ابْن إِيَاس الْجريرِي، بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى، مر فِي: بَاب كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة. الرَّابِع: أَبُو الْعَلَاء يزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن الشخير الْمعَافِرِي. الْخَامِس: الْأَحْنَف، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَفِي آخِره فَاء مر فِي: بَاب {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) . السَّادِس: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج أَبُو يَعْقُوب. السَّابِع: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث الثَّامِن أَبوهُ عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان الْعَنْبَري التَّمِيمِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِسْنَاد الأول الْجريرِي عَن أبي الْعَلَاء، وَفِي الْإِسْنَاد الثَّانِي الْجريرِي حَدثنَا أَبُو الْعَلَاء، وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْنَاد الأول أَو الْعَلَاء عَن الْأَحْنَف، وَفِي الثَّانِي صرح أَبُو الْعَلَاء بِالتَّحْدِيثِ عَن الْأَحْنَف. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْند) من حَدِيث أبي الْعَلَاء عَن أَخِيه مطرف عَن أبي ذَر طرفا من آخر هَذَا الحَدِيث قلت: لَيْسَ ذَاك بعلة لحَدِيث الْأَحْنَف، لِأَن حَدِيثه أتم سياقا وَأكْثر فَوَائِد، وَلَا مَانع أَن يكون لأبي الْعَلَاء شَيْخَانِ فِي هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: أَن لفظ الْأَحْنَف لقب واسْمه فِيمَا ذكره المرزباني: صَخْر، قَالَ: وَهُوَ الثبت، وَيُقَال: الضَّحَّاك، وَيُقَال: الْحَارِث ابْن قيس، وَيُقَال: قيس. وَقَالَ الْحَافِظ فِي (كتاب العرجان) : كَانَ أحنف من رجلَيْهِ جَمِيعًا وَلم يكن لَهُ إلاَّ بَيْضَة وَاحِدَة وَضرب على رَأسه بخراسان فماهت إِحْدَى عَيْنَيْهِ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْحسن: ولد مرتثقا ختار الأست حَتَّى شقّ وعولج. وَفِي (لطائف المعارف) لأبي يُوسُف: كَانَ أصلع متراكب الْأَسْنَان مائل الذقن. وَفِي (تَارِيخ الميتجاني) : كَانَ دميما قَصِيرا كوسجا. وَقَالَ الْهَيْثَم بن عدي فِي (كتاب العوران) : ذهبت عينه بسمرقند. وَفِي (الثِّقَات) لِابْنِ حبَان: ذهبت أحد عَيْنَيْهِ يَوْم الْحرَّة. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون. وَفِيه: أَن ثَلَاثَة من الروَاة مذكورون بِلَا نِسْبَة، وَالْآخر مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ. وَالْآخر بالكنية وَالْآخر باللقب. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن شَيبَان بن فروخ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَلَست إِلَى مَلأ) أَي: انْتهى جلوسي إِلَى مَلأ، أَي: جمَاعَة، وَكلمَة: من، فِي: (من قُرَيْش) للْبَيَان مَعَ التَّبْعِيض. قَوْله: (خشن الشّعْر) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة من الخشونة، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: حسن الشّعْر، بالمهملتين من الْحسن، وَالْأول أصح لِأَنَّهُ هُوَ اللَّائِق بزِي أبي ذَر وطريقته، وَعند مُسلم: أخشن الثِّيَاب أخشن الْجَسَد أخشن الْوَجْه، بخاء مُعْجمَة وشين. وَعند ابْن الْحذاء فِي الآخر خَاصَّة: حسن الْوَجْه من الْحسن ضد الْقبْح وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب بن سُفْيَان من طَرِيق حميد بن هِلَال عَن الْأَحْنَف: قدمت الْمَدِينَة فَدخلت مَسْجِدهَا إِذْ دخل رجل آدم طوال أَبيض الرَّأْس واللحية يشبه بعضه بَعْضًا، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو ذَر. قَوْله: (حَتَّى قَامَ) أَي: حَتَّى وقف. قَوْله: (بشّر الكانزين) ، بالنُّون وَالزَّاي، من: كنز يكنز، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: بشر الكنازين، بتَشْديد النُّون: جمع كناز مُبَالغَة كانز. وَقَالَ ابْن قرقول: وَعند الطَّبَرِيّ والهروي: الكاثرين، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء من الْكَثْرَة، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول. وَقَوله: بشر، من بَاب التهكم، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} (آل عمرَان: 12، التَّوْبَة: 43، والانشقاق: 42) . وَقَالَ عِيَاض: الصَّحِيح أَن إِنْكَار أبي ذَر كَانَ على السلاطين الَّذين يَأْخُذُونَ المَال من بَيته لأَنْفُسِهِمْ وَلَا ينفقونه فِي وَجهه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الَّذِي قَالَه عِيَاض بَاطِل، لِأَن السلاطين فِي زَمَنه لم تكن هَذِه صفتهمْ، وَلم يخونوا فِي بَيت المَال إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنه أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَتُوفِّي فِي زمن عُثْمَان سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (برضف) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره فَاء: وَهِي الْحِجَارَة المحماة. وَاحِدهَا رضفة. قَوْله: (فِي نَار جَهَنَّم) فِي جَهَنَّم مذهبان لأهل الْعَرَبيَّة: أَحدهمَا: أَنه اسْم أعجمي فَلَا ينْصَرف للعجمية والعلمية، قَالَ الواحدي: قَالَ يُونُس وَأكْثر النَّحْوِيين: هِيَ عجمية لَا تَنْصَرِف للتعريف والعجمة. وَالْآخر: أَنه اسْم عَرَبِيّ سميت بِهِ لبغد قعرها جدا، وَلم ينْصَرف للعلمية والتأنيث، قَالَ قطرب: عَن رؤبة، يُقَال: بِئْر جهنام أَي: بعيدَة القعر. وَقَالَ الواحدي: قَالَ بعض أهل اللُّغَة: هِيَ مُشْتَقَّة من الجهومة، وَهِي الغلظ. يُقَال: جهم الْوَجْه أَي غليظه، فسميت جَهَنَّم لغلظ أمرهَا فِي الْعَذَاب. قَوْله: (على حلمة ثدي أحدهم) ، الحلمة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَاللَّام: هُوَ مَا نشز من الثدي وَطَالَ، وَيُقَال لَهَا: قراد الصَّدْر، وَفِي (الْمُحكم) : حلمتا الثديين: طرفاهما. وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ رَأس الثدي من الْمَرْأَة وَالرجل. وَفِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز اسْتِعْمَال الثدي(8/264)
للرِّجَال وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَ العسكري فِي (الفصيح) ؛ لَا يُقَال ثدي إلاَّ فِي الْمَرْأَة، وَيُقَال فِي الرجل تندوة، والثدي يذكر وَيُؤَنث قَوْله: (من نغض كتفه) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة: وَهُوَ الْعظم الرَّقِيق الَّذِي على طرف الْكَتف، وَقيل: هُوَ أَعلَى الْكَتف، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الناغض. وَفِي (الْمُخَصّص) : النغض تحرّك الغضروف، نغضت كتفه نغوضا ونغاضا ونغضانا. وَيُقَال: طعنه فِي نغض كتفه، ومرجع كتفه وَهُوَ حَيْثُ يَتَحَرَّك الغضروف مِمَّا يَلِي إبطه فِي كتفه. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: قرع الْكَتف مَا تحرّك مِنْهَا وَعلا، وَالْجمع فروع، ونغضها حَيْثُ يَجِيء فرعها، وَيذْهب. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ أَعلَى مُنْقَطع الغضروف من الْكَتف. وَقيل: النغضان اللَّتَان ينغضان من أَسْفَل الْكَتف فيتحركان إِذا مَشى. وَقَالَ شمر: هُوَ من الْإِنْسَان أصل الْعُنُق حَيْثُ ينغض رَأسه، ونغض الْكَتف هُوَ الْعظم الرَّقِيق على طرفها. وَقَالَ الْخطابِيّ: نغض الْكَتف الشاخص من الْكَتف، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّك من الْإِنْسَان فِي مَشْيه. قَوْله: (يتزلزل) أَي: يَتَحَرَّك ويضطرب الرضف من نغض كتفه حَتَّى يخرج من حلمة ثديه، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فيتجلجل بجيمين، وَهُوَ بِمَعْنى الأول، وَفِي بعض النّسخ حَتَّى يخرج من حلمة ثدييه، بالتثنية فِي الثَّانِي والإفراد فِي الأول. قَوْله: (ثمَّ ولى) أَي: أدبر قَوْله (سَارِيَة) وَهِي الاسطوانة وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ فَوضع الْقَوْم رُؤْسهمْ فَمَا رَأَيْت أحدا مِنْهُم رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئا قَالَ فادبر فاتبعته حَتَّى جلس إِلَى سَارِيَة) . قَوْله: (وَأَنا لَا أَدْرِي من هُوَ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم زِيَادَة من طَرِيق خُلَيْد العصري عَن الْأَحْنَف، وَهِي: (فَقلت: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَر، فَقُمْت إِلَيْهِ فَقلت: مَا شَيْء سَمِعتك تَقوله؟ قَالَ: مَا قلت إلاَّ شَيْئا سمعته من نَبِيّهم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي هَذِه الزِّيَادَة رد لقَوْل من يَقُول: إِنَّه مَوْقُوف على أبي ذَر، فَلَا يكون حجَّة على غَيره. وَفِي (مُسْند أَحْمد) من طَرِيق يزِيد الْبَاهِلِيّ: (عَن الْأَحْنَف: كنت بِالْمَدِينَةِ فَإِذا أَنا بِرَجُل يفر مِنْهُ النَّاس حِين يرونه، قلت: من أَنْت؟ قَالَ: أَبُو ذَر. قلت: مَا نفر النَّاس مِنْك؟ قَالَ: إِنِّي أنهاهم عَن الْكُنُوز الَّتِي كَانَ ينهاهم عَنْهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: قلت: بِفَتْح التَّاء، خطاب لأبي ذَر. قَوْله: (قَالَ) أَي: أَبُو ذَر: (إِنَّهُم لَا يعْقلُونَ شَيْئا) ، فسر ذَلِك فِي الْأَخير بقوله: (إِنَّمَا يجمعُونَ الدُّنْيَا) ، فَالَّذِينَ يجمعُونَ الدُّنْيَا لَا يفهمون كَلَام من ينهاهم عَن الْكُنُوز. قَوْله: (قَالَ لي خليلي) أَرَادَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ بَينه بقوله، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: قَالَ أَبُو ذَر: خليلي هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وفاعل: قَالَ، هُوَ أَبُو ذَر. وَقَوله: (النَّبِي) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يَا أَبَا ذَر) ، تَقْدِيره: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا ذَر، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: سقط كلمة من الْكتاب، وَهِي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا ذَر أتبصر أُحدا؟ هُوَ الْجَبَل الْمَعْرُوف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ يَا أَبَا ذَر يتَعَلَّق بقوله: (قَالَ لي خليلي) . قلت: فعلى قَوْله لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير. قَوْله: (مَا بَقِي من النَّهَار) ، أَي: أَي شَيْء بَقِي من النَّهَار. قَوْله: (وَأَنا أرى) ، أَي: أَظن. قَوْله: (قلت: نعم) ، جَوَاب لقَوْله: (أتبصر أُحُدا) قَوْله: (مثل أحد) إِمَّا خبر لِأَن، وَإِمَّا حَال مقدم على الْخَبَر. وانتصاب (ذَهَبا) على التَّمْيِيز. قَوْله: (انفقه كُله) أَي: كل مثل أحد ذَهَبا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله يستحسن، فَلم مَا أحبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: المُرَاد أنفقهُ لخاصة نَفسه، أَو المُرَاد أنفقهُ فِي سَبِيل الله وَعدم الْمحبَّة، إِنَّمَا هُوَ للاستثناء الَّذِي فِيهِ. أَي: مَا أحب إلاَّ إِنْفَاق الْكل. قَوْله: (إلاَّ ثَلَاثَة دَنَانِير) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الدَّنَانِير الثَّلَاثَة المؤخرة: وَاحِد لأَهله وَآخر لعتق رَقَبَة وَآخر لدين. . وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن هَذَا الْمِقْدَار كَانَ دينا أَو مِقْدَار كِفَايَة إخراجات تِلْكَ اللَّيْلَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَإِن هَؤُلَاءِ لَا يعْقلُونَ) ، عطف على: إِنَّهُم لَا يعْقلُونَ شَيْئا، وَلَيْسَ من تَتِمَّة كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من كَلَام أبي ذَر، وَكرر للتَّأْكِيد ولربط مَا بعده عَلَيْهِ. قَوْله: (إِنَّمَا يجمعُونَ الدُّنْيَا) قد قُلْنَا: إِن هَذَا بَيَان لقَوْله: (إِنَّهُم لَا يعْقلُونَ شَيْئا) . قَوْله: (لَا أسألهم دنيا) ، أَي: لَا أطمع فِي دنياهم. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (قلت مَالك لإخوانك من قُرَيْش لَا تعتريهم وَلَا تصيب مِنْهُم، قَالَ: وَرَبك لَا أسألهم دنيا) إِلَى آخِره. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا أسألهم عَن دنيا) . قَالَ النَّوَوِيّ: الأجود حذف: عَن، كَمَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، (ثمَّ قَالَ: لَا أسألهم شَيْئا من متاعها) . قَوْله: (لَا تعتريهم) أَي: تأتيهم وتطلب مِنْهُم. قَوْله: (وَلَا استفتيهم عَن دين) ، أَي: لَا أسألهم عَن أَحْكَام الدّين أَي: أقنع بالبلغة من الدُّنْيَا وأرضى باليسير مِمَّا سَمِعت من الْعلم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: زهد أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ من مذْهبه أَنه يحرم على الْإِنْسَان إدخار مَا زَاد على حَاجته. وَفِيه: أَن أَبَا ذَر ذهب إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر لفظ: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 43) . إِذْ الْكَنْز فِي اللُّغَة: المَال المدفون.(8/265)
سَوَاء أدّيت زَكَاته أم لَا. وَفِي قَوْله: (إِنَّمَا يجمعُونَ الدُّنْيَا) دَلِيل على أَن الْكَنْز عِنْده جمع المَال. وَفِيه: وَعِيد شَدِيد لمن لَا يُؤَدِّي زَكَاته. وَفِيه: تكنية الشَّارِع لأَصْحَابه، و: الذَّر، جمع ذرة وَهِي: النملة الصَّغِيرَة، وَذكر أَن أَبَا ذَر لما أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ انْصَرف إِلَى قومه فَأَتَاهُ بعد مُدَّة فَتوهم اسْمه فَقَالَ: أَنْت أَبُو نملة. قَالَ أَبُو ذَر: يَا رَسُول الله، بل أَبُو ذَر. وَقد ذكرنَا أَن اسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة. وَفِيه: فِي قَوْله: أتبصر أُحدا؟ إِلَى آخِره، مثل لتعجيل الزَّكَاة، يَقُول: مَا أحب أَن أحبس مَا أوجبه الله بِقدر مَا بَقِي من النَّهَار. وَفِيه: مَا يشْعر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُرْسل أفاضل أَصْحَابه فِي حَاجته يفضلهم بذلك، لِأَنَّهُ يصير رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: مَا يشْهد لما، قَالَ سَحْنُون: ترك الدُّنْيَا زهدا أفضل من كسبها من الْحَلَال وإنفاقها فِي سَبِيل الله. وَفِيه: نفي الْعقل عَن الْعُقَلَاء.
5 - (بابُ إنْفَاقِ المَالِ فِي حَقِّهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِنْفَاق المَال، أَي: صرفه فِي حَقه أَي: فِي مصرفه الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُؤَاخذَة عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
9041 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثني قَيْسٌ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ، قَالَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ حَسَدَ إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلِ آتَاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ الله حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الشّطْر الأول مِنْهُ لِأَنَّهُ يدل على التَّرْغِيب فِي إِنْفَاق المَال فِي حَقه، والْحَدِيث قد مضى بِعَيْنِه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعلم وَالْحكمَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن إِسْمَاعِيل إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى الْمَعْرُوف بالزمن الْبَصْرِيّ عَن يحيى الْقطَّان عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، واسْمه سعد الْكُوفِي عَن قيس بن أبي حَازِم واسْمه عَوْف الأحمسي البَجلِيّ، قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ، فلنذكر هُنَا شَيْئا يَسِيرا.
فَقَوله: (لَا حسد) أَي: لَا غِبْطَة، وَقَالَ ابْن بطال: أَي لَا مَوضِع للغبطة إلاَّ فِي هَاتين الخصلتين فَإِن فيهمَا مَوضِع التنافس. قَوْله: (إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ) أَي: خَصْلَتَيْنِ، ويروى: (إلاَّ فِي اثْنَيْنِ) ، أَي: شَيْئَيْنِ من الْخِصَال.
6 - (بابُ الرِّياءِ فِي الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرِّيَاء فِي الصَّدَقَة، الرِّيَاء: مصدر من راءيت الرجل مراآة ورياء أَي: خلاف مَا أَنا عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {الَّذين هم يراؤن} (الماعون: 6) . يَعْنِي: الْمُنَافِقين إِذا صلى الْمُؤْمِنُونَ صلوا مَعَهم يراؤنهم أَنهم على مَا هم عَلَيْهِ، وَفِي (الْمغرب) ؛ وَمن راأى راأى الله بِهِ، أَي: من عمل عملا لكَي يرَاهُ النَّاس شهر الله رياءه يَوْم الْقِيَامَة. ورأيا بِالْيَاءِ خطا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فلَان مراء وَقوم مراؤن وَالِاسْم الرِّيَاء. يُقَال: فعل ذَلِك رِيَاء وَسُمْعَة. وَقَالَ أَبُو حَامِد: الرِّيَاء مُشْتَقّ من الرُّؤْيَة وَأَصله طلب الْمنزلَة فِي قُلُوب النَّاس بإراءتهم الْخِصَال المحمودة، فحد الرِّيَاء هُوَ إراءة الْعباد بِطَاعَة الله تَعَالَى، فالمرائي هُوَ العابد، والمرائي لَهُ هُوَ النَّاس والمراأى بِهِ هُوَ الْخِصَال الحميدة، والرياء هُوَ قصد إِظْهَار ذَلِك.
لِقَوْلِهِ تَعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنِّ والأذَى} إلَى قَوْلِهِ {الكافِرِينَ} (الْبَقَرَة: 462) .
علل الرِّيَاء فِي الصَّدَقَة بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} (الْبَقَرَة: 462) . إِلَى آخِره، فَإِن الله تَعَالَى شبه الَّذِي يبطل صدقته بالمن والأذى بِالَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس، وَلَا شكّ أَن الَّذِي يرائي فِي صدقته أسوء حَالا من الْمُتَصَدّق بالمن، لِأَنَّهُ قد علم أَن الْمُشبه بِهِ يكون أقوى حَالا من الْمُشبه، وَلِهَذَا قَالَ فِي حق الْمرَائِي: وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، ثمَّ ضرب مثل ذَلِك الْمرَائِي بإنفاقه. بقوله: {فَمثله كَمثل صَفْوَان} (الْبَقَرَة: 462) . إِلَى آخِره ثمَّ إِن صدر الْآيَة خطاب للْمُؤْمِنين خاطبهم بقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ} (الْبَقَرَة: 462) . أَي: ثَوَاب صَدقَاتكُمْ وأجور نفقاتكم. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي ذَر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا ينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم(8/266)
وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: المنان بِمَا أعْطى، والمسبل إزَاره، والمنفق سلْعَته بِالْحلف الْكَاذِب) . وَلما خاطبهم بِهَذَا الْخطاب ونهاهم عَن إبِْطَال صَدَقَاتهمْ بالمن والأذى شبه إبطالهم بإِطال الْمُنَافِق الَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس لَا يُرِيد بإنفاقه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلَا ثَوَاب الْآخِرَة، ثمَّ مثل ذَلِك بِصَفْوَان، وَهُوَ الْحجر الأملس عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل، أَي: مطر شَدِيد عَظِيم الْقدر فَتَركه صَلدًا وَهُوَ الأملس الَّذِي لَا ينبث عَلَيْهِ شَيْء، ثمَّ قَالَ: لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا أَي: لَا يَجدونَ يَوْم الْقِيَامَة ثَوَاب شَيْء مِمَّا عمِلُوا كَمَا لَا يحصل النَّبَات من الأَرْض الصلدة، أَو من التُّرَاب الَّذِي على الصفوان، ثمَّ قَالَ: وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين. أَي: لَا يخلق لَهُم الْهِدَايَة وَلَا يهْدِيهم غَدا لطريق الْجنَّة شبه الْكَافِر بالصفوان وَعَمله بِالتُّرَابِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: صَلْدا لَيْسَ عَليه شَيءٌ
لما كَانَ لفظ: صَلدًا، مَذْكُورا فِي الْآيَة الْكَرِيمَة علق تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس، وَصله مُحَمَّد بن جرير عَن مُحَمَّد بن سعد حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي عمر قَالَ: حَدثنِي أبي عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَركه صَلدًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء} (الْبَقَرَة: 462) . وَفِي رِوَايَة: تَركهَا نقية لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْء، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره: حَدثنَا أَبُو زرْعَة حَدثنَا منْجَاب بن الْحَارِث أخبرنَا بشر عَن أبي روق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَركه صَلدًا} (الْبَقَرَة: 462) . يَقُول: فَتَركه يَابسا حاشيا لَا ينْبت شَيْئا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابِلٌ مطَرٌ شَدِيدٌ وَالطَّلُّ النَّدَى
لما كَانَ لفظ الوابل علق تَفْسِيره عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، وَوَصله عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا روح عَن عُثْمَان بن غياث، سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول: أَصَابَهَا وابل مطر شَدِيد، والطل: الندى، بِفَتْح النُّون، وَلَيْسَ فِي الْآيَة إلاَّ ذكر الصفوان والوابل. قَالَ الطَّبَرِيّ: الصفوان وَاحِد وَجمع، فَمن جعله جمعا قَالَ: واحدته صفوانة بِمَنْزِلَة: تَمْرَة وتمر ونخل ونخلة، وَمن جعله وَاحِدًا جمعه على صَفْوَان وصفى وصفى. وَفِي (الْمُحكم) : الصفاة الْحجر الصلد الضخم الَّذِي لَا ينْبت شَيْئا وَجمع الصفاة صغوات وصفى، وَجمع الْجمع: أصفاء وصفي، قَالَ:
(كَأَن منبته من الصفى)
مواقع الطير على الصفى
كَذَا أنْشدهُ دُرَيْد لِأَن بعده:
من طول إشرافي على الطرى
وحكمنا: أَن أصفاه وصفيا جمع: صفى لَا جمع صفاة. لِأَن فعلة لَا يكسر على فعول، إِنَّمَا ذَلِك لفعلة كبدرة وبدور، وَكَذَلِكَ أصفاء جمع صفا، لَا جمع صفاة، لِأَن فعلة لَا تجمع على أَفعَال. وَهُوَ الصفواء كالصخراء واحدتها صفاة، وَكَذَلِكَ الصفوان واحدته صفوانة. وَفِي (الجمهرة) : الصَّفَا من الْحِجَارَة مَقْصُور ويثنى صَفْوَان، والصفواء صَخْرَة وَهِي الصفوانة أَيْضا. وَفِي (الْجَامِع) : عَن قطرب، صَفْوَان، بِكَسْر الصَّاد، وَقَرَأَ سعيد بن الْمسيب: صَفْوَان، بتحريك الْفَاء قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ.
