهُم هَذَا الْكَلَام، وَقَالَ ابْن مَالك، هَذَا الحَدِيث وأخواته كَقَوْلِه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أما مُوسَى كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ) ، وَأما بعد: مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا) ، فمخالف لهَذِهِ الْقَاعِدَة، فَعلم أَن من خصّه بِمَا إِذا حذف القَوْل مَعَه فَهُوَ مقصر فِي فتواه، عَاجز عَن نصْرَة دَعْوَاهُ.
9361 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا ابنُ علِيَّةَ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا دخَلَ ابنُهُ عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الله وظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ إنِّي لاَ آمَن أَن يَكُونَ العَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتالٌ فيَصُدُّوكَ عَنِ البَيْتِ فَلَوْ أقَمْتَ فَقَالَ قَدْ خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بيْنَهُ وبَيْنَ الْبَيْتِ فإنْ حِيلَ بَيْنِي وبَيْنَهُ أفْعَلْ كَما فعلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رسولِ الله أسْوَةٌ حسَنَةٌ ثُمَّ قالَ أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ معَ عُمْرَتِي حَجا قَالَ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُما طَوافا وَاحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَطَافَ لَهما طَوافا وَاحِدًا) ، وَهَذَا طواف الْقَارِن عِنْده كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَمن قَالَ بقوله.
ذكر(9/281)
رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي، يكنى بِأبي يُوسُف. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ اسْم أمه، وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سهم، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَقد مر غير مرّة. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه هُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وينسب إِلَى دورق فَيُقَال لَهُ الدَّوْرَقِي، وَلَيْسَ من بلد دورق، وَإِنَّمَا كَانُوا يلبسُونَ قلانس تسمى الدورقية، فنسبوا إِلَيْهَا. وَفِيه: أَن ابْن علية وَأَيوب بصريان ونافعا مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل وَعَن عَليّ بن حجر وَزُهَيْر بن حَرْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل ابْنه) أَي: ابْن عبد الله بن عمر. قَوْله: (عبد الله بن عبد الله) هُوَ بَيَان لَهُ. قَوْله: (وظهره) بِالرَّفْع مبتد وَقَوله: (فِي الدَّار) ، خَبره، وَالْجُمْلَة وَقعت حَالا، وَالْمرَاد من الظّهْر مركوبه الَّذِي يركبه من الْإِبِل، وَحَاصِل الْمَعْنى أَن عبد الله بن عمر كَانَ عَازِمًا على الْحَج، وأحضر مركوبه ليركب عَلَيْهِ، وَيتَوَجَّهُ فَقَالَ لَهُ ابْنه عبد الله، إِنِّي لَا آمن أَن يكون الْعَام، أَي: فِي هَذَا الْعَام قتال فيصدوك أَي يمنعوك عَن الْبَيْت، وَذَلِكَ كَانَ فِي عَام نزل الْحجَّاج لقِتَال عبد الله بن الزبير، وَصرح بذلك مُسلم فِي رِوَايَته، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا يحيى، وَهُوَ الْقطَّان عَن عبيد الله قَالَ: (حَدثنِي نَافِع أَن عبد الله بن عبد الله وَسَالم بن عبد الله حِين نزل الْحجَّاج لقِتَال ابْن الزبير قَالَا: لَا يَضرك أَن لَا تحج الْعَام؟ فَإنَّا نخشى أَن يكون بَين النَّاس قتال يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت. قَالَ: إِن حيل بيني وَبَينه فعلت كَمَا فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا مَعَه: حِين حَالَتْ كفار قُرَيْش بَينه وَبَين الْبَيْت أشهدكم أَنِّي قد أوجبت عمْرَة: فَانْطَلق) الحَدِيث. قَوْله: (إِنِّي لَا آمن) بِالْمدِّ، وَفتح الْمِيم المخففة أَي: أَخَاف، هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي (إِنِّي لَا أَيمن) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم، وَهِي لُغَة تَمِيم، فَإِنَّهُم يكسرون الْهمزَة فِي أول مُسْتَقْبل ماضيه على: فعل، بِالْكَسْرِ وَلَا يكسرون إِذا كَانَ ماضيه بِالْفَتْح إلاَّ أَن يكون فِيهِ حرف حلق نَحْو: إذهب وَالْحق. وَقيل: قَوْله: (لَا أَيمن)) بِالْكَسْرِ إمالة، وَوَقع فِي بعض الْكتب: لَا أَيمن، بِالْفَتْح وَالْيَاء، وَلَا وَجه لَهُ فَاعْلَم. قَوْله: (فَلَو أَقمت) يحْتَمل أَن يكون كلمة: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَيحْتَمل أَن تكون للشّرط وجزاؤه مَحْذُوف أَي: فَلَو أَقمت: فِي هَذِه السّنة، وَتركت الْحَج لَكَانَ خيرا لعدم الْأَمْن. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: عبد الله بن عمر لأبنه عبد الله. قَوْله: (إفعل) بِالْجَزْمِ، لِأَنَّهُ جَزَاء، والجزم فِيهِ وَاجِب، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير: أَنا أفعل. قَوْله: (كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي فِي الْحُدَيْبِيَة حِين منعُوهُ عَن دُخُول مَكَّة وقصته مَشْهُورَة. قَوْله: (ثمَّ قدم) أَي: إِلَى مَكَّة. قَوْله: (لَهما) ، أَي: للْعُمْرَة وَالْحج، وَبِه احْتج الشَّافِعِي وَمن مَعَه فِي أَن الْقَارِن يَكْفِي لَهُ طواف وَاحِد، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ، لِأَن المُرَاد من هَذَا الطّواف طواف الْقدوم.
0461 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ أَن ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أرادَ الحجَّ عامَ نزَلَ الْحَجَّاجُ بابنِ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ لهُ إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَإنَّا نَخَافُ أنْ يَصُدُّوكَ فقالَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوَةٌ حسَنَةٌ إِذا أصْنَعُ كمَا صنَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي أشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ عُمْرَةً ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إذَا كانَ بِظَاهِرِ البَيْدَاءِ قَالَ مَا شأنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلاَّ وَاحِدٌ اشْهِدُكْمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ حَجّا مَعَ عُمْرَتِي وأهْدَى هَدْيا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ ولَمْ يَزِدْ عَلَى ذالِكَ فَلَمْ يَنْحَرْ ولَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ ولَمْ يَحْلِقْ ولَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كانَ يَوْمَ النَّحْرِ فنحَرَ وحلَقَ ورَأى أنْ قَدْ قضَى طَوَافَ الحَجِّ والْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كذَلِكَ فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله بطوافه الأول، وَهَذَا طَرِيق ثَان للْحَدِيث السَّابِق، رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن اللَّيْث بن سعد عَن نَافِع إِلَى قَوْله: (عَام نزل الْحجَّاج) ، عَام، مَنْصُوب على الظّرْف، وَالْحجاج هُوَ ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، كَانَ مُتَوَلِّي العراقين(9/282)
من جِهَة الْملك عبد الْملك بن مَرْوَان، وَأمره عبد الْملك أَن يتَوَجَّه إِلَى مَكَّة لقِتَال عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ دعى لَهُ بالخلافة فَلم يطع عبد الْملك، فَقدم الْحجَّاج إِلَى مَكَّة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين، وَأقَام الْحصار عَلَيْهِ من أول شعْبَان مِنْهَا، وقصته مَشْهُورَة. قَوْله: (بِابْن الزبير) ، أَي: نزل الْحجَّاج ملتبسا بِهِ على وَجه الْمُقَاتلَة. قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي: لِابْنِ عمر، وَقد صرح فِي (صَحِيح مُسلم) أَن عبد الله وسالما ابْني عبد الله بن عمر هما القائلان بذلك، وَلَفظه: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا يحيى، وَهُوَ الْقطَّان عَن عبيد الله إِلَى آخِره، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب فِي هَذَا الْبَاب. قَوْله: (كَائِن بَينهم قتال) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن، وقتال مَرْفُوع بِأَنَّهُ فَاعل كَائِن، وَيجوز أَن ينْتَصب على التَّمْيِيز أَو على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (إِذا) كلمة: إِذن، حرف جَوَاب وَجَزَاء وَشرط إعمالها أَن تتصدر، فَإِن وَقعت حَشْوًا أهملت، وَإِن كَانَ السَّابِق عَلَيْهَا واوا أَو فَاء جَازَ النصب نَحْو: وَإِذا لَا يَلْبَثُوا فَأذن لَا يؤتوا، وَالْغَالِب الرّفْع، وَإِذا كَانَ فعلهَا مُسْتَقْبلا يجب الرّفْع كَمَا هُوَ هُنَا. قَوْله: (إِنِّي أشهدكم) إِنَّمَا قَالَ هَذَا وَلم يكتف بِالنِّيَّةِ ليعمله من أَرَادَ الِاقْتِدَاء بِهِ. قَوْله: (الْبَيْدَاء) مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة قُدَّام ذِي الحليفة، وَهُوَ فِي الأَصْل الأَرْض الملساء والمفازة. قَوْله: (إلاَّ وَاحِد) ، بِالرَّفْع ويروى: وَاحِدًا، بِالنّصب على مَذْهَب يُونُس، فَإِنَّهُ جوزه مستشهدا بقوله:
(وَمَا الدَّهْر إلاَّ منجنونا بأَهْله ... وَمَا صَاحب الْحَاجَات إلاَّ معذبا)
يَعْنِي: حكمهمَا وَاحِد فِي جَوَاز التَّحَلُّل مِنْهُمَا بالإحصار. قَوْله: (وَأهْدى) فعل ماضٍ من الإهداء. قَوْله: (بِقديد) ، بِضَم الْقَاف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ اسْم مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم مَاء هُنَاكَ. قَوْله: (وَلم يزدْ على ذَلِك) ، لِأَنَّهُ لم يجب عَلَيْهِ دم بارتكاب مَحْظُورَات الْإِحْرَام. قَوْله: (حَتَّى كَانَ) ، لفظ: حَتَّى، غَايَة للأفعال الْأَرْبَعَة. قَوْله: (قضى) ، مَعْنَاهُ: أدّى. قَوْله: (كَذَلِك فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: طَاف طَوافا وَاحِدًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا دَلِيل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا. قلت: غَرَضه من هَذَا أَن الْقَارِن يَكْتَفِي بِطواف وَاحِد لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يجوز أَن يُرَاد بقوله: الطّواف الأول طواف الْقدوم، بل مَعْنَاهُ أَنه لم يتَكَرَّر الطّواف لِلْقُرْآنِ، بل يكْتَفى بِطواف وَاحِد. وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن يُقَال لمن احْتج بِهَذَا الحَدِيث فِي اكْتِفَاء الْقَارِن بِطواف وَاحِد، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا، كَيفَ تَعْمَلُونَ بِهِ؟ وَقد روى الزُّهْرِيّ عَن سَالم أَن عبد الله بن عمر قَالَ: تمنع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، وَأهْدى وسَاق الهذي من ذِي الحليفة، وَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأهل بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهل بِالْحَجِّ وتمتع النَّاس مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، الحَدِيث بِطُولِهِ، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، على مَا يَأْتِي عَن البُخَارِيّ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا ابْن عمر يخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع مُتَمَتِّعا وَأَنه بَدَأَ بِالْعُمْرَةِ، وَقد حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن بكر بن عبد الله عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه قدمُوا ملبين بِالْحَجِّ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من شَاءَ أَن يَجْعَلهَا عمْرَة إلاَّ من كَانَ مَعَه الْهَدْي فَأخْبر ابْن عمر فِي حَدِيث بكر هَذَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة وَهُوَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ، وَقد أخبر فِي حَدِيث سَالم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَدَأَ فَأحْرم بِالْعُمْرَةِ، فَهَذَا مَعْنَاهُ عندنَا، وَالله أعلم، أَنه كَانَ أحرم أَولا بِحجَّة على أَنَّهَا حجَّة، ثمَّ فَسخهَا فصيرها عمْرَة، فلبى بِالْعُمْرَةِ ثمَّ تمتّع بهَا إِلَى الْحَج، حَتَّى يَصح حَدِيث سَالم وَبكر، هذَيْن وَلَا يتضادان، وَفسخ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج الَّذِي كَانَ فعله وَأمر بِهِ أَصْحَابه هُوَ بعد طوافهم بِالْبَيْتِ فاستحال بذلك أَن يكون الطّواف الَّذِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله للْعُمْرَة الني انقلبت إِلَيْهَا حجَّته مجزيا عَنهُ من طواف حجَّته الَّتِي أحرم بهَا بعد ذَلِك، وَلَكِن وَجه ذَلِك عندنَا، وَالله تَعَالَى أعلم أَنه لم يطف لحجته قبل يَوْم النَّحْر لِأَن الطّواف الَّذِي يفعل قبل يَوْم النَّحْر فِي الْحجَّة إِنَّمَا يفعل للقدوم لَا لِأَنَّهُ من صلب الْحجَّة، فَاكْتفى ابْن عمر بِالطّوافِ الَّذِي كَانَ فعله بعد الْقدوم فِي عمرته عَن إِعَادَته فِي حجَّته، وَهَذَا مثل مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَيْضا من فعله: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ إِذا قدم مَكَّة يرمل بِالْبَيْتِ، ثمَّ طَاف بَين الصَّفَا والمروة، وَإِذا لبّى من مَكَّة بهَا لم يرمل بِالْبَيْتِ، وَأخر الطّواف بَين الصَّفَا والمروة إِلَى يَوْم النَّحْر، وَكَانَ لَا يرمل يَوْم النَّحْر، فَدلَّ مَا ذكرنَا أَن ابْن عمر كَانَ إِذا أحرم بِالْحجَّةِ من مَكَّة لم يطف لَهَا إِلَى يَوْم النَّحْر، فَكَذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من إِحْرَامه بِالْحجَّةِ الَّتِي أحرم بهَا بعد فسخ حجَّته(9/283)
الأولى لم يكن طَاف لَهَا إِلَى يَوْم النَّحْر، فَلَيْسَ فِي حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حكم طواف الْقَارِن لعمرته وحجته شَيْء، وَثَبت بِمَا ذكرنَا مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من أَن الْقَارِن لَا يَكْتَفِي بِطواف وَاحِد، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
87 - (بابُ الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الطّواف على الْوضُوء، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين أَن الْوضُوء مشرط فِي الطّواف أم لَا لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1461 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسَى قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخبرَنِي عَمْرُو بنُ الحَارثِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحمانِ بنِ نَوْفَلِ الْقُرَشِيِّ أنَّهُ سَألَ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ قَدْ حَجَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرَتْنِي عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهُ أوَّلُ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ حِينَ قَدِمَ أنَّهُ تَوَضَّأ ثُمَّ طافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فكانَ أوَّلَ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمَّ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَرَأيْتُهُ أوَّلُ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثمَّ مُعَاوِيةُ وعَبدُ الله بنُ عُمرَ ثُم حَججْتُ مَعَ ابنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ فَكَانَ أوَّلَ شَيءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمَّ رَأيْتُ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وهاذا ابنُ عُمرَ عِنْدَهُمْ فَلاَ يَسْألُونَهُ ولاَ أحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كانُوا بِشيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ وقَدْ رَأيْتُ أمِّي وخالَتِي حِينَ تَقْدِمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيءٍ أوَّلَ مِنَ البَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لاَ يَحِلاَّنِ. وقَدْ أخْبَرَتْنِي أُمِّي أنَّها أهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا والزُّبَيْرُ وفُلانٌ وفُلانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَنه تَوَضَّأ) ، وَقد مر الحَدِيث فِي: بَاب من طَاف بِالْبَيْتِ إِذا قدم مَكَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إصبغ عَن ابْن وهب الْمصْرِيّ إِلَى آخِره مُخْتَصرا. وَأخرجه هُنَا بأتم مِنْهُ عَن أَحْمد بن عِيسَى أبي عبد الله التسترِي، مصري الأَصْل، وَكَانَ يتجر إِلَى تستر، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. يروي عَن عبد الله ابْن وهب الْمصْرِيّ.
قَوْله: (سَأَلَ عُرْوَة بن الزبير) فَقَالَ: فِيهِ حذف تَقْدِيره سَأَلَ عُرْوَة بن الزبير كَيفَ بلغه خبر حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أَي: عُرْوَة، قد حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (حِين قدم) أَي: مَكَّة. قَوْله: (ثمَّ لم تكن عمْرَة) بِالرَّفْع وَالنّصف على تَقْدِير كَون: لم تكن، تَامَّة أَو نَاقِصَة. قَوْله: (ثمَّ عمر) أَي: ثمَّ حج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مثل ذَلِك أَي: مثل مَا حج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فرأيته أول شَيْء) لفظ أول بِالنّصب لِأَنَّهُ بدل عَن الضَّمِير. قَوْله: (الطّواف) بِالنّصب أَيْضا لِأَنَّهُ مفعول ثَان. قَوْله: (ثمَّ مُعَاوِيَة) أَي: ثمَّ حج مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (مَعَ أبي الزبير) لَيْسَ بكنية، بل قَوْله: الزبير، بِالْجَرِّ بدل من قَوْله: (أبي) ، لِأَن عُرْوَة يَقُول: (ثمَّ حججْت مَعَ أبي) ، هُوَ الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (ثمَّ لم ينقضها عمْرَة) أَي: ثمَّ لم ينْقض حجتها عمْرَة أَي لم يفسخها إِلَى الْعمرَة. قَوْله: (فَلَا يسألونه؟) الْهمزَة فِيهِ مقدرَة أَي: أَفلا يسْأَلُون عبد الله بن عمر. قَوْله: (وَلَا أحد) ، عطف على فَاعل لم ينقضها أَي: لم ينْقض ابْن عمر حجَّته وَلَا أحد من السّلف الماضين. قَوْله: (مَا كَانُوا يبدأون بِشَيْء حَتَّى يضعوا أَقْدَامهم من الطّواف) ، قَالَ ابْن بطال: لَا بُد من زِيَادَة لفظ: أول، بعد لفظ: أَقْدَامهم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْكَلَام صَحِيح بِدُونِ زِيَادَة إِذْ مَعْنَاهُ مَا كَانَ أحد مِنْهُم يبْدَأ بِشَيْء آخر حِين يضع قدمه فِي الْمَسْجِد لأجل الطّواف، أَي: لَا يصلونَ تَحِيَّة الْمَسْجِد وَلَا يشتغلون بِغَيْر الطّواف، وَصوب بَعضهم كَلَام ابْن بطال، لِأَن جعل: من، بِمَعْنى: من أجل، قَلِيل وَأَيْضًا فقد ثَبت(9/284)
لفظ أول فِي بعض الرِّوَايَات. قلت: وَقَوله: لِأَن جعل: من، بِمَعْنى: من أجل، قَلِيل، غير مُسلم، بل هُوَ كثير فِي الْكَلَام لِأَن أحد مَعَاني: من، للتَّعْلِيل كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. وَقَوله: وَأَيْضًا فقد ثَبت لفظ أول فِي بعض الرِّوَايَات مُجَرّد دَعْوَى فَلَا تقبل إلاَّ بِبَيَان. وَقَوله: حَتَّى يضعوا، بِكَلِمَة: حَتَّى الَّتِي للغاية رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره حِين يضعون فَفِي الأول حذفت النُّون من: يضعون، لِأَن أَن الناصبة مقدرَة بعد كلمة: حَتَّى، وعلامة النصب فِي الْجمع سُقُوط النُّون، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي فِي هَذَا الْموضع: بِأَن الْمَفْهُوم من هَذَا التَّرْكِيب أَن السّلف كَانُوا يبتدئون بالشَّيْء الآخر إِذْ نفي النَّفْي إِثْبَات، وَهُوَ نقيض الْمَقْصُود؟ ثمَّ أجَاب بقوله: إِن لفظ: مَا كَانُوا، تَأْكِيد للنَّفْي السَّابِق أَو هُوَ ابْتِدَاء الْكَلَام. قَوْله: (أُمِّي) ، هِيَ أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، زَوْجَة الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَأُخْتهَا) أَي: أُخْت أُمِّي، وَهِي: عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن حلوا) ، مَعْنَاهُ: طافوا وَسعوا وحلقوا حلوا، وَإِنَّمَا حذفت هَذِه المقدرات للْعلم بهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا منَاف لقَوْله: إنَّهُمَا لَا يحلان، وَمَا الْفَائِدَة فِي ذكره؟ قلت: الأول فِي الْحَج وَالثَّانِي فِي الْعمرَة وغرضه أَنهم كَانُوا إِذا أَحْرمُوا بِالْعُمْرَةِ يحلونَ بعد الطّواف ليعلم أَنهم إِذا لم يحلوا بعده لم يَكُونُوا معتمرين وَلَا فاسخين لِلْحَجِّ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَن الطّواف فِي الْحَج للقدوم وَفِي الْعمرَة للركن، ثمَّ إعلم أَن الدَّاودِيّ قَالَ: مَا ذكر من حج عُثْمَان هُوَ من كَلَام عُرْوَة، وَمَا قبله من كَلَام عَائِشَة، وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: مُنْتَهى حَدِيث عَائِشَة عِنْد قَوْله: ثمَّ لم تكن عمْرَة، وَمن قَوْله: ثمَّ حج إبو بكر ... إِلَى آخِره من كَلَام عُرْوَة. قلت: على قَول الدَّاودِيّ يكون الحَدِيث كُله مُتَّصِلا، وعَلى قَول أبي عبد الْملك: يكون بعضه مُنْقَطِعًا لِأَن عُرْوَة لم يدْرك أَبَا بكر وَلَا عمر، بل أدْرك عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ من يرى بِوُجُوب الطَّهَارَة للطَّواف كَالصَّلَاةِ، وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك، لِأَن قلوه: إِنَّه تَوَضَّأ لَا يدل على وجوب الطَّهَارَة قطعا لاحْتِمَال أَن يكون وضوءه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على وَجه الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : الدَّلِيل على الْوُجُوب أَن الطّواف مُجمل فِي قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج مخرج الْبَيَان. قلت: لَا نسلم أَنه مُجمل، إِذْ مَعْنَاهُ الدوران حول الْبَيْت فَإِن قلت قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الطّواف) بِالْبَيْتِ صَلَاة قلت التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ وَلِهَذَا لَا رُكُوع فِيهَا وَلَا سُجُود وَلَو كَانَ حَقِيقَة لَكَانَ احْتَاجَ إِلَى تَحْلِيل وَتَسْلِيم وَاحْتج بِهِ أَيْضا من يرى أَن الْأَفْرَاد بِالْحَجِّ هُوَ الْأَفْضَل وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لوُجُود أَحَادِيث كَثِيرَة دلّت على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا وَقد ذكرنَا الإختلاف فِيهِ فِي هَذَا الْكتاب وَالله أعلم.
(بَاب وجوب الصَّفَا والمروة وَجعل من شَعَائِر الله)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بالأفعال لَا بالذوات قَالَ الْجَوْهَرِي الصَّفَا مَوضِع بِمَكَّة وَهُوَ فِي الأَصْل جمع صفاة وَهِي صَخْرَة ملساء وَيجمع على أصفاء وَصفا وصغى على وزن فعول. والصفا أَيْضا اسْم بِالْبَحْرَيْنِ والصفا بِالْمدِّ خلاف الكدر.
والمروة مروة السَّعْي الَّتِي تذكر مَعَ الصَّفَا وَهُوَ أحد رأسيه الَّذِي يتنهي السَّعْي إِلَيْهِمَا وَهُوَ فِي الأَصْل حجر أَبيض براق وَقيل هِيَ الَّتِي يقْدَح مِنْهَا النَّار قَوْله (وَجعل) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي جعل وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة كَمَا ذكرنَا وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَجعل من شَعَائِر الله كَذَا فِي نُسْخَة السماع وَفِي أُخْرَى وَجعلا أَي الصَّفَا والمروة والشعائر جمع شعيرَة وَقيل هِيَ جمع شعارة بالكسرة كَذَا فِي الموعب وَقَالَ الْجَوْهَرِي الشعائر أَعمال الْحَج وكل مَا جعل علما لطاعة الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو عبيد وَاحِدَة الشعائر شعيرَة وَهُوَ مَا ؤشعر لهى ألى الْبَيْت الله تَعَالَى وَقَالَ الزّجاج هِيَ جَمِيع متعبدات الله الَّتِي أشعرها الله أَي جعلهَا أَعلَى مَا لنا وَهِي كل مَا كُنَّا من موقف أَو مسعى أَو مذبح وَإِنَّمَا قيل الشعائر لكل عمل مِمَّا تعبد بِهِ لِأَن قَوْلهم شَعرت بِهِ عَلمته فَلهَذَا سميت الأعلامالتي هِيَ متعبدات لله شَعَائِر. وَقَالَ الْحسن شَعَائِر الله دين الله تَعَالَى.
حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ عُرْوَة سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله(9/285)
عَنْهَا فَقلت لَهَا أَرَأَيْت قَول الله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} (الْبَقَرَة: 851) . فَوَالله مَا عَلَى أحَدٍ جُنَاحٌ أنْ لَا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ قالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّ هاذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أوَّلْتَهَا علَيْهِ أنْ لَا يتَطَوَّفَ بِهِمَا ولاكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأنْصَارِ كانُوا قَبْلَ أَن يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمُنَاةِ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ فَكانَ منْ أهَلَّ يتَحَرَّجُ أنْ يَطُوفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ فلَمَّا أَسْلمُوا سألُوا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذالِكَ قَالُوا يَا رسُولَ الله إنَّا كُنَّا نتحَرَّجُ أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ فأنْزَلَ الله تعَالى إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائرِ الله الآيَةَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وقَدْ سَنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّوافَ بَيْنَهُمَا فلَيْسَ لأِحَدٍ أنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أخْبَرْتُ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ فقالَ إنَّ هاذا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ ولَقَد سَمِعْتُ رِجالاً منْ أهلِ العِلْمِ يَذْكُرُونَ أنَّ النَّاسَ إلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ فلَمَّا ذَكَرَ الله تعالَى الطَّوافَ بِالبَيْتِ ولَمْ يَذكُر الصَّفَا والمَرْوَةَ فِي القُرْآنِ قالُوا يَا رَسولَ الله كُنا نطَّوَّفُ بِالصَّفا والمَرْوَةِ وإنَّ الله أنْزَلَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ فلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا فهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أنْ نَطَّوَّفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ فأنْزَلَ الله تَعَالَى إِن الصَّفَا والمَرْوةَ مِنْ شَعَائِرِ الله الآيَةَ قَالَ أبُو بَكْرٍ فَأسْمَعُ هاذِهِ الآيَةَ نزَلَتْ فِي الفَريقَيْنِ كِلَيْهِما فِي الَّذِينَ كانُوا يَتَحَرَّجُونَ أنْ يَطُوفُوا بالجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفا والمَرْوَةِ والَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تحَرَّجُوا أَن يَطُوفُوا بِهِما فِي الإسْلامِ مِنْ أجلِ أنَّ الله تَعَالَى أمرَ بالطَّوَافِ بالبَيْتِ ولَمْ يَذْكُرِ الصَّفا حَتَّى ذكرَ ذالِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بالبَيْتِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج وَفِي التَّفْسِير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرأيتِ؟) أَخْبِرِينِي عَن مَفْهُوم هَذِه الْآيَة، إِذْ مفهومها عدم وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة إِذْ فِيهِ عدم الْإِثْم على التّرْك، فَقَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: مفهومها لَيْسَ ذَلِك، بل عدم الْإِثْم على الْفِعْل، وَلَو كَانَ على التّرْك لقيل: أَن لَا يطوف، بِزِيَادَة: لَا، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن عُرْوَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أوَّل الْآيَة بِأَن لَا شَيْء عَلَيْهِ فِي تَركه، لِأَن هَذَا اللَّفْظ أَكثر مَا يسْتَعْمل فِي الْمُبَاح دون الْوَاجِب، وَأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أجابت بِأَن الْآيَة ساكتة عَن الْوُجُوب وَعَدَمه، لِأَنَّهَا لَيست بِنَصّ فِي سُقُوط الْوَاجِب، وَلَو كَانَت نصا لَكَانَ يَقُول: فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما، لِأَن هَذَا يتَضَمَّن سُقُوط الْإِثْم عَمَّن ترك الطّواف، وَلم يكن ذَلِك إلاَّ بِسَبَب الْأَنْصَار، وَقد يكون الْفِعْل وَاجِبا، ويعتقد المعتقد أَنه منع من إِيقَاعه على صفه، وَهَذَا كمن عَلَيْهِ صَلَاة ظهر، فَظن أَن لَا يسوغ لَهُ إيقاعها بعد الْمغرب، فَسَأَلَ فَقيل: لَا حرج عَلَيْك إِن صليت، فَيكون الْجَواب صَحِيحا، وَلَا يَقْتَضِي نفي وجوب الظّهْر عَلَيْهِ، وَقد وَقع فِي الْقِرَاءَة الشاذة، فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما، كَمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن أبي دَاوُد فِي الْمَصَاحِف، وَابْن الْمُنْذر وَغَيرهم عَن أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأجَاب الطَّبَرِيّ: أَنَّهَا مَحْمُولَة على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة، وَكلمَة: لَا، زَائِدَة، وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقيل: لَا حجَّة فِي الشواذ إِذا خَالَفت الْمَشْهُورَة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: لَا حجَّة لمن قَالَ إِن السَّعْي مُسْتَحبّ بقوله: {فَمن تطوع خيرا} (الْبَقَرَة: 481) . لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى أصل الْحَج وَالْعمْرَة لَا إِلَى خُصُوص السَّعْي لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن التَّطَوُّع بالسعي لغير الْحَاج والمعتمر غير مَشْرُوع، وَالله أعلم. قَوْله: (يهلونه) أَي: يحجونه. قَوْله: (لمناة) ، بِفَتْح الْمِيم(9/286)
وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف تَاء مثناة من فَوق، وَهُوَ اسْم صنم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَت صَخْرَة نصبها عَمْرو ابْن لحي بِجِهَة الْبَحْر فَكَانُوا يعبدونها، وَقيل: هِيَ صَخْرَة لهذيل بِقديد وَسميت مَنَاة لِأَن النسائك كَانَت تمنى بهَا أَي: تراق. وَقَالَ الْحَازِمِي: هِيَ على سَبْعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة وإليها نسبوا زيد مَنَاة. قَوْله: (الطاغية) ، صفة لمناة إسلامية، وَهِي على زنة فاعلة من الطغيان، وَلَو رُوِيَ: لمناة الطاغية، بِالْإِضَافَة وَيكون الطاغية صفة للفرقة وهم الْكفَّار لجَاز. قَوْله: (عِنْد المشلل) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة، وَتَشْديد اللَّام الأولى الْمَفْتُوحَة اسْم مَوضِع قريب من قديد من جِهَة الْبَحْر، وَيُقَال: هُوَ الْجَبَل الَّذِي يهْبط مِنْهُ إِلَى قديد من نَاحيَة الْبَحْر، وَقَالَ الْبكْرِيّ: هِيَ ثنية مشرفة على قديد. وَقَالَ السفاقسي: هِيَ عِنْد الْجحْفَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بالمشلل من قديد، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي تَفْسِير الْبَقَرَة من طَرِيق مَالك (عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: قلت لعَائِشَة: وَأَنا يَوْمئِذٍ حَدِيث السن) فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (كَانُوا يهلون لمناة، فَكَانَت مَنَاة حَذْو قديد) أَي: مُقَابِله، وَقد مر أَن قديدا، بِضَم الْقَاف: قَرْيَة جَامِعَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة كَثِيرَة الْمِيَاه، قَالَه الْبكْرِيّ. قَوْله: (يتحرج) أَي: يحْتَرز من الْحَرج، وَيخَاف الْإِثْم. قَوْله: (فَلَمَّا أَسْلمُوا) أَي: الْأَنْصَار. قَوْله: (عَن ذَلِك) أَي: الطّواف بالصفا والمروة. قَوْله: (إِنَّا كُنَّا نتحرج) إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة مُسلم: أَن الْأَنْصَار كَانُوا قبل أَن يسلمُوا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَكَانَ ذَلِك سنَّة فِي آبَائِهِم، من أحرم لمناة لم يطف بَين الصَّفَا والمروة، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن الْأَنْصَار كَانُوا يهلون فِي الْجَاهِلِيَّة لصنمين على شط الْبَحْر يُقَال لَهما: أساف ونائلة، ثمَّ يجيئون فيطوفون بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ يحلقون، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَرهُوا أَن يطوفوا بَينهمَا للَّذي كَانُوا يصنعونه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة. وَفِي لفظ إِذا أهلوا لمناة لَا يحل لَهُم أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَيُقَال: إِن الْأَنْصَار قَالُوا: إِنَّمَا أمرنَا بِالطّوافِ وَلم نؤمر بالسعي بَين الصَّفَا والمروة، فَنزلت الْآيَة وَقَالَ السّديّ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة تعرف الشَّيَاطِين فِي اللَّيْل بَين الصَّفَا والمروة، وَكَانَت بَينهمَا آلِهَة، فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام قَالَ الْمُسلمُونَ: يَا رَسُول الله لَا نطوف بَين الصَّفَا والمروة، فَإِنَّهُ شرك كُنَّا نضعه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَنزلت الْآيَة. وَفِي (الْأَسْبَاب) لِلْوَاحِدِيِّ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ على الصَّفَا صنم على صُورَة رجل يُقَال لَهُ: أساف، وعَلى الْمَرْوَة صُورَة امْرَأَة تدعى: نائلة، يزْعم أهل الْكتاب أَنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَة مسخهما الله تَعَالَى حجرين، فوضعا على الصَّفَا ليعتبر بهما فَلَمَّا طَالَتْ الْمدَّة، عبدا، فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا طافوا بَينهمَا مسحوا الوثنين، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَكسرت الْأَصْنَام كره الْمُسلمُونَ الطّواف بَينهمَا لأجل الصنمين، فَنزلت هَذِه الْآيَة: وروى الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم فِي التَّفْسِير بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَت الْأَنْصَار: إِن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة من أَمر الْجَاهِلِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) . قَوْله: (وَقد سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شرع وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجعل ركنا. وَقَالَ بَعضهم: أَي فَرْضه بِالسنةِ، وَلَيْسَ مُرَاد عَائِشَة نفي فريضتها وَيُؤَيِّدهُ قَوْلهَا لم يتم الله حج أحد وَلَا عمرته لم يلطف بَينهمَا قلت قَول الْكرْمَانِي جعل ركنا غير موجه لِأَن لفظ سنّ لَا يدل على معنى أَنه جعله ركنا وَإِلَّا لَا يبْقى فرق بَين السّنة والركن وَكَيف نقُول أَنه ركن وركن الشَّيْء مَا هُوَ دَاخل فِي ذَات الشَّيْء وَلم يقل أحد أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة دَاخل فِي مَاهِيَّة الْحَج وَكَذَا قَول بَعضهم أَي فَرْضه بِالسنةِ لَيْسَ مَدْلُول اللَّفْظ. وَقَوله لَيْسَ مُرَاد عَائِشَة نفي فرضيتها فَنَقُول وَكَذَا أَلا يدل على إِثْبَات فضيتها وَقَوله يُؤَيّدهُ قَوْلهَا إِلَى آخِره لَا يُؤَيّدهُ أصلا وَلَا يدل على مدعاه لِأَن نفي إتْمَام الشَّيْء لَا يدل على نفي وجوده فعلى كل حَال لَا يثبت الْفَرْضِيَّة غَايَة مَا فِي الْبَاب يدل على أَنه سنة مُؤَكدَة وَهِي فِي قُوَّة الْوَاجِب وَنحن نقُول بِهِ وَسَيَجِيءُ بَيَان الْخلاف قَوْله (ثمَّ أجزت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن) الْمخبر هُوَ الزُّهْرِيّ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم وَيُقَال لَهُ رَاهِب قُرَيْش لِكَثْرَة صلَاته ولد فِي خِلَافه عمر بن الْخطاب وَمَات سنة أَربع وَتِسْعين قَالَه عمر وبن عَليّ وَفِي رِوَايَته مُسلم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ قَالَ الزُّهْرِيّ فَذكرت ذَلِك لأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام، فأعجبه ذَلِك، قَوْله: (إِن هَذَا الْعلم) ، بِفَتْح اللَّام الَّتِي هِيَ للتَّأْكِيد، وتنكير الْعلم، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَن هَذَا الْعلم أَشَارَ بِهِ إِلَى كَلَام عَائِشَة. وَقَوله: (مَا كنت سمعته) وَقع خَبرا لِأَن، وَلَفظ: كنت، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَكلمَة: مَا، نَافِيَة، وعَلى رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله: (لعلم) خبر: إِن، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة. وَلَفظ: كنت، بِلَفْظ الْمُخَاطب(9/287)
وَقَالَ الْكرْمَانِي، مَا: مَوْصُولَة مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، أَو مَرْفُوع بِأَنَّهُ صفة لَهُ أَو خبر بعد خبر. قَوْله: (وَلَقَد سَمِعت رجَالًا) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور. قَوْله: (إلاَّ من ذكرت عَائِشَة) ، هَذَا الِاسْتِثْنَاء معترض بَين اسْم: إِن، وخبرها وَاسم: إِن، هُوَ قَوْله: (النَّاس) فِي قَوْله: إِن النَّاس، وخبرها هُوَ قَوْله: (مِمَّن كَانَ يهل بمناة) ، ولفط مُسلم: (وَلَقَد سَمِعت رجَالًا من أهل الْعلم يَقُولُونَ إِنَّمَا كَانَ من لَا يطوف بَين الصَّفَا والمروة من الْعَرَب يَقُولُونَ: إِن طوافنا بَين هذَيْن الحجرين من أَمر الْجَاهِلِيَّة) . وَقَالَ آخَرُونَ من الإنصار: إِنَّمَا أمرنَا بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ وَلم نؤمر بِهِ بَين الصَّفَا والمروة، فَأنْزل الله عز وَجل: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) . قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، فأراها قد أنزلت فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا الِاسْتِثْنَاء؟ قلت: وَجهه أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الرِّجَال من أهل الْعلم الَّذين أخبروا أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن أطْلقُوا وَلم يخصوا بطَائفَة، وَأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، خصت الْأَنْصَار بذلك، كَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا، وَهُوَ فِي صدر الحَدِيث، وَهُوَ قَوْلهَا: وَلكنهَا نزلت فِي الْأَنْصَار. قَوْله: (أَن يطوف بالصفا) ، بتَشْديد الطَّاء، وَأَصله: أَن يتطوف، فأبدلت التَّاء طاء لقرب مخرجهما، ثمَّ أدغمت الطَّاء فِي الطَّاء. قَوْله: (فاسمع هَذِه الْآيَة) وَهِي قَوْله: (إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله) وَقَوله: (فَأَسْمع) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الْعين على صِيغَة الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع، وَهَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَضَبطه الدمياطي فِي نسخته بدرج الْهمزَة وَسُكُون الْعين على صِيغَة الْأَمر، فرواية مُسلم: فأراها نزلت فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن تدل على أَن رِوَايَة الْعَامَّة أصوب. قَوْله: (فِي الْفَرِيقَيْنِ) ، وهما من الْأَنْصَار وَقوم من الْعَرَب كَمَا صرح بِهِ مُسلم على مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (كليهمَا) ، يَعْنِي: كلا الْفَرِيقَيْنِ، ويروى: كِلَاهُمَا، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ على مَذْهَب من يَجْعَل الْمثنى فِي الْأَحْوَال كلهَا بِالْألف، ثمَّ قَالَ: والفريق الأول: هم الْأَنْصَار الَّذين يتحرجون احْتِرَازًا من الصنمين، وَالثَّانِي: هم غَيرهم الَّذين يتحرجون بَعْدَمَا كَانُوا يطوفون لعدم ذكر الله لَهُ. قَوْله: (حَتَّى ذكر ذَلِك) ، أَي: الطّواف بَينهمَا بعد ذكر الطّواف بِالْبَيْتِ، وَذكر الطّواف بِالْبَيْتِ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَذكر الطّواف بَين الصَّفَا والمروة هُوَ قَوْله: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْحَج: 92) . بعد قَوْله: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَغَيره، حَتَّى ذكر بعد ذَلِك مَا ذكر الطّواف بِالْبَيْتِ، قَالَ بَعضهم: وَفِي تَوْجِيهه عسر قلت: لَا عسر فِيهِ، فَهَذَا لكرماني وَجهه فَقَالَ: لفظ مَا ذكره يدل عَن ذَلِك، أَو أَن: مَا، مَصْدَرِيَّة وَالْكَاف مُقَدّر كَمَا فِي: زيد أَسد، أَي: ذكر السَّعْي بعد ذكر الطّواف كذكر الطّواف وَاضحا جليا ومشروعا مَأْمُورا بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احتجت بِهِ الْحَنَفِيَّة على أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَاجِب، لِأَن قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّواف بَينهمَا، فَلَيْسَ لأحد أَن يتْرك الطّواف بَينهمَا، يدل على الْوُجُوب، وَرفع الْجنَاح فِي الْآيَة والتخيير يَنْفِي الْفَرْضِيَّة، لَا سِيمَا من مَذْهَب عَائِشَة، فِيمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ أَن السَّعْي بَينهمَا تطوع، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة هُوَ مَذْهَب الْحسن وَقَتَادَة وَالثَّوْري، حَتَّى يجب بِتَرْكِهِ دم، وَعَن عَطاء: سنة لَا شَيْء فِيهِ، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: هُوَ فرض لَا يَصح الْحَج إلاَّ بِهِ، وَمن بَقِي عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ يرجع إِلَيْهِ من بَلَده، فَإِن كَانَ وطىء النِّسَاء قبل أَن يرجع كَانَ عَلَيْهِ إتْمَام حجه أَو عمرته، ويحج من قَابل، وَيهْدِي. . كَذَا حَكَاهُ ابْن بطال عَنْهُم، وَنقل الْمروزِي عَن أَحْمد: أَنه مُسْتَحبّ، وَاخْتَارَ القَاضِي وُجُوبه وانجباره بِالدَّمِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَهُوَ أقرب إِلَى الْحق، وَعَن طَاوُوس: من ترك مِنْهُ أَرْبَعَة أَشْوَاط لزمَه دم، وَإِن ترك دونهَا لزمَه لكل شوط نصف صَاع، وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْن. وَذكر ابْن الْقصار عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل أَنه ذكر عَن مَالك فِيمَن تَركه حَتَّى تبَاعد، وَأصَاب النِّسَاء أَنه يجْزِيه وَيهْدِي، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى فِي (شَرحه لِلتِّرْمِذِي) : اخْتلفُوا فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة للْحَاج على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه ركن لَا يَصح الْحَج إلاَّ بِهِ. وَهُوَ قَول ابْن عمر وَعَائِشَة وَجَابِر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اسْعوا فَإِن الله كتب عَلَيْكُم السَّعْي) رَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة صَفِيَّة بنت شيبَة عَن حَبِيبَة بنت أبي تجرأة بِإِسْنَاد حسن، وَقَالَ عبد الْعَظِيم: إِنَّه حَدِيث حسن قلت: قَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : إِن حَبِيبَة بنت أبي تجرأة مَجْهُولَة، وَقَالَ شَيخنَا: هُوَ مَرْدُود لِأَنَّهَا صحابية، وَكَذَلِكَ صَفِيَّة بنت شيبَة صحابية، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه وَاجِب يجْبر بِدَم، وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) كَمَا حَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: إِنَّه لَيْسَ بِرُكْن وَلَا وَاجِب، بل هُوَ سنة ومستحب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَابْن سِيرِين وَعَطَاء وَمُجاهد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَمن(9/288)
طَاف فقد حل. وَقَالَ شَيخنَا: قد يسْتَدلّ بِرَفْع قَوْله: (خُذُوا عني مَنَاسِككُم) على اشْتِرَاط الْمُوَالَاة بَين الطّواف وَالسَّعْي بِحَيْثُ يضر الْفَصْل الطَّوِيل، وَهُوَ أحد قَوْلَيْنِ فِيمَا حَكَاهُ الْمُتَوَلِي. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: وَالظَّاهِر أَنه لَا يقْدَح، قَالَه الْقفال وَغَيره.
08 - (بابُ مَا جاءَ فِي السَّعْيِ بَينَ الصَّفا والمَرْوَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي السَّعْي، أَي: من كيفيته بَين الصَّفَا والمروة.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا السَّعْيُ مِنْ دَار بَنِي عَبَّادٍ إلَى زُقاقِ بَنِي أبي حُسَيْنٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه جَاءَ فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة أَنه من دَار بني عباد إِلَى زقاق بني أبي حُسَيْن، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن عُثْمَان بن الْأسود عَن مُجَاهِد وَعَطَاء: قَالَ: رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد إِلَى زقاق بني أبي حُسَيْن، وعزوا ذَلِك إِلَى ابْن عمر، وَذكره الفاكهي بأوضح مِنْهُ من طَرِيق ابْن جريج: أَخْبرنِي نَافِع قَالَ: نزل ابْن عمر من الصَّفَا حَتَّى إِذا حَاذَى بَاب بني عباد إِلَى زقاق ابْن أبي حشين، قَالَ سُفْيَان: هُوَ بَين هذَيْن العلمين. قَوْله: (بني عباد) ، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وزقاق، بِضَم الزَّاي وبالقافين، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الزقاق السِّكَّة يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الْأَخْفَش: أهل الْحجاز يؤنثون الطَّرِيق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وَبَنُو تَمِيم يذكرُونَ هَذَا كُله، وَالْجمع: الزقاق والزقان والأزقة، مثل: حوار وحوران وأحورة.
4461 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ مَيْمُونٍ قَالَ حدَّثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ نافعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا طافَ الطَّوَافَ الأولَ خَبَّ ثَلاثا ومشَى أرْبَعا وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إذَا طافَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فقُلْتُ لِنافِعٍ إكانَ عَبْدُ الله يَمْشي إذَا بلَغَ الرّكْنَ الْيَمَانِيَ قَالَ لَا إلاَّ أنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فإنَّهُ كانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ يسْعَى بطن المسيل) ، والْحَدِيث مضى فِي بَاب: من طَاف بِالْبَيْتِ إِذا قدم مَكَّة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله. . إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه بأتم من ذَلِك عَن مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر مُحَمَّد بن عبيد بن حَاتِم، وَكَذَا قَالَ الجياني نَاقِلا عَن نُسْخَة أبي مُحَمَّد بِخَطِّهِ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبيد بن حَاتِم حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس، قيل: الصَّوَاب هُوَ الأول، وَبِه جزم أَبُو نعيم، وَعِيسَى هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي الْكُوفِي، مَاتَ بالحرف أول سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة، وَعبد الله بن عمر الْعمريّ.
قَوْله: (كَانَ إِذا طَاف الطّواف الأول) أَي: طواف الْقدوم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الطّواف الأول سَوَاء كَانَ للقدوم أَو للركن. قَوْله: (خب) أَي: رمل فِي الأشواط الثَّلَاث. قَوْله: (وَمَشى) أَي: لَا يرمل. قَوْله: (وَكَانَ يسْعَى بطن المسيل) أَي: الْمَكَان الَّذِي يجْتَمع فِيهِ السَّيْل، و: بطن، مَنْصُوب على الظّرْف. قَوْله: (فَقلت لنافع) إِلَى هُنَا مَرْفُوع عَن ابْن عمر، وَمن قَوْله: (فَقلت) إِلَى آخِره مَوْقُوف، وَالْقَائِل لنافع هُوَ عبيد الله الْمَذْكُور فِيهِ. قَوْله: (أَكَانَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (لَا يَدعه) أَي: لَا يتْركهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
5461 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ قَالَ سَألْنَا عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنْ رجُلٍ طَاف بالبَيْتِ فِي عُمْرةٍ ولَمْ يَطُفْ بينَ الصَّفا والمَرْوةِ أيأتِي امْرَأتَهُ فَقَالَ قدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فطَافَ بالبيْتِ سَبعا وصَلَّى خَلفَ المَقامِ رَكْعَتينِ فطافَ بينَ الصَّفا والمَروَةِ سَبْعا لَقَدْ كانَ لكُمْ فِي رسولِ الله أُسْوةٌ حسنةٌ. وسألْنَا جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما فَقَالَ لَا يَقْرَبَنَّها حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَطَافَ بَين الصَّفَا والمروة سبعا) ، والْحَدِيث مضى أَيْضا فِي: بَاب صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ(9/289)
وَسلم، لسبوعه رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (أَيَأتِي؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (قدم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: قدم مَكَّة، وَهَذَا جَوَاب لسؤال عَمْرو بن دِينَار، وَمن مَعَه، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مُطَابقَة الْجَواب السُّؤَال؟ قلت: مَعْنَاهُ لَا يحل لَهُ، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب الْمُتَابَعَة، وَهُوَ لم يتَحَلَّل من عمرته حَتَّى سعى. انْتهى. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير، لِأَن هَذَا جَوَاب مُطَابق للسؤال مَعَ زِيَادَة، أما الْجَواب فَهُوَ قَوْله: (فَطَافَ بَين الصَّفَا والمروة سبعا) ، وَأما الزِّيَادَة فَهُوَ قَوْله: (فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا) ، وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، وَفَائِدَة الزِّيَادَة هِيَ أَن السُّؤَال عَن الْمُعْتَمِر إِذا لم يسع، وَالْجَوَاب أَن الْعمرَة هِيَ الطّواف بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، فَلَا يجوز لَهُ قرْبَان امْرَأَته حَتَّى يَأْتِي بِالطّوافِ وَالسَّعْي. قَوْله: (لقد كَانَ لكم) إِلَى آخِره، من تَتِمَّة الْجَواب.
7461 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ عنِ ابنِ جُريْجٍ قَالَ أخبرَنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ فَطافَ بالبَيْتِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفا والمرْوَةِ ثُمَّ تَلاَ {لَقدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوةٌ حسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 32) ..
هَذَا طَرِيق آخر للْحَدِيث الْمَذْكُور، رَوَاهُ عَن الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد الْبَلْخِي أَبُو السكن، وَلَفظ الْمَكِّيّ اسْمه على صُورَة النِّسْبَة، وَلَيْسَ بمنسوب إِلَى مَكَّة، وَهُوَ يرْوى عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَمضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب من صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام، رَوَاهُ عَن آدمٍ عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَهَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة عَن ابْن عمر دلّت على أَن الْعمرَة عبارَة عَن الطّواف بِالْبَيْتِ سبعا، وَالصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ خلف الْمقَام، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة. .
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاجِبَات السَّعْي عندنَا أَرْبَعَة: قطع جَمِيع الْمسَافَة بَين الصَّفَا والمروة، فَلَو بَقِي مِنْهَا بعض خطْوَة لم يَصح سَعْيه، وَلَو كَانَ رَاكِبًا اشْترط أَن يسير دَابَّته حَتَّى تضع حافرها على الْجَبَل، وَإِن صعد على الصَّفَا والمروة فَهُوَ أكمل، وَكَذَا فعله سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالصَّحَابَة بعده، وَلَيْسَ هَذَا الصعُود فرضا وَلَا وَاجِبا، بل هُوَ سنة مُؤَكدَة، وَبَعض الدرج مستحدث، فالحذر من أَن يخلفها وَرَاءه فَلَا يَصح سَعْيه حِينَئِذٍ، وَيَنْبَغِي أَن يصعد على الدرج حَتَّى يستيقن، وَلنَا وَجه شَاذ، أَنه يجب الصعُود على الصَّفَا والمروة قدرا يَسِيرا، وَلَا يَصح سَعْيه إلاَّ بذلك ليستيقن قطع جَمِيع الْمسَافَة، كَمَا يلْزم غسل جُزْء من الرَّأْس بعد غسل الْوَجْه ليستيقن. ثَانِيهَا: التَّرْتِيب، فَلَو بَدَأَ بالمروة لم يجزه لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَالَ فِي (الْمُحِيط) من كتب الْحَنَفِيَّة: لَو بَدَأَ بالمروة وَختم بالصفا أعَاد شوطا وَلَا يجْزِيه ذَلِك، والبداءة بالصفا شَرط، وَلَا أصل لما ذكره الْكرْمَانِي من أَن التَّرْتِيب فِي السَّعْي لَيْسَ بِشَرْط حَتَّى لَو بَدَأَ بالمروة وأتى الصَّفَا جَازَ، وَهُوَ مَكْرُوه لترك السّنة، فَيُسْتَحَب إِعَادَة ذَلِك الشوط قلت: الْكرْمَانِي لَهُ كتاب فِي الْمَنَاسِك ذكر هَذَا فِيهِ، وَكَيف يَقُول صَاحب (التَّوْضِيح) : لَا أصل لما ذكره الْكرْمَانِي بل لَا أصل لما ذكره لِأَنَّهُ يحْتَج بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) ، فَكيف يسْتَدلّ بِخَبَر الْوَاحِد على إِثْبَات الْفَرْضِيَّة، والْحَدِيث إِنَّمَا يدل على أَنه سنة، وَقد عمل الْكرْمَانِي بِهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَو بَدَأَ بالمروة يكون مَكْرُوها لتَركه السّنة، حَتَّى يسْتَحبّ إِعَادَته، وَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي الِاسْتِدْلَال بِخَبَر الْوَاحِد، وَكَذَا الْجَواب عَمَّا قيل، وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب التَّرْتِيب، وَيجوز الْبدَاءَة بالمروة، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَأَرَادَ بِالْحَدِيثِ هُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) ، رَوَاهُ جَابر وَأخرجه النَّسَائِيّ. الثَّالِث: يحْسب من الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَة مرّة، وَمن الْمَرْوَة إِلَى الصَّفَا مرّة حَتَّى يتم سبعا هَذَا هُوَ الصَّحِيح. الرَّابِع: يشْتَرط أَن يكون السَّعْي بعد طواف صَحِيح، سَوَاء كَانَ بعد طواف قدوم أَو إفَاضَة، وَلَا يتَصَوَّر وُقُوعه بعد طواف الْوَدَاع، فَلَو سعى وَطَاف أَعَادَهُ، وَعند غَيرنَا أَعَادَهُ إِن كَانَ بِمَكَّة، فَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله بعث بِدَم، وشذ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: قَالَ بعض أَئِمَّتنَا: لَو قدم السَّعْي على الطّواف اعْتد بالسعي، وَهَذَا غلط. وَنقل الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع فِي اشْتِرَاط ذَلِك، وَقَالَ عَطاء: يجوز السَّعْي من غير تقدم طواف وَهُوَ غَرِيب. وَفِي (التَّوْضِيح) : أَيْضا الْمُوَالَاة(9/290)
بَين مَرَّات السَّعْي سنة، فَلَو تخَلّل بِيَسِير أَو طَوِيل بَينهُنَّ لم يضر، وَكَذَا بَينه وَبَين الطّواف، وَيسْتَحب السَّعْي على طَهَارَة من الْحَدث وَالنَّجس ساترا عَوْرَته، وَالْمَرْأَة تمشي وَلَا تسْعَى لِأَنَّهُ أستر لَهَا. وَقيل: إِن سعت فِي الْخلْوَة بِاللَّيْلِ سعت كَالرّجلِ، وَمَوْضِع الْمَشْي والعدو مَعْرُوف، والعدو يكون قبل وُصُوله إِلَى الْميل الْأَخْضَر، وَهُوَ العمود الْمَبْنِيّ فِي ركن الْمَسْجِد بِقدر سِتَّة أَذْرع إِلَى أَن يتوسط بَين العمودين المعروفين، وَمَا عدا ذَلِك فَهُوَ مَحل الْمَشْي فَلَو هرول فِي الْكل لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَكَذَا لَو مَشى على هينة، وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يمشي بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ قَالَ: إِن مشيت فقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمشي، وَإِن سعيت فقد رَأَيْته يسْعَى، وَأَنا شيخ كَبِير، أخرجه أَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَة كَانَ يَقُول لأَصْحَابه: أرملوا فَلَو اسْتَطَعْت الرمل لرملت، وَعنهُ قَالَ: رَأَيْت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يمشي أخرجهَا سعيد بن مَنْصُور، وَقَالَ ابْن التِّين: يكره للرجل أَن يقْعد على الصَّفَا إلاَّ لعذر، وَضعف ابْن الْقَاسِم فِي رِوَايَته عَن مَالك رفع يَدَيْهِ على الصَّفَا والمروة، وَقَالَ ابْن حبيب: يرفع، وَإِذا قُلْنَا يرفع، فَقَالَ ابْن حبيب: يرفعهما حَذْو مَنْكِبَيْه وبطونهما إِلَى الأَرْض، ثمَّ يكبر ويهلل وَيَدْعُو. وَقَالَ غَيره من الْمُتَأَخِّرين: الدُّعَاء والتضرع إِنَّمَا يكون وبطونهما إِلَى السَّمَاء، وَلَو ترك السَّعْي بِبَطن المسيل فَفِي وجوب الدَّم قَولَانِ عَن مَالك.
8461 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لأِنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ قَالَ نعم لأِنَّهَا كانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أنْزَلَ الله إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطُوفَ بِهِمَا.
(الحَدِيث 8461 طرفه فِي: 6944) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْآيَة الْمَذْكُورَة فِيهَا إِثْبَات السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت شبويه. قلت: أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت بن عُثْمَان بن مَسْعُود بن يزِيد أَبُو الْحسن الْخُزَاعِيّ الْمروزِي الْمَعْرُوف بِابْن شبويه، مَاتَ بطرسوس سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَه الْحَافِظ الدمياطي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول أَبُو عبد الرَّحْمَن. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَشَيْخه مروزيان وَأَن عَاصِمًا بَصرِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَكُنْتُم؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (قَالَ: نعم) ويروى: (فَقَالَ: نعم) ، بِزِيَادَة فَاء الْعَطف أَي: نعم كُنَّا نكره، وَعلل الْكَرَاهَة بقوله: (لِأَنَّهَا كَانَت من شَعَائِر الْجَاهِلِيَّة) وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير بِاعْتِبَار جمع السَّعْي وَهِي سبع مَرَّات، وَالْمرَاد من الشعائر العلامات الَّتِي كَانُوا يتعبدون بهَا، وَقد مر الْكَلَام فِي الشعائر عَن قريب قيل: إِنَّمَا خص السَّعْي وَالطّواف أَيْضا من شعائرهم. قلت: لَا نسلم ذَلِك بِخِلَاف السَّعْي وَكَانَ لَهُم الصنمان اللَّذَان ذَكَرْنَاهُمْ يتمسحون بهما ويعبدونهما فِي تِلْكَ الْبقْعَة.
9461 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عَنْ عَمْرٍ وعنْ عَطَاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ إنَّما سَعَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ لِيُرِيَ المشْرِكينَ قُوَّتَهُ.
(الحَدِيث 9461 طرفه فِي: 7524) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد مروا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَمْرو بن دِينَار، وَفِي بعض النّسخ عَن عَمْرو. وَهُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الرمل.(9/291)
زَادَ الْحمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حَدثنَا عَمْرٌ وَقَالَ سَمِعْتُ عَطاءً عنِ ابنِ عَبَّاسٍ مِثْلهُ
وَقَول ابْن عَبَّاس: (ليري الْمُشْركين قوته) ، فِيهِ حصر السَّبَب فِيمَا ذكره على مَا هُوَ الْمَشْهُور فِي: إِنَّمَا، من إِفَادَة الْحصْر، وَقد جَاءَ عَن ابْن عَبَّاس سَبَب آخر وَهُوَ سعي أَبينَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَيجوز أَن يكون هُوَ الْمُقْتَضِي لمشروعية الْإِسْرَاع على مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَوْله: (قَالَ: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أَمر بالمناسك عرض لَهُ الشَّيْطَان عِنْد السَّعْي، فسبقه فسابقه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . وَقد ورد أَيْضا سَبَب آخر، وَهُوَ: سعي هَاجر عَلَيْهَا السَّلَام، على مَا صرح بِهِ البُخَارِيّ (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: جَاءَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) الحَدِيث، وَفِيه: (فَهَبَطت من الصَّفَا حَتَّى إِذا بلغت الْوَادي رفعت طرف درعها وسعت سعي إِنْسَان مجهود حَتَّى جَاوَزت الْوَادي) الحَدِيث، وَفِيه: (فَفعلت ذَلِك سبع مَرَّات. قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَلذَلِك سعى النَّاس بَينهمَا) . فَإِن كَانَ المُرَاد بقوله: فَلذَلِك سعى النَّاس بَينهمَا: الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي فَهَذِهِ الْعلَّة من نَص الشَّارِع، فهى أولى مَا يُعلل بِهِ السَّعْي، وَإِن أَرَادَ بالسعي مُطلق الذّهاب فَلَا، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَزْرَقِيّ، فَلذَلِك طَاف النَّاس بَين الصَّفَا والمروة، وَالله أعلم.
قَوْله: (الْحميدِي) ، بِضَم الْحَاء نِسْبَة إِلَى: حميد أحد أجداد عبد الله بن الزبير بن عبد الله الْقرشِي الْمَكِّيّ شيخ البُخَارِيّ، وَمن أَفْرَاده، وَمعنى هَذِه الزِّيَادَة أَن الْحميدِي صرح بِالتَّحْدِيثِ فِي رِوَايَته عَن عَمْرو بن دِينَار، وَصرح عَمْرو بِالسَّمَاعِ من عَطاء بن أبي رَبَاح، وَمن طَرِيقه أخرجه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: زَاد لفظ: حَدثنَا وَسمعت، بدل المعنعن، وَفَائِدَته الْخُرُوج عَن الْخلاف فِي الْقبُول، سِيمَا وسُفْيَان من المدلسين. قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي الحَدِيث السَّابِق.
18 - (بابٌ تَقْضي الحَائِضُ المَناسِكَ كُلَّها إلاَّ الطَّوافَ بالبَيْتِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: تقضي الْحَائِض ... إِلَى رخره، وَأَرَادَ بالمناسك أَفعَال الْحَج ووصرح بالحكم فِي هَذَا وَهُوَ أَن الْحَائِض تقضي الْمَنَاسِك كلهَا إِلَّا الطّواف بِالْبَيْتِ للْمَنْع الْوَارِد فِيهِ على مَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا صرح بِهِ لعدم الْخلاف فِيهِ.
وإذَا سعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ
هَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة أَي: وَإِذا سعى الْحَاج أَو الْمُعْتَمِر بَين الصَّفَا والمروة وَهُوَ على غير وضوء، وَإِنَّمَا لم يذكر الحكم فِيهِ لأجل الْخلاف فِيهِ، فَإِن الْحسن الْبَصْرِيّ اشْترط الطَّهَارَة للسعي، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لم يذكر عَن أحد من السّلف اشْتِرَاط الطَّهَارَة للسعي إلاَّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن الْحَنَابِلَة فِي رِوَايَة.
0561 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الْقَاسِمِ عنْ أبيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها قالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنا حَائِضٌ ولَمْ أطُفْ بِالبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ قالَتْ فشَكَوْتُ ذالِكَ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إفْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غيرَ أنْ لَا تَطُوفي بالبيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إفعلي كَمَا يفعل الْحَاج) إِلَى آخِره، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب تقضي الْحَائِض الْمَنَاسِك كلهَا إلاَّ الطّواف بِالْبَيْتِ، فِي كتاب الْحيض عَن أبي نعيم عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الْحيض فِي أول كتاب الْحيض، بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان، قَالَ: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم سَمِعت الْقَاسِم، يَقُول: سَمِعت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول: خرجنَا لَا نرى إِلَّا الْحَج ... الحَدِيث. قَوْله: (حَتَّى تطهري) ، بِفَتْح التَّاء والطاء الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة وَتَشْديد الْهَاء أَيْضا. وَأَصله: تتطهري، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تغتسلي وتطهري بِالْغسْلِ، وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي رِوَايَة مُسلم: (حَتَّى تغتسلي) ، وَقَالَ ابْن بطال: الْعلمَاء مجمعون أَن الْحَائِض تشهد الْمَنَاسِك كلهَا غير الطّواف بِالْبَيْتِ، وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا منعت الْحَائِض(9/292)
من الطوا على غير طَهَارَة تَنْزِيها لِلْمَسْجِدِ عَن النَّجَاسَات، ولأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحيض فِي الْعِيدَيْنِ بالإعتزال. وَقَالَ ابْن التِّين: وَقَول عَائِشَة: وَلم أطف بِالْبَيْتِ، تُرِيدُ أَن طواف الْعمرَة منعهَا مِنْهُ حَيْضهَا. قَوْله: (كَمَا يفعل الْحَاج) لَا يكون إِلَّا بِأَن يردف الْحَج على الْعمرَة، قَالَ: وَقيل: كَانَت حاجَّة، ذكره ابْن عبد الْملك، وَلَا يَصح لَهَا السَّعْي، وَإِن كَانَ يَصح فعله بِغَيْر طَهَارَة كَانَ الطّواف قبله، وَذَلِكَ لَا يَصح حَتَّى تطهر، وَلَا يكون السَّعْي مُفردا، وَيصِح إِفْرَاد الطّواف. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَكَانَ البُخَارِيّ فهم أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا: (إفعلي كَمَا يفعل الْحَاج، غير أَن لَا تطوفي) أَنَّهَا تسْعَى، فبوب: (وَإِذا سعى على غير وضوء) . انْتهى. قلت: لَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكره، وَإِنَّمَا قَوْله: (وَإِذا سعى. .) إِلَى آخِره من التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا، وَأَشَارَ بهَا إِلَى الْخلاف فِي اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي السَّعْي، فَلذَلِك لم يجْزم بالحكم، غير أَنه لم يذكر فِي الْبَاب شَيْئا يدل عَلَيْهِ، وَاكْتفى بِمُجَرَّد ذكر هَذِه التَّرْجَمَة، فَافْهَم.
1561 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ وَقَالَ لي خَلِيفَةُ حَدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا حبيبٌ المُعَلِّمُ عنْ عَطَاءٍ عَن جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أهلَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وأصْحَابُهُ بالحَجِّ ولَيْسَ مَعَ أحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيرَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطَلْحَةَ وقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ ومَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أهْلَلْتُ بِمَا أهَلَّ بِهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصْحَابَهُ أنْ يَجْعَلوهَا عُمْرَةً ويَطُوفوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا ويَحِلُّوا إلاَّ مَنْ كانَ مَعَهُ الهَدُيُ فقالُوا ننْطَلِقُ إلَى مِنىً وذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ مَنيُّا فبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ ولَوْلا أنَّ مَعِي الْهَدْي لأَحْلَلْتُ وحاضَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أنَّهَا لَمْ تَطُف بِالبَيْتِ فلَمَّا طَهُرَتْ طافَتْ بِالْبَيْتِ قالتْ يَا رسولَ الله تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ وأنْطَلِقُ بِحَجٍّ فأمرَ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي بَكْرٍ أنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمَ فاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد الْمَعْرُوف بالزمن، وَقد مر غير مرّة، الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ. الثَّالِث: خَليفَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالفاءين خياط، من خياطَة الثِّيَاب، وَقد مر فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال. الرَّابِع: حبيب بن ابْن قريبَة الْمعلم بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التَّعْلِيم. الْخَامِس: عَطاء بن أبي رَبَاح. السَّادِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَنه ذكر هَذَا الْإِسْنَاد من طَرِيقين: الأول: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن حبيب، وَالثَّانِي: أَنه ذكره على سَبِيل المذاكرة حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ لي خَليفَة لَا على سَبِيل التَّحَمُّل، فَلذَلِك لم يقل: حَدثنَا خَليفَة مَعَ أَنه شَيْخه، وَهُوَ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنهم كلهم بصريون إلاَّ عَطاء فَإِنَّهُ مكي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ وَقَالَ) فَاعل قَالَ الأول البُخَارِيّ، وفاعل الثَّانِي ظَاهر، وَهُوَ خَليفَة. قَوْله: (أهل) أَي: أحرم. قَوْله: (وَلَيْسَ مَعَ أحد) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (وَطَلْحَة) بِالرَّفْع عطف على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَليّ) ، هُوَ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسلهُ إِلَى الْيمن. قَوْله: (وَمَعَهُ هدي) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (أَن يجعلوها) ، أَي: الْحجَّة الَّتِي أهلوا بهَا. قَوْله: (ويطوفوا) أَي: بِالْبَيْتِ، وَبَين الصَّفَا والمروة. قَوْله: (ويحلوا) أَي: ويصيرون حَلَالا. قَوْله: (يقطر) أَي: منيا بِسَبَب قرب عهدنا بِالْجِمَاعِ أَي: كُنَّا متمتعين بِالنسَاء. قَوْله: (فَبلغ) أَي: الشَّأْن يَعْنِي: بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْلهم، هَذَا وَهُوَ أَنهم تمَتَّعُوا بِهِ، وَقُلُوبهمْ لَا تطيب بِهِ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير متمتع، وَكَانُوا يحبونَ مُوَافَقَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي) أَي: لَو عرفت فِي أول الْحَال مَا عرفت آخرا، من جَوَاز الْعمرَة فِي أشهر الْحَج (لما أهديت) أَي: لَكُنْت مُتَمَتِّعا إِرَادَة لمُخَالفَة أهل الْجَاهِلِيَّة (ولأحللت) من الْإِحْرَام لَكِن امْتنع الْإِحْلَال لصَاحب الْهَدْي هُوَ(9/293)
الْمُفْرد أَو الْقَارِن حَتَّى يبلغ الْهَدْي إِلَى مَحَله، وَذَلِكَ فِي أَيَّام النَّحْر لَا قبلهَا، وَيُقَال: مَعْنَاهُ لَو اسْتقْبلت هَذَا الرَّأْي، وَهُوَ الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج من أول أَمْرِي لم أسق الْهَدْي. قَوْله: (فنسكت الْمَنَاسِك كلهَا) أَي: أَتَت بِأَفْعَال الْحَج كلهَا غير الطّواف بِالْبَيْتِ. قَوْله: (فَلَمَّا طهرت) ، بِفَتْح الْهَاء وَضمّهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: احْتج بِهِ من قَالَ: إِن التَّمَتُّع أفضل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَمَنَّى إلاَّ الْأَفْضَل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَأجَاب الْقَائِلُونَ بتفضيل الْإِفْرَاد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ من أجل فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة الَّذِي هُوَ خَاص بهم فِي تِلْكَ السّنة فَقَط، مُخَالفَة للجاهلية. وَقَالَ هَذَا الْكَلَام تطييبا لقلوب أَصْحَابه، لِأَن نُفُوسهم كَانَت لَا تسمح بِفَسْخ الْحَج قلت: قَالَ الطَّبَرِيّ: وَجُمْلَة الْحَال لَهُ أَنه لم يكن مُتَمَتِّعا، لِأَنَّهُ قَالَ: (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا أهديت) يَعْنِي مَا سقت الْهَدْي ولجعلتها عمْرَة، وَلَا كَانَ مُفردا لِأَن الْهَدْي كَانَ وَاجِبا كَمَا قَالَ، وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا للقارن. وَفِيه: فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، لَكِن نقُول: إِنَّه كَانَ مَخْصُوصًا بهم فِي تِلْكَ السّنة، وَأَنه لَا يجوز الْيَوْم إلاَّ عِنْد ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَدَاوُد والظاهري. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز الْأَمريْنِ، وَأَنه لَوْلَا مَا سبق من سوقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي لحل مَعَهم، إلاَّ أَن السنَّة فِيمَن سَاق الْهَدْي أَنه لَا يحل إلاَّ بعد بُلُوغ الْهَدْي مَحَله، وَهُوَ نَحره يَوْم النَّحْر. قَالَ القَاضِي: وَفِيه: دَلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مهلا بِالْحَجِّ. قلت: يَعْنِي لم يكن مُعْتَمِرًا، بل كَانَ قَارنا، كَمَا قَالَه الطَّبَرِيّ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: احْتج بِهَذَا الحَدِيث قوم على جَوَاز فسخ الْحَج فِي الْعمرَة، وَقَالُوا: من طَاف من الْحجَّاج بِالْبَيْتِ قبل وُقُوفه بِعَرَفَة وَلم يكن مِمَّن سَاق الْهَدْي فَإِنَّهُ يحل قلت: أَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم جمَاعَة الظَّاهِرِيَّة، وَأحمد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لأحد دخل فِي حجَّة أَن يخرج مِنْهَا إلاَّ بِتَمَامِهَا، وَلَا يحله شَيْء مِنْهَا قبل يَوْم النَّحْر من طواف وَلَا غَيره. قلت: أَرَادَ بالآخرين جَمَاهِير التَّابِعين وَالْفُقَهَاء مِنْهُم أَحْمد وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم، ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِمثل مَا ذكرنَا الْآن أَنه كَانَ خَاصّا لَهُم فِي حجتهم تِلْكَ دون سَائِر النَّاس بعدهمْ، ثمَّ قَالَ: وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك كَانَ خَاصّا للصحابة الَّذين حجُّوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيرهم حَدِيث بِلَال بن الْحَارِث، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت فسخ حجنا هَذَا لنا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟ قَالَ: بل لكم خَاصَّة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه.
2561 - حدَّثنا مُؤَمَّلُ بنُ هِشَامٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ عَن حَفْصَةَ قالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أنْ يخْرُجْنَ فقَدِمَتِ امْرَأةٌ فنزَلَتْ قَصْرَ بَني خَلَفَ فَحَدَّثَتْ أنَّ أختَهَا كانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ غَزَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثِنْتَي عَشْرَةَ غَزْوَةً وكانَتْ أُختِي مَعَهُ فِي سَتِّ غَزَواتٍ قالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى ونَقُومُ علَى المَرْضى فسَألْت أُخْتِي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ هَلْ عَلى إحْدانَا بأسٌ إنْ لَمْ يَكُنْ لَها جِلْبابٌ أنْ لَا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسهَا صاحِبتُهَا مِنْ جلْبابِهَا ولْتَشْهَدِ الخَيْرَ ودَعْوةَ المُؤْمِنِينَ فلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سَألْنَهَا أوْ قالَتْ سألْناها فقالَتْ وكانَتْ لَا تَذْكُر رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ قالَتْ بِأبِي فقُلْنا أسَمِعْتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ كذَا وكَذا قالَتْ نَعَمْ بِأبِي فقالَ لِتَخْرُجِ العَوَاتِقُ ذَواتُ الخُدُورِ أوِ العَواتِقِ وذَوَاتِ الخُدُورِ والحُيَّضُ فيَشْهَدْنَ الخَبَرَ ودَعْوةَ المُسْلِمِينَ ويَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى فَقُلْتُ آلْحَائِضُ فقالتْ أوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرفَةَ وتَشْهَدُ كَذا وتَشْهَدُ كذَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَو لَيْسَ تشهد عَرَفَة وَتشهد كَذَا وَتشهد كَذَا وَتشهد كَذَا؟) لِأَن مَعْنَاهُ: تشهد الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَتشهد الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار وَغير ذَلِك من أَفعَال الْحَج غير الطّواف بِالْبَيْتِ، وَهَذَا مُوَافق لقَوْل جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فنسكت الْمَنَاسِك كلهَا غير أَنَّهَا لم تطف بِالْبَيْتِ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بَاب شُهُود الْحَائِض(9/294)
الْعِيدَيْنِ فِي كتاب الْحيض، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن عبد الْوَهَّاب عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب إِذا لم يكن لَهَا جِلْبَاب فِي الْعِيد فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن مُؤَمل بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التأميل ابْن هِشَام، وَقد مر فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب عقد الشَّيْطَان، عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن حَفْصَة بنت سِيرِين، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْحيض مُسْتَوفى.
28 - (بَاب الإهْلالُ مِنَ البَطْحَاءِ وغَيْرِها لِلْمَكِّيِّ ولِلْحَاجِّ إذَا خَرَجَ إلَى مِنًى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الإهلال بِكَسْر الْهمزَة أَي: الْإِحْرَام من الْبَطْحَاء، أَي من وَادي مَكَّة وَغَيرهَا، أَي: وَمن غير بطحاء مَكَّة، وَهُوَ سَائِر أَجزَاء مَكَّة. قَوْله: (للمكي) أَي: الَّذِي من أهل مَكَّة، وَأَرَادَ الْحَج. قَوْله: (وللحاج) ، أَي: وللحاج الَّذِي هُوَ الآفاقي الَّذِي يُرِيد التَّمَتُّع إِذا خرج من مَكَّة إِلَى منى، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن شَرط الْخُرُوج من مَكَّة لَيْسَ إلاَّ للتمتع، فَالْحَاصِل من هَذِه التَّرْجَمَة أَن مهل الْمَكِّيّ والمتمتع لِلْحَجِّ هُوَ نفس مَكَّة، وَلَا يجوز تَركهَا ومهل الَّذِي يُرِيد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ خَارج نفس مَكَّة، سَوَاء الْحل وَالْحرم. وَقَوله: (إِلَى منى) ، كَذَا وَقع فِي طَرِيق أبي الْوَقْت وَفِي مُعظم الرِّوَايَات: (إِذا خرج من منى) بِكَلِمَة: من، فَوجه كلمة إليَّ ظَاهر، وَأما وَجه كلمة: من، فَيحْتَمل أَن يكون إِشَارَة إِلَى الْخلاف فِي مِيقَات الْمَكِّيّ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، فَعنده مِيقَات أهل مَكَّة نفس مَكَّة، وَقيل: مَكَّة وَسَائِر الْحرم، وَالصَّحِيح الأول، وَمذهب أبي حنيفَة أَن مِيقَات أهل مَكَّة فِي الْحَج الْحرم، وَمن الْمَسْجِد أفضل، وَفِي مَنَاسِك الحصيري: الْأَفْضَل لأهل مَكَّة أَن يحرموا من مَنَازِلهمْ ويسعهم التَّأَخُّر إِلَى آخر الْحرم بِشَرْط أَن يدخلُوا الْحل محرمين، فَلَو دخلُوا من غير إِحْرَام لَزِمَهُم دم، كالآفاقي، وَقَالَ الْمُهلب: من أنشأ الْحَج من مَكَّة فَلهُ أَن يهل من بَيته وَمن الْمَسْجِد الْحَرَام وَمن الْبَطْحَاء وَهُوَ طَرِيق مَكَّة أَو من حَيْثُ أحب مِمَّا دون عَرَفَة، ذَلِك كُله وَاسع، لِأَن مِيقَات أهل مَكَّة مِنْهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يخرج إِلَى الْحل لِأَنَّهُ خَارج فِي حجَّته إِلَى عَرَفَة، فَيحصل لَهُ بذلك الْجمع بَين الْحل وَالْحرم، وَهُوَ بِخِلَاف منشيء الْعمرَة من مَكَّة.
وسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ المُجَاوِرِ يُلَبِّي بالحَجِّ قَالَ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ واسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الاسْتوَاء على الرَّاحِلَة كِنَايَة عَن السّفر، فابتداء الاسْتوَاء هُوَ ابْتِدَاء الْخُرُوج من الْبَلَد. قَوْله: (عَطاء) هُوَ عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: (عَن المجاور) أَي: المجاور بِمَكَّة، وَهُوَ الْمُقِيم بهَا. قَوْله: (يُلَبِّي) جملَة وَقعت حَالا، قَوْله: (يَوْم التَّرويَة) هُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عَطاء بِلَفْظ: (رَأَيْت ابْن عمر فِي الْمَسْجِد، فَقيل لَهُ: قد رُؤِيَ الْهلَال) . فَذكر قصَّة مِنْهَا: (فَأمْسك حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة، فَأتى الْبَطْحَاء، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته أحرم) .
وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ عنْ عَطاءٍ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَدِمْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وجَعَلْنَا مَكَّةَ(9/295)
بِظهْرٍ لَبَّيْنَا بالحَجِّ
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لبينا) ، فَإِنَّهُ جملَة حَالية وَمَعْنَاهَا: جعلنَا مَكَّة من وَرَاءَنَا فِي يَوْم التَّرويَة حَال كوننا ملبين بِالْحَجِّ، فَعلم أَنهم حِين الْخُرُوج مِنْهَا كَانُوا محرمين. قَوْله: (وَقَالَ عبد الْملك) ، قَالَ الْكرْمَانِي: عبد الْملك هَذَا هُوَ ابْن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه هُوَ عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان. قلت: يحْتَمل كلا مِنْهُمَا، وَلَكِن هَذَا وَصله مُسلم من طَرِيق عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان الْعَرْزَمِي عَن عَطاء بن أبي رَبَاح (عَن جَابر: أَهْلَلْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة أمرنَا أَن نحل ونجعلها عمْرَة، فَكبر ذَلِك علينا) الحَدِيث، وَفِيه: (حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة وَجَعَلنَا مَكَّة بِظهْر أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ) . قَوْله: (حَتَّى يَوْم التَّرويَة) ، يَوْم، مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، أَي: حَتَّى فِي يَوْم التَّرويَة. قَوْله: (بِظهْر) أَي: جعلنَا مَكَّة وَرَاء ظُهُورنَا.
وَقَالَ أبُو الزُّبَيْرِ عنْ جابِرٍ أهْلَلْنَا مِنَ البَطْحَاءِ
أَبُو الزبير هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن تدرس، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَضم الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، الْمَكِّيّ، وَقد مر فِي: بَاب من شكا إِمَامه، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَحْمد فِي (مُسْنده) وَمُسلم فِي (صَحِيحه) من طَرِيق ابْن جريج عَنهُ (عَن جَابر، قَالَ: أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَحللنَا أَن نحرم إِذا توجهنا إِلَى منى، قَالَ: فأهللنا من الأبطح) .
وَقَالَ عُبَيْدُ بنُ جُرَيْجٍ لإبنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا رَأيْتُكَ إذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أهَلَّ النَّاسَ إذَا رَأوُا الْهِلاَلَ ولَمْ تُهِلَّ أنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقال لَمْ أرَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ
عبيد بِضَم الْعين، وجريج بِضَم الْجِيم مر ذكره فِي: بَاب غسل الرجلَيْن فِي النَّعْلَيْنِ فِي كتاب الْوضُوء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب غسل الرجلَيْن فِي النَّعْلَيْنِ مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ: أخبرنَا مَالك عَن سعيد المَقْبُري عَن عبيد بن جريج أَنه قَالَ لعبد الله بن عمر: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن! رَأَيْتُك تصنع أَرْبعا ... الحَدِيث، وَقَالَ ابْن بطال: أما وَجه احتجاج ابْن عمر بإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة، وَهُوَ غير مكي، على من أنشأ الْحَج من مَكَّة، أَنه يجب أَن يهل يَوْم التَّرويَة، وَهِي قصَّة أُخْرَى، فَوجه ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل من مِيقَاته فِي حِين ابْتِدَائه فِي عمل حجَّته من أصل عمله، وَلم يكن فيهمَا مكث يقطع بِهِ الْعَمَل، فَكَذَلِك الْمَكِّيّ لَا يهل إلاَّ يَوْم التَّرويَة الَّذِي هُوَ أول عمله ليتصل لَهُ عمله تأسيا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخِلَاف مَا لَو أهل من أول الشَّهْر، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يهل أحد من مَكَّة بِالْحَجِّ حَتَّى يُرِيد الرواح إِلَى منى، وَالله أعلم.
38 - (بابٌ أيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يبين فِيهِ أَيْن يُصَلِّي الظّهْر، أَي: فِي أَي مَكَان يُصَلِّي صَلَاة الظّهْر يَوْم التَّرويَة، وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة، والتروية، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْوَاو وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: سميت بذلك لأَنهم كَانُوا يتروون بِحمْل المَاء مَعَهم من مَكَّة إِلَى عَرَفَات، وَقيل: إِلَى منى، وَقيل: لِأَن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، رأى فِيهِ حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام، وَقيل: لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام أرى فِيهِ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، الْمَنَاسِك، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يروون إبلهم فِيهِ، وَقيل: لِأَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي مَنَامه أَنه يذبح وَلَده بِأَمْر الله تَعَالَى، فَلَمَّا أصبح كَانَ يروي فِي النَّهَار كُله، أَي: يتفكر. وَقيل: هُوَ من الرِّوَايَة، لِأَن الإِمَام يروي للنَّاس مناسكهم. قلت: ذكره الْجَوْهَرِي فِي: بَاب روى، معتل الْعين وَاللَّام، وَذكر فِيهِ مواد كَثِيرَة، ثمَّ قَالَ: وَسمي يَوْم التَّرويَة لأَنهم كَانُوا يرتوون فِيهِ من المَاء لما بعد، وَيكون أَصله من: رويت من المَاء بِالْكَسْرِ أوري ريا وريا، وروى أَيْضا مثل، رَضِي وَتَكون التَّرويَة مصدرا من بَاب التفعيل، تَقول: رويته المَاء تروية، وَأما قَول من قَالَ: لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِيهِ حَوَّاء فَغير صَحِيح من حَدِيث الِاشْتِقَاق، لِأَن رأى الَّذِي هُوَ من الرُّؤْيَة مَهْمُوز الْعين معتل اللَّام، نعم، جَاءَ من هَذَا الْبَاب ترئية وترية، وَلم يَجِيء: تروية فَالْأول من قَوْلك: رَأَتْ الْمَرْأَة ترئية إِذا رَأَتْ الدَّم الْقَلِيل عِنْد الْحيض، وَالثَّانِي اسْم الْخِرْقَة الَّتِي تعرف بهَا الْمَرْأَة حَيْضهَا من طهرهَا، وَأما بَقِيَّة الْأَقْوَال فكون أَصْلهَا من الرُّؤْيَة غير مستبعد، وَلَكِن لم يجىء لفظ التَّرويَة مِنْهَا لعدم الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي الِاشْتِقَاق. وَأما قَول من قَالَ: هُوَ من الرِّوَايَة، فبعيد جدا لِأَنَّهُ لم يَجِيء تروية من هَذَا الْبَاب لعدم الِاشْتِقَاق بَينهمَا، وَقَالَ بَعضهم: قيل فِي تَسْمِيَة التَّرويَة أَقْوَال شَاذَّة، وَذكر هَذِه الْأَقْوَال. قلت: هَذَا يدل على أَن أَصْلهَا صَحِيح فِي الِاشْتِقَاق، لِأَن الشاذ مَا يكثر اسْتِعْمَاله، وَلكنه على خلاف الْقيَاس، وَلَكِن هَذَا الْقَائِل لَو عرف الِاشْتِقَاق بَين الْمصدر وَالْأَفْعَال الَّتِي تشتق مِنْهُ لما صدر مِنْهُ هَذَا الْكَلَام فِي غير تَأمل وترو.(9/296)
3561 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا إسْحَاقُ الأزْرَقُ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ قَالَ سَألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قُلْتُ أخْبِرْنِي بِشِيْءٍ عَقَلْتَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنًى قُلْتُ فأيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بِالأبْطَحِ ثُمَّ قالَ افْعَلْ كَما يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: إِسْحَاق بن يُوسُف الْأَزْرَق، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: عبد الْعَزِيز بن رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، قد مر فِي أَبْوَاب الطّواف. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَنه من أَفْرَاده وَإِسْحَاق واسطي وسُفْيَان كُوفِي وَعبد الْعَزِيز مكي سكن الْكُوفَة، رَحمَه الله. وَفِيه: أَنه لَيْسَ لعبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أنس فِي (الصَّحِيحَيْنِ) إلاَّ هَذَا الْوَاحِد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن عَليّ وَإِسْمَاعِيل بن أبان، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع وَمُحَمّد بن الْوَزير الوَاسِطِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عقلته) ، أَي: أَدْرَكته وفهمته، وَهِي جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا وَقعت صفة لقَوْله: شَيْء. قَوْله: (أَيْن صلى الظّهْر) ، يَعْنِي فِي: أَي مَكَان صلاهَا. قَوْله: (قَالَ: بمنى) أَي: صلاهَا بمنى. قَوْله: (يَوْم النَّفر) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْفَاء، وَهُوَ الرُّجُوع من منى. قَوْله: (بِالْأَبْطح) هُوَ مَكَان متسع بَين مَكَّة وَمنى، وَالْمرَاد بِهِ: المحصب. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) ، أَي: أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إستحباب إِقَامَة صَلَاة الظّهْر وَالْعصر يَوْم التَّرويَة بمنى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى منى قبل الظّهْر وَصلى فِيهِ الظّهْر وَالْعصر، وَذكر أَبُو سعد النَّيْسَابُورِي فِي (كتاب شرف الْمُصْطَفى) : أَن خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم التَّرويَة كَانَ ضحى. وَفِي سيرة الملاّ: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج إِلَى منى بَعْدَمَا زاغت الشَّمْس. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لأبي عبد الله الْقُرْطُبِيّ: خرج، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى منى عَشِيَّة يَوْم التَّرويَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيكون خُرُوجهمْ بعد صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة حَيْثُ يصلونَ الظّهْر فِي أول وَقتهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور من نُصُوص الشَّافِعِي. وَفِيه: قَول ضَعِيف أَنهم يصلونَ الظّهْر بِمَكَّة ثمَّ يخرجُون، وَفِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل عِنْد مُسلم: (فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرويَة توجهوا إِلَى منى فأهلُّوا بِالْحَجِّ، وَركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالْفَجْر. .) الحَدِيث، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَأحمد وَالْحَاكِم، من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: (صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر يَوْم التَّرويَة، وَالْفَجْر يَوْم عَرَفَة بمنى) ، وَلأَحْمَد من حَدِيثه: (صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى خمس صلوَات) ، وَلأَحْمَد عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يحب إِذا اسْتَطَاعَ أَن يُصَلِّي الظّهْر بمنى، يَوْم التَّرويَة، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر بمنى، وَحَدِيث ابْن عمر فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع عَنهُ مَوْقُوف، وَلابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من طَرِيق الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: من سنة الْحَج أَن يُصَلِّي الإِمَام الظّهْر وَمَا بعْدهَا، وَالْفَجْر بمنى، ثمَّ يَغْدُونَ إِلَى عَرَفَة، وَقَالَ الْمُهلب: النَّاس فِي سَعَة من هَذَا يخرجُون مَتى أَحبُّوا وَيصلونَ حَيْثُ أمكنهم، وَلذَلِك قَالَ أنس: صلى حَيْثُ يُصَلِّي أمراؤك، وَالْمُسْتَحب فِي ذَلِك مَا فعله الشَّارِع، صلى الظّهْر وَالْعصر بمنى، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر. وَقَالَ ابْن حبيب: إِذا مَالَتْ الشَّمْس يطوف سبعا ويركع وَيخرج، وَإِن خرج قبل ذَلِك فَلَا حرج، وَعَادَة أهل مَكَّة أَن يخرجُوا إِلَى منى بعد صَلَاة الْعشَاء، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تخرج ثلث اللَّيْل، وَهَذَا يدل على التَّوسعَة، وَكَذَلِكَ الْمبيت عَن منى لَيْلَة(9/297)
عَرَفَة لَيْسَ فِيهِ حرج إِذا وافى عَرَفَة ذَلِك الْوَقْت الَّذِي يُخَيّر، وَلَيْسَ فِيهِ جبر كَمَا يجْبر ترك الْمبيت بهَا بعد الْوُقُوف أَيَّام رمي الْجمار، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر.