7 - بابٌ لاَ يَقْبَلُ الله صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذَى وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ (الْبَقَرَة: 362) .
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: لَا يقبل الله صَدَقَة من غلُول، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب لَا تقبل صَدَقَة من غلُول. فَقَوله: لَا تقبل، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث أخرجه مُسلم من حَدِيث مُصعب ابْن سعد، قَالَ: دخل عبد الله بن عمر على ابْن عَامر يعودهُ وَهُوَ مَرِيض، فَقَالَ: أَلا تَدْعُو الله لي يَا ابْن عمر؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول، وَكنت على الْبَصْرَة. قلت: كَأَنَّهُ قَاس الدُّعَاء على الصَّلَاة، فَكَمَا أَن الصَّلَاة لَا تكون إلاَّ عَن مصون من الأقذار، فَكَذَلِك الدُّعَاء للمصون من تبعات النَّاس، وكنتَ على الْبَصْرَة وتعلقت بك حُقُوق النَّاس، وَكَأَنَّهُ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قصد بِهَذَا الزّجر عَلَيْهِ والحث على التَّوْبَة. وَأخرجه الْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) عَن أبي كَامِل، أحد مَشَايِخ مُسلم، فِيهِ بِلَفْظ: (لَا يقبل الله صَلَاة إلاَّ بِطهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول) . وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) :(8/267)
حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أبي الْمليح عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يقبل الله تَعَالَى صَدَقَة من غلُول وَلَا صَلَاة بِغَيْر طهُور) . الْغلُول: بِضَم الْغَيْن الْخِيَانَة فِي الْمغنم وَالسَّرِقَة من الْغَنِيمَة قبل الْقِسْمَة، يُقَال: غل فِي الْمغنم يغل من بَاب ضرب يضْرب غلولاً، فَهُوَ غال، كل من خَان فِي شَيْء خُفْيَة فقد غل، وَسميت غلولاً لِأَن الْأَيْدِي فِيهَا مغلولة أَي مَمْنُوعَة مجعول فِيهَا غل وَهُوَ الحديدة الَّتِي تجمع يَد الْأَسير إِلَى عُنُقه، وَيُقَال لَهَا: جَامِعَة، أَيْضا. وَذكر ابْن سَيّده أَنه يُقَال: غل يغل غلولاً وأغل: خَان، وَخص بَعضهم بِهِ الخون فِي الْفَيْء وأغله خونه، وَالْإِغْلَال السّرقَة. قَالَ ابْن السّكيت: لم يسمع فِي الْمغنم إلاَّ غل غلولاً. وَفِي (الصِّحَاح) : يُقَال من الْخِيَانَة: أغل يغل، وَمن الحقد غل يغل وَمن الْغلُول غل يغل بِالضَّمِّ. قَوْله: (وَلَا صَلَاة) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم وتشمل سَائِر الصَّلَوَات من الْفَرْض وَالنَّفْل وَالطهُور، بِضَم الطَّاء، وَالْمرَاد بِهِ الْفِعْل، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين. وَقد قيل: يجوز فتحهَا وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل المَاء وَالتُّرَاب. قَوْله: (وَلَا يقبل إلاَّ مِن كسب طيب) هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْآتِي بعد هَذَا. قَوْله: (لقَوْله) أَي: لقَوْل الله تَعَالَى. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تَعْلِيله بقوله تَعَالَى: {ومغفرة خير من صَدَقَة} (الْبَقَرَة: 362) . قلت: تِلْكَ الصَّدَقَة يتبعهَا الْأَذَى يَوْم الْقِيَامَة بِسَبَب الْخِيَانَة، وَنقل عَن بَعضهم وَجه مُطَابقَة التَّرْجَمَة لِلْآيَةِ: أَن الْأَذَى بعد الصَّدَقَة يُبْطِلهَا، فَكيف بالأذى الْمُقَارن لَهَا؟ وَذَلِكَ أَن الغال متصدق بِمَال مَغْصُوب، وَالْغَاصِب مؤذ لصَاحب المَال عَاص بتصرفه فِيهِ، فَكَانَ أولى بالإبطال. وَقَالَ ابْن الْمُنِير. فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين التَّرْجَمَة وَالْآيَة؟ وهلا ذكر قَوْله تَعَالَى: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ: قلت: جرى على عَادَته فِي إِيثَار الاستنباط الْخَفي والاتكال فِي الِاسْتِدْلَال الْجَلِيّ على سبق الأفهام لَهُ، وَوجه الاستنباط لَهُ يحْتَمل أَن الْآيَة لَهَا إِثْبَات الصدقةُ غير أَن الصَّدَقَة لما تبعها سَيِّئَة الْأَذَى بطلت، فالغلول غصب إِذا فيقارن الصَّدَقَة فَتبْطل بطرِيق الأولى. قَوْله: {قَول مَعْرُوف} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: كَلَام حسن ورد جميل على السَّائِل، وَقيل: دُعَاء صَالح يَدْعُو لَهُ. وارتفاع: قَول، على الِابْتِدَاء وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ يخصص بِالصّفةِ. وَقَوله: {خير} (الْبَقَرَة: 362) . خَبره وَقَوله: {ومغفرة} (الْبَقَرَة: 362) . أَي: ستر وَتجَاوز من السَّائِل إِذا استطال عَلَيْهِ: {خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} (الْبَقَرَة: 362) . بمنة. وَقيل: مغْفرَة، أَي: عَفْو عَن ظلم قولي أَو فعلي خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى. وَقَالَ الضَّحَّاك: يَقُول: أَن تمسك مَالك خير من أَن تنفقه ثمَّ تتبعه منا وأذى. وَيُقَال: لما علم الله أَن الْفَقِير إِذا رد بِغَيْر نوال يشق عَلَيْهِ، وَرُبمَا يَدْعُو عَلَيْهِ ببسط اللِّسَان وَإِظْهَار الشكوى حث على الصفح وَالْعَفو. ثمَّ قَالَ: {وَالله غَنِي} (الْبَقَرَة: 362) . عَن صَدَقَة الْعباد، وَلَو شَاءَ لأغنى جَمِيع الْخلق، وَلكنه أعْطى الْأَغْنِيَاء لينْظر كَيفَ شكرهم، وابتلى الْفُقَرَاء لينْظر كَيفَ صبرهم: {حَلِيم} (الْبَقَرَة: 362) . لَا يعجل بالعقوبة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: غَنِي لَا حَاجَة بِهِ إِلَى منفق يمن ويؤذي، حَلِيم عَن معالجته بالعقوبة، وَهَذَا سخط مِنْهُ ووعيد لَهُ. وَالله أعلم.
8 - (بابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة لَا تقبل إِلَّا من كسب طيب، وَيجوز إِضَافَة لفظ: بَاب، إِلَى مَا بعده، وَيجوز قطعه عَن الْإِضَافَة، وعَلى تَقْدِير الْقطع يكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّدَقَة من كسب طيب، يَعْنِي: تقبل الصَّدَقَة الْحَاصِلَة من كسب طيب، أَو التَّقْدِير: الصَّدَقَة إِنَّمَا تقبل من كسب طيب. فَلفظ: الصَّدَقَة، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ. وَفِي الْوَجْه الأول، مجرور بِالْإِضَافَة، وَلما ذكر فِي الْبَاب الأول فِي التَّرْجَمَة قَوْله: وَلَا تقبل إلاَّ من كسب طيب، تعرض إِلَى بَيَان الْكسْب الطّيب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الَّتِي لم تقع فِي الْكتاب إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَابْن شبويه والكشميهني.
لِقَوْلِهِ {ويُرْبى الصَّدَقَاتِ وَالله لاَ يُحِبُّ كلَّ كَفَّارٍ أثيمٍ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأقَامُوا الصَّلاَةَ واتُوا الزَّكَاةَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} (الْبَقَرَة: 672 و 772) .
علل كَون الصَّدَقَة من كسب طيب، بقوله تَعَالَى: {ويربي الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 672 و 772) . أَي: يزِيد فِيهَا ويبارك فِي الدُّنْيَا ويضاعف الثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وَالْكَسْب الطّيب هُوَ من الْحَلَال قَالَ تَعَالَى: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) . {وكلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} (الْبَقَرَة: 75 و 271، طه: 18) .(8/268)
وَإِنَّمَا لَا يقبل الله المَال الْحَرَام لِأَنَّهُ غير مَمْلُوك للمتصدق، وَهُوَ مَمْنُوع من التَّصَرُّف فِيهِ، وَالتَّصَدُّق بِهِ تصرف فِيهِ، فَلَو قبلت لزم أَن يكون مَأْمُورا بِهِ ومنهيا عَنهُ من وَجه وَاحِد، وَذَلِكَ محَال. فَإِن قلت: قَوْله: {ويربي الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 672) . لفظ عَام لما يكون من الْكسْب الطّيب وَمن غَيره، فَكيف يدل على التَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ مُقَيّد بالصدقات الَّتِي من المَال الْحَلَال بِقَرِينَة السِّيَاق نَحْو: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . قلت: قَوْله تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) . أقرب للاستدلال على مَا ذكره من قَوْله: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . لِأَن الله تَعَالَى أخبر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة أَنه يمحق الرِّبَا، أَي: يذهبه إِمَّا بِأَن يذهب بِالْكُلِّيَّةِ من يَد صَاحبه أَو يحرمه بركَة مَاله، فَلَا ينْتَفع بِهِ بل يعذبه بِهِ فِي الدُّنْيَا ويعاقبه عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة. وروى الإِمَام أَحْمد فِي (مُسْنده) فَقَالَ: حَدثنَا حجاج حَدثنَا شريك عَن الركين بن الرّبيع عَن أَبِيه عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الرِّبَا وَإِن كثر فَإِن عاقبته تصير إِلَى قل، وَهَذَا من بَاب الْمُعَامَلَة بنقيض الْمَقْصُود، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لما أخبر بِأَنَّهُ يمحق الرِّبَا لِأَنَّهُ حرَام، أخبر أَنه يُربي الصَّدقَات الَّتِي من الْكسْب الْحَلَال. وَفِي (الصَّحِيح) عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تصدق بِعدْل تَمْرَة. .) الحَدِيث، على مَا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَلما قرن بَين قَوْله: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) . وَبَين قَوْله: {ويربى الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 672) . بواو الْعَطف علم أَن إرباء الصَّدقَات إِنَّمَا يكون إِذا كَانَت من الْكسْب الْحَلَال بِقَرِينَة محقه الرِّبَا لكَونه حَرَامًا. قَوْله: {وَالله لَا يحب كل كفار أثيم} (الْبَقَرَة: 672) . أَي: لَا يحب كفور الْقلب أثيم القَوْل وَالْفِعْل، وَلَا بُد من مُنَاسبَة فِي ختم هَذِه الْآيَة بِهَذِهِ الصّفة، وَهِي أَن المرابي لَا يرضى بِمَا قسم الله لَهُ من الْحَلَال، وَلَا يَكْتَفِي بِمَا شرع لَهُ من التكسب الْمُبَاح، فَهُوَ يسْعَى فِي أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ بأنواع المكاسب الخبيثة، فَهُوَ جحود لما عَلَيْهِ من النِّعْمَة، ظلوم آثم بِأَكْل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ، ثمَّ قَالَ تَعَالَى، وتقدس، مادحا للْمُؤْمِنين برَبهمْ المطيعين أمره المؤدين شكره الْمُحْسِنِينَ إِلَى خلقه فِي إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة، مخبرا عَمَّا أعدلهم من الْكَرَامَة وَأَنَّهُمْ يَوْم الْقِيَامَة آمنون من التَّبعَات فَقَالَ: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: 77) . أَي: لَا خوف عَلَيْهِم عِنْد الْمَوْت، وَلَا هم يَحْزَنُونَ يَوْم الْقِيَامَة.
0141 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ هُوَ ابنُ عَبْدِ الله ابنِ دِينَارٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ الله إلاَّ الطَّيِّبَ وَإنَّ الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلْوَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلِ الجَبَلِ.
(الحَدِيث 0141 طرفه فِي: 0347) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من كسب طيب) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون، مر فِي: بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب. الثَّانِي: أَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم بن أبي أُميَّة مولى عمر بن عبيد الله بن معمر القريشي التَّيْمِيّ. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار مولى عبد الله بن عمر مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن دِينَار. الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: اثْنَان مذكوران بالكنية. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة أَيْضا عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن خَالِد بن مخلد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِعدْل تَمْرَة) ، بِكَسْر الْعين: هُوَ مَا عَادل الشَّيْء من غير جنسه، وبالفتح مَا عادله من جنسه. تَقول: عِنْدِي عدل دراهمك من الثِّيَاب وَعدل دراهمك من الدَّرَاهِم. وَقَالَ البصريون: العَدل والعِدل لُغَتَانِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: بِعدْل تَمْرَة أَي: قيمَة تَمْرَة. يُقَال: هَذَا عدله، بِفَتْح الْعين، أَي مثله فِي الْقيمَة، وبكسرها أَي مثله فِي المنظر. وَزعم ابْن قُتَيْبَة: أَن الْعدْل، بِالْفَتْح: الْمثل وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {أَو عدل ذَلِك صياما} (الْمَائِدَة: 59) . وَالْعدْل، بِالْكَسْرِ: الْقيمَة، وَزعم ابْن التِّين أَنه على هَذَا جمَاعَة من أهل اللُّغَة، وَفِي(8/269)
(الْمُحكم) : الْعدْل والعديل وَالْعدْل: النظير، والمثل. وَقيل: هُوَ الْمثل وَلَيْسَ بالنظير عينه، وَالْجمع أعدال وعدلاء. وَقيل: ضبط هَهُنَا بِالْفَتْح عِنْد الْأَكْثَرين. قَوْله: (من كسب طيب) أَي: حَلَال، وَهِي صفة مُمَيزَة لعدل تَمْرَة ليمتاز الْكسْب الْخَبيث الْحَرَام. قَوْله: (وَلَا يقبل الله إِلَّا الطّيب) جملَة مُعْتَرضَة وَارِدَة على سَبِيل الْحصْر بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء تَأْكِيدًا وتقريرا للمطلوب فِي النَّفَقَة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال الْآتِي ذكرهَا: (وَلَا يصعد إِلَى الله إلاَّ الطّيب) ، وَزَاد سُهَيْل فِي رِوَايَته الْآتِي ذكرهَا. (فَيَضَعهَا فِي حَقّهَا) . قَوْله: (بِيَمِينِهِ) ، قَالَ الْخطابِيّ: جرى ذكر الْيَمين ليدل بِهِ على حسن الْقبُول، لِأَن فِي عرف النَّاس أَن أَيْمَانهم مرصدة لما عز من الْأُمُور، وَقيل: المُرَاد سرعَة الْقبُول. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَلما قيد الْكسْب بالطيب أتبعه الْيَمين لمناسبة بَينهمَا فِي الشّرف، وَمن ثمَّة كَانَت يَده الْيُمْنَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للطهور، وَفِي رِوَايَة سُهَيْل: إلاَّ أَخذهَا بِيَمِينِهِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم بن أبي مَرْيَم الْآتِي ذكرهَا: فيقبضها، وَفِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد الْبَزَّار: (فيتلقاها الرَّحْمَن بِيَدِهِ) ، وَيُقَال: لما كَانَت الشمَال عَادَة تنقص عَن الْيَمين بطشا وَقُوَّة عرفنَا الشَّارِع بقوله: وكلتا يَدَيْهِ يَمِين، فَانْتفى النَّقْص تَعَالَى عَنهُ، والجارحة على الرب محَال. قَوْله: (فلوه) ، بِفَتْح الْفَاء وَضم اللَّام وَتَشْديد الْوَاو: وَهُوَ الْمهْر لِأَنَّهُ يعلى أَي: يعظم وَالْأُنْثَى: فلوة، مِثَال عدوة، وَالْجمع: أفلاء، مثل: أَعدَاء. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يُقَال للمهر: فَلَو، وللجحش: ولد الْحمار فلوة بِكَسْر الْفَاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: عَن أبي زيد: إِذا فتحت الْفَاء شددت الْوَاو، وَإِذا كسرت خففت، فَقلت: فَلَو مثل جرو. وَفِي (الْمُخَصّص) : إِذا بلغ سنة، يَعْنِي: ولد الجحش، فَهُوَ فَلَو، وَعَن سِيبَوَيْهٍ: وَالْجمع أفلاء، وَلم يكسر على فعل كَرَاهِيَة الْإِخْلَال، وَلَا كسروه على فعلان كَرَاهِيَة الكسرة قبل الْوَاو، وَإِن كَانَ بَينهمَا حاجز، لِأَن السَّاكِن لَيْسَ بحاجز حُصَيْن، وَعَن الْأَعرَابِي: الفلو كالتلو، وَخص أَبُو عبيد بِهِ فَلَو الأتان وَالْجمع كالجمع إلاَّ أَنه لَا يحوج إِلَى الِاعْتِذَار من فعلان. وَقد فلى مهره إِذا فَصله من أمه، وأفلاه. وَعَن ابْن السّكيت: فلوته عَن أمه وأفتليته: فصلته عَنْهَا، وَعَن ابْن دُرَيْد: فلوت الْمهْر: نحيته. وَعَن أبي عبيد: فلوت الْمهْر عَن أمه فَهُوَ فَلَو، وَفرس مفل ومفلية ذَات فَلَو. وَفِي (الْمُحكم) : فلوت الصَّبِي وَالْمهْر والجحش فلوا. وَفِي (الْجَامِع) : زَاد الْقَزاز: الْجمع أفلاء وفلاء. وَقَول الْعَامَّة: فَلَو، خطأ، وَجمع الفلوة: فلاوي: مثل: خَطَايَا. وَفِي (الْمُنْتَخب) لكراع، يصف أَوْلَاد الْخَيل وَلَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الفلو حَتَّى يفتلى من أمه، أَي: يفطم ثمَّ هُوَ فَلَو حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول، ثمَّ هُوَ حَولي حَتَّى يتجاذع. وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: وَالْجمع فَلَو، بِضَم الْفَاء. وَفِي (كتاب الْفرق) لأبي حَاتِم السجسْتانِي: قَالُوا فِي ولد الْخَيل العراب والبراذين للذكران: مهر، وللأنثى: مهرَة، فَإِذا كَانَت لَهُ سَبْعَة أشهر أَو ثَمَانِيَة يُقَال لَهُ: الخروف، وَالْجمع: خرف. فَإِذا كَانَت لَهُ سنة فَهُوَ: فَلَو وَالْأُنْثَى فلوة. وَلَا يُقَال: فَلَو وَلَا فلوة، كَمَا يَقُول من لَا يعلم من الْعَوام، وَقد أولعوا بذلك. وَفِي (كتاب الوحوش) : يُقَال لولد الْحمار: مهر وتولب وتالب، وَهِي المهار والفلاء. قَالَ: وحمر الوحوش على هَذِه الصّفة. وَقَوله: (كَمَا يربى أحدكُم فلوه) ضرب الْمثل لِأَنَّهُ يزِيد زِيَادَة بَيِّنَة، فَكَذَلِك الصَّدَقَة نتاج الْعَمَل فَإِذا كَانَت من حَلَال لَا يزَال نظر الله إِلَيْهَا حَتَّى تَنْتَهِي بالتضعيف إِلَى أَن تصير التمرة كالجبل، وَهُوَ معنى قَوْله: (حَتَّى تكون مثل الْجَبَل) . قَالَ الدَّاودِيّ: أَي: كمن تصدق بِمثل الْجَبَل، وتربية الصَّدقَات مضاعفة الْأجر عَلَيْهَا وَإِن أُرِيد بِهِ الزِّيَادَة فِي كمية عينهَا ليَكُون أثقل فِي الْمِيزَان لم يُنكر ذَلِك. وَفِي رِوَايَة مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، من طَرِيق سعيد بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حَتَّى تكون أعظم من الْجَبَل. وَفِي رِوَايَة ابْن جرير من وَجه آخر عَن الْقَاسِم: حَتَّى يوافي بهَا يَوْم الْقِيَامَة وَهِي أعظم من أحد. وَفِي رِوَايَة الْقَاسِم عِنْد التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: (حَتَّى إِن اللُّقْمَة لتصير مثل أحد) .
تابَعَهُ سُلَيْمَانُ عنِ ابنِ دِينَارٍ
أَي: تَابع عبد الرَّحْمَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذِه الْمُتَابَعَة ذكرهَا البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد، وَقَالَ: خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عبد الله بن دِينَار، فساق مثله إلاَّ أَن فِيهِ مُخَالفَة فِي اللَّفْظ يسيرَة، وَقد وَصله أَبُو عوَانَة والجوزقي من طَرِيق مُحَمَّد بن معَاذ بن يُوسُف عَن خَالِد بن مخلد بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ مُسلم: حَدثنَا يزِيد، يَعْنِي ابْن زُرَيْع، قَالَ: حَدثنَا روح بن الْقَاسِم، وحدثنيه أَحْمد بن عُثْمَان الأودي، قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن مخلد، قَالَ: حَدثنِي سُلَيْمَان يَعْنِي ابْن بِلَال، كِلَاهُمَا عَن سُهَيْل بِهَذَا الْإِسْنَاد من حَدِيث روح: من الْكسْب الطّيب فَيَضَعهَا فِي حَقّهَا، وَفِي حَدِيث سُلَيْمَان: فَيَضَعهَا فِي موضعهَا.(8/270)
وَقَالَ وَرْقاءُ عنِ ابنِ دِينَارٍ عنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ وَرْقَاء بن عمر بن كُلَيْب الْيَشْكُرِي: عَن عبد الله بن دِينَار عَن سعيد بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، وورقاء هَذَا قد خَالف سُلَيْمَان حَيْثُ جعل شيخ ابْن دِينَار فِيهِ: سعيد بن يسَار بدل أبي صَالح، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا وهم لتوارد الروَاة عَن أبي صَالح دون سعيد بن يسَار، وَفِيه نظر لِأَنَّهُ مَحْفُوظ عَن سعيد بن يسَار من وَجه آخر كَمَا أخرجه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا لَيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن يسَار أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا تصدق أحد بِصَدقَة من طيب وَلَا يقبل الله إلاَّ الطَّيِّب إلاَّ أَخذهَا الرَّحْمَن بِيَمِينِهِ وَإِن كَانَت تَمْرَة فتربو فِي كف الرَّحْمَن حَتَّى تكون أعظم من الْجَبَل كَمَا يُربي أحدكُم فلوه أَو فَصِيله) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة إِلَى آخِره نَحوه، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أَقف على رِوَايَة وَرْقَاء هَذِه مَوْصُولَة. قلت: قد وَصلهَا الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة أبي النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم: حَدثنَا وَرْقَاء، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، ورويناه أَيْضا فِي الْجُزْء الرَّابِع من (فَوَائِد أبي بكر الشَّافِعِي) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد يَعْنِي: ابْن غَالب: حَدثنَا عبد الصَّمد حَدثنَا وَرْقَاء.