4561 - حدَّثنا عَليٌّ سَمِعَ أبَا بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ قَالَ لَ قيتُ أنَسا (ح) وحدَّثني إسْمَاعِيلُ بنُ أبَانٍ قَالَ حدَّثنا أبُو بَكْرٍ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ خَرَجْتُ إلَى مِنىً يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فلَقِيتُ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ ذَاهِبا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أيْنَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذَا اليَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَراؤُكَ فَصَلِّ.
(انْظُر الحَدِيث 3561 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر أوردهُ من رِوَايَة أبي بكر بن عَيَّاش، الظَّاهِر أَنه أوردهُ تَأْكِيدًا لطريق إِسْحَاق الْأَزْرَق، فَإِن التِّرْمِذِيّ لما أخرج حَدِيث إِسْحَاق قَالَ: صَحِيح يستغرب من حَدِيث إِسْحَاق الْأَزْرَق عَن الثَّوْريّ، أَرَادَ أَن إِسْحَاق تفرد بِهِ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيقين: الأول: عَن عَليّ هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَنه ابْن الْمَدِينِيّ؟ قلت: أَخذه من الْكرْمَانِي ثمَّ نسبه إِلَى نَفسه، وَأَبُو بكر بن عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن سَالم الْأَسدي الْكُوفِي الحناط، بالنُّون، الْمقري، قيل: اسْمه مُحَمَّد، وَقيل: عبد الله وَقيل: سَالم، وَقيل غير ذَلِك، وَالصَّحِيح ان اسْمه كنيته، وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن رفيع الْمَذْكُور. وَالطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِسْمَاعِيل بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره نون، وَهُوَ منصرف على الْأَصَح، وَقد مر فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة: أما بعد. وَإِنَّمَا قدم الطَّرِيق الأول لتصريحه فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ بَين أبي بكر بن عَيَّاش وَعبد الْعَزِيز، وَالطَّرِيق الثَّانِي بالعنعنة.
قَوْله: (ذَاهِبًا) نصب على الْحَال، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: رَاكِبًا. قَوْله: (هَذَا الْيَوْم) أَي: يَوْم التَّرويَة. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: أنس لعبد الْعَزِيز: انْظُر. قَوْله: (فصلِّ) أَمر يُخَاطب بِهِ أنس لعبد الْعَزِيز.
وَفِيه: إِشَارَة إِلَى مُتَابعَة أولي الْأَمر والاحتراز عَن مُخَالفَة الْجَمَاعَة، وَكَانَ الْأُمَرَاء لَا ينزلون بِالْأَبْطح، وَكَانُوا لَا يصلونَ الظّهْر وَالْعصر إلاَّ بمنى كَمَا فعله الشَّارِع، فَلذَلِك استحبت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
48 - (بابُ الصَّلاةِ بِمِنىً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كمية الصَّلَاة الرّبَاعِيّة فِي منى هَل تصلي على حَالهَا أَو تقصر؟ وَأورد فِيهِ ثَلَاثَة أَحَادِيث ذكرهَا فِي: أَبْوَاب تَقْصِير الصَّلَاة بترجمة بِعَين هَذِه التَّرْجَمَة، وَهُوَ: بَاب الصَّلَاة بمنى وَيبين كل وَاحِد الْآن.
5561 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرني عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ قَالَ صلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وَأبُو بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانُ صَدْرا مِنْ خِلافَتِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 2801) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرجه فِي الْبَاب الْمَذْكُور عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن عبيد الله، قَالَ: أَخْبرنِي نَافِع (عَن عبد الله ابْن عمر، قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بمنى رَكْعَتَيْنِ وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، صَدرا من إمارته، ثمَّ أتمهَا) . قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) أَي: المقصورتين من الْفَرِيضَة الرّبَاعِيّة. قَوْله: (وَعُثْمَان صَدرا) أَي: صلى رَكْعَتَيْنِ صَدرا، أَي: فِي صدر من أَيَّام خِلَافَته، أَي: فِي أَوَائِل خِلَافَته، وَإِنَّمَا ذكر صَدرا. وَقيد بِهِ لِأَن عُثْمَان أتم الصَّلَاة بعد سِتّ سِنِين، وَبَقِيَّة مباحثه تقدّمت هُنَاكَ.
6561 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحَاقَ الْهَمَدَانِيِّ عنْ حَارِثَةَ بنِ وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ صَلى بِنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونحْنُ أكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمنىً رَكْعَتَيْنِ.
(انْظُر الحَدِيث 3801) .(9/298)
أخرجه هُنَاكَ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعت حَارِثَة بن وهب، قَالَ: (صلى بِنَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، آمن مَا كَانَ بمنى رَكْعَتَيْنِ) . وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله الْهَمدَانِي الْمَشْهُور بالسبيعي الْكُوفِي، وحارثة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالراء والثاء الْمُثَلَّثَة، والخزاعي، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى خُزَاعَة حَيّ من الأزد. قَوْله: (وَنحن مَا كُنَّا أَكثر) ، جملَة وَقعت حَالا، فَقَوله: نَحن، مُبْتَدأ وَكلمَة: مَا، نَافِيَة خَبره، وَقَوله: (أَكثر) مَنْصُور على أَنه خبر كَانَ، وَكلمَة: قطّ، مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: وَنحن مَا كُنَّا قطّ فِي وَقت أَكثر منا فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا آمن منا فِيهِ، وَيجوز أَن تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة وَمَعْنَاهُ الْجمع، لِأَن مَا أضيف إِلَيْهِ أفعل يكون جمعا، قَوْله: (وآمنه) عطف على أَكثر، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: مَا، وَالتَّقْدِير: صلى بِنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْحَال أَنا أَكثر أكواننا فِي سَائِر الْأَوْقَات عددا وَأكْثر أكواننا فِي سَائِر الْأَوْقَات أمنا. وَإسْنَاد الْأَمْن إِلَى الْأَوْقَات مجَاز، قيل: وعَلى هَذَا كَمَا قُلْنَا: قطّ، مُتَعَلق بِمَحْذُوف، لِأَن: قطّ، يخْتَص بالماضي الْمَنْفِيّ، وَلَا منفي هَهُنَا، تَقْدِيره: مَا كُنَّا أَكثر من ذَلِك وَلَا آمنهُ قطّ. قلت: قَالَ ابْن مَالك: اسْتِعْمَال قطّ غير مسبوقة بِالنَّفْيِ مِمَّا خَفِي على كثير من النَّحْوِيين، وَقد جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيث بِدُونِهِ، وَله نَظَائِر، وَقيل: إِنَّه بِمَعْنى: أبدا، على سَبِيل الْمجَاز، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (وآمنه) ، بِالرَّفْع وَيجوز النصب بِأَن يكون فعلا مَاضِيا وفاعله الله تَعَالَى. قلت: فَحِينَئِذٍ يكون ضمير الْمَفْعُول هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالتَّقْدِير: وآمن الله تَعَالَى نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَئِذٍ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هَذَا على أَن يكون: أَكثر، خبر كَانَ، إِذْ لَا يَسْتَقِيم أَن يعْطف: وأمنه، على: أَكثر، وَهُوَ متعسف جدا. قَوْله: (بمنى) أَي: فِي منى، وَالْعَامِل فِيهِ قَوْله: صلى.
7561 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْراهِيم عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ يَزيدَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ ومَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَكْعَتَيُنِ ومعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ فيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَلِّبَتَانِ.
(انْظُر الحَدِيث 4801) .
أخرجه فِي الْبَاب الْمَذْكُور عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، فَانْظُر إِلَى التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الْمَتْن والإسناد، وَلَكِن الْحَاصِل وَاحِد.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبد الرَّحْمَن ابْن يزِيد بن قيس أَخُو الْأسود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْكُوفِي النَّخعِيّ، مَاتَ فِي الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (ثمَّ تَفَرَّقت بكم الطّرق) ، يَعْنِي: اختلفتم فِي قصر الصَّلَاة وإتمامها، فمنكم من يقصر ومنكم من لَا يقصر. قَوْله: (فيا لَيْت حظي من أَربع) أَي: فيا لَيْت نَصِيبي الَّذِي يحصل لي من أَربع رَكْعَات، رَكْعَتَانِ يقبلهما الله تَعَالَى. قَوْله: (رَكْعَتَانِ) فِي كثير من النّسخ: رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ على مَذْهَب الْفراء، فَإِنَّهُ جوز نصب خبر: لَيْت، كاسمه. وَأما وَجه: رَكْعَتَانِ، بِالرَّفْع فَهُوَ الأَصْل، لِأَنَّهُ خبر: لَيْت، وَخَبره مَرْفُوع. وَقَالَ الدَّاودِيّ: خشِي ابْن مَسْعُود أَن لَا تجزىء الْأَرْبَع فاعلها، وَتبع عُثْمَان كَرَاهَة لخلافه، وَأخْبر بِمَا يَعْتَقِدهُ. وَقيل: يُرِيد أَنه لَو صلى أَرْبعا فيا ليتها تقبل كَمَا تقبل الركعتان. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: غَرَضه لَيْت عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى رَكْعَتَيْنِ بدل الْأَرْبَع، كَمَا كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وصاحباه يَفْعَلُونَهُ. وَقيل: مَعْنَاهُ أَنا أتم مُتَابعَة لعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وليت الله قبل مني من الْأَرْبَع رَكْعَتَيْنِ.
وَفِيه: كَرَاهَة مُخَالفَة مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَبَقِيَّة المباحث تقدّمت هُنَاكَ.
58 - (بابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّوْم فِي يَوْم عَرَفَة، وَلم يبين حكمه لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ.
8561 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثنا سَالِمٌ قَالَ(9/299)
سَمِعْتُ عُمَيْرا مَوْلَى أُمِّ الفَضْلِ عنْ أُمِّ الفَضْلِ شَكَّ النَّاسُ يَومَ عَرَفةَ فِي صَوْمِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَعَثْتُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ بَيَان ترك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّوْم فِي يَوْم عَرَفَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن أبي أُميَّة أَبُو النَّضر، بالضاد الْمُعْجَمَة: مولى عمر بن عبيد الله بن معمر. الْخَامِس: عُمَيْر، مصغر عَمْرو، مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: أم الْفضل أم عبد الله ابْن عَبَّاس، وَاسْمهَا: لبَابَة، بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَنه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سُفْيَان مكي وَأَن الزُّهْرِيّ وسالما وعميرا مدنيون. .
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن القعْنبِي، وَفِي الصَّوْم عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُسَدّد، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن الْحميدِي، وَعَن مَالك بن إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن الْقَاسِم. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عَمْرو عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن القعْنبِي بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصم يَوْم عَرَفَة؟ فَإِن قلت: فِي (صَحِيح مُسلم) أَن صَوْمه يكفر سنتَيْن؟ قلت: هَذَا فِي غير الحجيج، أما فِي الحجيج فَيَنْبَغِي لَهُم أَن لَا يَصُومُوا لِئَلَّا يضعفوا عَن الدُّعَاء، وأعمال الْحَج اقْتِدَاء بالشارع، وَأطلق كثير من الشَّافِعِيَّة كَرَاهَته، وَإِن كَانَ الشَّخْص بِحَيْثُ لَا يضعف بِسَبَب الصَّوْم فَقَط، فَقَالَ الْمُتَوَلِي: الأولى أَن يَصُوم حِيَازَة للفضيلة. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَنسب غَيره هَذَا إِلَى الْمَذْهَب، وَقَالَ: الأولى عندنَا لَا يَصُوم بِحَال. وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي (الْحِلْية) : إِن كَانَ قَوِيا، وَفِي الشتَاء، وَلَا يضعف بالضعف عَن الدُّعَاء، فالصوم أفضل. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: لَو علم الرجل أَن الصَّوْم بِعَرَفَة لَا يُضعفهُ فصامه كَانَ حسنا، وَاخْتَارَ الْخطابِيّ هَذَا. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَالْمذهب عندنَا اسْتِحْبَاب الْفطر مُطلقًا، وَبِه قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وصرحوا بِأَنَّهُ لَا فرق. وَلم يذكر الْجُمْهُور الْكَرَاهَة، بل قَالُوا: يسْتَحبّ فطره، كَمَا قَالَه الشَّافِعِي، وَنقل الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره اسْتِحْبَاب الْفطر عَن أَكثر الْعلمَاء، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن جمَاعَة مِنْهُم: اسْتِحْبَاب صَوْمه، وَحكى صَاحب الْبَيَان عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه يجب عَلَيْهِ الْفطر بِعَرَفَة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي صَوْمه، فَقَالَ ابْن عمر: لم يصمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان وَأَنا لَا أصومه. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم عَرَفَة لَا يصحبنا أحد يُرِيد الصّيام فَإِنَّهُ يَوْم تَكْبِير. وَأكل وَشرب، وَاخْتَارَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: الْفطر، وَقَالَ عَطاء: من أفطر يَوْم عَرَفَة ليتقوى بِهِ على الذّكر كَانَ لَهُ مثل أجر الصَّائِم، وَكَانَ ابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يصومان يَوْم عَرَفَة، وروى أَيْضا عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ إِسْحَاق يمِيل إِلَيْهِ، وَكَانَ الْحسن يُعجبهُ صَوْمه وَيَأْمُر بِهِ الْحَاج، وَقَالَ: رَأَيْت عُثْمَان بِعَرَفَة فِي يَوْم شَدِيد الْحر صَائِما وهم يروحون عَنهُ، وَكَانَ أُسَامَة بن زيد وَعُرْوَة بن الزبير وَالقَاسِم وَمُحَمّد وَسَعِيد بن جُبَير يَصُومُونَ بِعَرَفَات. وَقَالَ قَتَادَة: لَا بَأْس بذلك إِذا لم يضعف عَن الدُّعَاء، وَبِه قَالَ الدَّاودِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: أحب صِيَامه لغير الْحَاج، أما من حج فَأحب أَن يفْطر ليقويه على الدُّعَاء، وَقَالَ عَطاء: أصومه فِي الشتَاء وَلَا أصومه فِي الصَّيف. وَفِيه: أَن الْأكل وَالشرب فِي المحافل مُبَاح ليبين معنى: أودعت الصُّورَة فِيهِ. وَفِيه: جَوَاز قبُول الْهَدِيَّة من النِّسَاء، وَلم يسْأَلهَا أَن كَانَ من مَالهَا، أَو من مَال زَوجهَا إِن كَانَ مثل هَذَا الْقدر لَا يشاحح النَّاس فِيهِ.
68 - (بابُ التَّلْبِيَةِ والتَّكْبيرِ إذَا غَدَا مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة وَالتَّكْبِير إِذا غَدا، أَي: إِذا ذهب من منى إلَى عَرَفَة.
9561 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أنَّهُ سَألَ أنسَ بنَ مَالِكٍ(9/300)
وهُمَا غادِيانِ مِنْ مِنىً إلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا اليَوْمِ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ كانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ويُكَبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ.
(انْظُر الحَدِيث 079) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا. وَأما الثَّقَفِيّ فَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح عَن أنس وَلَا غَيره غير هَذَا الحَدِيث، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب التَّكْبِير أَيَّام منى وَإِذا غَدا إِلَى عَرَفَة، أخرجه عَن أبي نعيم عَن مَالك بن أنس قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي بكر الثَّقَفِيّ، قَالَ: سَأَلت أنسا وَنحن غاديان من منى إِلَى عَرَفَات عَن التَّلْبِيَة، كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الملبي لَا يُنكر عَلَيْهِ، وَيكبر المكبر فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، فَانْظُر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي السَّنَد والمتن وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقَوله: فِي هَذَا الطَّرِيق: (كَانَ يُلَبِّي منا الملبي) ، يُوضح معنى قَوْله: (كَانَ يهل منا الْمهل) لِأَن الإهلال رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (وهما غاديان) جملَة إسمية وَقعت حَالا. أَي: ذاهبان غدْوَة. قَوْله: (كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ؟) أَي: من الذّكر طول الطَّرِيق، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي بكر، قَالَ: قلت لأنس بن مَالك غَدَاة عَرَفَة: مَا تَقول فِي التَّلْبِيَة فِي هَذَا الْيَوْم؟ قَالَ: سرت هَذَا الْمسير مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمنا المكبر وَمنا الْمهل، لَا يعيب أَحَدنَا على صَاحبه. قَوْله: (فَلَا يُنكر عَلَيْهِ) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع، وَقد مرت بَقِيَّة الْكَلَام هُنَاكَ.
78 - (بابُ التَّهْجِيرِ بالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التهجير، وَهُوَ السّير فِي الهاجرة، وَكَذَلِكَ الهجر والهاجرة نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر، وَكَذَلِكَ الهجر، وَمِنْه يُقَال: هجر النَّهَار، وَالْمرَاد بالتهجير بالرواح: أَن يهجر من نمرة إِلَى مَوضِع الْوُقُوف بِعَرَفَة، والنمرة، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم: مَوضِع بِقرب عَرَفَات خَارج الْحرم بَين طرف الْحَرْف وطرف عَرَفَات.
0661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمٍ قَالَ كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ أنْ لاَ يُخَالِفَ ابنَ عُمَرَ فِي الحجِّ فَجَاءَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَنا معَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ فصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقال مالِكَ يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمانِ فَقَالَ الرَّوَاحَ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ قَالَ هاذِهِ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأنْظِرْنِي حتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأسِي ثُمَّ أخرُج فنزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فسَارَ بَيْنِي وبَيْنَ أبِي فَقُلْتُ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فاقْصُرِ الخُطْبَةَ وعَجِّلِ الوُقُوفَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ الله فلَمَّا رَأى ذَلِكَ عَبْدُ الله قَالَ صَدَقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُستفاد من قَوْله: (هَذِه السَّاعَة) لِأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى زَوَال الشَّمْس، وَهُوَ وَقت الهاجرة، وَهُوَ وَقت الرواح إِلَى الْموقف لما روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر، (قَالَ: غَدا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين صلى الصُّبْح فِي صَبِيحَة يَوْم عَرَفَة حَتَّى أَتَى عَرَفَة، فَنزل نمرة وَهُوَ منزل الإِمَام الَّذِي ينزل بِهِ بِعَرَفَة، حَتَّى إِذا كَانَ عِنْده صَلَاة الظّهْر رَاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهجرا فَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر، ثمَّ خطب النَّاس ثمَّ رَاح فَوقف) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا. وَظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه توجه من منى حِين صلى الصُّبْح بهَا، لَكِن فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل الَّذِي رَوَاهُ مُسلم أَن توجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا كَانَ بعد طُلُوع الشَّمْس، وَلَفظه: (فَضربت لَهُ قبَّة بنمرة فَنزل بهَا حَتَّى زاغت الشَّمْس أَمر بالقصواء فرحلت، فَأتى بطن الْوَادي فَخَطب النَّاس. .) الحَدِيث بِطُولِهِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح.
قَوْله: (كتب عبد الْملك) هُوَ ابْن مَرْوَان الْأمَوِي الْخَلِيفَة، وَالْحجاج هُوَ ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَكَانَ واليا بِمَكَّة حِينَئِذٍ لعبد الْملك وأميرا على الْحَاج. قَوْله: (أَن لَا يُخَالف) بِلَفْظ النَّهْي وَالنَّفْي. قَوْله: (فِي الْحَج) أَي: فِي أَحْكَام الْحَج، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق أَشهب عَن مَالك: فِي أَمر الْحَج. قَوْله:(9/301)
(فجَاء ابْن عمر) الْقَائِل هُوَ سَالم وَالْوَاو فِي: وَأَنا، للْحَال. قَوْله: (مَعَه) أَي: مَعَ ابْن عمر، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ: (فَركب هُوَ وَسَالم وَأَنا مَعَهُمَا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن معمر، قَالَ ابْن شهَاب: (وَكنت يَوْمئِذٍ صَائِما فَلَقِيت من الْحر شدَّة) . وَاخْتلف الْحفاظ فِي رِوَايَة معمر هَذِه، فَقَالَ يحيى بن معِين: هِيَ وهم وَابْن شهَاب لم ير ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا سمع مِنْهُ. وَقَالَ الذهلي: لست أدفَع رِوَايَة معمر لِأَن ابْن وهب روى عَن الْعمريّ عَن ابْن شهَاب، رَحمَه الله تَعَالَى، نَحْو رِوَايَة معمر، وروى عَنْبَسَة بن خَالِد عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. . قَالَ: وفدت إِلَى مَرْوَان وَأَنا محتلم، قَالَ الذهلي: ومروان مَاتَ سنة خمس وَسِتِّينَ، وَهَذِه الْقِصَّة كَانَت سنة ثَلَاث وَسبعين. انْتهى. وَقَالَ غَيره: إِن رِوَايَة عَنْبَسَة هَذِه أَيْضا وهم، وَإِنَّمَا قَالَ الزُّهْرِيّ: وفدت على عبد الْملك، وَلَو كَانَ الزُّهْرِيّ وَفد على مَرْوَان لأدرك جلة الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مِمَّن لَيست لَهُ عَنْهُم رِوَايَة إلاَّ بِوَاسِطَة، وَقد أَدخل مَالك وَعقيل، وإليهما الْمرجع فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، بَينه وَبَين ابْن عمر فِي هَذِه الْقِصَّة سالما، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد. قَوْله: (عِنْد سرادق الْحجَّاج) ، السرادق، بِضَم السِّين. قَالَ الْكرْمَانِي: وَتَبعهُ غَيره أَنه هُوَ الْخَيْمَة وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا السرادق هُوَ الَّذِي يُحِيط بالخيمة وَله بَاب يدْخل مِنْهُ إِلَى الْخَيْمَة وَلَا يعْمل هَذَا غَالِبا إلاَّ للسلاطين والملوك الْكِبَار، وبالفارسية يُسمى: سرابردة. قَوْله: (ملحفة) ، بِكَسْر الْمِيم: الْإِزَار الْكَبِير. قَوْله: (معصفرة) أَي: مصبوغة بالعصفر. قَوْله: (يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن) هُوَ كنية عبد الله بن عمر. قَوْله: (الرواح) ، بِالنّصب أَي: رح الرواح أَو عجل، قَالَه الْكرْمَانِي، والأصوب أَن يُقَال: إِنَّه مَنْصُوب على الإغراء أَي: ألزم الرواح، والإغراء تَنْبِيه الْمُخَاطب على أَمر مَحْمُود ليفعله. قَوْله: (إِن كنت تُرِيدُ السنَّة) وَفِي رِوَايَة ابْن وهب: (إِن كنت تُرِيدُ أَن تصيب السنَّة) . وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّقَصِّي) : هَذَا الحَدِيث يدْخل عِنْدهم فِي الْمسند لقَوْله: (إِن كنت تُرِيدُ السنَّة) ، فَالْمُرَاد سنَّة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ إِذا أطلقها غَيره مَا لم تضف إِلَى صَاحبهَا، كَقَوْلِهِم: سنة العمرين، وَمَا أشبه ذَلِك. انْتهى. وَهَذِه مَسْأَلَة خلاف عِنْد أهل الحَدِيث وَالْأُصُول، وَالْجُمْهُور على مَا قَالَ ابْن عبد الْبر، وَهِي طَريقَة البُخَارِيّ وَمُسلم، ويقويه قَول سَالم لِابْنِ شهَاب، إِذْ قَالَ لَهُ: أفعل ذَلِك رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: وَهل تتبعون فِي ذَلِك إلاَّ سنته؟ قَوْله: (فأنظرني) بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الظَّاء الْمُعْجَمَة من الأنظار وَهُوَ الْإِمْهَال مَعْنَاهُ أمهلني وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (وانظرني) بِهَمْزَة الْوَصْل وَضم الظَّاء وَمَعْنَاهُ: انتظرني. قَوْله: (حَتَّى أفيض على رَأْسِي) حَتَّى اغْتسل لِأَن إفَاضَة المَاء على الرَّأْس إِنَّمَا تكون غَالِبا فِي الْغسْل. قَوْله: (ثمَّ أخرج) ، بِالنّصب عطف على قَوْله: (حَتَّى أفيض) ، وَأَصله: حَتَّى أَن أفيض، وَقَالَ ابْن التِّين: صَوَابه أفضِ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر. قَوْله: (فَنزل) أَي: ابْن عمر، كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى على مَا يَأْتِي بعد بَابَيْنِ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ رَاكِبًا. قَوْله: (فَسَار بيني وَبَين أبي) أَي: سَار الْحجَّاج بَين سَالم وَأَبِيهِ عبد الله بن عمر، وَيحْتَمل أَن يَكُونُوا ركبانا، لِأَن السّنة الرّكُوب حِينَئِذٍ لمن لَهُ رَاحِلَة. قَوْله: (وَعجل الْوُقُوف) ، قَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة يحيى وَابْن الْقَاسِم وَابْن وهب ومطرف: وَعجل الصَّلَاة، وَقَالَ القعْنبِي وَأَشْهَب: فَأَتمَّ الْخطْبَة وَعجل الْوُقُوف، جعلا مَوضِع الصَّلَاة الْوُقُوف. قَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ عِنْدِي غلط، لِأَن أَكثر الروَاة عَن مَالك على خِلَافه. قيل: رِوَايَة القعْنبِي لَهَا وَجه، لِأَن تَعْجِيل الْوُقُوف يسْتَلْزم تَعْجِيل الصَّلَاة، وَمَعَ هَذَا وَافق القعْنبِي عبد الله بن يُوسُف كَمَا ترى، وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن الِاخْتِلَاف فِيهِ عَن مَالك. قلت: هَذَا لَيْسَ بِظَاهِر، وَمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن تَعْجِيل الصَّلَاة يَوْم عَرَفَة سنة مجمع عَلَيْهَا فِي أول وَقت الظّهْر، ثمَّ يصلى الْعَصْر بإثر السَّلَام والفراغ. وَفِيه: أَن إِقَامَة الْحَج إِلَى الْخُلَفَاء وَمن جعلُوا ذَلِك إِلَيْهِ، وَهُوَ وَاجِب عَلَيْهِم يقيموا من كَانَ عَالما بِهِ. وَفِيه: الصَّلَاة خلف الْفَاجِر من الْوُلَاة مَا لم تخرجه بدعته عَن الْإِسْلَام. وَفِيه: أَن الرجل الْفَاضِل لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِ فِي مَشْيه إِلَى السُّلْطَان الجائر فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَفِيه: أَن تَعْجِيل الرواح للْإِمَام للْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي أول وَقت الظّهْر سنة. وَفِيه: الْغسْل للوقوف بِعَرَفَة. وَفِيه: خُرُوج الْحجَّاج وَهُوَ محرم وَعَلِيهِ ملحفة معصفرة وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ ابْن عمر. وَفِيه: حجَّة لمن أجَاز المعصفر للْمحرمِ. وَفِيه: جَوَاز تأمير الْأَدْنَى على الْأَفْضَل والأعلم. وَفِيه: ابْتِدَاء الْعَالم بالفتيا قبل أَن يسْأَل عَنهُ. وَفِيه: الْفَهم بِالْإِشَارَةِ وَالنَّظَر. وَفِيه: أَن اتِّبَاع الشَّارِع هُوَ السّنة وَإِن كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أوجه جَائِز غَيرهَا. وَفِيه: فَتْوَى التلميذ بِحَضْرَة أستاذه عِنْد السُّلْطَان وَغَيره. وَفِيه: جَوَاز الذّهاب من الْعَالم إِلَى السُّلْطَان، سَوَاء كَانَ جائرا أَو غير جَائِر، لأجل إرشاده إِيَّاه إِلَى الْخَيْر(9/302)
وإيقافه على مَا لَا يعلم من السّنة. وَفِيه: صياح الْعَالم عِنْدَمَا كَانَ السُّلْطَان فِيهِ ليسرع إِلَيْهِ فِي الْإِجَابَة. وَفِيه: أَن السُّلْطَان أَو نَائِبه يعْمل فِي الدّين بقول أهل الْعلم وَيرجع إِلَى قَوْلهم. وَفِيه: تَعْلِيم الْفَاجِر السّنَن لمَنْفَعَة النَّاس. وَفِيه: احْتِمَال الْمفْسدَة القليلة لتَحْصِيل الْمصلحَة الْكَبِيرَة، يُؤْخَذ ذَلِك من مُضِيّ ابْن عمر إِلَى الْحجَّاج وتعليمه. وَفِيه: الْحِرْص على نشر الْعلم لانتفاع النَّاس بِهِ. وَفِيه: الْخطْبَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة، يخْطب خطبتين بعد الزَّوَال وَبعد الْأَذَان قبل الصَّلَاة كخطبة الْجُمُعَة، وَلَو خطب قبل الزَّوَال جَازَ، وَعند أَصْحَابنَا فِي الْحَج ثَلَاث خطب: أَولهَا: فِي الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة، وَهُوَ قبل يَوْم التَّرويَة بِيَوْم، يعلم النَّاس فِيهَا الْخُرُوج إِلَى منى. وَالثَّانيَِة: يَوْم عَرَفَة، وَهُوَ التَّاسِع من الشَّهْر يعلم النَّاس فِيهَا مَا يجب من الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار والنحر وَطواف الزِّيَارَة. وَالثَّالِثَة: بمنى بعد يَوْم النَّحْر، وَهُوَ الْحَادِي عشر من الشَّهْر، يحمد الله ويشكره على مَا وفْق من قَضَاء مَنَاسِك الْحَج، ويحض النَّاس على الطَّاعَات، ويحذرهم عَن اكْتِسَاب الْخَطَايَا، فيفصل بَين كل خطبتين بِيَوْم. وَقَالَ زفر: يخطبها فِي ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَات: يَوْم التَّرويَة، وَيَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر. وَعند الشَّافِعِي: فِي الْحَج أَربع خطب مسنونة: إِحْدَاهَا بِمَكَّة يَوْم السَّابِع، وَالثَّانيَِة: يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة: يَوْم النَّحْر بمنى، وَالرَّابِعَة: يَوْم النفرالأول بمنى، وَعند مَالك: ثَلَاث خطب، الأولى: يَوْم السَّابِع بِمَكَّة بعد الظّهْر خطْبَة وَاحِدَة وَلَا يجلس فِيهَا. الثَّانِيَة: بِعَرَفَات بعد الزَّوَال بجلسة فِي وَسطهَا. وَالثَّالِثَة: فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر. وَعند أَحْمد كَذَلِك ثَلَاث خطب، وَلَا خطْبَة فِي الْيَوْم السَّابِع بِمَكَّة، بل يخْطب بِعَرَفَات بعد الزَّوَال، ثمَّ يخْطب بمنى يَوْم النَّحْر فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ، ثمَّ كَذَلِك ثَانِي أَيَّام منى بعد الظّهْر. وَقَالَ ابْن حزم: خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا وَهُوَ يَوْم النَّفر وَفِيه حَدِيث فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَآخر فِي (مُسْند أَحْمد) وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ ابْن حزم: وَقد روى أَيْضا أَنه خطبهم يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْم الأكارع، وَأوصى بذوي الْأَرْحَام خيرا. قَالَ ابْن قدامَة: وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يخْطب الْعشْر كُله، وَرُوِيَ عَن ابْن الزبير كَذَلِك، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
88 - (بابُ الوُقُوفِ عَلَى الدَّابةِ بِعَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوُقُوف رَاكِبًا على الدَّابَّة فِي عَرَفَة.
1661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبي النَّضْرِ عنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ الله ابنِ العبَّاسِ عَن أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ أنَّ نَاسا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَ بَعْضُهُمُ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فأرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَهُوَ وَاقِف على بعيره) ، وَقد مضى الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب ببابين، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم. . إِلَى آخِره، وَهنا: عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك عَن أبي النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة. وَهُوَ سَالم بن أبي أُميَّة إِلَى آخِره، فَانْظُر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الْمَتْن والسند، وَلَكِن الْحَاصِل وَاحِد.
قَوْله: (عَن عُمَيْر) ، بِضَم الْعين، وَذكر هُنَاكَ أَنه مولى عبد الله بن عَبَّاس، وَفِي ذَاك الْبَاب قَالَ: مولى أم الْفضل، وَوَجهه أَنه إِمَّا كَانَ مولى لَهما جَمِيعًا، أَو كَانَ مولى لأم الْفضل وَنسب إِلَى عبد الله مجَازًا، أَو بِالْعَكْسِ. وَاسم أم الْفضل: لبَابَة، وَقد مر هُنَاكَ. قَوْله: (فَأرْسلت) بِلَفْظ التَّكَلُّم، وبلفظ الْغَيْبَة، كَمَا فِي ذَاك الْبَاب، كَذَلِك فِي قَوْله: (فَبعثت) .
وَاخْتلف أهل الْعلم أَن الرّكُوب أفضل أَو تَركه بِعَرَفَة، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الرّكُوب أفضل لكَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف رَاكِبًا، وَلِأَن فِي الرّكُوب عونا على الِاجْتِهَاد فِي الدُّعَاء والتضرع الْمَطْلُوب هُنَاكَ. وَفِيه: قُوَّة، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعنهُ قَول: إنَّهُمَا سَوَاء. وَفِيه: أَن الْوُقُوف على ظهر الدَّابَّة مُبَاح إِذا كَانَ بِالْمَعْرُوفِ وَلم يجحف بالدابة، وَالنَّهْي الْوَارِد: (لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورهَا مَنَابِر) ، مَحْمُول على الْأَغْلَب الْأَكْثَر بِدَلِيل هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ ابْن التِّين: من سهل عَلَيْهِ بذل المَال وشق عَلَيْهِ الْمَشْي فمشيه أَكثر أجرا لَهُ، وَمن شقّ عَلَيْهِ(9/303)
بذله وَسَهل عَلَيْهِ الْمَشْي فركوبه أَكثر أجرا لَهُ، وَهَذَا على اعْتِبَار الْمَشَقَّة فِي الأجور.
98 - (بابُ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِعَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ أَي: الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة، وَلم يبين الحكم اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب، أَو لمَكَان الْخلاف فِيهِ، فَإِن مَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيّ قَالَا: يجوز الْجمع بِعَرَفَة والمزدلفة لكل أحد، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَقَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَعند أبي حنيفَة: لَا يجمع بَينهمَا إلاَّ من صلاهَا مَعَ الإِمَام، وَهُوَ مَذْهَب النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، سَبَب هَذَا الْجمع السّفر، حَتَّى لَا يجوز لأهل مَكَّة وَلَا لمن كَانَ مُقيما هُنَاكَ أَن يجمع. وَفِي (الرَّوْضَة) : أما الْحجَّاج من أهل الْآفَاق فَيجْمَعُونَ بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي وَقت الظّهْر، وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة فِي وَقت الْعشَاء، وَذَلِكَ الْجمع بِسَبَب السّفر على الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَقيل: بِسَبَب النّسك، فَإِن قُلْنَا بِالْأولِ فَفِي جمع الْمَكِّيّ قَولَانِ، لِأَن سَفَره قصير وَلَا يجمع الْعرفِيّ بِعَرَفَة وَلَا المزدلفي بِمُزْدَلِفَة لِأَنَّهُ وَطنه، وَهل يجمع كل وَاحِد مِنْهُمَا بالبقعة الْأُخْرَى؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ كالمكي، وَإِن قُلْنَا بِالثَّانِي جَازَ الْجمع لجميعهم، وَمن الْأَصْحَاب من يَقُول: فِي جمع الْمَكِّيّ قَولَانِ: الْجَدِيد مَنعه، وَالْقَدِيم جَوَازه، وعَلى الْقَدِيم فِي الْعرفِيّ والمزدلفي وَجْهَان، وَالْمذهب جمعهم على الْإِطْلَاق، وَحكم الْجمع فِي البقعتين حكمه فِي سَائِر الْأَسْفَار، وَيتَخَيَّر فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَالِاخْتِيَار التَّقْدِيم بِعَرَفَة وَالتَّأْخِير بِمُزْدَلِفَة.
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا فاتَتْهُ الصَّلاَةُ معَ الإمَامِ جمَعَ بَيْنَهُمَا
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي الْمَنَاسِك لَهُ، قَالَ: حَدثنَا الحوضي عَن همام أَن نَافِعًا حَدثهُ أَن ابْن عمر كَانَ إِذا لم يدْرك الإِمَام يَوْم عَرَفَة جمع بَين الظّهْر وَالْعصر فِي منزله، وَأخرجه الثَّوْريّ فِي (جَامعه) بِرِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد عَن نَافِع مثله، وَأخرجه ابْن الْمُنْذر من هَذَا الْوَجْه.
وقالَ اللَّيْثُ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرنِي سَالِمٌ أنَّ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ عامَ نَزَلَ بابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا سَألَ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَيْفَ تَصْنعُ فِي المَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ سالِمٌ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فقالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ صَدَقَ إنَّهُم كانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ والْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ فقُلْتُ لِسالِمٍ أفعَلَ ذَلِكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سالِمٌ وهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذالِكَ إلاَّ سُنَّتَهُ. مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانُوا يجمعُونَ بَين الظّهْر وَالْعصر) ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَعقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر. وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يحيى بن بكير وَأبي صَالح جَمِيعًا عَن اللَّيْث.
قَوْله: (عَام نزل بِابْن الزبير) ، وَهُوَ عبد الله بن الزبير، وَكَانَ نُزُوله فِي سنة ثَلَاث وَسبعين. قَوْله: (سَأَلَ عبد الله) ، أَي سَأَلَ الْحجَّاج عبد الله بن عمر. قَوْله: (فهجِّر) أَمر من التهجير أَي: صلِّ بالهاجرة، وَهِي شدَّة الْحر. قَوْله: (فِي السّنة) ، بِضَم السِّين وَتَشْديد النُّون أَي: سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمحل هَذِه نصب على الْحَال من فَاعل: يجمعُونَ، أَي: متوغلين فِي السّنة، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تعريضا بالحجاج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا وَجه مُطَابقَة كَلَام عبد الله لكَلَام وَلَده سَالم؟ ثمَّ أجَاب بقوله، لَعَلَّه أَرَادَ من الصَّلَاة صَلَاة الظّهْر وَالْعصر كليهمَا، فَكَأَنَّهُ أَمر بتهجير الصَّلَاتَيْنِ، فَصدقهُ عبد الله فِي ذَلِك. قَوْله: (فَقلت لسالم) الْقَائِل هُوَ ابْن شهَاب. قَوْله: (أفعل ذَلِك؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (وَهل تتبعون؟) بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا عين مُهْملَة: من الِاتِّبَاع، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: تَبْتَغُونَ، بِفَتْح التائين المثناتين من فَوق بَينهمَا بَاء مُوَحدَة وبالغين الْمُعْجَمَة: من الابتغاء، وَهُوَ الطّلب. قَوْله: (فِي ذَلِك) أَي: فِي ذَلِك الْفِعْل، وَفِي رِوَايَة(9/304)
الْحَمَوِيّ بِحَذْف كلمة: فِي، وَهِي مقدرَة، ويروى بذلك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي فِي الْجمع أَو التهجير.
09 - (بابُ قَصْرِ الخُطْبَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصر الْخطْبَة فِي يَوْم عَرَفَة.
3661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَالمِ بنِ عبد الله أنَّ عبدَ المَلِكِ بنَ مَرْوَانَ كتبَ إلَى الحَجَّاجِ أنْ يَأتَمَّ بِعَبْدِ الله بنِ عُمَرَ فِي الحَجِّ فلَمَّا كانَ يَوْمَ عرَفَةَ جاءَ ابنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَنا معَهُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ أوْ زَالَتْ فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطاطهِ أيْنَ هاذا فخَرجَ إلَيْهِ فقالَ ابنُ عُمَرَ فَقَالَ الْآن قَالَ نَعَمْ قَالَ أنْظُرْني أُفِيضُ علَيَّ مَاء فنزَلَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حَتى خرجَ الحَجَّاجُ فسَارَ بَيْني وبيْنَ أبي فقُلْتُ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ أنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ اليَوْمَ فاقْصُرْ الخُطْبَةَ وعَجِّلْ الوُقوفَ فَقَالَ ابنُ عُمرَ صَدَقَ.
(انْظُر الحَدِيث 0661 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاقصر الْخطْبَة) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى عَن قريب فِي: بَاب التهجير بالرواح يَوْم عَرَفَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَهنا عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (أَن يأتم) أَي: يقْتَدى. قَوْله: (زاغت) أَي: مَالَتْ. قَوْله: (أَو زَالَت) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (عِنْد فسطاطه) وَهُوَ بَيت من شعر، وَفِيه لُغَات تقدّمت. قَوْله: (أفيض) ، هُوَ اسْتِئْنَاف كَلَام، ويروى: أفض، بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، قَوْله: (إِن كنت تُرِيدُ) الْخطاب للحجاج، ويروي: لَو كنت، فكلمة: لَو، على هَذِه بِمَعْنى: أَن، يَعْنِي لمُجَرّد الشّرطِيَّة بِدُونِ مُلَاحظَة الِامْتِنَاع. فَافْهَم.
(بابُ التَّعْجِيلِ إِلَى المَوْقِفِ)
هَكَذَا وَقع هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة عِنْد الْأَكْثَرين بِغَيْر حَدِيث فِيهِ، وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر أصلا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَنه وَقع فِي بعض النّسخ هُنَا زِيَادَة: وَهُوَ بَاب التَّعْجِيل إِلَى الْموقف، وَقَالَ أَبُو عبد الله: يُرَاد فِي هَذَا الْبَاب: هَمْ هَذَا الحَدِيث حَدِيث مَالك عَن ابْن شهَاب، وَلَكِنِّي لَا أُرِيد أَن أَدخل فِيهِ معادا، أَقُول: هَذَا تَصْرِيح من البُخَارِيّ بِأَنَّهُ لم يعد حَدِيثا فِي هَذَا الْجَامِع وَلم يُكَرر شَيْئا مِنْهُ، وَمَا اشْتهر أَن نصفه تَقْرِيبًا مُكَرر، فَهُوَ قَول إقناعي على سَبِيل الْمُسَامحَة، وَأما عِنْد التَّحْقِيق فَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا من تَقْيِيد أَو إهمال أَو زِيَادَة أَو نُقْصَان أَو تفَاوت فِي الْإِسْنَاد وَنَحْوه، وَكلمَة: هم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْمِيم، قيل: إِنَّهَا فارسية، وَقيل: عَرَبِيَّة، وَمَعْنَاهَا قريب من معنى لفظ أَيْضا. انْتهى. قلت: أَرَادَ بقوله: وَقَالَ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ نَفسه لِأَن كنيته أَبُو عبد الله قَوْله: (هَذَا الحَدِيث) أَرَادَ بِهِ حَدِيث مَالك الَّذِي رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيقين: أَحدهمَا: طَرِيق عبد الله بن يُوسُف. وَالْآخر: طَرِيق عبد الله بن مسلمة كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَقَوله: (معادا) أَي: مكررا، وَحَاصِل هَذَا الْكَلَام أَنه قَالَ: زِيَادَة الحَدِيث الْمَذْكُور وَكَانَت مُنَاسبَة أَن تدهل فِي هَذَا الْبَاب، أَعنِي بَاب التَّعْجِيل إِلَى الْموقف، وَلَكِنِّي مَا أدخلته فِيهِ لِأَنِّي لَا أَدخل فِيهِ مكررا، وَكَأَنَّهُ لم يظفر بطرِيق آخر فِيهِ غير الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورين، فَلذَلِك لم يدْخلهُ، وَهَذَا يدل على أَنه لَا يُعِيد حَدِيثا وَلَا يكرره فِي هَذَا الْكتاب إلاَّ لفائدة من جِهَة الْإِسْنَاد، أَو من جِهَة الْمَتْن، قَالَ: وَإِن وَقع شَيْء خَارج من ذَلِك يكون اتفاقيا لَا قصدا، وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ نَادِر قَلِيل الْوُقُوع، وَأما قَول الْكرْمَانِي، وَكلمَة هم ... إِلَى رخره، فَهُوَ تصرف من عِنْده، تصرف فِيهَا حِين وقف على النُّسْخَة الَّتِي قَالَ فِيهَا: وَقع فِي بعض النّسخ، وَنقل عَنْهَا أَنه قَالَ: هم هَذَا الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَنه وَقع مِنْهُ هَذِه اللَّفْظَة فِي كَلَامه من غير قصد، فَنقل مِنْهُ على هَذَا الْوَجْه، وَأَن هَذِه اللَّفْظَة فارسية وَلَيْسَت بعربية. وَالله تَعَالَى أعلم.(9/305)
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
19 - (بابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْوُقُوف إِنَّمَا يكون بِعَرَفَة دون غَيرهَا من الْمَوَاضِع، وَذَلِكَ أَن قُريْشًا كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الله فَلَا نخرج من الْحرم، وَكَانَ غَيرهم يقفون بِعَرَفَة وعرفة خَارج الْحرم فَبين الله تَعَالَى فِي قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . إِن الْإِفَاضَة إِنَّمَا تكون من موقف عَرَفَة الَّذِي كَانَ يقف فِيهِ سَائِر النَّاس دون غَيره من موقف قُرَيْش عِنْد الْمشعر الْحَرَام، وَكَانُوا يَقُولُونَ، عزتنا بِالْحرم وسكنانا فِيهِ، وَنحن جيران الله فَلَا نرى الْخُرُوج عَنهُ إِلَى الْحل عِنْد وقوفنا فِي الْحَج، فَلَا نفارق عزنا وَمَا حرم الله تَعَالَى بِهِ أَمْوَالنَا ودماءنا، وَكَانَت طوائف الْعَرَب يقفون فِي موقف إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَة، وَكَانَ وقُوف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا فِي موقف إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي تَوْفِيقًا من الله تَعَالَى لَهُ على ذَلِك.
4661 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ وَقَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرِ ابنِ مُطْعِمٍ عنْ أبيهِ قَالَ كُنْتُ أطْلُبُ بَعِيرا لي (ح) وحدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ عَنْ عَمْرٍ ووسَمِعَ مُحَمَّدَ بنَ جُبَيْرِ بنِ مُطْعَمٍ قَالَ أضْلَلْتُ بَعِيرا لِي فَذَهَبْتُ أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقِفا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هاذا وَالله مِنَ الخُمْسِ فَما شَأنُهُ هاهُنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقِفًا بِعَرَفَة) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم. الْخَامِس: حبير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن مطعم، بِضَم الْمِيم إسم فَاعل من الْإِطْعَام ابْن عدي ابْن نَوْفَل الْقرشِي النَّوْفَلِي الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس: مُسَدّد بن مسرهد، وَالْكل قد ذكرُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: إسنادان: أَحدهمَا عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَالْآخر عَن مُسَدّد فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أضللت بَعِيرًا لي) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (أضللت بَعِيرًا) ، بِدُونِ كلمة: لي، يُقَال: أضلّهُ إِذا أضاعه، وَقَالَ ابْن السّكيت: أضللت بَعِيري إِذا ذهب مِنْك. قَوْله: (يَوْم عَرَفَة) أَي: فِي يَوْم عَرَفَة. فَإِن قلت: إضلاله بعيره كَانَ فِي يَوْم عَرَفَة أَو طلبه؟ قلت: طلبه كَانَ فِي يَوْم عَرَفَة فَإِن جُبَير بن مطعم إِنَّمَا جَاءَ إِلَى عَرَفَة ليطلب بعيره لَا ليقف بهَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ الْحميدِي فِي مُسْنده: (أضللت بَعِيرًا لي يَوْم عَرَفَة فَخرجت أطلبه بِعَرَفَة) .(10/2)
وَمن طَرِيقه رَوَاهُ أَبُو نعيم. قَوْله: (فَقلت) ، قَائِله جُبَير، وَأَشَارَ بقوله هَذَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَة، فَقَالَ: هَذَا وَالله من الحمس، يَعْنِي: هُوَ من الحمس، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره سين مُهْملَة، جمع الأحمس، وَفِي اللُّغَة: الأحمس الشَّديد والمشدد على نَفسه فِي الدّين يُسمى أحمس، والحماسة الشدَّة فِي كل شَيْء، قَالَه ابْن سَيّده. وَيُقَال لَهُ: المتحمس أَيْضا. وَفِي (الصِّحَاح) : حمس بِالْكَسْرِ فَهُوَ حمس وأحمس بيِّن الحمس. وَفِي (الموعب) عَن ابْن دُرَيْد: الحمس، بِالْفَتْح التشدد فِي الْأَمر، وَبِه سميت قُرَيْش وخزاعة وَبَنُو عَامر بن صعصعة وَقوم من كنَانَة، وَقَالَ غَيره: الحمس قُرَيْش وَمن ولدت من غَيرهَا، وَقيل: قُرَيْش وَمن ولدت وأحلافها، وَقيل: قُرَيْش وَمن ولدت من قُرَيْش وكنانة وجديلة قيس، وَكَانُوا إِذا أنكحوا امْرَأَة مِنْهُم غَرِيبا اشترطوا عَلَيْهِ أَن وَلَدهَا على دينهم، وَدخل فِي هَذَا الِاسْم من غير قُرَيْش ثَقِيف وَلَيْث بن بكر وخزاعة وَبَنُو عَامر بن صعصعة. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق وَكَانَت قُرَيْش، لَا أَدْرِي قبل الْفِيل أَو بعده، ابتدعت أَمر الحمس رَأيا رَأَوْهُ فتركوا الْوُقُوف على عَرَفَة، والإفاضة مِنْهَا، وهم يعْرفُونَ ويقرون أَنَّهَا من المشاعر وَالْحج، إلاَّ أَنهم قَالُوا: نَحن أهل الْحرم نَحن الحمس، والحمس أهل الْحرم. قَالُوا: وَلَا يَنْبَغِي للحمس أَن يأتقطوا الأقط وَلَا يسلوا السّمن، وهم حرم، وَلَا يدخلُوا بَيْتا من شعر، وَلَا يستظلوا إِن استظلوا إلاَّ فِي بيُوت الْأدم مَا كَانُوا حرما، ثمَّ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لأهل الْحل أَن يَأْكُلُوا من طَعَام جاؤا بِهِ مَعَهم من الْحل إِلَى الْحرم إِذا جاؤا حجاجا أَو عمارا، وَلَا يطوفون بِالْبَيْتِ إِذا قدمُوا أول طوافهم إلاَّ فِي ثِيَاب الحمس. وَقَالَ السُّهيْلي: كَانُوا ذَهَبُوا فِي ذَلِك مَذْهَب الترهب والتأله، فَكَانَت نِسَاؤُهُم لَا ينسجن الشّعْر وَلَا الْوَبر. وَعَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) : كَانُوا أَي قُرَيْش إِذا أهلوا بِحَجّ أَو عمْرَة لَا يَأْكُلُون لَحْمًا، وَإِذا قدمُوا مَكَّة وضعُوا ثِيَابهمْ الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم، وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا: سموا الْكَعْبَة بحمساء لِأَنَّهَا حمساء، حجرها أَبيض يضْرب إِلَى السوَاد. قَوْله: (فَمَا شَأْنه؟) هَذَا تعجب من جُبَير بن مطعم وإنكار مِنْهُ لما رأى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاقِفًا بِعَرَفَة، فَقَالَ: هُوَ من الحمس، فَمَا باله يقف بِعَرَفَة والحمس لَا يقفون بهَا؟ لأَنهم لَا يخرجُون من الْحرم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقْفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة كَانَت سنة عشر، وَجبير بن مطعم كَانَ مُسلما، لِأَنَّهُ أسلم يَوْم الْفَتْح، بل عَام خَيْبَر، فَمَا وَجه سُؤَاله إنكارا أَو تَعَجبا؟ ثمَّ أجَاب بقوله: لَعَلَّه لم يبلغ إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . أولم يكن السُّؤَال ناشئا عَن الْإِنْكَار والتعجب، بل أَرَادَ بِهِ السُّؤَال عَن حِكْمَة الْمُخَالفَة عَمَّا كَانَت الحمس عَلَيْهِ، أَو كَانَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقْفَة بهَا قبل الْهِجْرَة. انْتهى. قلت: حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا غير مرّة، وَأما بعد الْهِجْرَة فَلم يحجّ إلاَّ مرّة وَاحِدَة، وروى ابْن خُزَيْمَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر عَن عُثْمَان عَن أبي سُلَيْمَان عَن عَمه نَافِع بن جُبَير عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَت قُرَيْش إِنَّمَا تدفع من الْمزْدَلِفَة وَيَقُولُونَ: نَحن الحمس فَلَا نخرج من الْحرم، وَقد تركُوا الْموقف بِعَرَفَة، قَالَ: (فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَاهِلِيَّة يقف مَعَ النَّاس بِعَرَفَة على جمل لَهُ، ثمَّ يصبح مَعَ قومه بِالْمُزْدَلِفَةِ فيقف مَعَهم وَيدْفَع إِذا دفعُوا) ، وَلَفظ يُونُس بن بكير عَن ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي مُخْتَصرا، وَفِيه (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما مَعَ النَّاس قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي تَوْفِيقًا من الله تَعَالَى لَهُ) . وَأخرجه إِسْحَاق أَيْضا عَن الْفضل بن مُوسَى عَن عُثْمَان بن الْأسود عَن عَطاء عَن جُبَير بن مطعم، قَالَ: أضللت حمارا لي فِي الْجَاهِلِيَّة فَوَجَدته بِعَرَفَة، فَرَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاقِفًا بِعَرَفَات مَعَ النَّاس، فَلَمَّا أسلمت عرفت أَن الله وَفقه لذَلِك.
5661 - حدَّثنا فَرْوَةُ بنُ أبِي المَغْرَاءِ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ كانَ الناسُ يَطُوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إلاَّ الحُمْسَ والحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا ولَدَتْ وكانَتِ الحُمْسُ يحتَبِسُونَ علَى النَّاسِ يُعطي الرجلُ الرَّجلَ الثِّيابَ يَطُوفُ فِيهَا وتُعْطِي المرْأةُ المرأةَ الثِّيابَ تَطوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الحُمْسُ طافَ بالْبَيْتِ عُرْيانا وكانَ يُفِيضُ جَماعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفاتٍ ويُفِيضُ الحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وأخبرَنِي أبِي عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ هذِهِ الآيَةَ نزَلَتْ فِي الحُمْسِ(10/3)
ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيثُ أفَاضَ النَّاسُ قَالَ كانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فدُفِعُوا إلَى عَرَفاتٍ.
(الحَدِيث 5661 طرفه فِي: 0254) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . لِأَن الْأَمر بالإفاضة من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس لَا يكون إلاَّ بعد الْوُقُوف بِعَرَفَة، فصاروا مأمورين بِالْوُقُوفِ فِي عَرَفَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: فَرْوَة، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو: ابْن أبي المغراء، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالراء وبالمد، مر فِي آخر الْجَنَائِز. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء: قَاضِي الْموصل، مر فِي: بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة وَقد تكَرر ذكره الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَابْن مسْهر كوفيان، وَأَن هشاما وأباه عُرْوَة مدنيان. وَفِيه: أَن من قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) إِلَى قَوْله: (وَأَخْبرنِي. .) مَوْقُوف وَمن قَوْله وَأَخْبرنِي إِلَى آخِره، مُتَّصِل. وَفِيه: قَالَ عُرْوَة، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عُرَاة) ، جمع عارٍ، كقضاة جمع قاضٍ، وانتصابه على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي يطوفون، وَقد مر تَفْسِير الحمس عَن قريب. قَوْله: (وَمَا ولدت) أَي: وَأَوْلَادهمْ، وَاخْتَارَ كلمة: مَا، على كلمة: من، لعمومه. وَقيل: المُرَاد بِهِ والدهم وَهُوَ كنَانَة، لِأَن الصَّحِيح أَن قُريْشًا هم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، وَزَاد معمر هُنَا: وَكَانَ مِمَّن ولدت قُرَيْش خُزَاعَة وَبَنُو كنَانَة وَبَنُو عَامر بن صعصعة. وَعَن مُجَاهِد أَن مِنْهُم أَيْضا عدوان وَغَيرهم. قَوْله: (ويحتسبون) أَي: يُعْطون النَّاس الثِّيَاب حسبَة لله تَعَالَى. قَوْله: (يفِيض) ، أَصله من إفَاضَة المَاء وَهُوَ صبه بِكَثْرَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، أَفَضْتُم دفعتم من كَثْرَة المَاء. قَوْله: (جمَاعَة النَّاس) أَي: غير الحمس. قَوْله: (من عَرَفَات) ، هُوَ علم للموقف، وَهُوَ منصرف إِذْ لَا تَأْنِيث فِيهَا. قَالَه الْكرْمَانِي: وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ. فَإِن قلت: هلا منعت الصّرْف وَفِيه السببان التَّعْرِيف والتأنيث؟ قلت: لَا يَخْلُو التَّأْنِيث، إِمَّا أَن يكون بِالتَّاءِ الَّتِي فِي لَفظهَا، وَإِمَّا بتاء مقدرَة كَمَا فِي سعاد، فالتي فِي لفها لَيست للتأنيث، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَ الْألف الَّتِي قبلهَا عَلامَة جمع الْمُؤَنَّث، وَلَا يَصح تَقْدِير التَّاء فِيهَا، لِأَن هَذِه التَّاء لاختصاصها بِجمع الْمُؤَنَّث مَانِعَة من تقديرها كَمَا لَا تقدر تَاء التَّأْنِيث فِي بنت، لِأَن التَّاء الَّتِي هِيَ بدل من الْوَاو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنييث، فَأَبت تقديرها. انْتهى. وَسميت عَرَفَات بِهَذَا الإسم إِمَّا لِأَنَّهَا وصفت لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، فَلَمَّا بصرها عرفهَا. أَو لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين كَانَ يَدُور بِهِ فِي المشاعر أرَاهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: قد عرفت. أَو لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط من الْجنَّة بِأَرْض الْهِنْد، وحواء، عَلَيْهَا السَّلَام، بجذة، فَالْتَقَيَا ثمَّة فتعارفا أَو لِأَن النَّاس يَتَعَارَفُونَ بهَا. أَو لِأَن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف حَقِيقَة رُؤْيَاهُ فِي ذبح وَلَده ثمَّة أَو لِأَن الْخلق يعترفون فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ. أَو لِأَن فِيهَا جبالاً، والجيال هِيَ الْأَعْرَاف، وكل عَال فَهُوَ عرف. قَوْله: (من جمع) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: هِيَ الْمزْدَلِفَة، وَسمي بِهِ لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اجْتمع فِيهَا مَعَ حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام، وازدلف إِلَيْهَا أَي: دنا مِنْهَا أَو لِأَنَّهُ يجمع فِيهَا بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَأَهْلهَا يزدلفون أَي: يَتَقَرَّبُون إِلَى الله تَعَالَى بِالْوُقُوفِ فِيهَا. قلت: أَصْلهَا مزتلفة لِأَنَّهَا من زلف، فقلبت التَّاء دَالا لأجل الزَّاي. قَوْله: (قَالَ: وَأَخْبرنِي أبي) أَي: قَالَ هِشَام: وَأَخْبرنِي أبي عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (إِن هَذِه الْآيَة) أَي: قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . وَاخْتلف أهل التَّفْسِير فِي هَذِه الْآيَة، فَقَالَ الضَّحَّاك: يُرِيد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، يَعْنِي: يُرِيد من النَّاس إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَمْرو بن عبد الله بن صَفْوَان عَن يزِيد ابْن شَيبَان، قَالَ: أَتَانَا ابْن مربع الْأنْصَارِيّ، وَنحن وقُوف بالموقف، مَكَانا يباعده عَمْرو، فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: كونُوا على مشاعركم فَإِنَّكُم على إِرْث من إِرْث إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَاسم ابْن مربع: زيد، وَقيل: يزِيد، وَقيل: عبد الله بن مربع، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة. وَيزِيد بن شَيبَان أزدي وَله صُحْبَة. قَوْله: (كونُوا على مشاعركم) أَي: على مَوَاضِع الْمَنَاسِك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (قفوا على مشاعركم) ، وَفِي رِوَايَة حُسَيْن بن عقيل عَن الضَّحَّاك: (من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس) ، أَي: الإِمَام، وَقيل: آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،(10/4)
وَيُؤَيِّدهُ قِرَاءَة النَّاس: وَهُوَ آدم، عَلَيْهِ السَّلَام من قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي} (طه: 511) . وَقيل: {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . أَي: سَائِر النَّاس غير الحمسن. وَقَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِن قلت: فَكيف موقع: ثمَّ، يَعْنِي فِي قَوْله: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . لِأَن ثمَّ تَقْتَضِي المهلة؟ قَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 991) . ثمَّ قَالَ: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . والإفاضة من عَرَفَات قبل الْمَجِيء إِلَى الْمشعر الْحَرَام. وَأجَاب الزَّمَخْشَرِيّ: بِأَن موقع: ثمَّ، نَحْو موقعها فِي قَوْلك: أحسن إِلَى النَّاس ثمَّ لَا تحسن إِلَى غير كريم، تَأتي بثم لتَفَاوت مَا بَين الْإِحْسَان إِلَى الْكَرِيم وَالْإِحْسَان إِلَى غَيره، وَبَعْدَمَا بَينهمَا، فَكَذَلِك حِين أَمرهم بِالذكر عِنْد الْإِفَاضَة من عَرَفَات. قَالَ: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . لتَفَاوت مَا بَين الإفاضتين وَأَن إِحْدَاهمَا صَوَاب وَالثَّانيَِة خطأ، وَأجَاب غَيره بِأَن: ثمَّ، بِمَعْنى الْوَاو، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ. وَقيل: لقصد التَّأْكِيد لَا لمحض التَّرْتِيب، وَالْمعْنَى: فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام، ثمَّ اجعلوا الْإِفَاضَة الَّتِي تفيضونها من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس، لَا من حَيْثُ كُنْتُم تفيضون. وَقَالَ الْخطابِيّ: تضمن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . الْأَمر بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة، لِأَن الْإِفَاضَة إِنَّمَا تكون عَن اجْتِمَاع قبله. قَوْله: (فدفعوا إِلَى عَرَفَات) بِلَفْظ الْمَجْهُول أَي: أمروا بالذهاب إِلَى عَرَفَات حَيْثُ قيل لَهُم: ثمَّ أفيضوا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَرفعُوا) بالراء، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي أُسَامَة عَن هِشَام رجعُوا إِلَى عَرَفَات، وَالْمعْنَى: أَنهم أمروا أَن يتوجهوا إِلَى عَرَفَات ليقفوا بهَا ثمَّ يفيضوا مِنْهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْوُقُوف بِعَرَفَة وَهُوَ من أعظم أَرْكَان الْحَج، ثَبت ذَلِك بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله. أما فعله: فروى الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا روح حَدثنَا زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن ميسرَة أَنه سمع يَعْقُوب بن عَاصِم بن عُرْوَة يَقُول: سَمِعت الشريد يَقُول: أشهد لوقفت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَات، قَالَ: فَمَا مست قدماه اورض حَتَّى أَتَى جمعا، والشريد بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: ابْن سُوَيْد الثَّقَفِيّ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: حَدثنَا ابْن حميد حَدثنَا جرير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الله بن ربيعَة عَن أَبِيه، رجل من قُرَيْش، قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقف بِعَرَفَة مَوْضِعه الَّذِي رَأَيْته يقف فِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَأما قَوْله: فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة فَقَالَ: هَذِه عَرَفَة وَهُوَ الْموقف، وعرفة كلهَا موقف) الحَدِيث.
وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث جُبَير بن مطعم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل عَرَفَات موقف، فارفعوا عَن عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف فارفعوا عَن محسر، وكل أَيَّام منى منحر وَفِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح) . وَفِي هَذِه الْأَحَادِيث تعْيين عَرَفَة للوقوف، وَأَنه لَا يَجْزِي الْوُقُوف بغَيْرهَا، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك أَنه يَصح الْوُقُوف بعرنة، بِضَم الْعين وَالنُّون، والْحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة عَلَيْهِ، وحد عَرَفَة مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ فِي (تَارِيخ مَكَّة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: حد عَرَفَة من قبل الْمشرق على بطن عُرَنَة إِلَى جبال عُرَنَة إِلَى وصيق إِلَى ملتقى وصيق إِلَى وَادي عُرَنَة. ووصيق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره قَاف، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأَوْسَط) من مَنَاسِكه: وعرفة مَا جَاوز بطن عُرَنَة وَلَيْسَ الْوَادي وَلَا الْمَسْجِد مِنْهَا إِلَى الْجبَال الْمُقَابلَة مِمَّا يَلِي حَوَائِط ابْن عَامر وَطَرِيق الحضن، وَمَا جَاوز ذَلِك فَلَيْسَ بِعَرَفَة، و: الحضن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة المفتوحتين. وَابْن عَامر هُوَ عبد الله بن عَامر بن كريز، وَكَانَ لَهُ حَائِط نخل وَكَانَ فِيهَا عين. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَهُوَ الْآن خراب. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا إِذا دفع من عَرَفَة قبل غرُوب الشَّمْس وَلم يقف بهَا لَيْلًا، فَذهب مَالك إِلَى أَن الِاعْتِمَاد فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة على اللَّيْل من لَيْلَة النَّحْر، وَالنَّهَار من يَوْم عَرَفَة تبع، فَإِن وقف جزأ من اللَّيْل أَي جزءٍ كَانَ قبل طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر أَجزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: الِاعْتِمَاد على النَّهَار من يَوْم عَرَفَة من وَقت الزَّوَال وَاللَّيْل كُله تبع، فَإِن وقف جزأً من النَّهَار أَجزَأَهُ، وَإِن وقف جزأً من اللَّيْل أَجزَأَهُ، إلاَّ أَنهم يَقُولُونَ: إِن وقف جزأ من النَّهَار بعد الزَّوَال دون اللَّيْل كَانَ عَلَيْهِ دم، وَإِن وقف جزأ من اللَّيْل دون النَّهَار لم يجب عَلَيْهِ دم، وَذهب أَحْمد بن حَنْبَل إِلَى أَن الْوُقُوف من حِين طُلُوع الْفجْر من يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر من لَيْلَة النَّحْر، فسوى بَين أَجزَاء اللَّيْل وأجزاء النَّهَار. وَقَالَ ابْن قدامَة: وعَلى من دفع قبل الْغُرُوب دم فِي قَول أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَقَالَ ابْن جريج: عَلَيْهِ بَدَنَة، وَقَالَ الْحسن بن أبي الْحسن: عَلَيْهِ هدي من الْإِبِل، فَإِن دفع قبل الْغُرُوب ثمَّ عَاد نَهَارا فَوقف حَتَّى غربت الشَّمْس فَلَا دم عَلَيْهِ،(10/5)
فَإِن قلت: روى نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: من لم يقف بِعَرَفَة لَيْلَة الْمزْدَلِفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج. وَعَن عُرْوَة بن الزبير مثله، وَرَفعه ابْن عمر مرّة: ... من فَاتَهُ عَرَفَات بلَيْل فقد فَاتَهُ الْحَج) ، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب رَفعه، قَالَ: (من جَاوز وَادي عَرَفَة قبل أَن تغيب الشَّمْس فَلَا حج لَهُ) ، وَعَن معمر عَن رجل عَن سعيد بن جُبَير رَفعه: (إِنَّا لَا ندفع حَتَّى تغرب الشَّمْس) يَعْنِي: من عَرَفَات: قلت: ابْن حزم ضعف هَذِه كلهَا ووهاها. وَعَن عُرْوَة بن مُضرس الطَّائِي مَرْفُوعا: (من أدْرك مَعنا هَذِه الصَّلَاة وأتى عَرَفَات قبل ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه وَقضى تفثه) ، رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَالله تَعَالَى أعلم.
29 - (بابُ السَّيْرِ إذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة السّير إِذا دفع من عَرَفَة يَعْنِي إِذا انْصَرف مِنْهَا، وَتوجه إِلَى الْمزْدَلِفَة، وَفِي بعض النّسخ من عَرَفَات قَالَ الْفراء: عَرَفَات اسْم فِي لفظ الْجمع وَلَا وَاحِد لَهُ، وَقَول النَّاس: نزلنَا عَرَفَة شَبيه بالمولد، وَلَيْسَ بعربي مَحْض.
6661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ أنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنا جَالِسٌ كَيْفَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كانَ يَسيرُ الْعَنَقَ فَإذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يسير الْعُنُق) ، فَإِنَّهُ صفة سيره إِذا دفع من عَرَفَة، وَعَن قريب يَأْتِي تَفْسِيره.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أبي مُوسَى، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسَدّد، كِلَاهُمَا عَن يحيى ابْن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن أبي بكر عَن عَبدة بن سُلَيْمَان وَعبد الله بن نمير وَحميد بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي وَعَمْرو بن عبد الله الأودي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سُئِلَ أُسَامَة) ، وَهُوَ أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة، حب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومولاه سمع النَّبِي وَتُوفِّي فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة. قَوْله: (وَأَنا جَالس) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: وَأَنا جَالس مَعَه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام عَن أَبِيه: سُئِلَ أُسَامَة وَأَنا شَاهد، أَو قَالَ: سَأَلت أُسَامَة بن زيد. قَوْله: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، سميت بِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودع النَّاس فِيهَا. وَقَالَ: (لَا ألقاكم بعد عَامي هَذَا) وَغلط من كره تَسْمِيَتهَا بذلك، وَتسَمى الْبَلَاغ أَيْضا، لِأَنَّهُ قَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا: (هَل بلغت؟) وَحجَّة الْإِسْلَام لِأَنَّهَا الَّتِي حج فِيهَا بِأَهْل الْإِسْلَام لَيْسَ فِيهَا مُشْرك. قَوْله: (حِين دفع) ، أَي: من عَرَفَات، أَي: انْصَرف مِنْهَا إِلَى الْمزْدَلِفَة، وَفِي رِوَايَة يحيى بن يحيى وَغَيره عَن مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : حِين دفع من عَرَفَة. قَوْله: (الْعُنُق) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح النُّون، وَفِي آخِره قَاف، قَالَ فِي (الموعب) لِابْنِ التياني: هُوَ سير مسبطر، وَقَالَ معمر: هُوَ أدنى الْمَشْي، وَهُوَ أَن يرفع الْفرس يَده لَيْسَ يرفع هملجة وَلَا هرولة. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: الْعُنُق والعنيق ضرب من السّير، وَقد أَعْنَقت الدَّابَّة. وَقَالَ ابْن سَيّده: فَهِيَ معنق ومعناق وعنيق. وَفِي (الْمُخَصّص) عَن الْأَصْمَعِي: من الْمَشْي الْعُنُق وَهُوَ أَوله، وَقَالَ الْقَزاز: وَلم يَقُولُوا عُنُقه. وَفِي (كتاب الاحتفال) لِابْنِ أبي خَالِد فِي صِفَات الْخَيل: وَمن أَنْوَاع سير الْإِبِل وَالدَّوَاب الْعُنُق، وَهُوَ سير سهل مسبطر، تمد فِيهِ الدَّابَّة عُنُقهَا للاستعانة، وَهُوَ دون الْإِسْرَاع. وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ نوع من سير الدَّوَابّ طَوِيل. قَوْله: (فَإِذا وجد فجوة) الفجوة والفجواء مَمْدُود، قَالَ ابْن سَيّده: هُوَ مَا اتَّسع من الأَرْض، وَقيل: مَا اتَّسع مِنْهَا وانخفض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رَوَاهُ بَعضهم فِي (الْمُوَطَّأ) بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، وَرَوَاهُ أَبُو مُصعب وَيحيى بن بكير وَغَيرهمَا عَن مَالك بِلَفْظ: فُرْجَة، بِضَم الْفَاء وَسُكُون الرَّاء. (وَهُوَ) ، بِمَعْنى الفجوة. قَوْله: (نصَّ) فعل ماضٍ، وفاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: أسْرع. وَفِي (كتاب الاحتفال) : النَّص والنصيص فِي السّير أَن تسار الدَّابَّة أَو الْبَعِير سيرا شَدِيدا حَتَّى تستخرج أقْصَى مَا عِنْده، وَنَصّ كل شَيْء منتهاه.(10/6)
وَقَالَ أَبُو عبيد: النَّص أَصله مُنْتَهى الْأَشْيَاء وغايتها، ومبلغ أقصاها. وَقَالَ ابْن بطال: تَعْجِيل الدّفع من عَرَفَة، وَالله أعلم، إِنَّمَا هُوَ لضيق الْوَقْت لأَنهم إِنَّمَا يدْفَعُونَ من عَرَفَة إِلَى الْمزْدَلِفَة عِنْد سُقُوط الشَّمْس، وَبَين عَرَفَة والمزدلفة نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال، وَعَلَيْهِم أَن يجمعوا الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ وَتلك سنتها فتعجلوا فِي السّير لاستعجال الصَّلَاة. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الصَّوَاب فِي صفة السّير فِي الإفاضتين جَمِيعًا مَا صحت بِهِ الْآثَار إلاَّ فِي وَادي محسر، فَإِنَّهُ يوضع لصِحَّة الحَدِيث بذلك، فَلَو أوضع أحد فِي مَوضِع الْعُنُق أَو الْعَكْس لم يلْزمه شَيْء لإِجْمَاع الْجمع على ذَلِك، غير أَنه يكون مخطئا طَرِيق الصَّوَاب قلت: أَشَارَ بقوله: لصِحَّة الحَدِيث، إِلَى مَا رُوِيَ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، حَدثنَا وَكِيع وَبشر بن السّري وَأَبُو نعيم، قَالُوا: حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي الزبير (عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوضع فِي وَادي محسر) الحَدِيث وَقَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث حسن صَحِيح. قَوْله: (أوضع) ، أَي: أسْرع السّير من الإيضاع وَهُوَ السّير السَّرِيع، ومفعول: أوضع،، مَحْذُوف أَي: أوضع رَاحِلَته، لِأَن الرباعي مُتَعَدٍّ، والقاصر مِنْهُ ثلاثي. قَالَ الْجَوْهَرِي: وضع الْبَعِير وَغَيره أَي: أسْرع فِي سيره.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن السّلف كَانُوا يحرصون على السُّؤَال عَن كَيْفيَّة أَحْوَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي جَمِيع حركاته وسكونه ليقتدوا بِهِ فِي ذَلِك.
قَالَ هِشَامٌ والنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ
هُوَ هِشَام بن عُرْوَة الرَّاوِي، وَهَذَا تَفْسِير مِنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن هِشَام بن عُرْوَة، قَالَ هِشَام: وَالنَّص فَوق الْعُنُق، وأدرجه يحيى الْقطَّان فِي الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، حَدثنَا يحيى عَن هِشَام، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَة بن زيد: كَانَ يحيى يَقُول وَأَنا أسمع، فَسقط عني عَن مسير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع، قَالَ: فَكَانَ يسير الْعُنُق فَإِذا وجد فجوة نَص، وَالنَّص فَوق الْعُنُق، وَكَذَا أدرجه سُفْيَان فِيمَا أخرجه النَّسَائِيّ وَعبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان ووكيع فِيمَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة كلهم عَن هِشَام، وَقد رَوَاهُ عَن إِسْحَاق فِي (مُسْنده) عَن وَكِيع، ففصله وَجعل التَّفْسِير من كَلَام وَكِيع، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق سُفْيَان ففصله وَجعل التَّفْسِير من كَلَام سُفْيَان، وسُفْيَان ووكيع، إِنَّمَا أخذا التَّفْسِير الْمَذْكُور عَن هِشَام، فَرجع التَّفْسِير إِلَيْهِ. وَقد رَوَاهُ أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) عَن مَالك، فَلم يذكر التَّفْسِير، وَلذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة، وَمُسلم من طَرِيق حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن هِشَام.
فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ وَالجَمْعُ فَجَوَاتٌ وفِجَاءٌ وكذَلِكَ رَكْوَةٌ ورِكَاءٌ مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ
فسر البُخَارِيّ الفجوة بقوله: متسع، وَأَبُو عبد الله هُوَ كنية البُخَارِيّ، وَذكر أَيْضا أَن جمع فجوة يَأْتِي على مثالين: أَحدهمَا: فجوات، بِفتْحَتَيْنِ، وَالْآخر: فجَاء، بِكَسْر الْفَاء، وَمثل لذَلِك بقوله: (وَكَذَا ركوة وركاء) فَإِن ركوة على وزن فجوة، وركاء الَّذِي هُوَ جمع على وزن فجَاء. قَوْله: (مناص لَيْسَ حِين فرار) لم يثبت فِي كثير من النّسخ، وَأما وَجه الْمَذْكُور من ذَلِك أَنه إِنَّمَا ذكره لدفع وهم من يتَوَهَّم أَن المناص وَالنَّص من بَاب وَاحِد، وَأَن أَحدهمَا مُشْتَقّ من الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن النَّص مضعف وحروفه صِحَاح، والمناص من بَاب المعتل الْعين الواوي لِأَنَّهُ من النوص. قَالَ الْفراء: النوص التَّأَخُّر وَيُقَال: ناص عَن قرنه ينوص نوصا ومناصا أَي: فر وزاغ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَالَ الله تَعَالَى: {ولات حِين مناص} (ص: 3) . أَي: لَيْسَ وَقت تَأَخّر وفرار. وَالَّذِي يظْهر أَن أَبَا عبد الله هُوَ الَّذِي وهم فِيهِ فَظن أَن مَادَّة: نَص ومناص وَاحِدَة، فَلذَلِك ذكره، وَالْأولَى أَن يعْتَمد على النُّسْخَة الَّتِي لم يذكر هَذَا فِيهَا، وَيبعد الشَّخْص من نِسْبَة الْوَهم إِلَيْهِ أَو إِلَى غَيره.
39 - (بابُ النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفةَ وجَمْعٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نزُول الْحَاج بَين عَرَفَة وَجمع، وَهُوَ الْمزْدَلِفَة لقَضَاء حَاجته، أَي حَاجَة كَانَت، وَلَيْسَ هَذَا من الْمَنَاسِك.
7661 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ مُوسى بنِ عُقْبَةَ عنْ(10/7)
كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنْ أُسَامةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أفاضَ منْ عَرَفَةَ مَال إلَى الشّعْبِ فقَضى حاجَتَهُ فَتَوَضِّأ فقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أتُصَلِّي فَقَالَ الصَّلاَةُ أمامَكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَال إِلَى الشّعب فَقضى حَاجته) ، لِأَن مَعْنَاهُ نزل هُنَاكَ وَهُوَ بَين عَرَفَة وَجمع على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ وَرِوَايَته عَن مُوسَى بن عقبَة من رِوَايَة الأقران لِأَنَّهُمَا تابعيان صغيران، وَقد حمله مُوسَى عَن كريب فَصَارَ فِي الْإِسْنَاد ثَلَاثَة من التَّابِعين.
والْحَدِيث أخرجه فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب إسباغ الْوضُوء عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة إِلَى آخِره بأتم مِنْهُ وأطول، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (حَيْثُ أَفَاضَ) ، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: (حِين أَفَاضَ) ، وَهِي أصوب لِأَنَّهُ ظرف زمَان، وَحَيْثُ ظرف مَكَان. قَوْله: (إِلَى الشّعب) بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ الطَّرِيق بَين الجبلين. قَوْله: (فَقضى حَاجته) أَي: استنجى. قَوْله: (أَتُصَلِّي؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، ويروى بِدُونِ الْهمزَة وَلكنهَا مقدرَة. قَوْله: (الصَّلَاة أمامك؟) ، بِفَتْح الْهمزَة، أَي: الصَّلَاة فِي هَذِه اللَّيْلَة مَشْرُوعَة فِيمَا بَين يَديك أَي فِي الْمزْدَلِفَة، وَيجوز فِي لفظ: الصَّلَاة، الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره الصَّلَاة حَاضِرَة أَو حانت أمامك، وَأما النصب فبفعل مُقَدّر.
8661 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والْعِشَاءِ بِجَمْعٍ غَيْرَ أنَّهُ يَمُرُّ بالشَّعْبِ الَّذِي أخذَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَدْخُلُ فيَنْتَفِضُ ويَتَوَضِّأُ ولاَ يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّي بِجَمعٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (غير أَنه يمر بِالشعبِ فَيدْخل فينتفض) ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة ابْن أَسمَاء الضبعِي الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (بِجمع) ، هُوَ الْمزْدَلِفَة. قَوْله: (غير أَنه يمر) ، هَذَا فِي معنى الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع أَي: بِجمع، لَكِن بِهَذَا التَّفْصِيل من الْمُرُور بِالشعبِ وَمَا بعده لَا مُطلقًا. قَوْله: (الَّذِي أَخذه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يُصَلِّي أَي: قَوْله: (فينتفض) ، بفاء وضاد مُعْجمَة: من الانتفاض وَهُوَ كِنَايَة عَن قَضَاء الْحَاجة، مَعْنَاهُ: يستنجي ثمَّ يتَوَضَّأ وَلَا يُصَلِّي شَيْئا حَتَّى يُصَلِّي بِجمع.
9661 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبي حَرْمَلَةَ عنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْد رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ رَدِفْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَرَفاتٍ فلَمَّا بلَغَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشِّعْبَ الأيْسَرَ الَّذِي دُونَ المُزْدَلِفَهِ أناخَ فَبالَ ثُمَّ جاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوضُوء تَوَضَّأ وُضُوءًا خَفِيفا فقُلْتُ الصَّلاةُ يَا رسولَ الله قَالَ الصَّلاةُ أمامَكَ فَرَكِبَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الفَضْلُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاةَ جَمْعٍ. قَالَ كُرَيْبٌ فأخْبَرَنِي عَبْدُ الله بنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ الفَضْلِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الجَمْرَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشّعب الْأَيْسَر الَّذِي دون الْمزْدَلِفَة أَنَاخَ فَبَال) ، والإناخة وَالْبَوْل لَا يكونَانِ إلاَّ بالنزول، وَكَانَ ذَلِك بَين عَرَفَة وَجمع.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ مولى زُرَيْق الْمُؤَدب، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمِيم، وَلَا يعرف اسْمه، وَهُوَ مولى إِلَى حويطب، وَكَانَ خصيف يروي عَنهُ فَيَقُول: حَدثنِي مُحَمَّد بن حويطب، فَذكر ابْن حبَان أَن خصيفا كَانَ ينْسبهُ إِلَى جده وَإِلَيْهِ، وَذكر فِي (رجال الصَّحِيحَيْنِ) مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة الْقرشِي(10/8)
يكنى أَبَا عبد الله مولى عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان بن حويطب بن عبد الْعزي. قَالَ الْوَاقِدِيّ، مَاتَ فِي أول خلَافَة أبي جَعْفَر. الرَّابِع: كريب، بِضَم الْكَاف. الْخَامِس: أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس. السَّابِع: الْفضل بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بغلاني بغلان بَلخ، والبقية من الروَاة كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وهما عبد الله بن عَبَّاس وَالْفضل بن عَبَّاس. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ وهما الْمَذْكُورَان. وَفِيه: ثَلَاثَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ردفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِكَسْر الدَّال، أَي: ركبت وَرَاءه. قَوْله: (أَنَاخَ) أَي: رَاحِلَته. قَوْله: (الْوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو هُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (تَوَضَّأ) ويروى: (فتوضا) بفاء الْعَطف. قَوْله: (وضُوءًا خَفِيفا) إِمَّا بِأَنَّهُ تَوَضَّأ مرّة مرّة أَو بِأَنَّهُ خفف اسْتِعْمَال المَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالب عَادَته، وَيُؤَيّد هَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى الْآتِيَة بعد بَاب، فَلم يسبغ الْوضُوء. قَوْله: (فَقلت: الصَّلَاة) الْقَائِل هُوَ أُسَامَة، وَالصَّلَاة مَنْصُوبَة بِفعل مُقَدّر، وَيجوز رَفعهَا على تَقْدِير: الصَّلَاة حضرت. قَوْله: (الصَّلَاة أمامك) ، بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فصلى) ، أَي: لم يبْدَأ بِشَيْء قبل الصَّلَاة. وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عقبَة: ثمَّ سَار حَتَّى بلغ جمعا فصلى الْمغرب وَالْعشَاء. قَوْله: (غداء جمع) ، أَي: غَدَاة اللَّيْلَة الَّتِي كَانَت بِهِ، أَي: صبح يَوْم النَّحْر. قَوْله: (حَتَّى بلغ الْجَمْرَة) أَي: جَمْرَة الْعقبَة، ويروى: حَتَّى بلغ رمي الْجَمْرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الرّكُوب حَال الدّفع من عَرَفَة. وَفِيه: جَوَاز الارتداف على الدَّابَّة لَكِن إِذا كَانَت مطيقة. وَفِيه: الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء وللفقهاء فِيهِ تَفْصِيل لِأَن الِاسْتِعَانَة إِمَّا أَن تكون فِي إِحْضَار المَاء مثلا، أَو فِي صبه على المتوضيء، أَو مُبَاشرَة غسل أَعْضَائِهِ. فَالْأول جَائِز بِلَا خلاف، وَالثَّالِث مَكْرُوه إلاَّ إِن كَانَ لعذر، وَاخْتلف فِي الثَّانِي، وَالأَصَح أَنه: لَا يكره لكنه خلاف الأولى، وَأما الَّذِي وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ إِمَّا لبَيَان الْجَوَاز، وَهُوَ حِينَئِذٍ أفضل فِي حَقه، أَو كَانَ للضَّرُورَة. وَفِيه: الْجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. لِأَنَّهُ عقد لَهُ بَابا. وَفِيه: التَّلْبِيَة إِلَى أَن يَأْتِي إِلَى مَوضِع رمي الْجَمْرَة، وَسَيَأْتِي بَيَانه لِأَنَّهُ عقد بَابا لَهُ.
49 - (بابُ أمْرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإفَاضَةِ وإشارَتِهِ إلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالسَّكِينَةِ أَي: الْوَقار عِنْد الْإِفَاضَة من عَرَفَة، وشارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَصْحَابه بِالسَّوْطِ بذلك.
1761 - حدَّثنا سعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سُوَيْدٍ قَالَ حدَّثني عَمْرُو بنُ أبِي عَمْرٍ ومَولَى المُطَّلِبِ قَالَ أَخْبرنِي سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ مَولى وَالِبَةَ الكُوفِيُّ قَالَ حدَّثني ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ دفَعَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عَرَفةَ فسَمِعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَاءَهُ زَجْرا شَدِيدا وضَرْبا وصَوْتا لِلإبِلِ فأشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ وَقَالَ أيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُم بالسَّكِينَةِ فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاعِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وللترجمة جزآن: أَحدهمَا: أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالسَّكِينَةِ فيطابقه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أَيهَا النَّاس عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) ، وَالْآخر: إِشَارَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم بِالسَّوْطِ، فيطابقه قَوْله: (فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِسَوْطِهِ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم أَبُو مُحَمَّد، وَقد مر.(10/9)
الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون. الثَّالِث: عَمْرو بن أبي عَمْرو بِالْوَاو فيهمَا، وَاسم أبي عَمْرو: ميسرَة ضد الميمنة قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْحِرْص. الرَّابِع: سعيد بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، مولى والبة، بِكَسْر اللَّام وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الْخَفِيفَة: بطن من بني أَسد، قَتله الْحجَّاج فِي سنة خمس وَتِسْعين. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَإِبْرَاهِيم وَعَمْرو مدنيان وَسَعِيد كُوفِي وَتكلم فِي إِبْرَاهِيم فَقَالَ ابْن حبَان: فِي حَدِيثه مَنَاكِير وَلَكِن عِنْد البُخَارِيّ ثِقَة، وَقد تَابعه فِي هَذَا الحَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَعَمْرو مولى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب بن الْحَارِث بن عبيد بن عمر بن مَخْزُوم.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دفع مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: انْصَرف مَعَه من عَرَفَة يَوْم عَرَفَة. قَوْله: (زجرا) ، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْجِيم وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الصياح لحث الْإِبِل. قَوْله: (وَضَربا) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (وصوتا) ، أَيْضا بعد: ضربا، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيف من: ضربا، فعطف: صَوتا، عَلَيْهِ. قَوْله: (عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) إغراء أَي: لازموا السكينَة فِي السّير، يَعْنِي الرِّفْق وَعدم الْمُزَاحمَة، وَعلل ذَلِك بقوله: (فَإِن الْبر) أَي: الْخَيْر (لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ) أَي: السّير السَّرِيع من أوضع: إِذا سَار سيرا عنيفا وَيُقَال: هُوَ سير مثل الخبب. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا نَهَاهُم عَن الْإِسْرَاع إبْقَاء علهيم لِئَلَّا يجحفوا بِأَنْفسِهِم مَعَ بعد الْمسَافَة.
أوْضَعُوا أسْرَعُوا خِلاَلَكُمْ مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ وفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا بَيْنَهُمَا
هُوَ من كَلَام البُخَارِيّ أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير الإيضاع فِي الحَدِيث لِأَنَّهُ مصدر من أوضع يوضع إضاعا إِذا أسْرع فِي السّير، وَلما كَانَت لَفْظَة: أوضعوا، مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فِي سُورَة بَرَاءَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إلاَّ خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة} (التَّوْبَة: 74) . الْآيَة، وَالْمعْنَى: مَا زادوكم إلاَّ شَيْئا خبالاً، والخبال: الشَّرّ وَالْفساد، ولأوضعوا خلالكم ولسعوا بَيْنكُم بالتضريب وَهُوَ الإغراء بَين الْقَوْم وإفساد ذَات الْبَيْت، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَالْمعْنَى: ولأوضعوا أَي: أَسْرعُوا ركائبهم لِأَن الرَّاكِب أسْرع من الْمَاشِي، وَقَرَأَ ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: ولأرقصوا من: رقصت النَّاقة رقصا إِذا أسرعت، وأرقصتها أَنا، وقرىء: ولأوفضوا.
1761 - حدَّثنا سعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سُوَيْدٍ قَالَ حدَّثني عَمْرُو بنُ أبِي عَمْرٍ ومَولَى المُطَّلِبِ قَالَ أَخْبرنِي سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ مَولى وَالِبَةَ الكُوفِيُّ قَالَ حدَّثني ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ دفَعَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عَرَفةَ فسَمِعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَاءَهُ زَجْرا شَدِيدا وضَرْبا وصَوْتا لِلإبِلِ فأشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ وَقَالَ أيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُم بالسَّكِينَةِ فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاعِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وللترجمة جزآن: أَحدهمَا: أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالسَّكِينَةِ فيطابقه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أَيهَا النَّاس عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) ، وَالْآخر: إِشَارَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم بِالسَّوْطِ، فيطابقه قَوْله: (فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِسَوْطِهِ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم أَبُو مُحَمَّد، وَقد مر. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون. الثَّالِث: عَمْرو بن أبي عَمْرو بِالْوَاو فيهمَا، وَاسم أبي عَمْرو: ميسرَة ضد الميمنة قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْحِرْص. الرَّابِع: سعيد بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، مولى والبة، بِكَسْر اللَّام وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الْخَفِيفَة: بطن من بني أَسد، قَتله الْحجَّاج فِي سنة خمس وَتِسْعين. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَإِبْرَاهِيم وَعَمْرو مدنيان وَسَعِيد كُوفِي وَتكلم فِي إِبْرَاهِيم فَقَالَ ابْن حبَان: فِي حَدِيثه مَنَاكِير وَلَكِن عِنْد البُخَارِيّ ثِقَة، وَقد تَابعه فِي هَذَا الحَدِيث سُلَيْمَان بن بِلَال عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَعَمْرو مولى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب بن الْحَارِث بن عبيد بن عمر بن مَخْزُوم.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دفع مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: انْصَرف مَعَه من عَرَفَة يَوْم عَرَفَة. قَوْله: (زجرا) ، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْجِيم وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الصياح لحث الْإِبِل. قَوْله: (وَضَربا) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (وصوتا) ، أَيْضا بعد: ضربا، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيف من: ضربا، فعطف: صَوتا، عَلَيْهِ. قَوْله: (عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) إغراء أَي: لازموا السكينَة فِي السّير، يَعْنِي الرِّفْق وَعدم الْمُزَاحمَة، وَعلل ذَلِك بقوله: (فَإِن الْبر) أَي: الْخَيْر (لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ) أَي: السّير السَّرِيع من أوضع: إِذا سَار سيرا عنيفا وَيُقَال: هُوَ سير مثل الخبب. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا نَهَاهُم عَن الْإِسْرَاع إبْقَاء علهيم لِئَلَّا يجحفوا بِأَنْفسِهِم مَعَ بعد الْمسَافَة.
أوْضَعُوا أسْرَعُوا خِلاَلَكُمْ مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ وفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا بَيْنَهُمَا
هُوَ من كَلَام البُخَارِيّ أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير الإيضاع فِي الحَدِيث لِأَنَّهُ مصدر من أوضع يوضع إضاعا إِذا أسْرع فِي السّير، وَلما كَانَت لَفْظَة: أوضعوا، مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فِي سُورَة بَرَاءَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إلاَّ خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة} (التَّوْبَة: 74) . الْآيَة، وَالْمعْنَى: مَا زادوكم إلاَّ شَيْئا خبالاً، والخبال: الشَّرّ وَالْفساد، ولأوضعوا خلالكم ولسعوا بَيْنكُم بالتضريب وَهُوَ الإغراء بَين الْقَوْم وإفساد ذَات الْبَيْت، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَالْمعْنَى: ولأوضعوا أَي: أَسْرعُوا ركائبهم لِأَن الرَّاكِب أسْرع من الْمَاشِي، وَقَرَأَ ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: ولأرقصوا من: رقصت النَّاقة رقصا إِذا أسرعت، وأرقصتها أَنا، وقرىء: ولأوفضوا.
59 - (بابُ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بالمُزْدَلِفَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء فِي الْمزْدَلِفَة.
2761 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن مُوسى بنِ عُقْبَةَ عنْ كُرَيْبٍ عنْ أُسَامةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ دفَعَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَرَفَةَ فنزَلَ الشِّعْبَ فبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأ ولَمْ يُسْبِغ الوُضُوءَ فَقُلْتُ لَهُ الصَّلاَةُ فَقَالَ الصَّلاَةُ أمامَكَ فجَاءَ المُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأ فأسْبَغَ ثُمَّ أقيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلى المَغْرِبَ ثُمَّ أنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فصَلَّى ولَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فجَاء الْمزْدَلِفَة) إِلَى آخِره، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب إسباغ الْوضُوء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وَهَهُنَا أخرجه: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، والتفاوت فِي الْإِسْنَاد فِي شيخيه(10/10)
فَقَط، وَفِي المتنين شَيْء يسير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (عَن كريب عَن أُسَامَة) قَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَاهُ أَصْحَاب مَالك عَنهُ هَكَذَا إلاَّ أَشهب وَابْن الْمَاجشون فَإِنَّهُمَا أدخلا بَين كريب وَأُسَامَة عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه النَّسَائِيّ. قَوْله: (وَلم يسبغ الْوضُوء) ، قَالَ ابْن عبد الْبر: أَي: استنجى بِهِ وَأطلق عَلَيْهِ اسْم الْوضُوء اللّغَوِيّ لِأَنَّهُ من الْوَضَاءَة وَهِي النَّظَافَة، وَمعنى الإسباغ الْإِكْمَال أَي: لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصَّلَاة، قَالَ: وَقد قيل: إِن معنى قَوْله: (لم يسبغ الْوضُوء) أَي: لم يتَوَضَّأ فِي جَمِيع أَعْضَاء الْوضُوء، بل اقْتصر على بَعْضهَا. وَقيل: إِنَّه تَوَضَّأ وضوأ خَفِيفا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف الشُّرَّاح فِي قَوْله: (وَلم يسبغ الْوضُوء) ، هَل المُرَاد بِهِ: اقْتصر على بعض الْأَعْضَاء فَيكون وضوأ لغويا؟ وَاقْتصر على بعض الْعدَد فَيكون وضوأ شَرْعِيًّا؟ قَالَ: وَكِلَاهُمَا مُحْتَمل، لَكِن يعضد من قَالَ بِالثَّانِي قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (وضُوءًا خَفِيفا) لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي النَّاقِص: خَفِيف فَإِن قلت: قَول أُسَامَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الصَّلَاة، يدل على أَنه رَآهُ أَنه تَوَضَّأ وضوء الصَّلَاة. قلت: يحْتَمل أَن يكون مُرَاده: أَتُرِيدُ الصَّلَاة؟ فلِمَ لَم تتوضأ وضوء الصَّلَاة؟ وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا ترك إسباغه حِين نزل الشّعب ليَكُون مستصحبا للطَّهَارَة فِي طَرِيقه، وَتجوز فِيهِ، لِأَنَّهُ لم يرد أَن يُصَلِّي بِهِ، فَلَمَّا نزل وَأَرَادَهَا أسبغه فَإِن قلت: هَذَا يدل على أَنه تَوَضَّأ وضوء الصَّلَاة وَلكنه خفف، ثمَّ لما نزل تَوَضَّأ وضُوءًا آخر وأسبغه، وَالْوُضُوء لَا يشرع مرَّتَيْنِ لصَلَاة وَاحِدَة، قَالَه ابْن عبد الْبر، رَحمَه الله تَعَالَى قلت: لَا نسلم عدم مَشْرُوعِيَّة تكْرَار الْوضُوء لصَلَاة وَاحِدَة، وَلَئِن سلمنَا فَيحْتَمل أَنه تَوَضَّأ ثَانِيًا عَن حدث طَار، وَالله أعلم.
69 - (بابُ منْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ولَمْ يَتَطَوَّعْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من جمع بَين الصَّلَاتَيْنِ أَي: الْمغرب وَالْعشَاء، وَلم يتَطَوَّع، أَي: لم يصل تَطَوّعا بَين الصَّلَاتَيْنِ المذكورتين.
3761 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ جمَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ واحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإقَامَةٍ ولَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ولاَ عَلَى أثَرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة صَرِيحًا من مَتنه، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَاسم أبي إِيَاس: عبد الرَّحْمَن، أَصله من خُرَاسَان سكن عسقلان، وَابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَاسم أبي ذِئْب: هِشَام الْمدنِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الْمدنِي.
قَوْله: (بِجمع) ، بِفَتْح الْجِيم: وَهُوَ الْمزْدَلِفَة، وَقد فسرناه غير مرّة. قَوْله: (وَلم يسبح بَينهمَا) أَي: لم يتَطَوَّع بَين الْمغرب وَالْعشَاء. قَوْله: (وَلَا على إِثْر) ، بِكَسْر الْهمزَة بِمَعْنى: الْأَثر، بِفتْحَتَيْنِ، أَي: عَقِيبه.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْحَج عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن مخلد بن خَالِد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ، وَفِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن وَكِيع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء فِي الْمزْدَلِفَة، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَكِن الْخلاف فِيهِ: هَل هُوَ للنسك أَو لمُطلق السّفر، أَو للسَّفر الطَّوِيل، فَمن قَالَ: للنسك، قَالَ: يجمع أهل مَكَّة وَمنى وعرفة والمزدلفة، وَمن قَالَ: لمُطلق السّفر، قَالَ: يجمعُونَ سوى أهل الْمزْدَلِفَة، وَمن قَالَ للسَّفر الطَّوِيل، قَالَ: يتم أهل مَكَّة وَمنى وعرفة والمزدلفة وَجَمِيع من كَانَ بَينه وَبَينهَا دون مَسَافَة الْقصر، وَيقصر من طَال سَفَره. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم أَنه لَا يُصَلِّي الْمغرب دون جمع. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: كَأَنَّهُ أَرَادَ الْعَمَل عَلَيْهِ مَشْرُوعِيَّة واستحبابا لَا تحتما وَلَا لُزُوما، فَإِنَّهُم لم يتفقوا على ذَلِك، بل اخْتلفُوا فِيهِ. فَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: لَا يُصَلِّيهمَا حَتَّى يَأْتِي جمعا وَله السعَة فِي ذَلِك إِلَى نصف اللَّيْل، فَإِن صلاهما دون جمع أعَاد، وَكَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن صلاهما قبل أَن يَأْتِي الْمزْدَلِفَة فَعَلَيهِ الْإِعَادَة، وَسَوَاء صلاهما قبل مغيب الشَّفق أَو بعده، فَعَلَيهِ أَن يعيدهما إِذا أَتَى الْمزْدَلِفَة. وَقَالَ مَالك: لَا يُصليهَا أحد قبل جمع إلاَّ من عذر، فَإِن صلاهما من عذر لم يجمع بَينهمَا حَتَّى يغيب الشَّفق، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَن هَذَا هُوَ الْأَفْضَل، وَأَنه إِن جمع بَينهمَا فِي وَقت الْمغرب أَو فِي وَقت الْعشَاء، بِأَرْض عَرَفَات أَو غَيرهَا أَو صلى كل(10/11)
صَلَاة فِي وَقتهَا جَازَ ذَلِك، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو ثَوْر، وَأَبُو يُوسُف وَأَشْهَب، وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن أَصْحَاب الحَدِيث، وَبِه قَالَ من التَّابِعين: عَطاء وَعُرْوَة وَسَالم وَالقَاسِم وَسَعِيد بن جُبَير. وَفِيه: أَن الْإِقَامَة لكل وَاحِدَة من الْمغرب وَالْعشَاء.
وَفِيه: للْعُلَمَاء سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُقيم لكل مِنْهُمَا وَلَا يُؤذن لوَاحِدَة مِنْهُمَا، وَهُوَ قَول الْقَاسِم وَمُحَمّد وَسَالم وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَات عَن ابْن عمر، وَبِه قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأحمد بن حَنْبَل فِي أحد الْقَوْلَيْنِ عَنهُ. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأَصْحَابه فِيمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ وَالْبَغوِيّ وَغير وَاحِد، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا أَنه يُصَلِّيهمَا بِأَذَان للأولى وَإِقَامَتَيْنِ لكل وَاحِدَة إِقَامَة. وَقَالَ فِي الْإِيضَاح إِنَّه الْأَصَح. الثَّانِي: أَن يُصَلِّيهمَا بِإِقَامَة وَاحِدَة للأولى وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَات عَن ابْن عمر، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ فِيمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ والخطابي وَابْن عبد الْبر وَغَيرهم. الثَّالِث: أَنه يُؤذن للأولى وَيُقِيم لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل فِي أصح قوليه، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَعبد الْملك بن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة، والطَّحَاوِي، وَقَالَ الْخطابِيّ هُوَ قَول أهل الرَّأْي، وَذكر ابْن عبد الْبر أَن الْجوزجَاني حَكَاهُ عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة. الرَّابِع: أَنه يُؤذن للأولى وَيُقِيم لَهَا وَلَا يُؤذن للثَّانِيَة وَلَا يُقيم لَهَا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، حَكَاهُ النَّوَوِيّ وَغَيره. قلت: هَذَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَعند زفر: بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ. الْخَامِس: أَنه يُؤذن لكل مِنْهُمَا وَيُقِيم، وَبِه قَالَ عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قَول مَالك وَأَصْحَابه إلاَّ ابْن الْمَاجشون، وَلَيْسَ لَهُم فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع، قَالَه ابْن عبد الْبر. السَّادِس: أَنه لَا يُؤذن لوَاحِدَة مِنْهُمَا وَلَا يُقيم، حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ عَن بعض السّلف، وَهَذَا كُله فِي جمع التَّأْخِير.
أما جمع التَّقْدِيم كالظهر وَالْعصر بنمرة فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُؤذن للأولى وَيُقِيم لَهَا وَلَا يُقيم لكل مِنْهُمَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجُمْهُور أَصْحَابه. وَالثَّانِي: أَنه يُؤذن للأولى وَيُقِيم لَهَا وَلَا يُقيم للثَّانِيَة، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة. وَالثَّالِث: أَنه يُؤذن لكل مِنْهُمَا وَيُقِيم، وَهُوَ وَجه حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج عَن أبي الْحُسَيْن الْقطَّان أَنه أخرجه وَجها. فَإِن قلت: مَا الأَصْل فِي هَذِه الْأَقْوَال؟ قلت: الَّذِي قَالَ بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ، قَالَ بِرِوَايَة جَابر، وَالَّذِي قَالَ بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة قَالَ بِحَدِيث أبي أَيُّوب وَابْن عمر، فَإِنَّهُ لَيْسَ فيهمَا أَذَان وَلَا إِقَامَة، وَكَذَا رَوَاهُ طلق بن حبيب وَابْن سِيرِين وَنَافِع عَن ابْن عمر من فعله، وَالَّذِي قَالَ بِإِقَامَة وَاحِدَة قَالَ بِحَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع بِإِقَامَة وَاحِدَة) ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا عِنْد مُسلم، وَالَّذِي قَالَ بِإِقَامَة للمغرب وَإِقَامَة للعشاء بِحَدِيث أُمَامَة وَكَذَا فعله عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي رويت كلهَا مُسندَة، قَالَه ابْن حزم، وَقَالَ: وَأَشد الِاضْطِرَاب فِي ذَلِك عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ من عمله الْجمع بَينهمَا بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا إِقَامَة وَاحِدَة، وَرُوِيَ عَنهُ مَوْقُوفا بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة.، وَرُوِيَ عَنهُ مُسْندًا الْجمع بَينهمَا بإقامتين، وروى عَنهُ مُسْندًا بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة. قَالَ: وَهنا قَول سادس وَلم نجده مرويا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مَا روينَاهُ عَن ابْن مَسْعُود أَنه: صلى الْمغرب بِالْمُزْدَلِفَةِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِأَذَان وَإِقَامَة. قلت: هَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَنَفَّل بَين الْمغرب وَالْعشَاء حِين جمع بَينهمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا عقيب كل وَاحِدَة مِنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما لم يكن بَين الْمغرب وَالْعشَاء مهلة لم يتَنَفَّل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا، بِخِلَاف الْعشَاء فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَنه لم يتَنَفَّل عقيبها، لكنه تنفل بعد ذَلِك فِي أثْنَاء اللَّيْل، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على ترك التَّطَوُّع بَين الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَمن تنفل بَينهمَا لم يَصح أَنه جمع بَينهمَا.
4761 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ بِلالٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ سعِيدٍ قَالَ أَخْبرنِي عَدِيُّ بنُ ثَابِتٍ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ يَزِيدُ الخَطْمِيُّ قَالَ حدَّثني أبُو أيُّوبَ الأنْصَارِيُّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمعَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ المَغْرِبَ والْعِشَاءَ بِالمُزْدَلِفةِ.
(الحَدِيث 4761 طرفه فِي: 4144) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة: البَجلِيّ أَبُو الْهَيْثَم وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، وَقد مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب الْقرشِي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد(10/12)
الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عدي بن ثَابت، هُوَ عدي بن أبان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ إِمَام مَسْجِد الشِّيعَة وقاضيهم. الْخَامِس: عبد الله ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الخطمي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى خطمة، وهم فَخذ من الْأَوْس، وَقد مر فِي آخر كتاب الْإِيمَان. السَّادِس: أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ واسْمه خَالِد بن زيد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي، وَيُقَال لَهُ: قطواني، وقطوان محلّة على بَاب الْكُوفَة وَكَانَ يغْضب إِذا قيل لَهُ: قطواني، لِأَن الْبَقَّال يُقَال لَهُ: قطوان. وَفِيه: أَن بَقِيَّة الروَاة مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما يحيى وعدي. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وهما: عبد الله بن يزِيد وَأَبُو أَيُّوب. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده وَهُوَ عدي لِأَن عبد الله بن يزِيد جده لأمه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن يحيى بن يحيى عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَفِي الْحَج عَن يحيى بن حبيب وَعَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحَج عَن مُحَمَّد ابْن رمح بِهِ. قلت: وَفِي الْبَاب عَن جَابر رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي الحَدِيث الطَّوِيل فِي صفة حجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: (حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فصلى بهَا الْمغرب وَالْعشَاء بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ وَلم يسبح بَينهمَا) . وَعَن أبي بن كَعْب وَخُزَيْمَة بن ثَابت، روى حَدِيثهمَا الطَّبَرِيّ فِي (تَهْذِيب الْآثَار) ، وَحَدِيث خُزَيْمَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) وَعَن ابْن عَبَّاس: روى حَدِيثه ابْن حزم فِي حجَّة الْوَدَاع من رِوَايَة الثَّوْريّ عَن سَلمَة بن كهيل عَن سعيد بن جُبَير (عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَة وَاحِدَة) . وَعَن الْبَراء: روى حَدِيثه ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) وَقَالَ: هُوَ عِنْد أهل الْحِفْظ خطأ.
79 - (بابُ منْ أذَّنَ وأقامَ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُمَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أذن وَأقَام لكل وَاحِدَة من الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ.
5761 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا أبُو إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ ابنَ يَزِيدَ يَقُولُ حَجَّ عَبدُ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فأتينَا المُزْدلِفةِ حِينَ الأذَانِ بِالعَتْمةِ أوْ قريبَا مِن ذالِك فأمرَ رَجلاً فأذَّنَ وأقامَ ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ وصلَّى بَعْدَها رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فتَعَشَّى ثُمَّ أمرَ أُرَى رَجُلاً فأذَّنَ وأقامَ قَالَ عَمْرٌ ولاَ أعْلَمُ الشَّكَّ إلاَّ مِنْ زُهَيْرٍ ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ فلَمَّا طلَعَ الفَجْرُ قَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ لَا يُصَلِّي هاذِهِ السَّاعَةَ إلاَّ هاذِهِ الصَّلاةَ فِي هاذا المَكَانِ مِنْ هذَا اليَوْمِ قَالَ عَبْدُ الله هُمَا صَلاتانِ تُحَوَّلانِ عَنْ وَقْتِهِمَا صَلاةُ المَغْرِبِ بَعْدَما يَأتي النَّاسُ المُزْدَلِفَةَ والْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الفَجْرُ قَالَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَلُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأذن وَأقَام فِي موضِعين) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو بن خَالِد بن فروخ، مر فِي: بَاب إطْعَام الطَّعَام، فِي كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة بن خديج أَبُو خَيْثَمَة الْجعْفِيّ، مر فِي: بَاب لَا يستنجى بروث. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي، بِفَتْح السِّين. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن قيس أَخُو الْأسود النَّخعِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه حراني سكن مصر وَأَن الْبَقِيَّة كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما أَبُو إِسْحَاق(10/13)
وَعبد الرَّحْمَن.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد الله بن رَجَاء عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هِلَال بن الْعَلَاء.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حج عبد الله) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن هِلَال بن الْعَلَاء بن هِلَال، قَالَ: حَدثنَا حُسَيْن هُوَ ابْن عَيَّاش، قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، قَالَ: حج عبد الله فَأمرنِي عَلْقَمَة أَن ألزمهُ فَلَزِمته، فأتينا الْمزْدَلِفَة، فَلَمَّا كَانَ حِين طلع الْفجْر، قَالَ: قُم. قَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، إِن هَذِه السَّاعَة مَا رَأَيْتُك صليت فِيهَا قطّ؟ قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ زُهَيْر: وَلم يكن فِي كتاب الله كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِه السَّاعَة إلاَّ هَذِه الصَّلَاة فِي هَذَا الْمَكَان من هَذَا الْيَوْم. قَالَ عبد الله: هما صلاتان تؤخران عَن وقتهما: صَلَاة الْمغرب بَعْدَمَا تَأتي النَّاس الْمزْدَلِفَة، وَصَلَاة الْغَدَاء حِين يبزغ الْفجْر. قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك. قَوْله: (بالعتمة) أَي: وَقت الْعشَاء الْآخِرَة. قَوْله: (أَو قَرِيبا من ذَلِك) أَي: من مغيب الشَّفق. قَوْله: (فَأمر رجلا) لم يدر اسْمه. قيل: يحْتَمل أَن يكون هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد. قَوْله: (ثمَّ دَعَا بعشائه) ، بِفَتْح الْعين: هُوَ مَا يتعشى بِهِ من الْمَأْكُول. قَوْله: (أُرى) ، أَي: أَظن أَنه أَمر بِالتَّأْذِينِ وَالْإِقَامَة، وَهَذَا هُوَ المُرَاد من الشَّك. قَوْله: (قَالَ عَمْرو) هُوَ عَمْرو بن خَالِد شيخ البُخَارِيّ، وَهَذَا يبين أَن الشَّك من زُهَيْر الْمَذْكُور فِي السَّنَد، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الْحسن بن مُوسَى عَن زُهَيْر مثل مَا رَوَاهُ عَمْرو عَنهُ، وَلم يقل مَا قَالَ عَمْرو. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو عَن زُهَيْر، وَقَالَ فِيهِ: ثمَّ أَمر، قَالَ زُهَيْر: أرى فَأذن وَأقَام. قَوْله: (فَلَمَّا طلع الْفجْر) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (فَلَمَّا حِين طلع الْفجْر) ، وَفِي رِوَايَة الْحُسَيْن بن عَيَّاش عَن زُهَيْر: (فَلَمَّا كَانَ حِين طلع الْفجْر) ، وَالتَّقْدِير فِي هَذِه الرِّوَايَة: فَلَمَّا كَانَ حِين طُلُوع الْفجْر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وجزاؤه مَحْذُوف، وَهِي: صَلَاة الْفجْر، أَو الْمَذْكُور: جَزَاء على سَبِيل الْكِنَايَة لِأَن هَذَا القَوْل رَدِيف فعل الصَّلَاة. قَوْله: (قَالَ عبد الله) هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (تحولان) أما تَحْويل الْمغرب هُوَ تَأْخِيره إِلَى وَقت الْعشَاء الْآخِرَة، وَأما تَحْويل الصُّبْح فَهُوَ أَنه قدم على الْوَقْت الظَّاهِر طلوعه لكل أحد كَمَا هُوَ الْعَادة فِي أَدَاء الصَّلَاة إِلَى غير الْمُعْتَاد، وَهُوَ حَال عدم ظُهُوره للْكُلّ، فَمن قَائِل: طلع الصُّبْح، وَمن قَائِل: لم يطلع، وَقد تحقق الطُّلُوع لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِمَّا بِالْوَحْي أَو بِغَيْرِهِ، وَالْمرَاد أَنه كَانَ فِي سَائِر الْأَيَّام يُصَلِّي بعد الطُّلُوع، وَفِي ذَلِك الْيَوْم صلى حَال الطُّلُوع. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْغَرَض أَنه بَالغ فِي ذل الْيَوْم فِي التبكير، يَعْنِي: الِاسْتِحْبَاب فِي التبكير فِي ذَلِك الْيَوْم آكِد من غَيره لإِرَادَة الِاشْتِغَال بالمناسك. قلت: حَاصِل الْكَلَام أَنه لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه أوقع صَلَاة الْفجْر قبل طلوعه، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه صلاهَا قبل الْوَقْت الْمُعْتَاد، فعلهَا فِيهِ فِي الْحَضَر. قَوْله: (عَن وقتهما) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، عَنهُ: عَن وَقتهَا بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (حِين بزغ) ، بزاي وغين مُعْجمَة، وروى (حِين يبزغ) ، بِضَم الزَّاي من بَاب: نصر ينصر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان وَالْإِقَامَة لكل من الصَّلَاتَيْنِ إِذا جمع بَينهمَا، وَقَالَ ابْن حزم: لم نجده مرويا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو ثَبت عَنهُ لَقلت بِهِ، وَقد وجد عَن عمر من فعله. قلت: أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ، وَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا إِسْرَائِيل عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود أَنه صلى مَعَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صَلَاتَيْنِ مرَّتَيْنِ يجمع كل صَلَاة بِأَذَان وَإِقَامَة وَالْعشَاء بَينهمَا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: مَا كَانَ من فعل عمر وتأذينه للثَّانِيَة لكَون أَن النَّاس تفَرقُوا لعشائهم، فَأذن ليجمعهم، وَكَذَلِكَ نقُول نَحن إِذا تفرق النَّاس عَن الإِمَام لأجل عشَاء أَو لغيره، قَالَ: وَكَذَلِكَ معنى مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يخفى تكلفه، وَلَو تأتى لَهُ ذَلِك فِي حق عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لكَونه كَانَ الإِمَام لم يتأت لَهُ فِي حق ابْن مَسْعُود، قلت دَعْوَى التَّكَلُّف فِي ذَلِك هُوَ عين التَّكْلِيف لِأَن قَوْله قَوْله لم يتأت قَوْله لَهُ فِي حق ابْن مَسْعُود غير مرضِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الظَّاهِر أَنه كَانَ إِمَامًا لِأَنَّهُ أَمر رجلا، فَأذن وَأقَام، فَظَاهره يدل على أَنه كَانَ إِمَامًا. وَالثَّانِي: أَنا وَإِن سلمنَا أَنه لم يكن إِمَامًا، فَمَا الْمَانِع أَن يكون فعل مَا فعله اقْتِدَاء بعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ وَقد أَخذ مَالك بِظَاهِر الحَدِيث الْمَذْكُور، وروى ابْن عبد الْبر(10/14)
عَن أَحْمد بن خَالِد أَنه كَانَ يتعجب من مَالك حَيْثُ أَخذ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ من رِوَايَة الْكُوفِيّين مَعَ كَونه مَوْقُوفا، وَمَعَ كَونه لم يروه وَيتْرك مَا رُوِيَ عَن أهل الْمَدِينَة وَهُوَ مَرْفُوع، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَأَنا أعجب من الْكُوفِيّين حَيْثُ أخذُوا بِمَا رَوَاهُ أهل المدينا. وَهُوَ: أَن يجمع بَينهمَا بِأَذَان وَإِقَامَة وَاحِدَة. وَتركُوا مَا رَوَوْهُ فِي ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود، مَعَ أَنهم لَا يعدلُونَ بِهِ أحدا؟ قلت: لَا تعجب هَهُنَا أصلا، أما وَجه مَا فعله مَالك فَلِأَنَّهُ اعْتمد على صَنِيع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي ذَلِك وَإِن كَانَ لم يروه فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَأما الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّهُم اعتمدوا على حَدِيث جَابر الطَّوِيل الَّذِي أخرجه مُسلم: (أَنه جمع بَينهمَا بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ) ، وَهُوَ أَيْضا قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَول ابْن الْمَاجشون، وقووا ذَلِك أَيْضا بِالْقِيَاسِ على الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة. وَفِيه: حجَّة للحنفية على ترك الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي غير عَرَفَة وَجمع، وَقَالَ بَعضهم: وَأجَاب المجوزون بِأَن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ، وَقد ثَبت الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ من حَدِيث ابْن عمر وَأنس وَابْن عَبَّاس وَغَيرهم، وَأَيْضًا فالاستدلال بِهِ إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق الْمَفْهُوم وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَأما من قَالَ بِهِ فشرطه أَن لَا يُعَارضهُ مَنْطُوق، وَأَيْضًا فالحصر فِيهِ لَيْسَ على ظَاهره لإجماعهم على مَشْرُوعِيَّة الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة. قلت: قد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْجمع فِي السّفر بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَقَوله: وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ، أَي: بِالْمَفْهُومِ لَيْسَ على إِطْلَاقه، لِأَن الْمَفْهُوم على قسمَيْنِ مَفْهُوم مُوَافقَة وَمَفْهُوم مُخَالفَة، وهم قَائِلُونَ بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة لِأَنَّهُ فحوى الْخطاب كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه. وَفِيه: أَنه صلى بعد الْمغرب رَكْعَتَيْنِ. فَإِن قلت: قد تقدم أَنه لم يسبح بَينهمَا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: لم يشْتَرط فِي جمع التَّأْخِير الْمُوَالَاة، فالأمران جائزان، وَالْأَحْسَن فِي هَذَا مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، وَهُوَ: أَنه اخْتلف عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَة هَل صلاهما مَعًا أَو عمل بَينهمَا عملا؟ فَفِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا السَّابِق: وَلم يسبح بَينهمَا. وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَذَا وَصلى بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ فِي آخر الحَدِيث، رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَفْعَله، فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي ذَلِك وَكَانَت الصَّلَاتَان بِعَرَفَة تصلى إِحْدَاهمَا فِي إِثْر صاحبتها وَلَا يعْمل بَينهمَا عمل، فالنظر على ذَلِك أَن تكون الصَّلَاتَان بِمُزْدَلِفَة كَذَلِك، وَلَا يعْمل بَينهمَا عمل قِيَاسا عَلَيْهِمَا، وَالْجَامِع كَون كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فرضا فِي حق محرم بِحَجّ فِي مَكَان مَخْصُوص ليتدارك الْوُقُوف بِعَرَفَة والنهوض إِلَى الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة فَافْهَم.
89 - (بابُ منْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ ويَدْعُونَ ويُقَدِّمُ إذَا غابَ القَمَرُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من قدم ضعفة أَهله، و: الضعفة، بِفَتْح الْعين: جمع ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حزم: الضعفة هم الصّبيان وَالنِّسَاء فَقَط. قلت: يدْخل فِيهِ الْمَشَايِخ العاجزون لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ضعفة بني هَاشم وصبيانهم بلَيْل، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) : وَقَوله: ضعفه بني هَاشم، أَعم من النِّسَاء وَالصبيان والمشايخ العاجزين وَأَصْحَاب الْأَمْرَاض، لِأَن الْعلَّة خوف الزحام عَلَيْهِم، وَعَن ابْن عَبَّاس: (أَرْسلنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ضعفة أَهله، فصلينا الصُّبْح بمنى ورمينا الْجَمْرَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم يكن ابْن عَبَّاس من الضعفة، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ يرد عَلَيْهِ. قَوْله: (بلَيْل) أَي: فِي ليل، وَالْبَاء تتَعَلَّق بقوله: (قدم) وتقديمهم من منزلهم الَّذِي نزلُوا بِهِ بِجمع. قَوْله: (وَيدعونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) يَعْنِي: يذكرُونَ الله مَا بدا لَهُم، قَوْله: (وَيقدم إِذا غَابَ الْقَمَر) بَيَان لقَوْله: بلَيْل، لِأَن قَوْله: بلَيْل، أَعم من أَن يكون فِي أول اللَّيْل أَو فِي وَسطه أَو فِي آخِره. وَبَينه بقوله: (إِذا غَابَ) ، لِأَن مغيب الْقَمَر تِلْكَ اللَّيْلَة يَقع عِنْد أَوَائِل الثُّلُث الْأَخير، وَمن ثمَّة قَيده الشَّافِعِي وَأَصْحَابه بِالنِّصْفِ الثَّانِي، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر نِسَاءَهُ وَثقله فِي صَبِيحَة جمع أَن يفيضوا مَعَ أول الْفجْر بسواد، وَأَن لَا يرموا الْجَمْرَة إلاَّ مصبحين، وروى أَبُو دَاوُد (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقدم ضعفة أَهله بِغَلَس وَيَأْمُرهُمْ، يَعْنِي: لَا يرْمونَ الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس) ،، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيقدم بِلَفْظ الْمَفْعُول وَالْفَاعِل قلت: أَرَادَ بِلَفْظ الْبناء للْمَجْهُول، وَالْبناء للمعلوم فَفِي الأول يرجع الضَّمِير إِلَى الضعفة، فَيكون مَفْعُولا وَفِي الثَّانِي يرجع إِلَى لفظ: فَيكون فَاعِلا، فَافْهَم.(10/15)
6761 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ سالِمٌ وكانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أهْلِهِ فيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ بِالمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فيَذْكُرُونَ الله عزَّ وجَلَّ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أنْ يَقِفَ الإمَامُ وقَبْلَ أنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ منْ يَقْدَمُ مِنىً لِصَلاةِ الفَجْرِ ومِنْهُمْ منْ يَقْدَمُ بَعدَ ذلِكَ فإذَا قَدِمُوا رَمَوا الجَمْرَةَ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ أرْخَصَ فِي أُولائِكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (يقدم ضعفة أَهله) وَفِي قَوْله: (فيقفون) وَفِي قَوْله: (فَيذكرُونَ الله تَعَالَى) ، لِأَن الْمَعْنى: يدعونَ الله ويذكرونه مَا بدا لَهُم.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَيحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير الْمصْرِيّ، وَاللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ الْمدنِي، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله ابْن عمر، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن يُونُس بن شهَاب أَن سَالم بن عبد الله أخبرهُ.
قَوْله: (عِنْد الْمشعر الْحَرَام) ، بِفَتْح الْمِيم، وَقيل: إِن أَكثر الْعَرَب يكسر الْمِيم، قَالَ القتبي: لم يقْرَأ بِهِ أحد، وَذكر الْهُذلِيّ أَن أَبَا السمال بِاللَّامِ فِي آخِره قَرَأَهُ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ ابْن قرقول: تكسر فِي اللُّغَة لَا فِي الرِّوَايَة، وَهُوَ الْمزْدَلِفَة، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: عَن قطرب قَالُوا: مشْعر ومشعر ومشعر، ثَلَاث لُغَات، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: يُسمى مشعرا لِأَنَّهُ معلم لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي صَاحب (الْمَنَاسِك) : الْأَصَح أَن الْمشعر الْحَرَام فِي الْمزْدَلِفَة لَا غير الْمزْدَلِفَة، وحد الْمزْدَلِفَة مَا بَين مأزمي عَرَفَة وَقرن محسر يَمِينا وَشمَالًا من الشعاب وَالْجِبَال، وَقَالَ الْكرْمَانِي الشَّارِح: وَاخْتلف فِيهِ، وَالْمَعْرُوف عَن أَصْحَابنَا أَنه قزَح، بِضَم الْقَاف وَفتح الزَّاي وبالمهملة: وَهُوَ جبل مَعْرُوف بِالْمُزْدَلِفَةِ، والْحَدِيث يدل عَلَيْهِ، وَقَالَ غَيرهم: إِنَّه نفس الْمزْدَلِفَة. وَفِي (التَّلْوِيح) : والمزدلفة لَهَا اسمان آخرَانِ: جمع والمشعر الْحَرَام. وَفِي حَدِيث أَن قزَح هُوَ الْمشعر الْحَرَام، وَعَن ابْن عمر: أَن الْمشعر الْحَرَام هُوَ الْمزْدَلِفَة كلهَا. وَقَالَ بَعضهم: لَو كَانَ الْمشعر الْحَرَام هُوَ الْمزْدَلِفَة لقَالَ، عز وَجل: فاذكروا الله فِي الْمشعر الْحَرَام، وَلم يقل: عِنْده، كَمَا إِذا قلت: أَنا عِنْد الْبَيْت، لَا تكون فِي الْبَيْت. وَقَالَ أَبُو عَليّ الهجري فِي (كتاب النَّوَادِر) : وَآخر مُزْدَلِفَة محسر وَأول من بطن محسر محسر بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُشَدّدَة الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء وَاد بِجمع وَهِي مزلدلفة، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَهُوَ بَين يَدي موقف الْمزْدَلِفَة مِمَّا يَلِي منى، وَهُوَ مسيل قدر رمية بِحجر بَين الْمزْدَلِفَة وَمنى، وَذكره أَبُو عبيد. وَعند الطَّبَرِيّ: إسم فَاعل من: حسر، بتَشْديد السِّين، سمي بذلك لِأَن فيل أَصْحَاب الْفِيل حسر فِيهِ، أَي: أعيى وكلَّ عَن السّير. قيل: هَذَا غلط، لِأَن الْفِيل لم يعبر الْحرم. وَقيل: سمي بِهِ لِأَنَّهُ يحسر سالكه ويتعبهم، وَيُسمى: وادِ النَّار، وَيُقَال: إِن رجلا اصطاد فِيهِ فَنزلت نَار فَأَحْرَقتهُ، وَحِكْمَة الْإِسْرَاع فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ موقفا لِلنَّصَارَى، فاستحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْرَاع فِيهِ. قَوْله: (الْحَرَام) ، صفة الْمشعر، أَي: الْمحرم أَي الَّذِي يحرم عَلَيْهِ الصَّيْد فِيهِ وَغَيره، فَإِنَّهُ من الْحرم، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: ذَا الْحُرْمَة. قَوْله: (مَا بدا لَهُم) ، بِلَا همزَة أَي: مَا ظهر لَهُم وسنح فِي خواطرهم وأرادوه. قَوْله: (ثمَّ يرجعُونَ) أَي: إِلَى منى قبل أَن يقف الإِمَام بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ يدْفَعُونَ) . قَوْله: (وَقبل أَن يدْفع) أَي: الإِمَام. قَوْله: (لصَلَاة الْفجْر) ، أَي: عِنْد صَلَاة الْفجْر. قَوْله: (رموا الْجَمْرَة) أَي: جَمْرَة الْعقبَة، وَهِي مرمى يَوْم النَّحْر، وَيُقَال لَهَا: الْجَمْرَة الْكُبْرَى. قَوْله: (أرخص) من الإرخاص، وَهُوَ فعل مَاض وفاعله قَوْله: (رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَذَا وَقع: أرخص، وَفِي بعض الرِّوَايَات: رخص، بِالتَّشْدِيدِ من الرُّخْصَة الَّتِي هِيَ ضد الْعَزِيمَة، وَهَذَا أظهر وَأَصَح، لِأَن أرخص من الرُّخص الَّذِي هُوَ ضد الغلاء. قَوْله: (فِي أُولَئِكَ) ، هم الضعفة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث، وَاحْتج بِهِ ابْن الْمُنْذر لقَوْل من أوجبت الْمبيت بِمُزْدَلِفَة على غير الضعفة، لِأَن حكم من لم يرخص فِيهِ لَيْسَ كَحكم من رخص فِيهِ. قلت: وَقد اخْتلف السّلف فِي الْمبيت بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَمُحَمّد بن إِدْرِيس فِي أحد قوليه: إِلَى وجوب الْمبيت بهَا، وَأَنه لَيْسَ بِرُكْن، فَمن تَركه فَعَلَيهِ دم، وَهُوَ قَول عَطاء وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَمُجاهد، وَعَن الشَّافِعِي: سنة، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ ابْن بنت الشَّافِعِي(10/16)
وَابْن خُزَيْمَة الشافعيان: هُوَ ركن، وَقَالَ عَلْقَمَة وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ: من ترك الْمبيت بِمُزْدَلِفَة فَاتَهُ الْحَج. وَفِي (شرح التَّهْذِيب) : وَهُوَ قَول الْحسن، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام. وَقَالَ الشَّافِعِي: يحصل الْمبيت بساعة فِي النّصْف الثَّانِي من اللَّيْل دون الأول. وَعَن مَالك: النُّزُول بِالْمُزْدَلِفَةِ وَاجِب، وَالْمَبِيت بهَا سنة، وَكَذَا الْوُقُوف مَعَ الإِمَام سنة. وَقَالَ أهل الظَّاهِر: من لم يدْرك مَعَ الإِمَام صَلَاة الصُّبْح بِالْمُزْدَلِفَةِ بَطل حجه بِخِلَاف النِّسَاء وَالصبيان والضعفاء. وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: لَو ترك الْوُقُوف بهَا بعد الصُّبْح من غير عذر فَعَلَيهِ دم، وَإِن كَانَ بِعُذْر الزحام فتعجل السّير إِلَى منى، فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، والمأمور بِهِ فِي الْآيَة الْكَرِيمَة الذّكر دون الْوُقُوف، ووقف الْوُقُوف بالمشعر بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر إِلَى أَن يسفر جدا، وَعَن مَالك: لَا يقف أحد إِلَى الْأَسْفَار، بل يدْفَعُونَ قبل ذَلِك.
7761 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن ابْن عَبَّاس كَانَ فِي جملَة الضُّعَفَاء الَّذين قدمهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ من جمع، وَقد تكَرر ذكر رِجَاله، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا، قَالَ: وَرُوِيَ عَنهُ من غير وَجه. بَيَان ذَلِك أَنه رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة، وهم: عبيد الله بن أبي يزِيد، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَالْحسن العرني، ومقسم، وكريب. أما رِوَايَة عبيد الله ابْن أبي يزِيد عَنهُ فاتفق عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ من رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بن زيد، فرواها كِلَاهُمَا عَن عبيد الله بن أبي يزِيد، والآن يَأْتِي بَيَانه. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة. وَأما رِوَايَة عَطاء فأخرجها مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن عبد بن حميد عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج عَن عَطاء أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (بَعَثَنِي نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسحر من جمع فِي ثقل نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَأما رِوَايَة الْحسن العرني فأخرجها أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة سَلمَة بن كهيل عَن الْحسن العرني (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قدمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْمزْدَلِفَة أغيلمة بني عبد الْمطلب على جمرات، فَجعل يلطخ أفخاذنا، وَيَقُول: أبني لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: اللطخ الضَّرْب اللين، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَأما رِوَايَة مقسم فأخرجها التِّرْمِذِيّ وَانْفَرَدَ بهَا. قَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا وَكِيع عَن المَسْعُودِيّ عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم ضعفة أَهله، وَقَالَ: لَا ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس. وَأما رِوَايَة كريب فأخرجها الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر نِسَاءَهُ) الحَدِيث. وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
8761 - حدَّثنا عَلِيٌّ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ أبي يَزِيدَ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ أنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةَ فِي ضَعَفَةِ أهْلِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 7761 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور، وَهَذَا وَجه من الْوُجُوه الْخَمْسَة الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، وَذكر البُخَارِيّ هَهُنَا وَجها آخر وَهُوَ: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِيمَا قبله، وَهَذَا الطَّرِيق أخرجه عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبيد الله بن أبي يزِيد من الزِّيَادَة، مولى أهل مَكَّة مر فِي: بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء وَالْفرق بَين الطَّرِيقَيْنِ أَن الطَّرِيق الأول يَقْتَضِي بِحَسب الظَّاهِر أَنه كَانَ مُخْتَصًّا بِالْبَعْثِ من جمع بِاللَّيْلِ، وَالطَّرِيق الثَّانِي يَقْتَضِي عدم الِاخْتِصَاص قطعا.
262 - (حَدثنَا مُسَدّد عَن يحي عَن ابْن جريج قَالَ حَدثنِي عبد الله مولى أَسمَاء عَن أَسمَاء أَنَّهَا نزلت لَيْلَة جمع عِنْد الْمزْدَلِفَة فَقَامَتْ تصلي فصلت سَاعَة ثمَّ قَالَت يَا بني هَل غَابَ الْقَمَر قلت لَا فصلت سَاعَة ثمَّ قَالَت هَل غَابَ الْقَمَر قلت نعم قَالَت فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حَتَّى رمت الْجَمْرَة ثمَّ(10/17)
رجعت فصلت الصُّبْح فِي منزلهَا فَقلت لَهَا يَا هنتاه مَا أرانا إِلَّا قد غلسنا قَالَت يَا بني إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن للظعن) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا " فارتحلوا فارتحلنا " لِأَن ارتحالهم كَانَ عقيب غيبوبة الْقَمَر وَقد ذكرنَا أَن مغيب الْقَمَر فِي تِلْكَ اللَّيْلَة كَانَ عِنْد أَوَائِل الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْل. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة مُسَدّد بن مسرهد عَن يحيى الْقطَّان عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عبد الله بن كيسَان مولى أَسمَاء أَبُو عمر وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر سَيَأْتِي فِي أَبْوَاب الْعمرَة وَأَسْمَاء هَذِه هِيَ بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَقد صرح ابْن جريج بتحديث عبد الله لَهُ وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي وَابْن خُزَيْمَة عَن بنْدَار وَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده كلهم عَن يحيى وَأخرجه مُسلم من طَرِيق عِيسَى بن يُونُس والإسماعيلي من طَرِيق دَاوُد الْعَطَّار وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة والطَّحَاوِي من طَرِيق سعيد بن سَالم وَأَبُو نعيم من طَرِيق مُحَمَّد بن بكر كلهم عَن ابْن جريج وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن خَلاد عَن يحيى الْقطَّان عَن ابْن جريج عَن عَطاء أَخْبرنِي مخبر عَن أَسمَاء وَأخرجه مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن عَطاء أَن مولى أَسمَاء أخبرهُ وَكَذَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى فَالظَّاهِر أَن ابْن جريج سَمعه من عَطاء ثمَّ لَقِي عبد الله فَأَخذه عَنهُ وَيحْتَمل أَن يكون مولى أَسمَاء شيخ عَطاء غير عبد الله (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يَا بني " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مصغر ابْن قَوْله " فارتحلوا " أَمر بالارتحال وَفِي رِوَايَة مُسلم " قَالَت ارحل بِي " قَوْله " فمضينا " وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة " فمضينا بهَا " قَوْله " ثمَّ رجعت " أَي إِلَى منزلهَا بمنى قَوْله " يَا هنتاه " أَي يَا هَذِه يُقَال للمذكر إِذا كنى عَنهُ هن وللمؤنث هنة وزيدت الْألف لمد الصَّوْت وَالْهَاء لإِظْهَار الْألف وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون النُّون وَقد تفتح وإسكانها أشهر ثمَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَقد تسكن الْهَاء الَّتِي فِي آخرهَا وتضم قَوْله " مَا أرانا " بِضَم الْهمزَة أَي مَا نظن إِلَّا قد غلسنا أَي تقدمنا على الْوَقْت الْمَشْرُوع وَهُوَ من التغليس وَهُوَ السّير بِغَلَس وَهِي ظلمَة آخر اللَّيْل وَفِي رِوَايَة لمُسلم " فَقلت لَهَا لقد غلسنا " بِدُونِ قَوْله " مَا أرانا " وَفِي رِوَايَة مَالك " لقد جِئْنَا منى بِغَلَس " وَفِي رِوَايَة دَاوُد الْعَطَّار " لقد ارتحلنا بلَيْل " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " فَقلت إِنَّا رمينَا الْجَمْرَة بِغَلَس " قَوْله " أذن للظعن " بِضَم الظَّاء وَالْعين وبسكون الْعين أَيْضا جمع ظَعِينَة وَهِي النِّسَاء وَفِي الْمُحكم هُوَ جمع ظاعن وَسميت النِّسَاء بهَا لِأَنَّهُنَّ يظعن بارتحال أَزوَاجهنَّ ويقمن بإقامتهم تَقول ظعن يظعن ظعنا وظعونا ذهب وأظعنه هُوَ والظعينة الْجمل يظعن عَلَيْهِ والظعينة الهودج تكون فِيهِ الْمَرْأَة وَقيل هُوَ الهودج كَانَت فِيهِ امْرَأَة أَو لم تكن وَعَن ابْن السّكيت كل امْرَأَة ظَعِينَة سَوَاء كَانَت فِي هودج أَو غَيره وَقَالَ ابْن سَيّده الْجمع ظعائن وظعن وأظعان وظعنات الأخيرتان جمع الْجمع وَفِي الْجَامِع وَلَا يُقَال ظعن إِلَّا لِلْإِبِلِ الَّتِي عَلَيْهَا الهوادج وَقيل الظعن الْجَمَاعَة من النِّسَاء وَالرِّجَال (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث قوم على جَوَاز الرَّمْي قبل طُلُوع الشَّمْس بعد طُلُوع الْفجْر للَّذين يتقدمون قبل النَّاس وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ وَطَاوُس بن كيسَان وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالشَّافِعِيّ وَقَالَ عِيَاض مَذْهَب الشَّافِعِي رمي الْجَمْرَة من نصف اللَّيْل وَتعلق بِأَنَّهُ أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قدمت قبل الْفجْر وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهَا أَن تفيض وتوافيه الصُّبْح مَكَّة وَظَاهر هَذَا عِنْده تَعْجِيل الرَّمْي قبل الْفجْر وَمذهب مَالك أَن الرَّمْي يحل بطول الْفجْر وَمذهب الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ أَنَّهَا لَا ترمي إِلَّا بعد طُلُوع الشَّمْس وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد واسحق قَالُوا فَإِن رَمَوْهَا قبل طُلُوع الشَّمْس أجزأتهم وَقد أساؤا وَقَالَ الكاشاني من أَصْحَابنَا أول وقته الْمُسْتَحبّ مَا بعد طُلُوع الشَّمْس وَآخر وقته آخر النَّهَار كَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَمْتَد إِلَى وَقت الزَّوَال فَإِذا زَالَت الشَّمْس يفوت الْوَقْت وَيكون فِيمَا بعده قَضَاء فَإِن لم يرم حَتَّى غربت الشَّمْس يَرْمِي قبل الْفجْر من الْيَوْم الثَّانِي وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي قَوْله أَصْحَابنَا وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ فِي قَول إِذا غربت الشَّمْس فقد فَاتَ الْوَقْت وَعَلِيهِ الْفِدْيَة وَفِي قَول لَا يفوت إِلَّا فِي آخر أَيَّام(10/18)
التَّشْرِيق فَإِن أخر الرَّمْي حَتَّى طلع الْفجْر من الْيَوْم الثَّانِي رمى وَعَلِيهِ دم للتأخير فِي قَول أبي حنيفَة وَفِي قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا شَيْء عَلَيْهِ وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَقَالَ مَالك فِي الْمُوَطَّأ سَمِعت بعض أهل الْعلم يكره رمي الْجَمْرَة حَتَّى يطلع الْفجْر من يَوْم النَّحْر وَمن رمى فقد حل لَهُ النَّحْر وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي الْجَواب عَن حَدِيث أَسمَاء الْمَذْكُور يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بالتغليس فِي الدّفع من مُزْدَلِفَة وَيجوز أَن يكون أَرَادَ بالتغليس فِي الرَّمْي فَأخْبرت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن لَهُم فِي التغليس لما سَأَلَهَا عَن التغليس بِهِ من ذَلِك. وَفِيه اسْتدلَّ بَعضهم على إِسْقَاط الْوُقُوف بالمشعر الْحَرَام عَن الضعفة قيل لَا دلَالَة فِيهِ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَن الْوُقُوف -
0861 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ هُوَ ابنُ القَاسِمِ عَن الْقَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ اسْتَأذَنَتْ سَوْدَةُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ جَمْعٍ وكانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فأذِنَ لَهَا.
(الحَدِيث 0861 طرفه فِي: 1861) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن سَوْدَة كَانَت من الضعفة الَّذين قدمُوا بلَيْل. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يروي عَن عمته عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَسَوْدَة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة: بنت زَمعَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج: حَدثنَا ابْن نمير، قَالَ: حَدثنَا أبي، قَالَ: حَدثنَا عبيد الله بن عمر عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن الْقَاسِم (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: وددت أَنِّي كنت اسْتَأْذَنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا استأذنته سَوْدَة، فأصلي الصُّبْح بمنى فأرمي الْجَمْرَة قبل أَن يَأْتِي النَّاس. فَقيل لعَائِشَة: فَكَانَت سَوْدَة استأذنته؟ قَالَت: نعم، كَانَت امْرَأَة ثَقيلَة ثبطة، فاستأذنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأذن لَهَا) وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة: عَن وَكِيع وَعَن زُهَيْر بن حَرْب قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بِهَذَا الْإِسْنَاد نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع، نَحوه (أَن سَوْدَة بنت زَمعَة كَانَت امْرَأَة ثبطة فاستأذنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تدفع من جمع قبل دفع النَّاس فَأذن لَهَا) وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة من طَرِيق ابْن قبيصَة عَن الثَّوْريّ: (قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوْدَة لَيْلَة جمع) . قَوْله: (ثبطة) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وسكونها وبالطاء الْمُهْملَة أَي: بطيئة الْحَرَكَة كَأَنَّهَا تثبط بِالْأَرْضِ أَي: تتشبث، وَقَالَ ابْن قرقول: ضبطناه بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَضَبطه الجياني عَن ابْن سراج بِالْكَسْرِ والإسكان.
1861 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا أفْلَحُ بنُ حُمَيْدٍ عنْ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ نزَلْنَا المُزْدَلِفَةَ فاسْتَأذَنَتْ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوْدَةُ أنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وكانَتِ امْرَأةً بَطِيئَةً فأذِنَ لَهَا فدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وأقَمْنَا حَتَّى أصْبَحْنَا نَحْنُ ثُم دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلأنْ أكونَ اسْتَأذَنْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمَا اسْتَأذَنَتْ سَوْدَةُ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 0861) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث سَوْدَة يبين فِيهِ مَا استأذنته سَوْدَة لِأَن فِي الطَّرِيق السَّابِق لم يذكر فِيهِ مَا استأذنته سَوْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرج هَذَا الطَّرِيق عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن أَفْلح بن حميد بن نَافِع الْأنْصَارِيّ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن القعْنبِي عَن أَفْلح بن حميد عَن الْقَاسِم (عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: اسْتَأْذَنت سَوْدَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْمزْدَلِفَة أَن تدفع قبله وَقبل حطمة النَّاس، وَكَانَت امْرَأَة ضخمة ثبطة يَقُول الْقَاسِم: والثبطة الثَّقِيلَة) الحَدِيث، وَهَذَا فِيهِ تَفْسِير الثبطة عَن الْقَاسِم، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق ابْن أبي فديك عَن أَفْلح، وَلَفظه: (وَكَانَت امْرَأَة ثبطة، قَالَ: الثبطة الثَّقِيلَة) ، فعلى هَذَا قَوْله فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن كثير شيخ البُخَارِيّ الَّذِي مضى، وَكَانَت امْرَأَة ثَقيلَة ثبطة، من الإدراج، أدرج الرَّاوِي التَّفْسِير بعد الأَصْل، فَظن الرَّاوِي الآخر أَن اللَّفْظَيْنِ ثابتان فِي أصل الْمَتْن، فَقدم وَأخر.
قَوْله: (أَن تدفع) أَي: تتقدم قبل حطمة النَّاس، والحطمة بِالْفَتْح الزحمة. قَوْله: (ثمَّ دفعنَا بِدَفْعِهِ) ، أَي: بِدفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلِأَن أكون)(10/19)
بِفَتْح اللَّام مُبْتَدأ وَخَبره، قَوْله: أحب. وَقَوله: (كَمَا اسْتَأْذَنت سَوْدَة) جملَة مُعْتَرضَة بَينهمَا، وَلَفْظَة: مَا، فِي: كَمَا، مَصْدَرِيَّة أَي: كاستئذان سَوْدَة. قَوْله: (من مفروح بِهِ) أَي: من مَا يفرح بِهِ من كل شَيْء.
99 - (بابُ صَلاةِ الفَجْرِ بِالمُزْدَلِفَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت صَلَاة الْفجْر بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَفِي بعض النّسخ: بَاب من يُصَلِّي الْفجْر، وَالْأول أصح.
3861 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجَاءٍ قَالَ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبي إسْحَاقَ عَن عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ قَالَ خَرجْنا معَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعا فصَلَّى الصَّلاتَيْنِ كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَها بأذَانٍ وإقَامةٍ والْعَشَاءُ بيْنَهُمَا ثُمَّ صلَّى الْفَجْرَ حِينَ طلَعَ الفَجْرُ قائِلٌ يَقُولُ طلَعَ الْفَجْرُ وقائِلٌ يقُولُ لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ ثُمَّ قالَ إنَّ رسولَ الله قَالَ إنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عنْ وَقْتِهِمَا فِي هاذَا(10/20)
المَكَانِ المَغْرِبَ والْعِشَاءَ فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعا حَتَّى يُعْتِمُوا وصَلاَةَ الْفَجْرِ هاذِهِ السَّاعَةَ ثُمَّ وقَفَ حَتَّى أسْفَرَ ثُمَّ قَالَ لَوْ أنَّ أميرَ المُؤمِنِينَ أفاضَ الآنَ أصَابَ السُّنَّةَ فَمَا أدْرِي أقوْلُهُ كانِ أسْرَعَ أمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
(انْظُر الحَدِيث 5761 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ السَّابِق عَن عبد الله بن رَجَاء، بِفَتْح الرَّاء وَالْجِيم: ابْن الْمثنى الْبَصْرِيّ عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي الْكُوفِي عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي. قَوْله: (خرجنَا) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (خرجت) ، بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (مَعَ عبد الله) هُوَ ابْن مَسْعُود. قَوْله: (ثمَّ قدمنَا جمعا) أَي: الْمزْدَلِفَة. قَوْله: (فصلى الصَّلَاتَيْنِ) أَي: الْمغرب وَالْعشَاء. قَوْله: (كل صَلَاة) بِنصب: كل، أَي: صلى كل صَلَاة مِنْهُمَا. قَوْله: (وَالْعشَاء بَينهمَا) بِفَتْح الْعين لَا بِكَسْرِهَا، لِأَن المُرَاد بِهِ الطَّعَام الَّذِي يتعشى بِهِ، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (الْمغرب وَالْعشَاء) ، يجوز النصب فيهمَا على أَنه عطف بَيَان لقَوْله: (هَاتين الصَّلَاتَيْنِ) ، وَيجوز الرّفْع فيهمَا على أَن الْمغرب خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ الْمغرب، وَالْأُخْرَى الْعشَاء. قَوْله: (حولنا) أَي: غَيرنَا. قَوْله: (فَلَا يقدم) بِفَتْح الدَّال. قَوْله: (جمعا) أَي: الْمزْدَلِفَة. قَوْله: (حَتَّى يعتموا) بِضَم الْيَاء من الإعتام، وَهُوَ الدُّخُول فِي وَقت الْعشَاء الْآخِرَة. قَوْله: (هَذِه السَّاعَة) أَي: بعد طُلُوع الصُّبْح قبل ظُهُوره للعامة. قَوْله: (حَتَّى أَسْفر) أَي: حَتَّى أَضَاء الصُّبْح وانتشر. قَوْله: (فَمَا أَدْرِي) ، هُوَ كَلَام عبد الرَّحْمَن بن يزِيد الرَّاوِي عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ قَول عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا غلط وَالظَّاهِر أَنه قد وَقع من النَّاسِخ، وَالله تَعَالَى أعلم. قَوْله: (أصَاب السّنة) ، يَعْنِي فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أم دفع عُثْمَان) ، يَعْنِي: من مُزْدَلِفَة، وَكَانَ حِينَئِذٍ أميرَ الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْمرَاد أَن السّنة الدّفع من الْمشعر الْحَرَام عِنْد الْإِسْفَار قبل طُلُوع الشَّمْس خلافًا لما كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (فَلم يزل يُلَبِّي) أَي: لم يزل ابْن مَسْعُود يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر.
وَاخْتلف السّلف فِي الْوَقْت الَّذِي يقطع فِيهِ الْحَاج التَّلْبِيَة، فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن التَّلْبِيَة لَا تقطع حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَبِه قَالَ عَطاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وروى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَج. فَإِذا زاغت الشَّمْس من يَوْم عَرَفَة قطعهَا. وَقَالَ مَالك: وَذَلِكَ الْأَمر الَّذِي لم يزل عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا، وَقَالَ ابْن شهَاب: وَفعل ذَلِك الْأَئِمَّة أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعَائِشَة وَابْن الْمسيب، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن سعد مثله، وَذكر أَيْضا عَن مَكْحُول، وَكَانَ ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَقُول: أفضل الدُّعَاء يَوْم عَرَفَة التَّكْبِير، وروى مَعْنَاهُ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ اخْتلف بعض هَؤُلَاءِ، فَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، يقطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة يرميها من جَمْرَة الْعقبَة. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَطَائِفَة من أهل النّظر، والأثر لَا يقطعهَا حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة بأسرها، قَالُوا: وَهُوَ قَول ظَاهر الحَدِيث أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَلم يقل: حَتَّى رمى بَعْضهَا. قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل (عَن عبد الله قَالَ: رمقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة بِأول حَصَاة) فَإِن قلت: أخرج ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، (عَن الْفضل بن عَبَّاس، قَالَ: أفضت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَات، فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، يكبر مَعَ كل حَصَاة ثمَّ قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة. قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه زِيَادَة غَرِيبَة لَيست فِي الرِّوَايَات عَن الْفضل، وَإِن كَانَ ابْن خُزَيْمَة قد اخْتَارَهَا، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِيهِ نَكَارَة. وَقَوله: (يكبر مَعَ كل حَصَاة) ، يدل على أَنه قطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى. فَإِن قلت: هَذَا حكم الْحَاج، فَمَا حكم الْمُعْتَمِر؟ قلت: قَالَ قوم: يقطع الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة إِذا دخل الْحرم، وَقَالَ قوم: لَا يقطعهَا حَتَّى يرى بيُوت مَكَّة، وَقَالَ قوم: حَتَّى يدْخل بيُوت مَكَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يقطعهَا حَتَّى يسْتَلم الْحجر، فَإِذا استلمه قطعهَا، وَقَالَ اللَّيْث إِذا بلغ الْكَعْبَة قطعهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يقطعهَا حَتَّى يفْتَتح الطّواف، وَقَالَ مَالك: إِن أحرم من الْمِيقَات قطعهَا إِذا دخل الْحرم، وَإِن أحرم من الْجِعِرَّانَة أَو من التَّنْعِيم قطعهَا إِذا دخل بيُوت مَكَّة، أَو إِذا دخل الْمَسْجِد. وَاسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بِمَا(10/21)
رَوَاهُ وَكِيع عَن عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يقطع الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة حَتَّى يسْتَلم الرُّكْن. وَقَالَ ابْن حزم: وَالَّذِي نقُول بِهِ هُوَ قَول قَول ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه لَا يقطعهَا حَتَّى يتم جَمِيع عمل الْعمرَة.
001 - (بابٌ متَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت الدّفع من جمع، يَعْنِي: بعد الْوُقُوف بالمشعر الْحَرَام. وَقَوله: بِضَم الْيَاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَيجوز بِفَتْح الْيَاء على بِنَاء الْمَعْلُوم أَي: مَتى يدْفع الْحَاج.
4861 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ بنُ الحَجَّاجِ عنْ أبِي إسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ مَيْمُون يَقُولُ شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ إنَّ المُشْرِكينَ كانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ويَقُولُونَ أشْرِقْ ثَبِيرُ وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خالَفَهُمْ ثُمَّ أفَاضَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
(الحَدِيث 4861 طرفه فِي: 8383) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ثمَّ أَفَاضَ قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، فَبين أَن وَقت الدّفع من جمع قبل طُلُوع الشَّمْس.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وحجاج على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ، ومنهال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. وَعَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان الْبَصْرِيّ.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن البُخَارِيّ رَوَاهُ من رِوَايَة شُعْبَة وَالثَّوْري، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة الثَّوْريّ فَقَط، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة شُعْبَة فَقَط، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة حجاج بن أَرْطَأَة ثَلَاثَتهمْ عَن أبي إِسْحَاق بِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا أَبُو دَاوُد أَنبأَنَا شُعْبَة (عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن مَيْمُون يَقُول: كُنَّا وقوفا بِجمع، فَقَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن الْمُشْركين كَانُوا لَا يفيضون حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أشرق ثبير، وَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خالفهم. فَأَفَاضَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قبل طُلُوع الشَّمْس) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفَاضَ قبل طُلُوع الشَّمْس) . وَانْفَرَدَ بِهِ، وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَفِيه: (فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا، فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صلى بِجمع) ، أَي: بِالْمُزْدَلِفَةِ. قَوْله: (لَا يفيضون) ، بِضَم الْيَاء من الْإِفَاضَة، وَهُوَ الدّفع وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وكل دفْعَة إفَاضَة، قَالَ: وأفاضوا فِي الحَدِيث أَي انْدَفَعُوا فِيهِ، وأفاض الْبَعِير أَي: دفع جرته من كرشه فأخرجها. قَوْله: (أشرق) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: أَمر من الْإِشْرَاق، يُقَال: أشرقَ: إِذا دخل فِي الشروق، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فأتبعوهم مشرقين} (الشُّعَرَاء: 06) . أَي: حَال كَونهم داخلين فِي شروق الشَّمْس، كَمَا يُقَال: أجنب، إِذا دخل فِي الْجنُوب، وأشمل إِذا دخل فِي الشمَال، وَحَاصِل معنى: أشرق ثبير؛ لتطلع عَلَيْك الشَّمْس. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: يُرِيد: أَدخل أَيهَا الْجَبَل فِي الشروق. وَقَالَ عِيَاض: أشرق ثبير: أَدخل يَا جبل فِي الْإِشْرَاق. وَقَالَ ابْن التِّين: ضَبطه أَكْثَرهم بِفَتْح الْهمزَة، وَبَعْضهمْ بِكَسْر الْهمزَة كَأَنَّهُ ثلاثي: من شَرق، وَلَيْسَ هَذَا ببيِّن، لِأَن شَرق مستقبله: يشرق، بِضَم الرَّاء، وَالْأَمر مِنْهُ: أشرق، بِضَم الْهمزَة لَا بِالْكَسْرِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَة بِفَتْح الْهمزَة أَي: لتطلع عَلَيْك الشَّمْس. وَقيل: مَعْنَاهُ اطلع الشَّمْس يَا جبل. قَوْله: (ثبير) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ جبل الْمزْدَلِفَة على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى. وَقيل: هُوَ أعظم جبال مَكَّة عرف بِرَجُل من هُذَيْل اسْمه ثبير وَدفن فِيهِ، وَهَذَا هُوَ المُرَاد، وَإِن كَانَ للْعَرَب جبال أخر كل إسم مِنْهَا ثبير، وَهُوَ منصرف، وَلَكِن بِدُونِ التَّنْوِين لِأَنَّهُ منادى مُفْرد معرفَة تَقْدِيره: أشرق يَا ثبير، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِن للْعَرَب أَرْبَعَة أجبال أسماؤها: ثبير، وَكلهَا حجازية، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أما حَدِيث: أقطع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شُرَيْح بن ضَمرَة الْمُزنِيّ ثبيرا فَلَيْسَ بجبل، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم مَا لمزبنة، وَعند ابْن مَاجَه: أشرق ثبير، كَيْمَا نغير(10/22)
من الإغارة أَي: كَيْمَا ندفع ونفيض للنحر وَغَيره، وَذَلِكَ من قَوْلهم: أغار الْفرس إغارة الثَّعْلَب، وَذَلِكَ إِذا دفع وأسرع فِي دَفعه. وَقَالَ ابْن التِّين: وَضَبطه بَعضهم بِسُكُون الرَّاء فِي ثبير ونغير لإِرَادَة السجع. قلت: لِأَنَّهُ من محسنات الْكَلَام. قَوْله: (ثمَّ أَفَاضَ) ، يحْتَمل أَن يكون فَاعله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَجهه أَن يكون: ثمَّ أَفَاضَ عطفا على قَوْله: (إِن الْمُشْركين لَا يفيضون حَتَّى تطلع الشَّمْس) وَفِيه بعد، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيب أَن فَاعله هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: (خالفهم) وَيُؤَيّد هَذَا مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عِنْد التِّرْمِذِيّ: (فَأَفَاضَ) ، بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ: (فخالفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَفَاضَ) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق بِسَنَدِهِ: (كَانَ الْمُشْركُونَ لَا ينفرون حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كره ذَلِك فنفر قبل طُلُوع الشَّمْس) ، وَله من رِوَايَة إِسْرَائِيل: فَدفع بِقدر صَلَاة الْقَوْم المسفرين لصَلَاة الْغَدَاة، وَأظْهر من ذَلِك وَأقوى للدلالة على أَنه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل، وَفِيه: (ثمَّ ركب الْقَصْوَاء حَتَّى أَتَى الْمشعر الْحَرَام فَاسْتقْبل الْقبْلَة، فَدَعَا الله وَكبره وَهَلله وَوَحدهُ، فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة، وَقد ذكرنَا أَنه إِذا ترك الْوُقُوف بهَا بعد الصُّبْح من غير عذر فَعَلَيهِ دم، وَإِن كَانَ بِعُذْر الزحام فتعجل السّير إِلَى منى فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَفِيه: الْإِفَاضَة قبل طُلُوع الشَّمْس من يَوْم النَّحْر، وَاخْتلفُوا فِي الْوَقْت الْأَفْضَل للإفاضة، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه إِنَّمَا يسْتَحبّ بعد كَمَال الْإِسْفَار، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور لحَدِيث جَابر الطَّوِيل. وَفِيه: (فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، وَذهب مَالك إِلَى اسْتِحْبَاب الْإِفَاضَة من الْمزْدَلِفَة قبل الْأَسْفَار) ، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وروى ابْن خُزَيْمَة والطبري من طَرِيق عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقفون بِالْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى إِذا طلعت الشَّمْس فَكَانَت على رُؤُوس الْجبَال كَأَنَّهَا العمائم على رُؤُوس الرِّجَال دفعُوا فَدفع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين أَسْفر كل شَيْء قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمسور بن مخرمَة نَحوه.
101 - (بابُ التَّلْبِيَةِ والتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الجَمْرَةَ وَالارْتِدَافِ فِي السَّيْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّلْبِيَة وَالتَّكْبِير غَدَاة يَوْم النَّحْر حى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة) . قَوْله: (والارتداف) ، بِالْجَرِّ عطف على الْمَجْرُور فِيمَا قبله أَي: وَفِي بَيَان الإرتداف، وَهُوَ الرّكُوب خلف الرَّاكِب فِي السّير من مُزْدَلِفَة إِلَى منى، وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على ثَلَاثَة أَجزَاء: التَّلْبِيَة: وَهِي أَن يَقُول: لبيْك اللَّهُمَّ ... إِلَى آخِره، وَالتَّكْبِير: وَهُوَ أَن يكبر الله تَعَالَى، والارتداف: وَهُوَ الرّكُوب خلف الرَّاكِب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر التَّكْبِير، فَكيف دلَالَته عَلَيْهِ؟ ثمَّ أجَاب: بِأَن المُرَاد بِهِ الذّكر الَّذِي فِي خلال التَّلْبِيَة، وَهُوَ مُخْتَصر من الحَدِيث الَّذِي فِيهِ ذكر التَّكْبِير، أَو غَرَضه أَن يسْتَدلّ بِالْحَدِيثِ على أَن التَّكْبِير غير مَشْرُوع، إِذْ لفظ: (لم يزل) دَلِيل على إدامة التَّلْبِيَة. انْتهى. قلت: قَوْله: أَو غَرَضه ... إِلَى آخِره، فِيهِ بعد وَهُوَ عبارَة خشنة، وَالْجَوَاب الصَّحِيح فِيهِ: أَنه قد جرت عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا ذكر تَرْجَمَة ذَات أَجزَاء وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب، ذكر هَذِه الْأَجْزَاء كلهَا، وَلَكِن كَانَ حَدِيث آخر ذكر فِيهِ ذَلِك الْجُزْء الَّذِي لم يذكرهُ أَنه يُشِير إِلَيْهِ بِذكرِهِ فِي التَّرْجَمَة لينتهض الطَّالِب ويبحث عَنهُ، وَقد روى الطَّحَاوِيّ فَقَالَ: حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن حميد الْكُوفِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك عَن الْحَارِث بن أبي ذئاب عَن مُجَاهِد (عَن عبد الله بن سَخْبَرَة، قَالَ: لبّى عبد الله وَهُوَ يتَوَجَّه فَقَالَ أنَاس: من هَذَا الْأَعرَابِي؟ فَالْتَفت إِلَيّ عبد الله فَقَالَ: ضلَّ الناسُ أم نسوا؟ وَالله مَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة إلاَّ أَن يخلط ذَلِك بتهليل أَو تَكْبِير) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث صَفْوَان بن عِيسَى: حَدثنَا الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن عَن مُجَاهِد عَن عبد الله بن سَخْبَرَة، قَالَ: غَدَوْت مَعَ عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من منى إِلَى عَرَفَة، وَكَانَ رجلا آدم لَهُ ضفيرتان، عَلَيْهِ سحنة أهل الْبَادِيَة، وَكَانَ يُلَبِّي فَاجْتمع عَلَيْهِ الغوغاء، فَقَالُوا: يَا أَعْرَابِي، إِن هَذَا لَيْسَ بِيَوْم تَلْبِيَة إِنَّمَا هُوَ التَّكْبِير(10/23)
فَالْتَفت إِلَيّ فَقَالَ: جهل النَّاس أم نسوا؟ وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لقد خرجت مَعَه من منى إِلَى عَرَفَة فَمَا ترك التَّلْبِيَة حَتَّى رمى الْجَمْرَة إلاَّ أَن يخلطها بتكبير أَو تهليل.
5861 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ الضَّحاكُ بنُ مَخْلِدٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ عَن عَطاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْدَفَ الْفَضلُ فأخْبرَ الفَضلُ أنَّهُ لَمْ يَزلْ يُلَبِّي حَتَّى رمَى الجَمْرَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الجزءين مِنْهَا، وهما: الإرداف والتلبية، وَأما ذكر التَّكْبِير فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي هَذَا الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَقد ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب النُّزُول بَين عَرَفَة وَجمع. قَالَ كريب: فَأَخْبرنِي عبد الله بن عَبَّاس عَن الْفضل، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يُلَبِّي حَتَّى بلغ الْجَمْرَة. قَوْله: (فَأخْبر الْفضل) أَي: أخبر الْفضل ابْن عَبَّاس أَنه أَي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن جريج عَن عَطاء: فَأَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن الْفضل أخبرهُ، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مَضَت هُنَاكَ مستقصاة.
7861 - حدَّثنا زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا وهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدثنَا أبي عنْ يُونُسَ الأيْلِيِّ عنِ الزُهْرِيِّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ أُسامَةَ بنَ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ رِدْفَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَرَفةَ إِلَى المُزْدَلِفةِ ثُمَّ أرْدَفَ الفَضْلَ مِنْ المُزْدَلِفةِ إِلَى مِنىً قَالَ فكِلاهُما قالاَ لَمْ يَزلِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الإرداف والتلبية إِلَى رمي جَمْرَة الْعقبَة، وَهَذَا طَرِيق ثَان لحَدِيث ابْن عَبَّاس السَّابِق أخرجه عَن زُهَيْر، مصغر الزهر: ابْن حَرْب ضد الصُّلْح النَّسَائِيّ، بالنُّون وبالسين الْمُهْملَة، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا، ووهب بن جرير، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء: أَبُو الْعَبَّاس، وَهُوَ يروي عَن أَبِيه جرير بن حَازِم بن زيد أَبُو النَّضر الْبَصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَعبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن عبد الله، بِالْفَتْح: ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة.
وَفِي هَذَا السَّنَد رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: ثَلَاثَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يروي أحدهم وَهُوَ ابْن عَبَّاس عَن الآخرين وهما أُسَامَة بن زيد وَالْفضل بن عَبَّاس، وَهُوَ معنى قَوْله: (قَالَ فكلاهما قَالَا) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: فكلاهما، أَي: أُسَامَة وَالْفضل، قَالَا: لم يزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي فِي أَوْقَات حجه حَتَّى رمى أَي: إِلَى أَن رمى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر. فَإِن قلت: ذكر أُسَامَة فِي هَذَا فِيهِ إِشْكَال لِأَن مُسلما روى هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عقبَة قَالَ: (أَخْبرنِي كريب أَنه سَأَلَ أُسَامَة بن زيد: كَيفَ صَنَعْتُم حِين ردفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشِيَّة عَرَفَة؟) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (حَتَّى جِئْنَا الْمزْدَلِفَة فَأَقَامَ الْمغرب ثمَّ أَنَاخَ النَّاس فِي مَنَازِلهمْ وَلم يحلوا حَتَّى أَقَامَ الْعشَاء الْآخِرَة فصلى ثمَّ حلوا، قلت: وَكَيف فَعلْتُمْ حِين أَصْبَحْتُم؟ قَالَ: ردفه الْفضل بن الْعَبَّاس وَانْطَلَقت أَنا فِي سباق قُرَيْش على رحلي) . فَمُقْتَضى هَذَا أَن يكون أُسَامَة قد سبق إِلَى رمي الْجَمْرَة، فَيكون إخْبَاره بِمثل مَا أخبر بِهِ الْفضل من التَّلْبِيَة مُرْسلا قلت: لَا مَانع من رُجُوعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإتيانه مَعَه إِلَى الْجَمْرَة، أَو أَقَامَ بالجمرة حَتَّى أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث أم الْحصين، قَالَت: (فَرَأَيْت أُسَامَة بن زيد وبلالاً فِي حجَّة الْوَدَاع، وَأَحَدهمَا آخذ بِخِطَام نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْآخر رَافع ثَوْبه يستره من الْحر حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة) . وَاحْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وأصحابهم على اسْتِمْرَار التَّلْبِيَة إِلَى حِين رمى جَمْرَة الْعقبَة على مَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى مفصلا، وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن عَبَّاس، قَالَ: حججْت مَعَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِحْدَى عشرَة حجَّة، فَكَانَ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِي الْجَمْرَة. وَذكر الطَّحَاوِيّ أَن الْإِجْمَاع وَقع من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على أَن التَّلْبِيَة لَا تقع إلاَّ مَعَ رمي جَمْرَة الْعقبَة، أما مَعَ أول حَصَاة، أَو بعد تَمامهَا على اخْتِلَاف فِيهِ. وَدَلِيل الْإِجْمَاع أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يُلَبِّي غَدَاة الْمزْدَلِفَة بِحُضُور مَلأ من الصَّحَابَة وَغَيرهم، فَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد مِنْهُم بذلك،(10/24)
وَكَذَلِكَ فعل عبد الله بن الزبير، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد مِمَّن كَانُوا هُنَاكَ من أهل الْآفَاق من الشَّام وَالْعراق واليمن ومصر وَغَيرهَا، فَصَارَ ذَلِك إِجْمَاعًا لَا يُخَالف فِيهِ.
(بابٌ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّامَ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذالِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الْبَقَرَة: 691)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج ... } (الْبَقَرَة: 691) . إِلَى آخر الْآيَة، هَكَذَا وَقع قَوْله: {فَمن تمتّع} إِلَى {حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 691) . فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَوَقع فِي طَرِيق كَرِيمَة مَا بَين قَوْله: {الْهَدْي} وَقَوله: {حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 691) . وَقَالَ بَعضهم: وغرض البُخَارِيّ بذلك تَفْسِير الْهَدْي، وَذَلِكَ أَنه لما انْتهى فِي صفة الْحَج إِلَى الْوُصُول إِلَى منى أَرَادَ أَن يذكر أَحْكَام الْهَدْي والنحر، لِأَن ذَلِك يكون غَالِبا بمنى انْتهى. قلت: حصره على هَذَا الْغَرَض وَحده لَا وَجه لَهُ، بل إِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة لاشتمالها على مسَائِل. مِنْهَا: حكم الْهَدْي والمتعة، وَذكر فِي الْبَاب حكمهَا فَقَط اكْتِفَاء بِمَا ذكر غَيرهَا من الْأَحْكَام فِي الْأَبْوَاب السَّابِقَة.