ورَوَاهُ مُسْلِمُ بنُ أبِي مَرْيَمَ وَزَيْدُ بنُ أسْلَمَ وَسُهَيْلٌ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور مُسلم بن أبي مَرْيَم السّلمِيّ الْمدنِي، وَوصل يُوسُف بن يَعْقُوب القَاضِي فِي كتاب الزَّكَاة رِوَايَة مُسلم هَذِه، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي حَدثنَا سعيد بن سَلمَة هُوَ ابْن أبي الحسام عَنهُ بِهِ. قَوْله: (وَزيد بن أسلم) ، عطف على مُسلم، وَوصل رِوَايَته مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الطَّاهِر، وَقَالَ: أخبرنَا عبد الله بن وهب قَالَ: أَخْبرنِي هِشَام بن سعيد عَن زيد بن أسلم عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو حَدِيث يَعْقُوب عَن سُهَيْل، ونذكره الْآن. قَوْله: (وَسُهيْل) ، عطف على زيد بن أسلم، وَوصل رِوَايَته أَيْضا مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي: ابْن عبد الرَّحْمَن الْقَارِي، عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يتَصَدَّق أحد بتمرة من كسب طيب إلاَّ أَخذهَا الله بِيَمِينِهِ يُرَبِّيهَا كَمَا يُربي أحدكُم فلوه أَو قلوصه حَتَّى تكون مثل الْجَبَل أَو أعظم) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ قَالَ أَولا تَابِعَة، وَثَانِيا: قَالَ وَرْقَاء، وثالثا: قَالَ رَوَاهُ، مَعَ أَن الثَّالِث أَيْضا فِيهِ مُتَابعَة، لِأَن الثَّلَاثَة تابعوا ابْن دِينَار فِي الرِّوَايَة عَن أبي صَالح؟ قلت: الأول: مُتَابعَة لِأَن اللَّفْظ فِيهِ بِعَيْنِه لَفظه، وَالثَّالِث: رِوَايَة لَا مُتَابعَة لاخْتِلَاف اللَّفْظ وَإِن اتَّحد الْمَعْنى فيهمَا. وَالثَّانِي: لما لم يكن على سَبِيل النَّقْل وَالرِّوَايَة، بل على سَبِيل المذاكرة، قَالَ بِلَفْظ القَوْل.
9 - (بابُ الصَّدَقَةِ قبل الرَّدِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي التحريض على إِعْطَاء الصَّدَقَة قبل رد من يتَصَدَّق عَلَيْهِ بهَا، وَالْمَقْصُود من هَذِه التَّرْجَمَة المسارعة إِلَى الصَّدَقَة والتحذير عَن تسويفها، لِأَن التسويف قد يكون ذَرِيعَة إِلَى أَن لَا يجد من يقبلهَا. وَقد أخبر الشَّارِع أَنه سيقع فقد الْفُقَرَاء المحتاجين إِلَى الصَّدَقَة وَيخرج الْغَنِيّ صدقته فَلَا يجد من يقبلهَا، كَمَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب (يَقُول الرجل: لَو جِئْت بهَا بالْأَمْس لقبلتها، فَأَما الْيَوْم فَلَا حَاجَة لي فِيهَا) .
1141 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مَعْبَدُ بنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حارِثَةَ بنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تَصَدَّقُوا فإنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا فأمَّا اليَوْمَ فَلاَ حاجَةَ لِي بِهَا.(8/271)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: آدم بن أبي إِيَاس، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، ومعبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: ابْن خَالِد الجدلي، بِالْجِيم وَالدَّال الْمُهْملَة المفتوحتين: الْكُوفِي الْقَاص، بتَشْديد الصَّاد: العابد وَكَانَ من القانتين، مَاتَ سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وحارثة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبكسر الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن وهب الْخُزَاعِيّ أَخُو عبيد الله بن عمر بن الْخطاب لأمه، لَهُ صُحْبَة، يعد فِي الْكُوفِيّين.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين، وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه عسقلاني وَشعْبَة واسطي ومعبد كُوفِي والْحَدِيث من الرباعيات.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن الْجَعْد، وَأخرجه فِي الْفِتَن عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبيد الله بن نمير.
قَوْله: (يَقُول الرجل) أَي: الرجل الَّذِي يُرِيد الْمُتَصَدّق أَن يُعْطِيهِ إِيَّاهَا. قَوْله: (فَلَا حَاجَة لي بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فِيهَا. وَقَالَ بَعضهم: وَالظَّاهِر أَن ذَلِك يَقع فِي زمَان كَثْرَة المَال وفيضه قرب السَّاعَة. قلت: هَذَا كَلَام ابْن بطال، وَلكنه غير مُتبع لِأَن الظَّاهِر أَن ذَلِك يَقع فِي زمَان تظهر كنوز الأَرْض الَّذِي هُوَ من جملَة أَشْرَاط السَّاعَة.
وَفِيه: حث على الصَّدَقَة وَالتَّرْغِيب مَا وجد أَهلهَا المستحقون لَهَا خشيَة أَن يَأْتِي الزَّمن الَّذِي لَا يُوجد فِيهِ من يَأْخُذهَا، وَهُوَ الزَّمَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.
2141 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ المَالُ فَيَفِيضُ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ المَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ لَا أرَبَ لِي فِيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج.
قَوْله: (فيفيض) ، من فاض الْإِنَاء إِذا امْتَلَأَ، وأفاضه ملأَهُ، واشتقاقه من الْفَيْض. وَفِي (الْمغرب) : فاض المَاء إِذا انصب على امتلائه، وأفاض المَاء صبه عَن كَثْرَة. قَوْله: (حَتَّى يهم) بِفَتْح الْيَاء وَضم الْهَاء من: الْهم، بِفَتْح الْهَاء، وَهُوَ مَا يشغل الْقلب من أَمر يهم بِهِ. قَوْله: (رب المَال) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يهم. وَقَوله: (من يقبل) فَاعله من: همه الشَّيْء أحزنه، ويروى: يهم، بِضَم الْيَاء وَكسر الْهَاء من: أهمه الْأَمر إِذا أقلقه، فعلى هَذَا أَيْضا الْإِعْرَاب مثل الأول، لِأَن كلا من: يهم، بِفَتْح الْيَاء، و: يهم، بضَمهَا، متعدٍ. يُقَال: همه الْأَمر وأهمه، وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِي (شرح مُسلم) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ضبطوه بِوَجْهَيْنِ أشهرهما بِضَم أَوله وَكسر الْهَاء، و: رب المَال، مفعول، وَالْفَاعِل: من يقبل أَي يحزنهُ، وَالثَّانِي بِفَتْح أَوله وَضم الْهَاء، وَرب المَال فَاعل، و: من مَفْعُوله أَي: يقْصد. انْتهى. قلت: فهم من ذَلِك أَنهم فرقوا بَين الْبَابَيْنِ، فَجعلُوا الأول مُتَعَدِّيا من الإهمام وَالثَّانِي مُتَعَدِّيا من الْهم بِمَعْنى الْقَصْد، فَجعلُوا رب المَال مَفْعُولا فِي الأول، وفاعلاً فِي الثَّانِي. قَوْله: (لَا أرب لي فِيهِ) ، أَي: لَا حَاجَة لي فِيهِ، وَهُوَ بِفتْحَتَيْنِ لَا غير. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَأَنَّهُ سقط كلمة: فِيهِ، من الْكتاب؟ قلت: السقط كَأَنَّهُ كَانَ فِي نسخته، وَهُوَ مَوْجُود فِي النّسخ. وَقَالَ أَيْضا: وَقد وجدت فِي أَيَّام الصَّحَابَة هَذِه الْحَال، كَانَت تعرض عَلَيْهِم الصَّدَقَة فيأبون قبُولهَا. قلت: كَانَ هَذَا لزهدهم وإعراضهم عَن الدُّنْيَا وَلم يكن لفيض من المَال، وَكَانُوا يعرضون عَنْهَا مَعَ قلَّة المَال وَكَثْرَة الإحتياج.
17 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا أَبُو عَاصِم النَّبِيل قَالَ أخبرنَا سَعْدَان بن بشر قَالَ حَدثنَا أَبُو مُجَاهِد قَالَ حَدثنَا مَحل بن خَليفَة الطَّائِي قَالَ سَمِعت عدي بن حَاتِم رَضِي الله عَنهُ يَقُول كنت عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَاءَهُ رجلَانِ أَحدهمَا يشكو الْعيلَة وَالْآخر يشكو قطع(8/272)
السَّبِيل فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما قطع السَّبِيل فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْك إِلَّا قَلِيل حَتَّى تخرج العير إِلَى مَكَّة بِغَيْر خفير وَأما الْعيلَة فَإِن السَّاعَة لَا تقوم حَتَّى يطوف أحدكُم بِصَدَقَتِهِ لَا يجد من يقبلهَا مِنْهُ ثمَّ ليقفن أحدكُم بَين يَدي الله لَيْسَ بَينه وَبَينه حجاب وَلَا ترجمان يترجم لَهُ ثمَّ ليَقُولن لَهُ أم أوتك مَالا فليقولن بلَى ثمَّ ليَقُولن ألم أرسل إِلَيْك رَسُولا فليقولن بلَى فَينْظر عَن يَمِينه فَلَا يرى إِلَّا النَّار ثمَّ ينظر عَن شِمَاله فَلَا يرى إِلَّا النَّار فليتقين أحدكُم النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَإِن لم يجد فبكلمة طيبَة) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " فَإِن السَّاعَة لَا تقوم حَتَّى يطوف أحدكُم بِصَدَقَتِهِ لَا يجد من يقبلهَا مِنْهُ ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وَقد مر. الثَّانِي أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد الملقب بالنبيل وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث سَعْدَان بن بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة الْجُهَنِيّ. الرَّابِع أَبُو مُجَاهِد اسْمه سعد الطَّائِي. الْخَامِس مَحل بِضَم الْمِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام ابْن خَليفَة الطَّائِي. السَّادِس عدي بن حَاتِم الطَّائِي (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه السماع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه بخاري وَمن أَفْرَاده وَفِيه أَن شيخ شَيْخه شَيْخه أَيْضا لِأَنَّهُ روى عَنهُ وَأَنه بَصرِي وَأَن سَعْدَان من أَفْرَاده وَأَنه كُوفِي وَأَن لفظ سَعْدَان لقبه واسْمه سعدوان أَبَا مُجَاهِد أَيْضا من أَفْرَاده وَأَنه طائي وَأَن مَحل بن خَليفَة كُوفِي وَأَنه من أَفْرَاده قَالَ الْكرْمَانِي وجده عدي بن حَاتِم ثمَّ قَالَ وَفِي الْإِسْنَاد ثَلَاثَة طائيون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن مُحَمَّد بن الحكم عَن النَّضر بن شُمَيْل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن نضر بن عَليّ الْجَهْضَمِي مُخْتَصرا (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يشكو الْعيلَة " بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة أَي الْفقر من عَال إِذا افْتقر قَالَ الْجَوْهَرِي يُقَال عَال يعيل عيلة وعيولا إِذا افْتقر قَالَ تَعَالَى {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} وَهُوَ عائل وَقوم عيلة وَترك أَوْلَاده يتامى عيلى أَي فُقَرَاء وَذكره فِي الأجوف اليائي وَأما عَال عِيَاله عولا وعيالة أَي قاتهم ومأنهم وَأنْفق عَلَيْهِم فَهُوَ من الأجوف الواوي وَقَالَ ابْن قرقول وَأَصله من الْعَوْل وَهُوَ الْقُوت وَمِنْه قَوْله " وابدأ بِمن تعول " أَي بِمن تقوت قَوْله " قطع السَّبِيل " هُوَ من فَسَاد السراق واللصوص كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَفِيه نظر لِأَن قطع السَّبِيل لَا يكون إِلَّا من قطاع الطَّرِيق جَهرا وَالسَّارِق لَا يَأْخُذ جَهرا وَكَذَلِكَ اللص قَوْله " العير " بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْإِبِل الَّتِي تحمل الْميرَة وَفِي الْمطَالع العير الْقَافِلَة وَهِي الْإِبِل وَالدَّوَاب تحمل الطَّعَام وَغَيره من التِّجَارَة وَلَا تسمى عيرًا إِلَّا إِذا كَانَت كَذَلِك وَقَالَ ابْن الْأَثِير العير الْإِبِل بأحمالها فعل من عَار يعير إِذا سَار وَقيل هِيَ قافلة الْحمير فكثرت حَتَّى سميت بهَا كل قافلة كَأَنَّهَا جمع عير وَكَانَ قياسها أَن يكون فعلا بِالضَّمِّ كسقف فِي سقف إِلَّا أَنه حوفظ على الْيَاء بالكسرة نَحْو عين قَوْله " خفير " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء وَهُوَ المجير الَّذِي يكون الْقَوْم فِي ضَمَانه وذمته وَقَالَ الْكرْمَانِي وَالْمرَاد مِنْهُ حَتَّى تخرج الْقَافِلَة من الشَّام وَالْعراق وَنَحْوهمَا إِلَى مَكَّة بِغَيْر البدرقة وَفِي الصِّحَاح خفرت الرجل أخفره بِالْكَسْرِ خفرا إِذا آجرته وَكنت لَهُ خفيرا تَمنعهُ قَالَ الْأَصْمَعِي وَكَذَلِكَ خفرته تخفيرا وأخفرته إِذا نقضت عَهده وغدرت بِهِ قَوْله " بَين يَدي الله " هُوَ من المتشابهات وَالْأمة فِي أَمْثَالهَا كاليمين وَنَحْوه طَائِفَتَانِ المفوضة والمؤولة بِمَا يُنَاسِبهَا قَوْله " وَلَا ترجمان " بِضَم التَّاء وَفتحهَا وَالْجِيم مَضْمُومَة فيهمَا وَالتَّاء فِيهِ أَصْلِيَّة وَقَالَ الْجَوْهَرِي زَائِدَة وَقَالَ هُوَ نَحْو الزَّعْفَرَان فالجيم مَفْتُوحَة هَذَا على جِهَة التَّمْثِيل ليفهم الْخطاب أَن الله تَعَالَى لَا يُحِيط بِهِ شَيْء وَلَا يَحْجُبهُ حجاب وَإِنَّمَا يسْتَتر تَعَالَى عَن أبصارنا بِمَا وضع فِيهَا من الْحجب للعجز عَن الْإِدْرَاك فِي الدُّنْيَا(8/273)
فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة كشف تِلْكَ الْحجب عَن أبصارنا وقواها حَتَّى نرَاهُ مُعَاينَة كَمَا نرى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح قَوْله " فليتقين " أَمر مُؤَكد بالنُّون الثَّقِيلَة دخلت عَلَيْهِ اللَّام قَوْله " وَلَو بشق تَمْرَة " بِكَسْر الشين مَعْنَاهُ لَا تحقروا شَيْئا من الْمَعْرُوف وَلَو كَانَ بشق تَمْرَة أَي بِنِصْفِهَا قَوْله " فَإِن لم يجد " أَي فَإِن لم يجد أحدكُم شَيْئا يتَصَدَّق بِهِ على الْمُحْتَاج فليرده بِكَلِمَة طيبَة وَهِي الَّتِي فِيهَا تطييب قلبه فَدلَّ على أَن الْكَلِمَة الطّيبَة يتقى بهَا كَمَا أَن الْكَلِمَة الخبيثة مستوجب بهَا النَّار. وَفِيه حث على الصَّدَقَة وَأَن لَا يحقر شَيْئا من الْخَيْر قولا وفعلا وَإِن قل -
4141 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسى ارضي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لاَ يَجد أحَدا يَأخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأةً يَلُذْنَ بِهِ من قِلَّةِ الرِّجَالِ وكَثْرَةِ النِّسَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ليَأْتِيَن على النَّاس زمَان يطوف الرجل فِيهِ بِالصَّدَقَةِ من الذَّهَب ثمَّ لَا يجد أحدا يَأْخُذهَا مِنْهُ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب، مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عبد الله بن أبي بردة ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه عَامر، وَقيل: الْحَارِث بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد عَن شَيْخه، وَقيل بِصِيغَة الْجمع وبصيغته أَيْضا فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده وَرِوَايَة الإبن عَن أَبِيه. وَفِيه: ثَلَاثَة مكيون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا بِإِسْنَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (من الذَّهَب) ، خص بِالذكر مُبَالغَة فِي عدم من يقبل الصَّدَقَة لِأَن الذَّهَب أعز المعدنيات وأشرف الْأَمْوَال، فَإِذا لم يُوجد من يَأْخُذ هَذَا فَفِي غَيره بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (وَيرى الرجل) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (يتبعهُ) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (يلذن) ، بِضَم اللَّام وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة أَي: يلتجئن إِلَيْهِ ويرغبن فِيهِ، من لَاذَ بِهِ يلوذ لياذا إِذا التجأ إِلَيْهِ وانضم واستغاث، هَذَا وَالله أعلم يكون عِنْد ظُهُور الْفِتَن وَكَثْرَة الْقَتْل فِي النَّاس، قَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ فِيهِنَّ قيم غَيره، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون نِسَاءَهُ وجواريه وَذَوَات مَحَارمه وقراباته، وَهَذَا كُله من أَشْرَاط السَّاعَة.
وَفِيه: الْإِعْلَام بِمَا يكون بعده من كَثْرَة الْأَمْوَال حَتَّى لَا يجد من يقبلهَا وَأَن ذَلِك بعد قتل عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الدَّجَّال وَالْكفَّار، فَلم يبْق بِأَرْض الْإِسْلَام كَافِر، وتنزل إِذْ ذَاك بَرَكَات السَّمَاء إِلَى الأَرْض وَالنَّاس إِذْ ذَاك قَلِيلُونَ لَا يدخرون شَيْئا لعلمهم بِقرب السَّاعَة، وتربي الأَرْض إِذْ ذَاك بركاتها حَتَّى تشبع الرمانة أهل الْبَيْت، وتلقى الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا وَهُوَ مَا دَفَنته مُلُوك الْعَجم كسْرَى وَغَيره وَيكثر المَال حَتَّى لَا يتنافس فِيهِ النَّاس. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: تقدم فِي: بَاب رفع الْعلم أَنه يكون لخمسين امْرَأَة الْقيم الْوَاحِد؟ قلت: التَّخْصِيص بِعَدَد الْأَرْبَعين لَا يدل على نفي الزَّائِد. قلت: الْمَذْكُور فِي: بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يقل الْعلم وَيظْهر الْجَهْل، وَيظْهر الزِّنَا وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة الْقيم الْوَاحِد.
01 - (بابٌ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة، وَهَذَا لفظ الحَدِيث على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَجمع فِي هَذَا الْبَاب بَين لفظ الْخَبَر وَالْآيَة لاشتمالها على الْحَث والتحريض على الصَّدَقَة، قَلِيلا كَانَت أَو كثيرا.
وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ(8/274)
والقليل بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (بشق تَمْرَة) ، من عطف الْعَام على الْخَاص، وَالتَّقْدِير: اتَّقوا النَّار وَلَو بِالْقَلِيلِ من الصَّدَقَة والقليل يَشْمَل شقّ التمرة وَغَيره.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} (الْبَقَرَة: 562) . الْآيَة وَإلَى قَوْلِهِ {ومِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الْبَقَرَة: 662) .
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة لاشتمالها على قَلِيل النَّفَقَة وكثيرها. لِأَن قَوْله: {أَمْوَالهم} (الْبَقَرَة: 562) . يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، وفيهَا حث على الصَّدَقَة مُطلقًا، فَذكرهَا يُنَاسب التَّبْوِيب، وَهَذَا مثل للْمُؤْمِنين الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله عَنْهُم، والابتغاء: الطّلب. قَوْله: {وتثبيتا} (الْبَقَرَة: 562) . عطف على {ابْتِغَاء مرضات الله} (الْبَقَرَة: 562) . وَالتَّقْدِير: مبتغين ومتثبتين من أنفسهم بالإخلاص، وَذَلِكَ ببذل المَال الَّذِي هُوَ شَقِيق الرّوح، وبذله أشق شَيْء على النَّفس على سَائِر الْعِبَادَات الشاقة، وَكَأن إِنْفَاق المَال تثبيتا لَهَا على الْإِيمَان وَالْيَقِين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: وتثبيتا من أنفسهم عِنْد الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا صَادِقَة الْإِيمَان مخلصة فِيهِ، وتعضده قِرَاءَة مُجَاهِد: وتثبتا من أنفسهم. وَقَالَ الشّعبِيّ: تثبيتا من أنفسهم أَي: تَصْدِيقًا أَن الله سيجزيهم على ذَلِك أوفر الْجَزَاء، وَكَذَا قَالَه قَتَادَة وَأَبُو صَالح وَابْن زيد. وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: أَي يثبتون أَيْن يضعون صَدَقَاتهمْ. وَقَالَ الْحسن: كَانَ الرجل إِذا هم بِصَدقَة تثبت، فَإِن كَانَ لله أمضى وإلاَّ ترك. قَوْله: (الْآيَة) أَي إِلَى آخر الْآيَة. وَهُوَ قَوْله: {كَمثل حَبَّة بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابل فآتت أكلهَا ضعفين فَإِن لم يصبهَا وابل فطل وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْبَقر: 562) . قَوْله: {كَمثل حَبَّة} (الْبَقَرَة: 562) . خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْله: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: كَمثل بُسْتَان كَائِن بِرَبْوَةٍ، وَهِي عِنْد الْجُمْهُور: الْمَكَان الْمُرْتَفع المستوي من الأَرْض، وَزَاد ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك: وتجري فِيهِ الْأَنْهَار. قَالَ ابْن جرير: وَفِي الربوة ثَلَاث لُغَات من ثَلَاث قراآت، بِضَم الرَّاء وَبهَا قَرَأَ عَامَّة أهل الْمَدِينَة والحجاز وَالْعراق، وَفتحهَا، وَهِي قِرَاءَة بعض أهل الشَّام والكوفة، وَيُقَال إِنَّهَا لُغَة بني تَمِيم، وَكسر الرَّاء وَيذكر أَنَّهَا قِرَاءَة ابْن عَبَّاس. وَإِنَّمَا سميت بذلك لِأَنَّهَا ربت وغلظت من قَوْلهم: رَبًّا الشَّيْء يَرْبُو إِذا زَاد وانتفخ. وَإِنَّمَا خص الربوة لِأَن شَجَرهَا أزكى وَأحسن ثمرا. قَوْله: {أَصَابَهَا وابل} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: مطر عَظِيم الْقطر شَدِيد، وَهِي فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة ربوة. قَوْله: {فآتت أكلهَا} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: ثَمَرهَا: {ضعفين} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: مثلي مَا كَانَت تثمر بِسَبَب الوابل، وَيُقَال: أَي مضاعفا تحمل من السّنة مَا يحمل غَيرهَا من السنتين. قَوْله: {فَإِن لم يصبهَا} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي بالربوة {وابلٌ فطلٌّ} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: فَالَّذِي يُصِيبهَا طلُّ وَهُوَ أَضْعَف الْمَطَر. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ الْمَطَر الدَّائِم الصغار الْقطر الَّذِي لَا يكَاد يسيل مِنْهُ المثاعب، وَقيل: الطل هُوَ الندى: وَقَالَ زيد بن أسلم: هِيَ أَرض مصر، فَإِن لم يصبهَا وابل زكتْ وَإِن أَصَابَهَا أضعفت، أَي: هَذِه الْجنَّة بِهَذِهِ الربوة لَا تمحل أبدا لِأَنَّهَا إِن لم يصبهَا وابل فطلٌّ أيا مَا كَانَ، فَهُوَ كفايتها، وَكَذَلِكَ عمل الْمُؤمنِينَ لَا يبور أبدا بل يتقبله الله مِنْهُ ويكثره وينميه لكل عَامل بِحَسبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْبَقَرَة: 562) . أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ من أَعمال عباده شَيْء. قَوْله: (وَإِلَى قَوْله: {من كل الثمرات} (الْبَقَرَة: 662) . إِلَى آخِره، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات} (الْبَقَرَة: 662) . روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: ضرب الله مثلا حسنا، وكل أَمْثَاله حسن، قَالَ: {أيود أحدكُم. .} (الْبَقَرَة: 662) . إِلَى آخِره، وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين. قَوْله: {أيود أحدكُم} (الْبَقَرَة: 662) . مُتَّصِل بقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) . وَإِنَّمَا قَالَ: {جنَّة من نخيل وأعناب} (الْبَقَرَة: 662) . لِأَن النخيل وَالْأَعْنَاب لما كَانَت من أكْرم الشّجر وأكثرها مَنَافِع خصهما بِالذكر، وَلَفظ: نخيل: جمع نَادِر، وَقيل: هُوَ جنس، وَتَمام الْآيَة: {وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت، كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون} (الْبَقَرَة: 662) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الهزة فِي: أيود، للإنكار. قَوْله: {وأصابه الْكبر} (الْبَقَرَة: 662) . الوا فِيهِ للْحَال: {وَله ذُرِّيَّة ضعفاء} (الْبَقَرَة: 662) . وقرىء: ضِعَاف. قَوْله: {إعصارا} (الْبَقَرَة: 662) . هُوَ الرّيح الَّتِي تستدير فِي الأَرْض ثمَّ تسطع نَحْو السَّمَاء كالعمود، وَهَذَا مثل لمن يعْمل الْأَعْمَال الْحَسَنَة لَا يَبْتَغِي بهَا وَجه الله، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة وجدهَا محبطة فيتحسر عِنْد ذَلِك حسرة من كَانَت لَهُ جنَّة من أبهى الْجنان وأجمعها للثمار، فَبلغ الْكبر وَله أَوْلَاد ضِعَاف وَالْجنَّة معاشهم ومنتعشهم، فَهَلَكت بالصاعقة. قَوْله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات} (الْبَقَرَة: 662) . يَعْنِي: كَمَا بَين هَذِه الْأَمْثَال: {لَعَلَّكُمْ تتفكرون} (الْبَقَرَة: 662) . بِهَذِهِ الْأَمْثَال وتعتبرون بهَا وتنزلونها على المُرَاد مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ الْعَالمُونَ} (العنكبوت: 34) .(8/275)
19 - (حَدثنَا عبيد الله بن سعيد قَالَ حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان الحكم هُوَ ابْن عبد الله الْبَصْرِيّ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن أبي وَائِل عَن أبي مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ. قَالَ لما نزلت آيَة الصَّدَقَة كُنَّا نحامل فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير فَقَالُوا مرائي وَجَاء رجل فَتصدق بِصَاع فَقَالُوا إِن الله لَغَنِيّ عَن صَاع هَذَا فَنزلت {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} الْآيَة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الله لما أنزل آيَة الصَّدَقَة حث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه عَلَيْهَا فَمنهمْ من تصدق بِكَثِير وَمِنْهُم من تصدق بِقَلِيل حَتَّى أَن مِنْهُم من يعْمل بِالْأُجْرَةِ فَيتَصَدَّق مِنْهُ كَمَا فهم ذَلِك من الحَدِيث والترجمة أَيْضا تدل على الْحَث على الصَّدَقَة وَإِن كَانَت شقّ تَمْرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبيد الله بن سعيد بن يحيى بن برد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة أَبُو قدامَة بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْيَشْكُرِي مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي أَبُو النُّعْمَان الحكم بِالْحَاء وَالْكَاف المفتوحتين ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش. الْخَامِس أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. السَّادِس أَو مَسْعُود واسْمه عقبَة الْأنْصَارِيّ البدري وَقد مر (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه ثَلَاثَة مذكورون بالكنى وَفِيه اثْنَان مجردان عَن النِّسْبَة وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد عَن غنْدر وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن سعيد بن يحيى بن سعيد وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن معِين وَبشر بن خَالِد وَعَن بنْدَار وَعَن إِسْحَق بن مَنْصُور وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن بشر بن خَالِد وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَنهُ وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة فِي مَعْنَاهُ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لما نزلت آيَة الصَّدَقَة " وَهِي قَوْله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} الْآيَة قَوْله " كُنَّا نحامل " جَوَاب لما مَعْنَاهُ كُنَّا نتكلف الْحمل بِالْأُجْرَةِ لنكتسب مَا نتصدق بِهِ وَفِي رِوَايَة لمُسلم " كُنَّا نحامل على ظُهُورنَا " مَعْنَاهُ نحمل على ظُهُورنَا بِالْأُجْرَةِ ونتصدق من تِلْكَ الْأُجْرَة أَو نتصدق بهَا كلهَا (فَإِن قلت) نحامل من بَاب المفاعلة وَهِي لَا تكون إِلَّا بَين اثْنَيْنِ (قلت) قد يَجِيء هَذَا الْبَاب بِمَعْنى فعل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وسارعوا إِلَى مغْفرَة} أَي أَسْرعُوا ونحامل كَذَلِك بِمَعْنى نحمل وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح قَوْله " نحامل " كَانَ ابْن سَيّده تحامل فِي الْأَمر تكلفه على مشقة وإعياء وتحامل عَلَيْهِ كلفه مَا لَا يُطيق وَفِيه نظر لِأَن هَذَا الْمَعْنى لَا يُنَاسب هَهُنَا وَفِيه التحريض على الاعتناء بِالصَّدَقَةِ وَأَنه إِذا لم يكن لَهُ مَال يتَوَصَّل إِلَى تَحْصِيل مَا يتَصَدَّق بِهِ من حمل بِالْأُجْرَةِ أَو غَيره من الْأَسْبَاب الْمُبَاحَة قَوْله " فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير " هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالشَّيْء الْكثير كَانَ ثَمَانِيَة آلَاف أَو أَرْبَعَة آلَاف وَفِي أَسبَاب النُّزُول لِلْوَاحِدِيِّ حث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الصَّدَقَة فجَاء عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم شطر مَاله يَوْمئِذٍ وَتصدق يَوْمئِذٍ عَاصِم بن عدي بن عجلَان بِمِائَة وسق من تمر وَجَاء أَبُو عقيل بِصَاع من تمر فَلَمَزَهُمْ المُنَافِقُونَ فَنزلت هَذِه الْآيَة {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين} وَقَالَ السُّهيْلي فِي كِتَابه التَّعْرِيف والإعلام أَبُو عقيل اسْمه حبحاب أحد بني أنيف وَقيل الملموز رِفَاعَة بن سُهَيْل وَقَالَ الإِمَام أَحْمد حَدثنَا يزِيد حَدثنَا الْجريرِي عَن أبي السَّلِيل قَالَ وقف علينا رجل فِي مَجْلِسنَا بِالبَقِيعِ فَقَالَ حَدثنِي أبي أَو عمي أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالبَقِيعِ وَهُوَ يَقُول من تصدق بِصَدقَة أشهد لَهُ بهَا يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فحللت من عمامتي لوثا أَو لوثين وَأَنا أُرِيد أَن أَتصدق بهما فأدركني مَا يدْرك ابْن آدم فعقدت على عمامتي فجَاء رجل لم أر بِالبَقِيعِ رجلا أَشد سوادا مِنْهُ بِبَعِير سَاقه لم أر بِالبَقِيعِ نَاقَة أحسن مِنْهَا(8/276)
فَقَالَ يَا رَسُول الله أصدقة قَالَ نعم قَالَ دُونك هَذِه النَّاقة قَالَ فَلَمَزَهُ رجل فَقَالَ هَذَا يتَصَدَّق بِهَذِهِ فوَاللَّه لهي خير مِنْهُ قَالَ فَسَمعَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ كذبت بل هُوَ خير مِنْك وَمِنْهَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ ويل لأَصْحَاب المئين من الْإِبِل ثَلَاثًا قَالُوا أَلا من يَا رَسُول الله قَالَ أَلا من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَجمع بَين كفيه عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله ثمَّ قَالَ قد أَفْلح المزهد المجهد ثلاثاء المزهد فِي الْعَيْش والمجهد فِي الْعِبَادَة وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ جَاءَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّة من ذهب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَاء رجل من الْأَنْصَار بِصَاع من طَعَام فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين وَالله مَا جَاءَ عبد الرَّحْمَن بِمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا رِيَاء وَقَالَ إِن الله وَرَسُوله لَغَنِيَّانِ عَن هَذَا الصَّاع وَقَالَ ابْن جرير حَدثنَا ابْن وَكِيع حَدثنَا زيد بن الْحباب عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة حَدثنِي خَالِد بن يسَار عَن ابْن أبي عقيل عَن أَبِيه قَالَ بت أجر الجريد على ظَهْري على صَاعَيْنِ من تمر فَانْقَلَبت بِإِحْدَاهُمَا إِلَى أَهلِي يبلغون بِهِ وَجئْت بِالْآخرِ أَتَقَرَّب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته فَقَالَ اُنْثُرْهُ فِي الصَّدَقَة قَالَ فَسخرَ الْقَوْم وَقَالَ لقد كَانَ الله غَنِيا عَن صَدَقَة هَذَا الْمِسْكِين فَأنْزل الله {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين} الْآيَة قَوْله " وَجَاء رجل " هُوَ أَبُو عقيل بِفَتْح الْعين وَقد ذكرنَا اسْمه آنِفا قَوْله فَنزلت {الَّذين يَلْمِزُونَ} من اللمز يُقَال لمزه يلمزه ويلمزه إِذا عابه وَكَذَلِكَ همزه يهمزه وَمحل {الَّذين يَلْمِزُونَ} نصب بالذم أَو رفع على الذَّم أَو جر بَدَلا من الضَّمِير فِي (سرهم ونجواهم) قَوْله {الْمُطوِّعين} أَصله المتطوعين فأبدلت التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء أَي المتبرعين وَزعم أَبُو إِسْحَق أَن الرِّوَايَة عَن ثَعْلَب بتَخْفِيف الطَّاء وَتَشْديد الْوَاو وَقَالَ هَذَا غير جيد وَالصَّحِيح تشديدها وَأنكر ذَلِك ثَعْلَب عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّشْدِيدِ قَوْله {وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} قَالَ أهل اللُّغَة الْجهد بِالضَّمِّ الطَّاقَة والجهد بِالنّصب الْمَشَقَّة وَقَالَ الشّعبِيّ الْجهد هُوَ الْقُدْرَة والجهد فِي الْعَمَل وَتَمام الْآيَة قَوْله {فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي يستهزؤن بهم {سخر الله مِنْهُم} يَعْنِي يجازيهم جَزَاء سخريتهم وَهَذَا من بَاب الْمُقَابلَة على سوء صنيعهم واستهزائهم بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} يَعْنِي وجيع دَائِم
6141 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ شقِيقٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِي رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أحَدُنَا إلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ فَيُصِيبُ المُدَّ وَإنَّ لِبَعْضِهِمْ اليَوْمَ لِمَائَةَ ألْفٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا أمرنَا بِالصَّدَقَةِ) ، والترجمة فِيهَا الْأَمر بِالصَّدَقَةِ.
وَرِجَاله: سعيد بن يحيى بن سعيد أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، وَأَبوهُ يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وشقيق أَبُو وَائِل، وَقد تقدم عَن قريب، وَقد ذكرنَا عِنْد الحَدِيث السَّابِق أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع.
قَوْله: (فتحامل) ، على وزن: تفَاعل، صِيغَة مَاض، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ عَن قريب، ويروى: (يحامل) ، على لفظ الْمُضَارع من المفاعلة، وَالْأول من التفاعل. فَافْهَم. قَوْله: (الْمَدّ) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الدَّال، وَهُوَ رَطْل وَثلث، سمي بِهِ لِأَنَّهُ ملىء كفي الْإِنْسَان إِذا مدهما. قَوْله: (وَإِن لبَعْضهِم الْيَوْم لمِائَة ألف) ، لفظ: مائَة، اسْم إِن وَخَبره قَوْله: (لبَعْضهِم) ، وَالْيَوْم: ظرف، ومميز الْألف: الدِّرْهَم أَو الدِّينَار، أَو الْمَدّ. قَالَ التَّيْمِيّ: وَالْمَقْصُود وصف شدَّة الزَّمَان فِي أَيَّام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَثْرَة الْفتُوح وَالْأَمْوَال فِي أَيَّام الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
7141 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ مَعْقِلٍ، قَالَ سَمِعْتْ عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ..
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَلَا مُطَابقَة أَكثر من هَذَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب أَبُو أَيُّوب الواشجي، وواشج حَيّ من الإزد. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. الرَّابِع: عبد الله بن مُغفل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: أَبُو الْوَلِيد الْمُزنِيّ. الْخَامِس: عدي بن حَاتِم الطَّائِي.(8/277)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي قَاضِي مَكَّة وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق وَعبد الله كوفيان.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَوْف بن سَلام الْكُوفِي عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق، وَفِي الْبَاب عَن فضَالة عَن عبيد مَرْفُوعا: (اجعلوا بَيْنكُم وَبَين النَّار حِجَابا وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَعَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا بِإِسْنَاد صَحِيح: (ليتق أحدكُم وَجهه النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) . رَوَاهُ أَحْمد: وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِإِسْنَاد حسن: (يَا عَائِشَة استتري من النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَإِنَّهَا تسد من الجائع مسدها من الشبعان) . رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحوه، وَأتم مِنْهُ بِلَفْظ: (تقع من الجائع موقعها من الشبعان) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي، وَعَن أنس يرفعهُ: (افْتَدَوْا من النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة، وَعَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة أَيْضا، وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله بِإِسْنَاد جيد، رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي (فضل الصَّدَقَة) .
8141 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنُ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ أبِي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَتْ امْرَأةٌ مَعَها ابْنَتَانِ لَهَا تَسْألُ فَلَمْ تَجِدُ عِنْدِي شَيْئا غَيْرَ تَمْرَةٍ فأعْطَيْتُهَا إيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ولَمْ تأكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْنَا فأخْبَرْتُهُ فقالَ مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هاذِهِ البَنَاتِ بِشيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرا مِنَ النَّارِ.
(الحَدِيث 8141 طرفه فِي 5995) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فقسمتها بَين ابنتيها) أَي: لما قسمت التمرة بَينهمَا صَار لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا شقّ تَمْرَة، فَدخلت الْأُم فِي عُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ابْتُلِيَ) إِلَى آخِره، لِأَنَّهَا مِمَّن ابْتُلِيَ بِشَيْء من الْبَنَات. وَأما مُنَاسبَة فعل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، للتَّرْجَمَة فَفِي قَوْله: (والقليل من الصَّدَقَة) . فَإِنَّهُ من التَّرْجَمَة أَيْضا.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة ذكرُوا كلهم، وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة تقدم فِي كتاب الْوَحْي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعبد الله بن أبي بكر بن حزم مر فِي: بَاب الْوضُوء مرَّتَيْنِ، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن عبد الله بن عبد الرحمان الدَّارمِيّ وَأبي بكر بن إِسْحَاق الصغاني وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن فهزاد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله عَن ابْن الْمُبَارك وَقَالَ حسن صَحِيح.
(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (لَهَا) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لقَوْله (ابنتان) أَي ابنتان كائنتان لَهَا قَوْله (تسْأَل) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة قَوْله (من هَذِه الْبَنَات) الظَّاهِر أَنَّهَا إِشَارَة إِلَى أَمْثَال الْمَذْكُورَات من أَصْحَاب الْفقر والفاقة وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الأشارة إِلَى جنس الْبَنَات مُطلقًا وَإِنَّمَا قَالَ سترا وَلم أستاراً وَلم يقل أستاراً لِأَن المُرَاد الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير وَقَوله (بِشَيْء) أَي أَحْوَال الْبَنَات أَو من نفس الْبَنَات أَي من ابتلى مِنْهُنَّ بِأَمْر من أمورهن أَو من ابتلى ببنت مِنْهُنَّ سَمَّاهُ ابتلاء لموْضِع الْكَرَاهَة لَهُنَّ كَمَا أخبر الله تَعَالَى. وَفِيه حض على الصَّدَقَة بِالْقَلِيلِ وَإِعْطَاء عَائِشَة التمرة لِئَلَّا ترد السَّائِل خائباً وَهِي تَجِد شَيْئا وروى أَنَّهَا أَعْطَتْ سَائِلًا جُبَّة عِنَب فَجعل يتعجب فَقَالَت كَمَا ترى فِيهَا مِثْقَال ذرة وَمثله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي تَمِيمَة الهُجَيْمِي (لَا تحقرن شَيْئا من الْمَعْرُوف وَلَو أَن تضع فِي دلوك فِي إِنَاء المستسقى) وَفِيه قسْمَة الْمَرْأَة التمرة بَين ابنتيها لما جعل الله فِي قُلُوب الإمهات من الرَّحْمَة. وَفِيه أَن النَّفَقَة على الْبَنَات وَالسَّعْي عَلَيْهِنَّ من أفضل أَعمال الْبر المنجية من النَّار وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا من أَجود النَّاس أَعْطَتْ فِي كَفَّارَة يَمِين أَرْبَعِينَ رَقَبَة وَقيل فعلت ذَلِك(8/278)
فِي نذر مُبْهَم وَكَانَت ترى أَنَّهَا لم توف مِمَّا يلْزمهَا فِيهِ وأعانت الْمُنْكَدر فِي كِتَابَته بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
11 - (بابُ أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ وصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ)
أَي: بَاب يذكر فِيهِ أَي الصَّدَقَة من الصَّدقَات أفضل وَأعظم أجرا، هَكَذَا هُوَ التَّرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب فضل صَدَقَة الشحيح الصَّحِيح. قَوْله: (وَصدقَة الشحيح) ، بِالرَّفْع عطف على مَا قبله من الْمُقدر تَقْدِيره: وَفضل صَدَقَة الشحيح، وَلم يتَرَدَّد فِيهِ لِأَن فضل صَدَقَة الشحيح الصَّحِيح على غَيره ظَاهر، لِأَن فِيهِ مجاهدة النَّفس على إِخْرَاج المَال الَّذِي هُوَ شَقِيق الرّوح مَعَ قيام مَانع الشُّح، وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ من قُوَّة الرَّغْبَة فِي الْقرْبَة وَصِحَّة العقد، فَكَانَ أفضل من غَيره، وَتردد فِي الأول بِكَلِمَة: أَي، الَّتِي هِيَ للاستفهام لِأَن إطلالاق الْأَفْضَلِيَّة فِيهِ مَوضِع التَّرَدُّد. قَوْله: (الشحيح) ، صفة مشبهة من الشُّح، قَالَ ابْن سَيّده: وَالشح وَالشح وَالشح: الْبُخْل، وَالضَّم أَعلَى. وَقد شححت تشح وتشح، وشححت تشح، وَرجل شحيح وشحاح من قوم أشحة وأشحاء ومشحاح، وَنَفس شحة شحيحة، وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: وشاحوا فِي الْأَمر، وَعَلِيهِ. وَفِي (الْجَامِع) حكى قوم الشُّح وَالشح، وَأرى أَن يكون الْفَتْح فِي الْمصدر وَالضَّم فِي الإسم وَجمعه فِي أقل الْعدَد أشحة وَلم أسمع غَيره. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: الشُّح بخل مَعَ حرص، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ فِي كِتَابه (غَرِيب الحَدِيث) : للشح ثَلَاثَة وُجُوه: الأول: أَن تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حَقه، قَالَ رجل لِابْنِ مَسْعُود: مَا أعطي مَا أقدر على مَنعه، قَالَ: ذَاك الْبُخْل وَالشح أَن تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حق. الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ: الشُّح منع الزَّكَاة وإدخار الْحَرَام. الثَّالِث: مَا رُوِيَ: (أَن تصدق وَأَنت صَحِيح شحيح) . قَالَ وَالَّذِي يبرىء من الْوُجُوه الثَّلَاثَة مَا روى (برىء من الشُّح من أدّى الزَّكَاة وقرى الضَّيْف واعطى فِي النائبة) . وَفِي (المغيث) : الشُّح أبلغ فِي الْمَنْع من الْبُخْل، وَالْبخل فِي أَفْرَاد الْأُمُور وخواص الْأَشْيَاء، وَالشح بِالْمَاءِ وَالْمَعْرُوف، وَقيل: الشحيح الْبَخِيل مَعَ التحرص. وَفِي (مجمع الغرائب) : الشُّح المطاع هُوَ الْبُخْل الشَّديد الَّذِي يملك صَاحبه بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ أَن يُخَالف نَفسه فِيهِ.