أما الْمسَائِل الَّتِي تشْتَمل هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة عَلَيْهَا. فأولها: حكم التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، فقد ذكر فِي: بَاب التَّمَتُّع(10/25)
والإقران: وَبَاب التَّمَتُّع على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِيَة: حكم الْهَدْي، فَذكره فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب. الثَّالِثَة: حكم الصَّوْم، فَذكره أَيْضا فِي: بَاب قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 691) . الرَّابِعَة: حكم حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام، فَذكره أَيْضا فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 691) [/ ح.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا {اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . فَقَالَت طَائِفَة: شَاة، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ عَنْهُمَا مَالك فِي (موطئِهِ) وَأخذ بِهِ، وَقَالَ بِهِ جُمْهُور الْعلمَاء. وَاحْتج بقول الله تَعَالَى: {هذيا بَالغ الْكَعْبَة} (الْمَائِدَة: 59) . قَالَ: وَإِنَّمَا يحكم بِهِ فِي الْهَدْي شَاة، وَقد سَمَّاهَا الله تَعَالَى: هَديا، وَرُوِيَ عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس مَا يَقْتَضِي أَن مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي، فِي حق النَّبِي بَدَنَة، وَفِي حق غَيره بقرة، وَفِي حق الْفَقِير: شَاة، وَعَن ابْن عمر وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: أَنه من الْإِبِل وَالْبَقر خَاصَّة، وَكَأَنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى ذَلِك من أجل قَوْله تَعَالَى: {وَالْبدن جعلناها لكم من شَعَائِر الله} (الْحَج: 63) . فَذَهَبُوا إِلَى أَن الْهَدْي مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم بدن، وَيَردهُ قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} (الْمَائِدَة: 59) . إِلَى قَوْله: {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} (الْمَائِدَة: 59) . وَقد حكم الْمُسلمُونَ فِي الظبي بِشَاة، فَوَقع عَلَيْهَا اسْم هدي. وَقَوله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . يحْتَمل أَن يُشِير بِهِ إِلَى أقل أَجنَاس الْهَدْي، وَهُوَ الشَّاة وَإِلَى أقل صِفَات كل جنس، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر: الْبَدنَة دون الْبَدنَة وَالْبَقَرَة دون الْبَقَرَة فَهَذَا عِنْده أفضل من الشَّاة، وَلَا خلاف يعلم فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا مَحل الْخلاف أَن الْوَاجِد لِلْإِبِلِ وَالْبَقر هَل يخرج شَاة؟ فَعِنْدَ ابْن عمر: يمْنَع إِمَّا تَحْرِيمًا، وَإِمَّا كَرَاهَة، وَعند غَيره: نعم، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وَأنس: يجزيء فِيهَا شرك فِي دم، وَرُوِيَ عَن عَطاء وطاووس وَالْحسن مثله، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَلَا تجزىء عِنْدهم الْبَدنَة أَو الْبَقَرَة عَن أَكثر من سَبْعَة، وَلَا الشَّاة عَن أَكثر من وَاحِد. وَأما مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى بِشَاة عَن أمته فَإِنَّمَا كَانَت تَطَوّعا، وَعند الْمَالِكِيَّة: تجوز الْبَدنَة أَو الْبَقَرَة عَن أَكثر من سَبْعَة إِذا كَانَت ملكا لرجل وَاحِد وضحى بهَا عَن نَفسه وَأَهله.
301 - (بابُ رُكُوبِ الْبُدْنِ لِقَوْلِهِ تعَالى: {والبُدْنَ جَعلْناهَا لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيرٌ فاذْكُرُوا اسْمَ الله علَيْهَا صَوَافَّ فإذَا وجَبَتْ جُنُوبُهَا فكُلُوا مِنْهَا وأطْعِمُوا القَانِعَ والمُعْتَرَّ كذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ الله لُحُومُها ولاَ دمَاؤُها ولاكِنُ يَنَالُهُ التَّقْوى مِنكُم كَذلِكَ سَخَّرهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا الله علَى مَا هدَاكُم وبَشِّرِ الْمُحْسِنينَ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز ركُوب الْبدن، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله تَعَالَى: {وَالْبدن جعلناها لكم ... } (الْحَج: 63) . إِلَى آخِره، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مذكورتان بتمامهما فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت الْمَذْكُور مِنْهُمَا من قَوْله: {وَالْبدن جعلناها لكم} (الْحَج: 63) . إِلَى قَوْله: {فَإِذا(10/26)
وَجَبت جنوبها} (الْحَج) . ثمَّ الْمَذْكُور بعد {جنوبها} إِلَى قَوْله: {وَبشر الْمُحْسِنِينَ} (الْحَج: 63) . وَمَوْضِع الِاسْتِدْلَال فِي جَوَاز ركُوب الْبدن فِي قَوْله: {لكم فِيهَا خير} (الْحَج: 63) . يَعْنِي: من الرّكُوب والحلب لما روى ابْن أبي حَاتِم وَغَيره بِإِسْنَاد جيد عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: {لكم فِيهَا خير} (الْحَج: 63) . من شَاءَ ركب وَمن شَاءَ حلب، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) فِي قَوْله: {لكم فِيهَا خير} (الْحَج: 63) . من احْتَاجَ إِلَى ظهرهَا ركب، وَمن احْتَاجَ إِلَى لَبنهَا شرب. وَقيل: فِي الْبدن خير وَهُوَ النَّفْع فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْر فِي الْآخِرَة، وَمن شَأْن الْحَاج أَن يحرص على شَيْء فِيهِ خير وَمَنَافع، وَعَن بعض السّلف: أَنه لم يملك إلاَّ تِسْعَة دَنَانِير، فَاشْترى بهَا بَدَنَة، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: سَمِعت رَبِّي يَقُول: {لكم فِيهَا خير} (الْحَج: 63) . قَوْله: (وَالْبدن) بِضَم الْبَاء جمع بَدَنَة، سميت بذلك لعظم بدنهَا، وَهِي الْإِبِل الْعِظَام الضخام الْأَجْسَام، وَهِي من الْإِبِل خَاصَّة وقرىء {وَالْبدن} بِضَمَّتَيْنِ كتمر فِي جمع: تَمْرَة، وَعَن ابْن أبي إِسْحَاق، بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْديد النُّون على لفظ الْوَقْف، وقرىء: الْبدن، بِالرَّفْع وَالنّصب كَمَا فِي قَوْله: {وَالْقَمَر قدرناه} (يس: 93) . قَوْله: {من شَعَائِر الله} (الْحَج: 63) . أَي: من أَعْلَام الشَّرِيعَة الَّتِي شرعها وأضافها إِلَى اسْمه تَعْظِيمًا لَهَا. قَوْله: {لكم فِيهَا} أَي: فِي الْبدن. قَوْله: {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا} عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: ذكر اسْم الله عَلَيْهَا أَن يَقُول عِنْد النَّحْر: بِسم الله، الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر أللهم مِنْك وَإِلَيْك. قَوْله: (صوافّ) أَي: قائمات قد صففن أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ. وَقيل: أَي قيَاما على ثَلَاثَة قَوَائِم قد صفت رِجْلَيْهَا وإحدي يَديهَا ويدها الْيُسْرَى معقولة، وقرىء: صَوَافِن، من: صفون الْفرس وَهُوَ: أَن تقوم على ثَلَاث وتنصب الرَّابِعَة على طرف سنبكه، لِأَن الْبَدنَة تعقل إِحْدَى يَديهَا فتقوم على ثَلَاث، وقرىء: صوافي، أَي خوالص لوجه الله تَعَالَى. وَعَن عَمْرو بن عبيد: صوافا، بِالتَّنْوِينِ عوضا عَن حرف الْإِطْلَاق عِنْد الْوَقْف. وَعَن بَعضهم: صواف، نَحْو مثل قَول الْعَرَب: أعْط الْقوس باريها، بِسُكُون الْيَاء. قَوْله: {فَإِذا وَجَبت} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وجوب الْجنُوب وُقُوعهَا على الأَرْض، من: وَجب الْحَائِط وجبة إِذا سقط، وَوَجَبَت الشَّمْس وجبة غربت، وَالْمعْنَى: فَإِذا وَجَبت جنوبها وسكنت نسائسها حل لكم الْأكل مِنْهَا وَالْإِطْعَام، وَسَيَأْتِي تَفْسِير القانع والمعتر. قَوْله: {كَذَلِك سخرناها لكم} هَذَا منّ من الله تَعَالَى على عباده بِأَن سخر لَهُم الْبدن مثل التسخير الَّذِي رَأَوْا وَعَلمُوا أَن يأخذونها منقادة للأخذ، فيعقلونها طائعه ويحبسونها صافة قَوَائِمهَا، ثمَّ يطعنون فِي لباتها، وَلَوْلَا تسخير الله تَعَالَى لم تطق. قَوْله: {لن ينَال الله لحومها} وَذَلِكَ أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا إِذا نحرُوا الْبدن لطخوا حيطان الْكَعْبَة بدمائها، فهم الْمُسلمُونَ مثل ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لن ينَال الله لحومها} أَي: لن يصل إِلَى الله تَعَالَى لحومها الْمُتَصَدّق بهَا وَلَا الدِّمَاء المهراقة بالنحر، {وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} وَالْمعْنَى: لن يُرْضِي المضحون والمقربون ربَّهم إلاَّ بمراعاة النِّيَّة وَالْإِخْلَاص والاحتفاظ بِشُرُوط التَّقْوَى. قَوْله: {كَذَلِك سخرها لكم} أَي: سخر الْبدن، وَكرر تذكير النِّعْمَة بالتسخير، ثمَّ قَالَ: {لتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} يَعْنِي: على هدايته إيَّاكُمْ لإعلام دينه ومناسك حجه بِأَن تكبروا وتهللوا، وَضمن التَّكْبِير معنى الشُّكْر، وعدى تعديته. قَوْله: {وَبشر الْمُحْسِنِينَ} الْخطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمره بِأَن يبشر الْمُحْسِنِينَ الَّذين يعْبدُونَ الله تَعَالَى كَأَنَّهُمْ يرونه، فَإِن لم يروه فَإِنَّهُ يراهم بقبوله، وَقيل: بِالْجنَّةِ.
قَالَ مجاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِها
بِضَم الْبَاء وَسُكُون الدَّال فِي رِوَايَة بَعضهم، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بِفَتْح الْبَاء وَفتح الدَّال، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لبدانتها أَي: لضخامتها. وَأخرج عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: إِنَّمَا سميت الْبدن من قبل السمانة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْبَدنَة نَاقَة تنحر بِمَكَّة، سميت بذلك لأَنهم كَانُوا يسمنونها، وَالْبدن التسمين والاكتناز، وبدن إِذا ضخم وبدن بِالتَّشْدِيدِ إِذا أسن، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الْبدن من الْإِبِل خَاصَّة، وَقَالَ الدَّاودِيّ قيل: إِن الْبَدنَة تكون من الْبَقر، وَهَذَا نقل عَن الْخَلِيل.
والْقانِعُ السَّائلُ، والْمُعْتَرُّ يعْتَرُّ بالبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَو فَقِيرٍ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَكَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ، القانع: السَّائِل والمعترض الَّذِي يتَعَرَّض وَلَا يسْأَل. وَقَالَ مَالك: أحسن مَا سَمِعت فِيهِ أَن القانع الْفَقِير والمعتر الدائر، وَقيل: القانع السَّائِل الَّذِي لَا يقنع بِالْقَلِيلِ. وَفِي (الموعب)(10/27)
قَالَ أَبُو زيد: القانع هُوَ المتعرض لما فِي أَيدي النَّاس، وَهُوَ ذمّ لَهُ، وَهُوَ الطمع، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : القنوع الذلة للمسألة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: قنع إِلَيْهِ مَال وخضع وَهُوَ السَّائِل والمعتر الَّذِي يتَعَرَّض وَلَا يسْأَل، وَقَالَ الزّجاج القانع الَّذِي يقنع بِمَا يعطاه، وَقيل: الَّذِي يقنع باليسير. وَقَالَ قطرب: كَانَ الْحسن يَقُول: هُوَ السَّائِل الَّذِي يقنع بِمَا أوتيه وَيصير القانع من معنى القناعة والرضى. وَقَالَ الطوسي: قنع يقنع قنوعا إِذا سَأَلَ وتكفف، وقنع يقنع قناعة إِذا رَضِي. قلت: الأول من بَاب، فتح يفتح، وَالثَّانِي من بَاب: علم يعلم، قَالَ إِسْمَاعِيل: وَقَالُوا: رجل قنعان، بِضَم الْقَاف يرضى باليسير، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : القانع خَادِم الْقَوْم وأجيرهم، وَقَرَأَ الْحسن والمعتري، وَمَعْنَاهُ: المعتر، يُقَال: أعتره واعتراه وعره وعراه إِذا تعرض لما عِنْده أَو طَالبه، وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: القانع هُوَ الطامع، وَقَالَ مرّة: هُوَ السَّائِل، وَمن طَرِيق الثَّوْريّ عَن فرات عَن سعيد بن جُبَير: المعتر الَّذِي يعتريك يزورك وَلَا يَسْأَلك، وَمن طَرِيق ابْن جريج عَن مُجَاهِد: المعتر الَّذِي يعتر بِالْبدنِ من غَنِي أَو فَقير، يَعْنِي: يطِيف بهَا متعرضا لَهَا، وَهَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا.
وشعَائِرُ الله اسْتِعْظَامُ البُدْنِ واسْتِحْسَانُهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير مَا ذكر فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة من شَعَائِر الله، وَأخرجه عبد بن حميد من طَرِيق وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَمن يعظم شَعَائِر الله} (الْحَج، 23) . قَالَ: استعظام الْبدن استحسانها وإسمانها، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من وَجه آخر عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، نَحوه.
والْعَتِيقُ عِتْقُهُ مِنَ الجَبَابِرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذكر قبل الْآيَتَيْنِ المذكورتين من قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَفسّر: الْعَتِيق، بقوله: عتقه من الْجَبَابِرَة، وَعَن قَتَادَة: أعتق من الْجَبَابِرَة فكم جَبَّار سَار إِلَيْهِ ليهدمه فَمَنعه الله، وَعَن مُجَاهِد: أعتق من الْغَرق، وَأخرج عبد بن حميد من طَرِيق سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: إِنَّمَا سمي الْعَتِيق لِأَنَّهُ أعتق من الْجَبَابِرَة. وَقيل: سمي الْعَتِيق لقدمه. وَقيل: لِأَنَّهُ لم يملك قطّ.
ويُقَالُ وجَبَتْ سَقَطَتْ إلَى الأرْضِ ومِنْهُ وجَبَتِ الشَّمْسُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذكر فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة من قَوْله: {فَإِذا وَجَبت جنوبها} (الْحَج: 63) . وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق مقسم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: فَإِذا وَجَبت أَي: سَقَطت، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ من طَرِيقين عَن مُجَاهِد. قَوْله: (وَمِنْه) ، أَي: وَمن الْمَعْنى الْمَذْكُور، وَقَوْلهمْ: وَجَبت الشَّمْس إِذا سَقَطت للغروب.
9861 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا فَقَالَ إنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ ارْكَبُهَا قَالَ إنَّهَا بَدَنةٌ قَالَ ارْكَبْهَا ويْلَكَ فِي الثَّالِثَةِ أوْ فِي الثَّانِيَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد بِكَسْر الزَّاي وَالنُّون واسْمه، عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَلم تخْتَلف الروَاة عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد فِيهِ، وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد فَقَالَ: عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة أَو: عَن أبي الزِّنَاد عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَنهُ، وَقد رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن أبي الزِّنَاد بالإسنادين مفرقا.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَفِي الْأَدَب: عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، خمستهم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رأى رجلا) لم يدر اسْمه. قَوْله: (يَسُوق بَدَنَة) كَذَا وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج بِهَذَا الْإِسْنَاد. قَالَ: (بَيْنَمَا رجل يَسُوق بدقة مقلدة) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن همام بن مُنَبّه قَالَ: (هَذَا مَا حَدثنَا(10/28)
أَبُو هُرَيْرَة عَن مُحَمَّد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،) . فَذكر أَحَادِيث مِنْهَا، وَقَالَ: (بَيْنَمَا رجل يَسُوق بَدَنَة مقلدة قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَيلك إركبها، فَقَالَ: بَدَنَة يَا رَسُول الله، قَالَ: وَيلك إركبها، وَيلك إركبها) . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَالثَّوْري، كِلَاهُمَا عَن أبي الزِّنَاد، وَمن طَرِيق عجلَان (عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: اركبها وَيحك، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَة. قَالَ: أركبها وَيحك) . وَزَاد أَبُو يعلى من رِوَايَة الْحسن: (فركبها) وللبخاري من طَرِيق عِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة: (فَلَقَد رَأَيْته رَاكِبًا يُسَايِر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنعل فِي عُنُقهَا) . قَوْله: (وَيلك) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَالَهَا لَهُ تأديبا لأجل مُرَاجعَته لَهُ مَعَ عدم خَفَاء الْحَال عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْن عبد الْبر وَابْن الْعَرَبِيّ: وَبَالغ حَتَّى قَالَ: الويل لمن رَاجع فِي ذَلِك بعد هَذَا. قَالَ: وَلَوْلَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْترط على ربه مَا اشْترط لهلك ذَلِك الرجل لَا محَالة، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون فهم عَنهُ أَنه يتْرك ركُوبهَا على عَادَة الْجَاهِلِيَّة فِي السائبة وَغَيرهَا، فزجره عَن ذَلِك، فعلى الْحَالَتَيْنِ هِيَ إنْشَاء. وَرجحه عِيَاض وَغَيره، وَقَالُوا: وَالْأَمر هَهُنَا وَإِن قُلْنَا إِنَّه للإرشاد. لكنه اسْتحق الذَّم بتوقفه عَن امْتِثَال الْأَمر، وَالَّذِي يظْهر أَنه مَا ترك عنادا، وَيحْتَمل أَن يكون ظن أَنه يلْزمه غرم بركوبها أَو إِثْم، وَأَن الْإِذْن الصَّادِر لَهُ بركوبها إِنَّمَا هُوَ للشفقة عَلَيْهِ، فتوقف، فَلَمَّا أغْلظ لَهُ بَادر إِلَى الِامْتِثَال. وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ أشرف على هلكة من الْجهد، وويل: كلمة تقال لمن وَقع فِي هلكة، فَالْمَعْنى: أشرفت على الهلكة فاركب، فعلى هَذَا هِيَ إِخْبَار، وَقيل: هِيَ كلمة تدعم بهَا الْعَرَب كَلَامهَا وَلَا تقصد مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِم: لَا أم لَك، ويقويه مَا تقدم فِي رِوَايَة أَحْمد: وَيحك بدل وَيلك. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: ويل كلمة تقال لمن وَقع فِي هلكة يَسْتَحِقهَا، وويح لمن وَقع فِي هلكة لَا يَسْتَحِقهَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَيلك مخرجة مخرج الدُّعَاء عَلَيْهِ من غير قصد إِذْ أَبى من ركُوبهَا أول مرّة. وَقَالَ لَهُ: إِنَّهَا بَدَنَة، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم ذَلِك فخاف أَن لَا يكون علمه، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: الويل لَك فِي مراجعتك إيَّايَ فِيمَا لَا نَعْرِف وَأعرف، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يَقُول: ويل، كلمة عَذَاب، و: وَيْح، كلمة رَحْمَة. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَيْح زجر لمن أشرف على هلكة. وَفِي الحَدِيث (ويلٌ وَاد فِي جَهَنَّم) . قَوْله: (فِي الثَّالِثَة) أَي: فِي الْمرة الثَّالِثَة. قَوْله: (أَو فِي الثَّانِيَة) أَي: أَو قَالَ ذَلِك فِي الْمرة الثَّانِيَة، وَهَذَا شكّ من الرَّاوِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز ركُوب الْبَدنَة المهداة سَوَاء كَانَت وَاجِبَة أَو مُتَطَوعا بهَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفصل فِي قَوْله وَلَا استفصل صَاحبهَا عَن ذَلِك، فَدلَّ على أَن الحكم لَا يخْتَلف بذلك، ويوضح هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ: هَل يركب الرجل هَدْيه؟ فَقَالَ: لَا بَأْس، قد كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمر بِالرِّجَالِ يَمْشُونَ فيأمرهم بركوب هديهم.
وَقد اخْتلفُوا فِي هَذَا على أَقْوَال:
الأول: الْجَوَاز مُطلقًا، وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وَنسبه ابْن الْمُنْذر إِلَى أَحْمد وَإِسْحَاق، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة، وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) تبعا لأصله فِي الضَّحَايَا وَنَقله فِي (شرح الْمُهَذّب) عَن الْقفال والماوري.
الثَّانِي: مَا قَالَه النَّوَوِيّ، وَنقل عَنهُ عَن أبي حَامِد والبندنيجي وَغَيرهمَا مُقَيّدَة بِالْحَاجةِ، وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ: تجويزه بِغَيْر الْحَاجة مُخَالفَة النَّص، وَهُوَ الَّذِي نَقله التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي، حَيْثُ قَالَ: وَقد رخص قوم من أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم ركُوب الْبَدنَة إِذا احْتَاجَ إِلَى ظهرهَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُول عَن جمَاعَة من التَّابِعين: أَنَّهَا لَا تركب إلاَّ عِنْد الِاضْطِرَار إِلَى ذَلِك، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، فَلذَلِك قَيده صَاحب (الْهِدَايَة) من أَصْحَابنَا بالاضطرار إِلَى ذَلِك.
الثَّالِث: مَا ذكره ابْن عبد الْبر من كَرَاهَة الرّكُوب من غير حَاجَة، وَنَقله عَن الشَّافِعِي وَمَالك.
الرَّابِع: مَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ: يركب للضَّرُورَة فَإِذا استراح نزل، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ عَن ركُوب الْهَدْي؟ فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إركبها بِالْمَعْرُوفِ إِذا لجئت إِلَيْهَا حَتَّى تَجِد ظهرا، فَإِن مَفْهُومه أَنه إِذا وجد غَيرهَا تَركهَا. وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، قَالَ: يركبهَا إِذا أعيي قدر مَا يستريح على ظهرهَا.
الْخَامِس: الْمَنْع مُطلقًا، نَقله ابْن الْعَرَبِيّ عَن أبي حنيفَة، وشنع عَلَيْهِ بِغَيْر وَجه. قَالَ بَعضهم: لِأَن مذْهبه هُوَ الَّذِي ذكره الطَّحَاوِيّ وَغَيره: الْجَوَاز بِغَيْر الْحَاجة إلاَّ أَنه قَالَ: إِن وَقع ذَلِك يضمن مَا نقص مِنْهَا بركوبه، وَقيل: ضَمَان النَّقْص وَافق عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّة فِي الْهَدْي الْوَاجِب كالنذر. قلت: الَّذِي نَقله الطَّحَاوِيّ وَغَيره: أَن مَذْهَب أبي حنيفَة مَا ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) وَقد ذَكرْنَاهُ.
السَّادِس: وجوب الرّكُوب، نَقله(10/29)
ابْن عبد الْبر عَن بعض أهل الظَّاهِر تمسكا بِظَاهِر الْأَمر. ولمخالفة مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة من الْبحيرَة والسائبة، وَفِي (الاستذكار) : كره مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر الْفُقَهَاء شرب لبن النَّاقة بعد ري فصيلها. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: إِن نَقصهَا الرّكُوب وَالشرب فَعَلَيهِ قيمَة ذَلِك. وَقَالَ مَالك: لَا يشرب من لَبنهَا فَإِن شرب لم يغرم، وَكَذَا إِن ركب للْحَاجة لَا يغرم شَيْئا.
وَاخْتلف المجيزون: هَل يحمل عَلَيْهَا مَتَاعه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَمَنعه مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُور، وَكَذَا إِن حمل عَلَيْهَا غَيره أجَازه الْجُمْهُور على التَّفْصِيل الْمَذْكُور.
وَيجوز فِي الْهَدْي الْأُنْثَى وَالذكر، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك، وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه لَا يهدي إلاَّ الْإِنَاث، نَقله عَن الشَّافِعِي. وَفِي (التَّوْضِيح) : يجوز إهداء الذّكر وَالْأُنْثَى من الْإِبِل، وَهُوَ مَذْهَبنَا. وَقَول جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: لِأَن الْهَدْي جِهَة من جِهَات الْقرب فَلم يخْتَص بالذكور وَلَا الْإِنَاث كالضحايا.
وَفِيه: من الْعلم تَكْرِير الْعَالم الْفَتْوَى وتوبيخ من لَا يأتم بهَا وزجره.
0961 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ وشُعْبَةُ بنُ الحَجَّاجِ قَالَا حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنةٍ فَقَالَ ارْكَبْها قَالَ إنَّهَا بَدَنةٌ قَالَ ارْكَبْها قَالَ إنَّهَا بَدَنةٌ قَالَ اركَبْها ثَلاثا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد مضوا، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة عَن أنس وَشعْبَة وَهِشَام وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة وَهَمَّام وَالْحكم بن عبد الْملك وَأَبُو عوَانَة: أما حَدِيث شُعْبَة وَهِشَام فَانْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. وَأما سعيد بن أبي عرُوبَة فَانْفَرد بِإِخْرَاجِهِ النَّسَائِيّ. وَأما حَدِيث همام فَأخْرجهُ البُخَارِيّ مُنْفَردا بِهِ فِي الْأَدَب. وَأما حَدِيث الحكم بن عبد الْملك فَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي الضَّحَايَا. وَأما حَدِيث أبي عوَانَة فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يَسُوق بَدَنَة، فَقَالَ: إركبها. فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنَّهَا بَدَنَة {فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة: إركبها وَيحك أَو وَيلك) . وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أنس جمَاعَة مِنْهُم: ثَابت الْبنانِيّ، وَبُكَيْر بن الْأَخْنَس وَعِكْرِمَة وَالْمُخْتَار بن فلفل. أما حَدِيث ثَابت فَرَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة حميد عَن ثَابت (عَن أنس، قَالَ: مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل يَسُوق بَدَنَة فَقَالَ: إركبها} فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَة. قَالَ: إركبها، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . وَأما حَدِيث بكير بن الْأَخْنَس فَانْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم من رِوَايَة مسعر عَنهُ عَن أنس، قَالَ: سمعته يَقُول: (مر رجل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببدنة أَو هَدِيَّة، فَقَالَ: إركبها. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَة أَو هَدِيَّة. قَالَ: وَإِن) . وَأما حَدِيث عِكْرِمَة وَالْمُخْتَار بن فلفل فأخرجهما أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي الضَّحَايَا.
قَوْله: (قَتَادَة عَن أنس) ، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: سَمِعت أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قَالَ: إركبها) إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إركبها ثَلَاثًا مُخْتَصرا) . قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات، وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت فِي الحَدِيث السَّابِق.
401 - (بابُ منْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سَاق الْبدن مَعَه من الْحل إِلَى الْحرم. وَقَالَ الْمُهلب: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن يعرف أَن السّنة فِي الْهَدْي أَن يساق من الْحل إِلَى الْحرم، فَإِن اشْتَرَاهُ من الْحرم خرج بِهِ إِذا حج إِلَى عَرَفَة وَهُوَ قَول مَالك، فَإِن لم يفعل فَعَلَيهِ الْبَدَل، وَهُوَ قَول اللَّيْث، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَسَعِيد بن جُبَير. وَرُوِيَ عَن ابْن الْقَاسِم أَنه أجَازه وَإِن لم يقف بِهِ بِعَرَفَة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ الشَّافِعِي: وقف الْهَدْي بِعَرَفَة سنة لمن شَاءَ إِذا لم يسقه من الْحل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ بِسنة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا سَاق الْهَدْي من الْحل لِأَن مَسْكَنه كَانَ خَارج الْحرم، وَهَذَا كُله فِي الْإِبِل، فَأَما الْبَقَرَة فقد يضعف عَن ذَلِك وَالْغنم أَضْعَف، وَمن ثمَّة قَالَ مَالك، رَحمَه الله: إلاَّ من عَرَفَة أَو مَا قَارب مِنْهَا لِأَنَّهَا تضعف عَن الْقطع طول الْمسَافَة.
1961 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمِ(10/30)
ابنِ عبْدِ الله أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ تَمَنَّعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ وأهْدَى فسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ منْ ذِي الحُلَيْفَةِ وبدَأ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأهَلَّ بِالعُمْرَةِ ثُمَّ أهَلَّ بِالحَجِّ فتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أهْدَي فسَاقَ الْهَدْيَ ومِنْهُمْ منْ لَمْ يُهْدِ فلَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ منْ كانَ مِنْكُمْ أهْدَي فإنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِي حَجَّهُ ومنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أهْدَى فلْيَطُف بِالْبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ ولْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ ثُمَّ ليُهِلَّ بالحَجِّ فمَنُ لَمْ يَجِدْ هَدْيا فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعةً إذَا رجَعَ إلَى أهْلِهِ فطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ واسْتَلَمَ الرُّكْنَ أوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثلاَثَةَ أطْوَافٍ ومَشَي أرْبعا فرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فانْصَرَفَ فأتَى الصَّفَا فَطافَ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ سَبْعَةَ أطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى ونَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وأفاضَ فطَافَ بِالبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أهْدَى وسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فساق مَعَه الْهَدْي) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. قَوْله: (عَن عقيل) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه: حَدثنِي عقيل. وَفِيه: أَن شَيْخه يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّاء المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. وَفِيه: أَن اللَّيْث أَيْضا مصري وَعقيل أيلي، وَابْن شهَاب وَسَالم مدنيان.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا فِي الْحَج أَيْضا عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْمُبَارك المَخْزُومِي عَن حجين بن الْمثنى عَن اللَّيْث بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تمنع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج) ، قَالَ الْمُهلب: مَعْنَاهُ أَمر بذلك كَمَا تَقول: رجم وَلم يرْجم لِأَنَّهُ كَانَ يُنكر على أنس. قَوْله: (إِنَّه قرن) ، وَيَقُول بل كَانَ مُفردا. وَأما قَوْله: وَبَدَأَ بِالْعُمْرَةِ فَمَعْنَاه: أَمرهم بالتمتع، وَهُوَ أَن يهلوا بِالْعُمْرَةِ أَولا، ويقدموها قبل الْحَج. قَالَ: وَلَا بُد من هَذَا التَّأْوِيل لدفع التَّنَاقُض عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قيل: هَذَا التَّأْوِيل من أبعد التأويلات، والاستشهاد عَلَيْهِ بقوله: رجم، وَإِنَّمَا أَمر بِالرَّجمِ من أوهن الاستشهادات، لِأَن الرَّجْم وَظِيفَة الإِمَام، فَالَّذِي يَتَوَلَّاهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّاهُ نِيَابَة عَنهُ، وَأما أَعمال الْحَج من إِفْرَاد وقران وتمتع فَإِنَّهُ وَظِيفَة كل أحد عَن نَفسه. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: تمتّع، مَحْمُولا على مَدْلُوله اللّغَوِيّ وَهُوَ: الِانْتِفَاع بِإِسْقَاط عمل الْعمرَة وَالْخُرُوج إِلَى ميقاتها. انْتهى. قلت: كل هَذَا الَّذِي ذكر لَا يشفي العليل وَلَا يروي الغليل، بل الْأَوْجه هُنَا مَا قَالَه النَّوَوِيّ وَهُوَ أَن معنى: تمتّع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم بِالْحَجِّ مُفردا ثمَّ أحرم بِالْعُمْرَةِ، فَصَارَ قَارنا فِي آخر عمْرَة، والقارن هُوَ متمتع من حَيْثُ اللُّغَة وَمن حَيْثُ الْمَعْنى لِأَنَّهُ ترفه باتحاد الْمِيقَات وَالْإِحْرَام وَالْفِعْل جمعا بَين الْأَحَادِيث. وَأما لفظ: (فأهلَّ بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهلَّ بِالْحَجِّ) فَهُوَ مَحْمُول على التَّلْبِيَة فِي أثْنَاء الْإِحْرَام وَلَيْسَ المُرَاد أَنه أحرم أول مرّة بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أحرم بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالفَة الْأَحَادِيث الْأُخَر، وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل لفظ: وتمتع النَّاس مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعْلُوم أَنهم أَحْرمُوا أَولا بِالْحَجِّ مُفردا، وَإِنَّمَا فسخوا إِلَى الْعمرَة آخرا وصاروا متمتعين. وَقَوله: (فتمتع النَّاس) يَعْنِي: فِي آخر أَمرهم قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) من حَدِيث اللَّيْث عَن عقيل إِلَى آخِره نَحوه، ثمَّ قَالَ: وَقد روينَا عَن عَائِشَة وَابْن عمر مَا يُعَارض هَذَا، وَهُوَ الْإِفْرَاد، وَحَيْثُ لم يتَحَلَّل(10/31)
من إِحْرَامه إِلَى آخر شَيْء فَفِيهِ دلَالَة على أَنه لم يكن مُتَمَتِّعا. قلت: هَذَا لَا يرد على فُقَهَاء الْكُوفَة لِأَن عِنْدهم الْمُتَمَتّع إِذا أهْدى لَا يتَحَلَّل حَتَّى يفرغ من حجه، وَهَذَا الحَدِيث أَيْضا يَنْفِي كَونه مُفردا لِأَن الْهَدْي لَا يمْنَع الْمُفْرد من الْإِحْلَال فَهُوَ حجَّة على الْبَيْهَقِيّ. وَفِي (الاستذكار) : لَا يَصح عندنَا أَن يكون مُتَمَتِّعا إلاَّ تمتّع قرَان، لِأَنَّهُ لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَحَلَّل من عمرته، وَأقَام محرما من أجل هَدْيه، وَهَذَا حكم الْقَارِن لَا الْمُتَمَتّع، وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لأبي الْحسن الأشبيلي: وَلَا يَصح عِنْدِي أَن يكون، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُتَمَتِّعا إلاَّ تمتّع قرَان، لِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه لم يحل من عمرته حَتَّى أَمر أَصْحَابه أَن يحلوا ويفسخوا حجهم فِي عمْرَة، وَفسخ الْحَج فِي الْعمرَة خص بِهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يجوز الْيَوْم أَن يفعل ذَلِك عِنْد أَكثر الصَّحَابَة وَغَيرهم لقَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج} (الْبَقَرَة: 691) . يَعْنِي لمن دخل فِيهِ، وَمَا أعلم من الصَّحَابَة من يُجِيز ذَلِك إلاَّ ابْن عبَّاس، وَتَابعه أَحْمد وَدَاوُد دون سَائِر الْفُقَهَاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً، فِي: بَاب التَّمَتُّع وَالْقرَان. قَوْله: (فساق مَعَه الْهَدْي من ذِي الحليفة) وَهُوَ الْمِيقَات. قَوْله: (وَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأهل بِالْحَجِّ) ، قَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا يُرِيد أَنه بَدَأَ حِين أَمرهم بالتمتع أَن يهلوا بِالْعُمْرَةِ أول، ويقدموها قبل الْحَج، وَأَن ينشؤا الْحَج بعْدهَا إِذا حلوا مِنْهَا. قَوْله: (وبالصفا والمروة) ، ظَاهر فِي وجوب السَّعْي. قَوْله: (فتمتع النَّاس مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بِحَضْرَتِهِ. قَوْله: (وليقصر) على صُورَة أَمر الْغَائِب، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (وَيقصر) ، على صُورَة الْمُضَارع، وَقَالَ الْكرْمَانِي، بِالرَّفْع والجزم. قلت: وَجه الرّفْع أَن يكون الْمُضَارع على أَصله لتجرده عَن النواسخ، وَالتَّقْدِير: وَبعد الطّواف بِالْبَيْتِ وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة يقصر، من التَّقْصِير، وَهُوَ أَخذ بعض شعر رَأسه. وَوجه الْجَزْم أَن يكون عطفا على المجزوم قبله، وَيكون فِي التَّقْدِير: وليقصر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لِمَ خصص التقصيرَ والحلقُ جَائِز بل أفضل؟ وَأجَاب: بِأَنَّهُ أمره بذلك ليبقى لَهُ شعر يحلقه فِي الْحَج، فَإِن الْحلق فِي تحلل الْحَج أفضل مِنْهُ فِي تحلل الْعمرَة. قَوْله: (وليحلل) ، صورته أَمر، وَمَعْنَاهُ الْخَبَر يَعْنِي صَار: حَلَالا، فَلهُ فعل كل مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَام. قَوْله: (ثمَّ ليهل بِالْحَجِّ) أَي: بعد تَقْصِيره وتحلله يحرم بِالْحَجِّ، وَإِنَّمَا أَتَى بِلَفْظ: ثمَّ، الدَّال على التَّرَاخِي ليدل على أَنه لَا يلْزم أَن يهل بِالْحَجِّ عقيب إحلاله من الْعمرَة. قَوْله: (فَمن لم يجد هَديا) أَي: لم يجده هُنَاكَ، إِمَّا لعدم الْهَدْي، وَإِمَّا لعدم ثمنه، وَإِمَّا لكَونه يُبَاع بِأَكْثَرَ من ثمن الْمثل. قَوْله: (فليصم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج) ، وَهُوَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة، وَالثَّامِن وَالتَّاسِع. قَوْله: (وَسَبْعَة) أَي: وليصم سَبْعَة (أَيَّام إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله) بِظَاهِرِهِ أَخذ الشَّافِعِي، لِأَن المُرَاد حَقِيقَة الرُّجُوع، وَقَالَ أَصْحَابنَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} (الْبَقَرَة: 691) . مَعْنَاهُ: إِذا فَرَغْتُمْ من أَفعَال الْحَج، والفراغ سَبَب الرُّجُوع، فَأطلق الْمُسَبّب على السَّبَب، فَلَو صَامَ هَذِه السَّبْعَة بِمَكَّة فَإِنَّهُ يجوز عندنَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز إلاَّ أَن يَنْوِي الْإِقَامَة بهَا، فَإِن لم يصم الثَّلَاثَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم النَّحْر تعين الدَّم، فَلَا يجوز أَن يَصُوم الثَّلَاثَة وَلَا السَّبْعَة بعْدهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يَصُوم الثَّلَاثَة بعد هَذِه الْأَيَّام: يَعْنِي أَيَّام التَّشْرِيق. وَقَالَ مَالك: يصومها فِي هَذِه الْأَيَّام. قُلْنَا: النَّهْي الْمَعْرُوف عَن صَوْم هَذِه الْأَيَّام، وَلَا يُؤدى بعْدهَا أَيْضا لِأَن الْهَدْي أصل وَقد نقل حكمه إِلَى بدل مَوْصُوف بِصفة، وَقد فَاتَت، فَعَاد الحكم إِلَى الأَصْل وَهُوَ الْهَدْي. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) للأشبيلي: وَوقت هَذَا الصَّوْم من حِين يحرم بِالْحَجِّ إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق، وَالِاخْتِيَار تَقْدِيمه فِي أول الْإِحْرَام، رَوَاهُ ابْن الْجلاب، وَإِنَّمَا اخْتَار تَقْدِيمه لتعجيل إِبْرَاء الذِّمَّة، وَلِأَنَّهُ وَقت مُتَّفق على جَوَاز الصَّوْم فِيهِ، فَإِن فَاتَهُ ذَلِك قبل يَوْم النَّحْر صَامَهُ أَيَّام منى، فَإِن لم يصم أَيَّام منى صَامَ بعْدهَا. قَالَه عَليّ وَابْن عمر وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه أجَاز للمتمتع أَن يَصُوم فِي الْعشْر وَهُوَ حَلَال. وَقَالَ مُجَاهِد وطاووس: إِذا صامهن فِي أشهر الْحَج أَجزَأَهُ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذان. وَقَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) : اخْتلف السّلف فِيمَن لم يجد الْهَدْي وَلم يصم الْأَيَّام الثَّلَاثَة قبل يَوْم النَّحْر، فَقَالَ عمر بن الْخطاب وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وطاووس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: لَا يجْزِيه إلاَّ الْهَدْي، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ ابْن عمر وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَصُوم أَيَّام منى، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَصُوم بعد أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. انْتهى. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّوْم من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَعَن سَالم عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَالَا: لم(10/32)
يرخص فِي أَيَّام التَّشْرِيق أَن يضمن إلاَّ لمن لم يجد الْهَدْي، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْمُتَمَتّع: إِذا لم يجد الْهَدْي وَلم يصم فِي الْعشْر أَنه يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي سنَنه؟ قلت: رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن هَذِه الْأَيَّام أَيَّام أكل وَشرب، وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْأَيَّام أَيَّام التَّشْرِيق، مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد حسن عَنهُ، أَنه قَالَ: (خرج مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام التَّشْرِيق فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَيَّام أَيَّام وَأكل وَشرب) . وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ أَحَادِيث نهي الصَّوْم فِي أَيَّام التَّشْرِيق عَن سِتَّة عشر نفسا من الصَّحَابَة ذَكَرْنَاهُمْ فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) للطحاوي، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لما ثَبت بِهَذِهِ الْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق، وَكَانَ نَهْيه عَن ذَلِك بمنى والحاج مقيمون بهَا وَفِيهِمْ المتمتعون والقارنون، وَلم يسْتَثْن مِنْهُم مُتَمَتِّعا، وَلَا قَارنا، دخل فِيهِ المتمتعون والقارنون فِي ذَلِك النَّهْي. وَأما الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ سَالم عَن أَبِيه مَرْفُوعا فَهُوَ ضَعِيف، وَفِي سَنَده يحيى بن سَلام نزيل مصر، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَفِيه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى فِيهِ مقَال، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن شُعْبَة أَن حَدِيث يحيى بن سَلام حَدِيث مُنكر لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بالرواية لضعف يحيى بن سَلام وَابْن أبي ليلى وَسُوء حفظهما. قَوْله: (فَطَافَ حِين قدم مَكَّة) أَي: فَطَافَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصرح بِهِ هَكَذَا فِي (صَحِيح مُسلم) قَوْله: (واستلم الرُّكْن أول شَيْء) أَي: اسْتَلم الْحجر الْأسود أول مَا قدم قبل أَن يبتديء بِشَيْء. قَوْله: (ثمَّ خب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة أَي أسْرع فِي الثَّلَاثَة الأول من الأطواف، وَرمل. قَوْله: (وَمَشى أَرْبعا) أَي: أَربع مَرَّات أَرَادَ أَنه لم يرمل فِي بَقِيَّة الأطواف، وَهِي الْأَرْبَعَة. قَوْله: (فَرَكَعَ حِين قضى طَوَافه بِالْبَيْتِ عِنْد الْمقَام رَكْعَتَيْنِ) أَي: لما فرغ من أطوافه السَّبْعَة صلى عِنْد مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَكْعَتَيْنِ وَقضى بِمَعْنى: أدّى، وَرَكْعَتَيْنِ مَنْصُوب بقوله: فَرَكَعَ. قَوْله: (ثمَّ سلم) أَي: عقيب الرَّكْعَتَيْنِ فَانْصَرف وأتى الصَّفَا، فَظَاهر الْكَلَام أَنه حِين فرغ من الرَّكْعَتَيْنِ توجه إِلَى الصَّفَا وَلم يشْتَغل بِشَيْء آخر. وَحَدِيث جَابر الطَّوِيل عِنْد مُسلم: (ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْحجر فاستلمه، ثمَّ خرج من بَاب الصَّفَا) . قَوْله: (حِين قضى حجه) أَي: بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة لِأَنَّهُ من أَرْكَان الْحَج وبرمي الجمرات ونحره هَدْيه يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وأفاض) أَي: بعد الْإِتْيَان بِهَذِهِ الْأَفْعَال أَفَاضَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ طواف الْإِفَاضَة. قَوْله: (وَفعل مثل مَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: مثل فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفاعل: فعل، هُوَ قَوْله: (من أهْدى) يَعْنِي: مِمَّن كَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَاق الْهَدْي، وَكلمَة: من، فِي من النَّاس للتَّبْعِيض لِأَن كل من كَانُوا لم يسوقوا الْهَدْي، وَقَائِل هَذَا الْكَلَام أَعنِي قَوْله: وَفعل ... إِلَى آخِره، هُوَ عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ بَعضهم: وَأغْرب الْكرْمَانِي فشرحه على أَن فَاعل فعل هُوَ ابْن عمر رَاوِي الْخَبَر. قلت: لم يشْرَح الْكرْمَانِي بِهَذَا الشَّرْح إلاَّ بِنَاء على النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا: بَاب من أهْدى وسَاق الْهَدْي على مَا نذكرهُ الْآن، وَلِهَذَا قَالَ: وَالصَّحِيح هُوَ الأول، يَعْنِي: أَن فَاعل: فعل، هُوَ قَوْله: (من أهْدى) .
وَعَنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخْبَرَتْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَمَتُّعِهِ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أخبرَني سَالِمٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا عطف على قَوْله: عَن سَالم بن عبد الله أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ مقول ابْن شهَاب، وَهَذِه هِيَ النُّسْخَة الصَّحِيحَة، وَالنُّسْخَة الَّتِي وَقع فِيهَا لفظ: بَاب بَين قَوْله: (وَفعل مثل مَا فعل رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَبَين قَوْله: (من أهل وسَاق الْهَدْي من النَّاس) ، وَصورتهَا: بَاب من أهل وسَاق الْهَدْي وَعَن عُرْوَة أَن عَائِشَة أخْبرته إِلَى آخِره، وَهَذَا خطأ فَاحش، ونسبت هَذِه رِوَايَة إِلَى أبي الْوَقْت وَالظَّاهِر أَنه من تخبيط النَّاسِخ.
وَقد أخرجه مُسلم مثل النُّسْخَة الصَّحِيحَة حَيْثُ قَالَ: حَدثنِي عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث حَدثنِي أبي عَن جدي، قَالَ: حَدثنِي عقيل بن خَالِد عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله أَن عبد الله بن عمر، قَالَ: تمتّع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، وَسَاقه إِلَى أَن قَالَ: وأفاض فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثمَّ حل من كل شَيْء حرم فِيهِ، وَفعل مثل مَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أهْدى فساق الْهَدْي من النَّاس. ثمَّ قَالَ: وحدثنيه عبد الْملك بن شُعَيْب يَعْنِي ابْن اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي(10/33)
أبي عَن جدي، قَالَ: حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرته عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تمتعه بِالْحَجِّ إِلَى الْعمرَة، وتمتع النَّاس مَعَه مثل الَّذِي أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله عَن عبد الله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى. وَهَذَا كَمَا رَأَيْت بِإِسْنَاد وَاحِد عَن سَالم وَعَن عُرْوَة، وَكَذَلِكَ أَبُو نعيم سَاق الحَدِيث بِتَمَامِهِ فِي (الْمُسْتَخْرج) ثمَّ أَعَادَهُ بِمثلِهِ عَن عَائِشَة بترجمة مُسْتَقلَّة بِمثل الْإِسْنَاد الأول، ثمَّ قَالَ فِي كل مِنْهُمَا: أخرجه البُخَارِيّ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث. قلت: وَكَذَلِكَ أخرج مُسلم كلا مِنْهُمَا عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث كَمَا رَأَيْته.
501 - (بابُ منِ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنَ الطَّرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من اشْترط الْهَدْي فِي طَرِيقه عِنْد توجهه إِلَى الْكَعْبَة، سَوَاء كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم.
3961 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم لأِبِيهِ أقِمْ فإنِّي لاَ آمَنُهَا أنْ سَتُصَدُّ عنِ الْبَيتِ قَالَ إِذا أفْعَلَ كَمَا فعَلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ قالَ الله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رسولِ الله أُسْوَةٌ حسَنَةٌ فأنَا أشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ عَلَى نَفْسي الْعُمْرَةَ فأهَلَّ بالْعُمْرَةِ قَالَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إذَا كانَ بالبَيْدَاءِ أهَلَّ بِالحَجِّ والْعُمْرَةِ وَقَالَ مَا شأنُ الْحَجِّ والعُمْرَةِ إلاَّ وَاحِدٌ ثُمَّ اشْتَرَى الهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ ثُمَّ قَدِمَ فَطافَ لَهُمَا طَوَافا وَاحِدا فلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ اشْترى الْهَدْي من قديد) ، فَإِن القديد فِي الطَّرِيق فِي الْحل. قَالَ ابْن بطال: أَرَادَ أَن يبين أَن مَذْهَب ابْن عمر فِي الْهَدْي مَا أَدخل من الْحل إِلَى الْحرم، لِأَن قديدا من الْحل، ورد عَلَيْهِ بِأَن التَّرْجَمَة أَعم من فعل ابْن عمر فَكيف يكون بَيَانا لَهُ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب طواف الْقَارِن، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن علية عَن أَيُّوب عَن نَافِع ... إِلَى آخِره، فَاعْتبر التَّفَاوُت فِي السَّنَد والمتن وَالْمعْنَى وَاحِد، وَهنا أخرجه عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي عَن حَمَّاد بن يزِيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (لِأَبِيهِ) هُوَ: عبد الله بن عمر. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (أقِم) ، أَمر من الْإِقَامَة، أَرَادَ أَنه قَالَ لِأَبِيهِ لما أَرَادَ التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة: أقِم عندنَا لَا ترح هَذِه السّنة، فَإِن فِيهَا فتْنَة الْحجَّاج، فَيكون فِيهَا قتال يصدك عَن الْبَيْت. قَوْله: (فَإِنِّي لَا آمنها) أَي: لَا آمن الْفِتْنَة، وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة الممدودة وَفتح الْمِيم المخففة، وَقد مر فِي حَدِيث الْبَاب الْمَذْكُور بِلَفْظ: لَا آمن، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: لَا أيمنها، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: من الْعَرَب من يكسر زَوَائِد كل فعل مضارع فعل ومستقبله يفعل، فَتَقول: أَنا أعلم وَأَنت تعلم وَنحن نعلم، وَهُوَ يعلم. قَوْله: (أَن ستصد) أَي: أَن ستمنع، هَذِه رِوَايَة السَّرخسِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (أَن تصد) ، بِنصب الدَّال، ويروى (أَن ستصد) بِالرَّفْع. قَوْله: (إِذا أفعل) بِالنّصب. قَوْله: (كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي: من الإهلال حِين صد بِالْحُدَيْبِية. قَوْله: (فَأهل بِالْعُمْرَةِ) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فَأهل بِالْعُمْرَةِ من الدَّار) ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم من رِوَايَة عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَن أبي النُّعْمَان: شيخ البُخَارِيّ، وَفِيه حجَّة على من لم ير بِجَوَاز الْإِحْرَام من خَارج الْمَوَاقِيت، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على الْجَوَاز، ثمَّ قيل: هُوَ أفضل من الْمِيقَات، وَقيل: من كَانَ لَهُ مِيقَات معِين فَهُوَ فِي حَقه أفضل وإلاَّ فَمن دَاره أفضل، وللشافعية فِي أرجحية الْمِيقَات من الدَّار اخْتِلَاف. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: يُؤْخَذ من تَعْلِيلهم أَي: من أَمن على نَفسه كَانَ أرجح فِي حَقه، وإلاَّ فَمن الْمِيقَات أفضل. قَوْله: (مَا شَأْنهمَا إلاَّ وَاحِد) يَعْنِي: فِي الْعَمَل، لِأَن الْقَارِن لَا يطوف عِنْده إلاَّ طَوافا وَاحِدًا وسعيا وَاحِدًا. وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن من أهلَّ بِعُمْرَة فِي أشهر الْحَج أَن لَهُ أَن يدْخل عَلَيْهَا الْحَج مَا لم يفْتَتح الطّواف بِالْبَيْتِ، لِأَن الصَّحَابَة أهلوا بِعُمْرَة فِي حجَّة الْوَدَاع، ثمَّ قَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من كَانَ مَعَه هدي فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعمرَة، ثمَّ لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَبِهَذَا احْتج مَالك فِي (موطئِهِ) . وَاخْتلفُوا فِي إِدْخَاله عَلَيْهَا إِذا افْتتح الطّواف، فَقَالَ مَالك: يلْزمه ذَلِك. وَيكون قَارنا، وَذكر أَنه(10/34)
قَول عَطاء، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَأما إِدْخَال الْعمرَة مَعَ الْحَج فَمِنْهُ مِنْهُ مَالك، وَهُوَ قَول إِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَقَالُوا: يصير قَارنا، وَذكر أَنه قَول عَطاء، وَلكنه أَسَاءَ فِيمَا فعل. قلت: الْقيَاس عِنْد أبي حنيفَة أَن لَا يمْنَع من إِدْخَال عمْرَة على حج، لِأَن من أَصله أَن على الْقَارِن تعدد الطّواف وَالسَّعْي. قَوْله: (فَلم يحل حَتَّى حل) وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: حَتَّى أحل، بِزِيَادَة ألف فِي أَوله وَفتح الْحَاء، وَهِي لُغَة مَشْهُورَة، يُقَال: حل وَأحل. قَوْله: (مِنْهُمَا) أَي: من الْعمرَة وَالْحجّة.
601 - (بابُ منْ أشْعَرَ وقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أحْرَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أشعر هَدْيه. وَفِي بَيَان من قَلّدهُ وَالْكَلَام فِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ على أَنْوَاع.
الأول: فِي تَفْسِير الْإِشْعَار لُغَة، وَهُوَ: من الشُّعُور فِي الأَصْل وَهُوَ الْعلم بالشَّيْء: من شعر يشْعر، من بَاب نصر ينصر، إِذا علم وأشعر من الْإِشْعَار بِكَسْر الْهمزَة وَهُوَ الْإِعْلَام.
النَّوْع الثَّانِي: فِي تَفْسِيره شرعا، وَهُوَ أَن يضْرب صفحة سنامها الْيُمْنَى بحديدة حَتَّى تتلطخ بِالدَّمِ ظَاهرا، وَلَا نظر إِلَى مَا فِيهِ من الإيلام لِأَنَّهُ لَا منع إلاَّ مَا مَنعه الشَّرْع، وَذكر الْقَزاز: أشعرها إشعارا وإشعارها أَن يوجأ أصل سنامها بسكين، سميت بِمَا حل فِيهَا، وَذَلِكَ لِأَن الَّذِي فعل بهَا عَلامَة تعرف بهَا. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ أَن يشق جلدهَا أَو يطعنها حَتَّى يظْهر الدَّم، وَزعم ابْن قرقول أَن إشعارها هُوَ تعليمها بعلامة بشق جلد سنامها عرضا من الْجَانِب الْأَيْمن، هَذَا عِنْد الْحِجَازِيِّينَ وَأما الْعِرَاقِيُّونَ فالإشعار عِنْدهم تقليدها بقلادة، وَقيل الْإِشْعَار أَن يكشط جلد الْبَدنَة حَتَّى يسيل دم ثمَّ يسلته، فَيكون ذَلِك عَلامَة على كَونهَا هَديا.
النَّوْع الثَّالِث: فِي كَيْفيَّة الْإِشْعَار، وَالِاخْتِلَاف الَّذِي فِيهَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: كَيْفيَّة الْإِشْعَار أَن يطعنها فِي أَسْفَل سنامها من الْجَانِب الْأَيْسَر حَتَّى يسيل الدَّم، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد فِي قَول: الْأَيْمن، وَقَالَ السفاقسي: إِذا كَانَت الْبَدنَة ذللاً أشعرها من الْأَيْسَر، وَإِن كَانَت صعبة قرن بدنتين، ثمَّ قَامَ بَينهمَا وأشعر إِحْدَاهمَا من الْأَيْمن وَالْأُخْرَى من الْأَيْسَر. وَقَالَ ابْن قدامَة: وَعَن أَحْمد من الْجَانِب الْأَيْسَر، لِأَن ابْن عمر فعله، وَبِه قَالَ مَالك، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن مُجَاهِد، يَقُول: كَانُوا يستحبون الْإِشْعَار فِي الْجَانِب الْأَيْسَر. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) للأشبيلي: وَجَائِز الْإِشْعَار فِي الْجَانِب الْأَيْمن، وَفِي الْجَانِب الْأَيْسَر، وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رُبمَا فعل هَذَا وَرُبمَا فعل هَذَا، وَأكْثر أهل الْعلم يستحبون فِي الْجَانِب الْأَيْمن، مِنْهُم الشَّافِعِي وَإِسْحَاق لحَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر بِذِي الحليفة ثمَّ دَعَا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها الْيُمْنَى، ثمَّ سلت الدَّم عَنْهَا وقلدها بنعلين، أخرجه مُسلم، وَعند أبي دَاوُد: ثمَّ سلت الدَّم بِيَدِهِ، وَفِي لفظ: ثمَّ سلت الدَّم بإصبعه. وَقَالَ ابْن حبيب: يشْعر طولا، وَقَالَ السفاقسي عرضا، وَالْعرض عرض السنام من الْعُنُق إِلَى الذَّنب، وَقَالَ مُجَاهِد: أشعر من حَيْثُ شِئْت، ثمَّ قَالَ: والإشعار طولا فِي شقّ الْبَعِير أخذا من جِهَة مقدم الْبَعِير إِلَى جِهَة عَجزه، فَيكون مجْرى الدَّم عريضا فيتبين الْإِشْعَار، وَلَو كَانَ مَعَ عرض الْبَعِير كَانَ مجْرى الدَّم يَسِيرا خَفِيفا لَا يَقع بِهِ مَقْصُود الإعلان بِالْهَدْي.
النَّوْع الرَّابِع: فِي صفة الْإِشْعَار، ذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَن الْإِشْعَار سنة، وَذكر ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بأسانيد جَيِّدَة عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس: إِن شِئْت فأشعر وَإِن شِئْت فَلَا، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : قَالَ أَبُو حنيفَة: أكره الْإِشْعَار وَهُوَ مثلَة، وَقَالَ: هَذِه طامة من طوام الْعَالم أَن يكون مثلَة شَيْء فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أفٍ لكل عقل يتعقب حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيلْزمهُ أَن تكون الْحجامَة وَفتح الْعرق مثله، فَيمْنَع من ذَلِك. وَهَذِه قولة لَا نعلم لأبي حنيفَة فِيهَا مُتَقَدم من السّلف، وَلَا مُوَافق من فُقَهَاء عصره إلاَّ من ابتلاه الله تَعَالَى بتقليده. قلت: هَذَا سفاهة وَقلة حَيَاء، لِأَن الطَّحَاوِيّ الَّذِي هُوَ أعلم النَّاس بمذاهب الْفُقَهَاء، وَلَا سِيمَا بِمذهب أبي حنيفَة، ذكر أَن أَبَا حنيفَة لم يكره أصل الْإِشْعَار، وَلَا كَونه سنة، وَإِنَّمَا كره مَا يفعل على وَجه يخَاف مِنْهُ هلاكها لسراية الْجرْح، لَا سِيمَا فِي حر الْحجاز مَعَ الطعْن بِالسِّنَانِ، أَو الشَّفْرَة، فَأَرَادَ سد الْبَاب على الْعَامَّة، لأَنهم لَا يراعون الْحَد فِي ذَلِك، وَأما من وقف على الْحَد فَقطع الْجلد دون اللَّحْم فَلَا يكرههُ، وَذكر الْكرْمَانِي صَاحب الْمَنَاسِك عَنهُ استحسانه، قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح، لَا سِيمَا إِذا كَانَ بمبضع وَنَحْوه، فَيصير كالفصد والحجامة، وَأما قَوْله: وَهَذِه قولة لَا نعلم لأبي حنيفَة فِيهَا مُتَقَدم من السّلف، فَقَوْل فَاسد، لِأَن ابْن بطال ذكر أَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَيْضا لَا يرى بالإشعار، وَلما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلد نَعْلَيْنِ، وأشعر الْهَدْي فِي الشق الْأَيْمن بِذِي الحليفة(10/35)
وأماط عَنهُ الدَّم، قَالَ: سَمِعت يُوسُف بن عِيسَى، يَقُول: سَمِعت وكيعا يَقُول حِين روى هَذَا الحَدِيث: لَا تنظروا إِلَى قَول أهل الرَّأْي فِي هَذَا، فَإِن الْإِشْعَار سنة، وَقَوْلهمْ بِدعَة. قَالَ: وَسمعت أَبَا السَّائِب يَقُول: كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ لرجل مِمَّن ينظر فِي الرَّأْي: أشعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَقُول أَبُو حنيفَة: هُوَ مثلَة. قَالَ الرجل: فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: الْإِشْعَار مثلَة. قَالَ: فَرَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا، وَقَالَ: أَقُول لَك: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتقول: قَالَ إِبْرَاهِيم؟ مَا أحقك بِأَن تحبس ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا؟ انْتهى. وَقَالَ الْخطابِيّ: لَا أعلم أحدا يكره الْإِشْعَار إلاَّ أَبَا حنيفَة، قَالَ: وَخَالفهُ صَاحِبَاه، وَقَالا بقول عَامَّة أهل الْعلم. قلت: الْجَواب عَمَّا نَقله التِّرْمِذِيّ عَن وَكِيع، وَعَما قَالَه الْخطابِيّ، وَعَن قَول كل من يتعقب على أبي حنيفَة بِمثل هَذَا يحصل مِمَّا قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَقد رَأَيْت كل مَا ذكره، وَفِيه أريحية العصبية والحط على من لَا يجوز الْحَط عَلَيْهِ، وحاشا من أهل الْإِنْصَاف أَن يصدر مِنْهُم مَا لَا يَلِيق ذكره فِي حق الْأَئِمَّة الأجلاء على أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: لَا أتبع الرَّأْي وَالْقِيَاس إلاَّ إِذا لم أظفر بِشَيْء من الْكتاب أَو السّنة أَو الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهَذَا ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قد خير صَاحب الْهَدْي فِي الْإِشْعَار، وَتَركه على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا يشْعر مِنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان الْإِشْعَار سنة وَلَا مُسْتَحبا.
النَّوْع الْخَامِس: فِي الْحِكْمَة فِي الْإِشْعَار: مِنْهَا: أَن الْبَدنَة الَّتِي أشعرت إِذا اخْتلطت بغَيْرهَا تميزت، وَإِذا ضلت عرفت، وَمِنْهَا: أَن السَّارِق رُبمَا ارتدع فَتَركهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهَا قد تعطب فتنحر، فَإِذا رأى الْمَسَاكِين عَلَيْهَا الْعَلامَة أكلوها، وَأَنَّهُمْ يتبعونها إِلَى المنحر لينالوا مِنْهَا. وَمِنْهَا: أَن فِيهَا تَعْظِيم شعار الشَّرْع، وحث الْغَيْر عَلَيْهِ.
النَّوْع السَّادِس: أَن الْإِشْعَار مُخْتَصّ بِالْإِبِلِ أم لَا؟ فَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي إِشْعَار الْبَقَرَة فَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يشْعر فِي أسنمتها، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا وَقَالَ الشّعبِيّ: تقلد وتشعر، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر، وَقَالَ مَالك: تشعر الَّتِي لَهَا سناء. وتقلد وَلَا تشعر الَّتِي لَا سَنَام لَهَا وَقَالَ سعيد بن جُبَير تقلد وَلَا تشعر وَأما الْغنم فَلَا يسن إشعارها لِضعْفِهَا وَلِأَن صوفها يستر مَوضِع الْإِشْعَار، وَقَالَ ابْن التِّين: وَمَا علمت أحدا ذكر الْخلاف فِي الْبَقَرَة المسمنة إلاَّ الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وَمَا أرَاهُ مَوْجُودا.
النَّوْع السَّابِع: فِي التَّقْلِيد. وَهُوَ سنة بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ تَعْلِيق نعل أَو جلد ليَكُون عَلامَة الْهَدْي. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَو قلد بِعُرْوَة مزادة أَو لحي شَجَرَة أَو شبه ذَلِك جَازَ لحُصُول الْعَلامَة، وَذهب الشَّافِعِي وَالثَّوْري إِلَى أَنَّهَا تقلد بنعلين، وَهُوَ قَول ابْن عمر، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَمَالك: يجزىء وَاحِدَة، وَعَن الثَّوْريّ: يجزىء فَم الْقرْبَة، وَنَعْلَان أفضل لمن وجدهما. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ من هَذِه التَّرْجَمَة أَن يبين أَن الْمُسْتَحبّ أَن لَا يشْعر الْمحرم وَلَا يُقَلّد إلاَّ فِي مِيقَات بَلَده، وَقيل: الَّذِي يظْهر أَن غَرَضه الْإِشَارَة إِلَى رد قَول مُجَاهِد، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يشْعر حَتَّى يحرم، وَهُوَ عكس مَا فِي التَّرْجَمَة.
وَقَالَ نافِعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا أهْدَى مِنَ المَدِينَةِ قَلَّدَهُ وأشْعَرَهُ بِذِي الحلَيْفَةِ ويَطْعُن فِي شِثِّ سَنامِهِ الأيْمَن بِالشَّفْرَةِ ووَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عمر كَانَ يُقَلّد ويشعر بِذِي الحليفة، فَإِن بداءته بالتقليد والإشعار يدل على أَنه كَانَ يقدمهما على الْإِحْرَام، وَفِي التَّرْجَمَة كَذَلِك، فَإِنَّهُ قَالَ: ثمَّ أحرم أَي: بعد الْإِشْعَار والتقليد أحرم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) قَالَ: عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر أَنه إِذا أهْدى هَديا من الْمَدِينَة قَلّدهُ بِذِي الحليفة، يقلده قبل أَن يشعره، وَذَلِكَ فِي مَكَان وَاحِد، وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى الْقبْلَة يقلده بنعلين، ويشعره من الشق الْأَيْسَر ثمَّ يساق مَعَه حَتَّى يُوقف بِهِ مَعَ النَّاس بِعَرَفَة، ثمَّ يدْفع بِهِ فَإِذا قدم غَدَاة النَّحْر نَحره. فَإِن قلت: الَّذِي علقه البُخَارِيّ يدل على الْأَيْمن، وَالَّذِي رَوَاهُ مَالك يدل على الْأَيْسَر. قلت: قَالَ ابْن بطال: روى أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ يشعرها مرّة فِي الْأَيْمن، وَمرَّة فِي الْأَيْسَر، فَأخذ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة الْأَيْسَر، وَأخذ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة أُخْرَى بِرِوَايَة الْأَيْمن، وَعَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَ إِذا طعن فِي سَنَام هَدْيه، وَهُوَ يشعره، قَالَ: بِسم الله وَالله أكبر. قَوْله: (إِذا أهْدى من الْمَدِينَة) أَي: هَدْيه قَلّدهُ، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي قَلّدهُ، وَأَشْعرهُ يرجع إِلَى الْهَدْي الْمُقدر الَّذِي هُوَ مفعول: أهْدى، وَقد صرح(10/36)
بِهِ فِي رِوَايَة مَالك كَمَا وقفت عَلَيْهِ. قَوْله: (ويطعن) ، بِضَم الْعين من الطعْن بِالرُّمْحِ، وَنَحْوه، قَوْله: (فِي شقّ سنامه) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ النَّاحِيَة وَالنّصف. قَوْله: (بالشفرة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَهِي السكين الْعَظِيم. قَوْله: (ووجهها) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ، يرجع إِلَى الْبَدنَة الَّتِي هِيَ الْهَدْي، وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ. قَوْله: (باركة) ، نصب على الْحَال.
5961 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ ومَرْوانَ قَالَا خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ المَدِينَةِ فِي بِضْعِ عَشْرَةَ مائَةً مِنْ أصحَابِهِ حَتَّى إذَا كانُوا بِذِي الحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْيَ وأشْعَرَهُ وَأحْرَمَ بِالعُمْرَةِ.
. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم بعد تَقْلِيده هَدْيه، وإشعاره، والترجمة فِي الْإِشْعَار والتقليد ثمَّ الْإِحْرَام.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أَبُو الْعَبَّاس، يُقَال لَهُ: مرْدَوَيْه السمسار الْمروزِي. الثَّانِي: عبد الله ابْن الْمُبَارك. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. السَّادِس: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو، وَفِي آخِره رَاء: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء ابْن نَوْفَل بن وهيب بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن لؤَي بن غَالب، ابْن أُخْت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، يكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعمر بن الْخطاب وَعمر بن عَوْف عِنْدهمَا، والمغيرة بن شُعْبَة وَمُحَمّد بن مُسلم. قَالَ ابْن بكير: مَاتَ بِمَكَّة يَوْم جَاءَ نعي يزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى ابْن الزبير سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَصلى عَلَيْهِ ابْن الزبير، وأصابه حجر المنجنيق وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحجر، فَمَاتَ فِي شهر ربيع الأول وَولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وَتُوفِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وَكَانَ أَصْغَر من ابْن الزبير بأَرْبعَة أشهر. السَّابِع: مَرْوَان بن الحكم ابْن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس أَبُو عبد الْملك الْقرشِي الْأمَوِي، يُقَال: إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَلم يحفظ عَنهُ شَيْئا، وَتُوفِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، قَالَ خَليفَة: مَاتَ مَرْوَان بِدِمَشْق لثلاث خلت من شهر رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين سنة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان ومعمرا بَصرِي سكن الْيمن والبقية مدنيون، غير أَن مسورا أَقَامَ بِمَكَّة إِلَى أَن مَاتَ بهَا، كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: أَن هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) وَقَالَ: لِأَن سنه كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَة أَربع سِنِين، وَأما مَرْوَان فَلم تصح لَهُ صُحْبَة. وَفِيه: أَن مَرْوَان من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَعَن التَّابِعِيّ أَيْضا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) أخرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع مُخْتَصرا من حَدِيث طَوِيل. وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي: أخرجه فِي كتاب الشُّرُوط عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَفِي الْحَج أَيْضا عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق، وَفِي الْمَغَازِي عَن عَليّ بن عبد الله مُخْتَصرا، وَفِيه عَن عبد الله بن مُحَمَّد أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن عبد الْأَعْلَى عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن الْمُبَارك بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْمَدِينَة) ويروى: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة من الْمَدِينَة) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (من الْمَدِينَة) وَفِي بَعْضهَا بدله: (من الْحُدَيْبِيَة) . قَوْله: (فِي بضع عشرَة) ، الْبضْع بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْفَتْح: مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع. قَوْله: (قلد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي) وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاق يَوْم الْحُدَيْبِيَة سبعين بَدَنَة عَن سَبْعمِائة رجل) . وَفِي رِوَايَة: (كَانُوا فِي الْحُدَيْبِيَة خمس عشرَة مائَة) . وَفِي رِوَايَة: (أَربع عشرَة مائَة) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: تَقْلِيد الْهَدْي وإشعاره قبل الْإِحْرَام. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة التَّقْلِيد ومشروعية الْإِشْعَار، وَقَالَ ابْن(10/37)
بطال: من أَرَادَ أَن يحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة وسَاق مَعَه هَديا لَا يقلده إلاَّ من مِيقَات، وَكَذَلِكَ يسْتَحبّ لَهُ أَيْضا أَن لَا يحرم إلاَّ من ذَلِك الْمِيقَات، على مَا عمل بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا فِي الْحُدَيْبِيَة، وَفِي حجَّته أَيْضا، وَكَذَلِكَ من أَرَادَ أَن يبْعَث بِهَدي إِلَى الْبَيْت وَلم يرد الْحَج وَالْعمْرَة وَأقَام فِي بَلَده فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يقلده وَأَن يشْعر فِي بَلَده، ثمَّ يبْعَث بِهِ كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ بعث بهديه مَعَ أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة تسع وَلم يُوجب ذَلِك على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إحراما وَلَا تجردا من ثِيَاب وَلَا غير ذَلِك، وعَلى هَذَا جمَاعَة أَئِمَّة الْفَتْوَى: مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وردوا قَول ابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُ كَانَ يرى أَن من بعث بِهَدي إِلَى الْكَعْبَة لزمَه، إِذا قَلّدهُ، الْإِحْرَام، ويجتنب كل مَا يجْتَنب الْحَاج حَتَّى ينْحَر هَدْيه. وتابع ابْن عَبَّاس، على ذَلِك ابْن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على خلاف عَنهُ، وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد. قَالَ أَبُو عمر: وَقيس بن سعد بن عبَادَة، وَسَعِيد بن الْمسيب على اخْتِلَاف عَنهُ، وَمَيْمُون بن شبيب، ويروى مثل ذَلِك فِي أثر مَرْفُوع عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَسد بن مُوسَى عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الرَّحْمَن بن عَطاء بن أبي لَبِيبَة عَن عبد الْملك بن جَابر عَنهُ، وَابْن أبي لَبِيبَة شيخ لَيْسَ مِمَّن يحْتَج بِهِ فِيمَا ينْفَرد بِهِ، فَكيف فِيمَا خَالفه فِيهِ من هُوَ أثبت مِنْهُ؟ وَلكنه قد عمل بحَديثه بعض الصَّحَابَة. وَقَالَ أَبُو عمر: وَلَا يخْتَلف الْعلمَاء أَن هدي كل من كَانَ مِيقَاته ذَا الحليفة أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يُؤَخر إِحْرَامه إِلَى الْجحْفَة، وَإِنَّمَا يُؤَخر إِحْرَامه إِلَى الْجحْفَة المغربي والشامي. وَفِي (التَّلْوِيح) : وتابع ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَيْضا الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو الشعْثَاء وَمُجاهد وَالْحسن بن أبي الْحسن، ذكره فِي (المُصَنّف) وَحَكَاهُ أَيْضا عَن عمر وَعلي وَابْن سِيرِين، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ عَطاء، وَقَالَ مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن ربيعَة بن الهدير: رأى رجلا متجردا بالعراق، فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: أَمر بهديه أَن يُقَلّد، فَلذَلِك تجرد، فَذكر ذَلِك لِابْنِ الزبير، فَقَالَ: بِدعَة وَرب الْكَعْبَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يجوز عندنَا أَن يكون حلف ابْن الزبير على ذَلِك إلاَّ أَنه قد علم أَن السّنة على خِلَافه. وَالله أعلم.
6961 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا أفلَحُ عنِ القَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا وأشعرها وأهْدَاهَا فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كانَ أُحِلَّ لَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قُم قلدها وأشعرها) ، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وأفلح بن حميد مولى الْأَنْصَار، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يروي عَن عمته عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن الْحَارِث وَعَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (بدن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الدَّال: جمع بَدَنَة. قَوْله: (فَمَا حرم عَلَيْهِ شَيْء) ويروى: (وَمَا حرم) ، بِالْوَاو، يَعْنِي الَّذِي حرم عَلَيْهِ شَيْء كَانَ أحل لَهُ قبل ذَلِك، أَرَادَ بِهِ مَحْظُورَات الْإِحْرَام.
وَفِيه: من الْأَحْكَام: تَقْلِيد الْهَدْي وإشعارها. وَمِنْه: مُبَاشرَة التَّقْلِيد والإشعار بِيَدِهِ وَهُوَ أفضل من الِاسْتِنَابَة كذبح الْأُضْحِية، وَاخْتلف مَالك ابْن شهَاب فِي الْمَرْأَة فَقَالَ ابْن شهَاب: تلِي ذَلِك بِنَفسِهَا، وَأنْكرهُ مَالك، وَقَالَ: لَا تفعل ذَلِك إلاَّ أَن لَا تَجِد من يَلِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا يَفْعَله إلاَّ من ينحره.
701 - (بابُ فَتْلِ الْقَلاَئِدِ لِلْبُدْنِ والْبَقَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فتل القلائد لأجل التَّعْلِيق على الْبدن، وَهُوَ جمع قلادة. قَوْله: (وَالْبَقر) أَي: وللبقر.
7961 - حدَّثنا مُسَددٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ حَفْصَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قالَتْ قُلْتُ يَا رسُولَ الله مَا شأنُ النَّاسَ حَلُّوا ولَمْ تَحْلِلْ أنْتَ قَالَ إنِّي لبَّدْتُ رَأسِي وقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أُحِلُّ حَتَّى أحِلَّ مِنَ الْحَجِّ.
.(10/38)
مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب التَّمَتُّع والإقران فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن نَافِع، وَعَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قيل: وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث ذكر الْبَقر، فَلَا مُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة. قلت: لفظ الْهَدْي يتَنَاوَل الْإِبِل وَالْبَقر جَمِيعًا، لِأَنَّهُ صَحَّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهداهما جَمِيعًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ دلّ الحَدِيث على التَّرْجَمَة؟ ثمَّ أجَاب بِأَن التَّقْلِيد لابد لَهُ من الفتل، وَتَبعهُ بَعضهم على ذَلِك، فَقَالَ: مناسبته للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن التَّقْلِيد يسْتَلْزم تقدم الفتل عَلَيْهِ. قلت: هَذَا غير مُسلم، لِأَن القلادة أَعم من أَن تكون من شَيْء يفتل وَمن شَيْء لَا يفتل.
8961 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا الليْثُ قَالَ حدَّثنا ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ وعنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهْدِي مِنَ المَدِينَةِ فأفْتِلُ قَلاَئِدَ ثُمَّ لاَ يَجْتَنِبُ شَيْئا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ المُحْرِمُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَيزِيد بن خَالِد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح كلهم عَن لَيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة وَعمرَة، كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة بِهِ.
قَوْله: (وَعَن عمْرَة) عطف على عُرْوَة، وَابْن شهَاب روى هَذَا الحَدِيث عَن عُرْوَة بن الزبير وَعَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن جَمِيعًا، كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة. قَوْله: (ثمَّ لَا يجْتَنب) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مِمَّا يجتنبه الْمحرم) ، ويروى: (مِمَّا يجْتَنب الْمحرم) مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يبْعَث بِالْهَدْي وَلَا يحرم، فَلهَذَا لَا يجْتَنب عَن مَحْظُورَات الْإِحْرَام. وَقد بوب مُسلم على هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: بَاب الْبَعْث بِالْهَدْي وتقليده من غير أَن يحرم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: دَلِيل على اسْتِحْبَاب بعث الْهَدْي إِلَى الْحرم وَأَن من لم يذهب إِلَيْهِ يسْتَحبّ لَهُ بَعثه مَعَ غَيره وَفِيه: أَن من بعث هَدْيه لَا يصير محرما وَلَا يحرم عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يحرم على الْمحرم، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ رِوَايَة حكيت عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَطَاء وَسَعِيد ابْن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَحَكَاهُ الْخطابِيّ أَيْضا عَن أهل الرَّأْي أَنه إِذا فعل ذَلِك لزمَه اجْتِنَاب مَا يجتنبه الْمحرم، وَلَا يصير محرما من غير نِيَّة الْإِحْرَام، وَالصَّحِيح مَا قَالَه الْجُمْهُور، ولهذه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
801 - (بابُ إشعارِ الْبُدُنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِشْعَار الْبدن وَحكم الْإِشْعَار قد علم مِمَّا تقدمه من الْأَبْوَاب، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب مَعَ أَن فِيهِ حديثين أَحدهمَا مُعَلّق وَقد ذكرهمَا فِيمَا قبل لأجل اخْتِلَاف سَنَده، ولبعض التَّفَاوُت فِي الْمُتُون، يظْهر لَك عِنْد الْوُقُوف عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ عنِ المِسْوَرِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَلَّدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْيَ وأشْعَرَهُ وأحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَأَشْعرهُ، وعلقه عَن عُرْوَة بن الزبير عَن الْمسور بن مخرمَة، وَأخرجه مَوْصُولا عَن قريب فِي: بَاب من أشعر وقلده بِذِي الحليفة.
9961 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا أفْلَحُ بنُ حُمَيْدٍ عنِ الْقَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أشْعَرَها وقلَّدَها أوْ قَلَّدْتُها ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ وأقامَ بِالمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عليْهِ شَيءٌ كانَ لَهُ حِلٌّ..
قد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من أشعر وقلد بِذِي الحليفة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن أَفْلح، وَهَهُنَا: عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن أَفْلح إِلَى آخِره. قَوْله: (أَو قلدتها) شكّ من الرَّاوِي. وَفِيه جَوَاز الإستنابة فِي التَّقْلِيد. قَوْله: (وَأقَام بِالْمَدِينَةِ)(10/39)
يَعْنِي حَلَالا فَمَا حرم عَلَيْهِ شَيْء من مَحْظُورَات الْإِحْرَام. قَوْله: (كَانَ لَهُ حل) أَي: حَلَال، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لقَوْله شَيْء، وَهُوَ مَرْفُوع بقول: (فَمَا حرم) بِضَم الرَّاء.
901 - (بابُ منْ قَلَّدَ الْقَلاَئِدَ بِيَدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من قلد القلائد على الْهَدْي بِيَدِهِ بِدُونِ استنابة لغيره بذلك.
0071 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عَن عبْدِ الله بنِ أبي بَكْرِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْم عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّها أخْبَرَتْهُ أنَّ زِيادَ بنَ أبي سُفْيانَ كتَبَ إِلَى عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهاأنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ مَنْ أهْدَى هَدْيا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ قالَتْ عَمْرَةُ فقالَتْ عائِشةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَيْسَ كَما قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ إِنَّا فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدَيْهِ ثُمَّ بعَثَ بِهَا معَ أبي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيءٌ أحَلَّهُ الله حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ قلدها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيدَيْهِ) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَعبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم قد مر فِي: بَاب الْوضُوء مرَّتَيْنِ، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، سقط عَمْرو، وَعمرَة هِيَ خَالَة عبد الله الرَّاوِي عَنْهَا، وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ، وَزِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف دَال مُهْملَة: ابْن أبي سُفْيَان أَبُو الْمُغيرَة، وَهُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ مُعَاوِيَة أَخا لَهُ لِأَبِيهِ فألحقه بنسبه، وَقيل لَهُ: زِيَاد بن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوكَالَة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك بِالْحَدِيثِ دون الْقِصَّة.
قَوْله: (إِن زِيَاد بن أبي سُفْيَان) ، كَذَا وَقع فِي (الْمُوَطَّأ) وَكَانَ شيخ مَالك حدث بِهِ كَذَلِك فِي زمن بني أُميَّة. وَأما بعدهمْ فَمَا كَانَ يُقَال لَهُ إلاَّ زِيَاد بن أَبِيه. وَقيل: استلحاق مُعَاوِيَة لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُقَال لَهُ: زِيَاد بن عبيد، وَكَانَت أمه سميَّة مولاة الْحَارِث بن كلدة الثَّقَفِيّ تَحت عبيد الْمَذْكُور، فَولدت زيادا على فرَاشه، فَكَانَ ينْسب إِلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة شهد جمَاعَة على إِقْرَار أبي سُفْيَان بِأَن زيادا وَلَده، فاستلحقه مُعَاوِيَة لذَلِك وزوى ابْنه ابْنَته، وَأمر زيادا على العراقين: الْبَصْرَة والكوفة، جَمعهمَا لَهُ، وَمَات فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَخمسين، وَوَقع عِنْد مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك: أَن ابْن زِيَاد، بدل قَوْله: إِن زِيَاد بن أبي سُفْيَان، قَالُوا: إِنَّه وهم نبه عَلَيْهِ الغساني وَمن تبعه مِمَّن يتَكَلَّم على صَحِيح مُسلم وَالصَّوَاب مَا وَقع فِي البُخَارِيّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُود عِنْد جَمِيع رُوَاة الْمُوَطَّأ وَكَذَا وَقع فِي سنَن أبي دَاوُد وغيرهامن الْكتب الْمُعْتَمدَة، وَلِأَن ابْن زِيَاد لم يدْرك عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (من أهْدى) أَي: من بعث الْهَدْي إِلَى مَكَّة. قَوْله: (على الْحَاج) ويروى: (من الْحَاج) . قَوْله: (حَتَّى ينْحَر هَدْيه) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (قَالَت عمْرَة) أَي: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُورَة فِي السَّنَد، وَإِنَّمَا قَالَت بالسند الْمَذْكُور. قَوْله: (ثمَّ بعث بهَا) أَي: ثمَّ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهَدْي، وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير بِاعْتِبَار الْبَدنَة لِأَن هَدْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي بعث بِهِ كَانَ بَدَنَة. قَوْله: (مَعَ أبي) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة: وَهُوَ أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ بَعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهديه مَعَ أبي بكر سنة تسع عَام حج أَبُو بكر بِالنَّاسِ. قَوْله: (حَتَّى نحر الْهَدْي) أَي حَتَّى نحر أَبُو بكر الْهَدْي، ويروي: (حَتَّى نحر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: عدم الْحُرْمَة لَيْسَ مغيا إِلَى النَّحْر إِذْ هُوَ بَاقٍ بعده، فَلَا مُخَالفَة بَين حكم مَا بعد الْغَايَة وَمَا قبلهَا؟ قلت: هُوَ غَايَة النَّحْر لَا لما يحرم أَي: الْحُرْمَة المنتهية أَي: النَّحْر لم يكن، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رد لكَلَام ابْن عَبَّاس، وَهُوَ كَانَ مثبتا للْحُرْمَة إِلَى النَّحْر انْتهى. وَوَقعت زِيَادَة فِي رِوَايَة مُسلم هُنَا عَن يحيى بن يحيى بعد قَوْله: (حَتَّى ينْحَر الْهَدْي) ، وَهِي: وَقد بعث بهديي فأكتبي إِلَيّ بِأَمْرك، وَوَقعت فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ زِيَادَة أُخْرَى، وَهِي بعد قَوْله: (فاكتبي إليَّ بِأَمْرك أَو مري صَاحب الْهَدْي) ، أَي: الَّذِي مَعَه الْهَدْي، يَعْنِي: مري بِمَا يصنع، وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَمَانِيَة(10/40)
عشر طَرِيقا كلهَا فِي بَيَان حجَّة من قَالَ: لَا يجب على من بعث بِهَدي أَن يتجرد عَن ثِيَابه وَلَا يتْرك شَيْء مِمَّا يتْركهُ الْمحرم إلاَّ بِدُخُولِهِ فِي الْإِحْرَام، إِمَّا بِحَجّ وَإِمَّا بِعُمْرَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب من أشعر وقلد بِذِي الحليفة، وَقد ذكرنَا أَنهم ردوا قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من قَوْله: (إِن من بعث بهديه إِلَى مَكَّة وَأقَام هُوَ، فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يجْتَنب مَا يجتنبه الْمحرم حَتَّى ينْحَر هَدْيه) . وَقَالَ ابْن التِّين: خَالف ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي هَذَا جَمِيع الْفُقَهَاء، واحتجت عَائِشَة بِفعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا روته فِي ذَلِك يجب أَن يُصَار إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَجَعَ عَنهُ. انْتهى قلت: ابْن عَبَّاس لم ينْفَرد بذلك، بل ثَبت ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. مِنْهُم: ابْن عمر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن أَيُّوب وَابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن جريج عَن نَافِع عَن ابْن عمر، كَانَ إِذا بعث بِالْهَدْي يمسك عَمَّا يمسك عَنهُ الْمحرم إلاَّ أَنه لَا يُلَبِّي. وَمِنْهُم: قيس بن سعد بن عبَادَة، أخرج سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَنهُ نَحْو ذَلِك. وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن عمر، وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الرجل يُرْسل ببدنته: إِنَّه يمسك عَمَّا يمسك عَنهُ الْمحرم، وَهَذَا مُنْقَطع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه رد عَائِشَة على ابْن عَبَّاس؟ قلت: حَاصله أَن ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِك قِيَاسا للتوكيل فِي أَمر الْهَدْي على الْمُبَاشرَة لَهُ، فَقَالَت لَهُ عَائِشَة: لَا اعْتِبَار للْقِيَاس فِي مُقَابلَة السّنة الظَّاهِرَة. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِك، قِيَاسا، بل الظَّاهِر أَنه إِنَّمَا قَالَه لقِيَام دَلِيل من السّنة عِنْده، وَلم يقل ابْن عَبَّاس هَذَا وَحده، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، ألاَ يرى أَن جمَاعَة من التَّابِعين وهم: الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَمُجاهد وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن جُبَير وافقوا ابْن عَبَّاس فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من ذَلِك؟ وَاحْتج لَهُم الطَّحَاوِيّ فِي ذَلِك من حَدِيث جَابر بن عبد الله، قَالَ: كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا فقد قَمِيصه حَتَّى أخرجه من رجلَيْهِ، فَنظر الْقَوْم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي أمرت ببدني الَّتِي بعثت بهَا أَن تقلد الْيَوْم وتشعر على مَكَان كَذَا وَكَذَا، فَلبِست قَمِيصِي ونسيت، فَلم أكن لأخرج قَمِيصِي من رَأْسِي، وَكَانَ بعث ببدنة وَأقَام بِالْمَدِينَةِ، وَإِسْنَاده حسن، وَأخرجه أَبُو عمر أَيْضا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: تنَاول الْكَبِير الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَإِن كَانَ لَهُ من يَكْفِيهِ إِذا كَانَ مِمَّا يهتم بِهِ، وَلَا سِيمَا مَا كَانَ من إِقَامَة الشَّرَائِع وَأُمُور الدّيانَة. وَفِيه: رد بعض الْعلمَاء على بعض. وَفِيه: رد الِاجْتِهَاد بِالنَّصِّ. وَفِيه: أَن الأَصْل فِي أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التأسي حَتَّى تثبت الخصوصية.