لِقَوْلِهِ {وِأنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتَ} (المُنَافِقُونَ: 01) . الْآيَة
علل التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة لِأَن مَعْنَاهَا التحذير من التسويف بِالْإِنْفَاقِ استبعادا لحلول الْأَجَل واشتغالاً بطول الأمل، والترجمة فِي فضل صَدَقَة الصَّحِيح الشحيح لِأَن فِيهَا مجاهدة النَّفس على الأنفاق خوفًا من هجوم الْأَجَل مَعَ قيام الْمَانِع، وَهُوَ الشُّح. فَلذَلِك كَانَت صدقته أفضل من صَدَقَة غَيره، وَهَذَا هُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَالْآيَة، وَالْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة الْمُنَافِقين، وَمعنى: {انفقوا} (المُنَافِقُونَ: 01) . تصدقوا مِمَّا رزقكم الله من الْأَمْوَال {من قبل أَن يَأْتِي أحدكُم الْمَوْت فَيَقُول رب لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب} (المُنَافِقُونَ: 01) . يَعْنِي: يَقُول: يَا سَيِّدي ردني إِلَى الدُّنْيَا: {فَأَصدق} يَعْنِي: فأتصدق وَيُقَال أصدق {بِاللَّه وأكن من الصَّالِحين} (المُنَافِقُونَ: 01) . يَعْنِي: أفعل مَا فعل المصدقون. وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: من كَانَ لَهُ مَال تجب فِيهِ الزَّكَاة فَلم يزكه، أَو مَال يبلغهُ بَيت ربه فَلم يحجّ، سَأَلَ عِنْد الْمَوْت الرّجْعَة، قَالَ: فَقَالَ رجل: اتَّقِ الله يَا ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا سَأَلت الْكفَّار الرّجْعَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنِّي أَقرَأ عَلَيْك بِهَذَا الْقُرْآن.
وَقَوْلِهِ {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِما رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يأتِي يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ} الْآيَة
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: لقَوْله، وَهَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَهَذِه مُتَأَخِّرَة عَن الْآيَة الأولى فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالْعَكْسِ، وَقد أَمر الله تَعَالَى هُنَا أَيْضا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رزقهم الله فِي سبيلة ليدخروا ثَوَاب ذَلِك عِنْد رَبهم، فَعَلَيْهِم الْمُبَادرَة إِلَى ذَلِك من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ، أَي: لَا بدل فِيهِ، وَذكر لفظ البيع لما فِيهِ من الْمُعَاوضَة وَأخذ الْبَدَل وَلَا خلة أَي لَيْسَ خَلِيل ينفع فِي ذَلِك الْيَوْم وَلَا شَفَاعَة للْكَافِرِينَ، والكافرون هم الظَّالِمُونَ لأَنهم وضعُوا الْعِبَادَة فِي غير(8/279)
موضعهَا، وعولوا على شَفَاعَة الْأَصْنَام، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن عَطاء بن دِينَار أَنه قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي قَالَ: والكافرون هم الظَّالِمُونَ، وَلم يقل: والظالمون هم الْكَافِرُونَ.
9141 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا عُمَارَةُ بنُ القَعْقَاعِ قَالَ حَدثنَا أبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدثنَا أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ جاءَ رَجَلٌ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرا قَالَ أَن تَصَدَّقَ وَأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ وتَأمُلُ الغِنَى وَلاَ تمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتُ لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كذَا وَقَدْ كانِ لِفُلاَنٍ.
(الحَدِيث 9141 طرفه فِي: 8472) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَن تصدق وَأَنت صَحِيح شحيح) ، فالصدقة فِي هَذِه الْحَالة أعظم أجرا لِأَن هَذَا القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَاب السَّائِل: (أَي الصَّدَقَة أعظم أجرا؟) فَإِذا كَانَت هَذِه الصَّدَقَة أعظم أجرا كَانَت أفضل من غَيرهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد ابْن زِيَاد أَبُو بشر. الثَّالِث: عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع، بالقافين المفتوحتين والعينين الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن شبْرمَة. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء، قيل: إسمه هرم، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عَمْرو، وَقد مر فِي: بَاب الْجِهَاد من الْإِيمَان. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي الْإِسْنَاد كُله، وَإِلَى هُنَا مَا وَقع فِي الْكتاب نَظِير هَذَا، وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُور بِغَيْر نِسْبَة وَالْآخر مَذْكُور بكنيته. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان، وَعمارَة وَأَبُو زرْعَة كوفيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي أُسَامَة عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير، وَعَن أبي كَامِل عَن عبد الْوَاحِد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن حَرْب، وَفِي الزَّكَاة عَن مَحْمُود بن غيلَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ رجل) ، قيل: يحْتَمل أَن يكون أَبَا ذَر، لِأَنَّهُ فِي مُسْند أَحْمد. سَأَلَ: أَي الصَّدَقَة أفضل؟ وَكَذَا روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة أَن أَبَا ذَر سَأَلَ: لَكِن جَوَابه جهد من مقل أَو سرى إِلَى فَقير. قَوْله: (قَالَ أَن تصدق) بتَشْديد الصَّاد، وَأَصله: أَن تَتَصَدَّق من بَاب التفعل، فأبدلت إِحْدَى التَّاءَيْنِ صادا وأدغمت الصَّاد فِي الصَّاد، وَيجوز تَخْفيف الصَّاد بِحَذْف إِحْدَى التَّاءَيْنِ، والمتصدق هُوَ الَّذِي يُعْطي الصَّدَقَة، وَأما الْمُصدق فَهُوَ الَّذِي يَأْخُذ الصَّدَقَة من التَّصْدِيق من بَاب التفعيل. فَإِن قلت: مَا مَحل (أَن تصدق) من الْإِعْرَاب؟ قلت: مَرْفُوع على الخبرية، والمبتدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أعظم الصَّدَقَة أجرا أَن تصدق، أَي: بِأَن تصدق. قَوْله: (وَأَنت صَحِيح) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (شحيح) خبر بعد خبر، قَوْله: (تخشى الْفقر) ، جملَة فعلية وَقعت حَالا. قَوْله: (وَتَأمل الْغنى) عطف على مَا قبله، وَتَأمل بِضَم الْمِيم، أَي: تطمع بالغنى، وَالصَّدَََقَة فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ أَشد مراغمة للنَّفس. قَوْله: (وَلَا تمهل) بِفَتْح اللَّام من الْإِمْهَال، وَهُوَ التَّأْخِير. تَقْدِيره: وَأَن لَا تمهل لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: (أَن تصدق) ، ويروى بِسُكُون اللَّام على صُورَة النَّهْي. قَوْله: (حَتَّى إِذا بلغت الْحُلْقُوم) ، كلمة: حَتَّى، للغاية، وَالضَّمِير فِي: بلغت، يرجع إِلَى الرّوح بِدلَالَة سِيَاق الْكَلَام عَلَيْهِ، وَالْمرَاد مِنْهُ: قاربت الْبلُوغ، إِذْ لَو بلغته حَقِيقَة لم تصح وَصيته وَلَا شَيْء من تَصَرُّفَاته، والحلقوم هُوَ الْحلق، وَفِي (الْمُخَصّص) عَن أبي عُبَيْدَة: هُوَ مجْرى النَّفس والسعال من الْجوف وَهُوَ أطباق غراضيف لَيْسَ دونه من ظَاهر بَاطِن الْعُضْو إِلَّا جلد، وطرفه الْأَسْفَل فِي الرئة والأعلى فِي أصل عقدَة اللِّسَان، وَمِنْه مخرج البصاق وَالصَّوْت. وَفِي (الْمُحكم) ذكر الْحُلْقُوم فِي: بَاب حلق بِحَذْف زائدته، وهما: الْوَاو وَالْمِيم، وَقَالَ: الْحُلْقُوم كالحلق فعلوم عِنْد الْخَلِيل، وفعلول عِنْد غَيره. قَوْله: (لفُلَان) ، كِنَايَة عَن الْمُوصى لَهُ. وَقَوله: كَذَا كِنَايَة عَن الْمُوصى بِهِ، وَحَاصِل الْمَعْنى: أفضل الصَّدَقَة أَن تَتَصَدَّق حَال حياتك وصحتك مَعَ احتياجك إِلَيْهِ واختصاصك بِهِ، لَا فِي حَال سقمك وَسِيَاق موتك، لِأَن المَال حِينَئِذٍ خرج عَنْك وَتعلق بغيرك، وَيشْهد لهَذَا التَّأْوِيل حَدِيث أبي سعيد: (لِأَن يتَصَدَّق الْمَرْء فِي حَال حَيَاته بدرهم خير لَهُ من أَن يتَصَدَّق بِمِائَة عِنْد مَوته) . وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على أَن(8/280)
الْمَرَض يقصر يَد الْمَالِك عَن بعض ملكه وَإِن سخاوته بِالْمَالِ فِي مَرضه لَا تمحو عَنهُ سمة الْبُخْل، وَلذَلِك شَرط أَن يكون صَحِيح الْبدن شحيحا بِالْمَالِ، يجد لَهُ وَقعا فِي قلبه لما يأمله من طول الْعُمر، وَيخَاف من حُدُوث الْفقر. قَالَ: والإسمان الْأَوَّلَانِ كِنَايَة عَن الْمُوصى لَهُ، وَالثَّالِث عَن الْوَارِث يُرِيد أَنه إِذا صَار للْوَارِث فَإِنَّهُ إِن شَاءَ أبْطلهُ وَلم يجزه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون كِنَايَة عَن الْمُورث أَي: خرج عَن تصرفه وَكَمَال ملكه واستقلاله بِمَا شَاءَ من التَّصَرُّفَات، فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصيته كثير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ كَامِل التَّصَرُّف. فَإِن قلت: فِي قَوْله: كِنَايَة عَن الْمُورث، نظر لَا يخفى، وروى أَبُو الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مثل الَّذِي يعْتق عِنْد الْمَوْت كَالَّذي يهدي إِذا شبع) ، وَلما بلغ مَيْمُون بن مهْرَان أَن رقية امْرَأَة هِشَام مَاتَت واعتقت كل مَمْلُوك لَهَا، قَالَ: يعصون الله فِي أَمْوَالهم مرَّتَيْنِ: يَبْخلُونَ بِمَا فِي أَيْديهم، فَإِذا صَارَت لغَيرهم أَسْرفُوا فِيهَا. قَوْله: (وَقد كَانَ لفُلَان) يُرِيد بِهِ الْوَارِث، كَمَا قَالَه الْخطابِيّ آنِفا، فَإِنَّهُ إِذا شَاءَ لم يجزه، قيل: لَعَلَّه إِذا جَاوَزت الْوَصِيَّة الثُّلُث أَو كَانَت لوَارث وَقبل، سبق الْقَضَاء بِهِ للْمُوصى لَهُ.
(بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَسقط هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، فعلى رِوَايَته يكون هَذَا من تَرْجَمَة الْبَاب السَّابِق، وعَلى رِوَايَة غَيره يكون قَوْله: بَاب، كالفصل من الْبَاب، لِأَن دأب المصنفين جرى بِذكر لفظ: كتاب، فِي كَذَا ثمَّ يذكرُونَ فِيهِ أبوابا ثمَّ يذكرُونَ فِي كل بَاب فصولاً.
0241 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ فِرَاسٍ عنِ الشَّعْبِيِّ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ بَعْضَ أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَ لِللنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّنَا بِكَ لُحُوقا قَالَ أطْوَلُكُنَّ يَدَا فأخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا فكَانَتْ سَوْدَةُ أطْوَلُهُنَّ يَدا فَعَلِمْنَا بَعْدُ أنَّما كانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ وكَانَتْ أسْرَعَنَا لُحُوقا بِهِ وكانَتْ تُحِبِّ الصَّدَقَةَ.
وَجه تعلق هَذَا الحَدِيث بِمَا قبله من حَيْثُ إِنَّه يبين أَن المُرَاد بطول الْيَد الْمُقْتَضِي للحاق بِهِ الطول، بِالْفَتْح، وَذَلِكَ لَا يَأْتِي إلاَّ من الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يحصل إلاَّ بالمداومة فِي حَال الصِّحَّة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري، وَقد مضى عَن قريب. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: واسْمه الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي. الثَّالِث: فراس، بِكَسْر الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة: ابْن يحيى الخارفي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالْفَاء: الْمكتب. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَبُو عوَانَة واسطي وفراس وَالشعْبِيّ ومسروق كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته وَالْآخر بنسبته وَالْآخر مُجَرّد.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن يحيى بن حَمَّاد عَن أبي عوَانَة عَن فراس عَن الشّعبِيّ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَ:) بِصِيغَة جمع الْمُؤَنَّث، وَعند ابْن حبَان من طَرِيق يحيى بن حَمَّاد عَن أبي عوَانَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَت: فَقلت، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: فَقُلْنَ، بِصِيغَة الْجمع. قَوْله: (أَيّنَا) إِنَّمَا لم يقل أَيَّتنَا، بتاء التَّأْنِيث لِأَن سِيبَوَيْهٍ يشبه تَأْنِيث: أَي: بتأنيث: كل، فِي قَوْلهم: كلتهن، يَعْنِي: لَيْسَ بفصيحة، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ فِي سُورَة لُقْمَان. قَوْله: (لُحُوقا) نصب على التَّمْيِيز، أَي: من حَيْثُ اللحوق بك. قَوْله: (أَطْوَلكُنَّ) مَرْفُوع، يجوز أَن يكون مُبْتَدأ وَيجوز أَن يكون خَبرا. أما الأول: فتقديره: أَطْوَلكُنَّ يدا أسْرع بِي لُحُوقا. وَأما الثَّانِي: فتقديره: أسْرع بِي لُحُوقا أَطْوَلكُنَّ يدا، ويدا نصب على التَّمْيِيز، وَإِنَّمَا لم يقل: طولا، كن، بِلَفْظ: فعلى، لِأَن الْقيَاس هَذَا، لِأَن فِي مثله يجوز الْإِفْرَاد والمطابقة لمن أفعل التَّفْضِيل(8/281)
لَهُ، قَوْله: (يَذْرَعُونَهَا) أَي: يقدرونها بِذِرَاع كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا ذكر بِلَفْظ جمع الْمُذكر، وَالْقِيَاس ذكر لفظ جمع الْمُؤَنَّث اعْتِبَارا لِمَعْنى الْجمع، أَو عدل إِلَيْهِ كَقَوْل الشَّاعِر:
(وَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم)
ذكره بِلَفْظ جمع الْمُذكر تَعْظِيمًا. قَوْله: (فَكَانَت سَوْدَة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة، وَفِي رِوَايَة ابْن سعد عَن عَفَّان عَن أبي عوَانَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، سَوْدَة بنت زَمعَة القرشية العامرية، تزَوجهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد خَدِيجَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على الْمَشْهُور. قَوْله: (بعد) مَبْنِيّ على الضَّم، أَي: بعد ذَلِك يَعْنِي: بعد موت أول نِسَائِهِ. قَوْله: (إِنَّمَا) ، بِالْفَتْح، لِأَنَّهُ فِي مَحل مفعول: علمنَا. قَوْله: (طول يَدهَا) ، هُوَ كَلَام إضافي مَنْصُوب، لِأَنَّهُ خبر كَانَت وَالصَّدَََقَة مَرْفُوع لِأَنَّهُ: اسْم كَانَت. قَوْله: (وَكَانَت أَسْرَعنَا لُحُوقا بِهِ) أَي: بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالضَّمِير فِي: كَانَت، بِحَسب الظَّاهِر، وَيرجع إِلَى سَوْدَة، وَقد صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه الصَّغِير) فِي رِوَايَته عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَكَانَت سَوْدَة أَسْرَعنَا. . إِلَى آخِره. وَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل من طَرِيق الْعَبَّاس الدوري: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَكَذَا فِي رِوَايَة عَفَّان عِنْد أَحْمد وَابْن سعد عَنهُ، وَقَالَ ابْن سعد: قَالَ لنا مُحَمَّد بن عمر، يَعْنِي: الْوَاقِدِيّ، هَذَا الحَدِيث، وهم فِي سَوْدَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي زَيْنَب بنت جحش، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَهِيَ أول نِسَائِهِ بِهِ لُحُوقا. وَتوفيت فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبقيت سَوْدَة إِلَى أَن توفت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة فِي شَوَّال سنة أَربع وَخمسين، وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث غلط من بعض الروَاة، وَالْعجب من البُخَارِيّ كَيفَ لم يُنَبه عَلَيْهِ، وَلَا مَن بعده من أَصْحَاب التَّعَالِيق، حَتَّى: إِن بعضه فسره بِأَن لُحُوق سَوْدَة من أَعْلَام النُّبُوَّة، وكل ذَلِك وهم، وَإِنَّمَا هِيَ زَيْنَب بنت جحش، فَإِنَّهَا كَانَت أَطْوَلهنَّ يدا بِالْمَعْرُوفِ، وَتوفيت سنة عشْرين، وَهِي أول الزَّوْجَات وَفَاة، وَسَوْدَة توفيت سنة أَربع وَخمسين، وَقد ذكر مُسلم ذَلِك على الصِّحَّة من حَدِيث عَائِشَة بنت طَلْحَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: وَكَانَت زَيْنَب أطولنا يدا لِأَنَّهَا كَانَت تعْمل وَتَتَصَدَّق. قلت: أَخذ صَاحب (التَّلْوِيح) هَذَا كُله من كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ. وَقَوله: حَتَّى إِن بَعضهم، المُرَاد بِهِ الْخطابِيّ، وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) أَيْضا فَقَالَ: يحْتَمل أَن تكون رِوَايَة البُخَارِيّ لَهَا وَجه، وَهُوَ أَن يكون خطابه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لمن كَانَ حَاضرا عِنْده، إِذْ ذَاك من الزَّوْجَات، وَأَن سَوْدَة وَعَائِشَة كَانَتَا ثمَّة وَزَيْنَب غَائِبَة لم تكن حَاضِرَة. قلت: هَذَا من كَلَام الطَّيِّبِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُمكن أَن يُقَال فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ: المُرَاد الحاضرات من أَزوَاجه دون زَيْنَب، فَكَانَت سَوْدَة أولهنَّ موتا. قلت: يرد مَا قَالَه مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من رِوَايَة يحيى بن حَمَّاد: أَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتَمعْنَ عِنْده لم تغادر مِنْهُنَّ وَاحِدَة، وَيُمكن أَن يَأْتِي هَذَا على أحد الْقَوْلَيْنِ فِي وَفَاة سَوْدَة، فقد روى البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى سعيد بن أبي هِلَال، أَنه قَالَ: مَاتَت سَوْدَة فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَجزم الذَّهَبِيّ فِي (التَّارِيخ الْكَبِير) بِأَنَّهَا مَاتَت فِي أُخر خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن سيد النَّاس: إِنَّه الْمَشْهُور. وَأما على قَول الْوَاقِدِيّ الَّذِي تقدم ذكره فَلَا يَصح وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث سقط مِنْهُ ذكر زَيْنَب لِاتِّفَاق أهل السّير على أَن زَيْنَب أول من مَاتَ من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: مُرَاده أَن الصَّوَاب: وَكَانَت زَيْنَب أَسْرَعنَا لُحُوقا بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: يُعَكر على هَذَا التَّأْوِيل الرِّوَايَات الْمُصَرّح فِيهَا بِأَن الضَّمِير لسودة. قلت: ابْن بطال لم يؤول، وَلَا يُقَال لمثل هَذَا تَأْوِيل، وَأَرَادَ بالروايات مَا ذَكرْنَاهُ من البُخَارِيّ الَّذِي ذكره فِي (تَارِيخه) وَالْبَيْهَقِيّ وَأحمد، وكل هَذِه الرِّوَايَات لَا تعَارض قَول من قَالَ: مَاتَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَزوَاجه زَيْنَب لَا سَوْدَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع أهل السّير أَن زَيْنَب أول نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موتا بعده، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ يُونُس بن بكير فِي (زِيَادَة الْمَغَازِي) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) بِإِسْنَادِهِ عَنهُ عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ، التَّصْرِيح بِأَن ذَلِك لِزَيْنَب، وَلَكِن قصر زَكَرِيَّا فِي إِسْنَاده فَلم يذكر مسروقا وَلَا عَائِشَة، وَلَفظه: (قُلْنَ النسْوَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّنَا أسْرع بك لُحُوقا؟ قَالَ: أَطْوَلكُنَّ يدا فأخذن يتذارعن أيتهن أطول يدا، فَلَمَّا توفيت زَيْنَب علِمْنَ أَنَّهَا كَانَت أَطْوَلهنَّ يدا فِي الْخَيْر وَالصَّدَََقَة) . وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي المناقب من (مُسْتَدْركه) من طَرِيق يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأزواجه: (أَسْرَعكُنَّ لُحُوقا بِي أَطْوَلكُنَّ يدا. قَالَت عَائِشَة: فَكُنَّا إِذا اجْتَمَعنَا فِي بَيت إحدانا بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نمد أَيْدِينَا فِي الْجِدَار نتطاول، فَلم نزل نَفْعل ذَلِك حَتَّى توفيت زَيْنَب بنت جحش، وَكَانَت(8/282)
امْرَأَة قَصِيرَة وَلم تكن أطولنا، فَعرفنَا حِينَئِذٍ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَرَادَ بطول الْيَد: الصَّدَقَة) . وَكَانَت زَيْنَب امْرَأَة صناع بِالْيَدِ، فَكَانَت تدبغ وتخرز وَتصدق فِي سَبِيل الله. قَالَ الْحَاكِم: على شَرط مُسلم، وَهَذِه رِوَايَة مفسرة مبينَة مرجحة لرِوَايَة عَائِشَة بنت طَلْحَة فِي أَمر زَيْنَب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا يَخْلُو أَن يُقَال: إِمَّا أَن فِي الحَدِيث اختصارا وتلفيقا يَعْنِي: اختصر البُخَارِيّ الْقِصَّة وَنقل الْقطعَة الْأَخِيرَة من حَدِيث فِيهِ ذكر زَيْنَب، فالضمائر رَاجِعَة إِلَيْهَا. وَإِمَّا أَنه اكْتفى بشهرة الْحِكَايَة وَعلم أهل هَذَا الشَّأْن بِأَن الأسرع لُحُوقا هِيَ زَيْنَب، فتعود الضمائر إِلَى من هِيَ مُفْردَة فِي أذهانهم. وَإِن أَن يؤول الْكَلَام بِأَن الضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحوقها بِهِ أَولا، وَعلمنَا بعد ذَلِك أَنَّهَا هِيَ الَّتِي طول صَدَقَة يَديهَا، وَالْحَال أَنَّهَا كَانَت أسْرع لُحُوقا بِهِ، وَكَانَت محبَّة للصدقة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي لَيْسَ بسديد، لَا من جِهَة التَّوْفِيق بَين الْأَخْبَار، وَلَا من جِهَة مَا يَقْتَضِيهِ تركيب الْكَلَام، بل كَلَامه بعيد جدا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قَوْله: (فَعلمنَا بعد) ، يَعْنِي فهمنا من قَوْله: (أَطْوَلكُنَّ يدا) ابْتِدَاء ظَاهره فأخذنا لذَلِك قَصَبَة نذرع بهَا يدا يدا لنَنْظُر أَيّنَا أطول يدا، فَلَمَّا فطنا محبتها الصَّدَقَة، وَعلمنَا أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يرد بِالْيَدِ الْعُضْو، وبالطول طولهَا، بل أَرَادَ الْعَطاء وكثرته، أجريناه على الصَّدَقَة. فاليد هَهُنَا استعادة للصدقة، والطول ترشيح لَهَا لِأَنَّهُ ملائم للمستعار مِنْهُ. وَلَو قيل: أكبركن، لَكَانَ تجريدا لَهَا. وَقيل: وَجه الْجمع أَن فِي قَوْلهَا: فَعلمنَا بعد إِشْعَار بأنهن حملن طول الْيَد على ظَاهره، ثمَّ علِمْنَ بعد ذَلِك خلا مَا اعتقدن أَولا، وَقد انحصر الثَّانِي فِي زَيْنَب للاتفاق على أَنَّهَا آخِرهنَّ موتا، فَتعين أَن تكون هِيَ المرادة، وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الضمائر بعد قَوْله: فَكَانَت، وَاسْتغْنى عَن تَسْمِيَتهَا لشهرتها بذلك. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَكَأن هَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَون البُخَارِيّ حذف لفظ سَوْدَة من سِيَاق الحَدِيث لما أخرجه فِي (الصَّحِيح) لعلمه بالوهم فِيهِ، وَأَنه سَاقه فِي التَّارِيخ (بِإِثْبَات ذكرهَا. انْتهى) قلت: قَول الْقَائِل الأول: فَتعين أَن تكون هِيَ المرادة إِلَى آخِره غير مُسلم، فَمن أَيْن التَّعْيِين من التَّرْكِيب على أَن زَيْنَب هِيَ المرادة؟ وَكَيف تَقول: وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الضمائر بعد قَوْله: فَكَانَت؟ وَاسْتغْنى عَن تَسْمِيَتهَا؟ أَي: عَن تَسْمِيَة زَيْنَب لشهرتها بذلك، وَالْمَذْكُور فِيهِ بالتصريح سَوْدَة، وَلَا يُبَادر الذِّهْن إلاَّ إِلَى أَن الضَّمِير فِي فَكَانَت يرجع إِلَى سَوْدَة بِمُقْتَضى حق التَّرْكِيب، وَهَذَا الَّذِي قَالَه خلاف مَا يَقْتَضِيهِ حق التَّرْكِيب، وَقَول بَعضهم: وَكَانَ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَون البُخَارِيّ حذف لفظ سَوْدَة إِلَى آخِره كَلَام تمجه الأسماع لِأَنَّهُ كَيفَ يحذف لفظ سَوْدَة فِي (الصَّحِيح) بالوهم ويثبته فِي (التَّارِيخ) وَكَانَ اللَّائِق بِهِ أَن يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن من حمل الْكَلَام على ظَاهره وَحَقِيقَته لم يلم وَإِن كَانَ مُرَاد الْمُتَكَلّم مجازه، لِأَن نسْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حملن طول الْيَد على الْحَقِيقَة، فَلم يُنكر عَلَيْهِنَّ. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من طَرِيق يزِيد بن الْأَصَم (عَن مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُنَّ: لَيْسَ ذَلِك، أَعنِي، إِنَّمَا أَعنِي أصنعكن يدا) . قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف جدا، وَلَو كَانَ ثَابتا لم يحتجن بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذرع أَيْدِيهنَّ، كَمَا مر فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة. وَفِيه: دلَالَة على أَن الحكم للمعاني لَا للألفاظ، لِأَن النسْوَة فهمن من طول الْيَد الْجَارِحَة، وَإِنَّمَا المُرَاد بالطول كَثْرَة الصَّدَقَة، قَالَه الْمُهلب، وَلكنه غير مطرد فِي جَمِيع الْأَحْوَال. وَفِيه: علم من أَعْلَام النُّبُوَّة ظَاهر. وَفِيه: أَنه لما كَانَ السُّؤَال عَن آجال مقدرَة لَا تعلم إلاَّ بِالْوَحْي، أجابهنصلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ غير صَرِيح، وأحالهن على مَا لَا يتَبَيَّن إلاَّ بِآخِرهِ، وساغ ذَلِك لكَونه لَيْسَ من الْأَحْكَام التكليفية. وَفِيه: على مَا قَالَه بَعضهم جَوَاز إِطْلَاق اللَّفْظ الْمُشْتَرك بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِغَيْر قرينَة إِذا لم يكن هُنَاكَ مَحْذُور. قلت: لَيْت شعري مَا اللَّفْظ الْمُشْتَرك هُنَا حَتَّى يجوز إِطْلَاقه بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز؟ فَإِن كَانَ مُرَاده لفظ: الطول، فَهُوَ غير مُشْتَرك، بل هُوَ ترشيح الإستعادة، وَإِن كَانَ مُرَاده لفظ: الْيَد، فَهُوَ لَيْسَ بمشترك هُنَا، بل هُوَ اسْتِعَارَة للصدقة على مَا ذكرنَا.