011 - (بابُ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَقْلِيد الْغنم.
1071 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْراهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ أهْدَي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّةً غنَما..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن من لَوَازِم الْهَدْي التَّقْلِيد شرعا، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْأسود ابْن يزِيد.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد وَعَن ابْن بشار وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن ابْن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد. وَاحْتج الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْغنم تقلد، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن حبيب، وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: لَا تقلد لِأَنَّهَا تضعف عَن التَّقْلِيد. وَقَالَ أَبُو عمر: احْتج من لم يره بِأَن الشَّارِع إِنَّمَا حج حجَّة وَاحِدَة لم يهد فِيهَا غنما، وأنكروا حَدِيث الْأسود الَّذِي فِي البُخَارِيّ فِي تَقْلِيد الْغنم، قَالُوا هُوَ حَدِيث لَا يعرفهُ أهل بَيت عَائِشَة. وَقَالَ بَعضهم: مَا أَدْرِي مَا وَجه الْحجَّة مِنْهُ، لِأَن حَدِيث الْبَاب دلّ على أَنه أرسلها وَأقَام، فَكَانَ ذَلِك قبل حجَّته قطعا، فَلَا تعَارض بَين الْفِعْل وَالتّرْك، لِأَن مُجَرّد التّرْك لَا يدل على نسخ الْجَوَاز، ثمَّ من الَّذِي صرح بِهِ من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بِأَنَّهُ لم يكن فِي هداياه فِي حجَّته غنم حَتَّى يسوغ الِاحْتِجَاج بذلك؟ انْتهى قلت: الْهَدْي الَّذِي أرسل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْغنم(10/41)
لَيْسَ هدي الْإِحْرَام، وَلِهَذَا أَقَامَ حَلَالا بعد إرْسَاله، وَلم ينْقل أَنه أهْدى غنما فِي إِحْرَامه. وَقَوله: فَلَا تعَارض بَين الْفِعْل وَالتّرْك كَلَام واهٍ، لِأَن من ادّعى التَّعَارُض بَينهمَا والتعارض تقَابل الحجتين، وَهَهُنَا الْفِعْل لم يُوجد، فَكيف يتَصَوَّر التَّعَارُض حَتَّى يحْتَاج إِلَى دَفعه. وَقَوله: ثمَّ من الَّذِي صرح من الصَّحَابَة ... إِلَى آخِره، يرد بِأَن يُقَال من الَّذِي صرح مِنْهُم بِأَنَّهُ كَانَ فِي هداياه فِي حجَّته غنم. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَالْحَنَفِيَّة فِي الأَصْل يَقُولُونَ لَيست الْغنم من الْهَدْي، فَالْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم. قلت: هَذَا افتراء على الْحَنَفِيَّة، فَفِي أَي مَوضِع قَالَت الْحَنَفِيَّة: إِن الْغنم لَيست من الْهَدْي؟ بل كتبهمْ مشحونه بِأَن الْهَدْي اسْم لما يهدى من الْغنم إِلَى الْحرم ليتقرب بِهِ. قَالُوا: وَأَدْنَاهُ شَاة، لقَوْل ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي شَاة، وَعَن هَذَا قَالُوا: الْهَدْي إبل وبقر وغنم، ذكورها وإناثها، حَتَّى قَالُوا هَذَا بِالْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا مَذْهَبهم أَن التَّقْلِيد فِي الْبَدنَة وَالْغنم لَيست من الْبَدنَة فَلَا تقلد لعدم التعارف بتقليدها، إِذْ لَو كَانَ تقليدها سنة لما تركوها، وَقَالُوا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: تفرد بِهِ الْأسود وَلم يذكرهُ غَيره على مَا ذكرنَا، وَادّعى صَاحب الْمَبْسُوط أَنه أثر شَاذ. فَإِن قلت: كَيفَ يُقَال: تركوها؟ وَقد ذكر ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: لقد رَأَيْت الْغنم يُؤْتى بهَا مقلدة؟ وَعَن أبي جَعْفَر: رَأَيْت الكباش مقلدة، وَعَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر: أَن الشَّاة كَانَت تقلد، وَعَن عَطاء: رَأَيْت أُنَاسًا من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يسوقون الْغنم مقلدة؟ قلت: لَيْسَ فِي ذَلِك كُله أَن التَّقْلِيد كَانَ فِي الْغنم الَّتِي سيقت فِي الْإِحْرَام، وَأَن أَصْحَابهَا كَانُوا محرمين، على أنَّا نقُول: إِنَّهُم مَا منعُوا الْجَوَاز، وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَن التَّقْلِيد فِي الْغنم لَيْسَ بِسنة.
2071 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ كُنْتُ أفْتِلُ الْقَلائِدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ ويُقِيمُ فِي أهْلِهِ حَلاَلاً..
هَذَا طَرِيق آخر للْحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي النُّعْمَان، بِضَم النُّون، وَهُوَ مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَإِنَّمَا أرْدف الطَّرِيق السَّابِق بِهَذَا الطَّرِيق لِأَن فِيهِ تَصْرِيح الْأَعْمَش بِالتَّحْدِيثِ عَن إِبْرَاهِيم. وَفِي هَذَا الطَّرِيق أَيْضا زِيَادَة، وَهُوَ التَّقْلِيد، وَذكر إِقَامَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَهله حَلَالا، وللحنفية أَن يحتجوا بِالزِّيَادَةِ الثَّانِيَة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من أَن تَقْلِيد الْغنم إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ فِي الأحرام.
3071 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ قَالَ حدَّثنا منْصُورُ بنُ المُعْتَمِرِ قَالَ (ح) وحدَّثنا محَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كنْتُ أفْتِلُ قَلائِدَ الْغَنَمُ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَبْعَثُ بِهَا ثُمَّ يَمْكُثُ حَلاَلاً..
هَذَانِ طَرِيقَانِ آخرَانِ: أَحدهمَا: عَن أبي النُّعْمَان الْمَذْكُور عَن حَمَّاد بن زيد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَالْآخر: عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن بنْدَار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت: كنت أفتل قلائد هدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كلهَا غنما، ثمَّ لَا يحرم. وَقَالَ بَعضهم: أرْدف رِوَايَة عبد الْوَاحِد بِرِوَايَة مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم استظهارا لرِوَايَة عبد الْوَاحِد، لما فِي حفظ عبد الْوَاحِد عِنْدهم، وَأَن كَانَ هُوَ عِنْده حجَّة.
4071 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ فتَلْتُ لِهَدْيِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْنِي الْقَلائِدَ قَبْلَ أنْ يُحْرِمَ..
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن عَامر الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق بن الأجدع عَنْهَا.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الضَّحَايَا عَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن إِسْمَاعِيل عَن(10/42)
الشّعبِيّ، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن زَكَرِيَّا بِهِ، وَعَن أبي مُوسَى عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى عَن إِسْمَاعِيل بِهِ. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا يدل ظَاهرا على كَون القلائد للغنم، فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة؟ قلت: لفظ الْهَدْي يتَنَاوَل الْغنم أَيْضا لِأَنَّهُ فَرد من أَفْرَاد مَا يهدى إِلَى الْحرم، وَأَيْضًا إرداف هَذَا الحَدِيث بِالْحَدِيثين السَّابِقين يدل على أَنه مثلهمَا فِي حكم تَقْلِيد الْغنم.
111 - (بابُ الْقَلائِدِ مِنَ الْعِهْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم القلائد من العهن، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره نون: وَهُوَ الصُّوف الْمَصْبُوغ ألوانا. وَيُقَال: كل صوف عهن، والقطعة مِنْهُ عهنة، وَالْجمع عهون، ذكره فِي (الموعب) وَفِي (الْمُحكم) : الْمَصْبُوغ أَي لون كَانَ، وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ الْأَحْمَر من الصُّوف.
5071 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا مُعاذُ بنُ مُعَاذٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنِ الْقَاسِمِ عنْ أمِّ المُؤمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ فَتَلْتُ قَلائِدَه مِنْ عِهْنٍ كانَ عِنْدِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعَمْرو بن عَليّ بن كثير أَبُو حَفْص الصَّيْرَفِي الْبَصْرِيّ، ومعاذ بن معَاذ، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة فِي اللَّفْظَيْنِ: ابْن نصر بن حسان الْعَنْبَري التَّمِيمِي قَاضِي الْبَصْرَة، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون أرطبان مر فِي كتاب الْعلم.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بأتم من البُخَارِيّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي.
قَوْله: (عَن أم الْمُؤمنِينَ) ، هِيَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بَينه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) عَن يحيى بن حَكِيم عَن معَاذ، وَكَذَا فِي كتاب الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عون. قَوْله: (فتلت قلائدها) ، أَي: الْبدن أَو الْهَدَايَا. وَفِي رِوَايَة يحيى الْمَذْكُورَة: (أَنا فتلت تِلْكَ القلائد) ، وَرَوَاهُ مُسلم من وَجه آخر عَن ابْن عون مثله، وَزَاد: فَأصْبح فِينَا حَلَالا يَأْتِي مَا يَأْتِي الْحَلَال من أَهله.
وَفِيه: رد على من كره القلائد من الأوبار وَاخْتَارَ أَن يكون من نَبَات الأَرْض. وَهُوَ مَنْقُول عَن ربيعَة وَمَالك. وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّه أَرَادَ الأولى مَعَ القَوْل بِجَوَاز كَونهَا من الصُّوف.
211 - (بابُ تَقْلِيدِ النَّعْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَقْلِيد الْهَدْي بالنعل، وَهُوَ الْحذاء، مؤنثه وتصغيرها نعيلة، تَقول: نعلت وانتعلت إِذا احتذيت، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس يتَنَاوَل الْوَاحِدَة وَمَا فَوْقهَا، وَفِي حكمهَا خلاف، فَعِنْدَ الثَّوْريّ: الشَّرْط نَعْلَانِ فِي التَّقْلِيد، وَعند غَيره: تجوز الْوَاحِدَة. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يتَعَيَّن النَّعْل فِي التَّقْلِيد، بل كل مَا قَامَ مقَامهَا يجزىء، حَتَّى أذن الْإِدَاوَة والقطعة من المزادة. وَالْحكمَة فِيهِ أَنه إِشَارَة إِلَى السّفر وَالْجد فِيهِ. وَقيل: الْحِكْمَة فِيهِ أَن الْعَرَب تَعْتَد النَّعْل مركوبة لكَونهَا تَقِيّ عَن صَاحبهَا، وَتحمل عَنهُ وعر الطَّرِيق. فَكَانَ الَّذِي أهْدى وقلده بالنعل خرج عَن مركوبه لله تَعَالَى حَيَوَانا، وَغَيره فبالنظر إِلَى هَذَا يسْتَحبّ النَّعْلَانِ فِي التَّقْلِيد.
6071 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرَنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ عَبْدِ الأعْلَى عنْ مَعْمَرٍ عنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثيرٍ عَن عِكْرَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ نبيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى رجُلاً يَسُوقُ بَدَنةً قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إنَّهَا بَدَنَةً قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ فَلَقَدْ رَأيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا.(10/43)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والنعل فِي عُنُقهَا) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد كَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام، وَكَذَا وَقع لِابْنِ السكن، وَقَالَ الجياني: لَعَلَّه مُحَمَّد بن الْمثنى لِأَنَّهُ قَالَ بعد هَذَا فِي: بَاب الذّبْح قبل الْحلق: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الْأَعْلَى يُؤَيّدهُ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم فِي (مستخرجيهما) من طَرِيق الْحسن بن سُفْيَان حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الْأَعْلَى فذكرا حَدِيث النَّعْل. الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى ابْن عبد الْأَعْلَى ابْن مُحَمَّد السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة: من بني سامة بن لؤَي. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير، وَاسم أبي كثير: صَالح بن المتَوَكل، وَقيل غير ذَلِك. الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، وَأما عِكْرِمَة بن عمار فَهُوَ تلميذ يحيى بن أبي كثير لَا شَيْخه. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ مُحَمَّد بن سَلام فَهُوَ البيكندي البُخَارِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن الْمثنى فَهُوَ الْبَصْرِيّ وَكَذَلِكَ عبد الْأَعْلَى وَمعمر بصريان وَيحيى بن أبي كثير يمامي وَعِكْرِمَة مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بِغَيْر نِسْبَة. وَفِيه: من هُوَ اسْمه وَاسم أَبِيه وَاحِد. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَقيل: يحيى رأى أنسا يُصَلِّي وَلم يرو عَنهُ شَيْئا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَسُوق بَدَنَة) ، جملَة حَالية. قَوْله: (قَالَ) أَي: أَبُو هُرَيْرَة. قَوْله: (فَلَقَد رَأَيْته) أَي: الرجل الْمَذْكُور. قَوْله: (راكبها) نصب على الْحَال لِأَن إِضَافَته لفظية، فَهُوَ نكرَة وَيجوز أَن يكون بَدَلا من ضمير الْمَفْعُول فِي: رَأَيْته، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ فِي: بَاب ركُوب الْبدن، فَإِنَّهُ أخرج هُنَاكَ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيق مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
تابَعَهُ مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ
ظَاهر الْعبارَة أَن مُحَمَّد بن بشار تَابع مُحَمَّد بن الْمثنى، وَقَالَ بَعضهم: المتابَع بِالْفَتْح هُوَ معمر، والمتابِع بِالْكَسْرِ هُوَ مُحَمَّد بن بشار ظَاهرا، وَلكنه فِي التَّحْقِيق هُوَ عَليّ بن الْمُبَارك، ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا احْتَاجَ معمر عِنْده إِلَى الْمُتَابَعَة لِأَن فِي رِوَايَة الْبَصرِيين عَنهُ مقَالا لكَونه حَدثهمْ بِالْبَصْرَةِ من حفظَة، وَهَذَا من رِوَايَة الْبَصرِيين. انْتهى. قلت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ حق التَّرْكِيب يرد مَا قَالَه على مَا لَا يخفى، وَالَّذِي حمله على هَذَا ذكر عَليّ بن الْمُبَارك فِي السَّنَد الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد على مَا لَا يخفى. غَايَة مَا فِي الْبَاب: أَن السَّنَد الَّذِي فِيهِ عَليّ بن الْمُبَارك يظْهر أَنه تَابع معمرا فِي رِوَايَته فِي نفس الْأَمر لَا فِي الظَّاهِر، لِأَن التَّرْكِيب لَا يساعد مَا قَالَه أصلا. فَافْهَم.
حدَّثنا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ قَالَ أخبرَنا عَلِيُّ بنُ الْمُبارَكِ عنْ يَحْيى عنْ عِكْرِمةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بِهَذَا الطَّرِيق إِلَى أَن مُتَابعَة عَليّ بن الْمُبَارك معمرا لما ذكرنَا. وَفِي بعض النّسخ، قَالَ: حَدثنَا أَي: قَالَ البُخَارِيّ. ويروى: أخبرنَا عُثْمَان عَن عمر بن فَارس الْبَصْرِيّ. قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْمُبَارك الْهنائِي الْبَصْرِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق وَكِيع عَن عَليّ بن الْمُبَارك بمتابعة عُثْمَان بن عمر، وَقَالَ: إِن حُسَيْنًا الْمعلم رَوَاهُ عَن يحيى بن أبي كثير أَيْضا.
311 - (بابُ الْجِلاَلِ لِلْبُدْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْجلَال الْمعدة للبدن، وَهُوَ بِكَسْر الْجِيم جمع: جلّ، بِضَم الْجِيم. وَهُوَ الَّذِي يطْرَح على ظهر الْحَيَوَان من الْإِبِل وَالْفرس وَالْحمار والبغل، وَهَذَا من حَيْثُ الْعرف، وَلَكِن الْعلمَاء قَالُوا: إِن التجليل مُخْتَصّ بِالْإِبِلِ من كسَاء وَنَحْوهَا.
وكانَ ابنُ عُمعرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لاَ يَشُقُّ مِنَ الجِلاَلِ إلاَّ مَوْضِعَ السَّنامِ وإذَا نَحَرَهَا نزَعَ جِلاَلَهَا مَخَافَةَ أنْ يُفْسِدَها الدَّمُ ثُمَّ يتَصَدَّقُ بِهَا(10/44)
هَذَا التَّعْلِيق وصل بعضه مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع أَن عبد الله بن عمر كَانَ يُجَلل بدنه الْقبَاطِي والجلل، ثمَّ يبْعَث بهَا إِلَى الْكَعْبَة فيكسوها إِيَّاهَا. وَعَن مَالك أَنه سَأَلَ عبد الله بن دِينَار: مَا كَانَ ابْن عمر يصنع بِجلَال بدنه حِين كُسِيت الْكَعْبَة هَذِه الْكسْوَة؟ قَالَ: كَانَ يتَصَدَّق بهَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، بعد أَن أخرجه من طَرِيق يحيى بن بكير عَن مَالك: زَاد فِيهِ غير يحيى عَن مَالك: إلاَّ مَوضِع السنام ... إِلَى آخر الْأَثر الْمَذْكُور. قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ التَّصَدُّق بِجلَال الْبدن فرضا، وَإِنَّمَا صنع ذَلِك ابْن عمر لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يرجع فِي شَيْء أهل بِهِ لله. وَلَا فِي شَيْء أضيف إِلَيْهِ. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: وَيتَصَدَّق بِجلَال الْهَدْي وزمامه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بذلك، كَمَا يَجِيء الْآن. وَالظَّاهِر أَن هَذَا الْأَمر أَمر اسْتِحْبَاب. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ يرَوْنَ تجليل الْبدن. ثمَّ إعلم أَن فَائِدَة شقّ الجل من مَوضِع السنام ليظْهر الْإِشْعَار وَلَا يستر تحتهَا.
7071 - حدَّثنا قَبِيصةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عَن ابنِ أبي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي لَيْلَى عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أمَرني رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ أتَصَدَّقَ بِجِلالِ البُدْنِ الَّتي نَحَرْتُ وبِجُلُودِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقبيصَة، بِفَتْح الْقَاف: ابْن عقبَة بن عَامر السوَائِي العامري الْكُوفِي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَابْن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم: واسْمه عبد الله بن يسَار الْمَكِّيّ، وَابْن أبي ليلى هُوَ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَاسم أبي ليلى: يسَار بن بِلَال، لَهُ صُحْبَة.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي الْوكَالَة عَن قبيصَة، وَأخرجه أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي نعيم، وَعَن مُسَدّد وَعَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن ابْن أبي شيبَة، وَعَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن معَاذ بن هِشَام وَعَن مُحَمَّد ابْن حَاتِم وَمُحَمّد بن مَرْزُوق وَعبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن عون وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو بن يزِيد وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن آدم، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن معمر. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي: بَاب لَا يعْطى الجزار من الْهَدْي شَيْئا، فَأمرنِي فقسمت لحمومها، ثمَّ أَمرنِي فقسمت جلالها وجلودها، وَلَا أعْطى عَلَيْهَا شَيْئا فِي جزارتها، وَفِي لفظ: وَكَانَت مائَة بَدَنَة، والجزارة، بِكَسْر الْجِيم: اسْم الْفِعْل، وبالضم السواقط الَّتِي يَأْخُذهَا الجازر، قَالَه ابْن التِّين، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الجزارة بِالضَّمِّ كالعمالة، مَا يَأْخُذهُ الجزار من الذَّبِيحَة من أجرته، وَأَصلهَا أَطْرَاف الْبَعِير: الرَّأْس وَالْيَدَانِ وَالرجلَانِ سميت بذلك لِأَن الجزار كَانَ يَأْخُذهَا عَن أجرته، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: قَالَ قوم: هِيَ كالخياطة، يُرِيد بهَا عمله فِيهَا.
411 - (بابُ منِ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ وقَلَّدَهُ)
ذكر هَذَا الْبَاب قبل ثَمَانِيَة أَبْوَاب بقوله: بَاب من اشْترى الْهَدْي من الطَّرِيق، وَزَاد فِي هَذِه التَّرْجَمَة قَوْله: وقلده. قَوْله: (هَدْيه) ، بِسُكُون الدَّال وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَيجوز بِكَسْر الدَّال وَتَشْديد الْيَاء، وَفِي بعض النّسخ: وقلدها، بتأنيث الضَّمِير، إِمَّا بِاعْتِبَار أَن الْهَدْي اسْم الْجِنْس، أَو بِاعْتِبَار مَا صدق عَلَيْهِ الْهَدْي وَهُوَ الْبَدنَة، ويروى: ببدنة، بِالتَّاءِ الفارقة بَين اسْم الْجِنْس وواحده.
8071 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نَافِعٍ قَالَ أرَادَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا الْحَجَّ عامَ حَجَّةِ الحَرُورِيَّةِ فِي عَهْدِ ابنِ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَقِيلَ لَهُ إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ونَخافُ أنْ يَصُدُّوكَ فَقَالَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوَةٌ حسَنَةٌ إِذا أصْنَعَ كَما صنَعَ أُشْهِدُكُمْ أنِّي أوْجَبْتُ عُمْرَةً حَتَّى كانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ مَا شَأنُ الْحَجِّ والْعُمْرَةِ إلاَّ واحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أنِّي جمعْتُ حجَّةً مَعَ عُمْرَةٍ وأهْدَى هَدْيا مُقَلَّدا اشْتَرَاهُ حَتَّى قَدِمَ(10/45)
فطَافَ بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا ولَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ولَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَوْمَ النَّحْرِ فحَلَقَ ونَحَرَ ورَأى أنْ قَدْ قَضَى طَوَافَهُ الْحَجَّ والْعُمْرَةَ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ ثُمَّ قَالَ كذَلِكَ صَنَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأهْدى هَديا مُقَلدًا اشْتَرَاهُ) ، وَكَانَ الشِّرَاء من قديد، كَمَا صرح بِهِ فِي الحَدِيث الْمَاضِي الْمَذْكُور فِي: بَاب من اشْترى الْهَدْي من الطَّرِيق، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الْمَذْكُور: عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع، قَالَ: قَالَ عبد الله بن عبد الله بن عمر ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أبي إِسْحَاق الْحزَامِي الْمدنِي، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن أبي ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم: واسْمه أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ الْمدنِي عَن مُوسَى بن عقبَة عَن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمدنِي عَن نَافِع، مولى ابْن عمر، وهم كلهم مدنيون، فَاعْتبر التَّفَاوُت بَين متني حَدِيثي الْبَابَيْنِ.
قَوْله: (عَام حجَّة الحرورية) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عَام حج الحرورية) ، والحرورية، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الرَّاء الأولى: منسوبة إِلَى قَرْيَة من قرى الْكُوفَة، وَالْمرَاد بهم الْخَوَارِج، وَقد مر تَحْقِيقه فِي: بَاب لَا تقضي الْحَائِض الصَّلَاة. قَوْله: (فِي عهد ابْن الزبير) يَعْنِي: فِي أَيَّام عبد الله بن الزبير بن الْعَوام. فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف قَوْله فِي: بَاب طواف الْقَارِن، وَمن رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع عَام نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير، لِأَن خجة الحرورية كَانَت فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا يزِيد بن مُعَاوِيَة سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَذَلِكَ قبل أَن يتسمى ابْن الزبير بالخلافة، ونزول الْحجَّاج بِابْن الزبير كَانَ فِي سنة ثَلَاث وَسبعين، وَذَلِكَ فِي آخر أَيَّام ابْن الزبير. قلت: تَوْجِيهه بِأحد الْأَمريْنِ: أَحدهمَا: أَن الرَّاوِي قد أطلق على الْحجَّاج وَأَتْبَاعه: حرورية، لجامع مَا بَينهم من الْخُرُوج على أَئِمَّة الْحق. وَالْآخر: أَن يحمل على تعدد الْقِصَّة. قَوْله: (فَقيل لَهُ) الظَّاهِر أَن الْقَائِل لِابْنِ عمر بِهَذَا القَوْل هُوَ وَلَده عبد الله، لِأَنَّهُ صرح بذلك فِي رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع الَّذِي مضى فِي: بَاب من اشْترى الْهَدْي من الطَّرِيق. قَوْله: (إِذا إصنع كَمَا صنع) أَي: حِينَئِذٍ أصنع فِي حجي كَمَا صنع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (حَتَّى كَانَ بِظَاهِر الْبَيْدَاء) ، ويروى: (حِين كَانَ) ، والبيداء هُوَ الشّرف الَّذِي قُدَّام ذِي الحليفة إِلَى جِهَة مَكَّة، سمي بِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا بِنَاء وَلَا أثر، وكل مفازة بيداء. قَوْله: (اشْتَرَاهُ) أَي: من قديد، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وبالصفاء) ، ويروى: (وبالصفا والمروة) . قَوْله: (وَرَأى أَن قد قضى) ، أَي: أدّى. قَوْله: (الْحَج) ، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي الْحَج. قَالَ الْكرْمَانِي، كَمَا هُوَ مُصَرح بِهِ فِي بعض النّسخ، ويروى: (طواف الْحَج) ، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي الْحَج. قَالَ الْكرْمَانِي، كَمَا هُوَ مُصَرح بِهِ فِي بعض النّسخ. ويروى: (طواف الْحَج) ، بِإِضَافَة الطّواف إِلَى الْحَج. قَوْله: (بطوافه الأول) أَي: طَوَافه الَّذِي وَقع أَولا. قَالَ الْكرْمَانِي: أَي لم يَجْعَل لِلْقُرْآنِ طوافين، بل اكْتفى بِالْأولِ فَقَط. وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ: يَكْفِي للقارن طواف وَاحِد. انْتهى. قلت: إِنَّمَا فسر الْكرْمَانِي بِهَذَا التَّفْسِير نصْرَة لمَذْهَب إِمَامه، وَلَكِن لَا يتم بِهِ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا يسْتَلْزم قَوْله: بطوافه الأول، أَن يكون طَوافا وَاحِدًا فِي نَفسه، لِأَن الطوافين يُطلق عَلَيْهِمَا: الطّواف الأول بِالنِّسْبَةِ إِلَى طواف الرُّكْن، وَهُوَ طواف الْإِفَاضَة، لِأَنَّهُ لَا بُد من الطّواف بعد الْوُقُوف. فَافْهَم. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: كَذَلِك صنع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ويروى: (هَكَذَا صنع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
511 - (بابُ ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أمْرِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم ذبح الرجل الْبَقر ... إِلَى آخِره، هَذَا التَّقْدِير على أَن يكون فِي معنى التَّرْجَمَة اسْتِفْهَام بِمَعْنى: هَل يجزىء ذبح الرجل الْبَقر عَن نِسَائِهِ من غير أمرهن إِذْ وَجب عَلَيْهِنَّ الدَّم؟ وَجَوَابه يفهم من حَدِيث الْبَاب أَنه يجزىء عَنْهُن، وَعَن هَذَا قَالَ الْمُهلب فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من الْفِقْه: أَنه من كفر عَن غَيره كَفَّارَة يَمِين أَو كَفَّارَة ظِهَار أَو قتل أَو أهْدى عَنهُ أَو أدّى عَنهُ دينا فَإِن ذَلِك يكون مجزئا عَنهُ، لِأَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعرفن مَا أدّى عَنْهُن لما وَجب عَلَيْهِنَّ من نسك التَّمَتُّع.
9071 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ يَحيى بنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ قالَتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ لاَ نُرَى إلاَّ الحَجَّ فلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ معَهُ هَدْيٌ إذَا(10/46)
طافَ وسَعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ أنْ يَحِلَّ قالَتْ فَدُخِلَ علَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فقُلْتُ مَا هاذا قَالَ نَحَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أزْوَاجِهِ قَالَ يَحْيَى فذَكَرْتُهُ لِلقَاسِمِ فَقَالَ أتَتْكَ بِالحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ..
قيل لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن التَّرْجَمَة بِالذبْحِ والْحَدِيث بِلَفْظ النَّحْر. وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَشَارَ بِلَفْظ الذّبْح إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث بِلَفْظ: الذّبْح، وَسَيَأْتِي هَذَا بعد سَبْعَة أَبْوَاب فِي: بَاب مَا يَأْكُل من الْبدن وَمَا يتَصَدَّق، وللعلماء فِيهِ خلاف سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، قد تكَرر ذكرهم، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَعمرَة بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة الْأَنْصَارِيَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رِجَاله مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ تنيسي وَهُوَ أَيْضا من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: عَن عمْرَة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال: عَن يحيى حَدَّثتنِي عمْرَة، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَفِي الْحَج أَيْضا عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن مُحَمَّد ابْن أبي الْمثنى وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن عَمْرو ابْن عَليّ وَعَن هناد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لخمس بَقينَ) ، كَذَا قالته عَائِشَة لِأَنَّهَا حدثت بذلك بعد أَن انْقَضى الشَّهْر، فَإِن كَانَ فِي الشَّهْر فَالصَّوَاب أَن تَقول: لخمس إِن بَقينَ، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي الشَّهْر كَامِل أَو نَاقص. قَوْله: (من ذِي الْقعدَة) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسرهَا، سمي بذلك لأَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَن الْقِتَال. قَوْله: (لَا نرى) ، بِضَم النُّون وَفتح الرَّاء: أَي لَا نظن إلاَّ الْحَج، وَهَذَا يحْتَمل أَن تُرِيدُ حِين خُرُوجهمْ من الْمَدِينَة قبل الإهلال، وَيحْتَمل أَن تُرِيدُ إِن إِحْرَام من أحرم مِنْهُم بِالْعُمْرَةِ لَا يحل حَتَّى يردف الْحَج، فَيكون الْعَمَل لَهما جَمِيعًا، والإهلال مِنْهُمَا، وَلَا يَصح إرادتها، أَن كلهم أحرم بِالْحَجِّ لحديثها الآخر من رِوَايَة عمْرَة عَنْهَا، فمنا من أهل بِالْحَجِّ، وَمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل بهما. وَقيل: لَا نرى إِلَّا الْحَج أَي: لم يَقع فِي أنفسهم إلاَّ ذَلِك، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَفِيه دَلِيل أَنهم أهلوا منتظرين، وَترد عَلَيْهِ رِوَايَة: (لَا نذْكر إِلَّا الْحَج) . قَوْله: (أَن يحل) ، بِكَسْر الْحَاء أَي: يصير حَلَالا بِأَن يتمتع، وَأما من مَعَه الْهَدْي، فَلَا يتَحَلَّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي. قَوْله: (فَدخل علينا) على صِيغَة الْمَجْهُول، بِضَم الدَّال. قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة أَي: فِي يَوْم النَّحْر. قَوْله: (نحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَزوَاجه) مُقْتَضَاهُ نحر الْبَقر. قَوْله: (فَقَالَ أتتك) أَي: قَالَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أتتك عمْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِالْحَدِيثِ الَّذِي حدثته على وَجهه، يَعْنِي: ساقته لَك سياقا تَاما لم تختصر مِنْهُ شَيْئا، وَلَا غيرته بِتَأْوِيل وَلَا غَيره، فَذكرت ابْتِدَاء الْإِحْرَام وانتهاءه حَتَّى وصلوا إِلَى مَكَّة، وَفِيه تَصْدِيق لعمرة، وإخبار عَن حفظهَا وضبطها.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن نحر الْبَقر جَائِز عِنْد الْعلمَاء إلاَّ أَن الذّبْح مُسْتَحبّ عِنْدهم لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} (الْبَقَرَة: 76) . وَخَالف الْحسن بن صَالح فاستحب نحرها. وَقَالَ مَالك: إِن ذبح الْجَزُور من غير ضَرُورَة أَو نحر الشَّاة من غير ضَرُورَة لم تُؤْكَل، وَكَانَ مُجَاهِد يسْتَحبّ نحر الْبَقر. قلت: الحَدِيث ورد بِلَفْظ النَّحْر، كَمَا هَهُنَا، وَورد أَيْضا بِلَفْظ: الذّبْح، وَعَلِيهِ ترْجم البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قيل: يجوز أَن يكون الرَّاوِي لما اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْده عبر مرّة بالنحر وَمرَّة بِالذبْحِ. وَفِي رِوَايَة ضحى، قَالَ ابْن التِّين: فَإِن يكنَّ هَدَايَا فَهُوَ أصل مَذْهَب مَالك، وَإِن يكنَّ ضحايا فَيحْتَمل أَن تكون وَاجِبَة كوجوب ضحايا غير الْحَاج. وَقَالَ الْقَدُورِيّ: الْمُسْتَحبّ فِي الْإِبِل النَّحْر، فَإِن ذَبحهَا جَازَ وَيكرهُ، وَإِنَّمَا يكره فعله لَا الْمَذْبُوح، وَالذّبْح هُوَ قطع الْعُرُوق الَّتِي فِي أَعلَى الْعُنُق تَحت اللحيين، والنحر يكون فِي اللبة، كَمَا أَن الذّبْح يكون فِي الْحلق. وَفِيه: احتجاج جمَاعَة من الْعلمَاء فِي جَوَاز الِاشْتِرَاك فِي هدي التَّمَتُّع وَالْقرَان، وَمنعه مَالك. قَالَ ابْن بطال: وَلَا حجَّة لمن خَالفه فِي هَذَا الحَدِيث(10/47)
لِأَن قَوْله: (نحر عَن أَزوَاجه بقرة وَاحِدَة فَإِن يُونُس انْفَرد بِهِ وَحده وَخَالفهُ مَالك فَأرْسلهُ وَرَوَاهُ الْقَاسِم وَعمرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر عَن أَزوَاجه الْبَقر) ، يحْتَمل أَن يكون نحر عَن كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ بقرة، قَالَ: وَهَذَا غير مَدْفُوع فِي التَّأْوِيل، وردَّ بِأَنَّهُ يَدْفَعهُ رِوَايَة عُرْوَة (عَن عَائِشَة: ذبح رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَمَّن اعْتَمر من نِسَائِهِ بقرة) ، ذكره ابْن عبد الْبر من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة. وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جَابر: (ذبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نِسَائِهِ بقرة يَوْم النَّحْر) ، وَفِي رِوَايَة: بقرة فِي حجَّته) ، وَفِي رِوَايَة: (ذَبحهَا عَن نِسَائِهِ) . وَفِي (صَحِيح الْحَاكِم) على شَرط الشَّيْخَيْنِ من حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: (ذبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّن اعْتَمر من نِسَائِهِ فِي حجَّة الْوَدَاع بقرة بَينهُنَّ) . وَقَالَ ابْن بطال: فَإِن قيل: إِنَّمَا نحر الْبَقَرَة عَنْهُن على حسب مَا أَتَى عَنهُ فِي الْحُدَيْبِيَة أَنه نحر الْبَقَرَة عَن سَبْعَة، والبدنة عَن سَبْعَة. قيل: هَذِه دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا، لِأَن نَحره فِي الْحُدَيْبِيَة كَانَ عندنَا تَطَوّعا، والاشتراك فِي هدي التَّطَوُّع جَائِز على رِوَايَة ابْن عبد الحكم عَن مَالك، وَالْهَدْي فِي حَدِيث عَائِشَة وَاجِب، والاشتراك مُمْتَنع فِي الْهَدْي الْوَاجِب، فالحديثان مستعملان عندنَا على هَذَا التَّأْوِيل، وَقَالَ القَاضِي إِسْمَاعِيل: وَأما رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر عَن أَزوَاجه بقرة وَاحِدَة، فَإِن يُونُس انْفَرد بِهِ وَحده، وَخَالفهُ مَالك فَأرْسلهُ، وَرَوَاهُ الْقَاسِم وَعمرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر عَن أَزوَاجه الْبَقر، وَحدثنَا بذلك أَبُو مُصعب عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَحدثنَا بِهِ القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى عَن عمْرَة عَنْهَا. انْتهى. وَاعْلَم أَن الشَّاة لَا تجزىء إلاَّ عَن وَاحِد، وَأَنَّهَا أقل مَا يجب، وَذكر بعض شرَّاح (الْهِدَايَة) أَنه إِجْمَاع. وَقَالَ السكاكي وَقَالَ مَالك وَأحمد وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ: تجوز الشَّاة عَن أهل بَيت وَاحِد، وَكَذَا بقرة أَو بَدَنَة، والبدنة تجزىء عَن سَبْعَة إِذا كَانُوا يُرِيدُونَ بهَا وَجه الله، وَكَذَا الْبَقَرَة. وَإِن كَانَ أحدهم يُرِيد الْأكل لم يجز عَن الْكل. وَكَذَا لَو كَانَ نصيب أحدهم أقل من السَّبع، وَيَسْتَوِي الْجَواب إِذا كَانَ الْكل من جنس وَاحِد أَو من أَجنَاس مُخْتَلفَة أحدهم يُرِيد جَزَاء الصَّيْد، وَالْآخر هدي الْمُتْعَة، وَالْآخر الْأُضْحِية بعد أَن يكون الْكل لوجه الله تَعَالَى، وَهَذَا اسْتِحْسَان، وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز، وَبِه قَالَ زفر، رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِيه: مَا قَالَه الدَّاودِيّ وَهُوَ: النَّحْر عَمَّن لم يَأْمر، فَإِن الْإِنْسَان يُدْرِكهُ مَا عمل عَنهُ بِغَيْر أمره. وَأَن معنى قَوْله تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى} (النَّجْم: 93) . أَي: لَا يكون لَهُ مَا سعاه غَيره لنَفسِهِ. وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} (الْبَقَرَة: 732) . مَعَ قَوْله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} (النِّسَاء: 92) . فَخرج هَذَا عُمُوما يُرَاد بِهِ الْخُصُوص، ثمَّ بَينه بقوله: {وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} (الْبَقَرَة: 732) . وَبِقَوْلِهِ: {إلاَّ أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا} (سُورَة الْأَحْزَاب: 6) . وَبِقَوْلِهِ: {من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين} (النِّسَاء: 11) . فَلَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى، أَو سعى لَهُ.
611 - (بابُ النَّحْرِ فِي مَنْحَرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنًى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّحْر فِي منحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. المنحر، بِفَتْح الْمِيم: اسْم الْموضع الَّذِي تنحر فِيهِ الْإِبِل، وَقَالَ ابْن التِّين: منحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ عِنْد الْجَمْرَة الأولى الَّتِي تلِي مَسْجِد منى، وَأخرج الفاكهي عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن طَاوُوس قَالَ: كَانَ منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى عَن يسَار الْمُصَلِّي. وَقَالَ غير طَاوُوس: وَأمر بنسائه أَن ينزلن جنب الدَّار بمنى. وَأمر الْأَنْصَار أَن ينزلُوا الشّعب وَرَاء الدَّار. انْتهى. والشِّعب، هُوَ عِنْد الْجَمْرَة الْمَذْكُورَة، وللنحر فِي منحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضِيلَة لما روى مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا عمر بن حَفْص بن غياث، قَالَ: حَدثنَا أبي عَن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنِي أبي (عَن جَابر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: نحرت هَهُنَا، وَمنى كلهَا منحر، فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ، ووقفت هَهُنَا، وعرفة كلهَا موقف، ووقفت هَهُنَا، وَجمع كلهَا موقف) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذِه الْأَلْفَاظ بَيَان رفق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمته وشفقته عَلَيْهِم فِي تنبيههم عَن مصَالح دينهم ودنياهم فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر لَهُم الْأَكْمَل والجائز، فالأكمل مَوضِع نَحره ووقوفه، والجائز كل جُزْء من أَجزَاء منى للنحر، وجزء من أَجزَاء عَرَفَات، وجزء من أَجزَاء مُزْدَلِفَة. وَقَالَ فِي (شرح الْمُهَذّب) : قَالَ الشَّافِعِي وأصحابنا: يجوز نحر الْهَدْي وَدِمَاء الجبرانات فِي جَمِيع الْحرم، لَكِن الْأَفْضَل فِي حق الْحَاج النَّحْر بمنى، وَأفضل مَوضِع فِي منى للنحر مَوضِع نحر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا قاربه، وَالْأَفْضَل فِي حق الْمُعْتَمِر أَن ينْحَر فِي الْمَرْوَة، لِأَنَّهَا مَوضِع تَحْلِيله، كَمَا أَن منى مَوضِع تَحْلِيل(10/48)
الْحَاج.
قَوْله: (فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ) أَي: فِي مَنَازِلكُمْ، قَالَ أهل اللُّغَة: رَحل الرجل منزله سَوَاء كَانَ من حجرٍ أَو مدر أَو شعر أَو وبر، وَمعنى الحَدِيث: منى كلهَا يجوز النَّحْر فِيهَا، فَلَا تتكلفوا فِي النَّحْر فِي مَوضِع نحري، بل يجوز لكم النَّحْر فِي مَنَازِلكُمْ من منى، وَالله أعلم.
0171 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ سَمِعَ خالِدَ بنَ الحَارِثِ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كانَ يَنْحَرُ فِي المَنْحَرِ قَالَ عُبَيْدُ الله مَنْحَرِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (منحر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَعْرُوف بِإسْحَاق بن رَاهَوَيْه، كَذَلِك أخرجه إِسْحَاق فِي (مُسْنده) وَأخرجه من طَرِيقه أَبُو نعيم وخَالِد بن الْحَارِث أَبُو عُثْمَان الهُجَيْمِي الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبيد الله بن عمر بن الْخطاب.
قَوْله: (قَالَ عبيد الله) ، هُوَ ابْن عمر الْمَذْكُور، وَمَعْنَاهُ أَن مُرَاد نَافِع بِإِطْلَاق النَّحْر (هُوَ) منحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْأَضَاحِي أوضح من هَذَا، فَقَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، حَدثنَا خَالِد بن الْحَارِث ... فَذكره. قَالَ: قَالَ عبيد الله: يَعْنِي منحر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
1171 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنَا أنَسُ بنُ عِياضٍ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ من آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ والمَمْلُوكُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِنَّمَا ذكر حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عقيب الحَدِيث السَّابِق لكَونه مُصَرحًا بِإِضَافَة المنحر إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي نفس الحَدِيث، وَأفَاد أَيْضا هَذَا الحَدِيث أَن وَقت بعث الْهَدْي إِلَى المنحر من الْمزْدَلِفَة من آخر اللَّيْل.
قَوْله: (من جمع) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: هُوَ الْمزْدَلِفَة. قَوْله: (حُجاج) بِضَم الْحَاء: جمع حَاج. قَوْله: (فيهم الْحر والمملوك) . أَي فِي الْحجَّاج، يَعْنِي أَن ابْن عمر لم يكن يخص فِي بعث هَدْيه مَعَ الْحجَّاج الحرَّ مِنْهُم، وَلَا الْمَمْلُوك، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه لَا يشْتَرط بعث الْهَدْي مَعَ الْأَحْرَار دون العبيد.
711 - (بابُ منْ نَحَرَ بِيَدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من نحر هَدْيه بِيَدِهِ، وَلم يفوضه إِلَى غَيره، وَيَأْتِي حَدِيث هَذَا الْبَاب بعد بَاب آخر بأتم مِنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَهَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي، وَلِهَذَا لَا يُوجد فِي أَكثر النّسخ.
294 - (حَدثنَا سهل بن بكار قَالَ حَدثنَا وهيب عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس وَذكر الحَدِيث قَالَ وَنحر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ سبع بدن قيَاما وضحى بِالْمَدِينَةِ كبشين أملحين أقرنين مُخْتَصرا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَنحر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ سبع بدن " (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول سهل بن بكار بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْكَاف أَبُو بشر الدَّارمِيّ مر فِي بَاب خرص التَّمْر. الثَّانِي وهيب بن خَالِد بن عجلَان. الثَّالِث أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع أَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد الْجرْمِي. الْخَامِس أنس بن مَالك. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رِجَاله كلهم بصريون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب ومسدد عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَفِي الْجِهَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد مقطعا بعضه فِي الْحَج وَبَعضه فِي الْجِهَاد وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن خلف بن هِشَام وقتيبة بن سعيد وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَيَعْقُوب بن(10/49)
إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل مقطعا بعضه فِي الْحَج وَبَعضه فِي الْأَضَاحِي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " قَالَ " أَي أنس قَوْله " سبع بدن " بِضَم الْبَاء جمع بَدَنَة ويروى " سَبْعَة بدن " وَقَالَ التَّيْمِيّ أَرَادَ بِالْبدنِ الأبعرة فَلذَلِك ألحق الْهَاء بالسبعة قَوْله " قيَاما " نصب على الْحَال من الْبدن قَوْله " وضحى بِالْمَدِينَةِ كبشين " قَالَ ابْن التِّين صَوَابه بكبشين قَالَ صَاحب التَّوْضِيح وَكَذَا هُوَ فِي أصل ابْن بطال قَوْله " أملحين " تَثْنِيَة أَمْلَح وَهُوَ الْأَبْيَض يخالطه أدنى سَواد قَوْله " أقرنين " تَثْنِيَة أقرن وَهُوَ الْكَبِير الْقرن (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ نحر الْهَدْي بِيَدِهِ وَهُوَ أفضل إِذا أحسن النَّحْر. وَفِيه نَحره قَائِمَة وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري تنحر باركة وقائمة وَاسْتحبَّ عَطاء أَن يَنْحَرهَا باركة معقولة وروى ابْن أبي شيبَة عَن عَطاء إِن شَاءَ قَائِمَة وَإِن شَاءَ باركة وَعَن الْحسن باركة أَهْون عَلَيْهَا وَعَن عمر رَأَيْت ابْن الزبير رَضِي الله عَنهُ يَنْحَرهَا وَهِي قَائِمَة معقولة وَفِي سنَن أبي دَاوُد من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه كَانُوا ينحرون الْبَدنَة معقولة الْيُسْرَى قَائِمَة على مَا بَقِي من قَوَائِمهَا قَالَ أَبُو الزبير رَضِي الله عَنهُ وَأَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن سابط مُرْسلا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه الحَدِيث. وَفِيه الْأُضْحِية وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى -
811 - (بابُ نَحْرِ الإبِلِ مُقَيَّدَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نحر الْإِبِل حَال كَونه مُقَيّدَة.
3171 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عنْ زِيَادِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ رأيْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا قَالَ ابْعَثْهَا قِياما مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ أَخْبرنِي زِيادٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قيَاما مُقَيّدَة) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين: القعْنبِي. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع تَصْغِير زرع: أَبُو مُعَاوِيَة العيشي. الثَّالِث: يُونُس بن عبيد بن دِينَار. الرَّابِع: زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي: ابْن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن حَيَّة، ضد الْميتَة. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الرُّؤْيَة. وَفِيه: أَن شَيْخه مدنِي سكن الْبَصْرَة، والبقية بصريون. وَفِيه: أَن زيادا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث آخر أخرجه البُخَارِيّ فِي النّذر بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَأخرجه فِي الصَّوْم بِإِسْنَاد آخر إِلَى يُونُس بن عبيد، وَقد اشْترك زِيَاد بن جُبَير مَعَ زيد بن جُبَير فِي روايتهما عَن ابْن عمر، وَلَيْسَ بَينهمَا أخوة، لِأَن زيدا طائي كُوفِي، وَزِيَاد ثقفي بَصرِي، وَقد سبقت رِوَايَة زيد ابْن جُبَير عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَوَائِل الْحَج.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قد أَنَاخَ بدنته) ، أَي: أبركها. قَوْله: (يَنْحَرهَا) ، جملَة حَالية، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن إِسْمَاعِيل بن علية: (لينحرها) . قَوْله: (قَالَ) أَي: ابْن عمر. قَوْله: (ابعثها) أَي: أثِرها. يُقَال: بعثت النَّاقة أَي أثرتها. قَوْله: (قيَاما) مصدر بِمَعْنى قَائِمَة، وانتصابه على الْحَال الْمقدرَة، وَيُقَال: (معنى ابعثها أقمها، فعلى هَذَا انتصاب قيَاما على المصدرية. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو عَامله مَحْذُوف نَحْو انحرها. قلت: فعلى هَذَا انتصاب قيَاما على الْحَال بِمَعْنى قَائِمَة يدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: إنحرها قَائِمَة. قَوْله: (مُقَيّدَة) نصب على الْحَال، من الْأَحْوَال المترادفة أَو المتداخلة، وَمَعْنَاهُ: معقولة بِرَجُل وَهِي قَائِمَة على الثَّلَاث. قَوْله: (سنة مُحَمَّد) ، نصب بعامل مَحْذُوف تَقْدِيره: اتبع سنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي ذَلِك، وَيجوز الرّفْع على تَقْدِير أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ سنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيدل على ذَلِك رِوَايَة الْحَرْبِيّ فِي الْمَنَاسِك بِلَفْظ: (فَقَالَ: انحرها قَائِمَة فَإِنَّهَا سنة مُحَمَّد(10/50)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِيه: من الْفَوَائِد اسْتِحْبَاب نحر الْإِبِل على الصّفة الْمَذْكُورَة. وَفِيه: تَعْلِيم الْجَاهِل وَعدم السُّكُوت على مُخَالفَة السّنة وَإِن كَانَ مُبَاحا. وَفِيه: أَن قَول الصَّحَابِيّ: من السّنة كَذَا، مَرْفُوع عِنْد الشَّيْخَيْنِ لاحتجاجهما بِهَذَا الحَدِيث فِي صَحِيحَيْهِمَا. قَوْله: (وَقَالَ شُعْبَة) إِلَى آخِره تَعْلِيق أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده، قَالَ: أخبرنَا النَّضر بن شُمَيْل حَدثنَا شُعْبَة عَن يُونُس سَمِعت زِيَاد بن جُبَير، قَالَ: انْتَهَيْت مَعَ ابْن عمر فَإِذا رجل قد اضجع بدنته وَهُوَ يُرِيد أَن يَنْحَرهَا فَقَالَ: قيَاما مُقَيّدَة سنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : التَّعْلِيق على شُعْبَة رَوَاهُ الْعَلامَة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ فِي كتاب الْمَنَاسِك عَن عَمْرو بن مَرْزُوق، حَدثنَا شُعْبَة عَن يُونُس عَن زِيَاد بن جُبَير فَذكره. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ فِيهِ وَفَاء مَقْصُود البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ أخرج هُنَاكَ طَرِيق شُعْبَة لبَيَان سَماع يُونُس لَهُ من زِيَادَة. انْتهى. قلت: إِنَّمَا قصد صَاحب (التَّلْوِيح) : ذكر مُجَرّد الِاتِّصَال، مَعَ قطع النّظر عَمَّا ذكره.
911 - (بابُ نَحْرِ الْبُدُنِ قَائِمَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نحر الْبدن حَال كَونهَا قَائِمَة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (قيَاما) .
وَقَالَ ابنُ عُمعرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا سُنَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ ابْن عمر: سنة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهَذَا التَّعْلِيق قد ذكره مَوْصُولا فِي الْبَاب السَّابِق.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا صَوَافَّ قِياما
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير لفظ: صواف، الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف} (الْحَج: 63) . أَي: قيَاما. كَذَا أخرجه سعيد ابْن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة فِي (تَفْسِيره) عَن عبد الله بن أبي يزِيد عَنهُ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف} (الْحَج: 63) . قَالَ: قيَاما، وصواف، بتَشْديد الْفَاء: جمع صافة، بِمَعْنى: مصطفة فِي قِيَامهَا. وَفِي (مُسْتَدْرك) الْحَاكِم من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {صَوَافِن} أَي: قيَاما على ثَلَاثَة قَوَائِم معقولة، وَهِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وصوافن بِكَسْر الْفَاء، وَفِي آخِره نون جمع صافنة، وَهِي الَّتِي رفعت إِحْدَى يَديهَا بِالْعقلِ لِئَلَّا تضطرب، وَعَن إِبْرَاهِيم وَمُجاهد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: الصَّواف على أَرْبَعَة، والصوافن على ثَلَاثَة، وَعَن طَاوُوس وَمُجاهد: الصَّواف تنحر قيَاما.
4171 - حدَّثنا سَهْلُ بنُ بَكَّارٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أرْبَعا والْعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَباتَ بِهَا فلَمَّا أصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فجَعَلَ يُهَلِّلُ ويُسَبِّحُ فلَمَّا عَلاَ عَلى البَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعا فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أمَرَهُمْ أنْ يَحِلُّوا ونَحَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِياما وضَحَّى بِالمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَنحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ سبع بدن قيَاما) ، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه فِي: بَاب من نحر بِيَدِهِ، قبل هَذَا الْبَاب بِبَاب، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن هَذَا الْبَاب، أَعنِي: بَاب من نحر بِيَدِهِ غير مَوْجُود إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الْمُسْتَمْلِي، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
قَوْله: (فَبَاتَ بهَا، فَلَمَّا أصبح) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَبَاتَ بهَا حَتَّى أصبح) أَي: فَبَاتَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِذِي الحليفة، إِلَى أَن أصبح. قَوْله: (لبّى بهما) ، أَي: بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَهَذَا يُصَرح بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا، وَلَا اعْتِبَار لتأويل من يؤول أَن معنى قَوْله: (فلبى بهما) أَمر من أهل بالقران لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ مُفردا، لِأَنَّهُ خُرُوج عَن معنى يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيب إِلَى معنى غير صَحِيح، يظْهر ذَلِك بِأَدْنَى تَأمل. قَوْله:(10/51)
(أَمرهم أَن يحلوا) يَعْنِي: لمن لم يكن مَعَهم الْهَدْي. قَوْله: (سبع بدن) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا: (سَبْعَة بدن) ، وَقد ذكرنَا وَجهه فِي: بَاب من نحر بِيَدِهِ. قَوْله: (قيَاما) نصب على الْحَال بِمَعْنى قَائِمَة.
5171 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أرْبَعا والْعَصْرَ بِذي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي صدر حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَذْكُور قبله فَإِنَّهُ أخرجه قبله عَن سُهَيْل بن بكار عَن وهيب ابْن خَالِد عَن أَيُّوب، وَهَذَا أخرجه عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي قلَابَة عبد الله ابْن زيد، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب من نحر بِيَدِهِ، أَن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج هَذَا الحَدِيث عَن جمَاعَة مفرقا مُخْتَصرا وَمُطَولًا.
وعَنْ أيُّوبَ عنْ رَجُلٍ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أصْبَحَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ رَكِبَ رَحِلَتَهْ حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ.
قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ إِسْنَاد مَجْهُول، لكنه مَذْكُور على سَبِيل الْمُتَابَعَة، وَيحْتَمل فِي المتابعات مَا لَا يحْتَمل فِي الْأُصُول، وَقيل: المُرَاد بِهِ أَبُو قلَابَة. انْتهى. وَنقل صَاحب (التلويج) عَن الدَّاودِيّ أَنه قَالَ فِي آخِره: لَيْسَ بِمُسْنَد، لِأَن بَين أَيُّوب وَأنس رجل مَجْهُول، وَلَو كَانَ عَن أبي قلَابَة مَحْفُوظًا لم يكنِّ عَنهُ لجلالة أبي قلَابَة وثقته، وَإِنَّمَا يُكنَّى عَمَّن فِيهِ نظر. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون أَيُّوب نَسيَه، وَهُوَ ثِقَة. بل هُوَ أولى أَن يحمل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم علم أَن فِيهِ نظرا لوَجَبَ عَلَيْهِ أَن يذكر اسْمه، أَو يسْقط حَدِيثه لَا يرويهِ الْبَتَّةَ. انْتهى. وَقيل: أَشَارَ بِهِ إِلَى اخْتِلَاف إِسْمَاعِيل بن علية ووهيب بن خَالِد عَن أَيُّوب، فساق وهيب عَنهُ بِإِسْنَاد وَاحِد، وَهُوَ الَّذِي روى عَن وهيب سهل بن بكار شيخ البُخَارِيّ. وَإِسْمَاعِيل روى مرّة عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس وَهُوَ الَّذِي روى عَنهُ مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور آنِفا، وَمرَّة روى إِسْمَاعِيل عَن أَيُّوب عَن رجل عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا البُخَارِيّ، بقوله: وَعَن أَيُّوب عَن رجل عَن أنس، أَي: وروى إِسْمَاعِيل عَن أَيُّوب عَن رجل عَن أنس. فَافْهَم.
021 - (بابٌ لاَ يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنَ الهَدْيِ شَيْئا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يُعطي صَاحب الْهَدْي الجزار من الْهَدْي الَّذِي يذبحه شَيْئا، هَذَا التَّقْدِير على أَن يكون قَوْله: (لَا يُعْطي) على صِيغَة الْمَعْلُوم، والجزار مَنْصُوب بِهِ، وعَلى تَقْدِير أَن يكون: (لَا يُعطى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، يكون الْفَاعِل محذوفا، والجزار مَرْفُوعا لإسناد الْفِعْل أليه.
6171 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ أبي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي لَيْلى عَن عَلَيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَعَثَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُمْتُ علَى البُدْنِ فأمَرَنِي فقَسَمْتُ لُحُومَهَا ثُمَّ أمَرَنِي فَقَسَمْتُ جِلاَلَهَا وجُلُودَهَا. قَالَ سُفْيَانُ (ح) وحدَّثني عَبْدُ الكَرِيمِ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي لَيْلَى عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ أمرَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ أقُومَ عَلَى الْبُدْنِ ولاَ أعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئا فِي جِزَارَتِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا أعطي عَلَيْهَا شَيْئا فِي جزارتها) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن كثير ضد الْقَلِيل أَبُو عبد الله الْعَبْدي. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: عبد الله بن يسَار بن أبي نجيح. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جُبَير. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى يسَار. السَّادِس: عبد الْكَرِيم بن مَالك، مَاتَ سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة. السَّابِع: عَليّ(10/52)
بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وسُفْيَان كُوفِي وَابْن أبي نجيح وَمُجاهد مكيان، وَعبد الرَّحْمَن كُوفِي وَعبد الْكَرِيم جزري. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي نعيم عَن سيف وَعَن مُسَدّد عَن يحيى. وَفِيه وَفِي الْوكَالَة عَن قبيصَة عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن مُحَمَّد ابْن مَرْزُوق وَعبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن عون، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عمرَان بن يزِيد وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن مُحَمَّد بن آدم. وَأخرجه ابْن مَاجَه: عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن معمر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَدثنِي ابْن أبي نجيح) ، ويروى: أَخْبرنِي ابْن أبي نجيح. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ الثَّوْريّ، وَلَيْسَ بمعلق لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: أخبرنَا سُفْيَان، وَقد وَصله النَّسَائِيّ أَيْضا، وَقَالَ: أخبرنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور حَدثنَا عبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان فَذكره. قَوْله: (فَقُمْت على الْبدن) أَي الَّتِي أرصدها للهدي، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: أَن أقوم على الْبدن. أَي: عِنْد نحرها للِاحْتِيَاط بهَا، وَلم يَقع هُنَا بَيَان عدد الْبدن، وَوَقع فِي الرِّوَايَة الثَّالِثَة أَنَّهَا: مائَة بَدَنَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق إِبْنِ إِسْحَاق عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: نحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثِينَ بَدَنَة، وَأَمرَنِي فنحرت سائرها. وَالأَصَح من ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل: (ثمَّ انْصَرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى المنحر، فَنحر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَة، ثمَّ أعْطى عليا، فَنحر مَا غير، وأشركه فِي هَدْيه) الحَدِيث، فَعرف مِنْهُ أَن الْبدن كَانَت مائَة بَدَنَة، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَن عليا نحر الْبَاقِي. فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَينه وَبَين رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق؟ قلت: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحر ثَلَاثِينَ، ثمَّ أَمر عليا أَن ينْحَر فَنحر سبعا وَثَلَاثِينَ. مثلا: ثمَّ نحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، هَذَا بطرِيق يَتَأَتَّى ذَلِك، وإلاَّ فَالَّذِي رَوَاهُ مُسلم أصح وَالله أعلم. قَوْله: (فِي جزارتها) قَالَ ابْن التِّين: الجزارة، بِالْكَسْرِ اسْم للْفِعْل، وبالضم اسْم للسواقط، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب، الْجلَال للبدن، وعَلى مَا ذكره ابْن التِّين يَنْبَغِي أَن تقْرَأ: الجزارة، بِالْكَسْرِ. قيل: وَبِه صحت الرِّوَايَة، فَإِن صحت بِالضَّمِّ جَازَ أَن يكون المُرَاد لَا يُعْطي من بعض الْجَزُور أُجْرَة الجزار.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز التَّوْكِيل فِي الْقيام على مصَالح الْهَدْي من ذبحه وَقِسْمَة لَحْمه وَغير ذَلِك. وَفِيه: قسْمَة جَلَاله وجلوده يَعْنِي بَين الْفُقَرَاء لقَوْل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أقوم على بدنه وَأَن أَتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وَأَن لَا أعطي أجر الجزار مِنْهَا. وَقَالَ: نَحن نُعْطِيه من عندنَا. وَفِيه: أَنه لَا يعْطى أُجْرَة الجزارة من لحم الْهَدْي. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: النَّهْي عَن إِعْطَاء الجزار: المُرَاد بِهِ أَنه لَا يعْطى مِنْهَا عَن أجرته، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : قَالَ: وَأما إِذا أعطي أجرته كَامِلَة ثمَّ تصدق عَلَيْهِ إِذا كَانَ فَقِيرا كَمَا يتَصَدَّق على الْفُقَرَاء فَلَا بَأْس بذلك. وَقيل: إِعْطَاء الجازر على سَبِيل الْأُجْرَة مَمْنُوع لكَونه مُعَاوضَة، وَأما إِعْطَاؤُهُ صَدَقَة أَو هَدِيَّة أَو زِيَادَة على حقة فَالْقِيَاس الْجَوَاز، وَلَكِن إِطْلَاق الشَّارِع ذَلِك قد يفهم مِنْهُ منع الصَّدَقَة لِئَلَّا تقع مُسَامَحَة فِي الْأُجْرَة لأجل مَا يَأْخُذهُ فَيرجع إِلَى الْمُعَاوضَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلم يرخص فِي إِعْطَاء الجزار مِنْهَا فِي أجرته إِلَّا الْحسن الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر. وَفِيه: من اسْتدلَّ بِهِ على منع بيع الْجلد. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِيه: دَلِيل على أَن جُلُود الْهَدْي وجلالها لَا تبَاع لعطفها على اللَّحْم وإعطائها حكمه. وَقد اتَّفقُوا على أَن لَحمهَا لَا يُبَاع، فَكَذَلِك الْجُلُود والجلال. وَأَجَازَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَهُوَ وَجه عِنْد الشَّافِعِيَّة، قَالُوا: وَيصرف ثمنه مصرف الْأُضْحِية، وَاسْتدلَّ أَبُو ثَوْر على أَنهم اتَّفقُوا على جَوَاز الِانْتِفَاع بِهِ، فَكل مَا جَازَ الِانْتِفَاع بِهِ جَازَ بَيْعه، وعورض باتفاقهم على جَوَاز الْأكل من لحم هدي التَّطَوُّع، وَلَا يلْزم من جَوَاز أكله جَوَاز بَيْعه. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلفُوا فِي بيع الْجلد، فَروِيَ عَن ابْن عمر: أَنه لَا بَأْس بِأَن يَبِيعهُ وَيتَصَدَّق بِثمنِهِ، قَالَه أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ(10/53)
أَبُو هُرَيْرَة: من بَاعَ إهَاب أضحيته فَلَا أضْحِية لَهُ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يتَصَدَّق بِهِ أَو ينْتَفع بِهِ وَلَا يَبِيعهُ. وَعَن الْقَاسِم وَسَالم: لَا يَصح بيع جلدهَا، وَهُوَ قَول مَالك: وَقَالَ النَّخعِيّ وَالْحَاكِم: لَا بَأْس أَن يَشْتَرِي بِهِ الغربال والمنحل والفأس وَالْمِيزَان وَنَحْوهَا، وَقَالَ الْقَدُورِيّ وَيتَصَدَّق بجلدها. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) لِأَنَّهُ جُزْء مِنْهَا أَو يعْمل مِنْهُ آلَة تسْتَعْمل فِي الْبَيْت كانطع والجراب والغربال وَنَحْو ذَلِك، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَلَا بَأْس بِأَن يَشْتَرِي بِهِ مَا نتفع بِعَيْنِه مَعَ بَقَاء عينه كالجراب وَنَحْوه اسْتِحْسَانًا وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام فِي شرح الكتفي وَلَا بَأْس بِأَن يَشْتَرِي بجلد أضحيته مَتَاعا للبيت لِأَنَّهُ أطلق لَهُ الِانْتِفَاع دون البيع، فَكل مَا كَانَ فِي معنى الِانْتِفَاع يجوز وَمَا لَا فَلَا. وَقَالَ مُحَمَّد فِي (نَوَادِر هِشَام) : وَلَا يَشْتَرِي بِهِ الْخلّ والبزر، وَله أَن يَشْتَرِي مَا لَا يُؤْكَل مثل: الغربال وَالثَّوْب، وَلَو اشْترى بِاللَّحْمِ خبْزًا جَازَ لِأَنَّهُ ينْتَفع بِهِ كَمَا ينْتَفع بِاللَّحْمِ، إِذْ اللَّحْم لَا يُؤْكَل مُفردا وَإِنَّمَا يُؤْكَل مَعَ الْخبز، وَلَو اشْترى بِاللَّحْمِ مَتَاع الْبَيْت لَا يجوز، وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام خُوَاهَر زَاده: الْجَواب فِي اللَّحْم كالجواب فِي الْجلد: إِن بَاعه بِالدَّرَاهِمِ تصدق بِثمنِهِ، وَإِن بَاعه بِشَيْء آخر ينْتَفع بِهِ كَمَا فِي الْجلد. انْتهى. وَقَالَ عَطاء: إِن كَانَ الْهَدْي وَاجِبا تصدق بإهابه، وَإِن كَانَ تَطَوّعا بَاعه إِن شَاءَ فِي الدّين. وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يكسو جلالها الْكَعْبَة، فَلَمَّا كُسِيت الْكَعْبَة تصدق بهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالُوا: يسْتَحبّ أَن يكون قيمَة الْجلَال ونفاستها بِحَسب حَال الْهَدْي، وَكَانَ بعض السّلف يُجَلل بالوشي، وَبَعْضهمْ بِالْحيرَةِ، وَبَعْضهمْ بِالْقبَاطِيِّ والملاحف والأزر.
121 - (بابٌ يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الْهَدْيِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه يتَصَدَّق صَاحب الْهَدْي بجلود هَدْيه.
7171 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرَنِي الْحَسَنُ بنُ مُسْلِمٍ وعبْدُ الكَرِيمِ الجَزْرِيُّ أنَّ مُجَاهِدا أخبَرَهُمَا أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى أخْبَرَهُ أنَّ عَلِيّا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخْبَرهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَهُ أنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وأنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّها لُحومَها وجُلُودَها وجِلالَهَا ولاَ يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِها شَيْئا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وأصل هَذَا الحَدِيث مر فِي: بَاب الْجلَال للبدن، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن: قبيصَة عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي الْبَاب السَّابِق: عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، وَلِهَذَا الحَدِيث طرق مُخْتَلفَة، وَذَلِكَ لِأَن فِي طَرِيق هَذَا الْبَاب: أَن ابْن جريج يروي عَن الْحسن بن مُسلم وَعبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن مُجَاهِد، وَفِي طَرِيق الْبَاب السَّابِق يروي سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَكَذَلِكَ فِي طَرِيق حَدِيث: بَاب الْجلَال للهدي، ويروي سُفْيَان أَيْضا عَن عبد الْكَرِيم عَن مُجَاهِد، ويروي عَن سُفْيَان فِي أحد الطَّرِيقَيْنِ قبيصَة، وَفِي الآخر مُحَمَّد بن كثير، وسَاق البُخَارِيّ حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ الْحسن بن مُسلم، وَأما لفظ عبد الْكَرِيم فقد أخرجه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة عَن عبد الْكَرِيم عَن مُجَاهِد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أقوم على بدنه، وَأَن أَتصدق بلحمها وجلودها، وَأَن لَا أعطي الجزار مِنْهَا، قَالَ: نَحن نُعْطِيه من عندنَا) . وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ قد مرت فِي الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة.
221 - (بابٌ يُتَصَدَّقُ بِجِلاَلِ البُدْنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: يتَصَدَّق صَاحب الْهَدْي بِجلَال الْبدن.
8171 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سَيْفُ بنُ أبي سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدا يَقُولُ حدَّثَنِي ابنُ أبِي لَيْلَى عَلِيّا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حدَّثَهُ قَالَ أهْدَى النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِائَةَ بَدَنَةٍ فأمَرَنِي بِلُحُومِهَا(10/54)
فقَسَمْتُهَا ثُمَّ أمرَنِي بِجِلاَلِهَا ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا..
هَذَا طَرِيق آخر عَن مُجَاهِد أخرجه أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن أبي سُلَيْمَان المَخْزُومِي الْمَكِّيّ، وَيُقَال: سيف بن سُلَيْمَان، تقدم فِي أَبْوَاب الْقبْلَة، وَابْن أبي ليلى هُوَ عبد الرَّحْمَن.
وَفِيه: من الْفَوَائِد: أَنه عين كمية بدن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَنَّهَا مائَة بَدَنَة.
321 - (بابٌ {وَإذُ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكانَ البَيْتِ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئا وطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ والْقَائِمينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ وأأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ويَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فكُلُوا مِنْهَا وأطْعِمُوا الْبَائِشَ الفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تفَثُهُمْ ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ولْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمُ حُرُمَاتِ الله فَهْوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (الْحَج: 62، 03)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ بوَّأنا} الْآيَات إِلَى قَوْله: {خير لَهُ عِنْد ربه} ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَقَالَ بَعضهم: وَالْمرَاد مِنْهَا هَهُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير} وَلذَلِك عطف عَلَيْهَا فِي التَّرْجَمَة، وَمَا يَأْكُل من الْبدن وَمَا يتَصَدَّق، أَي لبَيَان المُرَاد من الْآيَة. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا يمشي أَن لَو لم يكن بَين هَذِه الْآيَات وَبَين قَوْله: (مَا يَأْكُل من الْبدن وَمَا يتَصَدَّق) بَاب، لِأَن الْمَذْكُور فِي مُعظم النّسخ بعد قَوْله: {فَهُوَ خير لَهُ عِنْد ربه} بَاب مَا يَأْكُل من الْبدن وَمَا يتَصَدَّق، وَأَيْنَ الْعَطف فِي هَذَا وكل وَاحِد من الْبَابَيْنِ تَرْجَمَة مُسْتَقلَّة؟ وَالظَّاهِر أَنه ذكر هَذِه الْآيَات تَرْجَمَة وَلم يجد فِيهَا حَدِيثا يطابقها، إِمَّا لِأَنَّهُ لم يجده على شَرطه، أَو أدْركهُ الْمَوْت قبل أَن يَضَعهُ. وَوجه آخر وَهُوَ أقرب مِنْهُ: هُوَ أَن هَذِه الْآيَات مُشْتَمِلَة على أَحْكَام: ذكر هَذِه الْآيَات تَنْبِيها على هَذِه الْأَحْكَام، وَهِي تَطْهِير الْبَيْت للطائفين والمصلين من الْأَصْنَام والأوثان والأقذار، وَأمر الله تَعَالَى لرَسُوله أَن يُؤذن للنَّاس بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع على مَا نذكرهُ عَن قريب، وشهود الْمَنَافِع الدِّينِيَّة والدنياوية المختصة بِهَذِهِ الْعِبَادَة، وَذكر اسْم الله تَعَالَى فِي أَيَّام مَعْلُومَات، وَهِي عشر ذِي الْحجَّة على قَول، وشكرهم لَهُ على مَا رزقهم من الْأَنْعَام يذبحون، وَالْأَمر بِالْأَكْلِ مِنْهَا وإطعام الْفَقِير. وَقَضَاء التفث مثل حلق الرَّأْس وَنَحْوه، وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَالطّواف بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وتعظيم حرمات الله تَعَالَى.
قَوْله: (وَإِذ بوأنا) أَي: اذكر إِذْ جعلنَا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت مباءة ومرجعا يرجع إِلَيْهِ لِلْعِبَادَةِ والعمارة، يُقَال: بوأ الرجل منزلا أعده، وبوأه غَيره منزلا أعطَاهُ، وَأَصله: إِذا رَجَعَ، وَاللَّام فِي: لإِبْرَاهِيم، مقحمة لقَوْله تَعَالَى: {بوأنا بني إِسْرَائِيل} (يُونُس: 39) . وَقَوله: {تُبَوىء الْمُؤمنِينَ} (آل عمرَان: 121) . قَوْله: (مَكَان الْبَيْت) أَي: مَوضِع الْكَعْبَة. قيل: الْمَكَان جَوْهَر يُمكن أَن يثبت عَلَيْهِ غَيره، كَمَا أَن الزَّمَان عرض يُمكن أَن يحدث فِيهِ غَيره. فَإِن قيل: كَيفَ يكون النَّهْي عَن الْإِشْرَاك وَالْأَمر بالتطهير تَفْسِيرا للتبوئة؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَت التبوئة مَقْصُودَة من أجل الْعِبَادَة، فَكَأَنَّهُ قيل: وَإِذا تعبدنا إِبْرَاهِيم قُلْنَا لَهُ: لَا تشرك بِي شَيْئا وطهر بَيْتِي من الْأَصْنَام والأوثان. قَوْله: (والقائمين) ، أَي: الْمُصَلِّين، لِأَن الصَّلَاة قيام وركوع وَسُجُود، والرُّكع جمع: رَاكِع، والسُّجد جمع: ساجد، لم يذكر الْوَاو بَين الركع والسجد، وَذكر بَين القائمين والركع لكَمَال الِاتِّصَال بَين الركع والسجد، إِذْ لَا يَنْفَكّ أَحدهمَا عَن الآخر فِي الصَّلَاة فرضا أَو نفلا، وينفك الْقيام من الرُّكُوع، فَلَا يكون بَينهمَا كَمَال الِاتِّصَال. قَوْله: (وَأذن) أَي: نادِ، عطف على قَوْله: {وطهر} والنداء بِالْحَجِّ أَن يَقُول: حجُّوا. أَمر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يُؤذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ، وَقَالَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: يَا رب! وَمَا يبلغ صوتي؟ قَالَ: أذن وَعلي الْبَلَاغ، وَعَن الْحسن أَن قَوْله: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} كَلَام مُسْتَأْنف، وَأَن الْمَأْمُور بِهَذَا التأذين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر أَن يفعل ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (رجَالًا) أَي: مشَاة على أَرجُلهم، جمع راجل مثل: قَائِم وَقيام، وصائم وَصِيَام. قَوْله: (وعَلى كل ضامر) أَي: وركبانا، والضامر الْبَعِير المهزول، وانتصاب رجَالًا على أَنه حَال، وعَلى كل ضامر أَيْضا حَال معطوفة على الْحَال الأولى. قَوْله: (يَأْتِين) ، صفة لكل ضامر فِي معنى الْجمع، أَرَادَ: النوق. قَوْله: (من كل فج عميق) أَي: طَرِيق بعيد.(10/55)
قَوْله: (ليشهدوا) ، أَي: ليحضروا مَنَافِع لَهُم مُخْتَصَّة بِهَذِهِ الْعِبَادَة من أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، وَقيل: الْمَنَافِع التِّجَارَة، وَقيل: الْعَفو وَالْمَغْفِرَة. قَوْله: (فِي أَيَّام مَعْلُومَات) ، يَعْنِي: عشر ذِي الْحجَّة، وَقيل: تِسْعَة أَيَّام من الْعشْر، وَقيل: يَوْم الْأَضْحَى وَثَلَاثَة أَيَّام بعده، وَقيل: أَيَّام التَّشْرِيق، وَقيل: إِنَّهَا خَمْسَة أَيَّام أَولهَا يَوْم التَّرويَة: وَقيل: ثَلَاثَة أَيَّام أَولهَا يَوْم عَرَفَة، وَالذكر هَهُنَا يدل على التَّسْمِيَة على مَا نحر لقَوْله: {على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 82 و 43) . يَعْنِي: الْهَدَايَا والضحايا من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم والبهيمة، مُبْهمَة فِي كل ذَات أَربع فِي الْبر وَالْبَحْر، فبينت بالأنعام، وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر والضأن والمعز. قَوْله: (فَكُلُوا مِنْهَا) الْأَمر بِالْأَكْلِ مِنْهَا أَمر إِبَاحَة لِأَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا لَا يَأْكُلُون من نِسَائِكُم، وَيجوز أَن يكون ندبا لما فِيهِ من مواساة الْفُقَرَاء ومساواتهم، وَاسْتِعْمَال التَّوَاضُع. قَوْله: (وأطعموا البائش) ، أَي: الَّذِي أَصَابَهُ بؤس، أَي: شدَّة الْفقر، وَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه لَيْسَ بِوَاجِب، قَوْله: (ثمَّ ليقضوا تفثهم) ، قَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: التفث، حلق الرَّأْس وَأخذ الشَّارِب ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة وقص الْأَظْفَار وَالْأَخْذ من العارضين وَرمي الْجمار وَالْوُقُوف بِعَرَفَة، وَقيل: مَنَاسِك الْحَج، والتفث فِي الأَصْل: الْوَسخ والقذارة من طول الشّعْر والأظفار والشعث، وقضاؤه نقضه، وإذهابه. وَقَالَ الزّجاج: أهل اللُّغَة لَا يعْرفُونَ التفث إلاَّ من التَّفْسِير، وَكَأَنَّهُ الْخُرُوج من الْإِحْرَام إِلَى الْإِحْلَال. قَوْله: (وليوفوا نذورهم) ، أَي: نذور الْحَج وَالْهَدْي، وَمَا ينذر الْإِنْسَان من أَعمال الْبر فِي حجهم. قَوْله: (وليطوفوا) ، أَرَادَ الطّواف الْوَاجِب وَهُوَ طواف الْإِفَاضَة، والزيارة الَّذِي يُطَاف بعد الْوُقُوف، أما يَوْم النَّحْر أَو بعده. قَوْله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيق) أَي: بِالْكَعْبَةِ، سمي الْعَتِيق لقدمه أَو لِأَنَّهُ أعتق من أَيدي الْجَبَابِرَة، فَلم يصلوا إِلَى تخريبه، فَلم يظْهر عَلَيْهِ جَبَّار وَلم يُسَلط عَلَيْهِ إلاَّ من يعظمه ويحترمه، وَقيل: لِأَنَّهُ لم يملك قطّ. وَقيل: لِأَن أعتق من الْغَرق يَوْم الطوفان.
421 - (بابُ مَا يأكُلُ مِنَ الْبُدْنِ ومَا يَتَصَدَّقُ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان مَا يَأْكُل صَاحب الْهَدْي من الْبدن وَمَا يتَصَدَّق مِنْهَا أَرَادَ مَا يجوز لَهُ الْأكل، وَمَا يجب عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق، وَفِي بعض النّسخ: بَاب مَا يُؤْكَل، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: بَاب فِي بَيَان مَا يجوز الْأكل مِنْهَا وَمَا يتَصَدَّق مِنْهَا، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا على هَذِه النُّسْخَة.
وقَالَ عُبَيْدُ الله أخبَرَني نافِعٌ عَنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ والنَّذْرِ ويْؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن ابْن نمير عَنهُ بِمَعْنَاهُ. قَالَ: (إِذا عطبت الْبَدنَة أَو كسرت أكل مِنْهَا صَاحبهَا وَلم يبدلها إلاَّ أَن تكون نذرا أَو جَزَاء صيد) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق الْقطَّان عَن عبيد الله بِلَفْظ التَّعْلِيق الْمَذْكُور. قَوْله: (لَا يُؤْكَل) أَي: لَا يَأْكُل الْمَالِك من الَّذِي جعله جَزَاء لصيد الْحرم، وَلَا من الْمَنْذُور، بل يجب التَّصَدُّق بهما. وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول مَالك، وَزَاد: (إلاَّ فديَة الْأَذَى) ، وَعَن أَحْمد: لَا يُؤْكَل إلاَّ من هدي التَّطَوُّع والمتعة وَالْقرَان، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، بِنَاء على أَن دم التَّمَتُّع وَالْقرَان دم نسك لَا دم جبران، وَذكر ابْن الْمَوَّاز عَن مَالك أَنه يَأْكُل من الْهَدْي النّذر، إلاَّ أَن يكون نَذره للْمَسَاكِين، وَكَذَلِكَ مَا أخرجه بِمَعْنى الصَّدَقَة لَا يَأْكُل مِنْهُ، وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يكره أَن يَأْكُل من جَزَاء الصَّيْد أَو فديَة أَو كَفَّارَة، وَيَأْكُل النذور وهدي التَّمَتُّع والتطوع. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف أهل الْعلم فِي هدي التَّطَوُّع إِذا عطب قبل مَحَله، فَقَالَت طَائِفَة: صَاحبه مَمْنُوع من الْأكل مِنْهُ، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، ورخصت طَائِفَة فِي الْأكل مِنْهُ، رُوِيَ ذَلِك عَن عَائِشَة وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: يَأْكُل من جَزَاء الصَّيْد وَالنّذر، وَيطْعم من الْمُتْعَة أَي من الْهَدْي الَّذِي يُسمى بِدَم التَّمَتُّع الْوَاجِب على الْمُتَمَتّع، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ، وروى سعيد بن مَنْصُور من وَجه آخر عَن عَطاء:(10/56)
لَا يُؤْكَل من جَزَاء الصَّيْد وَلَا مِمَّا جعل للْمَسَاكِين من النذور وَغير ذَلِك، وَلَا من الْفِدْيَة، ويؤكل مَا سوى ذَلِك، وروى عبد بن حميد من وَجه آخر عَنهُ: أَن شَاءَ أكل الْهَدْي وَالْأُضْحِيَّة، وَإِن شَاءَ لم يَأْكُل.
9171 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدثنَا عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُوُل كُنَّا لَا نأكُل من لُحُومِ بُدْنِنا فَوقَ ثَلاث مِنًى فرخَّصَ لنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ كُلُوا وتَزَوَّدُوا فأكلْنا وتَزَوَّدْنا قُلْتُ لِعَطَاءِ أقالَ حَتَّى جِئنَا المَدِينَةَ قَالَ لاَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كلوا وتزودوا. .) إِلَخ. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان الْبَصْرِيّ، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن أبي بكر عَن عَليّ بن مسْهر وَعَن يحيى بن أَيُّوب عَن أَيُّوب عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى وَعَن عمرَان بن يزِيد.
قَوْله: (فَوق ثَلَاث منى) بِإِضَافَة: ثَلَاث، إِلَى: منى، أَي: الْأَيَّام الثَّلَاثَة الَّتِي كُنَّا بمنى وَهِي الْأَيَّام المعدودات. قَوْله: (قلت لعطاء) ، الْقَائِل هُوَ ابْن جريج. قَوْله: (أقَال) ، الْهمزَة فِيهِ للاستفهام أَي: أقَال جَابر: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَة، قَالَ جَابر: لَا يَعْنِي لم يقل جَابر حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَة، وَوَقع فِي مُسلم: (قَالَ: نعم) ، بدل قَوْله: (لَا) فروى مُسلم من حَدِيث ابْن جريج: (حَدثنِي عَطاء، قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله، يَقُول: كُنَّا لَا نَأْكُل من لُحُوم بدننا فَوق ثَلَاث، فأرخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: كلوا وتزودوا) . قلت لعطاء: أقَال جَابر حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَة؟ قَالَ: نعم) . والتوفيق بَين قَوْله: (لَا) وَقَوله: (نعم) أَن يحمل على أَنه نسي، فَقَالَ: لَا، ثمَّ تذكر فَقَالَ: نعم، وَحَدِيث جَابر هَذَا يُخَالف مَا رَوَاهُ مُسلم (عَن عَليّ بن أبي طَالب: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَانَا أَن نَأْكُل من لُحُوم نسكنا بعد ثَلَاث) ، وَفِي لفظ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد نهاكم أَن تَأْكُلُوا لُحُوم نسككم فَوق ثَلَاث لَيَال، فَلَا تَأْكُلُوا) وروى أَيْضا عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَأْكُل أحدكُم من لحم أضحيته فَوق ثَلَاث أَيَّام.