21 - (بابُ صَدَقَةِ العَلاَنِيَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر صَدَقَة الْعَلَانِيَة، وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا من الحَدِيث، لِأَن الظَّاهِر أَنه لم يجد حَدِيثا فِيهِ على شَرطه، وَاكْتفى بِالْآيَةِ.
وقَوْلِهِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ سِرَّا وعَلاَنِيَّةً} إِلَى قولِهِ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: 472) .(8/283)
وَقَوله: بِالْجَرِّ، عطف على قَوْله: صَدَقَة الْعَلَانِيَة، وَهُوَ أَيْضا من التَّرْجَمَة، وَقد سَقَطت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَثبتت لغيره، وَقد اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، فَذكر الواحدي: أَنَّهَا نزلت فِي أَصْحَاب الْخَيل، وَهُوَ قَول أبي أُمَامَة وَأبي الدَّرْدَاء وَمَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيّ عَن رَبَاح، وَرَوَاهُ ابْن غَرِيب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا. قلت: روى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث أبي أُمَامَة أَنَّهَا نزلت فِي أَصْحَاب الْخَيل الَّذين يربطونها فِي سَبِيل الله. وَقَالَ مُجَاهِد والكلبي وَابْن عَبَّاس: نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب، كَانَ عِنْده أَرْبَعَة دَرَاهِم فأنفق بِاللَّيْلِ وَاحِدًا وبالنهار وَاحِدًا وَفِي السِّرّ وَاحِدًا وَفِي الْعَلَانِيَة وَاحِدًا. زَاد الْكَلْبِيّ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا حملك على هَذَا؟ قَالَ: حَملَنِي أَن أستوجب على الله تَعَالَى الَّذِي وَعَدَني. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا إِن ذَلِك لَك، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة. وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق أَيْضا بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف إِلَى ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن جرير من طَرِيق عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد عَن أَبِيه نَحوه، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس. وَفِي (الْكَشَّاف) نزلت فِي أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا أنْفق أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَعشرَة الْألف سرا وَعشرَة آلَاف جَهرا وَعشرَة آلَاف لَيْلًا وَعشرَة آلَاف نَهَارا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: قَالَ آخَرُونَ: عَنى بِالْآيَةِ قوما أَنْفقُوا فِي سَبِيل الله فِي غير إِسْرَاف وَلَا تقتير. وَقَالَ قَتَادَة: نزلت فِيمَن أنْفق مَاله فِي سَبِيل الله، لقَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن المكثرين هم الأقلون يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، عَن يَمِينه وشماله وَقَلِيل مَا هم، هَؤُلَاءِ قوم أَنْفقُوا فِي سَبِيل الله فِي غير سرف وَلَا إملاق وَلَا تبذير وَلَا فَسَاد) . قَوْله إِلَى قَوْله: {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: 472) . أَرَادَ تَمام الْآيَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: 472) . أَي: لَهُم أجرهم يَوْم الْقِيَامَة على مَا فعلوا من الْإِنْفَاق فِي الطَّاعَات، فَلَا خوف عَلَيْهِم عِنْد الْمَوْت، وَلَا هم يَحْزَنُونَ يَوْم الْقِيَامَة.
31 - (بابُ صَدَقَةِ السِّرِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر صَدَقَة السِّرّ، وَلم يذكر فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ الحَدِيث الْمُعَلق وَالْآيَة الْكَرِيمَة.
وقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَجُلٌ تصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنعَتْ يَمِينُهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن قَوْله: (فأخفاها) أَي: الصَّدَقَة، وَهِي صَدَقَة السِّرّ، وَهَذَا الْمُعَلق ذكره مَوْصُولا فِي: بَاب من جلس فِي الْمَسْجِد ينْتَظر الصَّلَاة، عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن عبيد الله عَن حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن حَفْص بن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله ... الحَدِيث، وَهَذَا الْمُعَلق قِطْعَة مِنْهُ، وَلَكِن لَفظه هُنَاكَ: (وَرجل تصدق بِصَدقَة وأخفى حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) . وَذكره أَيْضا بِتَمَامِهِ فِي الْبَاب الثَّالِث بعد هَذَا الْبَاب، وَهُوَ: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَرجل) ، عطف على مَا قبله فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
وقالَ الله تَعَالى: {وَإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَة: 172) .
مُطَابقَة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وأولها: {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} (الْبَقَرَة: 172) . أَي: إِن أظهرتموا الصَّدَقَة فَنعم شَيْء هِيَ. وَقيل: فنعمت الْخصْلَة هِيَ، نزلت لما سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صَدَقَة السِّرّ أفضل أم الْجَهْل؟ قَالَ الطَّبَرِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله تَعَالَى: {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} (الْبَقَرَة: 172) . إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (الْبَقَرَة: 472) . كَانَ هَذَا يعْمل بِهِ قبل أَن تنزل بَرَاءَة، فَلَمَّا نزلت بَرَاءَة بفرائض الصَّدقَات أقربت الصَّدقَات إِلَيْهَا. وَعَن قَتَادَة: {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها} (الْبَقَرَة: 172) . كل مَقْبُول إِذا كَانَت النِّيَّة صَادِقَة، وَصدقَة السِّرّ أفضل. وَذكر لنا أَن الصَّدَقَة تطفىء الْخَطِيئَة كَمَا يطفىء المَاء النَّار. وَقَالَهُ أَيْضا الرّبيع، وَعَن ابْن عَبَّاس: جعل الله صَدَقَة السِّرّ فِي التَّطَوُّع تفضل علانيتها يُقَال: بسبعين ضعفا، وَجعل صَدَقَة الْفَرِيضَة علانيتها تفضل من سرها يُقَال بِخَمْسَة وَعشْرين ضعفا، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْفَرَائِض والنوافل فِي الْأَشْيَاء كلهَا. وَقَالَ سُفْيَان: هُوَ سوى الزَّكَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنى الله جلّ ثَنَاؤُهُ بقوله: {إِن تبدوا الصَّدقَات} (الْبَقَرَة: 172) . يَعْنِي على أهل الْكِتَابَيْنِ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَنعما(8/284)
هِيَ، وَإِن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فَهُوَ خير لكم. قَالُوا: فَأَما من أعْطى فُقَرَاء الْمُسلمين من زَكَاة وَصدقَة وتطوع فإخفاؤه أفضل، ذكر ذَلِك يزِيد بن أبي حبيب. وَنقل الطَّبَرِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع على أَن الإعلان فِي صَدَقَة الْفَرْض أفضل من الْإخْفَاء وَصدقَة التَّطَوُّع على الْعَكْس من ذَلِك. وَنقل أَبُو إِسْحَاق الزّجاج أَن إخفاء الزَّكَاة فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ أفضل، فَأَما بعده فَإِن الظَّن يساء بِمن أخفاها، فَلهَذَا كَانَ إِظْهَار الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة أفضل. وَقَالَ أَبُو عَطِيَّة: وَيُشبه فِي زَمَاننَا أَن يكون الْإخْفَاء بِصَدقَة الْفَرْض أفضل، فقد كثر الْمَانِع لَهَا وَصَارَ إخْرَاجهَا عرضة للرياء. قَوْله: {إِن تبدوا} (الْبَقَرَة: 172) . قَالَ الزّجاج: يَعْنِي: تظهروا، يُقَال: بدا يَبْدُو إِذا ظهر، وأبديته إبداء إِذا أظهرته، وبدا لي بداء إِذا تغير رَأْيه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ. قَوْله: {فَنعما هِيَ} (الْبَقَرَة: 172) . فِيهِ قراآت موضعهَا فِي محلهَا. قَوْله: {وَإِن تخفوها} (الْبَقَرَة: 172) . من الْإخْفَاء، يُقَال: أخفيت الشَّيْء إخفاء إِذا سترته، وخفي الشَّيْء خَفَاء إِذا استتر، وخفيته أخفيه خفِيا إِذا أظهرته. وَأهل الْمَدِينَة يسمون النباش المختفي. وَفِي تَفْسِير ابْن كثير. قَوْله: {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 172) . فِيهِ دَلِيل على أَن إسرار الصَّدَقَة أفضل من إظهارها، لِأَنَّهُ أبعد عَن الرِّيَاء إلاَّ أَن يتربت على الْإِظْهَار مصلحَة راجحة من اقْتِدَاء النَّاس بِهِ، فَيكون أفضل من هَذِه الْحَيْثِيَّة، والإسرار أفضل لهَذِهِ الْآيَة. وَلما ثَبت فِي (الصَّحِيح) عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سَبْعَة يظلهم الله) الحَدِيث، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا الْعَوام بن حَوْشَب عَن سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان عَن أنس بن مَالك، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لما خلق الله الأَرْض جعلت تميد، فخلق الْجبَال فألقاها عَلَيْهَا فاستقرت، فتعجب الْمَلَائِكَة من خلق الْجبَال، فَقَالَت: يَا رب، فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من الْجبَال؟ فَقَالَ: نعم الْحَدِيد. قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم النَّار. قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم المَاء. قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم الرّيح. قَالَت: يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم، ابْن آدم يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ فيخفيها من شِمَاله) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي، قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن زِيَاد الْمحَاربي، مُؤذن محَارب، أخبرنَا مُوسَى بن عُمَيْر عَن عَامر الشّعبِيّ. فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} (الْبَقَرَة: 172) . قَالَ: أنزلت فِي أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أما عمر: فجَاء بِنصْف مَاله حَتَّى دَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا خلفت وَرَاءَك لأهْلك يَا عمر؟ قَالَ: خلفت لَهُم نصف مَالِي. وَأما أَبُو بكر، فجَاء بِمَالِه كُله، فكاد أَن يخفيه من نَفسه حَتَّى دَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا خلفت وَرَاءَك يَا أَبَا بكر؟ فَقَالَ: عدَّة الله وعدة رَسُوله، فَبكى عمر، وَقَالَ: بِأبي أَنْت يَا أَبَا بكر، وَالله مَا أسبقنا إِلَى بَاب خير قطّ ألاَّ كنت سَابِقًا، وَتَمام الْآيَة الْمَذْكُورَة: {ونكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} (الْبَقَرَة: 172) . أَي: نكفر عَنْكُم بدل الصَّدقَات من سَيِّئَاتكُمْ أَي من ذنوبكم، قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم من رِوَايَة حَفْص: يكفر، بِالْيَاءِ وَضم الرَّاء، وَقَرَأَ حَمْزَة وَنَافِع وَالْكسَائِيّ: ونكفر، بالنُّون وَجزم الرَّاء، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم فِي رِوَايَة أبي بكر: ونكفر، بالنُّون وَضم الرَّاء {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} (الْبَقَرَة: 172) . أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك وسيجزيكم عَلَيْهِ، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
41 - (بابٌ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا تصدق رجل على شخص غَنِي، وَالْحَال أَنه لم يعلم أَنه غَنِي، يَعْنِي ظَنّه فَقِيرا. وَجَوَاب: إِذا، مُقَدّر أَي: فصدقته مَقْبُولَة، وَإِن كَانَت وَقعت فِي غير محلهَا لعدم التَّقْصِير من جِهَته.
25 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ قَالَ رجل لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد سَارِق فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على سَارِق فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج(8/285)
بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَدي زَانِيَة فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق اللَّيْلَة على زَانِيَة فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على زَانِيَة لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَدي غَنِي فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على غَنِي فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على سَارِق وعَلى زَانِيَة وعَلى غَنِي فَأتي فَقيل لَهُ أما صدقتك على سَارِق فَلَعَلَّهُ أَن يستعف عَن سَرقته وَأما الزَّانِيَة فلعلها أَن تستعف عَن زنَاهَا وَأما الْغَنِيّ فَلَعَلَّهُ أَن يعْتَبر فينفق مِمَّا أعطَاهُ الله) مطابقته للتَّرْجَمَة من قَوْله " فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد غَنِي " (فَإِن قلت) الْمَذْكُور فِي الحَدِيث ثَلَاثَة أَشْيَاء فَمَا وَجه التَّرْجَمَة فِي التَّصَدُّق على الْغَنِيّ (قلت) التَّصَدُّق على الْغَنِيّ لَا يجوز على كل حَال حَتَّى إِذا أعْطى زَكَاته لَغَنِيّ يَظُنّهُ فَقِيرا ثمَّ بَان لَهُ أَنه غَنِي يُعِيد زَكَاته عِنْد الْبَعْض على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما دَفعهَا إِلَى سَارِق فَقِيرا وَإِلَى زَانِيَة فقيرة فَهُوَ جَائِز بِلَا خلاف. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة وَأَبُو الْيَمَان بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن حَمْزَة الْحِمصِي وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون ذكْوَان والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِي رِوَايَة مَالك فِي الغرائب للدارقطني عَن أبي الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة وَفِيه راويان مذكوران بكنيتهما وَالْآخر بلقبه وَالْآخر مُجَردا عَن نِسْبَة فَافْهَم. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة بِالْإِسْنَادِ وَأخرجه مُسلم من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج " عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَالَ رجل لأتصدقن اللَّيْلَة بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد زَانِيَة فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق اللَّيْلَة على زَانِيَة قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على زَانِيَة لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد غَنِي فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على غَنِي قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على غَنِي لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد سَارِق فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على سَارِق فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على زَانِيَة وعَلى غَنِي وعَلى سَارِق فَأتى فَقيل لَهُ أما صدقتك فقد قبلت أما الزَّانِيَة فلعلها تستعف بهَا عَن زنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِيّ يعْتَبر فينفق مِمَّا أعطَاهُ الله وَلَعَلَّ السَّارِق يستعف بهَا عَن سَرقته " (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " قَالَ رجل " لم يعرف اسْمه وَوَقع عِنْد أَحْمد من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن الْأَعْرَج فِي هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ من بني إِسْرَائِيل قَوْله " لأتصدقن " فِي معرض الْقسم فَلذَلِك أكده بِاللَّامِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة كَأَنَّهُ قَالَ وَالله لأتصدقن وَهُوَ من بَاب الِالْتِزَام كالنذر قَوْله " بِصَدقَة " وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي أُميَّة عَن أبي الْيَمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد " لأتصدقن اللَّيْلَة " وَفِي رِوَايَة مُسلم " لأتصدقن فِي اللَّيْلَة بِصَدقَة " قَوْله " فوضعها فِي يَد سَارِق " أَي فَوضع صدقته فِي يَد سَارِق من غير أَن يعلم أَنه سَارِق قَوْله " فَأَصْبحُوا " أَي الْقَوْم الَّذين فيهم هَذَا الرجل الْمُتَصَدّق قَوْله " يتحدثون " فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر أَصْبحُوا الَّذِي هُوَ من الْأَفْعَال النَّاقِصَة قَوْله " تصدق " على صِيغَة الْمَجْهُول هَذَا إِخْبَار فِي معنى التَّعَجُّب وَالْإِنْكَار وَفِي رِوَايَة أبي أُميَّة " تصدق اللَّيْلَة على سَارِق " وَفِي رِوَايَة ابْن لَهِيعَة " تصدق على فلَان السَّارِق " قَوْله " فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد " أَي على تصدقي على سَارِق هَذَا وَارِد إِمَّا إنكارا أَو إِمَّا تَعَجبا أما الْإِنْكَار فَأن يجْرِي الْحَمد على الشُّكْر وَذَلِكَ أَنه لما جزم أَن يتَصَدَّق على مُسْتَحقّ لَيْسَ بعده بِدلَالَة التنكير فِي صَدَقَة أبرز كَلَامه فِي معرض القسمية تَأْكِيدًا وقطعا للقبول بِهِ فَلَمَّا جوزي بِوَضْعِهِ على يَد سَارِق حمد الله بِأَنَّهُ لم يقدر على من هُوَ أَسْوَأ حَالا من السَّارِق وَأما التَّعَجُّب فَأن يجْرِي الْحَمد على غير الشُّكْر وَأَن يعظم الله تَعَالَى عِنْد رُؤْيَة الْعجب كَمَا يُقَال سُبْحَانَ الله عِنْد مُشَاهدَة مَا يتعجب مِنْهُ وللتعظيم قرن بِهِ اللَّهُمَّ قَوْله " لَك الْحَمد على زَانِيَة " قَالَ الطَّيِّبِيّ لما قَالُوا تصدق على زَانِيَة تعجب هُوَ أَيْضا من فعل نَفسه وَقَالَ الْحَمد لله على زَانِيَة أَي أَتصدق عَلَيْهَا فَهُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف انْتهى (قلت) معنى قَوْله على زَانِيَة مُتَعَلق بِمَحْذُوف وَهُوَ قَوْله أتصدقت وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَلقا بقوله لَك الْحَمد وَلم يفهم معنى هَذَا بَعضهم حَتَّى قَالَ وَلَا يخفى بعد هَذَا وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) مَا معنى الْحَمد عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يكون إِلَّا على أَمر جميل وَمَا فَائِدَة تَقْدِيم(8/286)
لَك (قلت) التَّقْدِيم يُفِيد الِاخْتِصَاص أَي لَك الْحَمد لَا لي على زَانِيَة حَيْثُ كَانَ التَّصَدُّق عَلَيْهَا بإرادتك لَا بإرادتي وَإِرَادَة الله تَعَالَى كلهَا جميلَة حَتَّى إِرَادَة الله الإنعام على الْكفَّار قَوْله " تصدق اللَّيْلَة على زَانِيَة " على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا وَكَذَلِكَ لفظ تصدق الثَّالِث قَوْله " فَأتى " على صِيغَة الْمَجْهُول أَي رأى فِي الْمَنَام أَو سمع هاتفا ملكا أَو غَيره أَو أخبرهُ نَبِي أَو أفتاه عَالم وَقَالَ ابْن التِّين يحْتَمل أَن يكون أخبرهُ بذلك نَبِي زَمَانه أَو أخبر فِي نَومه وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح لَو رأى مَا فِي مستخرج أبي نعيم لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا التخرص وَهُوَ قَوْله فساءه ذَلِك فَأتى فِي مَنَامه فَقيل لَهُ إِن الله عز وَجل قد قبل صدقتك وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي مُسْند الشامين عَن أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب عَن أبي الْيَمَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فساءه ذَلِك فَأتى فِي مَنَامه قَوْله " أما صدقتك على سَارِق " زَاد أَبُو أُميَّة " فقد قبلت " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة وَابْن لَهِيعَة " أما صدقتك فقد قبلت " وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ " إِن الله قد قبل صدقتك " قَوْله " لَعَلَّه أَن يستعف " لَعَلَّ من الله تَعَالَى على معنى الْقطع والختم وَأَنه تَارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال عَسى وَتارَة اسْتِعْمَال كَاد قَوْله " عَن زنَاهَا " قَالَ ابْن التِّين روينَاهُ بِالْمدِّ وَعند أبي ذَر بِالْقصرِ وَهِي لُغَة أهل الْحجاز وَالْمدّ لأهل نجد (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ دلَالَة على أَن الصَّدَقَة كَانَت عِنْدهم فِي أيامهم مُخْتَصَّة بِأَهْل الْحَاجة من أهل الْخَيْر وَلِهَذَا تعجبوا من الصَّدَقَة على الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة. وَفِيه دَلِيل على أَن الله يَجْزِي العَبْد على حسب نِيَّته فِي الْخَيْر لِأَن هَذَا الْمُتَصَدّق لما قصد بِصَدَقَتِهِ وَجه الله تَعَالَى قبلت مِنْهُ وَلم يضرّهُ وَضعهَا عِنْد من لَا يَسْتَحِقهَا وَهَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع وَأما الزَّكَاة فَلَا يجوز دَفعهَا إِلَى الْأَغْنِيَاء. وَفِيه اعْتِبَار لمن تصدق عَلَيْهِ بِأَن يتَحَوَّل عَن الْحَال المذمومة إِلَى الْحَال الممدوحة ويستعف السَّارِق من سَرقته والزانية من زنَاهَا والغني من إِمْسَاكه. وَفِيه فضل صَدَقَة السِّرّ وَفضل الْإِخْلَاص. وَفِيه اسْتحبَّ إِعَادَة الصَّدَقَة إِذا لم تقع الْموقع. وَفِيه أَن الحكم للظَّاهِر حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه. وَفِيه التَّسْلِيم والرضى وذم التضجر بِالْقضَاءِ وَفِيه مَا يحْتَج بِهِ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد فِيمَا إِذا أعْطى زَكَاته لشخص وظنه فَقِيرا فَبَان أَنه غَنِي سَقَطت عَنهُ تِلْكَ الزَّكَاة وَلَا تجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة وَحكي ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَالْحسن بن صَالح لَا يجْزِيه وَعَلِيهِ الْإِعَادَة وَهُوَ قَول الثَّوْريّ لِأَنَّهُ لم يضع الصَّدَقَة موضعهَا وَأَخْطَأ فِي اجْتِهَاده كَمَا لَو نسي المَاء فِي رَحْله وَتيَمّم لصَلَاة لم يجزه فَافْهَم (فَإِن قيل) هَذَا الْخَبَر خَاص وَقع فِيهِ الِاطِّلَاع على قبُول الصَّدَقَة برؤيا صَادِقَة اتّفق وُقُوعهَا فَهَل يتَعَدَّى هَذَا الحكم إِلَى غَيره (قيل لَهُ) إِن التَّنْصِيص فِي هَذَا الْخَبَر على رَجَاء الاستعفاف فَيدل ذَلِك على التَّعْدِيَة فَيَقْتَضِي ارتباط الْقبُول بِهَذِهِ الْأَسْبَاب
51 - (بابٌ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهْوَ لاَ يَشْعُرُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا تصدق شخص على ابْنه وَالْحَال أَنه لَا يشْعر، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: جَازَ، وَإِنَّمَا حذفه إِمَّا اختصارا وَإِمَّا اكْتِفَاء بِمَا دلّ حَدِيث الْبَاب عَلَيْهِ. وَقيل: إِنَّمَا حذفه لِأَنَّهُ يصير لعدم شعوده كَالْأَجْنَبِيِّ.