وَقَالَ القَاضِي: اخْتلف الْعلمَاء فِي الْأَخْذ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، فَقَالَ قوم: يحرم إمْسَاك لُحُوم الْأَضَاحِي وَالْأكل مِنْهَا بعد ثَلَاث، وَأَن حكم التَّحْرِيم بَاقٍ، كَمَا قَالَه عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء: يُبَاح الْأكل والإمساك بعد الثَّلَاث، وَالنَّهْي مَنْسُوخ بِحَدِيث جَابر هَذَا وَغَيره، وَهَذَا من نسخ السّنة بِالسنةِ، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ هُوَ نسخا بل كَانَ التَّحْرِيم لعِلَّة. فَلَمَّا زَالَت زَالَ التَّحْرِيم، وَتلك الْعلَّة هِيَ الدافة، وَكَانُوا منعُوا من ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام من أجل الدافة، فَلَمَّا زَالَت الْعلَّة الْمُوجبَة لذَلِك أَمرهم أَن يَأْكُلُوا ويدخروا. وروى مُسلم من حَدِيث مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عبد الله بن وَاقد قَالَ نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل لُحُوم الضَّحَايَا بعد ثَلَاث. قَالَ عبد الله بن أبي بكر: فَذكرت ذَلِك لعمرة، فَقَالَت: صدق، سَمِعت عَائِشَة تَقول: دف أهل أَبْيَات من أهل الْبَادِيَة حَضْرَة الْأَضْحَى زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ادخروا ثَلَاثًا ثمَّ تصدقوا بِمَا بَقِي، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك، قَالُوا: يَا رَسُول الله إِن النَّاس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون فِيهَا الودك، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا ذَاك؟ قَالُوا: نهيت أَن تُؤْكَل لُحُوم الضَّحَايَا بعد ثَلَاث. فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ من أجل الدافة الَّتِي دفت، فَكُلُوا وَادخرُوا وتصدقوا) . قَالَ أهل اللُّغَة: الدافة، بتَشْديد الْفَاء: قوم يَسِيرُونَ جَمِيعًا سيرا خَفِيفا من: دف يدف، بِكَسْر الدَّال. ودافة الْأَعْرَاب من يرد مِنْهُم الْمصر، وَالْمرَاد هُنَا: من ورد من ضعفاء الْأَعْرَاب للمواساة. وَقيل: كَانَ النَّهْي الأول للكراهة لَا للتَّحْرِيم، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالْكَرَاهَة بَاقِيَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وَلَكِن لَا يحرم. قَالُوا: وَلَو وَقع مثل تِلْكَ الْعلَّة الْيَوْم فدفت دافة واساهم النَّاس وحملوا على هَذَا مَذْهَب عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَالصَّحِيح نسخ النَّهْي مُطلقًا، وَأَنه لم يبْق تَحْرِيم وَلَا كَرَاهَة فَيُبَاح الْيَوْم الادخار فَوق ثَلَاثَة، وَالْأكل إِلَى مَا شَاءَ لصريح حَدِيث جَابر، وَحَدِيث بُرَيْدَة أَيْضا يدل على ذَلِك. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها، ونهيتكم عَن لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث، فأمسكوا مَا بدا لكم) الحَدِيث وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
وَاخْتلف فِي مِقْدَار مَا يُؤْكَل مِنْهَا وَمَا يتَصَدَّق، فَذكر عَلْقَمَة أَن ابْن(10/57)
مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أمره أَن يتَصَدَّق بِثُلثِهِ وَيَأْكُل ثلثه وَيهْدِي ثلثه، وَرُوِيَ عَن عَطاء. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الثَّوْريّ: يتَصَدَّق بأكثره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَا يجب أَن يتَصَدَّق بِأَقَلّ من الثُّلُث. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَيَأْكُل من لحم الْأُضْحِية قَالَ: هَذَا فِي غير الْمَنْذُورَة، أما فِي الْمَنْذُورَة فَلَا يَأْكُل النَّاذِر سَوَاء كَانَ مُعسرا أَو مُوسِرًا، وَبِه قَالَت الثَّلَاثَة أَعنِي: مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَعَن أَحْمد: يجوز الْأكل من الْمَنْذُورَة أَيْضا.
ثمَّ الْأكل من الْأُضْحِية مُسْتَحبّ عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَعند الظَّاهِرِيَّة وَاجِب، وَحكي ذَلِك عَن أبي حَفْص الْوَكِيل من أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَيطْعم الْأَغْنِيَاء والفقراء، ويدخر. ثمَّ روى حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي أخرجه مُسلم عَن أبي الزبير عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه نهى عَن أكل لُحُوم الضَّحَايَا بعد ثَلَاث، ثمَّ قَالَ بعد: كلوا وتزودوا وَادخرُوا) . انْتهى. قَالَ: وَمَتى جَازَ أكله وَهُوَ غَنِي جَازَ أَن يؤكله غَنِيا، ثمَّ قَالَ: وَيسْتَحب أَن لَا تنقص الصَّدَقَة من الثُّلُث، لِأَن الْجِهَات ثَلَاثَة: الْأكل والادخار وَالْإِطْعَام، فانقسم عَلَيْهَا أَثلَاثًا.
0271 - حدَّثنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ قَالَ حدَّثني يحْيَى قَالَ حدَّثَتْني عَمْرَةُ قالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقُولُ خَرَجْنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِخمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القِعْدَةِ وَلَا نُرَى إلاَّ الْحَجَّ إذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إذَا طافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَحِلُّ قالَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هاذا فَقيلَ ذَبَحَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أزْوَاجِهِ قَالَ يَحْيَى فذَكَرْتُ هذَا الحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ فَقالَ أتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلى وَجْهِهِ..
هَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب ذبح الرجل الْبَقر عَن نِسَائِهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن يحيى ابْن سعيد عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا؛ وَهَهُنَا أخرجه: عَن خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَقد مر فِي الْعلم، عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ ... إِلَى آخِره، وَالرِّجَال كلهم مدنيون، وخَالِد وَإِن كَانَ أَصله من الْكُوفَة وَلكنه سكن الْمَدِينَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (إِذا طَاف بِالْبَيْتِ) ، جَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِذا طَاف بِالْبَيْتِ يتم عمرته، ثمَّ يحل، وَيجوز أَن يكون إِذا للظرفية الْمَحْضَة، لقَوْله: (لم يكن) ، وَجَوَاب: من لم يكن، مَحْذُوف، قَالَ الْكرْمَانِي: وَيجوز أَن يكون: ثمَّ، زَائِدَة. قَالَ الْأَخْفَش فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إلاَّ إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 811) . إِن: تَابَ، جَوَاب إِذا، و: ثمَّ زَائِدَة. قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: وَفِي بعض الرِّوَايَة لفظ: إِذا، مَفْقُود وَهُوَ ظَاهر قلت: يكون التَّقْدِير: من لم يكن مَعَه هدي طَاف بِالْبَيْتِ، فَيكون: طَاف، جَوَاب: من. وَقَوله: (ثمَّ يحل) عطف، أَي: بعد طَوَافه بِالْبَيْتِ يحل، أَي: يخرج من إِحْرَام الْعمرَة. فَافْهَم. وَرَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة مقروءة: من لم يكن مَعَه هدي إِذا طَاف بِالْبَيْتِ أَن يحل.
521 - (بابُ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم ذبح الْحَاج هَدْيه قبل أَن يحلق رَأسه، وَاكْتفى بِمَا فِي الحَدِيث عَن بَيَان الحكم فِي التَّرْجَمَة.
1271 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ حَوْشَبٍ قَالَ حدَّثنا هُشَيْمٌ أخبرنَا مَنْصُورٌ عنْ عَطَاء عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سُئِلَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّنُ حَلَقَ قَبْلَ أنْ يَذْبَحَ ونَحْوِهِ فَقَالَ لاَ حَرَجَ لَا حَرَجَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين مَا فِي التَّرْجَمَة من الذّبْح قبل الْحلق يجوز أَو لَا، وَقد بَين الحَدِيث أَنه يجوز، لِأَن قَوْله(10/58)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حرج) ، يدل على الْجَوَاز، وَإِن كَانَ الأَصْل أَن يكون الذّبْح قبل الْحلق.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة والشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. الثَّانِي: هشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن بشير السّلمِيّ. الثَّالِث: مَنْصُور بن زَاذَان، بالزاي والذال المعجمتين، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه طائفي وَأَنه من أَفْرَاده وَأَن هشيما ومنصورا واسطيان وَأَن عَطاء مكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ من أَرْبَعَة طرق على مَا نذكرها، وَمن سِتَّة أوجه: عَن مَنْصُور عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، عَن ابْن خثيم عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن عَطاء عَن جَابر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي عَن هشيم بِهِ، وَلَفظه: (سُئِلَ عَمَّن حلق قبل أَن يذبح، أَو ذبح قبل أَن يَرْمِي) . وَأخرجه أَحْمد بن حَنْبَل نَحْو النَّسَائِيّ، وَعند مُسلم عَن طَاوُوس: (عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ فِي الذّبْح وَالْحلق وَالرَّمْي والتقديم وَالتَّأْخِير، فَقَالَ: لَا حرج) . وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ سُئِلَ عَمَّن ذبح قبل أَن يحلق، وَعَمن حلق قبل أَن يذبح، وَحلق قبل أَن يَرْمِي أَشْيَاء ذكرهَا. قَالَ: لَا حرج. وَعند أبي دَاوُد: (كَانَ يسْأَل يَوْم منى فَيَقُول: لَا حرج، فَسَأَلَهُ رجل. فَقَالَ: إِنِّي حلقت قبل أَن أذبح. قَالَ: إذبح وَلَا حرج، قَالَ: إِنِّي أمسيت، وَلم أرمِ. قَالَ: إرمِ وَلَا حرج) . وروى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. قَالَ: (وقف رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى للنَّاس يسألونه، فجَاء رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لم أشعر، فحلقت قبل أَن أذبح. فَقَالَ: إذبح وَلَا حرج، ثمَّ جَاءَهُ رجل آخر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لم أشعر فنحرت قبل أَن أرمي، فَقَالَ: إرمِ وَلَا حرج. قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء قدم وَلَا أخر إلاَّ قَالَ: إفعل وَلَا حرج) . وَأخرجه مُسلم من طرق كَثِيرَة.
ثمَّ اعْلَم أَن للْعُلَمَاء فِي هَذَا الْبَاب أقوالاً، فَذهب عَطاء وطاووس وَمُجاهد إِلَى أَنه: إِن قدم نسكا قبل نسك أَنه لَا حرج عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من قدم من حجه شَيْئا أَو أَخّرهُ فَعَلَيهِ دم، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن وَقَتَادَة. وَاخْتلفُوا إِذا حلق قبل أَن يذبح؟ فَقَالَ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن جرير: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهُوَ نَص الحَدِيث، وَنَقله ابْن عبد الْبر عَن الْجُمْهُور، مِنْهُم عَطاء وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَالْحسن وَقَتَادَة، وَقَالَ النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَابْن الْمَاجشون: عَلَيْهِ دم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ قَارنا فدمان، وَقَالَ زفر: إِن كَانَ قَارنا فَعَلَيهِ ثَلَاثَة دِمَاء: دم للقران وَدَمَانِ لتقدم الحلاق. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا شَيْء عَلَيْهِ، واحتجا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حرج) ، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَول أبي حنيفَة وَزفر مُخَالف للْحَدِيث، فَلَا وَجه لَهُ. قلت: مَا خَالف إلاَّ من جازف، وَأَبُو حنيفَة احْتج بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا سَلام بن الْمُطِيع أَو الْأَحْوَص عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: من قدم شَيْئا من حجه أَو أَخّرهُ فليهرق لذَلِك دَمًا. وَأخرج أَيْضا عَن سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَجَابِر بن زيد أبي الشعْثَاء نَحْو ذَلِك، وَأخرج الطَّحَاوِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر نَحوه، وَأخرجه أَيْضا عَن ابْن مَرْزُوق عَن الْحصيب عَن وهيب عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مثله، ثمَّ أجَاب أَبُو حنيفَة عَن حَدِيث الْبَاب وَنَحْوه: أَن المُرَاد بالحرج الْمَنْفِيّ هُوَ الْإِثْم، وَلَا يسْتَلْزم ذَلِك نفي الْفِدْيَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا ابْن عَبَّاس أحد من روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: مَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَن شَيْء قدم وَلَا أخر من أَمر الْحَج إلاَّ قَالَ: لَا حرج: فَلم يكن معنى ذَلِك عِنْده على الْإِبَاحَة فِي تَقْدِيم مَا قدمُوا، وَلَا تَأْخِير مَا أخروا، مِمَّا ذكرنَا أَن فِيهِ الدَّم، وَلَكِن معنى ذَلِك عِنْده: على أَن الَّذِي فَعَلُوهُ فِي حجَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على الْجَهْل بالحكم فِيهِ، كَيفَ هُوَ فعذرهم لجهلهم وَأمرهمْ فِي المستأنف أَن يتعلموا مَنَاسِكه.
2271 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ أخبرنَا أبُو بَكْرٍ عَنْ عبدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ رجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زُرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِي قَالَ لاَ حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ قا لاَ حَرجَ.(10/59)
هَذَا طَرِيق ثَان لحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن أَحْمد بن يُونُس، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس الْيَرْبُوعي الْكُوفِي عَن أبي بكر بن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: الْأَسدي الْكُوفِي، قَالَ البُخَارِيّ، قَالَ إِسْحَاق: سَمِعت أَبَا بكر يَقُول: إسمي وكنيتي وَاحِد، وَقيل غير ذَلِك، هُوَ من أَفْرَاده، يروي عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء وبالعين الْمُهْملَة: أَبُو عبد الله الْأَسدي الْمَكِّيّ، سكن الْكُوفَة، وَهُوَ يروي عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عنِ ابْن خُثَيْمٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطاءٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا طَرِيق ثَالِث مُعَلّق عَن عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان الأشل الرَّازِيّ عَن ابْن خثيم، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم أَبُو عُثْمَان الْمَكِّيّ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن راطيا، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن حَمَّاد حَدثنَا عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم أَخْبرنِي عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله طفت بِالْبَيْتِ قبل أَن أرم قَالَ: إرمِ وَلَا حرج.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بنُ يَحْيى قَالَ حدَّثني ابنُ خُثَيْمٍ عنْ عَطاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا تَعْلِيق قَالَه الْقَاسِم بن يحيى عَن عَطاء الْهِلَالِي الوَاسِطِيّ، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة.
وَقَالَ عَفَّانُ أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ قَالَ حَدثنَا ابنُ خُثَيْمٍ عنْ سَعيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَباسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا أَيْضا تَعْلِيق قَالَه عَفَّان بن مُسلم الصفار الْبَصْرِيّ. قَوْله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ، وَالْقَائِل بِهَذِهِ اللَّفْظَة هُوَ البُخَارِيّ. وَأخرجه أَحْمد عَن عَفَّان بِدُونِ قَوْله: (أرَاهُ) وَلَفظه: (جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله {حلقت وَلم أنحر، قَالَ: لَا حرج فانحر، وجاءه آخر فَقَالَ: يَا رَسُول الله} نحرت قبل أَن أرمي. قَالَ: فارم وَلَا حرج) .
وَقَالَ حَمَّادٌ عنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ وعَبَّادِ بنِ مَنْصُورٍ عنْ عَطَاءٍ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا أَيْضا تَعْلِيق قَالَه حَمَّاد بن سَلمَة، وَطَرِيق قيس بن سعد الْمُعَلق وَصله النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي والإسماعيلي وَابْن حبَان من طَرِيق عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِهِ نَحْو سِيَاق عبد الْعَزِيز بن رفيع، وَطَرِيق عباد بن مَنْصُور وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْقَاسِم. حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن إِسْحَاق حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة بِلَفْظ: (سُئِلَ عَن رجل رمى قبل أَن يحلق، وَحلق قبل أَن يَرْمِي، وَذبح قبل أَن يحلق؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إفعل وَلَا حرج) .
3271 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الأعْلَى قَالَ حَدثنَا خالدٌ عنْ عِكُرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أمْسَيْتُ فَقَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أنْحَرَ قَالَ لاَ حَرَجَ..
هَذَا طَرِيق رَابِع لحَدِيث ابْن عَبَّاس، وَعبد الْأَعْلَى هُوَ ابْن عبد الْأَعْلَى، وخَالِد هُوَ الْحذاء، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله عَن يزِيد بن زُرَيْع وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج أَيْضا عَن نصر بن عَليّ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زُرَيْع، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن بكر بن خلف ثَلَاثَتهمْ عَن يزِيد بن زُرَيْع بِهِ.
4271 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبَرَني أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ قَيْسِ بنِ مُسْلِمٍ عنْ طَارِقِ بنِ شِهَابٍ(10/60)
عَنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ قَدِمْتُ عَلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ بِالبَطْحَاءِ فَقَالَ أحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَ أهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإهْلالٍ كإهْلاَلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أحْسنْتَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوةِ ثُمَّ أتَيْتُ امْرَأةً مِنْ نِساءِ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأسِي ثُمَّ أهْلَلْتُ بِالحَجِّ فكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى خِلافَةِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فذَكرْتُهُ لَهُ فَقَالَ إنْ نأخُذْ بِكتَابِ الله فإنَّهُ يأمُرُنَا بِالتَّمَامِ وِإنْ نأخُذْ بِسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (حَتَّى بلغ الْهَدْي مَحَله) ، لِأَن بُلُوغ الْهَدْي مَحَله عبارَة عَن الذّبْح، وتأخيره على سَبِيل الرُّخْصَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب من أهل فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن قيس بن مُسلم إِلَى آخِره، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فَقلت) ، الْفَاء الأولى للتعقيب، وَالثَّانيَِة من نفس الْكَلِمَة لِأَنَّهُ من: فليت رَأسه من الْقمل، إِذا أزحته مِنْهُ، تَقول: فلَّى الرجل، وفلَّت الْمَرْأَة، يفلي فليا، حَاصله: أَنه تحلل من الْعمرَة، ثمَّ بعد ذَلِك أحرم بِالْحَجِّ فَصَارَ مُتَمَتِّعا، لِأَنَّهُ لم يكن مَعَه الْهَدْي. قَوْله: (كنت أُفْتِي بِهِ) أَي: بالتمتع الْمَدْلُول عَلَيْهِ بسياق الْكَلَام. قَوْله: (أَن نَأْخُذ بِكِتَاب الله) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . قَوْله: (مَحَله) ، بِكَسْر الْحَاء.
621 - (بابُ مَنْ لَبَّدَ رَأسَهُ عِنْدَ الإحْرَامِ وحَلَقَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لبد رَأسه عِنْد الْإِحْرَام وَحلق رَأسه بعد ذَلِك عِنْد الْإِحْلَال، قَوْله: (لبد) ، بِالتَّشْدِيدِ من التلبيد وَهُوَ أَن يضفر رَأسه وَيجْعَل فِيهِ شَيْئا من صمغ وَشبهه ليجتمع ويتلبد فَلَا يتخلله الْغُبَار وَلَا يُصِيبهُ الشعث وَلَا يحصل فِيهِ قمل، وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك من طول الْمكْث فِي الْإِحْرَام. قيل: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الْخلاف فِيمَن لبد، هَل يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْحلق أَو لَا؟ فَنقل ابْن بطال عَن الْجُمْهُور تعين ذَلِك حَتَّى عَن الشَّافِعِي، وَقَالَ أهل الرَّأْي: لَا يتَعَيَّن، بل إِن شَاءَ قصر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد.
5271 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ أنَّها قالَتْ يَا رَسُولَ الله مَا شأنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمرَةٍ ولَمْ تَحْلِلْ أنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إنِّي لَبَّدْتُ رَأسِي وقَلدْتُ هَدْبِي فَلاَ أحِلَّ حَتَّى أنحَرَ..
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنِّي لبدت رَأْسِي) . فَإِن قلت: التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على التلبيد، وعَلى الْحلق وَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعرض إِلَى الْحلق؟ قلت: قيل: إِنَّه مَعْلُوم من حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حلق رَأسه فِي حجه، وَقد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الَّذِي يَأْتِي فِي أول الْبَاب الَّذِي بعد هَذَا الْبَاب، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة إِذا وجد فِي جُزْء من الحَدِيث يَكْفِي ويكتفي بِهِ، وَلَا تشْتَرط الْمُطَابقَة بَين أجزائهما جَمِيعًا، أَلا يرى أَن فِي الحَدِيث ذكر تَقْلِيد الْهَدْي وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَة ذَلِك، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي بَاب التَّمَتُّع والإقران، وَقد ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة غير التِّرْمِذِيّ، وَأَنه يدل على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ مُتَمَتِّعا، لِأَن الْهَدْي الْمُقَلّد لَا يمْنَع من الْإِحْلَال إلاَّ فِي الْمُتْعَة خَاصَّة، وَإِن كَانَ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا بعد أَن يطوف فَلم يطف حَتَّى أحرم صَار قَارنا، فعلى كل حَال إِنَّه يرد قَول من قَالَ: إِنَّه كَانَ مُفردا بِحجَّة لم يتقدمها عمْرَة، وَلم تكن مَعهَا عمْرَة.
721 - (بابُ الْحَلْقِ والتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإحْلاَلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحلق وَالتَّقْصِير عِنْد إحلاله من الْإِحْرَام. قيل: أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن الْحلق نسك لقَوْله: (عِنْد الْإِحْلَال) ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور إلاَّ فِي رِوَايَة ضَعِيفَة عَن الشَّافِعِي أَنه اسْتِبَاحَة مَحْظُور. قلت: وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن من(10/61)
لبد رَأسه وَجب عَلَيْهِ الحلاق، كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِذَلِك أَمر النَّاس عمر بن الْخطاب وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَذَلِكَ لَو ضفر رَأسه أَو عقصه كَانَ حكمه حكم التلبيد، وَفِي (كَامِل) ابْن عدي من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: (من لبد رَأسه للْإِحْرَام فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق) ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لبد رَأسه أَو ضفره فَإِن قصر وَلم يحلق أَجزَأَهُ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه كَانَ يَقُول: من لبد أَو عقص أَو ضفر فَإِن نوى الْحلق فليحلق، وَإِن لم يُنَوّه فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين فِي شرح التِّرْمِذِيّ: إِن الْحلق نسك. قَالَه النَّوَوِيّ، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَهُوَ القَوْل الصَّحِيح للشَّافِعِيّ. وَفِيه خَمْسَة أوجه أَصَحهَا: أَنه ركن لَا يَصح الْحَج وَالْعمْرَة إِلَّا بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه وَاجِب. وَالثَّالِث: أَنه مُسْتَحبّ. وَالرَّابِع: أَنه اسْتِبَاحَة مَحْظُور. وَالْخَامِس: أَنه ركن فِي الْحَج وَاجِب فِي الْعمرَة وَإِلَيْهِ ذهب الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَغير وَاحِد من الشَّافِعِيَّة.
6271 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبُ بنُ أبِي حَمْزَةَ قَالَ نافِعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ حَلَقَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، قَالَ بَعضهم: والْحَدِيث طرف من حَدِيث طَوِيل أَوله: لما نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير، نبه عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ. قلت: روى مُسلم من حَدِيث نَافِع أَن ابْن عمر أَرَادَ الْحَج عَام نزُول الْحجَّاج بِابْن الزبير ... الحَدِيث، وَفِيه: (وَلم يحلل من شَيْء حرم مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر، فَنحر وَحلق) .
قَوْله: (فِي حجَّته) ، وَهِي حجَّة الْوَدَاع، يدل عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اللَّهُمَّ ارْحَمْ المخلقين) فَفِيهِ خلاف وَقَالَ بَعضهم كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: كَانَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة حِين أَمرهم بِالْحلقِ، على مَا نذكرهُ عَن قريب، وَيحْتَمل أَنه كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ الْأَشْبَه، لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة توقفت فِي الْحلق فيهمَا.
ثمَّ الْكَلَام فِي حلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يتَعَلَّق بِهِ على أَنْوَاع.
الأول فِي كَيْفيَّة حلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: روى مُسلم من حَدِيث أنس: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى من منى فَأتى الْجَمْرَة فَرَمَاهَا، ثمَّ أَتَى منزله بمنى وَنحر، وَقَالَ للحلاق: خُذ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر، ثمَّ جعل يُعْطِيهِ النَّاس) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس أَيْضا قَالَ: (لما رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَمْرَة نحر نُسكه، ثمَّ ناول الحالق شقَّه الْأَيْمن فحلقه، فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة، ثمَّ نَاوَلَهُ شقَّه الْأَيْسَر فحلقه فَقَالَ: أقسمه بَين النَّاس) . ثمَّ ظَاهر رِوَايَة التِّرْمِذِيّ أَن الشّعْر الَّذِي أَمر أَبَا طَلْحَة بقسمته بَين النَّاس هُوَ شعر الشق الْأَيْسَر، وَهَكَذَا رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، وَأما رِوَايَة حَفْص بن غياث وَعبد الْأَعْلَى ففيهما أَن الشق الَّذِي قسمه بَين النَّاس، هُوَ الْأَيْمن، وكلا الرِّوَايَتَيْنِ عِنْد مُسلم، وَأما رِوَايَة حَفْص فَقَالَ أَبُو كريب عَنهُ: فَبَدَأَ بالشق الْأَيْمن فوزعه الشعرة والشعرتين بَين النَّاس، ثمَّ قَالَ بالأيسر، فَصنعَ مثل ذَلِك. وَقَالَ أَبُو بكر فِي رِوَايَته عَن حَفْص، قَالَ للحلاق: وَهَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِب الْأَيْمن هَكَذَا، فقسم شعره بَين من يَلِيهِ، قَالَ: ثمَّ أَشَارَ إِلَى الحلاق إِلَى الْجَانِب الْأَيْسَر فحلقه، فَأعْطَاهُ أم سليم، وَقَالَ يحيى بن يحيى فِي رِوَايَته عَن حَفْص، ثمَّ قَالَ للحلاق: خُذ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبه الْأَيْمن، ثمَّ للأيسر، ثمَّ جعل يُعْطِيهِ النَّاس، فَلم يذكر يحيى بن يحيى فِي رِوَايَته أَبَا طَلْحَة وَلَا أم سليم، وَأما رِوَايَة عبد الْأَعْلَى فَقَالَ فِيهَا: وَقَالَ بِيَدِهِ، فحلق شقَّه الْأَيْمن فَقَسمهُ فِيمَن يَلِيهِ، ثمَّ قَالَ: إحلق الشق الآخر. فَقَالَ: أَيْن أَبُو طَلْحَة؟ فَأعْطَاهُ إِيَّاه.
وَقد اخْتلف أهل الحَدِيث فِي الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي هَذَا الحَدِيث، فَذهب بَعضهم إِلَى الْجمع بَينهمَا، وَذهب بَعضهم إِلَى التَّرْجِيح لتعذر الْجمع عِنْده، وَقَالَ صَاحب الْفَهم: إِن قَوْله: (لما حلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شقّ رَأسه الْأَيْمن أعطاء أَبَا طَلْحَة) ، لَيْسَ مناقضا لما فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة أَنه قسم شعر الْجَانِب الْأَيْمن بَين النَّاس، وَشعر الْجَانِب الْأَيْسَر أعطَاهُ أم سليم، وَهِي امْرَأَة أبي طَلْحَة وَهِي أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. . قَالَ: وَحصل من مَجْمُوع هَذِه الرِّوَايَات أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما حلق الشق الْأَيْمن نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَة ليقسمه بَين النَّاس، فَفعل أَبُو طَلْحَة، وناول شعر الشق الْأَيْسَر ليَكُون عِنْد أبي طَلْحَة، فَصحت نِسْبَة كل ذَلِك إِلَى من نسب إِلَيْهِ، وَالله أعلم. وَقد جمع الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي مَوضِع إِمْكَان جمعه، وَرجح فِي مَكَان تعذره، فَقَالَ: وَالصَّحِيح أَن الَّذِي وزعه على النَّاس الشق الْأَيْمن، وَأعْطى الْأَيْسَر أَبَا طَلْحَة وَأم سليم، وَلَا تضَاد بَين الرِّوَايَتَيْنِ، لِأَن أم سليم امْرَأَة أبي طَلْحَة، فإعطاه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهما، فنسب الْعَطِيَّة تَارَة إِلَيْهِ وَتارَة إِلَيْهَا. انْتهى. وَفِي رِوَايَة أَحْمد(10/62)
فِي (الْمسند) مَا يَقْتَضِي أَنه أرسل شعر الشق الْأَيْمن مَعَ أنس إِلَى أمه أم سليم امْرَأَة أبي طَلْحَة فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: لما حلق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَأسه بمنى أَخذ شقّ رَأسه الْأَيْمن بِيَدِهِ، فَلَمَّا فرغ ناولني فَقَالَ: يَا أنس إنطلق بِهَذَا إِلَى أم سليم، قَالَ: فَلَمَّا رأى النَّاس مَا خصنا بِهِ تنافسوا فِي الشق الآخر، هَذَا يَأْخُذ الشَّيْء، وَهَذَا يَأْخُذ الشَّيْء. قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَكَأن الْمُحب الطَّبَرِيّ رجح رِوَايَة تَفْرِقَة الشق الْأَيْمن بِكَثْرَة الروَاة، فَإِن حَفْص بن غياث وَعبد الْأَعْلَى اتفقَا على ذَلِك عَن هِشَام، وَخَالَفَهُمَا ابْن عُيَيْنَة وَحده، ثمَّ قَالَ الشَّيْخ: وَقد ترجح تَفْرِقَة الإيسر بِكَوْنِهِ مُتَّفقا عَلَيْهِ، وتفرقة الْأَيْمن من أَفْرَاد مُسلم، فقد وَقع عِنْد البُخَارِيّ من رِوَايَة ابْن عون عَن ابْن سِيرِين (عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حلق كَانَ أَبُو طَلْحَة أول من أَخذ من شعره) ، فَهَذَا يدل على أَن الَّذِي أَخذه أَبُو طَلْحَة الْأَيْمن، وَإِن كَانَ يجوز أَن يُقَال: أَخذه ليفرقه، فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا أَرَادَ الَّذِي أَخذه أَبُو طَلْحَة لنَفسِهِ، فقد اتّفق ابْن عون عَن هِشَام من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَنهُ، على أَن أَبَا طَلْحَة أَخذ الشق الْأَيْمن، وَاخْتلف فِيهِ على هِشَام، فَكَانَت الرِّوَايَة الَّتِي لَا اخْتِلَاف فِيهَا أولى بِالْقبُولِ، وَالله أعلم.
النَّوْع الثَّانِي: أَن فِيهِ مَا يدل على وجوب اسْتِيعَاب حلق الرَّأْس، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلق جَمِيع رَأسه، وَقَالَ: (خُذُوا عني مَنَاسِككُم) ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، كالمسح فِي الْوضُوء، وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ: يجب حلق أَكثر الرَّأْس، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ عَطاء: يبلغ بِهِ إِلَى العظمين اللَّذين عِنْد مُنْتَهى الصدغين، لِأَنَّهُمَا مُنْتَهى نَبَات الشّعْر، ليَكُون مستوعبا لجَمِيع رَأسه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب حلق ربع الرَّأْس وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يجب حلق نصف الرَّأْس، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يَكْفِي حلق ثَلَاث شَعرَات، وَلم يكتف بشعرة أَو بعض شَعْرَة، كَمَا اكْتفى بذلك فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء.
النَّوْع الثَّالِث: أَنه يسْتَدلّ بِهِ على أَفضَلِيَّة الْحلق على التَّقْصِير، وسنبينه فِي الحَدِيث الْآتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
النَّوْع الرَّابِع: أَن فِيهِ طَهَارَة شعر الْآدَمِيّ، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ مِنْهُم، فخصص الطَّهَارَة بِشعرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذهب إِلَى نَجَاسَة شعر غَيره.
النَّوْع الْخَامِس: فِيهِ التَّبَرُّك بِشعرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَغير ذَلِك من آثاره بِأبي وَأمي وَنَفْسِي هُوَ، وَقد روى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: فَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدَة السَّلمَانِي يُرِيد: هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لِأَن يكون عِنْدِي شَعْرَة مِنْهُ أحب إِلَيّ من كل بَيْضَاء وصفراء على وَجه الأَرْض. وَفِي بَطنهَا، وَقد ذكر غير وَاحِد أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ فِي قلنسوته شَعرَات من شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك كَانَ لَا يقدم على وَجه إلاَّ فتح لَهُ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ذكره الملا فِي (السِّيرَة) : أَن خَالِدا سَأَلَ أَبَا طَلْحَة حِين فرق شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين النَّاس أَن يُعْطِيهِ شعر ناصيته، فَأعْطَاهُ إِيَّاه، فَكَانَ مقدم ناصيته مناسبا لفتح كل مَا أقدم عَلَيْهِ.
النَّوْع السَّادِس: أَن فِيهِ أَنه لَا بَأْس باقتناء الشّعْر الْبَائِن من الْحَيّ وَحفظه عِنْده، وَأَنه لَا يجب دَفنه، كَمَا قَالَ بَعضهم: إِنَّه يجب دفن شُعُور بني آدم، أَو يسْتَحبّ، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي سنَن الْحلق، فَقَالَ: وَإِذا حلق فالمستحب أَن يبْدَأ بالشق الْأَيْمن ثمَّ بالأيسر، وَأَن يكون مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَإِنَّمَا يكبر بعد الْفَرَاغ، وَأَن يدْفن شعره. وَزَاد الْمُحب الطَّبَرِيّ فَذكر من سنَنه صَلَاة رَكْعَتَيْنِ بعده، فسننه إِذا خَمْسَة.
النَّوْع السَّابِع: فِيهِ مواساة الإِمَام وَالْكَبِير بَين أَصْحَابه فِيمَا يقسمهُ بَينهم، وَإِن فَاضل بَينهم لأمر اقْتضى ذَلِك.
النَّوْع الثَّامِن: فِيهِ أَنه لَا بَأْس بتفضيل بَعضهم على بعض فِي الْقِسْمَة لأمر يرَاهُ وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصص أَبَا طَلْحَة وَأم سليم بِشعر أحد الشقين، كَمَا تقدم.
النَّوْع التَّاسِع: أَن الحالق الْمَذْكُور اخْتلف فِي تَعْيِينه، فَقَالَ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : زَعَمُوا أَنه معمر بن عبد الله، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الصَّحِيح الْمَشْهُور، قَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْكَبِير) : قَالَ عَليّ بن عبد الله: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عقبَة، مولى معمر، عَن معمر الْعَدوي قَالَ: (كنت أرجِّل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قضى حجه، وَكَانَ يَوْم النَّحْر، جلس يحلق رَأسه، فَرفع رَأسه فَنظر فِي وَجْهي، فَقَالَ: يَا معمر! أمكنك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شحمة أُذُنه، وَفِي يدك الموسى، فَقَالَ: ذَاك من الله تَعَالَى عَليّ وفضله. قَالَ: نعم؟ فحلقته) ، وَقيل: إِن الَّذِي حلق رَأسه(10/63)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هُوَ خرَاش بن أُميَّة بن ربيعَة، حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا وهمٌ من قَائِله، وَإِنَّمَا حلق رَأسه خرَاش بن أُميَّة يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَقد بَينه ابْن عبد الْبر، فَقَالَ فِي تَرْجَمَة خرَاش، وَهُوَ الَّذِي حلق رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة. انْتهى. فَمن ذكر أَنه حلق لَهُ يَوْم النَّحْر فِي حجَّته فقد وهم، وَإِنَّمَا حلق لَهُ يَوْم النَّحْر معمر بن عبد الله الْعَدوي. كَمَا تقدم، وَهُوَ الصَّوَاب.
النَّوْع الْعَاشِر: أَن عِنْد أبي حنيفَة يبْدَأ بِيَمِين الحالق ويسار المحلوق، قَالَه الْكرْمَانِي فِي (مَنَاسِكه) وَعند الشَّافِعِي: يبْدَأ بِيَمِين المحلوق، وَالصَّحِيح عِنْد أبي حنيفَة مثله.
النَّوْع الْحَادِي عشر: مَا ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) ، فَقَالَ: يدْخل وَقت الْحلق من طُلُوع الْفجْر عِنْد الْمَالِكِيَّة، وَعِنْدنَا ينصف لَيْلَة النَّحْر، وَلَا آخر لوقته، وَالْحلق بمنى يَوْم النَّحْر أفضل. قَالُوا: وَلَو أَخّرهُ حَتَّى بلغ بَلَده حلق. أَو أهْدى، فَلَو وطىء قبل الْحلق فَعَلَيهِ هدي، بِخِلَاف الصَّيْد على الْمَشْهُور عِنْدهم، وَقَالَ ابْن قدامَة: يجوز تَأْخِيره إِلَى آخر أَيَّام النَّحْر، فَإِن أَخّرهُ عَن ذَلِك فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلَا دم عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ عَطاء وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر، وَيُشبه مَذْهَب الشَّافِعِي، لِأَن الله تَعَالَى بَين أول وقته بقوله: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم} (الْبَقَرَة: 691) . الْآيَة، وَلم يبين آخِره، فَمَتَى أَتَى بِهِ أَجزَأَهُ، وَعَن أَحْمد: عَلَيْهِ دم بِتَأْخِيرِهِ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، لِأَنَّهُ نسك أَخّرهُ عَن مَحَله، وَلَا فرق فِي التَّأْخِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير، والساهي والعامد، وَقَالَ مَالك وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: من تَركه حَتَّى حل فَعَلَيهِ دم، لِأَنَّهُ نسك فَيَأْتِي بِهِ فِي إِحْرَام الْحَج كَسَائِر مَنَاسِكه.
7271 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أللَّهُمَّ ارْحَمْ المحَلِّقينَ قالُوا والمُقَصِّرينَ يَا رسولَ الله قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقينَ قالُوا والمُقَصِّرِينَ يَا رسولَ الله قَالَ والمُقَصِّرينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي الْحلق وَالتَّقْصِير. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد أَيْضا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
قَوْله: (أللهم ارْحَمْ المحلقين) ، هَذَا الدُّعَاء الَّذِي وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتكرار للمحلقين وأفراد الدُّعَاء للمقصرين، هَل كَانَ ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع أَو فِي الْحُدَيْبِيَة؟ فَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: كَونه فِي الْحُدَيْبِيَة هُوَ الْمَحْفُوظ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا يبعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَا قَالَه القَاضِي هُوَ الصَّوَاب جمعا بَين الْأَحَادِيث، فَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أم الْحصين أَنه قَالَه فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقد رُوِيَ أَن ابْن إِسْحَاق قَالَ فِي (السِّيرَة) : حَدثنِي ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ حلق: رجال يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَقصر آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أللهم ارْحَمْ المحلقين، ثَلَاثًا. قيل: يَا رَسُول الله! مَا بَال المحلقين ظَاهَرت لَهُم بالترحم؟ قَالَ: لأَنهم لم يشكوا) . فَهَذَا يُوضح أَنه قَالَه فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَت عَادَتهم اتِّخَاذ الشّعْر على الرؤوس وتوفيرها وتزيينها، وَكَانَ الْحلق فيهم قَلِيلا، ويرون ذَلِك نوعا من الشُّهْرَة، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم الْحلق، فمالوا إِلَى التَّقْصِير. فَمنهمْ من حلق وَمِنْهُم من قصر لما يجد فِي نَفسه مِنْهُ، فَمن أجل ذَلِك سمح لَهُم بِالدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ، وَقصر، بالآخرين إِلَى أَن استعطف عَلَيْهِم، فعممهم بِالدُّعَاءِ بعد ذَلِك. فَإِن قلت: مَا معنى قَوْله: (لم يشكوا) ؟ وَمَا المُرَاد بِالشَّكِّ وَوُجُود الشَّك من الصَّحَابَة مُشكل. قلت: مَعْنَاهُ لم يشكوا أَن الحلاق أفضل قيل: فِيهِ نظر، لِأَن الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِذا رَأَوْا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل فعلا رَأَوْهُ أفضل، وَإِنَّمَا كَانُوا يقصدون مُتَابَعَته. قَوْله: (والمقصرين) عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره: قل: وَارْحَمْ الْمُقَصِّرِينَ أَيْضا، وَيُسمى مثل هَذَا: بالْعَطْف التلقيني، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ، وَمن ذريتي} (الْبَقَرَة: 421) . وَفِيه: مَا يدل على أَفضَلِيَّة الْحلق لِأَنَّهُ أبلغ فِي الْعِبَادَة وأدل على صدق النِّيَّة فِي التذلل لله، لِأَن المقصر مبق على نَفسه من زينته الَّتِي قد أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يكون الْحَاج مجانبا لَهَا. وَقيل: مَا ذكر من أَفضَلِيَّة الْحلق على التَّقْصِير إِنَّمَا هِيَ فِي حقِّ الرِّجَال دون النِّسَاء، لوُرُود النَّهْي عَن حلق النِّسَاء، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ على النِّسَاء الْحلق، إِنَّمَا على النِّسَاء التَّقْصِير) . وروى التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ هَذَا(10/64)
الحَدِيث: عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة (عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا) .
وقالَ اللَّيْثُ حدَّثني نافَعٌ رَحِمَ الله المُحَلِّقِينَ مَرِّةً أوْ مَرَّتيْنِ وَقَالَ عُبَيْدُ الله حدَّثني نافعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ والمقَصِّرينَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم وَلَفظه: (رحم الله المحلقين، مرّة أَو مرَّتَيْنِ. قَالُوا: والمقصرين؟ قَالَ: والمقصرين) الشَّك فِيهِ من اللَّيْث وإلاَّ فَأكْثر الروَاة يوافقون لما رَوَاهُ مَالك، فَإِن مُعظم الرِّوَايَات عَن مَالك إِعَادَة الدُّعَاء للمحلقين مرَّتَيْنِ، وَعطف الْمُقَصِّرِينَ عَلَيْهِ فِي الْمرة الثَّالِثَة، وَانْفَرَدَ يحيى بن بكير دون رَوَاهُ (الْمُوَطَّأ) بِإِعَادَة ذَلِك ثَلَاث مَرَّات نبه عَلَيْهِ ابْن عبد الْبر فِي (التَّقَصِّي) وَلم يُنَبه عَلَيْهِ فِي (التَّمْهِيد) بل قَالَ فِيهِ: إِنَّهُم لم يَخْتَلِفُوا على مَالك فِي ذَلِك.
8271 - حدَّثنا عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ قَالَ حدَّثنا عُمَارَةُ بنُ القَعْقَاعِ عَنْ أبِي زرْعَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قالُوا ولِلْمُقَصِّرِينَ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لِلْمُحَلِّقِينَ قالُوا ولِلْمُقَصِّرِينَ قالَهَا ثَلَاثًا قَالَ ولِلْمُقَصِّرِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: هُوَ الرقام، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن عَبَّاس، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني، وَالْأول أرجح. الثَّانِي: مُحَمَّد بن الفضيل، بِضَم الْفَاء مصغر الْفضل بن غَزوَان أَبُو عبد الرَّحْمَن الضَّبِّيّ. الثَّالِث: عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع، بِفَتْح الْقَاف الأولى وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: ابْن شبْرمَة. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ، قيل: اسْمه هرم، وَقيل: عبد الله، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: جرير. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل مكررا. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَبَقِيَّة الروَاة كوفيون. وَفِيه: أَن رِوَايَة مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن عمَارَة من أَفْرَاده، وَرِوَايَة عمَارَة عَن أبي زرْعَة من أَفْرَاده، وتابع أَبَا زرْعَة عَلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب.
أخرجه مُسلم بعد أَن أخرج حَدِيث أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أللهم إغفر للمحلقين) إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، قَالَ: وحَدثني أُميَّة بن بسطَام حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا روح عَن الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَعْنى حَدِيث أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَأَبُو الْعَلَاء هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب الْمَذْكُور وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إغفر للمحلقين) ، وَقد مر فِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (إرحم المحلقين) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يحْتَمل أَن يكون بعض الناقلين رَوَاهُ على الْمَعْنى أَو إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وهمٌ، أَو قالهما صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيعًا. قَوْله: (قَالَهَا ثَلَاثًا) أَي: قَالَ: إغفر للمحلقين، ثَلَاث مَرَّات، وَفِي الرَّابِعَة قَالَ: (للمقصرين، وَفِي حَدِيث ابْن عمر الَّذِي مضى آنِفا قَالَ: للمقصرين، بعد الثَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عمر قَالَ: رحم الله المحلقين مرّة أَو مرَّتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: والمقصرين، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مَاجَه، (قيل: يَا رَسُول الله! لم ظَاهَرت المحلقين ثَلَاثًا والمقصرين وَاحِدَة؟) وَقد ذَكرْنَاهُ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَابْن مَاجَه أخرجه من طَرِيقه، وَفِي حَدِيث أم الْحصين أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (دَعَا للمحلقين ثَلَاثًا وللمقصرين مرّة) . وَفِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه ابْن أبي شيبَة: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بِيَدِهِ: يرحم الله المحلقين، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟ قَالَ فِي الثَّالِثَة: والمقصرين) . وَفِي حَدِيث أبي مَرْيَم، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أللهم اغْفِر للمحلقين أللهم إغفر للمحلقين، قَالَ: يَقُول رجل من الْقَوْم: والمقصرين؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة، والمقصرين. قَالَ وَأَنا يَوْمئِذٍ محلوق الرَّأْس، فَمَا يسرني بحلق رَأْسِي حمر النعم) . وَفِي حَدِيث حبشِي بن جُنَادَة، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أللهم اغْفِر للمحلقين(10/65)
قَالُوا: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر للمقصرين) . وَفِي حَدِيث جَابر بن عبد الله أخرجه أَبُو قُرَّة يَقُول: حلق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فحلق نَاس كثير من أَصْحَابه حِين رَأَوْهُ حلق، وَقَالَ آخَرُونَ: وَالله مَا طفنا بِالْبَيْتِ فقصروا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يرحم الله المحلقين، وَقَالَ فِي الرَّابِعَة: والمقصرين) . وَفِي حَدِيث قَارب أخرجه ابْن مَنْدَه فِي الصَّحَابَة من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن وهب بن عبد الله بن قَارب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يرحم الله المحلقين) ، وَقَالَ أَبُو عمر: ولاأحفظ هَذَا الحَدِيث من غير رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة وَغير الْحميدِي، والْحميدِي يَقُول: قارت أَو مارب، وَغير الْحميدِي يَقُول: قَارب من غير شكّ، وَهُوَ الصَّوَاب وَهُوَ مَشْهُور مَعْرُوف من وُجُوه ثَقِيف. انْتهى. وقارب هُوَ: ابْن عبد الله بن الْأسود بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: قَارب بن الْأسود، ينْسب إِلَى جده، وَأم الْحصين الْمَذْكُورَة لَا يعرف اسْمهَا، وَهِي صحابية، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، شهِدت حجَّة الْوَدَاع، وَهِي من أحمس ثمَّ من بجيلة، وَأَبُو مَرْيَم اسْمه مَالك بن ربيعَة السَّلُولي صَحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سكن الْبَصْرَة وَهُوَ وَالِد يزِيد بن أبي مَرْيَم، وَحبشِي بن جُنَادَة سلولي أَيْضا صَحَابِيّ سكن الْكُوفَة.
9271 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَّةُ بنُ أسْماءَ عَنْ نافَعٍ أنَّ عَبْدَ الله قَالَ حلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطَائِفَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ وقصَّرَ بَعْضُهُم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء بن عبيد بن مِخْرَاق الْبَصْرِيّ ابْن أخي جُورِيَةُ بن أَسمَاء، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَسْمَاء من الْأَعْلَام الْمُشْتَركَة بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَجُوَيْرِية مصغر الجالية ابْن أَسمَاء بن عبيد الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع وَسبعين وَمِائَة، وَقَالَ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) حَدِيث حلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَائِفَة من أَصْحَابه وَقصر بَعضهم، أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، هَكَذَا ذكره خلف وَذكره أَبُو مَسْعُود عَن مُوسَى وَحده، وَالَّذِي وَجَدْنَاهُ فِي (الصَّحِيح) : عَن عبد الله وَحده فِيهِ إِثْبَات الْحلق وَالتَّقْصِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
0371 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ الْحَسَنِ بنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ مُعاوِيَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ قَصَّرْتُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِشْقَصٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قصرت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِيه: الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز التَّقْصِير وَإِن كَانَ الْحلق أفضل، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل الضحام بن مخلد، وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَالْحسن بن مُسلم بن يناق، مَاتَ قبل طَاوُوس وَقبل أَبِيه مُسلم، والرواة كلهم مكيون سوى أبي عَاصِم شَيْخه فَإِنَّهُ بَصرِي، وَمُعَاوِيَة هُوَ ابْن أبي سُفْيَان. وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.
قَوْله: (عَن ابْن جريج عَن الْحسن) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن جريج، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن مُسلم عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان أخبرهُ قَالَ: قصرت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص، وَهُوَ على الْمَرْوَة، أَو: رَأَيْته يقصر عَنهُ بمشقص، وَهُوَ على الْمَرْوَة، وَفِي لفظ لَهُ: قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ لي مُعَاوِيَة: أعلمت أَنِّي قد قصرت من رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْمَرْوَة بمشقص؟ فَقلت لَهُ: لَا أعلم هَذِه إلاَّ حجَّة عَلَيْك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول على أَن مُعَاوِيَة قصر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمْرَة الْجِعِرَّانَة، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع كَانَ قَارنا، وَثَبت أَنه حلق بمنى، وَفرق أَبُو طَلْحَة شعره بَين النَّاس، فَلَا يجوز حمل تَقْصِير مُعَاوِيَة على حجَّة الْوَدَاع، وَلَا يَصح حمله أَيْضا على عمْرَة الْقَضَاء الْوَاقِعَة سنة سبع من الْهِجْرَة، لِأَن مُعَاوِيَة لم يكن يَوْمئِذٍ مُسلما، إِنَّمَا أسلم يَوْم الْفَتْح سنة ثَمَان، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، لَا يَصح قَول من حَملَة على حجَّة الْوَدَاع، وَزعم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مُتَمَتِّعا لِأَن هَذَا غلط فَاحش، فقد تظاهرت الْأَحَادِيث فِي مُسلم وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ: مَا شَأْن النَّاس حلوا وَلم تحل أَنْت؟ فَقَالَ: إِنِّي لبَّدت رَأْسِي وقلَّدت هَدْيِي فَلَا أحل حَتَّى أنحر الْهَدْي، وَفِي رِوَايَة: حَتَّى أحل من الْحَج. انْتهى. قيل: لَعَلَّ مُعَاوِيَة قصر عَنهُ فِي عمْرَة الْجِعِرَّانَة فنسي بعد ذَلِك، وَظن أَنه كَانَ فِي حجَّته فَإِن قلت: قد وَقع فِي رِوَايَة أَحْمد من(10/66)
طَرِيق قيس بن سعد عَن عَطاء أَن مُعَاوِيَة حدث أَنه أَخذ من أَطْرَاف شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام الْعشْر بمشقص معي وَهُوَ محرم؟ قلت: قَالُوا: إِنَّهَا رِوَايَة شَاذَّة، وَقد قَالَ قيس بن سعد عقيبها: وَالنَّاس يُنكرُونَ ذَلِك، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون فِي قَول مُعَاوِيَة: قصرت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص، حذف تَقْدِيره: قصرت أَنا شعري عَن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: يرد هَذَا مَا فِي رِوَايَة أَحْمد: قصرت عَن رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْمَرْوَة، أخرجه من طَرِيق جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن حزم: يحْتَمل أَن يكون مُعَاوِيَة قصر رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَقِيَّة شعر لم يكن الحلاق اسْتَوْفَاهُ يَوْم النَّحْر، ورد عَلَيْهِ بِأَن الحالق لم يبْق شعرًا يقصر، وَلَا سِيمَا وَقد قسم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شعره بَين الصَّحَابَة الشعرة والشعرتين، وَأَيْضًا فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسعَ بَين الصَّفَا والمروة إلاَّ سعيا وَاحِدًا فِي أول مَا قدم، فَمَاذَا كَانَ يصنع عِنْد الْمَرْوَة؟ قَوْله: (بمشقص) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة، قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ النصل الطَّوِيل وَلَيْسَ بالعريض، وَقَالَ ابْن فَارس وَغَيره: هُوَ سهم فِيهِ نصل عريض، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المشقص هُوَ كل نصل طَال وَعرض، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ الطَّوِيل غير العريض.
821 - (بابُ تَقْصيرِ المُتَمَتِّعِ بَعْدَ العُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَقْصِير الْمُتَمَتّع بعد إحلاله من عمرته.
1371 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ أمَرَ أصْحَابَهُ أنْ يَطُوفُوا بِالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ يَحِلُّوا ويَحْلِقُوا أوْ يُقَصِّرُوا.
(انْظُر الحَدِيث 5451 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو يقصروا) ، والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَمُحَمّد بن أبي بكر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الثَّقَفِيّ مَوْلَاهُم الْمَعْرُوف بالمقدمي الْبَصْرِيّ، وفضيل تَصْغِير فضل بن سُلَيْمَان الْبَصْرِيّ، ومُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة.
وَفِيه: التَّخْيِير بَين الْحلق وَالتَّقْصِير، وَقد أجمع الْعلمَاء على أَن التَّقْصِير مجزىء فِي الْحَج وَالْعمْرَة مَعًا إلاَّ مَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه كَانَ يَقُول: يلْزمه الْحلق فِي أول حجَّة وَلَا يجْزِيه التَّقْصِير. قلت: فيهنظر، لِأَن ابْن أبي شيبَة روى فِي (مُصَنفه) عَن عبد الْأَعْلَى عَن هِشَام عَن الْحسن فِي الَّذِي لم يحجّ قطّ، إِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى الْحسن يرد مَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ، نعم حُكيَ ذَلِك عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: إِذا حج الرجل أول حجَّة حلق، وَإِن حج مرّة أُخْرَى إِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر، وَالْحلق أفضل، وَإِذا اعْتَمر الرجل وَلم يحجّ قطّ فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر، فَإِن كَانَ مُتَمَتِّعا قصر ثمَّ حلق، وَالظَّاهِر أَن هَذَا الْكَلَام من إِبْرَاهِيم لَيْسَ على سَبِيل الْوُجُوب، بل الْفضل والاستحباب، بِدَلِيل مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانُوا يحبونَ أَن يحلقوا فِي أول حجَّة وَأول عمْرَة، وَرُوِيَ أَيْضا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانُوا يستحبون للرجل أول مَا يحجّ أَن يحلق وَأول مَا يعْتَمر أَن يحلق.
921 - (بابُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زِيَارَة الْحَج الْبَيْت لأجل الطّواف بِهِ يَوْم النَّحْر، وَالْمرَاد بِهِ طواف الزِّيَارَة الَّذِي هُوَ ركن من أَرْكَان الْحَج، وَسمي طواف الْإِفَاضَة أَيْضا.
وَقَالَ أبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أخَّرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزِّيارَةَ إلَى اللَّيْلِ
أَبُو الزبير، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه مُحَمَّد بن مُسلم بن تدرس، بِلَفْظ الْمُخَاطب من الْمُضَارع من الدراسة، مر فِي: بَاب من شكى إِمَامه، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن بشار(10/67)
حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي الزبير عَن ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر طواف الزِّيَارَة إِلَى اللَّيْل، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن مهْدي. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن بكر بن خلف، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: وَأَبُو الزبير سمع من ابْن عَبَّاس، وَفِي سَمَاعه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا نظر، قَالَه البُخَارِيّ فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض مَا رَوَاهُ ابْن عمر وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه طَاف يَوْم النَّحْر نَهَارا؟ وَالْحَدِيثَانِ عَن ابْن عمر وَجَابِر عِنْد مُسلم. أما حَدِيث ابْن عمر فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن عبيد الله ابْن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفَاضَ يَوْم النَّحْر ثمَّ رَجَعَ فصلى الظّهْر بمنى، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَأما حَدِيث جَابر فَإِنَّهُ أخرجه من رِوَايَة جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن جَابر فِي الحَدِيث الطَّوِيل وَفِيه: (ثمَّ ركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْت فصلى بِمَكَّة الظّهْر) الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَائِشَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة قَالَت: أَفَاضَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من آخر يَوْمه حِين صلى الظّهْر ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى فَمَكثَ بهَا ليَالِي التَّشْرِيق) .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تدل على أَنه طَاف طواف الزِّيَارَة يَوْم النَّحْر، وَحَدِيث الْبَاب يدل على أَنه أَخّرهُ إِلَى اللَّيْل. قلت: أُجِيب عَن هَذَا بِوُجُوه. الأول: إِن الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة يحمل على الْيَوْم الأول، وَحَدِيث الْبَاب يحمل على بَقِيَّة الْأَيَّام. الْوَجْه الثَّانِي: أَن حَدِيث الْبَاب يحمل على أَنه أخر ذَلِك إِلَى مَا بعد الزَّوَال، فَكَانَ مَعْنَاهُ: أخر طواف الزِّيَارَة إِلَى الْعشي، وَأما الْحمل على مَا بعد الْغُرُوب فبعيد جدا لما ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف يَوْم النَّحْر نَهَارا وَشرب من سِقَايَة زَمْزَم. الْوَجْه الثَّالِث: مَا ذكره ابْن حبَان من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رمى جَمْرَة الْعقبَة وَنحر ثمَّ تطيب للزيارة ثمَّ أَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طواف الزِّيَارَة، ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى فصلى الظّهْر بهَا وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء، ورقد رقدة بهَا، ثمَّ ركب إِلَى الْبَيْت ثَانِيًا وَطَاف بِهِ طَوافا آخر بِاللَّيْلِ. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) : عَن عَائِشَة وَابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زار لَيْلًا؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ طواف الْوَدَاع أَو طواف زِيَارَة مَحْضَة، وَقد ورد حَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور الْبَيْت كل لَيْلَة من ليَالِي منى فَإِن قلت: مَا تَقول فِي الحَدِيث الَّذِي أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أذن لأَصْحَابه فزاروا الْبَيْت يَوْم النَّحْر ظَهره، وزار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا؟ قلت: هَذَا حَدِيث غَرِيب جدا، فَلَا يُعَارض الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة الْمَشْهُورَة.
ويُذْكَرْ عَنْ أبِي حَسَّانَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَزُورُ البَيْتَ أيَّامَ مِنىً
أَبُو حسان: اسْمه مُسلم بن عبد الله الْعَدوي الْبَصْرِيّ الْمَشْهُور بالأجرد، وَيُقَال لَهُ: الْأَعْرَج أَيْضا، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ عَن أبي الْحسن بن عَبْدَانِ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عبيد الصفار حَدثنَا المعمري حَدثنَا ابْن عرْعرة قَالَ: دفع إِلَيْنَا معَاذ بن هِشَام كتابا قَالَ: سمعته من أبي وَلم يقرأه، قَالَ: فَكَانَ فِيهِ: عَن قَتَادَة عَن أبي حسان عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور الْبَيْت كل لَيْلَة مَا دَامَ بمنى، قَالَ: وَمَا رَأَيْت أحدا واطأه عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من طَرِيق قَتَادَة عَنهُ، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ فِي (الْعِلَل) : روى قَتَادَة حَدِيثا غَرِيبا لَا نَحْفَظهُ عَن أحد من أَصْحَاب قَتَادَة إلاَّ من حَدِيث هِشَام، فنسخته من كتاب ابْنه معَاذ بن هِشَام، وَلم أسمعهُ مِنْهُ عَن أَبِيه عَن قَتَادَة: حَدثنِي أَبُو حسان عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور الْبَيْت كل لَيْلَة مَا أَقَامَ بمنى، وَقَالَ الْأَثْرَم: قلت لِأَحْمَد: تحفظ عَن قَتَادَة؟ فَذكر هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: كتبوه من كتاب معَاذ، قلت: فَإِن هُنَا إنْسَانا يزْعم أَنه سَمعه من معَاذ، فَأنْكر ذَلِك وَأَشَارَ الْأَثْرَم بذلك إِلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عرْعرة، فَإِن من طَرِيقه أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد. قلت: ولرواية أبي حسان هَذِه شَاهد مُرْسل أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي عُيَيْنَة: حَدثنَا ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يفِيض كل لَيْلَة، يَعْنِي: ليَالِي منى.
2371 - وقالَ لَنا أبُو نُعَيْمِ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عَنْ عُبَيْدِ الله عَن نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ(10/68)
طافَ طَوَافا واحِدا ثُمَّ يَقِيلُ ثُمَّ يأتِي مِنىً يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ ورفَعَهْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ يَأْتِي منى يَوْم النَّحْر) ، وَمُقْتَضَاهُ أَن يكون خرج مِنْهَا إِلَى مَكَّة لأجل الطّواف قبل ذَلِك. وَأَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، ودكين لقب عَمْرو بن حَمَّاد وَالِد الْفضل الْقرشِي التَّيْمِيّ الْكُوفِي الْأَحول، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب الْعمريّ.
قَوْله: (وَرَفعه قَالَ) أَي: أَبُو نعيم، رفع الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الرَّزَّاق إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوصل التَّعْلِيق الْمَذْكُور مُسلم: أَنبأَنَا مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَفَاضَ يَوْم النَّحْر ثمَّ رَجَعَ فصلى الظّهْر بمنى، وَيذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله، وَهَذَا صَرِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر يَوْم النَّحْر بمنى. وَفِي (الصَّحِيح) أَيْضا من حَدِيث جَابر: فصلى يَوْم النَّحْر بِمَكَّة الظّهْر، قَالَ ابْن حزم: وَكَذَا قالته عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَهَذَا هُوَ الْفَصْل الَّذِي أشكل علينا الْفَصْل فِيهِ لصِحَّة الطّرق فِي كل ذَلِك، وَلَا شكّ فِي أَن أحد الْخَبَرَيْنِ وهم، وَلَا نَدْرِي أَيهمَا هُوَ. انْتهى. قلت: الْأَحَادِيث كلهَا صَحِيحَة وَلَا شَيْء من وهم فِي ذَلِك أصلا، وَذَلِكَ لِأَن رُجُوعه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى منى، فِي وَقت الظّهْر مُمكن، لِأَن النَّهَار كَانَ طَويلا. وَإِن كَانَ قد صدر مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي صدر هَذَا النَّهَار، وَأَحَادِيث عَائِشَة لَيست ناصة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى الظّهْر بِمَكَّة، بل مُحْتَملَة أَن كَانَ الْمَحْفُوظ فِي الرِّوَايَة حَتَّى صلى الظّهْر، وَإِن كَانَت الرِّوَايَة: حِين صلى الظّهْر، وَهُوَ الْأَشْبَه، فَإِن ذَلِك على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى الظّهْر بمنى، قبل أَن يذهب إِلَى الْبَيْت، وَهُوَ مُحْتَمل، وَالله أعلم. وَقَالَ محب الدّين الطَّبَرِيّ: الْجمع بَين الرِّوَايَات كلهَا مُمكن، إِذْ يحْتَمل أَن يكون صلَّى مُنْفَردا فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ، ثمَّ مَعَ جمَاعَة فِي الآخر، أَو صلى بِأَصْحَابِهِ بمنى، ثمَّ أَفَاضَ فَوجدَ قوما لم يصلوا فصلى بهم، ثمَّ لما رَجَعَ إِلَى منى، وجد قوما آخَرين فصلى بهم لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يتقدمه أحد فِي الصَّلَاة، أَو كرر الصَّلَاة بِمَكَّة وَمنى ليتبين جَوَاز الْأَمريْنِ فِي هَذَا الْيَوْم توسعة على الْأمة، وَيجوز أَن يكون أذن فِي الصَّلَاة فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ فنسبت إِلَيْهِ. فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين حَدِيث الْبَاب وَبَين الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن هَذَا الْيَوْم أرخص الله تَعَالَى لكم إِذا رميتم الْجَمْرَة أَن تحلوا يَعْنِي: من كل شَيْء حرمتم إلاَّ النِّسَاء، فَإِذا أمسيتم قبل أَن تطوفوا صرتم حرما كهيئتكم قبل أَن ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطوفوا بِهِ) فَفِي هَذَا الحَدِيث إِن من أخَّر طواف الْإِفَاضَة حَتَّى أَمْسَى عَاد محرما كَمَا كَانَ قبل رمي الْجَمْرَة، يحرم عَلَيْهِ لبس الْمخيط وَغَيره من مُحرمَات الْإِحْرَام. قلت: حَدِيث أم سَلمَة هَذَا شَاذ، أَجمعُوا على ترك الْعَمَل بِهِ. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَهَذَا حكم لَا أعلم أحدا قَالَ بِهِ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَنْسُوخ وَالْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ لَا ينْسَخ، فَهُوَ يدل على وجود نَاسخ وَإِن لم يظْهر، وَالله أعلم.
3371 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَر بنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأعْرَجِ قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأفَضْنا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فأرَادَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أهْلِهِ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أنَّهَا حائِضٌ قَالَ حَابَسَتُنا هِي قالُوا يَا رَسولَ الله أفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ اخْرُجُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأفضنا يَوْم النَّحْر) ، لِأَن مَعْنَاهُ: طفنا طواف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: جَعْفَر بن ربيعَة ابْن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي. الرَّابِع: الْأَعْرَج واسْمه عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ، عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مصريون والاثنان مدنيان. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور(10/69)
بنسبته إِلَى جده، وَاللَّيْث مَذْكُور مُجَردا وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز مَذْكُور بلقبه.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فأفضنا) ، من الْإِفَاضَة أَي: طفنا طواف الْإِفَاضَة. قَوْله: (صَفِيَّة) هِيَ بنت حييّ بن أَخطب أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا) أَي: من صَفِيَّة: (مَا يُرِيد الرجل من أَهله) أَي: من زَوجته، وَهَذَا كِنَايَة عَن إِرَادَة الْجِمَاع، وَهَذَا من محَاسِن مُرَاعَاة عَائِشَة طرق كَلَامهَا حَيْثُ لم تصرح باسم من أَسمَاء الْجِمَاع. قَوْله: (حابستنا هِيَ) جملَة إسمية فَقَوله: (هِيَ) مُبْتَدأ، و (حابستنا) خَبره، وَلَا يجوز الْعَكْس إلاَّ أَن يُقَال: الْهمزَة مقدرَة قبل: حابستنا، فَيجوز الْأَمر أَن حِينَئِذٍ لِأَن كلمة: هِيَ، وَإِن كَانَت مضمرة لَكِنَّهَا ظَاهِرَة. قَوْله: (قَالَ: اخْرُجُوا) أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمع مِنْهُم أَنهم قَالُوا أفاضت صَفِيَّة يَوْم النَّحْر: أخرجُوا، وَكَانَ ظن أَنَّهَا لم تطف طواف الزِّيَارَة فتحبسهم إِلَى أَن تطهر فَتَطُوف طواف الزِّيَارَة، فَلَمَّا قَالُوا: إِنَّهَا أفاضت يَوْم النَّحْر قَالَ لَهُم: أخرجُوا يَعْنِي: إرحلوا، وَرخّص لَهَا فِي ترك طواف الْوَدَاع لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِب على قَول أَكثر الْعلمَاء إلاَّ خلافًا شاذا يرْوى عَن بعض السّلف أَنَّهَا لَا تنفر حَتَّى تودع، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : إِذا ترك طواف الْوَدَاع لزمَه دم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ أَكثر الْعلمَاء، فَهُوَ وَاجِب. وَقَالَ مَالك وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر: هُوَ سنة لَا شَيْء فِي تَركه، وَعَن مُجَاهِد رِوَايَتَانِ كالمذهبين.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ، قَوْله: (حابستنا هِيَ) دَلِيل أَن الكري يحبس على الَّتِي حَاضَت وَلم تطف طواف الْإِفَاضَة حَتَّى تطهر، وَهُوَ قَول مَالك، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحبس عَلَيْهَا كري، ولتكر حملهَا أَو يحمل مَكَانهَا غَيرهَا، وَهَذَا كُله فِي الْأَمْن وَوُجُود ذِي الْمحرم، وَأما مَعَ الْخَوْف أَو عدم ذِي الْمحرم فَلَا تحبس بِاتِّفَاق، إِذْ لَا يُمكن أَن يسير بهَا وَحدهَا، وَيفْسخ الْكرَى وَلَا يحبس عَلَيْهَا الرّفْقَة. وَمن فَوَائده: أَن فِي قَوْلهَا: (فَأَرَادَ مِنْهَا مَا يُرِيد الرجل من أَهله) : أَنه لَا بَأْس بالإعلام بذلك، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوه أَن يَغْشَاهَا حَيْثُ يُسمع أَو يُرى.
ويُذْكَرُ عَنِ القَاسِمِ وَعُرْوَةَ والأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أفاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَى أَن أَبَا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن لم ينْفَرد عَن عَائِشَة فِي رِوَايَته عَنْهَا بذلك، أما طَرِيق الْقَاسِم فقد أخرجه مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قَالَ: حَدثنَا أَفْلح عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: كُنَّا نتخوف أَن تحيض صَفِيَّة قبل أَن تفيض. قَالَت: فجاءنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أحابستنا صَفِيَّة؟ فَقُلْنَا: قد أفاضت قَالَ: فَلَا إِذن) . وَأما طَرِيق عُرْوَة فَأخْرجهُ البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن صَفِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حَاضَت بَعْدَمَا أفاضت. . الحَدِيث على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة وَعُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: حَاضَت صَفِيَّة ... الحَدِيث، وَفِي آخِره، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فلتنفروا. وَأما طَرِيق الْأسود فَأخْرجهُ البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي: بَاب الإدلاج من المحصب، بِلَفْظ: حَاضَت صَفِيَّة ... الحَدِيث، وَفِيه: أطافت يَوْم النَّحْر؟ قيل: نعم قَالَ: فانفري. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من تسع طرق وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الْحيض من حَدِيث عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن صَفِيَّة بنت حييّ قد حَاضَت. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّهَا تحبسنا إِن لم تكن طافت معكن؟ قَالُوا: بلَى. قَالَ فاخرجي) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
031 - (بابٌ إذَا رَمَى بَعْدَ مَا أمْسَى أوْ حَلَقَ قَبْلَ أنْ يَذْبَحَ ناسِيا أوْ جَاهِلاً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا رمى الْحَاج جَمْرَة الْعقبَة بَعْدَمَا أَمْسَى، أَي: بعد مَا دخل فِي الْمسَاء يَعْنِي إِذا رَمَاهَا لَيْلًا، وَيُطلق الْمسَاء على مَا بعد الزَّوَال أَيْضا على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَو حلق يَوْم النَّحْر قبل أَن يذبح هَدْيه. قَوْله: (نَاسِيا) ، نصب على الْحَال، وأوجاهلاً) كَذَلِك عطف عَلَيْهِ، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا حرج عَلَيْهِ، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِمَا ذكر فِي الحَدِيث أَو سكت عَنهُ إِشَارَة إِلَى أَن فِيهِ خلافًا. وَهَذِه التَّرْجَمَة تشْتَمل على حكمين: أَحدهمَا: رمي جَمْرَة الْعقبَة بِاللَّيْلِ،(10/70)
وَالْآخر: الْحلق قبل الذّبْح، وكل مِنْهُمَا إِمَّا نَاسِيا أَو جَاهِلا يحكمه. أما الأول: فقد أجمع الْعلمَاء أَن من رمى جَمْرَة الْعقبَة من طُلُوع الشَّمْس إِلَى الزَّوَال يَوْم النَّحْر فقد أصَاب سنتها ووقتها الْمُخْتَار. وَأَجْمعُوا أَن من رَمَاهَا يَوْم النَّحْر قبل المغيب فقد رَمَاهَا فِي وَقت لَهَا، وَإِن لم يكن ذَلِك مستحسنا لَهُ، وَاخْتلفُوا فِيمَن أخر رميها حَتَّى غربت الشَّمْس من يَوْم النَّحْر، فَذكر ابْن الْقَاسِم أَن مَالِكًا كَانَ مرّة يَقُول: عَلَيْهِ دم، وَمرَّة لَا يرى عَلَيْهِ شَيْئا، وَقَالَ الثَّوْريّ: من أَخّرهَا عَامِدًا إِلَى اللَّيْل فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ: يرميها من الْغَد وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقد أَسَاءَ، سَوَاء تَركهَا عَامِدًا أَو نَاسِيا لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِن أخر جَمْرَة الْعقبَة إِلَى اللَّيْل لَا يرميها حَتَّى تَزُول الشَّمْس من الْغَد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَإِسْحَاق. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمُحَمّد وَابْن الْمُنْذر وَيَعْقُوب: يَرْمِي لَيْلًا، لقَوْله: وَلَا حرج، وَلأبي حنيفَة: أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: من فَاتَهُ الرَّمْي حَتَّى تغيب الشَّمْس فَلَا يرم حَتَّى تَزُول الشَّمْس من الْغَد، وَإِذا رمى جَمْرَة الْعقبَة قبل طُلُوع الْفجْر يَوْم النَّحْر فَأكْثر الْعلمَاء على أَنه لَا يجزىء وَعَلِيهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأبي ثَوْر وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن أبي مليكَة وَعِكْرِمَة بن خَالِد وَجَمَاعَة المكيين: يجْزِيه وَلَا إِعَادَة على من فعله وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه: إِذا كَانَ الرَّمْي بعد نصف اللَّيْل جَازَ، فَإِن رَمَاهَا بعد طُلُوع الْفجْر وَقبل طُلُوع الشَّمْس فَجَائِز عِنْد الْأَكْثَرين، مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر. وَقَالَ مُجَاهِد وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ: لَا يرميها إلاَّ بعد طُلُوع الشَّمْس وَأما الثَّانِي: فَإِن من حلق قبل أَن يذبح فجمهور الْعلمَاء على أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَه عَطاء وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَالْحسن وَقَتَادَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَمُحَمّد بن جرير. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: من حلق قبل أَن يذبح اهراق دَمًا. وَقَالَ أَبُو الشعْثَاء: عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ دم وَإِن كَانَ قَارنا فدمان. وَقَالَ زفر: على الْقَارِن إِذا حلق قبل الذّبْح ثَلَاثَة دِمَاء: دم للقران وَدَمَانِ للحلق. قبل النَّحْر. وَاخْتلفُوا فِيمَن حلق قبل أَن يَرْمِي، فَإِن مَالِكًا وَأَصْحَابه اخْتلفُوا فِي إِيجَاب الْفِدْيَة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه: من قدم شَيْئا أَو أَخّرهُ فَعَلَيهِ دم، وَلَا يَصح ذَاك عَنهُ، وَعَن إِبْرَاهِيم وَجَابِر بن زيد مثل قَول مَالك فِي إِيجَاب الْفِدْيَة على من حلق قبل أَن يَرْمِي، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين، وَقَالَ الشَّافِعِي، وَأَبُو ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد والطبري: لَا شَيْء على من حلق قبل أَن يَرْمِي، وَلَا على من قدم شَيْئا أَو أَخّرهُ سَاهِيا مِمَّا يفعل يَوْم النَّحْر. وَعَن الْحسن وطاووس: لَا شَيْء على من حلق قبل أَن يَرْمِي، مثل قَول الشَّافِعِي وَمن تَابعه، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: من قدم نسكا قبل نسك فَلَا حرج، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سعيد بن جُبَير وطاووس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن الشَّافِعِي: من حلق قبل أَن يَرْمِي أَن عَلَيْهِ دَمًا، وَزعم أَن ذَلِك حفظه عَن الشَّافِعِي وَهُوَ خطأ عَن الشَّافِعِي، وَالْمَشْهُور من مذْهبه أَنه: لَا شَيْء على من قدم أَو أخر شَيْئا من أَعمال الْحَج كلهَا إِذا كَانَ سَاهِيا.
4371 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طَاوُسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ والْحَلْقَ والرَّمْيِ والتَّقْدِيمِ والتَّأخِيرِ فَقَالَ لَا حَرَجَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، والْحَدِيث كَذَلِك فيهمَا. فَإِن قلت: قيد فِي التَّرْجَمَة كَونه نَاسِيا أَو جَاهِلا، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث ذَلِك؟ قلت: جَاءَ فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو ذَلِك، وَهُوَ الَّذِي ذكره فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ بقوله: (فَقَالَ رجل: لم أشعر فحلقت قبل أَن أذبح، قَالَ: إذبح، وَلَا حرج، فجَاء آخر فَقَالَ: لم أشعر فنحرت قبل أَن أرمي. قَالَ: إرم وَلَا حرج) الحَدِيث، فَإِن قَوْله: لم أشعر، يَقْتَضِي عدم الشُّعُور، وَهُوَ أَعم من أَن يكون بِجَهْل أَو بنسيان، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِك لِأَن أصل الحَدِيث وَاحِد. وَإِن كَانَ الْمخْرج مُتَعَددًا.
وَرِجَال الحَدِيث الْمَذْكُور قد ذكرُوا غير مرّة، ووهيب بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله بن طَاوُوس.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز ابْن أَسد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن الْمُعَلَّى بن أَسد كِلَاهُمَا عَن وهيب بِهِ. قَوْله: (والتقديم) أَي: تَقْدِيم بعض هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة على بعض وتأخيرها عَنهُ. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حرج) أَي: لَا إِثْم(10/71)
فِيهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ مَا ملخصه: إِن هَذَا القَوْل لَهُ احْتِمَالَانِ أَحدهمَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاحَ ذَلِك لَهُ توسعة وترفيها فِي حَقه، فَيكون للْحَاج أَن يقدم مَا شَاءَ وَيُؤَخر مَا شَاءَ. وَالْآخر: أَنه يحْتَمل أَن يكون قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا حرج) مَعْنَاهُ: لَا إِثْم عَلَيْكُم فِيمَا فعلتموه من هَذَا لأنكم فعلتموه على الْجَهْل مِنْكُم لَا على الْقَصْد مِنْكُم خلاف السّنة، وَكَانَت السّنة خلاف هَذَا، وَالْحكم على الِاحْتِمَال الثَّانِي وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسقط عَنْهُم الْحَرج وأعذرهم لأجل النسْيَان وَعدم الْعلم، لَا أَنه أَبَاحَ لَهُم ذَاك حَتَّى إِن لَهُم أَن يَفْعَلُوا ذَلِك فِي الْعمد، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ بَين الْجَمْرَتَيْن عَن رجل حلق قبل أَن يَرْمِي. قَالَ: لَا حرج، وَعَن رجل ذبح قبل أَن يَرْمِي، قَالَ: لَا حرج، ثمَّ قَالَ: عباد الله وضع الله عز وَجل الضّيق والحرج، وتعلموا مَنَاسِككُم فَإِنَّهَا من دينكُمْ) فذل ذَلِك على أَن الْحَرج الَّذِي رَفعه الله عز وَجل عَنْهُم إِنَّمَا كَانَ لجهلهم بِأَمْر الْمَنَاسِك لَا لغير ذَلِك، وَذَلِكَ لِأَن السَّائِلين كَانُوا أُنَاسًا أعرابا لَا علم لَهُم بالمناسك، فأجابهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: لَا حرج، يَعْنِي فِيمَا فَعلْتُمْ بِالْجَهْلِ. لَا أَنه أَبَاحَ لَهُم ذَلِك فِيمَا بعد. وَنفي الْحَرج لَا يسْتَلْزم نفي وجوب الْقَضَاء أَو الْفِدْيَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن فعل ذَلِك فَعَلَيهِ دم. وَالله أعلم.
وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن وجوب الْفِدْيَة يحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَلَو كَانَ وَاجِبا لبينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ وَقت الْحَاجة فَلَا يجوز تَأْخِيره. قلت: إِلَّا ثمَّ دَلِيل أقوى من قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 691) . وَبِه احْتج النَّخعِيّ؟ فَقَالَ: فَمن حلق قبل الذّبْح اهراق دَمًا، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَنهُ بِسَنَد صَحِيح، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: أُجِيب بِأَن المُرَاد ببلوغ مَحَله وُصُوله إِلَى الْموضع الَّذِي يحل ذبحه فِيهِ فقد حصل، وَإِنَّمَا يتم المُرَاد أَن لَو قَالَ: وَلَا تحلقوا حَتَّى تنحروا. انْتهى. قلت: لَيْسَ المُرَاد الْكُلِّي مُجَرّد الْبلُوغ إِلَى الْمحل الَّذِي يذبح فِيهِ، بل الْمَقْصد الْكُلِّي الذّبْح، وَلِهَذَا لَو بلغ وَلم يذبح يجب عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتج الطَّحَاوِيّ أَيْضا بقول ابْن عَبَّاس من قدم شَيْئا من نُسكه أَو أَخّرهُ فليهرق لذَلِك دَمًا. قَالَ: وَهُوَ أحد من روى أَن لَا حرج، فَدلَّ على أَن المُرَاد بِنَفْي الْحَرج نفي الْإِثْم فَقَط. أُجِيب: بِأَن الطَّرِيق بذلك إِلَى ابْن عَبَّاس فِيهَا ضعف، فَإِن ابْن أبي شيبَة أخرجهَا وفيهَا إِبْرَاهِيم بن مهَاجر، وَفِيه مقَال. انْتهى. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن إِبْرَاهِيم ابْن مهَاجر روى لَهُ مُسلم، وَفِي (الْكَمَال) روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ البُخَارِيّ، وَرُوِيَ عَنهُ مثل الثَّوْريّ وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَالْأَعْمَش وَآخَرُونَ، فَلَا اعْتِبَار لذكر ابْن الْجَوْزِيّ إِيَّاه فِي الضُّعَفَاء، وَلَئِن سلمنَا مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِل فِي هَذَا الطَّرِيق فقد رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من طَرِيق آخر لَيْسَ فِيهِ كَلَام، فَقَالَ: حَدثنَا نصر بن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا الخصيب، قَالَ: حَدثنَا وهيب عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مثله، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
5371 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْئَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنىً فيَقُولْ لاَ حَرَجَ فسَألَهُ رَجُلٌ فَقَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحْ ولاَ حَرَجَ وَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أمْسَيْتُ فَقَالَ لَا حَرَجَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن يزِيد بن زُرَيْع أبي مُعَاوِيَة الْبَصْرِيّ عَن خَالِد بن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس إِلَى آخِره. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث؟ قلت: فِي قَوْله: (بعد مَا أمسيت) أَي: بعد مَا دخلت فِي الْمسَاء، وَالْمرَاد بِهِ مَا بعد الزَّوَال، لِأَنَّهُ لُغَة الْعَرَب، يسمون مَا بعده مسَاء وعشاء ورواحا، وروى مَالك عَن ربيعَة عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: مَا أدْركْت النَّاس إلاَّ وهم يصلونَ الظّهْر بعشي، وَإِنَّمَا يُرِيد تَأْخِيرهَا عَن الْوَقْت الَّذِي فِي شدَّة الْحر إِلَى وَقت الْإِبْرَاد الَّذِي أَمر بِهِ الشَّارِع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.(10/72)
(بابُ الفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الجَمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْفتيا على الدَّابَّة عِنْد جَمْرَة الْعقبَة، يُقَال: استفتيت الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة فأفتاني، قَالَ الْجَوْهَرِي: والإسم الْفتيا والفتوة، وَقد ذكر البُخَارِيّ بَابَيْنِ فِي كتاب الْعلم أَحدهمَا: بَاب الْفتيا وَهُوَ وَاقِف على ظهر الدَّابَّة أَو غَيرهَا، وَأورد فِيهِ حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. وَالْآخر: بَاب السُّؤَال والفتيا عِنْد رمي الْجمار، وَأورد فِيهِ أَيْضا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَأورد هَهُنَا أَيْضا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي الْبَابَيْنِ، وَهَذَا مِنْهُ نَادِر غَرِيب.
6371 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عِيسَى بنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وأنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فجَعَلُوا يَسْألُونهُ فَقَالَ رجُلٌ لَمْ أشْعُرْ فحَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ ولاَ حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ قَالَ ارمِ ولاَ حَرَجَ فَما سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عنْ شَيْءٍ قُدِّمَ ولاَ أُخِّرَ إلاَّ قالَ افْعَلْ ولاَ حَرَجَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وقف فِي حجَّة الْوَدَاع) ، لِأَن مَعْنَاهُ: وقف على نَاقَته، وَقد صرح بِهِ عبد الله بن عَمْرو فِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي هَذَا الْبَاب لِأَن البُخَارِيّ روى حَدِيثه فِي هَذَا الْبَاب بِثَلَاثَة أوجه الأول: وقف فِي حجَّة الْوَدَاع. وَالثَّانِي: أَنه شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يخْطب. وَالثَّالِث: وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته. وَقَوله: (فِي التَّرْجَمَة على الدَّابَّة) يتَنَاوَل النَّاقة، وَأما دلَالَته على أَنه كَانَ عِنْد الْجَمْرَة فَمن حَدِيث عبد الله بن عَمْرو أَيْضا الَّذِي أخرجه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب السُّؤَال والفتيا عِنْد الْجمار، عَن عِيسَى بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عمر وَقَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْجَمْرَة وَهُوَ يسْأَل ... الحَدِيث، وَهُوَ وَاحِد والراوي وَاحِد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، فالثلاثة الأول ذكرُوا غير مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعِيسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة مائَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ عبد الله بن يُوسُف فَإِنَّهُ تنيسي وَأَصله من دمشق وَأَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الْفتيا وَهُوَ على ظهر الدَّابَّة فِي كتاب الْعلم أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة. وَقد ذكرنَا أَيْضا تعدد مَوْضِعه لكل مِنْهُم، وتكلمنا على مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء هُنَاكَ، ونتكلم أَيْضا على بعض مَا فاتنا هُنَاكَ.
فَقَوله: (مَالك عَن ابْن شهَاب) كَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) وَعند النَّسَائِيّ من طَرِيق يحيى الْقطَّان: عَن مَالك حَدثنِي الزُّهْرِيّ. قَوْله: (عَن عِيسَى) فِي رواي صَالح بن كيسَان: حَدثنِي عِيسَى، قَوْله: (عَن عبد الله) ، فِي رِوَايَة صَالح: أَنه سمع عبد الله، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج، وَهِي الثَّانِيَة: أَن عبد الله حَدثهُ. قَوْله: (وقف) فِي رِوَايَة ابْن جرير: أَنه شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه وقف، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الحَدِيث لَا يَقْتَضِي رفع الْحَرج فِي غير الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين الْمَنْصُوص عَلَيْهِمَا فِي رِوَايَة مَالك، لِأَنَّهُ صرح جَوَابا للسؤال، فَلَا يدْخل فِيهِ غَيره. انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ ذهل عَن قَوْله: فِي بَقِيَّة الحَدِيث (فَمَا سُئِلَ عَن شَيْء وَقدم وَلَا أخر إِلَّا قَالَ: إفعل وَلَا حرج) ، فَإِن قلت: يُمكن أَنه حمل هَذَا الْمُبْهم على مَا ذكر؟ قلت: يرد ذَلِك رِوَايَة ابْن جريج وَأَشْبَاه ذَلِك، كَمَا يَجِيء فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الحَدِيث إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
318 - (حَدثنَا سعيد بن يحيى بن سعيد قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا ابْن جريج قَالَ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن عِيسَى بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رَضِي الله عَنهُ حَدثهُ أَنه شهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب يَوْم النَّحْر فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ كنت أَحسب أَن كَذَا قبل كَذَا ثمَّ قَامَ آخر فَقَالَ كنت أَحسب أَن كَذَا قبل كَذَا حلقت قبل أَن أنحر نحرت قبل أَن أرمي وَأَشْبَاه(10/73)
ذَلِك فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - افْعَل وَلَا حرج لَهُنَّ كُلهنَّ فَمَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَن شَيْء إِلَّا قَالَ افْعَل وَلَا حرج) مطابقته التَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " يخْطب يَوْم النَّحْر " لِأَن فِي رِوَايَة صَالح بن كيسَان وَمعمر على رَاحِلَته (فَإِن قلت) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ إِن صَالح بن كيسَان تفرد بقوله " على رَاحِلَته " (قلت) لَيْسَ كَمَا قَالَ فقد ذكر ذَلِك يُونُس عِنْد مُسلم وَمعمر عِنْد أَحْمد كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك بقوله " تَابعه معمر عَن الزُّهْرِيّ " أَي فِي قَوْله " وقف على رَاحِلَته " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس. الثَّانِي أَبوهُ يحيى بن سعيد الْمَذْكُور. الثَّالِث عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عِيسَى بن طَلْحَة ابْن عبيد الله. السَّادِس عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه بغدادي وَأَبوهُ كُوفِي وَابْن جريج مكي وَالزهْرِيّ وَعِيسَى مدنيان وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره فِي كتاب الْعلم فِي بَاب الْفتيا وَهُوَ على ظهر الدَّابَّة. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " شهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي حَضَره قَوْله " يخْطب يَوْم النَّحْر " جملَة فعلية وَقعت حَالا أَي يخْطب على رَاحِلَته كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة صَالح بن كيسَان وَمعمر بن رَاشد قَوْله " فَقَامَ إِلَيْهِ رجل " لم يدر اسْمه قَالَ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله اخْتلفت أَلْفَاظ حَدِيث عبد الله بن عمر وَفِي مَكَان هَذَا السُّؤَال وَوَقفه فِي الصَّحِيحَيْنِ " وقف فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى للنَّاس يسألونه " وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ " رَأَيْته عِنْد الْجَمْرَة وَهُوَ يسْأَل " وَفِي رِوَايَة لَهُ " وقف على نَاقَته " وَعند مُسلم " أَتَاهُ رجل يَوْم النَّحْر وَهُوَ وَاقِف عِنْد الْجَمْرَة " وَفِي رِوَايَة لَهُ " رَأَيْته على نَاقَته بمنى " وَفِي رِوَايَة لَهُ " بَيْنَمَا هُوَ يخْطب يَوْم النَّحْر " وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه قَالَ لنا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي مَا وجدت يخْطب إِلَّا فِي حَدِيث ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ حسن انْتهى وَجه الْجمع بَينهمَا أَنه لَا اخْتِلَاف فِي الْمَكَان فَقَوله " بمنى " لَا يُنَافِيهِ قَوْله " عِنْد الْجَمْرَة " لِأَنَّهَا أول منى وَقَوله " على نَاقَته " مَعَ قَوْله " يخْطب " لَا مُنَافَاة أَيْضا بَينهمَا إِذْ قد يكون خطب على رَاحِلَته وَقَالَ الدَّاودِيّ حِكَايَة عَن مَالك معنى يخْطب أَي وقف للنَّاس يعلمهُمْ لَا أَنَّهَا من خطب الْحَج قَالَ شَيخنَا وَيحْتَمل أَنه كَانَ فِي خطْبَة يَوْم النَّحْر وَهِي الْخطْبَة الثَّالِثَة من خطب الْحَج وَأما قَوْله " يَوْم النَّحْر " فَهُوَ معَارض لرِوَايَة البُخَارِيّ لحَدِيث ابْن عَبَّاس " رميت بَعْدَمَا أمسيت " فَهَذَا يدل على أَن السُّؤَال كَانَ بعد الْمسَاء إِمَّا فِي اللَّيْل وَإِمَّا فِي الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ أَو مَا بعده انْتهى (قلت) لَا مُعَارضَة لأَنا قد ذكرنَا أَن الْمسَاء يُطلق على مَا يُطلق عَلَيْهِ العشى والرواح والعشى يُطلق على مَا بعد الزَّوَال وَذكر ابْن حزم فِي حجَّة الْوَدَاع أَن هَذِه الأسئلة كَانَت بعد عوده إِلَى منى من إفَاضَة يَوْم النَّحْر وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ يحْتَمل أَنَّهَا تَكَرَّرت قبله وَبعده وَفِي اللَّيْل وَالله أعلم وَقَالَ القَاضِي عِيَاض يحْتَمل أَن ذَلِك فِي موضِعين أَحدهمَا وقف على رَاحِلَته عِنْد الْجَمْرَة وَلم يقل فِي هَذَا الْوَجْه أَنه خطب وَإِنَّمَا فِيهِ أَنه وقف وَسُئِلَ وَالثَّانِي بعد صَلَاة الظّهْر يَوْم النَّحْر وقف للخطبة فَخَطب وَهِي إِحْدَى خطب الْحَج الْمَشْهُورَة يعلمهُمْ فِيهَا مَا بَين أَيْديهم من الْمَنَاسِك وَقَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا الِاحْتِمَال هُوَ الصَّوَاب قَوْله " فَقَالَ كنت أَحسب أَن كَذَا قبل كَذَا " أَي كنت أَظن مثلا أَن النَّحْر قبل الرَّمْي وَله نَظَائِر أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله " وَأَشْبَاه ذَلِك " أَي من الْأَشْيَاء الَّتِي كَانَ يحسبها على خلاف الأَصْل وَوَقع ذَلِك بعبارات مُخْتَلفَة فَفِي رِوَايَة يُونُس عِنْد مُسلم " لم أشعر أَن الرَّمْي قبل الْحلق فنحرت قبل أَن أرمي وَقَالَ آخر لم أشعر أَن النَّحْر قبل الْحلق فحلقت قبل أَن أنحر " وَفِي رِوَايَة ابْن جريج " كنت أَحسب أَن كَذَا قبل كَذَا " وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة عَن الزُّهْرِيّ عِنْد مُسلم " حلقت قبل أَن أرمي وَقَالَ آخر أفضت إِلَى الْبَيْت قبل أَن أرمي " وَفِي حَدِيث معمر عِنْد أَحْمد زِيَادَة الْحلق قبل الرَّمْي وَأَيْضًا فحاصل مَا فِي حَدِيث عبد الله بن عمر وَالسُّؤَال عَن أَرْبَعَة أَشْيَاء الْحلق قبل الذّبْح وَالْحلق قبل الرَّمْي والنحر قبل الرَّمْي والإفاضة قبل الرَّمْي والأولان فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا السُّؤَال عَن الْحلق قبل الرَّمْي وَكَذَا فِي حَدِيث جَابر وَفِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد(10/74)
الطَّحَاوِيّ السُّؤَال عَن منى والإفاضة مَعًا قبل الْحلق وَفِي حَدِيث جَابر الَّذِي علقه البُخَارِيّ فِيمَا مضى السُّؤَال عَن السَّعْي قبل الطّواف قَوْله " لَهُنَّ كُلهنَّ " اللَّام فِيهِ إِمَّا مُتَعَلق يُقَال أَي قَالَ لأجل هَذِه الْأَفْعَال كُلهنَّ افْعَل وَلَا حرج أَو مُتَعَلق بِمَحْذُوف نَحْو قَالَ يَوْم النَّحْر لَهُنَّ أَو مُتَعَلق بِلَا حرج أَي لَا حرج لأجلهن عَلَيْك قَوْله " عَن شَيْء " أَي من الْأُمُور الَّتِي هِيَ وظائف يَوْم النَّحْر.
8371 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا أبِي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني عِيسَى بنُ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ وقَفَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى ناقَتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ..
هَذَا طَرِيق ثَالِث للْحَدِيث الْمَذْكُور عَن إِسْحَاق، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: إِسْحَاق مُجَردا غير مَنْسُوب، وَنسبه أَبُو عَليّ بن السكن. فَقَالَ: إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب، لِأَن أَبَا نعيم يروي من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن شيرويه عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب، وَابْن شيرويه يروي عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه بِسَنَدِهِ، وَلم يعلم لَهُ رِوَايَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن سعيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، روى عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد، يروي عَن صَالح بن كيسَان مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَفِيه: من اللطائف: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب، وَرِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين، يروي بَعضهم عَن بعض، وهم صاحل وَالزهْرِيّ وَعِيسَى. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ صَالح بعد الْأَرْبَعين وَالْمِائَة، وَكَانَ تابعيا، رأى عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته) قَالَ ابْن عبد الْبر: فِي وقُوف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على نَاقَته مَعَ مَا رُوِيَ عَن جَابر وَغَيره دلَالَة لما استحبه حماعة مِنْهُم الشَّافِعِي وَمَالك قَالُوا: رمى جَمْرَة الْعقبَة رَاكِبًا، قَالَ مَالك: وَفِي غير يَوْم النَّحْر مَاشِيا، وَعَن أبي حنيفَة: يرميها كلهَا مَاشِيا أَو رَاكِبًا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رمى الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا. وَقَالَ ابْن حزم: يرميها كلهَا رَاكِبًا. قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مصححا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِنَّه كَانَ إِذا رمى الْجمار مَشى إِلَيْهَا ذَاهِبًا وراجعا، ويخبر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم. قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: يركب يَوْم النَّحْر وَيَمْشي فِي الْأَيَّام الَّتِي بعد يَوْم النَّحْر. انْتهى.
وَقد أجمع الْعلمَاء على جَوَاز الْأَمريْنِ مَعًا وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل من ذَلِك، فَذهب أَحْمد إِسْحَاق إِلَى اسْتِحْبَاب الرَّمْي مَاشِيا، وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى جَابر بن عبد الله أَنه كَانَ يكره أَن يركب إِلَى شَيْء من الْجمار إلاَّ من ضَرُورَة، وَذهب مَالك إِلَى اسْتِحْبَاب الْمَشْي فِي رمي أَيَّام التَّشْرِيق، وَأما جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر فيرميها على حسب حَاله كَيفَ كَانَ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَيْسَ من سنة الرَّمْي الرّكُوب لَهُ وَلَا التَّرَجُّل، وَلَكِن يَرْمِي الرجل على هَيئته الَّتِي يكون حِينَئِذٍ عَلَيْهَا من ركُوب أَو مشي، وَلَا ينزل إِن كَانَ رَاكِبًا لرمي، وَلَا يركب إِن كَانَ مَاشِيا، وَأما الْأَيَّام بعْدهَا فَيَرْمِي مَاشِيا لِأَن النَّاس نازلون مَنَازِلهمْ بمنى فيمشون للرمي وَلَا يركبون، لِأَنَّهُ خُرُوج عَن التَّوَاضُع حِينَئِذٍ، هَذَا مَذْهَب مَالك. انْتهى وَاخْتَارَ بَعضهم الرّكُوب فِي الْيَوْم الأول والأخير وَالْمَشْي فِيمَا بَينهمَا، وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: رمي الْجمار ركُوب يَوْمَيْنِ ومشي يَوْمَيْنِ، وَحمله الْبَيْهَقِيّ على ركُوب الْيَوْم الأول والأخير، وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الشَّافِعِي وموافقيه: أَنه يسْتَحبّ لمن وصل منى رَاكِبًا أَن يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا، وَلَو رَمَاهَا مَاشِيا جَازَ، وَأما من وَصلهَا مَاشِيا فيرميها مَاشِيا، قَالَ: وَهَذَا فِي يَوْم النَّحْر، وَأما اليومان الْأَوَّلَانِ من أَيَّام التَّشْرِيق فَالسنة أَن يَرْمِي فيهمَا جَمِيعًا الجمرات مَاشِيا، وَفِي الْيَوْم الثَّالِث يَرْمِي رَاكِبًا. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: كل رمي بعده رمي كرمي الْجَمْرَتَيْن الأولى وَالْوُسْطَى فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة يَرْمِي مَاشِيا، وَإِن لم يكن بعده رمي كرمي جَمْرَة الْعقبَة، والجمرة الْأَخِيرَة فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة، فَيَرْمِي رَاكِبًا. هَذَا هُوَ الْفَضِيلَة، وَأما الْجَوَاز فثابت كَيفَ مَا كَانَ.(10/75)
تابَعَهُ مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع صَالح بن كيسَان معمر بن رَاشد فِي رِوَايَة عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرج مُسلم هَذِه الْمُتَابَعَة عَن ابْن أبي عمر وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته بمنى فجَاء رجل. .) الحَدِيث.
231 - (بابُ الْخطْبَةِ أيَّامَ مِنىً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْخطْبَة أَيَّام منى، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الرّد على من زعم أَن يَوْم النَّحْر لَا خطْبَة فِيهِ للْحَاج، وَأَن الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث من قبيل الْوَصَايَا الْعَامَّة لَا على أَنه من شَعَائِر الْحَج، فَأَرَادَ البُخَارِيّ أَن يبين أَن الرَّاوِي قد سَمَّاهَا خطْبَة كَمَا سمي الَّتِي وَقعت فِي عَرَفَات خطْبَة، وَقد اتَّفقُوا على مَشْرُوعِيَّة الْخطْبَة بِعَرَفَات، فَكَأَنَّهُ ألحق الْمُخْتَلف فِيهِ بالمتفق عَلَيْهِ. انْتهى. قلت: أَرَادَ هَذَا الْقَائِل بِهَذَا الرَّد على الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْخطْبَة الْمَذْكُورَة لَيست من متعلقات الْحَج لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهَا شَيْئا من أُمُور الْحَج، وَإِنَّمَا ذكر فِيهَا وَصَايَا عَامَّة، وَلم ينْقل أحد أَنه علمهمْ شَيْئا من الَّذِي يتَعَلَّق بِيَوْم النَّحْر، فَعرفنَا أَنَّهَا لم تقصد لأجل الْحَج. انْتهى. قلت: رد هَذَا الْقَائِل عَن الطَّحَاوِيّ أَو على غَيره مِمَّن قَالَ مثل مَا قَالَ الطَّحَاوِيّ مَرْدُود عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يذكر شَيْئا أصلا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور من أُمُور الْحَج، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك من أجل تَبْلِيغ مَا ذكره لِكَثْرَة الْجمع الَّذِي الَّذِي اجْتمع من أقاصي الدُّنْيَا، هَكَذَا قَالَ ابْن الْقصار أَيْضا، ثمَّ قَالَ: فَظن الَّذِي رَآهُ أَنه خطب، وَقَالَ بَعضهم، نصْرَة للقائل الْمَذْكُور: وَأجِيب بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نبه فِي الْخطْبَة الْمَذْكُورَة على تَعْظِيم يَوْم النَّحْر، وعَلى تَعْظِيم شهر ذِي الْحجَّة، وعَلى تَعْظِيم الْبَلَد الْحَرَام، وَقد جزم الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بتسميتها خطْبَة فَلَا يلْتَفت إِلَى تَأْوِيل غَيرهم. انْتهى. قلت: لَيْت شعري مَا وَجه هَذَا الَّذِي ذكره أَن يكون جَوَابا؟ وتعظيم هَذِه الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَيْسَ لَهُ دخل فِي أُمُور الْحَج، وتعظيم هَذِه الْأَشْيَاء غير مُقَيّد بأوقات الْحَج، بل يجب تعظيمها مُطلقًا. وَقَوله: وَقد جزم الصَّحَابَة ... إِلَى آخِره، دَعْوَى بِلَا دَلِيل. على أَنا نقُول: إِن تسميتهم للتبليغ الْمَذْكُور خطْبَة لَيست على حَقِيقَة الْخطْبَة الْمَعْهُودَة الْمُشْتَملَة على أَشْيَاء شَتَّى، وَقَالَ بَعضهم فِي الرَّد على الطَّحَاوِيّ فِي قَوْله: وَلم ينْقل أحد أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، علمهمْ شَيْئا من أُمُور الْحَج، بقوله: وَأما قَول الطَّحَاوِيّ: وَلم ينْقل أحد ... إِلَى آخِره، لَا يَنْفِي وُقُوع ذَلِك أَو شَيْء مِنْهُ فِي نفس الْأَمر، بل قد ثَبت فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه شهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب يَوْم النَّحْر وَذكر فِيهِ السُّؤَال عَن تَقْدِيم بعض الْمَنَاسِك على بعض، فَكيف سَاغَ للطحاوي هَذَا النَّفْي الْمُطلق مَعَ رِوَايَته هُوَ حَدِيث عبد الله بن عَمْرو؟ انْتهى. قلت: كَيفَ سَاغَ لهَذَا الْقَائِل أَن يحط على الطَّحَاوِيّ بفهمه كَلَامه على غير أَصله؟ فَإِنَّهُ لم ينف مُطلقًا، وَإِنَّمَا مُرَاده نفي دلَالَة حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب على أَنه خطْبَة وَقعت يَوْم النَّحْر، وَلَا يلْزم من هَذَا أَن يَنْفِي نفيا مُطلقًا، وتأييد رده عَلَيْهِ بِحَدِيث عبد الله بن عَمْرو يُؤَيّد ضعف مَا فهمه من كَلَامه، لِأَن حَدِيث عبد الله بن عَمْرو لَيْسَ فِيهِ مَا يدل صَرِيحًا على لفظ: خطب، فَإِن لفظ البُخَارِيّ وَمُسلم: (وقف فِي حجَّة الْوَدَاع فَجعلُوا يسألونه) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: (وقف رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على رَاحِلَته فَطَفِقَ نَاس يسألونه) ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ (أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: حلقت قبل أَن أذبح) الحَدِيث، وَلَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه الْأَلْفَاظ مَا يدل على أَنه خطْبَة، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال وَجَوَاب وَتَعْلِيم وَتعلم، فَلَا يُسمى هَذَا خطْبَة، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَحَادِيث أُخْرَى غير حَدِيث عبد الله بن عَمْرو مَا يدل على أَنه خطْبَة، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (قَالَ: جَاءَ رجل، يَا رَسُول الله! حلقت قبل أَن أنحر) الحَدِيث، وروى النَّسَائِيّ عَن جَابر: (أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله ذبحت قبل أَن أرمي) الحَدِيث، وروى ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ عَن جَابر أَيْضا يَقُول: (قعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى يَوْم النَّحْر للنَّاس، فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي حلقت قبل أَن أذبح. .) ، وروى الْأَئِمَّة السِّتَّة، خلا التِّرْمِذِيّ، عَن ابْن عَبَّاس من طَرِيق وَلَيْسَ فِيهَا مَا يدل على أَنه خطْبَة، فروى الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ فِي الذّبْح وَالْحلق وَالرَّمْي والتقديم وَالتَّأْخِير، قَالَ: لَا حرج) ، وروى البُخَارِيّ وَأَصْحَاب السّنَن، خلا التِّرْمِذِيّ، من رِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (كَانَ النَّبِي(10/76)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسأب يَوْم النَّحْر بمنى) الحَدِيث، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مَنْصُور عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حلق) الحَدِيث، وروى البُخَارِيّ من رِوَايَة عَطاء أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، (قَالَ رجل للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زرت قبل أَن أرمي. .) الحَدِيث، فَهَذِهِ كلهَا سُؤَالَات وأجوبة، وَقد مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله مَا يُوضح مَا ذَكرْنَاهُ هُنَا.
320 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنِي يحيى بن سعيد قَالَ حَدثنَا فُضَيْل بن غَزوَان قَالَ حَدثنَا عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب النَّاس يَوْم النَّحْر فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس أَي يَوْم هَذَا قَالُوا يَوْم حرَام قَالَ فَأَي بلد هَذَا قَالُوا بلد حرَام قَالَ فَأَي شهر هَذَا قَالُوا شهر حرَام قَالَ فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي بلدكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فَأَعَادَهَا مرَارًا ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ اللَّهُمَّ هَل بلغت اللَّهُمَّ هَل بلغت قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لوصيته إِلَى أمته فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " خطب النَّاس يَوْم النَّحْر " وَقد ذكرنَا أَن قَوْله " خطب " لَيْسَ من الْخطْبَة الْمَعْهُودَة وَإِطْلَاق الْخطْبَة عَلَيْهِ بِاعْتِبَار أَنَّهَا فِي الأَصْل كَلَام وَقَول وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ وَيحيى هُوَ الْقطَّان وفضيل بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن غَزوَان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الزَّاي وبالنون فِي آخِره وَفِيه أَن شيخ وَعِكْرِمَة مدنيان وَيحيى بَصرِي وفضيل كُوفِي والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن أشكاب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " خطب النَّاس يَوْم النَّحْر " قد ذكرنَا أَن إِطْلَاق لفظ الْخطْبَة لَيْسَ على حَقِيقَة الْخطْبَة الْمَعْهُودَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَمر من أُمُور الْحَج كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَالْخطْبَة الْحَقِيقِيَّة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس مَا رَوَاهُ جَابر بن زيد عَنهُ قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب بِعَرَفَات كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب فَهَذِهِ الْخطْبَة الْحَقِيقِيَّة لِأَن فِيهَا تَعْلِيم النَّاس الْوُقُوف بِعَرَفَة والمزدلفة والإفاضة مِنْهَا وَرمي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر وَالذّبْح وَالْحلق وَطواف الزِّيَارَة وَلَيْسَ فِي خطْبَة يَوْم النَّحْر شَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا هِيَ سُؤَالَات وأجوبة كَمَا ذكرنَا وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث الهرماس بن زِيَاد وَأبي أُمَامَة عِنْد أبي دَاوُد وَحَدِيث جَابر بن عبد الله عِنْد أَحْمد " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم النَّحْر فَقَالَ أَي يَوْم أعظم حُرْمَة " الحَدِيث وَإِطْلَاق الْخطْبَة فِي كل ذَلِك لَيْسَ على حَقِيقَته قَوْله " فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس " خطاب لمن كَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت وَوَصِيَّة أَيْضا للشاهدين بِأَن يبلغُوا الغائبين كَمَا يَأْتِي ذَلِك عَن قريب قَوْله " أَي يَوْم هَذَا " خرج مخرج الِاسْتِفْهَام وَالْمرَاد بِهِ التَّقْدِير لِأَنَّهُ أبلغ وَكَذَلِكَ الاستفهامان الْآخرَانِ قَوْله " قَالُوا يَوْم حرَام " يَعْنِي يحرم فِيهِ الْقِتَال وتوصيف الْيَوْم بالحرام مجَاز مُرْسل من قبيل قَوْلهم رجل عدل لِأَن الْحَرَام لَيْسَ عين الْيَوْم وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَقع فِيهِ من الْقِتَال وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله " بلد حرَام وَشهر حرَام " وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) الْمُسْتَفَاد من الحَدِيث الأول وَهُوَ حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنهم أجابوه بِأَنَّهُ يَوْم حرَام وَمن الثَّانِي وَهُوَ حَدِيث أبي بكرَة أَنهم سكتوا عَنهُ وفوضوه إِلَيْهِ فَمَا التَّوْفِيق بَينهمَا (قلت) السُّؤَال الثَّانِي فِيهِ فخامة لَيست فِي الأول بِسَبَب زِيَادَة لفظ أَتَدْرُونَ فَلهَذَا سكتوا فِيهِ بِخِلَاف الأول وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ يَوْم كَذَا بعد أَن قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَيْسَ هَذَا يَوْم النَّحْر وَكَذَا فِي أَخَوَيْهِ فالسكوت كَانَ أَولا وَالْجَوَاب بِالتَّعْيِينِ كَانَ آخرا انْتهى ووفق بَعضهم بَين الْحَدِيثين بقوله لعلهما وَاقِعَتَانِ ورده بَعضهم بقوله وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْخطْبَة يَوْم النَّحْر إِنَّمَا تشرع مرّة وَاحِدَة وَقد قَالَ فِي كل مِنْهُمَا أَن ذَلِك كَانَ يَوْم النَّحْر انْتهى (قلت) لَيْسَ لهَذَا الرَّد وَجه لِأَنَّهُ لَا مَانع من تعدد الْقَضِيَّة وَقَوله لِأَن الْخطْبَة يَوْم النَّحْر إِلَى آخِره(10/77)
بِنَاء على أَن الْخطْبَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس على حَقِيقَتهَا على زعمهم وَهَذَا لَا يَقُول بِهِ خصمهم قَوْله " وَأَعْرَاضكُمْ " جمع عرض بِكَسْر الْعين وَهُوَ مَا يحميه الْإِنْسَان وَيلْزمهُ الْقيام بِهِ قَالَه أَبُو عَمْرو وَقَالَ الْأَصْمَعِي هُوَ مَا يمدح بِهِ ويذم وَقيل الْعرض الْحسب وَقيل النَّفس فَإِن الْعرض يُقَال للنَّفس وللحسب يُقَال فلَان نقي الْعرض أَي بَرِيء أَن يشْتم أَو يعاب وَالْعرض رَائِحَة الْجَسَد أَو غَيره طيبَة أَو خبيثة وَفِي شرح السّنة لَو كَانَ المُرَاد من الْأَعْرَاض النُّفُوس لَكَانَ تَكْرَارا لِأَن ذكر الدِّمَاء كَاف إِذْ المُرَاد بهَا النُّفُوس وَقَالَ الطَّيِّبِيّ الظَّاهِر أَن المُرَاد بالأعراض الْأَخْلَاق النفسانية وَذكر فِي النِّهَايَة الْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه وَلما كَانَ مَوضِع الْعرض النَّفس قَالَ من قَالَ الْعرض النَّفس إطلاقا للمحل على الْحَال وَحين كَانَ الْمَدْح نِسْبَة الشَّخْص إِلَى الْأَخْلَاق الحميدة والذم نسبته إِلَى الذميمة سَوَاء كَانَت فِيهِ أَو لَا قَالَ من قَالَ الْعرض الْخلق إطلاقا الِاسْم اللَّازِم على الْمَلْزُوم قَوْله " كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا " إِنَّمَا شبهها فِي الْحُرْمَة بِهَذِهِ الْأَشْيَاء لأَنهم كَانُوا لَا يرَوْنَ اسْتِبَاحَة تِلْكَ الْأَشْيَاء وانتهاك حرمتهَا بِحَال وَقيل مثل بِالْيَوْمِ وبالشهر وبالبلد لتوكيد تَحْرِيم مَا حرم من الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض قَوْله " فَأَعَادَهَا مرَارًا " أَي أعَاد الْمَذْكُورَات مرَارًا وَأقله أَن يكون ثَلَاث مَرَّات قَوْله " ثمَّ رفع رَأسه " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء قَوْله " اللَّهُمَّ هَل بلغت " إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ فرضا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يبلغ وَمِنْه سميت حجَّة الْبَلَاغ قَوْله " إِنَّهَا لوصيته " أَي أَن الْكَلِمَات الَّتِي قَالَهَا لوصيته إِلَى أمته يُرِيد بذلك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب " إِلَى آخر الحَدِيث وَالْمرَاد بِالشَّاهِدِ الْحَاضِر فِي ذَلِك الْمجْلس وَقَوله قَالَ ابْن عَبَّاس فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لوصيته إِلَى أمته قسم من ابْن عَبَّاس صدر بِهِ كَلَامه للتَّأْكِيد وَهُوَ إِلَى آخر كَلَامه معترض بَين قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَل بلغت " وَبَين قَوْله " فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب " وَاللَّام فِي قَوْله " لوصيته " مَفْتُوحَة وَهِي لَام التَّأْكِيد وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذكرنَا أَن الضَّمِير فِي أَنَّهَا يرجع إِلَى الْكَلِمَات الَّتِي قَالَهَا وَهِي " فليبلغ الشَّاهِد " إِلَى آخِره وَالضَّمِير وَإِن كَانَ مقدما فِي الذّكر فالقرينة تدل على أَنه مُؤخر فِي الْمَعْنى قَوْله " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا " قَالَ الْكرْمَانِي أَي كالكفار أَو لَا يكفر بَعْضكُم بَعْضًا فتستحقوا الْقِتَال وَقَالَ الطَّيِّبِيّ أَي لَا تكن أفعالكم شَبيهَة بأعمال الْكفَّار فِي ضرب رِقَاب الْمُسلمين (قلت) ذكرُوا فِيهِ أقوالا. الأول كفر فِي حق المستحل بِغَيْر حق. الثَّانِي كفر النِّعْمَة وَحقّ الْإِسْلَام. الثَّالِث يقرب من الْكفْر وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ. الرَّابِع فعل كَفعل الْكفَّار. الْخَامِس حَقِيقَة الْكفْر يَعْنِي لَا تكفرُوا بل دوموا مُسلمين. السَّادِس المتكفرين بِالسِّلَاحِ يُقَال للابس السِّلَاح كَافِر. السَّابِع لَا يكفر بَعْضكُم بَعْضًا فتستحلوا قتال بَعْضكُم بَعْضًا (فَإِن قلت) مَا معنى قَوْله بعدِي وهم لَو رجعُوا فِي زَمَانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُم هَذَا الَّذِي ذكره لَهُم (قلت) إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد علم أَنهم لَا يرجعُونَ فِي حَيَاته أَو أَرَادَ بعد فراقي من موقفي هَذَا أَو الْمَعْنى بعد حَياتِي قَوْله " يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض " الرِّوَايَة بِرَفْع الْبَاء وَيصِح بِهِ الْمَقْصُود وَقَالَ عِيَاض وَضَبطه بَعضهم بِسُكُون الْبَاء وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء على تَقْدِير شَرط مضمن أَي أَن ترجعوا بعدِي وَقَالَ الطَّيِّبِيّ يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض جملَة مستأنفة مبينَة لقَوْله " فَلَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا " فَيَنْبَغِي أَن يحمل على الْعُمُوم وَأَن يُقَال لَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا فَلَا تسفكوا دماءكم وَلَا تهتكوا أعراضكم وَلَا تستبيحوا أَمْوَالكُم وَنَحْوه أَي فِي إِطْلَاق الْخَاص وَإِرَادَة الْعُمُوم قَوْله تَعَالَى {الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} انْتهى (قلت) هَذَا كُله فِي شرح قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا ترجعوا بعدِي ضلالا " لِأَن الْمَتْن الَّذِي شَرحه وَهُوَ متن الْمشكاة وَقع " ضلالا " ثمَّ قَالَ ويروى " كفَّارًا " ثمَّ نقل كَلَام صَاحب الْمظهر بقوله يَعْنِي إِذا فَارَقت الدُّنْيَا فاثبتوا بعدِي على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الْإِيمَان وَالتَّقوى وَلَا تظلموا أحدا وَلَا تَحَارَبُوا الْمُسلمين وَلَا تَأْخُذُوا أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ فَإِن هَذِه الْأَفْعَال من الضَّلَالَة والعدول من الْحق إِلَى الْبَاطِل ثمَّ قَالَ الطَّيِّبِيّ بعد ذَلِك مَا ذكرنَا عَنهُ من قَوْله جملَة مستأنفة إِلَى آخِره (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد على أَن الْخطْبَة يَوْم النَّحْر سنة وَقَالَ ابْن قدامَة وَعَن بعض أَصْحَابنَا لَا يخْطب فِيهِ وَهُوَ مَذْهَب مَالك قلت الْخطْبَة عِنْد أَصْحَابنَا فِي الْحَج فِي ثَلَاثَة أَيَّام الأولى فِي الْيَوْم السَّابِع من(10/78)
ذِي الْحجَّة وَالثَّانيَِة بِعَرَفَات يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة بمنى فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر وَعند زفر يخْطب فِي ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَة أَولهَا يَوْم التَّرويَة وَقَالَ ابْن الْمُنْذر خطب سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم السَّابِع وَكَذَا أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَرَأَ سُورَة بَرَاءَة عَلَيْهِم رَوَاهُ ابْن عمر. وَفِي التَّلْوِيح وَأما الْخطب الَّتِي وَردت فِي الْآثَار أَيَّام الْحَج فَمِنْهَا خطْبَة يَوْم التَّرويَة وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة وَهُوَ يُوَافق قَول زفر لِأَن الْجَمَاعَة لَا يرَوْنَ فِيهِ خطْبَة بل الْخطْبَة الأولى قبل يَوْم التَّرويَة بِيَوْم وَهُوَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَقَالَ عَطاء أدركتهم يخرجُون وَلَا يخطبون بِمَكَّة قَالَ ابْن الْمُنْذر قَول مَالك كَقَوْل عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ الْخطب الْمَشْرُوعَة فِي الْحَج عندنَا أَرْبَعَة أَولهَا بِمَكَّة عِنْد الْكَعْبَة فِي الْيَوْم السَّابِع قَالَ وَهِي مسنونة عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعد صَلَاة الظّهْر وَالثَّانيَِة بِبَطن عُرَنَة يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة يَوْم النَّحْر وَالرَّابِعَة يَوْم النَّفر وَهُوَ الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق وَكلهَا أَفْرَاد إِلَّا الَّتِي يَوْم عَرَفَات فَإِنَّهَا خطبتان بعد صَلَاة الظّهْر وَقبل الصَّلَاة انْتهى. وَمِنْهَا خطْبَة يَوْم عَرَفَة لما رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر " حَتَّى إِذا زَالَت الشَّمْس أَمر بالقصواء فرحلت فَأتى بطن الْوَادي فَخَطب " وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث زيد بن أسلم عَن رجل من بني ضميرَة عَن أَبِيه أَو عَمه قَالَ " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على الْمِنْبَر يَوْم عَرَفَة وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر يرفعهُ " فَلَمَّا أَتَى عَرَفَة " فَذكر كلَاما. وَفِيه " حَتَّى إِذا كَانَ عِنْد صَلَاة الظّهْر رَاح مهجرا فَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر ثمَّ خطب النَّاس " الحَدِيث وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث قيس بن الْمطلب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب بِعَرَفَة وروى أَحْمد من حَدِيث نبيط أَنه رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاقِفًا بِعَرَفَة على بعير أَحْمَر يخْطب فَسَمعهُ يَقُول أَي يَوْم أحرم قَالُوا هَذَا الْيَوْم قَالَ فَأَي بلد أحرم قَالُوا هَذَا الْبَلَد قَالَ فَأَي شهر أحرم قَالُوا هَذَا الشَّهْر " الحَدِيث وَعَن العداء بن خَالِد " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب بِعَرَفَات وَهُوَ قَائِم وَهُوَ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته يَا أَيهَا النَّاس أَي يَوْم هَذَا " الحَدِيث وروى ابْن ماجة من حَدِيث ابْن مَسْعُود قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على نَاقَته بِعَرَفَات أَتَدْرِي أَي يَوْم هَذَا الحَدِيث وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه من حَدِيث ابْن عَبَّاس " لما وقف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَة أَمر ربيعَة بن أُميَّة بن خلف فَقَامَ تَحت نَاقَته فَقَالَ اُصْرُخْ أَيهَا النَّاس أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا فَصَرَخَ فَقَالَ النَّاس الشَّهْر الْحَرَام " الحَدِيث. وَمِنْهَا خطْبَة يَوْم النَّحْر رَوَاهَا جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم الهرماس بن زِيَاد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب النَّاس على نَاقَته الجدعاء يَوْم الْأَضْحَى " وروى عَن أبي أُمَامَة قَالَ سَمِعت خطْبَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى يَوْم النَّحْر وروى عَن عبد الرَّحْمَن بن معَاذ التَّيْمِيّ قَالَ " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنحن بمنى " وروى عَن رَافع بن عَمْرو الْمُزنِيّ قَالَ " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب النَّاس بمنى حِين ارْتَفع الضُّحَى على بغلة شهباء " الحَدِيث وروى ابْن أبي شيبَة عَن مَسْرُوق أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطبهم يَوْم النَّحْر. وَمِنْهَا خطْبَة الْيَوْم الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة وَقَالَ ابْن حزم وخطب النَّاس أَيْضا يَعْنِي سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم النَّحْر وَهُوَ يَوْم الرؤس وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَهُوَ أول أَيَّام التَّشْرِيق وَهُوَ يَوْم النَّفر وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث سرا بنت نَبهَان قَالَت " خَطَبنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الرؤس فَقَالَ أَي يَوْم هَذَا قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ أَلَيْسَ أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق " وَعَن رجلَيْنِ من بني بكر " رَأينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب بَين أوساط أَيَّام التَّشْرِيق وَنحن عِنْد رَاحِلَته " وروى أَحْمد من حَدِيث أبي حرَّة الرقاشِي " عَن عمر قَالَ كنت آخذ بزمام نَاقَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق أذود عَنهُ النَّاس فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس هَل تَدْرُونَ فِي أَي شهر أَنْتُم " الحَدِيث وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث كَعْب بن عَاصِم الْأَشْعَرِيّ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب بمنى أَوسط أَيَّام الْأَضْحَى " وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز هَذِه الْخطْبَة بعد الظّهْر من غير جُلُوس فِيهَا وَلَا قِرَاءَة جهرية فِي شَيْء من صلَاتهَا. وَمِنْهَا خطْبَة يَوْم الأكارع وَقَالَ ابْن حزم وَقد رُوِيَ أَيْضا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطبهم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْم الأكارع وَأوصى بذوي الْأَرْحَام خيرا وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الرّبيع بن أبي سُبْرَة عَن أَبِيه عَن جده " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب وسط أَيَّام التَّشْرِيق " قَالَ ابْن قدامَة يَعْنِي يَوْم النَّفر الأول وروى عَن أبي هُرَيْرَة(10/79)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يخْطب الْعشْر كُله وَفِي المُصَنّف وَكَذَلِكَ ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا -
0471 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرٌ وَقَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ بَعَرَفَاتٍ..
لَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهرا وَلَكِن لما روى عَن ابْن عَبَّاس خطْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم النَّحْر وَهُوَ من أَيَّام منى مطابقا للتَّرْجَمَة، ذكر هَذَا الحَدِيث أَيْضا هَهُنَا لكَونه عَن ابْن عَبَّاس، ويستأنس بِهَذَا الْمِقْدَار فِي وَجه الْمُطَابقَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حَفْص بن عمر بن الْحَارِث الحوضي. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن زيد أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ اليحمدي. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَأَن شُعْبَة واسطي وَأَن عمرا مكي وَأَن جَابِرا بَصرِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره هَذَا الحَدِيث طرف من حَدِيث سَيَأْتِي فِي: بَاب لبس الْخُفَّيْنِ للْمحرمِ، وَأخرجه البُخَارِيّ عَن حَفْص بن عمر وَأبي الْوَلِيد وآدَم فرقهم، ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة، وَأخرجه فِي اللبَاس عَن أبي نعيم وَمُحَمّد بن يُوسُف كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ وَعَن أبي كريب وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي، ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن عَليّ بن خشرم وَعَن عَليّ ابْن حجر وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن أَيُّوب بن مُحَمَّد الْوزان وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَفِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحَج عَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت عَن قريب.
تابَعَهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍ
وَأي: تَابع شُعْبَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَفِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح: مُرَاد البُخَارِيّ بِأَنَّهُ تَابعه فِي الْخطْبَة خَاصَّة دون ذكر عَرَفَات ويوضحه قَول مُسلم: وَأخرجه من طرق
إِلَى عَمْرو بن دِينَار لم يذكر وَاحِد مِنْهُم يخْطب بِعَرَفَات غير شُعْبَة.
1471 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدثنَا أبُو عامِرٍ قَالَ حَدثنَا قرَّةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ قَالَ أخبرَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي بَكْرَةَ ورَجُلٌ أفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ حَمِيدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خَطَبَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ أتَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ هاذَا قُلْنَا الله ورسُولُهُ أعْلَمُ فَسَكَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمهِ قَالَ ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنا بَلَى قَالَ أيُّ شَهْرٍ هذَا قُلْنا الله ورسولُهُ أعْلَمُ فسكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قالَ أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر قُلْنَا بلَى قُلْنَا أَي شهر هَذَا قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم فَسكت حَتَّى ذننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه فَقَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحجَّة قُلْنَا بلَى قَالَ أَي بلد هَذَا قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم فَسكت حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه قَالَ ألَيْسَتْ بالْبَلدَةِ الحَرَامِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فإنَّ دَمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذَا فِي شَهْرِكُمْ هاذا فِي بلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ألاَ هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبُ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
.(10/80)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو الْعَقدي. الثَّالِث: قُرَّة، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء: ابْن خَالِد أَبُو مُحَمَّد السدُوسِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَاسم أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث بن كلدة. السَّادِس: حميد بن عبد الرَّحْمَن. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ حميد بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، وَقَالَ بَعضهم هُوَ حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي، وَإِنَّمَا كَانَ عِنْد ابْن سِيرِين أفضل من عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة لكَون عبد الرَّحْمَن دخل فِي الولايات، وَكَانَ حميد زاهدا. قلت: كل وَاحِد من حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَحميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي سمع من أبي بكرَة وَسمع مِنْهُ مُحَمَّد بن سِيرِين وَلم يظْهر لي أَيهمَا المُرَاد هَهُنَا. السَّابِع: أبوبكرة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ نفيع الْمَذْكُور.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَن أَبَا عَامر وقرة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة بصريون، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن إِن كَانَ هُوَ الْحِمْيَرِي فَهُوَ بَصرِي وَإِن كَانَ ابْن عَوْف فَهُوَ مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: مُحَمَّد بن سِيرِين وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَحميد بن عبد الرَّحْمَن.
وَقد ذكرنَا تعدده وَمن أخرجه غَيره فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رب مبلغ أوعى من سامع.
ذكر مَعْنَاهُ: مِمَّا لم نذكرهُ هُنَاكَ. قَوْله: (وَرجل) ، بِالرَّفْع لَا غير عطفا على عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن) يَعْنِي من ابْن أبي بكرَة. قَوْله: (حميد بن عبد الرَّحْمَن) ، ارْتِفَاع حميد على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي. قَوْله: (أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر) ، بِنصب يَوْم على أَنه خبر: لَيْسَ، أَي: لَيْسَ الْيَوْم يَوْم النَّحْر، وَيجوز الرّفْع على أَنه إسم لَيْسَ وَالتَّقْدِير: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر هَذَا الْيَوْم. قَوْله: (أَلَيْسَ ذُو الْحجَّة) ، بِالرَّفْع اسْم: لَيْسَ، وخبرنا مَحْذُوف أَي: لَيْسَ ذُو الْحجَّة هَذَا الشَّهْر، وَيجوز فِيهِ فتح الْحَاء وَكسرهَا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : فتح الْحَاء أشهر. قلت: نَقله عَن صَاحب (التَّلْوِيح) وَهُوَ نَقله عَن الْقَزاز، وَفِي (المثلث) لِابْنِ سَيّده جَعلهمَا سَوَاء، وَلَكِن فِي ألسن الْعَامَّة الكسرة أشهر. قَوْله: (أليست بالبلدة الْحَرَام) ، الضَّمِير فِي: أليست، يرجع إِلَى الْبَلَد فِي قَوْله: (أَي بلد هَذَا) . قَالَ الْجَوْهَرِي: الْبَلَد والبلدة وَاحِد الْبِلَاد والبلدان، وَإِنَّمَا وصف الْبَلدة بالحرام، والبلدة تؤنث لِأَن لفظ الْحَرَام اضمحل مِنْهُ معنى الوصفية وَصَارَ إسما. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة لم يُوجد لفظ الْحَرَام، وَقَالَ التوربشتي: وَجه تَسْمِيَتهَا بالبلدة، وَهِي تقع على سَائِر الْبلدَانِ أَنَّهَا الْبَلدة الجامعة للخير الْمُسْتَحقَّة أَن تسمى بِهَذَا الإسم لتفوقها سَائِر مسميات أحناسها تفوق الْكَعْبَة فِي تَسْمِيَتهَا بِالْبَيْتِ سَائِر مسميات أجناسها حَتَّى كَأَنَّهَا هِيَ الْمحل الْمُسْتَحق للإقامة بهَا. وَقَالَ ابْن جني: من عَادَة الْعَرَب أَن يوقعوا على الشَّيْء الَّذِي يختصونه بالمدح اسْم الْجِنْس، ألاَ تراهم كَيفَ سموا الْكَعْبَة بِالْبَيْتِ، وَكتاب سِيبَوَيْهٍ بِالْكتاب، وَقَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: إِن الْبَلدة خَاص لمَكَّة، أَو: اللَّام، للْعهد عَن قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا} (النَّمْل: 19) . إِلَى قَوْله: {إِلَى يَوْم تلقونَ} ، بِفَتْح يَوْم وكسره مَعَ التَّنْوِين وَعَدَمه، وَترك التَّنْوِين مَعَ الْكسر هُوَ الَّذِي ثَبت بِهِ الرِّوَايَة. قَوْله: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) ، لما كَانَ التَّبْلِيغ فرضا عَلَيْهِ أشهد الله تَعَالَى أَنه أدّى مَا أوجبه عَلَيْهِ. قَوْله: (فَرب مبلغ) بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة، أَي: رب شخص بلغه كَلَامي كَانَ أحفظ لَهُ وَأفهم لمعناه من الَّذِي نَقله. قَوْله: (أوعى) ، أَي: أحفظ. فَإِن قلت: كلمة رب أَصْلهَا للتقليل، وَقد تسْتَعْمل للتكثير فَأَيّهمَا المُرَاد هُنَا؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد معنى التقليل تدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الَّتِي تقدّمت فِي كتاب الْعلم، عَسى أَن يبلغ من هُوَ أوعى لَهُ مِنْهُ.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: وجوب تَبْلِيغ الْعلم على الْكِفَايَة، وَقد يتَعَيَّن فِي حق بعض النَّاس. وَفِيه: تَأْكِيد التَّحْرِيم وتغليظه بأبلغ مُمكن من تكْرَار وَنَحْوه. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة ضرب الْمثل وإلحاق النظير بالنظير ليَكُون أوضح للسامع.
2471 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ قَالَ أخبرنَا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ زَيْدٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً أتدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ هاذَا(10/81)
قَالُوا الله ورسُولُهُ أعْلَمُ فَقال فإنَّ هذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أفَتَدْرُونَ أيُّ بَلَدٍ هاذا قالُوا الله ورسولُهُ أعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أفَتَدْرُونَ أيُّ شَهْرٍ هذَا قالُوا الله ورسولُه أعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حرامٌ قَالَ فإنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وأمْوالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُم هذَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى) لِأَن قَوْله بِهَذِهِ الْكَلِمَات أَعنِي قَوْله: (أفتدرون) إِلَى آخِره عبارَة عَن خطْبَة بمنى، وَلَكِن لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْخطْبَة الْحَقِيقِيَّة الَّتِي فِيهَا شَيْء من مَنَاسِك الْحَج، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبَاب.
وَرِجَاله: خَمْسَة، مِنْهُم: عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَمُحَمّد يروي عَن جده عبد الله بن عَمْرو، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي الْفِتَن عَن حجاج بن منهال، وَفِي الْأَدَب عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب، وَفِي الْحُدُود عَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن سُلَيْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي بكر بن خَلاد وَعَن عبيد الله بن معَاذ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن أبي الْوَلِيد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن دُحَيْم.
قَوْله: (بمنى) ، فِي مَحل النصب على الْحَال، وَالْبَاء، بِمَعْنى: فِي. قَوْله: (أفتدرون؟) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْقَاسِم الْمُطَرز عَن مُحَمَّد بن الْمثنى شيخ البُخَارِيّ قَالَ: أوتدرون.
وقالَ هِشَامُ بنُ الْغَازِ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وقَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ هَذا يَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ فَطَفِقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أللَّهُمَّ اشْهَدْ وودَّعَ النَّاسَ فقالُوا هاذِهِ حَجَّةُ الوَدَاعِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِشَام بن الْغَاز، بالغين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي بِلَفْظ الْفَاعِل من الْغَزْو بِحَذْف الْيَاء وإثباتها: ابْن ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: الجرشِي بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء وبالشين الْمُعْجَمَة، مَاتَ سنة سبع وَخمسين وَمِائَة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد: حَدثنَا المؤمل بن الْفضل عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن هِشَام بن الْغَاز، قَالَ: حَدثنَا نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف يَوْم النَّحْر فِي الْحجَّة الَّتِي حج فِيهَا، فَقَالَ: أَي يَوْم هَذَا؟ فَقَالُوا: يَوْم النَّحْر. فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا وَالطَّبَرَانِيّ.
قَوْله: (بَين الجمرات) ، بِفَتْح الْجِيم وَالْمِيم: جمع جَمْرَة، وَفِيه تعْيين الْمَكَان الَّذِي وقف فِيهِ، كَمَا أَن فِي الرِّوَايَة الَّتِي قبلهَا تعْيين الزَّمَان، وكما أَن فِي حَدِيثي ابْن عَبَّاس وَأبي بكرَة تعين الْيَوْم. وَوَقع تعْيين الْوَقْت فِي الْيَوْم فِي رِوَايَة رَافع بن عَمْرو الْمُزنِيّ عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَلَفظه: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب النَّاس بمنى حِين ارْتَفع الضُّحَى) الحَدِيث. قَوْله: (فِي الْحجَّة الَّتِي حج) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (فِي حجَّته الَّتِي حج) ، وللطبراني: (فِي حجَّة الْوَدَاع) . قَوْله: (بِهَذَا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: وقف متلبسا بِهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور، واستغرب بَعضهم من الْكرْمَانِي هَذَا التَّفْسِير، وَقَالَ: بِهَذَا، أَي: بِالْحَدِيثِ الَّذِي تقدم من طَرِيق مُحَمَّد بن زيد عَن جده. قلت: فِي طَرِيق مُحَمَّد بن زيد عَن جده، (قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم) . وَفِي طَرِيق هِشَام بن الْغَاز الَّذِي وَصله أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، قَالُوا: (يَوْم النَّحْر) ، وَهَذَا كَمَا ترى مُخْتَلف، لِأَن طَرِيق مُحَمَّد بن زيد فِيهِ التَّفْوِيض، وَفِي طَرِيق هِشَام الْجَواب بِيَوْم النَّحْر. فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا، وَكَانَ فِي طَرِيق هِشَام: ورد اللفظان الْمَذْكُورَان أَعنِي التَّفْوِيض وَالْجَوَاب. وَفِي تَعْلِيق البُخَارِيّ عَنهُ اللَّفْظ هُوَ التَّفْوِيض، فَلذَلِك فسر الْكرْمَانِي لَفْظَة: بِهَذَا، بقوله: أَي وقف متلبسا بِهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بالْكلَام الْمَذْكُور قَوْلهم: الله وَرَسُوله أعلم، وَهُوَ التَّفْوِيض، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه فَلَا ينْسب إِلَى الاستغراب لِأَن كلمة: الْبَاء، فِي قَوْله: بِهَذَا. تتَعَلَّق بقوله: وقف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن تَأمل سر التراكيب لم يزغ عَن طَرِيق الصَّوَاب. قَوْله: (وَقَالَ: هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) أَي: يَوْم النَّحْر، هَذَا هُوَ يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، وَاخْتلفُوا فِيهِ فَقيل: هُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ:(10/82)
الْحَج الْأَكْبَر، وَالْعمْرَة يُقَال لَهَا الْحَج الْأَصْغَر. وَقيل: الْحَج الَّذِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَاقِفًا فِيهِ: الْحَج الْأَكْبَر، وَقيل إِنَّمَا قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) لِاجْتِمَاع الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فِيهِ، وموافقته لأعياد أهل الْكتاب.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَج الْأَكْبَر: حَدثنَا عبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد حَدثنَا أبي عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الْحَارِث (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر؟ فَقَالَ: يَوْم النَّحْر) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا، وَقَالَ: وَهُوَ الْأَصَح. قلت: انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ مَرْفُوعا وموقوفا، وَقد رُوِيَ من غير طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن أبي إِسْحَاق مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من رِوَايَة مُغيرَة الضَّبِّيّ، وَمن رِوَايَة الْأَجْلَح كِلَاهُمَا عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي الْبَاب عَن عبد الله بن عمر، وَقد ذكر الْآن وَعَن أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: (بَعَثَنِي أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَن يُؤذن يَوْم النَّحْر بمنى أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان) . وَيَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَالْحج الْأَكْبَر الْحَج. وَعَن عبد الله بن أبي أوفى رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَوْم الْأَضْحَى يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَفِي إِسْنَاده ضعف. وَعَن عَمْرو بن الْأَحْوَص رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث طَوِيل فِي الْفِتَن وَالتَّفْسِير عَنهُ قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي حجَّة الْوَدَاع، فَقَالَ: أَي يَوْم هَذَا قَالُوا: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَعَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَة حَمْرَاء مخطومة، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم النَّحْر. قَالَ: صَدقْتُمْ يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَقد ورد أَن الْحَج الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من رِوَايَة ابْن جريج عَن مُحَمَّد بن قيس (عَن الْمسور بن مخرمَة، قَالَ: خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِعَرَفَات، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أما بعد فَإِن هَذَا الْيَوْم يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَلَا يُعَارض هَذَا الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة لمجيئها من عدَّة طرق صَحِيحَة، بِخِلَاف حَدِيث الْمسور لِأَنَّهُ فَردا، وتؤول هَذَا كتأويل قَوْله: (الْحَج عَرَفَة) ، على معنى أَن الْوُقُوف هُوَ المهم من أَفعاله، لكَون الْحَج يفوت بفواته، وَكَذَلِكَ قَوْله: (يَوْم النَّحْر يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، بِمَعْنى أَن أَكثر أَفعَال الْحَج من الرَّمْي وَالْحلق وَالطّواف فِيهِ، وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) لشَيْخِنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يَوْم النَّحْر، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعبد الله بن أبي أوفى وَالشعْبِيّ وَمُجاهد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يَوْم عَرَفَة، ويروى ذَلِك عَن عمر وَابْنه عبد الله بن عمر. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه أَيَّام الْحَج كلهَا، وَقد يعبر عَن الزَّمَان بِالْيَوْمِ كَقَوْلِهِم: يَوْم بُعَاث وَيَوْم الْجمل وَيَوْم صفّين وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ مُجَاهِد: الْأَكْبَر الْقرَان، والأصغر الْإِفْرَاد، وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم حج أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . زَاد فِي رِوَايَة: (بِالنَّاسِ) .
قَوْله: (فَطَفِقَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول) إعلم أَن طفق من أَفعَال المقاربة، وَهِي على ثَلَاثَة أَنْوَاع: مِنْهَا: مَا وضع للدلالة على الشُّرُوع فِي الْخَبَر، وَكلمَة طفق من هَذَا الْقَبِيل، وَهُوَ يعْمل عمل كَاد إلاَّ أَن خَبره يجب أَن يكون جملَة، وَهَهُنَا قَول: يَقُول، جملَة وَقعت خَبرا لَهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: طفق يفعل كَذَا يطفق طفقا، أَي: جعل يفعل. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وطفقا يخصفان} (الْأَعْرَاف: 22 وطه: 121) . قَالَ الْأَخْفَش: وَبَعْضهمْ يَقُول: طفق، بِالْفَتْح، يطفق طفوقا. انْتهى. قلت: الأول: من بَاب علم يعلم، وَالثَّانِي: من بَاب ضرب يضْرب، فَافْهَم. وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره بَين قَوْله: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَبَين قَوْله: (فَطَفِقَ) من الزِّيَادَة وَهِي قَوْله: (ودماؤكم وَأَمْوَالكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ هَذَا الْبَلَد فِي هَذَا الْيَوْم) . قَوْله: (فودع النَّاس) ، لِأَنَّهُ علم أَنه لَا يتَّفق لَهُ بعد هَذَا وَقْفَة أُخْرَى وَلَا اجْتِمَاع آخر مثل ذَلِك، وَسبب ذَلِك مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ: (أَنه أنزلت {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح) (الْفَتْح: 1) . على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وسط أَيَّام التَّشْرِيق، وَعرف أَنه الْوَدَاع فَأمر براحلته الْقَصْوَاء فرحلت لَهُ، فَركب فَوقف بِالْعقبَةِ وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِن كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا زيد بن الْحباب حَدثنَا مُوسَى بن عُبَيْدَة، الربذي حَدثنِي صَدَقَة بن يسَار (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: إِن هَذِه السُّورَة نزلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق بمنى وَهُوَ فِي حجَّة الْوَدَاع {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} (الْفَتْح: 1) . حَتَّى خَتمهَا، فَعرف رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه(10/83)
الْوَدَاع) الحَدِيث بِطُولِهِ، ومُوسَى بن عُبَيْدَة ضَعِيف. قَوْله: (فَقَالُوا) أَي الصَّحَابَة: هَذِه الْحجَّة حجَّة الْوَدَاع، والوداع بِفَتْح الْوَاو، وَجَاء بِكَسْرِهَا.
331 - (بابٌ هَلْ يَبِيتُ أصْحَابُ السِّقَايَةِ أوْ غَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنىً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يبيت أَصْحَاب السِّقَايَة، وَهِي المَاء الْمعد للشُّرْب، وسقاية الْعَبَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام مَشْهُورَة. قَوْله: (أَو غَيرهم) ، أَي: أَو غير أَصْحَاب السِّقَايَة مِمَّن كَانَ لَهُ عذر من مرض أَو شغل كالحطابين والرعاء، وَالْبَاء فِي: بِمَكَّة، تتَعَلَّق بقوله: يبيت. وليالي، مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ جَوَاب الِاسْتِفْهَام؟ قلت: الظَّاهِر أَنه اكْتفى بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب عَن ذكر الْجَواب. وَقيل: يحْتَمل أَن البُخَارِيّ لَا يرى ذَلِك إلاَّ لأهل السِّقَايَة خَاصَّة وحدهم، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْبَعْض، وَيحْتَمل أَن يكون طرد الْإِبَاحَة فِي ذَلِك لأَصْحَاب الْأَعْذَار، كَمَا أُبِيح لأَصْحَاب السِّقَايَة، فَلذَلِك لم يذكر الْجَواب.
3471 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ مَيْمُونٍ قَالَ حَدثنَا عِيسَى بنُ يُونُسَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
أخرج حَدِيث ابْن عمر هَذَا من ثَلَاثَة طرق، وَاقْتصر عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق الأول بقوله: رخص، وَفِي الثَّانِي بقوله: أذن، وَلم يعلم الترخيص وَالْأُذن فِيمَا ذَا، وَبَين ذَلِك فِي الطَّرِيق الثَّالِث كَمَا يَجِيء عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. ومطابقتها للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَال هَذَا خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن عبيد، مصغر: العَبْد، ابْن مَيْمُون مولى هَارُون بن يزِيد بن مهَاجر بن قنفذ الْمدنِي الْمَشْهُور بِمُحَمد بن أبي عباد وَهُوَ من أَفْرَاده. الثَّانِي: عِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، واسْمه عَمْرو بن عبد الله الْهَمدَانِي الْكُوفِي. الثَّالِث: عبيد الله الْعمريّ، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (رخص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَالْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِيره: رخص فِي البيتوتة ليَالِي منى بِمَكَّة لأهل السِّقَايَة. وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مستقصىً فِي: بَاب سِقَايَة الْحَاج، فَإِنَّهُ أخرج حَدِيث ابْن عمر هُنَاكَ من طَرِيق عبيد الله عَن نَافِع، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَنهُ.
4471 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى قَالَ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ بَكْرٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذِنَ..
هَذَا طَرِيق ثَان عَن يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم أبي زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن مُحَمَّد بن بكر بن عُثْمَان البرْسَانِي الْبَصْرِيّ عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن حَاتِم وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج عَن عبيد الله عَن نَافِع.
قَوْله: (أذن) أَي: أذن للْعَبَّاس بن عبد الْمطلب للسقاية بِأَن يبيت ليَالِي منى بِمَكَّة.
5471 - قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ نمَيْرٍ قَالَ حَدثنَا أبِي قَالَ حَدثنَا عُبَيْدُ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ العَبَّاسَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ اسْتَأْذَنَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيالِي مِنىً مِنْ أجْلِ سِقَايَتِهِ فأذِنَ لَهُ..
هَذَا طَرِيق ثَالِث أخرجه عَن مُحَمَّد بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم إِلَى آخِره، وَمضى هَذَا فِي بَاب سِقَايَة الْحَاج عَن ابْن عمر بِلَفْظ: (اسْتَأْذن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى من أجل سقايته فَأذن لَهُ) . وَقَالَ ابْن الْمُنْذر السّنة أَن يبيت النَّاس بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق إلاَّ من أرخص لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ أرخص للْعَبَّاس أَن يبيت بِمَكَّة(10/84)
لأجل سقايته، وأرخص لرعاء الْإِبِل وأرخص لمن أَرَادَ التَّعْجِيل أَن ينفر فِي النَّفر الأول.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَن بَات لَيْلَة منى بِمَكَّة من غير من رخص لَهُ، فَقَالَ مَالك: عَلَيْهِ دم، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن بَات لَيْلَة أطْعم عَنْهَا مِسْكينا، وَإِن بَات ليَالِي منى كلهَا أَحْبَبْت أَن يهريق دَمًا، وَجعل أَبُو حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَأَصْحَابه لَا شَيْء عَلَيْهِ إِن كَانَ يَأْتِي منى، وَيَرْمِي الْجمار، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
تابَعَهُ أبُو أسَامَةَ وعُقْبَةُ بنُ خَالِدٍ وأبُو ضَمْرَةَ
أَي: تَابع مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا ابْن نمير وَأَبُو أُسَامَة، قَالَا: حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَحدثنَا ابْن نمير، وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا عبيد الله، قَالَ: حَدثنِي نَافِع (عَن ابْن عمر أَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى من أجل سقايته، فَأذن لَهُ.
قَوْله: (وَعقبَة بن خَالِد) عطف على قَوْله: (أَبُو أُسَامَة) أَي: تَابع ابْن نمير أَيْضا عقبَة بن خَالِد أَبُو مَسْعُود الْكُوفِي. وَأخرج مُتَابَعَته عُثْمَان بن أبي شيبَة فِي مُسْنده عَنهُ.
قَوْله: (وَأَبُو ضَمرَة) عطف على مَا قبله أَي: تَابع ابْن نمير أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم، واسْمه أنس بن عِيَاض.
وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي: بَاب سِقَايَة الْحَاج عَن عبد الله بن أبي الْأسود عَن أبي ضَمرَة عَن عبيد الله عَن نَافِع الحَدِيث. وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذِه المتابعات هُنَا بعد أَن روى هَذَا الحَدِيث من ثَلَاث طرق لأجل شكّ وَقع فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد الْقطَّان فِي وَصله، وَقد أخرجه أَحْمد عَن يحيى عَن عبيد الله عَن نَافِع، قَالَ: لَا أعلمهُ إلاَّ عَن ابْن عمر، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وصل هَذَا الحَدِيث بِلَا شكّ فِيهِ الدَّرَاورْدِي، وَعلي بن مسْهر وَأَبُو حَمْزَة وَعقبَة بن خَالِد وَمُحَمّد بن فليح ومُوسَى بن عقبَة عَن عبيد الله وأرسله ابْن الْمُبَارك عَن عبيد الله.
431 - (بابُ رَمْيِ الجِمَارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت رمي الْجمار، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن حَدِيث الْبَاب لَا يدل إلاَّ على بَيَان وَقت الْجمار.
وَقَالَ جابِرٌ رَمَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ ضُحىً ورمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَهَذَا مُعَلّق وَصله مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَابْن إِدْرِيس عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير (عَن جَابر، قَالَ: رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى وَأما بعد فَإِذا زَالَت الشَّمْس) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة يحيى بن سعيد، وَالتِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن خشرم: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير (عَن جَابر، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْمِي يَوْم النَّحْر ضحى وَأما بعد ذَلِك فَبعد زَوَال الشَّمْس) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الله بن إِدْرِيس.
قَوْله: (ضحى) الرِّوَايَة فِيهِ بِالتَّنْوِينِ على أَنه مَصْرُوف، وَهُوَ مَذْهَب النُّحَاة من أهل الْبَصْرَة، سَوَاء قصد التَّعْرِيف أَو التنكير. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: لَقيته ضحى وضحى إِذا أردْت بِهِ ضحى يَوْمك لم تنونه، وَأما وَقت الضُّحَى بِالضَّمِّ وَالْقصر. فَقَالَ الْجَوْهَرِي: ضحوة النَّهَار بعد طُلُوع الشَّمْس، ثمَّ بعده الضُّحَى وَهُوَ حِين تشرق الشَّمْس مَقْصُور يؤنث وَيذكر، فَمن أنث ذهب إِلَى أَنَّهَا جمع: ضحوة، وَمن ذكر ذهب إِلَى أَنه إسم على فعل مثل صرد ونغر، وَهُوَ ظرف غير مُتَمَكن مثل: سحر. قَالَ: ثمَّ بعده الضحاء مَمْدُود مُذَكّر، وَهُوَ عِنْد ارْتِفَاع النَّهَار الْأَعْلَى. قَوْله: (وَرمى بعد ذَلِك بعد الزَّوَال) يَعْنِي رمي الْجمار أَيَّام التَّشْرِيق.
وَيُسْتَفَاد من الحَدِيث حكمان: الأول: أَن وَقت رمي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر ضحى اقْتِدَاء بِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْمُسْتَحبّ أَن يَرْمِي بعد طُلُوع الشَّمْس ثمَّ يَأْتِي بباقي الْأَعْمَال فَيَقَع الطّواف فِي ضحوة النَّهَار. انْتهى. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ مُخَالف للْحَدِيث على مُقْتَضى تَفْسِير أهل اللُّغَة أَن ضحوة النَّهَار مُتَقَدّمَة على الضُّحَى، وَهَذَا وَقت الِاخْتِيَار، وَأما أول وَقت الْجَوَاز فَهُوَ بعد طُلُوع الشَّمْس، وَهَذَا مَذْهَبنَا لما روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: أَي بني لَا ترموا(10/85)
الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس. وَأما آخِره فَإلَى غرُوب الشَّمْس، وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز الرَّمْي بعد النّصْف الْأَخير من اللَّيْل، وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) لشَيْخِنَا: وَأما آخر وَقت رمي جَمْرَة الْعقبَة فَاخْتلف فِيهِ كَلَام الرَّافِعِيّ، فَجزم فِي (الشَّرْح الصَّغِير) أَنه يَمْتَد إِلَى الزَّوَال، قَالَ: وَالْمَذْكُور فِي (النِّهَايَة) جزما امتداده إِلَى الْغُرُوب، وَحكى وَجْهَيْن فِي امتداده إِلَى الْفجْر: أصَحهمَا: أَنه لَا يَمْتَد. وَكَذَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) وَفِي (التَّوْضِيح) : رمي جَمْرَة الْعقبَة من أَسبَاب التَّحَلُّل عندنَا، وَلَيْسَ بِرُكْن، خلافًا لعبد الْملك الْمَالِكِي حَيْثُ قَالَ: من خرجت عَنهُ أَيَّام منى وَلم يرم جَمْرَة الْعقبَة بَطل حجه، فَإِن ذكر بعد غرُوب شمس يَوْم النَّحْر فَعَلَيهِ دم، وَإِن تذكر بعد فَعَلَيهِ بَدَنَة، وَقَالَ ابْن وهب: لَا شَيْء عَلَيْهِ مَا دَامَت أَيَّام منى. وَفِي (الْمُحِيط) أَوْقَات رمي جَمْرَة الْعقبَة ثَلَاثَة: مسنون بعد طُلُوع الشَّمْس، ومباح بعد زَوَالهَا إِلَى غُرُوبهَا، ومكروه وَهُوَ الرَّمْي بِاللَّيْلِ. وَلَو لم يرم حَتَّى دخل اللَّيْل فَعَلَيهِ أَن يرميها فِي اللَّيْل، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَعَن أبي يُوسُف، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ: لَا يَرْمِي فِي اللَّيْل وَعَلِيهِ دم، وَلَو لم يرمِ فِي يَوْم النَّحْر حَتَّى أصبح من الْغَد رَمَاهَا وَعَلِيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة، خلافًا لَهما.
الحكم الثَّانِي: هُوَ أَن الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق مَحَله بعد زَوَال الشَّمْس، وَهُوَ كَذَلِك، وَقد اتّفق عَلَيْهِ الْأَئِمَّة. وَخَالف أَبُو حنيفَة فِي الْيَوْم الثَّالِث مِنْهَا، فَقَالَ: يجوز الرَّمْي فِيهِ قبل الزَّوَال اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ: إِن رمى فِي الْيَوْم الأول أَو الثَّانِي قبل الزَّوَال أعَاد، وَفِي الثَّالِث يجْزِيه. وَقَالَ عَطاء وطاووس: يجوز فِي الثَّلَاثَة قبل الزَّوَال، وَاتفقَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: أَنه إِذا مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق وَغَابَتْ الشَّمْس من آخرهَا فقد فَاتَ الرَّمْي، وَيجْبر ذَلِك بِالدَّمِ.
6471 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا مِسْغَرٌ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ سألْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَتَى أرْمِي الجِمَارَ قَالَ إذَا رَمَى إمَامُكَ فأرْمِهْ فأعَدْتُ عَلَيْهِ المَسْألَةَ قَالَ كُنَّا نَتَحَيَّنُ فإذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل هَذَا، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن ومسعر بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وبالراء ابْن كدام، مر فِي كتاب الْوضُوء، وبرة، بِالْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء المفتوحات على وزن شَجَرَة: ابْن عبد الرَّحْمَن الْمسلي، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا لَام، وَكلهمْ كوفيون.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ عَن سُفْيَان ومسعر.
قَوْله: (مَتى أرمي الْجمار؟) ، يَعْنِي: فِي غير يَوْم الْأَضْحَى. قَوْله: (إِذا رمى إمامك) أَرَادَ بِهِ الْأَمِير الَّذِي على الْحَج، وَكَانَ ابْن عمر خَافَ عَلَيْهِ أَن يُخَالف الْأَمِير فَيحصل لَهُ مِنْهُ ضَرَر، فَلَمَّا أعَاد إِلَيْهِ الْمَسْأَلَة لم يَسعهُ الكتمان، فَأعلمهُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فارمه) ، بهاء سَاكِنة لِأَنَّهَا هَاء السكت، والْحَدِيث رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن مسعر بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَقَالَ فِيهِ: (فَقلت لَهُ: أَرَأَيْت إِن أخر إمامي؟) أَي: الرَّمْي، فَذكر لَهُ الحَدِيث، أخرجه ابْن أبي عمر فِي (مُسْنده) عَنهُ وَمن طَرِيقه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَفظه: (فَإِذا زاغت الشَّمْس) ، أَو زَالَت. قَوْله: (كُنَّا نتحيَّن) على وزن: نتفعل، من: الْحِين، وَهُوَ الزَّمَان أَي: نراقب الْوَقْت. قَوْله: (فَإِذا زَالَت الشَّمْس رمينَا) أَي: فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَعند الْجُمْهُور: لَا يجوز الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَهِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة إلاَّ بعد الزَّوَال. وَقَالَ عَطاء وطاووس: يجْزِيه فِيهَا قبل الزَّوَال، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَاتَّفَقُوا أَنه إِذا مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق وَغَابَتْ الشَّمْس من آخرهَا فقد فَاتَ الرَّمْي، وَيجْبر بِالدَّمِ. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِذا أخر رمي يَوْم إِلَى يَوْم بعده أَو أخر الرَّمْي كُله إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق ترك السّنة، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَعند أبي حنيفَة: إِن ترك حَصَاة أَو حصاتين أَو ثَلَاثًا إِلَى الْغَد رَمَاهَا وَعَلِيهِ لكل حَصَاة نصف صَاع، وَإِن ترك أَرْبعا إِلَى الْغَد فَعَلَيهِ دم، وَالله أعلم.
531 - (بابُ رَمْيِ الجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رمي الْجمار من بطن الْوَادي، وَأَرَادَ بِهِ رمي جمار الْعقبَة يَوْم النَّحْر، وَهَذَا هُوَ صفة رمي جَمْرَة الْعقبَة وَهِي أَن يَرْمِي من بطن الْوَادي من أَسْفَل إِلَى أَعلَى. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عَطاء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلوا إِذا رمى الْجَمْرَة؟ قلت: هَذَا فِي الْجَمْرَتَيْن الآخرتين، وَأما فِي جَمْرَة الْعقبَة فَمن بطن الْوَادي.(10/86)
7471 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخْبرَنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ يَزيدَ قَالَ رَمَى عَبْدُ الله منْ بَطْنِ الوَادِي فَقُلْتُ يابا عَبْدِ الرَّحْمانِ إنَّ نَاسا يَرْمُونَها مِنْ فَوْقِهَا فقَال والَّذِي لاَ إل هـ غَيْرُهُ هاذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن كثير ضد الْقَلِيل وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وسُفْيَان مكي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله لِأَن عبد الرَّحْمَن هُوَ خَال إِبْرَاهِيم. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وَهُوَ الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وَعبد الرَّحْمَن.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد وَعَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن منْجَاب بن الْحَارِث، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَبُنْدَار وَابْن الْمثنى، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن يحيى كِلَاهُمَا عَن أبي المحياة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن يُوسُف بن عِيسَى، وهناد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي وَمَالك بن الْخَلِيل وَعَن مُجَاهِد بن مُوسَى وَعَن هناد عَن أبي المحياة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رمى عبد الله) ، أَي ابْن مَسْعُود أَي: رمى جَمْرَة الْعقبَة من بطن الْوَادي، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: لما أَتَى عبد الله جَمْرَة الْعقبَة استبطن الْوَادي، أَي: وقف فِي بطن الْوَادي. قَوْله: (يَا با عبد الرَّحْمَن) أَصله: يَا أَبَا، بِالْهَمْزَةِ وعادتهم تسهيل الْهمزَة فِي هَذَا، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن كنية عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (وَالَّذِي لَا إل هـ غَيره. .) إِلَى آخِره، حلف ابْن مَسْعُود من غير دَاع لذَلِك لأجل تَأْكِيد كَلَامه، وَذَلِكَ أَنه لما سمع من عبد الرَّحْمَن بن يزِيد مَا نقل عَن هَؤُلَاءِ الَّذين يرْمونَ جَمْرَة الْعقبَة من فَوق الْوَادي على خلاف مَا يَفْعَله الشَّارِع صَعب عَلَيْهِ ذَلِك، وَكَرِهَهُ مِنْهُم، وَأنكر عَلَيْهِم غَايَة الْإِنْكَار حَتَّى أَلْجَأَهُ ذَلِك إِلَى الْيمن. ثمَّ الْحِكْمَة فِي ذكر ابْن مَسْعُود لسورة الْبَقَرَة دون غَيرهَا من السُّور، وَإِن كَانَ قد أنزل عَلَيْهِ كل السُّور، وَأَن مُعظم الْمَنَاسِك مَذْكُور فِي سُورَة الْبَقَرَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من هُنَا رمى من أنزل عَلَيْهِ أُمُور الْمَنَاسِك وَأخذ عَنهُ الشَّرْع فَهُوَ أولى وأحق بالاتباع مِمَّن رمى الْجَمْرَة من فَوْقهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن السّنة رمي جَمْرَة الْعقبَة من بطن الْوَادي، وَلَو رَمَاهَا من أَسْفَلهَا كره. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَلَو رَمَاهَا من أَسْفَلهَا جَازَ. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يرميها من فَوْقهَا ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا يرميها إلاَّ من أَسْفَلهَا وَقَالَ ابْن بطال رمى جَمْرَة الْعقبَة من حَيْثُ يَتَيَسَّر من الْعقبَة من أَو أَسْفَلهَا أَو أَعْلَاهَا أَو أوسطها، كل ذَلِك وَاسع، والموضع الَّذِي يخْتَار بهَا بطن الْوَادي من أجل حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَكَانَ جَابر بن عبد الله يرميها من بطن الْوَادي، وَبِه قَالَ عَطاء وَسَالم، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ مَالك، فرميها من أَسْفَلهَا أحب إِلَيّ. وَقد روى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه جَاءَ والزحام عِنْد الْجَمْرَة، فَصَعدَ فَرَمَاهَا من فَوْقهَا. وَفِيه: أَنه لَا يكره قَول الرجل سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة آل عمرَان، وَنَحْو ذَلِك وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ مَا حكى عَن بعض التَّابِعين كَرَاهَة ذَلِك، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يُقَال السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهِ كَذَا، وَالأَصَح قَول الْجُمْهُور لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْآيَتَيْنِ من آخر سُورَة الْبَقَرَة فِي لَيْلَة كفتاه) . وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المرفوعة.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ الوَلِيدِ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الأعْمَشِ بِهاذَا(10/87)
هَذَا تَعْلِيق وَصله عبد الرَّحْمَن بن مَنْدَه بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، هَذَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
631 - (بابُ رَمْيِ الجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَياتٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن عدد رمي الْجمار إِنَّمَا هُوَ بِسبع حَصَيَات، بِفَتْح الصَّاد وَالْيَاء، جمع حَصَاة وَهُوَ الصَّوَاب بِخِلَاف مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي الْحسن: حصايات.
ذكَرَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: ذكر السَّبع عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب إِذا رمى الْجَمْرَتَيْن، وَهُوَ الْبَاب الرَّابِع بعد هَذَا الْبَاب على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله.
8471 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ انْتَهَى إلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى جعَلَ الْبَيْتَ عَن يَسَارِهِ ومِنىً عَنْ يَمِينِهِ ورَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ هاكَذا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورَةُ البَقَرَةِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عُيَيْنَة، بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَوَقع فِي بعض النّسخ مَذْكُورا عَن الحكم بن عتيبة وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ.
قَوْله: (إِلَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى) هِيَ جَمْرَة الْعقبَة آخر الجمرات الثَّلَاث بِالنِّسْبَةِ إِلَى المتوجه من منى إِلَى مَكَّة. قَوْله: (وَمنى عَن يَمِينه) أَي: وَجعل منى عَن يَمِينه. قَوْله: (وَرمى بِسبع) ، أَي: بِسبع حَصَيَات.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن رمي الْجَمْرَة لَا بُد أَن يكون بِسبع حَصَيَات، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء وَذهب عَطاء إِلَى أَنه إِن رمى بِخمْس أَجزَاء، وَقَالَ مُجَاهِد إِن رمى بست فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَاحْتج من قَالَ بذلك بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث سعد بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (رَجعْنَا فِي الْحجَّة مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبعضنا يَقُول: رميت بست حَصَيَات، وبعضنا يَقُول: رميت بِسبع، فَلم يُعِبْ بعضُنا على بعض) ، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة أبي مجلز، قَالَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن شَيْء من أَمر الْجمار، فَقَالَ: مَا أَدْرِي، رَمَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بست أَو سبع؟ وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْوَاجِب سبع، كَمَا صحّح من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهم. وَأجِيب: عَن حَدِيث سعد: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْنَد، وَعَن حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَنه ورد على الشَّك من ابْن عَبَّاس، وَشك الشاك لَا يقْدَح فِي جزم الْجَازِم، فَإِنَّهُ رَمَاهَا بِأَقَلّ من سبع حَصَيَات، فَذهب الْجُمْهُور فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض إِلَى أَن عَلَيْهِ دَمًا، وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر إِلَى أَن تَارِك حَصَاة مدا من طَعَام، وَفِي اثْنَتَيْنِ مَدين، وَفِي ثَلَاث فَأكْثر دَمًا. وَللشَّافِعِيّ قَول آخر: إِن فِي الْحَصَاة ثلث دم، وَله قَول آخر: إِن فِي الْحَصَاة درهما.
وَذهب أَبُو حنيفَة وصاحباه إِلَى أَنه إِن ترك أَكثر من نصف الجمرات الثَّلَاث فَعَلَيهِ دم، وَإِن ترك أقل من نصفهَا فَفِي كل حَصَاة نصف صَاع، وَعَن طَاوُوس إِن رمى سِتا يطعم تَمْرَة أَو لقْمَة. وَذكر الطَّبَرِيّ عَن بَعضهم: أَنه لَو ترك رمي جَمِيعهنَّ بعد أَن يكبر عِنْد كل جَمْرَة سبع تَكْبِيرَات أَجزَأَهُ ذَلِك، وَقَالَ: إِنَّمَا جعل الرَّمْي فِي ذَلِك بالحصى سَببا لحفظ التَّكْبِيرَات السَّبع، كَمَا جعل عقد الْأَصَابِع بالتسبيح سَببا لحفظ الْعدَد، وَذكر عَن يحيى ابْن سعيد أَنه سُئِلَ عَن الخرز والنوى يسبح بِهِ؟ قَالَ: حسن، قد كَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول: إِنَّمَا الْحَصَى للجمار ليحفظ بِهِ التَّكْبِيرَات. وَقَالَ الحكم وَحَمَّاد: من نسي جَمْرَة أَو جمرتين أَو حصاتين يهريق دَمًا. وَقَالَ عَطاء من نسي شَيْئا من رمي الْجمار فَذكر لَيْلًا أَو نَهَارا فَيلْزم مَا نسي، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق فَعَلَيهِ دم. وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ مَالك: إِن نسي حَصَاة من الْجَمْرَة حَتَّى ذهبت أَيَّام الرَّمْي ذبح شَاة، وَإِن نسي جَمْرَة تَامَّة ذبح بقرة.
وَاخْتلفُوا فِيمَن(10/88)
رمى سبع حَصَيَات فِي كل مرّة وَاحِدَة. فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجْزِيه إلاَّ عَن حَصَاة وَاحِدَة وَيَرْمِي بعْدهَا سِتا. وَقَالَ عَطاء: تجزيه عَن السَّبع، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة كَمَا فِي سياط الْحَد سَوْطًا سَوْطًا، ومجتمعة إِذا علم وُصُول الْكل إِلَى بدنه، هَذَا الَّذِي ذكر عَن أبي حنيفَة ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) . وَذكر فِي (الْمُحِيط) : وَلَو رمى إِحْدَى الْجمار بِسبع حَصَيَات رمية وَاحِدَة فَهِيَ بِمَنْزِلَة حَصَاة، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يَرْمِي سِتّ مَرَّات. قلت: الْعُمْدَة فِي النَّقْل عَن صَاحب مَذْهَب من الْمذَاهب على نقل صَاحب من أَصْحَاب ذَلِك الْمَذْهَب.
وَمن فَوَائده: أَنه يَرْمِي الْجَمْرَة وَهُوَ يَجْعَل الْبَيْت عَن يسَاره وَمنى عَن يَمِينه، وَهُوَ أحد الْوُجُوه للشَّافِعِيَّة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، قَالَ: وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء، وَفِي وَجه: أَنه يستدبر الْقبْلَة وَيسْتَقْبل الْجَمْرَة مِمَّا يَلِي مَكَّة، وَتَكون منى أَيْضا أَمَامه، وَبِه قطع الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَفِي وَجه: يسْتَقْبل الْقبْلَة وَيجْعَل الْجَمْرَة على يَمِينه وَمنى خلف ظَهره. وَمِنْهَا: أَنه لَا بُد من مُسَمّى الرَّمْي وَأَنه لَا يَكْفِي الْوَضع، وَهُوَ كَذَلِك عِنْد الْجُمْهُور، وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن الْمَالِكِيَّة: أَن الطرح والوضع لَا يجزىء. قَالَ: وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي يجزىء الطرح وَلَا يجزء الْوَضع. قَالَ: ووافقنا أَبُو ثَوْر إلاَّ أَنه قَالَ: إِن كَانَ يُسَمِّي الطرح رميا أَجزَأَهُ، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه يَكْفِي الْوَضع. قلت: قَالَ صَاحب (الْمُحِيط) : وضع الْحَصَاة لَا يجْزِيه عَن الرَّمْي ويجزيه طرحها لِأَنَّهُ رمى حَقِيقَة. وَمِنْهَا: أَن المُرَاد بِسبع جمرات وَهِي الحصيات. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يجوز الرَّمْي بِكُل مَا كَانَ من جنس الأَرْض: كالحجر والمدر، وَالْمرَاد السبج وَكسر الآحر، وَلَا يجوز بِمَا لَيْسَ من جنس الأَرْض: كالذهب وَالْفِضَّة واللؤلؤ والعنبر، وَذهب دَاوُد إِلَى جَوَازه بِكُل شَيْء حَتَّى بالبعرة والعصفور الْمَيِّت، وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: لَا يجوز إلاَّ بالحصى، وَقَالَ أَحْمد: لَا يجوز بِالْحجرِ الْكَبِير.
731 - (بابُ مَنْ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ فجَعَلَ الْبَيْتَ عنْ يَسَارِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من رمى جَمْرَة الْعقبَة وَهِي الْجَمْرَة الْكُبْرَى، وَجعل الْبَيْت عَن يسَاره وَجعل منى عَن يَمِينه. قَوْله: (فَجعل) ويروى: (وَجعل) بِالْوَاو.
9471 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا الحَكَمُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ أنَّهُ حَجَّ مَعَ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فرَآهُ يَرْمِي الجَمرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَياتٍ فجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ ومِنىً عنْ يَمِينِه ثُمَّ قَالَ هَذا مَقامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورَةُ الْبَقَرَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. أخرجه عَن آدم ابْن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن الحجم بن عتيبة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي الحَدِيث السَّابِق.
831 - (بابٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ تَكْبِيرَةً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْحَاج إِذا رمى جَمْرَة الْعقبَة يكبر مَعَ كل حَصَاة تَكْبِيرَة.
قالَهُ ابنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ كل حَصَاة عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَاوِيا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي: بَاب إِذا رمى الْجَمْرَتَيْن، يقوم، يَأْتِي بعد هَذَا الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب.
0571 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ عَبْدِ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ الحَجَّاجَ يَقُولُ علَى المِنْبَرِ السُّورَةَ الَّتي يُذْكَرُ فِيها الْبَقَرةُ والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ قَالَ فَذَكَرْتُ ذالِكَ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ يَزِيدَ أنَّهُ كانَ معَ ابنِ(10/89)
مَسْعُودَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حِينَ رمَى جَمرَةَ الْعَقَبَةِ فاسْتَبْطَنَ الوَادِي حَتَّى إذَا حاذَى بالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا فرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ قالَ مِنْ هاهُنَا والَّذِي لاَ إِلاهَ غَيْرُهُ قامَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يكبر مَعَ كل حَصَاة) ، وَهَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَالْحجاج هُوَ ابْن يُوسُف نَائِب عبد الْملك بن مَرْوَان بالعراق.