26 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ حَدثنَا إِسْرَائِيل قَالَ حَدثنَا أَبُو الجويرية أَن معن بن يزِيد رَضِي الله عَنهُ حَدثهُ قَالَ بَايَعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنا وَأبي وجدي وخطب عَليّ فأنكحني وخاصمت إِلَيْهِ وَكَانَ أبي يزِيد أخرج دَنَانِير يتَصَدَّق بهَا فوضعها عِنْد رجل فِي الْمَسْجِد فَجئْت فأخذتها فَأَتَيْته بهَا فَقَالَ وَالله مَا إياك أردْت فَخَاصَمته إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَك مَا نَوَيْت يَا يزِيد وَلَك مَا أخذت يَا معن) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن يزِيد أعْطى دَنَانِير للرجل ليتصدق عَنهُ وَلم يحْجر عَلَيْهِ فجَاء ابْنه معن وَأَخذهَا من الرجل فَكَانَ يزِيد هُوَ السَّبَب فِي وُقُوع صدقته فِي يَد ابْنه فَكَأَنَّهُ تصدق عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يشْعر. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول مُحَمَّد بن(8/287)
يُوسُف الْفرْيَابِيّ وَقد مر. الثَّانِي إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَق السبيعِي. الثَّالِث أَبُو الجويرة مصغر الْجَارِيَة بِالْجِيم وَالرَّاء حطَّان بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة وبالنون ابْن جفاف بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْفَاء الأولى الْجرْمِي بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء. الرَّابِع معن بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن يزِيد من الزِّيَادَة السّلمِيّ بِضَم السِّين الْمُهْملَة يُقَال أَنه شهد بَدْرًا مَعَ أَبِيه وجده وَلم يتَّفق ذَلِك لغَيرهم وَقيل لم يُتَابع على ذَلِك فقد روى أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق صَفْوَان بن عَمْرو عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير عَن يزِيد بن الْأَخْنَس السّلمِيّ أَنه أسلم فَأسلم مَعَه جَمِيع أَهله إِلَّا امْرَأَة وَاحِدَة أَبَت أَن تسلم فَأنْزل الله تَعَالَى على رَسُوله {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} فَهَذَا دَال على أَن إِسْلَامه كَانَ مُتَأَخِّرًا لِأَن الْآيَة مُتَأَخِّرَة الْإِنْزَال عَن بدر قطعا وَاسم جده الْأَخْنَس بن حبيب السّلمِيّ وَقيل ثَوْر وَمِمَّنْ قَالَه الطَّبَرَانِيّ وَابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم فترجموا فِي كتبهمْ لثور وَسَاقُوا حَدِيث الْبَاب من طَرِيق الْجراح وَالِد وَكِيع عَن أبي الجويرية عَن معن بن يزِيد بن ثَوْر السّلمِيّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن سَماع أبي الجويرية عَن معن ومعن أَمِير على غزَاة الرّوم فِي خلَافَة مُعَاوِيَة وَفِيه أَن شَيْخه سكن قيسارية من الشَّام وَإِسْرَائِيل وحطان ومعن كوفيون وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَنا " تَأْكِيد للضمير الْمَرْفُوع الَّذِي فِي بَايَعت قَوْله " وَأبي " هُوَ يزِيد قَوْله " وجدي " هُوَ الْأَخْنَس بن حبيب قَوْله " وخطب عَليّ " أَي خطب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَليّ يُقَال خطب الْمَرْأَة إِلَى وَليهَا إِذا أرادها الْخَاطِب لنَفسِهِ وعَلى فلَان إِذا أرادها لغيره قَالَ الْكرْمَانِي الْفَاعِل هُوَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين قَوْله " فأنكحني " أَي طلب لي الْإِنْكَاح فأجبت ومقصود معن من ذَلِك بَيَان أَنْوَاع علاقاته من الْمُبَايعَة وَغَيرهَا من الْخطْبَة عَلَيْهِ وإنكاحه وَعرض الْخُصُومَة عَلَيْهِ قَوْله " وخاصمت إِلَيْهِ " أَي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَفظ خاصمته ثَانِيًا تَفْسِير لقَوْله " خَاصَمت إِلَيْهِ " قَوْله " وَكَانَ أبي يزِيد " وَيزِيد بِالرَّفْع عطف بَيَان لقَوْله أبي وَلَيْسَ بِبَدَل كَمَا قَالَه بَعضهم على مَا لَا يخفى قَوْله " فوضعها عِنْد رجل " أَي فَوضع الدَّنَانِير الَّتِي أخرجهَا للصدقة عِنْد رجل وَفِيه حذف تَقْدِيره عِنْد رجل وَأذن لَهُ أَن يتَصَدَّق بهَا على من يحْتَاج إِلَيْهَا إِذْنا مُطلقًا من غير تعْيين نَاس فَجئْت فأخذتها يَعْنِي من الرجل الَّذِي أذن لَهُ فِي التَّصَدُّق بِاخْتِيَار مِنْهُ لَا بطرِيق الْغَصْب وَوَقع عِنْد الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي حَمْزَة الْيَشْكُرِي عَن أبي الجويرية فِي هَذَا الحَدِيث (قلت) وَمَا كَانَت خصومتك قَالَ كَانَ رجل يغشى الْمَسْجِد فَيتَصَدَّق على رجال يعرفهُمْ فَظن أَنِّي بعض من يعرف فَذكر الحَدِيث قَوْله " وَالله مَا إياك أردْت " يَعْنِي قَالَ يزِيد لِابْنِهِ معن مَا إياك أردْت فِي الصَّدَقَة وَلَو أردْت أَنَّك تأخذها لناولتها لَك وَلم أوكل فِيهَا قَوْله " فَخَاصَمته " أَي خَاصَمت أبي يزِيد إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَك مَا نَوَيْت يَا يزِيد " يَعْنِي من أجر الصَّدَقَة لِأَنَّهُ نوى أَن يتَصَدَّق بهَا على من يحْتَاج إِلَيْهَا وابنك يحْتَاج إِلَيْهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيْضا " وَلَك مَا أخذت يَا معن " لِأَنَّك أخذت مُحْتَاجا إِلَيْهَا ومفعول كل من نَوَيْت وَأخذت مَحْذُوف (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ دَلِيل على الْعَمَل بالمطلقات على إِطْلَاقهَا لِأَن يزِيد فوض إِلَى الرجل بِلَفْظ مُطلق فنفذ فعله وَفِيه جَوَاز التحاكم بَين الْأَب وَالِابْن وخصومته مَعَه وَلَا يكون هَذَا عقوقا إِذا كَانَ ذَلِك فِي حق على أَن مَالِكًا رَحمَه الله كره ذَلِك وَلم يَجعله من بَاب الْبر واختياري هَذَا وَفِيه أَن مَا خرج إِلَى الابْن من مَال الْأَب على وَجه الصَّدَقَة أَو الصِّلَة أَو الْهِبَة لَا رُجُوع للْأَب فِيهِ وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى وَاتفقَ الْعلمَاء على أَن الصَّدَقَة الْوَاجِبَة لَا تسْقط عَن الْوَالِد إِذا أَخذهَا وَلَده حاشا التَّطَوُّع قَالَ ابْن بطال وَعَلِيهِ حمل حَدِيث معن وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى يجوز أَن يَأْخُذهَا لولد بِشَرْط أَن يكون غارما أَو غازيا فَيحمل حَدِيث معن على أَنه كَانَ متلبسا بِأحد هذَيْن النَّوْعَيْنِ قَالُوا وَإِذا كَانَ الْوَلَد أَو الْوَالِد فَقِيرا أَو مِسْكينا وَقُلْنَا فِي بعض الْأَحْوَال لَا تجب نَفَقَته فَيجوز لوالده أَو لوَلَده دفع الزَّكَاة إِلَيْهِ من سهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين بِلَا خلاف عِنْد الشَّافِعِي لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَالْأَجْنَبِيِّ وَقَالَ ابْن التِّين يجوز دفع الصَّدَقَة الْوَاجِبَة إِلَى الْوَلَد بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا أَن يتَوَلَّى غَيره من صرفهَا إِلَيْهِ وَالثَّانِي أَن لَا يكون فِي عِيَاله فَإِن كَانَ فِي عِيَاله وَقصد إعطاءه فروى مطرف(8/288)
عَن مَالك لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يفعل ذَلِك فَإِن فعله فقد أَسَاءَ وَلَا يضمن إِن لم يقطع عَن نَفسه إِنْفَاقه عَلَيْهِم قَالَ ابْن حبيب فَإِن قطع الْإِنْفَاق عَن نَفسه بذلك لم يجزه وَاخْتلفُوا فِي دفع الزَّكَاة إِلَى سَائِر الْأَقَارِب المحتاجين الَّذين لَا يلْزمه نَفَقَتهم فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه يجْزِيه وَهُوَ قَول عَطاء وَالقَاسِم وَأحمد وَقَالُوا هِيَ لَهُم صَدَقَة وصلَة وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَطَاوُس لَا يُعْطي قرَابَته من الزَّكَاة وَهُوَ قَول أَشهب وَذكر ابْن الْمَوَّاز عَن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كره أَن يخص قرَابَته بِزَكَاتِهِ وَإِن لم تلْزمهُ نفقاتهم وَمِمَّنْ قَالَ بِإِعْطَاء الْأَقَارِب مَا لم يَكُونُوا فِي عِيَاله ابْن عَبَّاس وَابْن الْمسيب وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَطَاوُس وَمُجاهد حَكَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف عَنْهُم وَفِي مُسْند الدَّارمِيّ من حَدِيث حَكِيم مَرْفُوعا " أفضل الصَّدَقَة على ذِي الرَّحِم الْكَاشِح " وَفِيه جَوَاز الافتخار بالمواهب الربانية والتحدث بنعم الله تَعَالَى وَفِيه جَوَاز الِاسْتِخْلَاف فِي الصَّدَقَة لَا سِيمَا فِي التَّطَوُّع لِأَن فِيهِ نوع أسرار وَفِيه أَن للمتصدق جَزَاء مَا نَوَاه سَوَاء صَادف الْمُسْتَحق أَو لَا
61 - (بابُ الصَّدَقَةِ بِاليَمِينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ فاضلة أَو مَرْغُوب فِيهَا.
3241 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني خُبَيْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ حَفْصِ بنِ عَاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلِّهُ إمَامٌ عَدْلٌ وَشابٌ نَشَأ فِي عِبَادَةِ الله ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ ورَجُلانِ تحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عليهِ ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ فَقَالَ إنِّي أخافُ الله ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ورَجُلٌ ذَكَرَ الله خالِيا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من جلس فِي الْمَسْجِد ينْتَظر الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى. . إِلَى آخِره. نَحوه وَيحيى، هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
4241 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي مَعْبَدُ بنُ خالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حارِثَةَ ابنَ وَهْبٍ الخُزَاعِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تَصَدَّقُوا فَسَيأتِي عَلَيْكُمْ زَمانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا مِنْكَ فأمَّا اليَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا..
قيل مطابقته للتَّرْجَمَة من جِهَة أَنه اشْترك مَعَ الَّذِي قبله فِي كَون كل مِنْهُمَا حَامِلا لصدقته، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ حَامِلا لَهَا بِنَفسِهِ كَانَ أخْفى لَهَا، فَكَانَ لَا يعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه. انْتهى. قلت: مَا أبعد هَذَا من الْمُطَابقَة لِأَن مَعْنَاهَا أَن يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة، وَهنا التَّرْجَمَة: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، فَيَنْبَغِي أَن يكون فِي الحَدِيث مَا يُطَابق التَّرْجَمَة بِوَجْه من الْوُجُوه، وَهَذَا الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل إِنَّمَا هُوَ الْمُطَابقَة بِالْجَرِّ الثقيل بَين الْحَدِيثين، وَقَوله: لِأَنَّهُ إِذا كَانَ حَامِلا لَهَا بِنَفسِهِ كَانَ أخْفى لَهَا ... إِلَى آخِره غير مُسلم، لِأَن إخفاءها للحامل لَيْسَ من اللوازم، وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه شَيْء للمطابقة وَإِن كَانَ بالتعسف، وَهُوَ أَن اللَّائِق لحامل الصَّدَقَة ليتصدق بهَا إِلَى من يحْتَاج إِلَيْهَا أَن يَدْفَعهَا بِيَمِينِهِ لفضل الْيَمين على الشمَال، فَعِنْدَ التَّصَدُّق بِالْيَمِينِ يكون مطابقا لقَوْله: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ.(8/289)
وَقد مضى الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب الصَّدَقَة قبل الرَّد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن آدم عَن شُعْبَة. . أُلى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
71 - (بابُ مَنْ أمَرَ خادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ ولَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من أَمر خادمه بِالصَّدَقَةِ، يَعْنِي: أمره بِأَن يتَصَدَّق عَنهُ وَلم يناول الصَّدَقَة للْفَقِير بِنَفسِهِ، وَالْخَادِم الَّذِي يخْدم غَيره أَعم من أَن يكون مَمْلُوكا أَو أَجِيرا أَو مُتَبَرعا بِالْخدمَةِ. قيل: فَائِدَة قَوْله: وَلم يناول بِنَفسِهِ، التَّنْبِيه على أَن ذَلِك مِمَّا يغْتَفر، وَأَن قَوْله فِي الْبَاب الَّذِي قبله: الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، لَا يلْزم مِنْهُ الْمَنْع من إعطائها بِالْغَيْر، وَإِن كَانَت الْمُبَاشرَة بِنَفسِهِ أولى. انْتهى. قلت: فَائِدَة قَوْله: وَلم يناول بِنَفسِهِ، التَّأْكِيد فِي عدم المناولة بِنَفسِهِ وَالتَّصْرِيح بِهِ، لِأَنَّهُ يجوز أَن يَأْمر خادمه بِالصَّدَقَةِ ثمَّ ناول بِنَفسِهِ قبل أَن يُبَاشر الْخَادِم أَو يَأْمُرهُ بهَا، ثمَّ ينهاه عَنْهَا. وَأما قَوْله فِي الْبَاب الَّذِي قبله: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، أَعم من أَن يكون بِيَمِين الْمُتَصَدّق بِنَفسِهِ أَو بِيَمِين خادمه أَو وَكيله. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة وضع هَذِه التَّرْجَمَة وَلَا يعلم مِنْهَا حكم؟ قلت: قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَأَن البُخَارِيّ أَرَادَ بِهَذِهِ مُعَارضَة مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن عَبَّاس بن عبد الرَّحْمَن الْمدنِي، قَالَ: خصلتان لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يليهما إِلَى أحد من أَهله: كَانَ يناول الْمِسْكِين بِيَدِهِ، وَيَضَع الطّهُور لنَفسِهِ. وَفِي (التَّرْغِيب) للجوزي، بِسَنَد صَالح عَن ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكل طهوره وَلَا صدقته الَّتِي يتَصَدَّق بهَا إِلَى أحد، يكون هُوَ الَّذِي يتولاهما بِنَفسِهِ. انْتهى. قلت: الَّذِي يظْهر من كَلَامه أَن الْمُتَصَدّق بِنَفسِهِ والمأمور بِالصَّدَقَةِ عَنهُ كِلَاهُمَا فِي الْأجر سَوَاء على مَا يُشِير إِلَيْهِ مَا ذكره فِي الْبَاب، وَإِنَّمَا أطلق التَّرْجَمَة وَلم يشر إِلَى شَيْء من ذَلِك اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب، وَقد جرت عَادَته بذلك فِي مَوَاضِع عديدة، وَلَا مُعَارضَة هَهُنَا لِأَن مقَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعلَى المقامات، فَإِذا أَمر بِشَيْء يَفْعَله أحد هَل يُقَال: إِنَّه يحصل لَهُ من الْأجر مثل مَا يحصل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَلَئِن سلمنَا التَّعَارُض ظَاهرا فَلَا نسلم أَنه تعَارض حَقِيقَة لعدم التَّسَاوِي بَين مَا ذكره فِي الْبَاب وَبَين غَيره.
وَقَالَ أَبُو مُوسى عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أحَدُ المُتَصَدِّقِينٌّ
أَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس، وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث ذكره مَوْصُولا يَأْتِي بعد سِتَّة أَبْوَاب فِي: بَاب أجر الْخَادِم إِذا تصدق. فَإِن الْمَذْكُور فِيهِ الخازن أحد المتصدقين، وَالضَّمِير أَعنِي قَوْله: (هُوَ) ، يرجع إِلَى الخازن. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِيهَا لفظ الْخَادِم، والْحَدِيث فِيهِ لفظ الخازن فَلَا مُطَابقَة بَينهمَا؟ قلت: الخازن خَادِم للْمَالِك فِي الخزن، وَإِن لم يكن خَادِمًا حَقِيقَة. وَقد قُلْنَا إِن لفظ الْخَادِم أَعم. قَوْله: (هُوَ أحد المتصدقين) بِلَفْظ التَّثْنِيَة كَمَا يُقَال: الْقَلَم أحد اللسانين مُبَالغَة، أَي: الْخَادِم والمتصدق بِنَفسِهِ متصدقان لَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر فِي أصل الْأجر، قَالُوا: وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون مِقْدَار ثوابهما سَوَاء، لِأَن الْأجر فضل من الله يؤتيه من يَشَاء. ذكر الْقُرْطُبِيّ أَنه لم يرو إلاَّ بالتثنية، وَيصِح أَن يُقَال على الْجمع، وَيكون مَعْنَاهُ أَنه متصدق من جملَة المتصدقين، وبنحوه ذكره ابْن التِّين وَغَيره.