قَوْله: (قَالَ سَمِعت الْحجَّاج يَقُول) هَذَا حِكَايَة عَن الْأَعْمَش عَن الْحجَّاج لأجل إِظْهَار خطئه، وَلم يقْصد بِهِ الرِّوَايَة عَنهُ لِأَنَّهُ لم يكن أَهلا لذَلِك، وأصل الْقَضِيَّة أَن الْأَعْمَش سمع الْحجَّاج يَقُول وَهُوَ على الْمِنْبَر: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا آل عمرَان وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا النِّسَاء، وَلم يقل: سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة آل عمرَان وَسورَة النِّسَاء، وَلم ير بِإِضَافَة السُّورَة إِلَى الْبَقَرَة وَلَا إِلَى آل عمرَان وَلَا إِلَى النِّسَاء، وَنَحْو ذَلِك. وروى النَّسَائِيّ بِلَفْظ: لَا تَقولُوا: سُورَة الْبَقَرَة، قولا: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأَعْمَش، قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج بن يُوسُف يَقُول وَهُوَ يخْطب على الْمِنْبَر: ألفوا الْقُرْآن كَمَا أَلفه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا آل عمرَان. قَالَ: فَلَقِيت إِبْرَاهِيم فَأَخْبَرته بقوله، فَسَبهُ، ثمَّ قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن يزِيد أَنه حج مَعَ عبد الله بن مَسْعُود فَأتى جَمْرَة الْعقبَة، فاستبطن الْوَادي فاستعرضها فَرَمَاهَا من بطن الْوَادي بِسبع حَصَيَات، يكبر مَعَ كل حَصَاة. قَالَ: فَقلت: يابا عبد الرَّحْمَن إِن النَّاس يَرْمُونَهَا من فَوْقهَا؟ فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إل هـ غَيره مقَام الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة. انْتهى. وَلما قَالَ الْأَعْمَش لإِبْرَاهِيم مَا قَالَ، وحدثه إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن، رد عَلَيْهِ بذلك وَأظْهر خطأ الْحجَّاج عَلَيْهِ مَا يسْتَحق، وَقَالَ عِيَاض: إِن كَانَ الْحجَّاج أَرَادَ بقوله: كَمَا أَلفه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، تأليف الْآي فِي كل سُورَة ونظمها على مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصحف، فَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين، أَجمعُوا أَن ذَلِك تأليف سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ يُرِيد تأليف السُّورَة بَعْضهَا على أثر بعض، فَهُوَ قَول بعض الْفُقَهَاء والقراء، وَخَالفهُم جمَاعَة من الْمُحَقِّقين، وَقَالُوا: بل هُوَ اجْتِهَاد من الْأمة وَلَيْسَ بتوقيف، وَقَالَ أَبُو الْفضل: تَقْدِيم الْحجَّاج سُورَة النِّسَاء على آل عمرَان فِي رِوَايَة مُسلم دَلِيل على أَنه لم يرد إلاَّ نظم الْآي، لِأَن الْحجَّاج إِنَّمَا كَانَ يتبع مصحف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا يُخَالِفهُ. قَوْله: (حِين رمى جَمْرَة الْعقبَة) ، هِيَ الْجَمْرَة الْكُبْرَى وَلَيْسَت هِيَ من منى بل هِيَ حد منى من جِهَة مَكَّة، وَهِي الَّتِي بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَنْصَار عِنْدهَا على الْهِجْرَة، والجمرة اسْم لمجتمع الْحَصَى، سميت بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس بهَا، فَيَقُول: تجمر بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا. وَقيل: إِن الْعَرَب تسمي الْحَصَى الصغار جمارا، فَسَمت الشَّيْء بلازمه. قَوْله: (فاستبطن الْوَادي) أَي: دخل فِي بطن الْوَادي. قَوْله: (حَتَّى إِذا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ) أَي: قابلها، وَالْبَاء فِيهِ زَائِدَة، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ هُنَاكَ شَجَرَة عِنْد الْجَمْرَة. وَقد روى ابْن أبي شيبَة عَن الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب قَالَ: رَأَيْت الْقَاسِم وسالما ونافعا يرْمونَ من الشَّجَرَة، وَمن طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْأسود: أَنه كَانَ إِذا جاور الشَّجَرَة رمى جَمْرَة الْعقبَة من تَحت غُصْن من أَغْصَانهَا. قَوْله: (اعترضها) أَي: الشَّجَرَة. قَالَ بَعضهم: قلت: مَعْنَاهُ أَتَاهَا من عرضهَا، نبه عَلَيْهِ الدَّاودِيّ. قَوْله: (فَرمى) ، أَي: الْجَمْرَة. قَوْله: (يكبر) جملَة حَالية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ مِنْهَا: لَا بُد من رمي سبع بحصات. وَمِنْهَا: التَّكْبِير مَعَ كل حَصَاة، وَأَجْمعُوا على اسْتِحْبَابه فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض، وَأَنه لَو ترك التَّكْبِير أَجزَأَهُ إِجْمَاعًا وَفِيه نظر، لِأَن بَعضهم يعده وَاجِبا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكبر مَعَ كل حَصَاة، وَيَقُول: بِسم الله وَالله أكبر رغما للشَّيْطَان وَحزبه، وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول، كلما رمى حَصَيَات: أللهم إهدني بِالْهدى، وقني بالتقوى، وَاجعَل الْآخِرَة خيرا لي من الأولى. وَكَانَ ابْن مَسْعُود وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يَقُولَانِ عِنْد ذَلِك: أللهم اجْعَلْهُ حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: فَإِن سبح لَا شَيْء عَلَيْهِ.(10/90)
931 - (بابُ منْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ولَمْ يَقِفْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَالْحَال أَنه لم يقف عِنْدهَا.
قالَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة وَلَا يقف عِنْدهَا. أخرج البُخَارِيّ هَذَا مُسْندًا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، وَقد روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده نَحوه، وَلَا يعرف فِيهِ خلاف.
041 - (بابٌ إذَا رَمىَ الجَمْرَتَيْنِ يَقُومُ ويُسْهِلُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا رمى الْجَمْرَتَيْن، وهما الْجَمْرَة الأولى وَالثَّانيَِة غير جَمْرَة الْعقبَة. قَوْله: (يقوم) أَي: يقف عِنْدهمَا طَويلا. وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يقف عِنْد الْجَمْرَة الأولى، فَكَانَ ابْن مَسْعُود يقف عِنْدهَا قدر قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة مرَّتَيْنِ، وَعَن ابْن عمر: كَانَ يقف عِنْدهَا قدر قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة عِنْد الْجَمْرَتَيْن، وَعَن أبي مجلز قَالَ: كَانَ ابْن عمر يشبر ظله ثَلَاثَة أشبار ثمَّ يَرْمِي، وَقَامَ عِنْد الْجَمْرَتَيْن قدر قِرَاءَة سُورَة يُوسُف، وَكَانَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يقف بِقدر قِرَاءَة سُورَة من المئين، وَلَا تَوْقِيف فِي ذَلِك عِنْد الْعلمَاء، وَإِنَّمَا هُوَ ذكر وَدُعَاء، فَإِن لم يقف وَلم يدع فَلَا حرج عَلَيْهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء إلاَّ الثَّوْريّ فَإِنَّهُ اسْتحبَّ أَن يطعم شَيْئا أَو يهريق دَمًا. قَوْله: (ويسهل) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، أَي: يقْصد السهل من الأَرْض وَهُوَ الْمَكَان المصطحب الَّذِي لَا ارْتِفَاع فِيهِ. قَوْله: (مُسْتَقْبل الْقبْلَة) كَلَام إضافي وَقع حَالا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يُسهل أَن ينزل إِلَى السهل من بطن الْوَادي، يُقَال: أسهل الْقَوْم إِذا نزلُوا من الْجَبَل إِلَى السهل.
1571 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا طَلحَةُ بنُ يَحْيَى قَالَ حَدثنَا يُونسُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ كانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَياتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إثْرِ كُلِّ حَصاةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً ويَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى ثُمَّ يأخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُّ ويَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً ويَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي ولاَ يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ هاكَذَا رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَلُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَذكره أَيْضا فِي بَابَيْنِ بعده، وَعُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَطَلْحَة بن يحيى بن النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش الزرقي الْأنْصَارِيّ الْمَدِينِيّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْكتاب غير هَذَا الحَدِيث. فَإِن قلت: فِيهِ مقَال، فَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، وَلِهَذَا لم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا قلت: وَثَّقَهُ ابْن معِين، على أَن البُخَارِيّ لم يحْتَج بِهِ وَحده، فقد استظهر بمتابعة سُلَيْمَان بن بِلَال فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وبمتابعة عُثْمَان بن عمر أَيْضا، كِلَاهُمَا عَن يُونُس، وتابعهم عبد الله بن عمر النميري عَن يُونُس عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
قَوْله: (الْجَمْرَة الدُّنْيَا) ، بِضَم الدَّال أَو بِكَسْرِهَا أَي: الْقَرِيبَة إِلَى جِهَة مَسْجِد الْخيف، وَهِي أولى الجمرات الَّتِي ترمي من ثَانِي يَوْم النَّحْر، وَهِي أقرب الجمرات من منى وأبعدها من مَكَّة. قَوْله: (على إِثْر كل حَصَاة) إِثْر الشَّيْء، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: عقيبة. قَوْله: (حَتَّى يسهل) ، بِنصب اللَّام بِتَقْدِير: أَن، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله:(10/91)
(فَيقوم طَويلا) ، وَفِي رِوَايَة سلميان بن بِلَال: فَيقوم قيَاما طَويلا. قَوْله: (وَيرْفَع يَدَيْهِ) أَي: فِي الدُّعَاء، وَهَذَا يدل على مَشْرُوعِيَّة رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الدُّعَاء، وروى مَالك مَنعه فِي جَمِيع المشاعر، وروى فِي الاسْتِسْقَاء: (رَافعا يَدَيْهِ وَقد جعل بطونهما إِلَى الأَرْض، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا أعلم أحدا أنكر ذَلِك غير مَالك فَإِن ابْن الْقَاسِم حكى عَنهُ أَنه لم يكن يعرف رفع الْيَدَيْنِ هُنَالك قَالَ وَاتِّبَاع السّنة أفضل وَقيل يرفع حَكَاهُ ابْن التِّين وَابْن الْحَاجِب. قَوْله: (ثمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى) أَي: الْجَمْرَة الْوُسْطَى. قَوْله: (ثمَّ يَأْخُذ ذَات الشمَال) ، بِكَسْر الشين أَي: جَانب الشمَال. قَوْله: (ثمَّ يَرْمِي جَمْرَة ذَات الْعقبَة) ، هِيَ جَمْرَة الْعقبَة. وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بن عمر: (ثمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة الَّتِي عِنْد الْعقبَة) . قَوْله: (ثمَّ ينْصَرف) ، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: (وَلَا يقف عِنْدهَا) .
141 - (بابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ جَمْرَةِ الدُّنْيا والوُسْطَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْيَدَيْنِ عِنْد جَمْرَة الدُّنْيَا أَي: الْقَرِيبَة إِلَى مَسْجِد الْخيف، وَالْوُسْطَى هِيَ الْجَمْرَة الثَّانِيَة بَين الْجَمْرَة الأولى وجمرة الْعقبَة.
241 - (بابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الجَمْرَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء عِنْد الْجَمْرَتَيْن الأولى وَالثَّانيَِة.
3571 - وقالَ مُحَمَّدٌ حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا رَمَى الجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنىً يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَياتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ثُمَّ تَقَدَّمَ أمامَها فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ رَافِعا يَدَيْهِ يَدْعُو وكانَ يُطِيلُ الوُقُوفَ ثُمَّ يأتِي الجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ اليَسَارِ مِمَّا يَلِي الوَادِي فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعا يَدَيْهِ يَدْعُو ثُمَّ يأتِي الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عِنْدَ كْلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ولاَ يَقِفُ عِنْدَهَا. قالَ الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ سَالِمَ بنَ عَبْدِ الله يُحَدِّثُ مِثْلَ هاذَا عنْ أبِيهِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكانَ ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
(انْظُر الحَدِيث 1571 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (رَافعا يَدَيْهِ يَدْعُو) .
وَرِجَاله أَرْبَعَة الأول: مُحَمَّد، ذكره مُجَردا عَن نسبه، وَاخْتلف فِيهِ،(10/92)
فَقَالَ أَبُو عَليّ بن السكن: هُوَ مُحَمَّد بن بشار، وَقَالَ الكلاباذي: هُوَ مُحَمَّد بن بشار أَو مُحَمَّد بن الْمثنى. قَالَ: وروى البُخَارِيّ أَيْضا فِي (جَامعه) عَن مُحَمَّد بن عبد الله الذهلي، وَقَالَ بَعضهم: وَجزم غَيره بِأَنَّهُ الْهُذلِيّ. قلت: لم أر أحدا جزم بِهِ، وَإِنَّمَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي هَؤُلَاءِ المحمدين، فَقَالَ ابْن السكن: هُوَ مُحَمَّد بن بشار وَلم يجْزم بِهِ، وَقَالَ الكلاباذي بِالشَّكِّ بَين مُحَمَّد بن بشار وَبَين مُحَمَّد ابْن الْمثنى. قَالَ: وروى البُخَارِيّ فِي (جَامعه) أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله الذهلي وَلم يجْزم بِأحد مِنْهُم. الثَّانِي: عُثْمَان بن عمر بن فَارس الْعَبْدي الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي هَذَا الحَدِيث؟ هَل هُوَ مُسْند أم مُرْسل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا من مَرَاسِيل الزُّهْرِيّ، وَلَا يصير مُسْندًا بِمَا ذكره آخرا لِأَنَّهُ قَالَ: يحدث بِمثلِهِ لَا بِنَفسِهِ. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمصدر بِهِ الْبَاب، وَلَا اخْتِلَاف بَين أهل الحَدِيث بِأَن الْإِسْنَاد بِمثل هَذَا السِّيَاق مَوْصُول، وغايته أَنه من تَقْدِيم الْمَتْن على بعض السَّنَد، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي جَوَاز ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَأغْرب الْكرْمَانِي، فَقَالَ: وَنقل مَا قَالَه الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ، ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مُرَاد الْمُحدث بقوله: فِي هَذَا بِمثلِهِ إلاَّ نَفسه، ثمَّ احْتج فِي دَعْوَاهُ بِمَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن نَاجِية عَن ابْن الْمثنى وَغَيره عَن عُثْمَان بن عمر، وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ الزُّهْرِيّ: سَمِعت سالما يحدث بِهَذَا عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَعرف أَن المُرَاد بقوله: بِمثلِهِ: نَفسه. انْتهى. قلت: لَيْت شعري من أَيْن هَذَا التَّصَرُّف، وَكَيف يَصح احتجاجه فِي دَعْوَاهُ بِحَدِيث الْإِسْمَاعِيلِيّ، فَإِن الزُّهْرِيّ فِيهِ صرح بِالسَّمَاعِ عَن سَالم، وَسَالم صرح بِالتَّحْدِيثِ عَن أَبِيه، وَأَبوهُ صرح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف يدل هَذَا على أَن المُرَاد بقوله بِمثلِهِ نَفسه؟ وَهَذَا شَيْء عَجِيب، لِأَن بَين قَوْله: يحدث بِهَذَا عَن أَبِيه، وَبَين قَوْله: يحدث مثل هَذَا عَن أَبِيه، فرقا عَظِيما لِأَن مثل الشَّيْء غَيره، فَكيف يكون نَفسه؟ تيقظ فَأَنَّهُ مَوضِع التَّأَمُّل. قَوْله: (رَافعا يَدَيْهِ) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (يَدْعُو) جملَة وَقعت حَالا أَيْضا إِمَّا من الْأَحْوَال المتداخلة أَو المترادفة. وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت آنِفا.
341 - (بابُ الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الجِمَارِ والحَلْقِ قَبْلَ الإفَاضَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال الطّيب بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة وَبعد الْحلق قبل الْإِفَاضَة أَي: قبل طواف الزِّيَارَة وَهُوَ طواف الرُّكْن، وَإِنَّمَا لم يشر إِلَى الحكم فِي ذَلِك فِي التَّرْجَمَة لأجل الْخلاف فِيهِ. قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا أُبِيح للْحَاج بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة قبل الطّواف بِالْبَيْتِ، فروى عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه يحل لَهُ كل شَيْء إلاَّ النِّسَاء، وَهُوَ قَول سَالم وطاووس وَالنَّخَعِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الْبَاب، وروى عَن ابْن عمر وَابْنه: أَنه يحل لَهُ كل شَيْء إلاَّ النِّسَاء وَالطّيب وَقَالَ مَالك يحل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء وَالصَّيْد. وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : أكره لمن رمى جَمْرَة الْعقبَة أَن يتطيب حَتَّى يفِيض فَإِن فعل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قلت: مَذْهَب عُرْوَة بن الزبير وَجَمَاعَة من السّلف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنه لَا يحل للْحَاج اللبَاس وَالطّيب يَوْم النَّحْر وَإِن رمى جَمْرَة الْعقبَة وَحلق وَذبح حَتَّى تحل لَهُ النِّسَاء، وَلَا تحل لَهُ النِّسَاء حَتَّى يطوف طواف الزِّيَارَة. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يحيى بن عُثْمَان، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن أم قيس بنت مُحصن، قَالَت: دخل عَليّ عكاشة بن مُحصن وَآخر فِي منى مسَاء يَوْم الْأَضْحَى، فَنَزَعَا ثيابهما وتركا الطّيب. فَقلت: مَا لَكمَا؟ فَقَالَا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لنا: من لم يفضِ إِلَى الْبَيْت من عَشِيَّة هَذِه فَليدع الثِّيَاب وَالطّيب. وَقَالَ عَلْقَمَة وَسَالم وطاووس وَعبيد الله بن الْحسن وخارجة بن زيد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي (الصَّحِيح) وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق: إِذا رمى الْمحرم جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ حلق حل لَهُ كل شَيْء كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ إلاَّ النِّسَاء.
وَاخْتلفُوا فِي حكم الطّيب. فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأحمد فِي رِوَايَة: حكم الطّيب حكم اللبَاس فَيحل كَمَا يحل اللبَاس. وَقَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة: حكم الطّيب حكم الْجِمَاع فَلَا يحل لَهُ حَتَّى يحل الْجِمَاع. وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن مَعَه بِحَدِيث الْبَاب. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَاحْتج الطَّحَاوِيّ لأَصْحَابه بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مَرْفُوعا: (إِذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطّيب وَالثيَاب وكل شَيْء إلاَّ النِّسَاء) . وَفِيه الْحجَّاج بن أَرْطَأَة، وَبِحَدِيث الْحسن الْبَصْرِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَلم يسمع مِنْهُ، (قَالَ: إِذا رميتم الْجَمْرَة فقد حل لكم(10/93)
كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء. فَقَالَ لَهُ رجل: وَالطّيب؟ فَقَالَ: أما أَنا فقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضمخ رَأسه بالمسك. أفطيب هُوَ؟ قلت: سُبْحَانَ الله. آثَار التعصب الْبَاطِل لَا تَخْلُو عَنْهُم، فَلم لم يذكر صَاحب (التَّوْضِيح) حَدِيث الْبَاب فِي احتجاج الطَّحَاوِيّ لأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، فَإِنَّهُ احْتج لَهُم أَولا بِحَدِيث الْبَاب، وَأخرجه من طرق، وَاحْتج أَيْضا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) وَصدر كَلَامه بِهِ، وغمز بقوله: وَفِيه الْحجَّاج بن أَرْطَأَة، فَمَا للحجاج بن أَرْطَأَة وَقد احتجت بِهِ الْأَرْبَعَة وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا أخرج حَدِيثه؟ وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ طعن فِيهِ بِأَن الْحسن الْبَصْرِيّ لم يسمع من ابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُ لَيْسَ بالْحسنِ الْبَصْرِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحسن العرني، وَقد روى عَن يحيى بن معِين أَن الْحسن العرني لم يسمع من ابْن عَبَّاس، وَغَيره قَالَ: سمع مِنْهُ، فالمثبت أولى من النَّافِي على مَا عرف، وَقد ذهل صَاحب (التَّوْضِيح) وَلم يفرق بَين الْبَصْرِيّ والعرني، وَمَعَ هَذَا فَحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَأما الْجَواب عَن حَدِيث أم قيس، أُخْت عكاشة بن مُحصن، فَإِنَّهُ لَا يُعَارض حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِأَن حَدِيث عَائِشَة فِيهِ من الصِّحَّة مَا لَيْسَ فِي حَدِيث أم قيس، وَفِيه ابْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيثه هَذَا شَاذ.
441 - (بابُ طَوَافِ الوَدَاعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم طواف الْوَدَاع، وَإِنَّمَا أضمر الحكم اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب.
5571 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنِ ابنِ طَاووسِ عَنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أُمِرَ النَّاسُ أنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالْبَيْتِ إلاَّ أنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَن يكون آخر عَهدهم بِالْبَيْتِ) ، وَهُوَ لَا يكون إلاَّ بِالطّوافِ، وَهُوَ فِي آخر الْعَهْد طواف الْوَدَاع.
وَرِجَاله: تكَرر ذكرهم، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله بن طَاوُوس.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم، فَعَن قريب يَأْتِي، وَأخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن مُعلى بن أَسد. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور وَأبي بكر بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد الْمقري، والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ. وَعَن جَعْفَر بن مُسَافر مُخْتَصرا.
قَوْله: (أَمر النَّاس) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وأصل الْكَلَام: أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّاس أَن يكون آخر عَهدهم بِالْبَيْتِ. وَرَوَاهُ مُسلم نَحوه عَن سُفْيَان عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن سُلَيْمَان الْأَحول عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ النَّاس يَنْصَرِفُونَ فِي كل وَجه، فَقَالَ رَسُول الله،(10/94)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا ينصرفن أحدكُم حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ) . قَالَ زُهَيْر: يَنْصَرِفُونَ كل، وَجه وَلم يقل: فِي. وروى مُسلم أَيْضا من رِوَايَة الْحسن بن مُسلم (عَن طَاوُوس، قَالَ: كنت مَعَ ابْن عَبَّاس إِذْ قَالَ زيد بن ثَابت: تَعْنِي أَن تصدر الْحَائِض قبل أَن يكون آخر عهدها بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: أما لَا فسل فُلَانَة الْأَنْصَارِيَّة، هَل أمرهَا بذلك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: فَرجع زيد إِلَى ابْن عَبَّاس يضْحك، وَهُوَ يَقُول: مَا أَرَاك إلاَّ قد صدقت!) . وَفِي رِوَايَة: (فَسَأَلَهَا زيد ثمَّ رَجَعَ وَهُوَ يضْحك، فَقَالَ ... الحَدِيث كَمَا حَدَّثتنِي) . وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (أرسل زيد إِلَى ابْن عَبَّاس: إِنِّي وجدت الَّذِي قلت كَمَا قلت، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنِّي لأعْلم قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنِّسَاء، وَلَكِن أَحْبَبْت أَن أَقُول مَا فِي كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة: {ثمَّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . فقد قَضَت التفث ووفت النّذر وطافت بِالْبَيْتِ فَمَا بَقِي) . قَوْله: (أما لَا) بِكَسْر الْهمزَة وَفتح اللَّام وبالإمالة الْخفية، وَهُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور. قَالَ القَاضِي: ضَبطه الطَّبَرِيّ والأصيلي بِكَسْر اللَّام، قَالَ: وَالْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب فتحهَا إلاَّ على لُغَة من يمِيل. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي قَوْلهم: إفعل هَذَا إِمَّا لَا، مَعْنَاهُ: إفعله إِن كنت لَا تفعل غَيره. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أصل هَذِه الْكَلِمَة أَن وَمَا، فأدغمت النُّون فِي الْمِيم، وَمَا زَائِدَة فِي اللَّفْظ لَا حكم لَهَا، وَقد أمالت الْعَرَب: لَا، إمالة خُفْيَة. قَالَ: والعوام يشبعون إمالتها فَتَصِير ألفها يَاء، وَهُوَ خطأ، وَمَعْنَاهُ: إِن لم تفعل هَذَا فَلْيَكُن هَذَا. قَوْله: (بِالْبَيْتِ) خبر: كَانَ، يَعْنِي طواف الْوَدَاع لَا بُد أَن يكون آخر الْعَهْد بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ وَاجِب يلْزم بِتَرْكِهِ دم على الصَّحِيح عندنَا، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ مَالك وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر: هُوَ سنة لَا شَيْء فِي تَركه. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: هُوَ وَاجِب على الآفاقي دون الْمَكِّيّ والميقاتي، وَمن دونهم، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: أحب إليَّ أَن يطوف الْمَكِّيّ لِأَنَّهُ يخْتم الْمَنَاسِك، وَلَا يجب على الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَلَا على الْمُعْتَمِر لِأَن وُجُوبه عرف نصا فِي الْحَج، فَيقْتَصر عَلَيْهِ وَلَا على فَائت الْحَج، لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ الْعمرَة وَلَيْسَ لَهَا طواف الْوَدَاع، وَقَالَ مَالك: إِنَّمَا أَمر النَّاس أَن يكون آخر نسكهم الطّواف لقَوْله تَعَالَى: {ذَلِك وَمن يعظم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب} (الْحَج: 23) . وَقَالَ: {ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} (الْحَج: 33) . فَمحل الشعائر كلهَا وانقضاؤها بِالْبَيْتِ الْعَتِيق. قَالَ: وَمن أخَّر طواف الْوَدَاع وَخرج وَلم يطف، إِن كَانَ قَرِيبا رَجَعَ فَطَافَ، وَإِن لم يرجع فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ عَطاء وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أظهر قوليه، وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: إِن كَانَ قَرِيبا رَجَعَ فَطَافَ، وَإِن تبَاعد مضى وإهراق دَمًا.
وَاخْتلفُوا فِي حد الْقرب، فَروِيَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رد رجلا من مر الظهْرَان وَلم يكن ودع، وَبَين مر الظهْرَان وَمَكَّة ثَمَانِيَة عشر ميلًا، وَعند أبي حنيفَة يرجع مَا لم يبلغ الْمَوَاقِيت، وَعند الشَّافِعِي: يرجع من مَسَافَة لَا تقصر فِيهَا الصَّلَاة. وَعند الثَّوْريّ: يرجع مَا لم يخرج من الْحرم. وَاخْتلفُوا فِيمَن ودع ثمَّ بدا لَهُ فِي شِرَاء حَوَائِجه. فَقَالَ عَطاء: يُعِيد حَتَّى يكون آخر عَهده الطّواف بِالْبَيْتِ وبنحوه. قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يَشْتَرِي بعض حَوَائِجه وَطَعَامه فِي السُّوق، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن أَقَامَ يَوْمًا أَو نَحوه أعَاد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَو ودع وَأقَام شهرا أَو أَكثر أَجزَأَهُ. وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ.
6571 - حدَّثنا أصبَغُ بنُ الفَرَجِ قَالَ أخْبَرَنا ابنُ وَهْبٍ عنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ عَنْ قَتَادَةَ أنَّ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حدَّثهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى الظُّهْرَ والْعَصْرَ والمَغْرِبَ والْعِشَاءِ ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بالمحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إلَى البَيْتِ فَطَافَ بِهِ.
(الحَدِيث 6571 طرفه فِي: 4671) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ ركب إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ) لِأَن المُرَاد بِهِ طواف الْوَدَاع. فَإِن قلت: مَا وَجه قَوْله: إِنَّه صلى الظّهْر بالمحصب وَرمي هَذَا الْيَوْم يكون بعد الزَّوَال؟ قلت: لَا بُعد فِي هَذَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رمى فنفر فَنزل المحصب فصلى الظّهْر بِهِ، والْحَدِيث من أَفْرَاده. وَرِجَاله قد ذكرُوا وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ تكلم أَحْمد فِي حَدِيث عَمْرو عَن قَتَادَة أَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلهَذَا أَتَى البُخَارِيّ بالمتابعة أَيْضا. قَوْله: (بالمحصب) الْبَاء فِيهِ مُتَعَلق بقوله: صلى، وَقَوله: ثمَّ رقد عطف عَلَيْهِ، والمحصب، بِفَتْح الصَّاد الْمُشَدّدَة: اسْم لمَكَان متسع بَين منى وَمَكَّة، وَهُوَ بَين الجبلين إِلَى الْمَقَابِر، سمي بِهِ لِاجْتِمَاع الْحَصْبَاء فِيهِ بِحمْل السَّبِيل إِلَيْهِ.(10/95)
تابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني خالِدٌ عنْ سَعِيدٍ عنْ قَتادَةَ أنَّ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حدَّثَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع عَمْرو بن الْحَارِث فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة اللَّيْث بن سعد وَذكر هَذِه الْمُتَابَعَة الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث عَن اللَّيْث عَن خَالِد بن يزِيد السكْسكِي عَن سعيد بن أبي هِلَال، وهما قد تقدما فِي أول كتاب الْوضُوء، وَذكر الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ أَن خَالِدا تفرد بِهَذَا الحَدِيث عَن سعيد، وَأَن اللَّيْث تفرد بِهِ عَن خَالِد، وَأَن سعيد بن أبي هِلَال لم يروِ عَن قَتَادَة عَن أنس غير هَذَا.
541 - (بابٌ إذَا حاضَتِ المَرْأةُ بَعْدَما أفَاضَتْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَرْأَة إِذا حَاضَت بَعْدَمَا أفاضت، يَعْنِي: بَعْدَمَا طافت طواف الْإِفَاضَة الَّذِي هُوَ ركن وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يجب عَلَيْهَا طواف الْوَدَاع أم يسْقط عَنْهَا بِسَبَب الْحيض، وَإِذا وَجب هَل يجْبر بِدَم أم لَا.
7571 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القَاسِمِ عنْ أبِيهِ عَن عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاضَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أحَابِسَتُنَا هِيَ قالُوا إنَّهَا قَدْ أفَاضَتْ قَالَ فَلاَ إِذا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَنَّهَا أفاضت قَالَ: فَلَا إِذا) ، وَجه ذَلِك أَن حَاصِل الْمَعْنى أَن طواف الْوَدَاع سَاقِط عَن الْحَائِض لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخبر عَن صَفِيَّة أَنَّهَا حَاضَت قَالَ: أحابستنا هِيَ؟ فَلَمَّا أخبر أَنَّهَا قد أفاضت من قبل أَن تحيض، قَالَ: فَلَا إِذا، أَي: فَلَا تحبسنا حِينَئِذٍ، لِأَنَّهَا أدَّت الْفَرْض الَّذِي هُوَ ركن الْحَج. وَهَذَا قَول عوام أهل الْعلم، وَخَالف فِي ذَلِك طَائِفَة، فَقَالُوا: لَا يحل لأحد أَن ينفر حَتَّى يطوف طواف الْوَدَاع، وَلم يعذروا فِي ذَلِك حَائِضًا بحيضها، ذكره الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْن عمر وَزيد بن ثَابت، فَإِنَّهُم أمروا الْحَائِض بالْمقَام إِذا كَانَت حَائِضًا لطواف الْوَدَاع، فكأنهم أوجبوه عَلَيْهَا كَمَا يجب عَلَيْهَا طواف الْإِفَاضَة، وَأسْندَ ابْن الْمُنْذر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى نَافِع (عَن ابْن عمر، ققال: طافت امْرَأَة بِالْبَيْتِ يَوْم النَّحْر ثمَّ حَاضَت، فَأمر عمر بحبسها بِمَكَّة بعد أَن ينفر النَّاس حَتَّى تطهر وَتَطوف بِالْبَيْتِ) . ثمَّ قَالَ: وَقد ثَبت رُجُوع ابْن عمر وَزيد بن ثَابت عَن ذَلِك، وَبَقِي عمر فخالفناه لثُبُوت حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَحَادِيث هَذَا الْبَاب، وَقد روى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد: كَانَ الصَّحَابَة يَقُولُونَ: إِذا أفاضت الْمَرْأَة قبل أَن تحيض فقد فرغت، إلاَّ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: آخر عهدها بِالْبَيْتِ، وَقد وَافق عمر على رِوَايَة ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره، فروى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والطَّحَاوِي، وَاللَّفْظ لأبي دَاوُد. من طَرِيق الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن عبد الله بن أَوْس الثَّقَفِيّ، فَقَالَ: أتيت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلته عَن الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ يَوْم النَّحْر، ثمَّ تحيض؟ قَالَ: ليكن آخر عهدها بِالْبَيْتِ. فَقَالَ الْحَارِث، كَذَلِك أفتاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عمر: أربت عَن يَديك! سَأَلتنِي عَن شَيْء سَأَلت عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكيما أخالفه، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَلَفظه: (خَرَرْت عَن يَديك) ، وَمعنى: أربت عَن يَديك، سَقَطت إرابك، وَهُوَ جمع أرب، وَهُوَ الْعُضْو، وَمعنى خَرَرْت سَقَطت، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا الحَدِيث بِأَنَّهُ نسخ بِحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور، وَبِحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فَقَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس: أَمر النَّاس أَن يكون آخر عَهدهم بِالْبَيْتِ، إلاَّ أَنه قد خفف عَن الْمَرْأَة الْحَائِض. وَأخرجه مُسلم أَيْضا. فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن سُلَيْمَان وَهُوَ ابْن أبي مُسلم الْأَحول عَن طَاوُوس (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ النَّاس ينفرون من كل وَجه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا ينفرن أحد حَتَّى يكون آخر عَهده الطّواف بِالْبَيْتِ) ، وَهَذِه الرِّوَايَة لَا تدل على سُقُوط طواف الْوَدَاع عَن أحد. قلت: هَذَا مُطلق، وَالْأول مُقَيّد فَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد.(10/96)
قَوْله: (حَاضَت) أَي: بعد أَن أفاضت يَوْم النَّحْر. قَوْله: (فَذكرت) أَي: عَائِشَة، وروى: (فَذكر) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْله: (أحابستنا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، أَي: أمانعتنا من التَّوَجُّه من مَكَّة فِي الْوَقْت الَّذِي أردنَا التَّوَجُّه فِيهِ ظنا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مَا طافت طواف الْإِفَاضَة. قَوْله: (إِنَّهَا أفاضت) أَي: طافت طواف الْإِفَاضَة. قَوْله: (قَالَ: فَلَا إِذا) أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي فَلَا حبس علينا حِينَئِذٍ.
9571 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ أنَّ أهْلَ المَدِينَةِ سألُوا ابنَ عَبَّاسَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ امْرَأةٍ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ قالَ لَهُمْ تَنْفِرُ قَالُوا لَا نَأخُذُ بِقَوْلِكَ ونَدَعُ قَوْلَ زَيْدٍ قَالَ إذَا قَدِمْتُمُ المَدِينَةِ فَسَلُوا فَقَدِمُوا المَدِينَةَ فَسَألُوا فَكانَ فِيمَنْ سَألُوا أُمَّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَتْ حَدِيثَ صَفِيَّةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَذكرت حَدِيث صَفِيَّة) على مَا لَا يخفى، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
قَوْله: (إِن أهل الْمَدِينَة) أَي: بعض أَهلهَا، لِأَن كلهم مَا سَأَلُوهُ، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب بِلَفْظ: (إِن نَاسا من أهل الْمَدِينَة) . قَوْله: (قَالَ لَهُم: تنفر) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس للَّذين سَأَلُوهُ: تنفر هَذِه الْمَرْأَة الَّتِي طافت ثمَّ حَاضَت. قَوْله: فَنَدَع، بِالْفَاءِ وَنصب: نَدع، لِأَنَّهُ جَوَاب النَّفْي، ويروى: (وَنَدع) ، بِالْوَاو. قَوْله: (قَول زيد) ، هُوَ زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ أفتيتنا أَو لم تفتنا، زيد بن ثَابت يَقُول: لَا تنفر. قَوْله: (فَكَانَ فِيمَن سَأَلُوا أم سليم) وَفِي رِوَايَة الثَّقَفِيّ: (فسألوا أم سليم وَغَيرهَا) . وَأم سليم، بِضَم السِّين: هِيَ أم أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَوْله: (فَذكرت) أَي: أم سليم كَذَا ذكره مُخْتَصرا. وَسَاقه الثَّقَفِيّ بِتَمَامِهِ قَالَ: (فَأَخْبَرتهمْ أَن عَائِشَة قَالَت لصفية أَفِي الخيبة أَنْت أَنَّك لحابستنا؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا ذَاك؟ قَالَت عَائِشَة: صَفِيَّة حَاضَت. قيل: إِنَّهَا قد أفاضت قَالَ: فَلَا إِذا، فَرَجَعُوا إِلَى ابْن عَبَّاس، فَقَالُوا: وجدنَا الحَدِيث كَمَا حَدَّثتنَا) .
رَوَاهُ خَالِدٌ وقَتادَةُ عنْ عِكْرِمَةَ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور خَالِد الْحذاء، وَقَتَادَة أَيْضا عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، فرواية خَالِد وَصلهَا الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق مُعلى بن مَنْصُور عَن هشيم عَنهُ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا طافت يَوْم النَّحْر ثمَّ حَاضَت فلتنفر، وَقَالَ زيد بن ثَابت: لَا تنفر حَتَّى تطهر وَتَطوف بِالْبَيْتِ، ثمَّ أرسل زيد بعد ذَلِك إِلَى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنِّي وجدت الَّذِي قلت كَمَا قلت، وَرِوَايَة قَتَادَة وَصلهَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) قَالَ: حَدثنَا هِشَام هُوَ الدستوَائي عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة قَالَ: اخْتلف ابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت فِي الْمَرْأَة إِذا حَاضَت وَقد طافت بِالْبَيْتِ يَوْم النَّحْر، فَقَالَ زيد: يكون آخر عهدها بِالْبَيْتِ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: تنفر إِن شَاءَت، فَقَالَت الْأَنْصَار: لَا نتابعك يَا ابْن عَبَّاس وَأَنت تخَالف زيدا، فَقَالَ: سلوا صاحبتكم أم سليم، فَقَالَت: حِضْت بَعْدَمَا طفت بِالْبَيْتِ، فَأمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن انفري، وحاضت صَفِيَّة، فَقَالَت لَهَا عَائِشَة: حبستنا! فَأمرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تنفر. وَقَالَ بَعضهم: طَرِيق قَتَادَة هَذِه هِيَ المحفوظة، وَقد شَذَّ عباد بن الْعَوام فَرَوَاهُ عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس مُخْتَصرا فِي قصَّة أم سليم، أخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيقه، انْتهى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا سعيد ابْن سُلَيْمَان الوَاسِطِيّ قَالَ: حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن سعيد عَن قَتَادَة (عَن أنس أَن أم سليم حَاضَت بَعْدَمَا أفاضت يَوْم النَّحْر، فَأمرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تنفر) ، إِسْنَاده صَحِيح، وَرِجَاله ثِقَات، فَمَا باله أَن يكون شاذا، وَطَرِيق قَتَادَة لَا يُنَافِي أَن يكون طَرِيق غَيره مَحْفُوظَة.
0671 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طَاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أنْ تَنْفِرَ إذَا أفَاضَتْ. وَقَالَ وسَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقولُ إِنَّهَا لاَ تَنْفِرُ(10/97)
ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَخَّصَ لَهُنَّ.
(انْظُر الحَدِيث 033) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (رخص للحائض أَن تنفر إِذا أفاضت) لِأَن الْحَاصِل من مَعْنَاهُ أَن الْحَائِض إِذا طافت طواف الزِّيَارَة، تنفر وَلَا شَيْء عَلَيْهَا. وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الفراهيدي، ووهيب بِضَم الْوَاو: وَهُوَ ابْن خَالِد وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض بعد الْإِفَاضَة فِي كتاب الْحيض، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُعلى بن أَسد عَن وهيب إِلَى آخِره نَحوه، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (رخص) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (بعد) ، بِضَم الدَّال أَي: بعد أَن قَالَ: لَا تنفر، وَكَانَ ذَلِك قبل موت ابْن عمر بعام على مَا يَجِيء. قَوْله: (إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص لَهُنَّ) أَي: للْحيض، وَهَذَا من مَرَاسِيل الصَّحَابَة. فَإِن ابْن عمر لم يسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو صَالح، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث، قَالَ: حَدثنَا عقيل (عَن ابْن شهَاب، قَالَ: أَخْبرنِي طَاوُوس الْيَمَانِيّ أَنه سمع عبد الله بن عمر يسْأَل عَن حبس النِّسَاء عَن الطّواف بِالْبَيْتِ إِذا حضن قبل النَّفر وَقد أفضن يَوْم النَّحْر؟ فَقَالَ: إِن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت تذكر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخصَة النِّسَاء، وَذَلِكَ قبل موت عبد الله بعام) إِسْنَاده صَحِيح، وَأَبُو صَالح عبد الله بن صَالح وراق اللَّيْث وَشَيخ البُخَارِيّ، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يُفْتِي بمنعهن عَن النَّفر إلاَّ بِالطّوافِ، ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك حِين بلغه خبر عَائِشَة قبل مَوته بِسنة. قَوْله: (قَالَ: وَسمعت ابْن عمر) أَي: قَالَ طَاوُوس: سَمِعت عبد الله بن عمر، وَقَوله هَذَا بِالْإِسْنَادِ الأول بَينه النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته، وَكَذَلِكَ الْقَائِل فِي قَوْله: سمعته يَقُول بعد هُوَ طَاوُوس الْمَذْكُور فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَن ابْن عمر سمع ذَلِك عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رخص لَهُنَّ، أَي: للنِّسَاء اللَّاتِي حضن بعد أَن طفن طواف الزِّيَارَة أَن يتركن طواف الْوَدَاع، وَهَذَا هُوَ عين الْإِرْسَال. فَافْهَم.
2671 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا أبُو عُوَانَةَ عنْ مَنْصُورَ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ نُرَى إلاَّ الحَجَّ فَقَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فطَافَ بِالْبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةَ ولَمْ يَحِلَّ وكانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَطافَ مَنْ كانَ مَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ وحَلَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ فَحَاضَتْ هِيَ فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا مِنْ حَجِّنَا فَلَمَّا كانَتْ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ قالَتْ يَا رسولَ الله كُلُّ أصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ غَيْرِي قَالَ مَا كُنْتِ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ لَيالِيَ قَدِمْنَا قُلْتُ لاَ قَالَ فاخْرُجِي مَعَ أخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فأهِلِّي بِعُمْرَةٍ ومَوْعِدُك مَكانَ كَذا وكَذَا فَخَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمانِ إلَى التَّنْعِيمِ فأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ وحاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَقْرَى حَلْقَى إنَّكِ لَحَابِسَتُنَا أمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قالَتْ بَلَى قَالَ فَلاَ بَأسَ انْفِري فَلَقِيتُهُ مُصْعِدا عَلَى أهْلِ مَكَّةَ وأنَا مُنْهَبِطَةٌ أوْ أَنا مُصْعِدَةٌ وهْوَ مُنْهَبِطٌ. وَقَالَ مُسَدَّدٌ قُلْتُ لاَ. وتَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِي قَوْلِهِ لاَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وحاضت صَفِيَّة) ، إِلَى قَوْله: إنفري فَإِن فِيهِ: حَاضَت صَفِيَّة بَعْدَمَا أفاضت، والترجمة: بَاب إِذا حَاضَت الْمَرْأَة بَعْدَمَا أفاضت، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي أول: بَاب التَّمَتُّع والإقران، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن ابْن عمر عَن جرير عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم ... إِلَى آخِره نَحوه، وَهَهُنَا أخرجه: عَن أبي النُّعْمَان بن الْمُنْذر عَن السدُوسِي عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَبعد الْألف نون سَاكِنة، واسْمه الوضاح بن عبد الله عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد، وتكلمنا هُنَاكَ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأُمُور، ولنتكلم هُنَا بِمَا لم نذكرهُ هُنَاكَ، وَإِن وَقع بعض التّكْرَار.(10/98)
فَقَوله: (لَيْلَة الحصبة) ، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: لَيْلَة الْحَصْبَاء. قَوْله: (لَيْلَة النَّفر) ، عطف بَيَان لليلة الحصبة، والنفر، بِفَتْح النُّون وَإِسْكَان الْفَاء وَبِفَتْحِهَا أَيْضا. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: يَوْم النَّفر وَلَيْلَة النَّفر لليوم النذي ينفر النَّاس فِيهِ من منى، وَهُوَ بعد يَوْم النَّفر، وَقيل: ليَالِي الْمبيت بمنى الَّتِي تتقدم النَّفر من منى قبلهَا، فَهِيَ شَبيهَة بليلة عَرَفَة. وَقيل: فِيهِ رد على من قَالَ: كل لَيْلَة تسبق يَوْمهَا إلاَّ لَيْلَة عَرَفَة، فَإِن يَوْمهَا يسبقها، فقد شاركتها لَيْلَة النَّفر فِي ذَلِك. قَوْله: (مَا كنت تطوفي بِالْبَيْتِ) ، أصل: تطوفي: تطوفين. فحذفت مِنْهُ النُّون تَخْفِيفًا. وَقيل: حذفهَا من غير ناصب أَو جازم لُغَة فصيحة. قَوْله: (قلت: لَا) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي: (قلت: بلَى) . وَهِي مَحْمُولَة على أَن المُرَاد: مَا كنت أَطُوف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا تَوْجِيه بلَى، إِذْ تكون حِينَئِذٍ متمتعة. فَلم أمرهَا بِالْعُمْرَةِ؟ فَأجَاب: بِأَن: بلَى، تسْتَعْمل بِحَسب الْعرف اسْتِعْمَال نعم، مقررا لما سبق، فَمَعْنَاه كمعنى كلمة النَّفْي. قَوْله: (وحاضت صَفِيَّة) أَي: فِي أَيَّام منى، وَسَيَأْتِي فِي: بَاب الإدلاج من المحصب، أَن حَيْضهَا كَانَ لَيْلَة النَّفر، وَعند مُسلم، زَاد الحكم عَن إِبْرَاهِيم: (لما أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينفر إِذا صَفِيَّة على بَاب خبائها كئيبة حزينة، فَقَالَ: عقري) الحَدِيث.
قَوْله: (عقرى حلقى) على وزن: فعلى: بِغَيْر تَنْوِين، هَكَذَا فِي الرِّوَايَة، وَيجوز فِي اللُّغَة التَّنْوِين، وَصَوَّبَهُ أَبُو عبيد لِأَن مَعْنَاهُ الدُّعَاء: بالعقر وَالْحلق، كَمَا يُقَال: سقيا ورعيا، وَنَحْو ذَلِك من المصادر الَّتِي يدعى بهَا. وَقد مر تَفْسِيره على أَقْوَال مُتعَدِّدَة فِي: بَاب التَّمَتُّع والإقران. قَوْله: (فَلَا بَأْس انفري) هَذَا تَفْسِير لقَوْله فِي الرِّوَايَة الَّتِي مَضَت فِي أول الْبَاب، فَلَا إِذا، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة قَالَ: أخرجُوا. وَفِي رِوَايَة عمْرَة قَالَ: اخْرُجِي، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة فِي الْمَغَازِي، فلتنفر، ومعانيها مُتَقَارِبَة، وَالْمرَاد بهَا كلهَا الرحيل من منى إِلَى جِهَة الْمَدِينَة. قَوْله: (مصعدا) بِمَعْنى، صاعدا إِذا صعد لُغَة فِي صعد. قَوْله: (وَقَالَ مُسَدّد) إِلَى آخِره، تَعْلِيق لم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَثَبت لغيره. قَوْله: (وَتَابعه جرير) ، أَي: تَابع مُسَددًا جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر فِي قَوْله: (لَا) ، أما رِوَايَة مُسَدّد فَفِي مُسْنده بِرِوَايَة أبي خَليفَة عَنهُ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عوَانَة فَذكر الحَدِيث بِسَنَدِهِ وَمَتنه، وَقَالَ فِيهِ: (مَا كنت طفت ليَالِي قدمنَا) ، وَأما رِوَايَة جرير عَن مَنْصُور فوصلها البُخَارِيّ فِي: بَاب التَّمَتُّع والإقران عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَنهُ، وَقَالَ فِيهِ: (وَمَا كنت طفت ليَالِي قدمنَا مَكَّة؟ قلت: لَا) . وَالْغَرَض من السُّؤَال أَنَّك مَا كنتِ متمتعة، فَلَمَّا قَالَت: لَا، كَمَا رَوَاهُ مُسَدّد، أمرهَا بِالْعُمْرَةِ. فَإِن قلت: لَا يلْزم من نفي التَّمَتُّع الِاحْتِيَاج إِلَى الْعمرَة لاحْتِمَال أَن تكون قارنة. قلت: الْأَكْثَر على أَنَّهَا كَانَت قارنة، وَرِوَايَة مُسلم صَرِيحَة بقرانها، وأمرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعُمْرَةِ نَافِلَة تطييبا لقلبها حَيْثُ أَرَادَت أَن تكون لَهَا عمْرَة مُنْفَرِدَة مُسْتَقلَّة، وَأما إِن كَانَت مُفْردَة فَالْأَمْر بِالْعُمْرَةِ إِنَّمَا هُوَ على سَبِيل الْإِيجَاب.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: أَن طواف الْإِفَاضَة ركن، وَأَن طواف الْوَدَاع وَاجِب. وَقَالَ بَعضهم، وَأَن الطَّهَارَة شَرط لصِحَّة الطّواف. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن هَذَا الحَدِيث لَا يدل على ذَلِك. وَمِنْهَا: أَنه يلْزم أَمِير الْحَاج أَن يُؤَخر الرحيل لأجل من تحيض مِمَّن لم تطف للإفاضة، ورد هَذَا بِاحْتِمَال أَن إِرَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير الرحيل إِكْرَاما لصفية، كَمَا احْتبسَ بِالنَّاسِ على عقد عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قلت: روى الْبَزَّار من حَدِيث جَابر، وَأخرجه الثَّقَفِيّ فِي فَوَائده من طَرِيق أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (أميران وليسا بأميرين: من تبع جَنَازَة فَلَيْسَ لَهُ أَن ينْصَرف حَتَّى تدفن أَو يَأْذَن أَهلهَا، وَالْمَرْأَة تحج أَو تعتمر مَعَ قوم فتحيض قبل طواف الرُّكْن، فَلَيْسَ لَهُم أَن ينصرفوا حَتَّى تطهر أَو تَأذن لَهُم) . قلت: إِسْنَاد كل مِنْهُمَا إِسْنَاد ضَعِيف جدا، وَلَئِن سلمنَا صحتهما فَلَا دلَالَة لَهما على الْوُجُوب، وَقد ذكر مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) أَنه يلْزم الْجمال أَن يحبس لَهَا إِلَى انْقِضَاء أَكثر مُدَّة الْحيض، وَكَذَا على النُّفَسَاء، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْمَوَّاز بِأَن فِيهِ تعريضا للْفَسَاد: كَقطع الطَّرِيق، وأجابه القَاضِي عِيَاض بِأَن مَحل ذَلِك أَمن الطَّرِيق، كَمَا أَن مَحَله أَن يكون مَعَ الْمَرْأَة محرم، وَالله أعلم.
641 - (بابُ منْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بالأبْطَحِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من صلى صَلَاة الْعَصْر يَوْم النَّفر، وَهُوَ يَوْم الرُّجُوع من منى. قَوْله: (بِالْأَبْطح) وَهُوَ الْبَطْحَاء الَّتِي بَين مَكَّة وَمنى، وَهِي مَا انبطح من الْوَادي واتسع، وَهِي الَّتِي يُقَال لَهَا: المحصب والمعرس، وَحدهَا مَا بَين الجبلين إِلَى الْمقْبرَة.
3671 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ(10/99)
عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ قَالَ سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ أخبِرْني بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنى قُلْتُ فأيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بالأبْطَحِ افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ امَرَاؤكَ.
(انْظُر الحَدِيث 3561 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بِالْأَبْطح) ، أَي: صلى الْعَصْر بِالْأَبْطح، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب أَيْن صلى الظّهْر يَوْم التَّرويَة؟ فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن إِسْحَاق الْأَزْرَق عَن سُفْيَان عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع إِلَى آخِره، وَأخرجه هَهُنَا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن إِسْحَاق بن يُوسُف بن يَعْقُوب الْأَزْرَق الوَاسِطِيّ عَن عبد الْعَزِيز بنُ رُفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة، وَلما أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين ذكرهمَا وَوضع لكل طَرِيق تَرْجَمَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (يَوْم التَّرويَة) ، وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة.
4671 - حدَّثنا عَبْدُ المُتَعَالِ بنُ طالِبٍ قَالَ حَدثنَا ابنُ وهْبٍ قَالَ أخبرنِي عَمْرُو بنُ الحَارِثِ أنَّ قَتادَةَ حدَّثَهُ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حدَّثهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ والْعَصْرَ والْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ ورَقَدَ رَقْدَةً بالمحصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إلَى البَيْتِ فَطافَ بِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 6571) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالْعصر) أَي: وَصلى الْعَصْر أَيْضا بالمحصب وَهُوَ الأبطح، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب طواف الْوَدَاع، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أصبغ بن الْفرج عَن عَمْرو بن الْحَارِث إِلَى آخِره، وَأخرجه هَهُنَا: عَن عبد المتعال بِالْيَاءِ، وحذفها ابْن طَالب الْأنْصَارِيّ الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ عَن عبد الله بن وهب إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (فَطَافَ بِهِ) أَي: بِالْبَيْتِ طواف الْوَدَاع.
741 - (بابُ المُحَصَّبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم النُّزُول بالمحصب، وَهُوَ الأبطح، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الأبطح والبطحاء وَخيف بني كنَانَة اسْم لشَيْء وَاحِد.
5671 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنَّما كانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَكُونَ أسْمَحَ لِخُرُوجِهِ تَعْنِي بالأبْطَحِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن سُفْيَان حَدثنَا هِشَام.
قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ منزل) ، ويروى: (منزلا) على أَنه خبر: كَانَ، أَي: إِنَّمَا كَانَ المحصب منزلا ينزله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ من السّنة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عبيد الله ابْن نمير عَن هِشَام عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، قَالَت: نزُول الأبطح لَيْسَ بِسنة، إِنَّمَا نزله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ أسمح لِخُرُوجِهِ إِذا خرج) . قَوْله: (اسمح) أَي: أسهل لتوجهه إِلَى الْمَدِينَة ليستوي فِي ذَلِك البطىء والمعتدل، وَيكون مبيتهم وقيامهم من السحر ورحيلهم بأجمعهم إِلَى الْمَدِينَة. فَإِن قلت: مَا وَجه الرّفْع فِي: منزل؟ قلت: فِيهِ وُجُوه: الأول: أَن يَجْعَل: مَا، فِي: إِنَّمَا، بِمَعْنى: الَّذِي، وَاسم كَانَ الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يعود على المحصب، وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن الْمنزل الَّذِي كَانَ المحصب إِيَّاه منزل، فَيكون ارْتِفَاع منزل بِكَوْنِهِ خبر: إِن. الثَّانِي: أَن تكون: مَا، كَافَّة، ومنزل اسْم كَانَ، وخبرها ضمير عَائِد إِلَى المحصب، فَحذف الضَّمِير لَكِن يلْزم أَن يكون الِاسْم نكرَة وَالْخَبَر معرفَة، وَذَلِكَ جَائِز. الثَّالِث: أَن يكون منزلا مَنْصُوبًا فِي اللَّفْظ إلاَّ أَنه كتب بِالْألف على اللُّغَة الربيعية. قَوْله: (بِالْأَبْطح) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (الأبطح) ، بِلَا بَاء، وَالْبَاء فِي الرِّوَايَة الَّتِي هِيَ فِيهَا تتَعَلَّق بقوله: (ينزل) ، وَقَالَ الْخطابِيّ: التحصيب هُوَ أَنه إِذا نفر من منى إِلَى مَكَّة للتوديع يُقيم بالمحصب حَتَّى يهجع بِهِ سَاعَة، ثمَّ يدْخل مَكَّة، وَلَيْسَ بِشَيْء، أَي:(10/100)
لَيْسَ بنسك من مَنَاسِك الْحَج، إِنَّمَا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاستراجة. وَقَالَ الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ: التحصيب مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَفِيه نظر لِأَن التِّرْمِذِيّ حكى اسْتِحْبَابه عَن بعض أهل الْعلم، وَحكى النَّوَوِيّ اسْتِحْبَابه عَن مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَالْجُمْهُور، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقد كَانَ من أهل الْعلم من لَا يستحبه فَكَانَت أَسمَاء وَعُرْوَة ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لَا يحصبان، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ سعيد بن جُبَير، فَقيل لإِبْرَاهِيم: إِن سعيد بن جُبَير لَا يَفْعَله، فَقَالَ: قد كَانَ يَفْعَله، ثمَّ بدا لَهُ، وَقَالَ ابْن بطال: وَكَانَت عَائِشَة لَا تحصب وَلَا أَسمَاء، وَهُوَ مَذْهَب عُرْوَة.
6671 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌ وعنْ عَطاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشِيْءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بَيَان حكم المحصب، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَليّ بن حجر عَن سُفْيَان، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن هَذَا حَدِيث عَليّ بن حجر، قَالَ ابْن عَسَاكِر: يَعْنِي تفرد بِهِ، وَابْن عُيَيْنَة سَمعه من حسن بن صَالح عَن عَمْرو، وَلَكِن كَذَا قَالَ ابْن حجر، وَهُوَ وهم مِنْهُ، فقد رَوَاهُ ابْن أبي عمر وَعبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء وَجَمَاعَة غَيرهمَا، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث أبي خَيْثَمَة حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة حَدثنَا عَمْرو، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ من طَرِيق عبد الله ابْن الزبير: حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا عَمْرو، فقد صرح أَبُو خَيْثَمَة والْحميدِي عَن سُفْيَان بِالتَّحْدِيثِ من عَمْرو فَانْتفى مَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ، وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر قَالَ: (كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ينزلون بِالْأَبْطح) . قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَائِشَة وَأبي رَافع وَابْن عَبَّاس. قلت: حَدِيث عَائِشَة أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة، وَحَدِيث أبي رَافع أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن صَالح بن كيسَان عَن سُلَيْمَان بن يسَار (عَن أبي رَافع، قَالَ: لم يَأْمُرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أنزل الأبطح حِين خرج من منى، وَلَكِن جِئْت فَضربت قُبَّته فجَاء فَنزل) قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي أُسَامَة وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيثهمْ، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: كَانَ نُزُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحصب شكرا لله تَعَالَى على الظُّهُور بعد الاختفاء، وعَلى إِظْهَار دين الله تَعَالَى بَعْدَمَا أَرَادَ الْمُشْركُونَ من إخفائه، وَإِذا تقرر أَن نزُول المحصب لَا تعلق لَهُ بالمناسك فَهَل يسْتَحبّ لكل أحد أَن ينزل فِيهِ إِذا مر بِهِ؟ يحْتَمل أَن يُقَال باستحبابه مُطلقًا، وَيحْتَمل أَن يُقَال باستحبابه للْجمع الْكثير، وَإِظْهَار الْعِبَادَة فِيهِ إِظْهَارًا لشكر الله تَعَالَى على رد كيد الْكفَّار، وَإِبْطَال مَا أرادوه. وَالله أعلم.
841 - (بابُ النُّزُولِ بِذِي طُوىً قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ والنُّزُولْ بالْبَطْجَاءِ الَّتِي بِذي الحُلَيْفَةِ إذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نزُول الْحَاج بِذِي طوى قبل دُخُوله مَكَّة اتبَاعا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نُزُوله بمنازله جَمِيعًا، وَلَا يخْتَص ذَلِك بالمحصب. قَوْله: (بِذِي طوى) بِدُونِ الْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: بِذِي الطوى، بِالْألف وَاللَّام، وَيجوز فِي الطَّاء الحركات الثَّلَاث، والأفضح فتحهَا، وَيجوز صرف طوى وَمنعه، وَهُوَ مَوضِع بِأَسْفَل مَكَّة فِي صوب طَرِيق الْعمرَة الْمُعْتَادَة، وَقيل: هُوَ بَين مَكَّة والتنعيم، وَكلمَة: أَن، فِي قَوْله: قبل أَن يدْخل، مَصْدَرِيَّة أَي: قبل دُخُوله مَكَّة. قَوْله: (وَالنُّزُول) ، بِالْجَرِّ عطف على النُّزُول الأول. قَوْله: (الَّتِي بِذِي الحليفة) صفة الْبَطْحَاء، وَاحْترز بِهِ عَن الْبَطْحَاء الَّتِي بَين مَكَّة وَمنى، وَقيل: الْبَطْحَاء بِالْمدِّ: هُوَ التُّرَاب الَّذِي فِي مسيل المَاء. وَقيل: إِنَّه مجْرى السَّيْل إِذا جف واستحجر، والبطحاء الَّتِي بِذِي الحليفة مَعْرُوفَة عِنْد أهل الْمَدِينَة وَغَيرهم بالعرس. قَوْله: (إِذا رَجَعَ) ، أَي: الْحَاج من مَكَّة وَتوجه إِلَى الْمَدِينَة.
7671 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ عنْ نَافِعٍ(10/101)
أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ يَبِيتُ بِذِي طُوىً بَيْنَ الثَّنْيَتَيْنِ ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنْيَةِ الَّتِي بِأعْلَى مَكَّةَ وكانَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ حاجّا أوْ مُعْتَمرا لَمْ يُنِخْ ناقَتَهُ إلاَّ عِنْدَ بابِ المَسْجِدِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَأتِي الرُّكْنَ الأسْوَدَ فَيَبْدأ بِهِ ثُمَّ يَطُوفْ سَبْعا ثَلَاثًا سعيا وأربَعا مَشْيا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ وكانَ إذَا صَدَرَ عنِ الحَجِّ أوِ العُمْرَةِ أناخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الحُلَيْفَةِ الَّتِي كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنِيخُ بِها.
(انْظُر الحَدِيث 194 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يبيت بِذِي طوى) ، وَفِي قَوْله: (وَكَانَ إِذا صدر عَن الْحَج) إِلَى آخِره.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم، واسْمه أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ مَشْهُور باسمه وكنيته.
قَوْله: (بَين الثنيتين) ، وَهِي تَثْنِيَة ثنية وَهِي طَرِيق الْعقبَة. قَوْله: (لم ينخ) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر النُّون: من أَنَاخَ ينيخ إِذا برك جمله، وَالرَّاحِلَة النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل، وَقيل: هِيَ الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى. قَوْله: (بَاب الْمَسْجِد) أَي: الْمَسْجِد الْحَرَام. قَوْله: (فَيَأْتِي الرُّكْن الْأسود) ، أَي الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود. قَوْله: (سبعا) ، أَي: سبع مَرَّات. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: يطوف من السَّبع ثَلَاث مَرَّات، قَوْله: (سعيا) أَي: ساعيا، نصب على الْحَال، وَيجوز أَن يكون انتصابه على أَنه صفة لثلاثا. قَوْله: (وأربعا) أَي: يطوف أَربع مَرَّات من السَّبع مشيا. وَيجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَان فِي: سعيا. قَوْله: (سَجْدَتَيْنِ) أَي: رَكْعَتَيْنِ، من بَاب إِطْلَاق إسم الْجُزْء على الْكل، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (رَكْعَتَيْنِ) ، على الأَصْل. قَوْله: (وَكَانَ إِذا صدر) أَي: رَجَعَ مُتَوَجها نَحْو الْمَدِينَة. قَوْله: (بهَا) أَي: بِذِي الحليفة، ثمَّ اعْلَم أَن النُّزُول بِذِي طوى قبل أَن يدْخل مَكَّة وَالنُّزُول بالبطحاء الَّتِي بِذِي الحليفة عِنْد رُجُوعه لَيْسَ بِشَيْء من مَنَاسِك الْحَج، فَإِن شَاءَ فعله وَإِن شَاءَ تَركه.
8671 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ قَالَ سُئِلَ عُبَيْدُ الله عنِ المُحَصَّبِ قَالَ فَحدثنا عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ قَالَ نَزَلَ بِها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعُمَرُ وابنُ عُمَرَ. وعنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ يُصَلِّي بِها يَعْنِي الْمُحَصَّبَ الظُّهْرَ والعَصْرَ أحْسِبُهُ قَالَ والْمَغْرِبَ قَالَ خالِدٌ لاَ أشُكُّ فِي العِشَاءِ ويَهْجَعُ هَجْعَةً ويَذْكُرُ ذالِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
لَا مُطَابقَة بني هَذَا الحَدِيث والترجمة إلاَّ من وَجه يُؤْخَذ تَقْرِيبًا، وَهُوَ أَن بَين حَدِيثي الْبَاب مُنَاسبَة من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا يتَضَمَّن أمرا غير لَازم، وَذَلِكَ أَن الحَدِيث الأول فِيهِ النُّزُول بِذِي طوى قبل الدُّخُول فِي مَكَّة، وبالبطحاء الَّتِي بِذِي الحليفة إِذا رَجَعَ من مَكَّة وكل مِنْهُمَا غير لَازم، وَلَا هما من مَنَاسِك الْحَج، وَكَذَلِكَ الحَدِيث الثَّانِي فِيهِ النُّزُول بالمحصب، وَهُوَ أَيْضا غير لَازم، وَلَا هُوَ من مَنَاسِك الْحَج، وَكَذَلِكَ فِي كل مِنْهُمَا، يرويهِ نَافِع عَن فعل ابْن عمر، فبهذين الاعتبارين تحققت الْمُنَاسبَة بَين الْحَدِيثين، والْحَدِيث الأول مُطَابق للتَّرْجَمَة، وَالثَّانِي مُطَابق للْأولِ، ومطابق المطابق لشَيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء. فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي، مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: خَالِد بن الْحَارِث أَبُو عُثْمَان الهُجَيْمِي. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وخَالِد بصريان وَعبيد الله وَنَافِع مدنيان.
قَوْله: (نزل بهَا) ، أَي: بالمحصب، وَهَذَا من مرسلات نَافِع، وَعَن عمر مُنْقَطع وَعَن ابْن عمر مَوْصُول، وَيحْتَمل أَن يكون نَافِع سمع ذَلِك من ابْن عمر، فَيكون الْجَمِيع مَوْصُولا. قَوْله: (أَحْسبهُ) ، أَي: أَظن يَعْنِي الشَّك إِنَّمَا هُوَ فِي الْمغرب لَا فِي الْعشَاء. قَوْله: (وَعَن نَافِع) غير مُعَلّق لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الَّذِي قبله. قَوْله:(10/102)
(يهجع) ، أَي: ينَام من الهجوع، وَهُوَ النّوم. قَوْله: (وَيذكر ذَلِك) ، أَي: يذكر ابْن عمر التحصيب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن روح عَن صَخْر بن جوَيْرِية عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يرى التحصيب سنة، وَكَانَ يُصَلِّي الظّهْر يَوْم النَّفر بالحصبة، قَالَ: قد حصب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده. وَالله أعلم.
941 - (بابُ مَنْ نَزَلَ بِذِي طُوىً إذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة نزُول من نزل بِذِي طوى إِذا رَجَعَ من مَكَّة مُتَوَجها إِلَى مقْصده، وَأما النُّزُول بِذِي طوى للداخل مَكَّة فقد مر بَيَانه فِي: بَاب الِاغْتِسَال عِنْد الدُّخُول فِي مَكَّة، وَفِي: بَاب دُخُول مَكَّة لَيْلًا أَو نَهَارا، وَقد وَقع سَهْو عَن الدَّاودِيّ حَيْثُ جعل ذَا طوى هُوَ المحصب، وَظن أَن الْمبيت مُتحد فيهمَا.
9671 - وقالَ محَمَّدُ بنُ عِيسَى قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ كانَ إذَا أقْبَلَ باتَ بِذِي طُوىً حَتَّى إذَا أصْبَحَ دَخَلَ وإذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طُوَىً وباتَ بِها حَتَّى يُصْبِحَ وكانَ يَذْكُرُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
(انْظُر الحَدِيث 194 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِذا نفر مر بِذِي طوى) إِلَى آخِره.
وَرِجَاله خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن عِيسَى بن الطباع أَبُو جَعْفَر أَخُو إِسْحَاق الْبَصْرِيّ، سكن الشَّام وَمَات فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وروى عَنهُ فِي الرِّدَّة. الثَّانِي: حَمَّاد، وَاخْتلف فِيهِ فَجزم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنه حَمَّاد بن سَلمَة، وَجزم الْمزي أَنه حَمَّاد بن يزِيد الثَّالِث أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: نَافِع. الْخَامِس: عبد الله بن عمر، وَقد مضى طرف من هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الِاغْتِسَال لدُخُول مَكَّة.
قَوْله: (وَإِذا نفر مر بِذِي طوى) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، (وَإِذا نفر مر من ذِي طوى) إِلَى آخِره، قَالَ ابْن بطال: وَلَيْسَ هَذَا أَيْضا من مَنَاسِك الْحَج.
051 - (بابُ التِّجَارَةِ أيَّامَ الْمَوْسِمِ والْبَيْعِ فِي أسْوَاقِ الجَاهِلِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز التِّجَارَة فِي أَيَّام الْمَوْسِم، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَكسر السِّين، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: سمي موسم الْحَج موسما لِأَنَّهُ معلم يجْتَمع إِلَيْهِ النَّاس، وَهُوَ مُشْتَقّ من السِّمة، وَهِي الْعَلامَة. قَوْله: (وَالْبيع) ، بِالْجَرِّ عطف على التِّجَارَة أَي: وَفِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة البيع أَيْضا فِي أسواق الْجَاهِلِيَّة، وأسواق الْجَاهِلِيَّة أَرْبَعَة، وَهِي: عكاظ، وَذُو الْمجَاز، ومجنة وحباشة.
وَأما عكاظ فَهُوَ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْكَاف وَبعد الْألف ظاء مُعْجمَة، قَالَ الرشاطي: هِيَ صحراء مستوية لَا علم فِيهَا وَلَا جبل، إلاَّ مَا كَانَ من الأنصاب الَّتِي كَانَت بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَبهَا من دِمَاء الْبدن كالأرحاء الْعِظَام، وَقَالَ مُحَمَّد بن حبيب: عكاظ بِأَعْلَى نجد، قريب من عَرَفَات، وَقَالَ غَيره: عكاظ وَرَاء قرن الْمنَازل بمرحلة من طَرِيق صنعاء، وَهِي من عمل الطَّائِف، وعَلى بريد مِنْهَا وأرضها لبني نصر، واتخذت سوقا بعد الْفِيل بِخمْس عشرَة سنة، وَتركت عَام خرجت الحرورية بِمَكَّة مَعَ الْمُخْتَار بن عَوْف سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة إِلَى هَلُمَّ جرا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عكاظ فِيمَا بَين نَخْلَة والطائف إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: الفتق، بِضَم الْفَاء وَالتَّاء الْمُثَنَّاة وبالقاف، وَبِه أَمْوَال ونخل لثقيف، بَينه وَبَين الطَّائِف عشرَة أَمْيَال، فَكَانَ سوق عكاظ يقوم صبح هِلَال ذِي الْقعدَة عشْرين يَوْمًا. وعكاظ مُشْتَقّ من قَوْلك: عكظت الرجل عكظا إِذا قهرته بحجتك، لأَنهم كَانُوا يتفاخرون هُنَاكَ بالفخر وَكَانَت بعكاظ وقائع مرّة بعد مرّة، وبعكاظ رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قس بن سَاعِدَة، وَحفظ كَلَامه وَكَانَ يتَّصل بعكاظ بلد تسمى: ركبة، بهَا عين تسمى: عين خليص، وَكَانَ ينزلها من الصَّحَابَة: قدامَة بن عمار الْكلابِي، ولقيط بن ضَمرَة الْعقيلِيّ، وَمَالك بن نَضْلَة الحبشي.
وَأما ذُو الْمجَاز: فقد ذكر ابْن إِسْحَاق: أَنَّهَا كَانَت بِنَاحِيَة عَرَفَة إِلَى جَانبهَا، وَعَن ابْن الْكَلْبِيّ أَنه كَانَ لهذيل على فَرسَخ من عَرَفَة، وَقَالَ الرشاطي: كَانَ ذُو الْمجَاز سوقا من أسواق الْعَرَب، وَهُوَ عَن يَمِين الْموقف بِعَرَفَة قَرِيبا من كبكب، وَهُوَ سوق مَتْرُوك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذُو الْمجَاز بِلَفْظ ضد الْحَقِيقَة مَوضِع بمنى كَانَ بِهِ سوق فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهَذَا غير صَحِيح، لِأَن الطَّبَرِيّ روى(10/103)
عَن مُجَاهِد أَنهم كَانُوا لَا يبيعون وَلَا يبتاعون فِي الْجَاهِلِيَّة بِعَرَفَة وَلَا منى.
وَأما مجنة، فَهِيَ: بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَتَشْديد النُّون، وَهِي على أَمْيَال: مسيرَة من مَكَّة بِنَاحِيَة مر الظهْرَان، وَيُقَال: هِيَ على بريد من مَكَّة، وَهِي لكنانة وبأرضها، وشامة وطفيل جبلان مشرفان عَلَيْهَا، سميت بهَا لبساتين تتصل بهَا، وَهِي الْجنان، وَيحْتَمل أَن يكون من مجن يمجن، سميت بذلك لِأَن ضربا من المجون كَانَ بهَا.
وَأما حُبَاشَة: فَهِيَ بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف شين مُعْجمَة، وَكَانَت بِأَرْض بارق نَحْو قنونا، بِفَتْح الْقَاف وَضم النُّون المخففة وَبعد الْوَاو الساكنة نون أُخْرَى، مَقْصُورَة من مَكَّة إِلَى جِهَة الْيمن على سِتّ مراحل، وَلم يذكر هَذَا فِي الحَدِيث لِأَنَّهُ لم يكن من مواسم الْحَج، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَام فِي شهر رَجَب. وَقَالَ الرشاطي: هِيَ أكبر أسواق تهَامَة. كَانَ يقوم ثَمَانِيَة أَيَّام فِي السّنة. قَالَ حَكِيم بن حزَام، وَقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحضرها واشتريت مِنْهُ فِيهَا بزا من بز تهَامَة، وَقَالَ الفاكهي: وَلم تزل هَذِه الْأَسْوَاق قَائِمَة فِي الْإِسْلَام إِلَى أَن كَانَ أول من ترك مِنْهَا سوق عكاظ فِي زمن الْخَوَارِج سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة، وَآخر مَا ترك مِنْهَا سوق حُبَاشَة فِي زمن دَاوُد بن عِيسَى بن مُوسَى العباسي فِي سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، وروى الزبير بن بكار فِي (كتاب النّسَب) من طَرِيق حَكِيم بن حزَام أَنَّهَا، أَي: سوق عكاظ، كَانَت تُقَام صبح هِلَال ذِي الْقعدَة إِلَى أَن يمْضِي عشرُون يَوْمًا، قَالَ: ثمَّ يقوم سوق مجنة عشرَة أَيَّام إِلَى هِلَال ذِي الْحجَّة، ثمَّ يقوم سوق ذُو الْمجَاز ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ يتوجهون إِلَى منى لِلْحَجِّ، وَفِي حَدِيث أبي الزبير (عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبث عشر سِنِين يتبع النَّاس فِي مَنَازِلهمْ فِي الْمَوْسِم بمجنة وعكاظ يبلغ رسالات ربه) الحَدِيث. أخرجه أَحْمد وَغَيره.
0771 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ الهَيْثَمِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا كانَ ذُو المَجَازِ وعُكاظٌ مَتْجَرَ الناسِ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جاءَ الإسْلاَمُ كأنَّهُمْ كَرِهُوا ذالِكَ حَتَّى نَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنُ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ. (الْبَقَرَة: 891) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعُثْمَان بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: أَبُو عَمْرو الْمُؤَذّن الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَعلي بن عبد الله، وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (متجر النَّاس) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: مَكَان تِجَارَتهمْ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: أسواقا فِي الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (كَأَنَّهُمْ) أَي: كَانَ الْمُسلمين. قَوْله: (كَرهُوا ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (فكأنهم تأثموا) . أَي: خشبوا الْوُقُوع فِي الْإِثْم للاشتغال فِي أَيَّام النّسك بِغَيْر الْعِبَادَة. قَوْله: (حَتَّى نزلت {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح} ) (الْبَقَرَة: 891) . وروى أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالُوا: كَانُوا يَتَّقُونَ الْبيُوع وَالتِّجَارَة فِي الْمَوْسِم وَالْحج، يَقُولُونَ: أَيَّام ذكر، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} (الْبَقَرَة: 891) . وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا هَيْثَم أخبرنَا حجاج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} (الْبَقَرَة: 891) . فِي مواسم الْحَج، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة: لَا حرج عَلَيْكُم فِي الشِّرَاء وَالْبيع قبل الْإِحْرَام وَبعده، وَهَكَذَا روى الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فِي مواسم الْحَج) هَذِه قِرَاءَة ابْن عَبَّاس، قَالَ وَكِيع: حَدثنَا طَلْحَة بن عَمْرو الْحَضْرَمِيّ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يقْرَأ {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} (الْبَقَرَة: 891) . فِي مواسم الْحَج وَرَوَاهُ عبد بن حميد عَن مُحَمَّد بن الْفضل عَن حَمَّاد بن زيد عَن عبد الله ابْن أبي زيد: سَمِعت ابْن الزبير يقْرَأ، فَذكر مثله سَوَاء، وَهَكَذَا فَسرهَا مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَقَتَادَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالربيع بن أنس وَغَيرهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (فِي مواسم الْحَج) كَلَام الرَّاوِي ذكره تَفْسِيرا لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة، وَقَالَ بَعضهم: فَاتَهُ مَا زَاده المُصَنّف فِي آخر حَدِيث ابْن عُيَيْنَة فِي الْبيُوع. قَرَأَهَا ابْن عَبَّاس وَرَوَاهُ ابْن أبي عمر فِي (مُسْنده) عَن ابْن عُيَيْنَة. وَقَالَ فِي آخِره: وَكَذَلِكَ كَانَ ابْن عَبَّاس يقْرؤهَا. انْتهى. قلت: نعم، ذهل الْكرْمَانِي عَن هَذَا، وَلَكِن قَوْله ذكره تَفْسِيرا لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة لَهُ وَجه، لِأَن مُجَاهدًا وَمن ذَكَرْنَاهُمْ مَعَه فسروها هَكَذَا فجعلوها تَفْسِيرا وَلم يجعلوها قِرَاءَة، وَمَعَ هَذَا على تَقْدِير كَونهَا قِرَاءَة فَهِيَ من الْقِرَاءَة الشاذة وَحكمهَا عِنْد الْأَئِمَّة حكم التَّفْسِير. وَقَالَ أَحْمد: حَدثنَا أَسْبَاط(10/104)
أخبرنَا الْحسن بن عَمْرو الْفُقيْمِي (عَن أبي أُمَامَة التَّيْمِيّ، قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: إِنَّا نكرِي، فَهَل لنا من حج؟ قَالَ أَلَيْسَ تطوفون بِالْبَيْتِ فَتَأْتُونَ الْمُعَرّف وترمون الْجمار وتحلقون رؤوسكم؟ . قَالَ: قُلْنَا: بلَى. فَقَالَ ابْن عمر: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَن الَّذِي سَأَلتنِي عَنهُ فَلم يجبهُ حَتَّى نزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذِهِ الْآيَة: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} (الْبَقَرَة: الْآيَة: 891) . فَدَعَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَنْتُم حجاج) .
151 - (بابُ الإدْلاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الإدلاج من المحصب، وأصل الإدلاج الإدتلاج، فقلبت التَّاء دَالا وأدغمت الدَّال فِي الدَّال، فَصَارَ: الإدلاج، بتَشْديد الدَّال، وَهُوَ السّير فِي آخر اللَّيْل. وَأما الإدلاج بِسُكُون الدَّال فَهُوَ السّير فِي أول اللَّيْل، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالصَّوَاب التَّشْدِيد لِأَن المُرَاد هُنَا هُوَ السّير فِي آخر اللَّيْل، لِأَن الْمَقْصُود هُوَ الرحيل من مَكَان الْمبيت بالمحصب سحرًا، وَقد ذكرنَا أَن المحصب هُوَ الأبطح، وَيُسمى الْبَطْحَاء أَيْضا.
1771 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عَنِ الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ حاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فقالَتْ مَا أُرَانِي إلاَّ حابِسَتُكُمْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَقْرَى حَلْقَى أطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قِيلَ نَعَمْ قَالَ فانْفِرِي..
لما كَانَت الْقِصَّة فِي حَدِيث حَفْص بن غياث وَحَدِيث محَاضِر متحدة، وَكَانَ حَدِيث محَاضِر مطابقا للتَّرْجَمَة فِي قَوْله (فلقيناه مدلجاً) بتَشْديد الدَّال أَي سَائِر من آخر اللَّيْل صَار حَدِيث حَفْص أَيْضا مطابقاً للتَّرْجَمَة.
من هَذِه الْحَيْثِيَّة وَإِن لم يكن فِيهِ مُطَابقَة صَرِيحًا.
وَرِجَاله سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص أَبُو حَفْص النَّخعِيّ. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: الْأسود بن يزِيد. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَهَؤُلَاء كلهم إِلَّا عَائِشَة كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الاب وَرِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله، وَهُوَ إِبْرَاهِيم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى، وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله الغيلاني، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد.
قَوْله: (حَاضَت صَفِيَّة) هِيَ بنت حييّ زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْنَاهُ أَن صَفِيَّة حَاضَت قبل طواف الْوَدَاع، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِانْصِرَاف إِلَى الْمَدِينَة، (قَالَت: مَا أَرَانِي) أَي: مَا أَظن نَفسِي إلاَّ حابستكم لانتظار طهري وطوافي للوداع، فَإِنِّي لم أطف للوداع، وَقد حِضْت فَلَا يمكنني الطّواف الْآن، وظنت أَن طواف الْوَدَاع لَا يسْقط عَن الْحَائِض، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما كنت طفتِ طواف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر؟ قَالَت، بلَى. قَالَ: يَكْفِيك ذَلِك، لِأَنَّهُ هُوَ الطّواف الَّذِي هُوَ ركن لَا بُد لكل أحد مِنْهُ. وَأما طواف الْوَدَاع فَلَا يجب على الْحَائِض، وَتَفْسِير: عقرى حلقى، قد مر غير مرّة. قَوْله: (أطافت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فانفري) أَي: إرحلي.
2771 - قَالَ أبُو عَبْدِ الله وزَادَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا محاضِرٌ قَالَ حَدثنَا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَذْكُرُ إلاَّ الحَجَّ فَلَمَّا قَدِمْنا أمرَنَا أَن نَحِلَّ فَلَمَّا كانَتُ لَيْلَةُ النَّفْرِ حاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَلْقَى عَقْرَى مَا أُرَاهَا إلاَّ حابِسَتِكُمْ ثُمَّ قَالَ كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قالَتْ نَعَمْ قَالَ فانْفِرِي قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنِّي لَمْ أكُنْ حَلَلْتُ قَالَ فاعْتَمِرِي مِنَ التَّنْعِيمِ فخَرَجَ معَهَا أخُوهَا فلَقِيناهُ مُدِّلجا فَقَالَ مَوْعِدُكِ مَكانَ كذَا وكذَا.
.(10/105)
وَقد ذكرنَا وَجه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (وَزَادَنِي مُحَمَّد) أَي: فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد اخْتلف فِي مُحَمَّد هَذَا، فَزعم الجياني أَن مُحَمَّدًا هَذَا هُوَ الذهلي، وَاقْتصر عَلَيْهِ الْمزي فِي تهذيبه) فَقَالَ: يُقَال: الذهلي وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن السكن: مُحَمَّد بن سَلام. ومحاضر، بِضَم الْمِيم على وزن اسْم الْفَاعِل من المحاضرة من الْحُضُور ضد الْغَيْبَة: ابْن الْمُوَرِّع، بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: الْهَمدَانِي اليامي، مَاتَ سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ، اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ، وَأخرج لَهُ مُسلم فَرد حَدِيث (من يدعوني فأستجيب لَهُ؟) الحَدِيث، وَهُوَ صَدُوق مُغفل، قَالَ أَحْمد: كَانَ مغفلاً جدا. وَقيل: لم يخرج البُخَارِيّ عَنهُ إلاَّ تَعْلِيقا، لَكِن ظَاهر هَذَا الْموضع الْوَصْل.
قَوْله: (مَا أَرَاهَا) أَي: مَا أرى صَفِيَّة إلاَّ حابستكم عَن النَّفر. قَوْله: (كنت طفت؟) أَصله: أَكنت طفت بالاستفهام عَن طوافها يَوْم النَّحْر. قَوْله: (فاعتمري) أَي: قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فاعتمري، وَإِنَّمَا أمرهَا بالاعتمار لتطييب قَلبهَا حِين أَرَادَت أَن تكون لَهَا عمْرَة مُنْفَرِدَة مُسْتَقلَّة كَمَا لسَائِر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا خص التَّنْعِيم بِالذكر مَعَ أَن جَمِيع جِهَات الْحل سَوَاء فِيهِ وَالْإِحْرَام من التَّنْعِيم غير وَاجِب أما لِأَنَّهُ كَانَ أسهل عَلَيْهَا، وَأما لغَرَض آخر. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض بِوُجُوب الْإِحْرَام مِنْهُ، قَالَ: وَهُوَ مِيقَات الْمُعْتَمِر من مَكَّة. قَوْله: (فَخرج مَعهَا أَخُوهَا) ، أَي: فَخرج مَعَ عَائِشَة خوها عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَوْله: (فلقيناه) أَي: لَقينَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِل هَذَا هُوَ عَائِشَة أَرَادَت أَنَّهَا وأخاها لقيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مدلجا أَي: حَال كَونه مدلجا، أَي سائرا من آخر اللَّيْل فَإِنَّهُمَا لما رجعا إِلَى الْمنزل بعد أَن قَضَت عَائِشَة الْعمرَة صادفا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَوَجها إِلَى طواف الْوَدَاع، وَقد ذكرنَا أَن مدلجا بتَشْديد الدَّال وَهُوَ السّير من آخر اللَّيْل، وَأما الإدلاج بِسُكُون الدَّال فَهُوَ السّير من أول اللَّيْل، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (فَقَالَ موعدك) أَي: قَالَ النَّبِي لعَائِشَة: موعدك، وَأَرَادَ بِهِ مَوضِع الْمنزلَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْموعد هُوَ مَوضِع تكلم بِهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووعدها الِاجْتِمَاع لمَكَان كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ مَكَان وَفَاء الْعَهْد. قلت: الْموعد مصدر ميمي بِمَعْنى الْمَوْعُود وَالْمَكَان مُقَدرا، والوعد الَّذِي فِي ضمن اسْم الْمَكَان هُوَ بِمَعْنى الْمَوْعُود. انْتهى. قلت: فِيهِ تعسف لَا يخفى، وَالْحَاصِل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما لقيهمَا قَالَ لعَائِشَة: مَوضِع الْمنزلَة كَذَا وَكَذَا، يَعْنِي تكون الملاقاة هُنَاكَ حَتَّى إِذا عَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَوَافه للوداع يجْتَمع بهَا هُنَاكَ للرحيل، وَالله تَعَالَى أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
62 - (أبوابُ العُمْرَةِ)
1 - (وجوبُ العُمْرَةِ وفَضْلُهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْعمرَة، وَلَيْسَت الْبَسْمَلَة مَذْكُورَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَإِنَّمَا التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي رِوَايَته عَن الْمُسْتَمْلِي: أَبْوَاب الْعمرَة، بَاب وجوب الْعمرَة وفضلها، وَعند الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَته غير أبي ذَر سقط. قَوْله: (أَبْوَاب الْعمرَة) وَفِي كتاب أبي نعيم فِي الْمُسْتَخْرج) : كتاب الْعمرَة، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، بَاب الْعمرَة وفضلها، فَقَط أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعمرَة وَفِي بَيَان فَضلهَا.
وَالْعمْرَة فِي اللُّغَة: الزِّيَارَة، يُقَال اعْتَمر فَهُوَ مُعْتَمر أَي زار وَقصد، وَقيل: إِنَّهَا مُشْتَقَّة من عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام، وَفِي الشَّرْع الْعمرَة: زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام بِشُرُوط مَخْصُوصَة، ذكرت فِي كتب الْفِقْه.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَيْسَ أحَدٌ إلاَّ وعَلَيْهِ حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ
لما كَانَت التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على بَيَان وجوب الْعمرَة وَبَيَان فَضلهَا قدم بَيَان وُجُوبهَا أَولا، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّعْلِيق الَّذِي ذكره عَن عبد الله بن عمر، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن ابْن جريج عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: (لَيْسَ من خلق الله تَعَالَى أحد إلاَّ وَعَلِيهِ حجَّة وَعمرَة واجبتان) ، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق ابْن جريج عَن نَافِع عَنهُ مثله بِزِيَادَة: (من اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِك سَبِيلا، فَمن زَاد على هَذَا فَهُوَ تطوع وَخير) . وَقَالَ سعيد بن أبي(10/106)