5241 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ شَقِيقٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أنفَقَتِ المرْأةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كانَ لَهَا أجْرُهَا بِمَا أنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أجْرُهُ بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذالِكَ لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أجْرَ بَعْضٍ شَيْئا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وللخازن مثل ذَلِك) ، وَقد قُلْنَا: إِن للخازن خَادِم للْمَالِك فِي الخزن. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة مُقَيّدَة بِالْأَمر وَلَيْسَ فِي الحَدِيث ذَلِك؟ قلت: الخازن أَمِين وَلَيْسَ لَهُ أَن يتَصَرَّف إلاَّ بِإِذن الْمَالِك، إِمَّا نصا وَإِمَّا عَادَة، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة أمينة لَا يجوز لَهَا التَّصَرُّف إلاَّ بِإِذن زَوجهَا إِمَّا نصا وَإِمَّا عَادَة فِي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا تؤلم زَوجهَا وتطيب بهَا نَفسه، فَلذَلِك قيد(8/290)
بقوله: غير مفْسدَة، وإفسادها إِنَّمَا يكون بِغَيْر إِذن الزَّوْج أَو بِمَا يؤلم زَوجهَا خَارِجا عَن الْعَادة على مَا نقرره عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة، كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَعُثْمَان هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي شيبَة واسْمه: إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن الْكُوفِي أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَجَرِير بن عبد الحميد وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وشقيق بن سَلمَة ومسروق بن الأجدع.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن جَرِيرًا رازي أَصله من الْكُوفَة والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه وَعَن قُتَيْبَة عَن جرير كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش وَعَن آدم عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش وَمَنْصُور كِلَاهُمَا عَن أبي وَائِل بِهِ، وَفِيه عَن يحيى بن يحيى، وَفِيه، وَفِي الْبيُوع عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن جرير عَن مَنْصُور بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر ابْن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن جرير، وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن نمير عَن أَبِيه. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن قدامَة عَن جرير عَن مَنْصُور بِهِ، وَعَن أَحْمد بن حَرْب عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير بِهِ. وَأخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة، قَالَ: سَمِعت أَبَا وَائِل يحدث عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا تَصَدَّقت الْمَرْأَة من بَيت زَوجهَا كَانَ لَهَا أجر ولزوجها مثل ذَلِك وللخازن مثل ذَلِك وَلَا ينقص كل وَاحِد مِنْهُم من أجر صَاحبه شَيْئا، لَهُ بِمَا كسب وَلها بِمَا أنفقت) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن. وَالطَّرِيق الآخر: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن المؤمل عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أَعْطَتْ الْمَرْأَة من بَيت زَوجهَا بِطيب نفس غير مفْسدَة كَانَ لَهَا مثل أجره لَهَا مَا نَوَت حسنا وللخازن مثل ذَلِك) . ثمَّ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حسن صَحِيح، وَهُوَ أصح من حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن أبي وَائِل، وَعَمْرو بن مرّة لَا يذكر فِي حَدِيثه عَن مَسْرُوق. فَإِن قلت: قَالَ الطوسي: حَدِيث عَمْرو حسن صَحِيح؟ قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: رَوَاهُ جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق، وَرَوَاهُ عبد الصَّمد بن حسان عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن الْأسود، وَوهم فِي قَوْله: وَرَوَاهُ معَاذ بن معَاذ وَأَبُو قُتَيْبَة عَن شُعَيْب عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق، وَرَوَاهُ عبد الله بن أبي جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن الحكم بن عمَارَة عَن عُمَيْر عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَوهم فِيهِ، وَالصَّحِيح: عَن الْأَعْمَش وَمَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أنفقت الْمَرْأَة) ، وَفِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِي: (إِذا تَصَدَّقت الْمَرْأَة) ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: (إِذا أَعْطَتْ الْمَرْأَة من بَيت زَوجهَا) . قَوْله: (من طَعَام بَيتهَا) ، قيد بِهِ، لِأَنَّهُ يسمح بِهِ عَادَة بِخِلَاف الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن إنفاقها مِنْهَا لَا يجوز إلاَّ بِالْإِذْنِ. قَوْله: (غير مفْسدَة) نصب على الْحَال قيد بِهِ لِأَنَّهَا إِذا كَانَت مفْسدَة بِأَن تجاوزت الْمُعْتَاد فَإِنَّهُ لَا يجوز. قَوْله: (كَانَ لَهَا) أَي: للْمَرْأَة (أجرهَا) أَي لأجل إنفاقها غير مفْسدَة (ولزوجها أجره بِمَا كسب) أَي: بِسَبَب كَسبه، وَالْمعْنَى أَن المشارك فِي الطَّاعَة مشارك فِي الْأجر، وَمعنى المشارك أَن لَهُ أجرا كَمَا لصَاحبه أجر، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يزاحمه فِي أجره، أَو المُرَاد الْمُشَاركَة فِي أصل الثَّوَاب، فَيكون لهَذَا ثَوَاب وَإِن كَانَ أَحدهمَا أَكثر، وَلَا يلْزم أَن يكون مِقْدَار ثوابهما سَوَاء، بل يكون ثَوَاب هَذَا أَكثر وَقد يكون بعكسه. قَوْله: (وللخازن مثل ذَلِك) أَي: مثل ذَلِك الْأجر، والخازن هُوَ الَّذِي يكون بِيَدِهِ حفظ الطَّعَام والمأكول من خَادِم وقهرمان، وَقد قُلْنَا: إِنَّه أَعم من مَمْلُوك وَغَيره، فَإِذا أعْطى الْمَالِك لخازنه أَو امْرَأَته أَو غَيرهمَا مائَة دِرْهَم أَو نَحْوهَا ليوصلها إِلَى مستحقي الصَّدَقَة على بَاب دَاره أَو نَحوه. فأجر الْمَالِك أَكثر، وَإِن أعطَاهُ رمانة أَو رغيفا أَو نَحْوهمَا ليذْهب بِهِ إِلَى مُحْتَاج فِي مَسَافَة بعيدَة بِحَيْثُ يُقَابل مشي الذَّاهِب إِلَيْهِ بِأُجْرَة تزيد على الرمانة والرغيف، فأجر الْوَكِيل أَكثر،، وَقد يكون عمله قدر الرَّغِيف مثلا، فَيكون مِقْدَار الْأجر سَوَاء. فَإِن قلت: روى(8/291)
مُسلم من حَدِيث يزِيد بن عبيد، قَالَ: سَمِعت عُمَيْرًا مولى أبي اللَّحْم قَالَ: أَمرنِي مولَايَ أَن أقدد لَحْمًا، فجَاء مِسْكين فأطعمته مِنْهُ، فَعلم مولَايَ بذلك فضربني، فَأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ ضَربته؟ قَالَ: يُعْطي طَعَامي من غير أَن آمره. فَقَالَ: الْأجر بَيْنكُمَا. قلت: مَعْنَاهُ: بَيْنكُمَا قِسْمَانِ، وَإِن كَانَ أَحدهمَا أَكثر، وَأَشَارَ القَاضِي عِيَاض إِلَى أَنه يحْتَمل أَيْضا أَن يكون سَوَاء، لِأَن الْأجر فضل من الله تَعَالَى، وَلَا يدْرك بِقِيَاس وَلَا هُوَ بِحَسب الْأَعْمَال، وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمُخْتَار الأول. قَوْله: (لَا ينقص بَعضهم أجر بعض شَيْئا) شَيْئا: مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: (لَا ينقص) ، وَقَوله: أجر، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: من أجر بعض، أَو هُوَ مفعول أول لقَوْله: لَا ينقص، لِأَنَّهُ ضد يزِيد وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين، قَالَ تَعَالَى: {فَزَادَهُم الله مَرضا} (الْبَقَرَة: 01) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف النَّاس فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ بَعضهم: هَذَا على مَذْهَب النَّاس بالحجاز، وبغيرها من الْبلدَانِ: إِن رب الْبَيْت قد يَأْذَن لأَهله وَعِيَاله وللخادم فِي الْإِنْفَاق بِمَا يكون فِي الْبَيْت من طَعَام أَو أدام، وَيُطلق أَمرهم فِيهِ إِذا حَضَره السَّائِل وَنزل الضَّيْف، وحضهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على لُزُوم هَذِه الْعَادة وَوَعدهمْ الثَّوَاب عَلَيْهِ، وَقيل: هَذَا فِي الْيَسِير الَّذِي لَا يُؤثر نقصانه وَلَا يظْهر، وَقيل: هَذَا إِذا علم مِنْهُ أَنه لَا يكره الْعَطاء فيعطي مَا لم يجحف، وَهَذَا معنى قَوْله: غير مفْسدَة، وَفرق بَعضهم بَين الزَّوْجَة وَالْخَادِم: بِأَن الزَّوْجَة لَهَا حق فِي مَال الزَّوْج وَلها النّظر فِي بَيتهَا، فَجَاز لَهَا أَن تَتَصَدَّق بِمَا لَا يكون إسرافا، لَكِن بِمِقْدَار الْعَادة، وَمَا يعلم أَنه لَا يؤلم زَوجهَا. فَأَما الْخَادِم فَلَيْسَ لَهُ تصرف فِي مَتَاع مَوْلَاهُ وَلَا حكم، فَيشْتَرط الْإِذْن فِي عَطِيَّة الْخَادِم دون الزَّوْجَة. فَإِن قلت: أَحَادِيث هَذَا الْبَاب جَاءَت مُخْتَلفَة. فَمِنْهَا: مَا يدل على منع الْمَرْأَة أَن تنْفق من بَيت زَوجهَا إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَهُوَ حَدِيث أبي أُمَامَة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، قَالَ: حَدثنَا هناد حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش حَدثنَا شُرَحْبِيل بن مُسلم الْخَولَانِيّ (عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي خطبَته عَام حجَّة الْوَدَاع: لَا تنْفق امْرَأَة شَيْئا من بَيت زَوجهَا إلاَّ بِإِذن زَوجهَا. قيل: يَا رَسُول الله وَلَا الطَّعَام؟ قَالَ: ذَاك أفضل أَمْوَالنَا) . وَقَالَ: حَدِيث حسن وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا. وَمِنْهَا: مَا يدل على الْإِبَاحَة بِحُصُول الْأجر لَهَا فِي ذَلِك، وَهُوَ حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور. وَمِنْهَا: مَا قيد فِيهِ التَّرْغِيب فِي الْإِنْفَاق بِكَوْنِهِ بِطيب نفس مِنْهُ، وبكونها غير مفْسدَة، وَهُوَ حَدِيث عَائِشَة أَيْضا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مَسْرُوق عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أَعْطَتْ الْمَرْأَة من بَيت زَوجهَا بِطيب نفس غير مفْسدَة. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: مَا هُوَ مُقَيّد بِكَوْنِهَا غير مفْسدَة، وَإِن كَانَ من غير أمره، وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تصم الْمَرْأَة وبعلها شَاهد إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأذن فِي بَيته وَهُوَ شَاهد إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَا أنفقت من كَسبه من غير أمره فَإِن نصف أجره لَهُ) . وَمِنْهَا: مَا قيد الحكم فِيهِ بِكَوْنِهِ رطبا، وَهُوَ حَدِيث سعد ابْن أبي وَقاص، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة زِيَاد بن جُبَير (عَن سعد، قَالَ: لما بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء قَامَت امْرَأَة جليلة كَأَنَّهَا من نسَاء مُضر فَقَالَت: يَا نَبِي الله أنأكل من عمل آبَائِنَا وأبنائنا؟) قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأرى فِيهِ (وَأَزْوَاجنَا فَمَا يحل لنا من أَمْوَالهم؟ قَالَ: الرطب تأكليه وتهديه) ، قَالَ أَبُو دَاوُد: الرطب الْخبز والبقل وَالرّطب. قلت: الرطب الأول، بِفَتْح الرَّاء وَالثَّانِي بضَمهَا، وَهُوَ رطب التَّمْر، وَكَذَلِكَ الْعِنَب وَسَائِر الْفَوَاكِه الرّطبَة دون الْيَابِسَة. قلت: كَيْفيَّة الْجمع بَينهمَا أَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف عادات الْبِلَاد وباختلاف حَال الزَّوْج من مسامحته. وَرضَاهُ بذلك أَو كَرَاهَته لذَلِك، وباختلاف الْحَال فِي الشَّيْء الْمُنفق بَين أَن يكون شَيْئا يَسِيرا يتَسَامَح بِهِ، وَبَين أَن يكون لَهُ خطر فِي نفس الزَّوْج يبخل بِمثلِهِ، وَبَين أَن يكون ذَلِك رطبا يخْشَى فَسَاده إِن تَأَخّر، وَبَين أَن يكون يدّخر وَلَا يخْشَى عَلَيْهِ الْفساد.
81 - (بابٌ لاَ صَدَقَةَ إلاَّ عنْ ظَهْرِ غِنَى)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: لَا صَدَقَة إلاَّ عَن ظهر غنى، وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث أخرجه أَحْمد عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيق عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: (لَا صَدَقَة إلاَّ عَن ظهر غنى) ، وَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي الْوَصَايَا تَعْلِيقا، وَلَفظ حَدِيث الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى) . قَالَ الْخطابِيّ: الظّهْر قد يُزَاد فِي مثل(8/292)
هَذَا إشباعا للْكَلَام وَالنَّفْي فِيهِ للكمال لَا للْحَقِيقَة، وَالْمعْنَى: لَا صَدَقَة كَامِلَة إلاَّ عَن ظهر غنى، وَالظّهْر مُضَاف إِلَى غنى وَهُوَ بِكَسْر الْغَيْن مَقْصُورا ضد الْفقر، قَالَ ابْن قرقول، وَمِنْه خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى، أَي: مَا أبقت غنى. قيل: مَعْنَاهُ الصَّدَقَة بِالْفَضْلِ عَن قوت عِيَاله وَحَاجته، وَقَالَ الْخطابِيّ: أفضل الصَّدَقَة مَا أخرجه الْإِنْسَان من مَال بعد أَن يستبقي مِنْهُ قدر الْكِفَايَة لأَهله وَعِيَاله، وَلذَلِك يَقُول: وابدأ بِمن تعول. وَقَالَ محيي السّنة: أَي: غنى مستظهر بِهِ على النوائب الَّتِي تنوبه.
وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهْوَ مُحْتَاجٌ أوْ أهْلُهُ مُحْتَاجٌ أوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فالدَّيْنُ أحَقُّ أنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ والعِتْقِ والهِبَةِ وَهْوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أنْ يُتْلِفَ أمْوَالَ النَّاسِ
هَذَا كُله من التَّرْجَمَة وَقع تَفْسِيرا لقَوْله: (لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى) ، وَالْمعْنَى أَن شَرط التَّصَدُّق أَن لَا يكون مُحْتَاجا وَلَا أَهله مُحْتَاجا وَلَا يكون عَلَيْهِ دين فَإِذا كَانَ عَلَيْهِ دين فَالْوَاجِب أَن يقْضِي دينه، وَقَضَاء الدّين أَحَق من الصَّدَقَة وَالْعِتْق وَالْهِبَة لِأَن الِابْتِدَاء بالفرائض قبل النَّوَافِل، وَلَيْسَ لأحد إِتْلَاف نَفسه وَإِتْلَاف أَهله وإحياء غَيره، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إحْيَاء غَيره بعد إحْيَاء نَفسه وَأَهله إِذْ هما أوجب عَلَيْهِ من حق سَائِر النَّاس. قَوْله: (وَهُوَ مُحْتَاج) جملَة إسمية وَقعت حَالا، والجملتان بعْدهَا أَيْضا حَال. قَوْله: (فالدين أَحَق) جَزَاء الشَّرْط، وَفِيه مَحْذُوف أَي: فَهُوَ أَحَق وَأَهله أَحَق وَالدّين أَحَق. قَوْله: (وَهُوَ رد) أَي: غير مَقْبُول، لِأَن قَضَاء الدّين وَاجِب وَالصَّدَََقَة تطوع وَمن أَخذ دينا وَتصدق بِهِ وَلَا يجد مَا يقْضِي بِهِ الدّين فقد دخل تَحت وَعِيد من أَخذ أَمْوَال النَّاس، وَمُقْتَضى قَوْله: (وَهُوَ رد عَلَيْهِ) أَن يكون الدّين الْمُسْتَغْرق مَانِعا من صِحَة التَّبَرُّع، لَكِن هَذَا لَيْسَ على الْإِطْلَاق وَإِنَّمَا يكون مَانِعا إِذا حجر عَلَيْهِ الْحَاكِم، وَأما قبل الْحجر فَلَا يمْنَع، كَمَا تقرر ذَلِك فِي مَوْضِعه فِي الْفِقْه، فعلى هَذَا إِمَّا يحمل إِطْلَاق البُخَارِيّ عَلَيْهِ أَو يكون مذْهبه أَن الدّين الْمُسْتَغْرق يمْنَع مُطلقًا، وَلَكِن هَذَا خلاف مَا قَالَه الْعلمَاء، حَتَّى إِن ابْن قدامَة وَغَيره نقلوا الْإِجْمَاع على أَن الْمَنْع إِنَّمَا يكون بعد الْحجر.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُريدُ إتْلاَفَهَا أتْلَفَهُ الله
هَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة، قد ذكر فِيهَا خَمْسَة أَحَادِيث معلقَة هَذَا أَولهَا وَهَذَا طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَصله البُخَارِيّ فِي الاستقراض فِي: بَاب من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أداءها أَو إتلافها: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عبد الله الأويسي حَدثنَا سُلَيْمَان عَن بِلَال (عَن ثَوْر بن زيد عَن أبي الْغَيْث عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أَخذ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أداءها أدّى الله عَنهُ، وَمن أَخذهَا يُرِيد إتلافها أتْلفه الله) .
إلاَّ أنْ يَكُونَ مَعْرُوفا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ ولَوْ كانَ بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ
قَوْله: (إلاَّ أَن يكون) من كَلَام البُخَارِيّ، وَهُوَ اسْتثِْنَاء من التَّرْجَمَة أَو من لفظ: من تصدق وَهُوَ مُحْتَاج، أَي: فَهُوَ أَحَق إلاَّ أَن يكون مَعْرُوفا بِالصبرِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَهُ أَن يُؤثر غَيره على نَفسه وَيتَصَدَّق بِهِ، وَإِن كَانَ غير غَنِي أَو مُحْتَاجا إِلَيْهِ. قَوْله: (خصَاصَة) أَي: فقر وخلل. قَوْله: (كَفعل أبي بكر حِين تصدق بِمَالِه) أَي: بِجَمِيعِ مَاله، لِأَنَّهُ كَانَ صَابِرًا، وَقد يُقَال: تخلي أبي بكر عَن مَاله كَانَ عَن ظهر غنى، لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيا بِقُوَّة توكله، وَتصدق أبي بكر بِجَمِيعِ مَاله مَشْهُور فِي السّير، وَورد فِي حَدِيث مَرْفُوع أخرجه أَبُو دَاوُد وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق زيد بن أسلم: سَمِعت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نتصدق فَوَافَقَ ذَلِك مَالا عِنْدِي، فَقلت: الْيَوْم أسبق أَبَا بكر إِن سبقته يَوْمًا، فَجئْت بِنصْف مَالِي وأتى أَبُو بكر بِكُل مَا عِنْده، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا بكر مَا أبقيت لأهْلك؟ قَالَ: أبقيت لَهُم الله وَرَسُوله) . وَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيره، قَالَ الْجُمْهُور: من تصدق بِمَالِه كُله فِي صِحَة بدنه وعقله حَيْثُ لَا دين عَلَيْهِ وَكَانَ صبورا على الْإِضَافَة، وَلَا عِيَال لَهُ، أَو لَهُ عِيَال يصبرون أَيْضا. فَهُوَ جَائِز، فَإِن فقد شَيْئا من هَذِه الشُّرُوط كره. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مَرْدُود، وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَيْثُ رد على غيلَان الثَّقَفِيّ قسْمَة مَاله، وَقَالَ آخَرُونَ: يجوز من الثُّلُث، وَيرد عَلَيْهِ الثُّلُثَانِ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَمَكْحُول، وَعَن مَكْحُول أَيْضا(8/293)
يرد مَا زَاد على النّصْف.
وكَذالِكَ آثَرَ الأنْصَارُ المُهَاجِرِينَ
هَذَا ثَالِث الْأَحَادِيث الْمُعَلقَة، وَهُوَ أَيْضا مَشْهُور فِي السّير، وَفِيه أَحَادِيث مَرْفُوعَة. مِنْهَا: حَدِيث أنس: قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِم شَيْء فقاسمهم الْأَنْصَار. وَأخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي حَدِيث طَوِيل من كتاب الْهِبَة فِي: بَاب فضل المنيحة. وَذكر ابْن إِسْحَاق وَغَيره أَن الْمُهَاجِرين لما نزلُوا على الْأَنْصَار آثروهم حَتَّى قَالَ بَعضهم لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف: انْزِلْ لَك عَن إِحْدَى امْرَأَتي.
ونَهاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ إضَاعَةِ المَالِ فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُضَيِّعَ أمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ
هَذَا رَابِع الْأَحَادِيث الْمُعَلقَة، وَهُوَ طرف من حَدِيث الْمُغيرَة، وَقد مضى بِتَمَامِهِ فِي أَوَاخِر صفة الصَّلَاة.
وَقَالَ كَعْبٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قُلْتُ يَا رسولَ الله إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مالِي صَدَقَةً إلَى الله وَإلَى رَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مالِكَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ فإنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ
هَذَا خَامِس الْأَحَادِيث الْمُعَلقَة فَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل فِي تَوْبَة كَعْب بن مَالك، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِير التَّوْبَة، وَكَعب هَذَا شهد الْعقبَة الثَّانِيَة وَهُوَ أحد شعراء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأحد الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك، مَاتَ سنة خمسين. قَوْله: (من تَوْبَتِي) أَي: من تَمام تَوْبَتِي. قَوْله: (إِلَى الله) أَي: صَدَقَة منتهية إِلَى الله، وَإِنَّمَا منع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَعْبًا عَن صرف كل مَاله وَلم يمْنَع أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيد الصَّبْر قوي التَّوَكُّل، وَكَعب لم يكن مثله.
6241 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كانَ عنْ ظَهْرِ غِنىً وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى مُتَوَجّه. وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة، وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب قَوْله: (وابدأ بِمن تعول) أَي: بِمن يجب عَلَيْك نَفَقَته، وعال الرجل أَهله: إِذا مانهم أَي: قَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْقُوت وَالْكِسْوَة وَغَيرهمَا.
31 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا وهيب قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه عَن حَكِيم بن حزَام رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى وابدأ بِمن تعول وَخير الصَّدَقَة عَن ظهر غنى وَمن يستعفف يعفه الله وَمن يسْتَغْن يُغْنِيه الله) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَخير الصَّدَقَة عَن ظهر غنى ". وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة ووهيب مصغر وهب بن خَالِد وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير وَحَكِيم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة بن حزَام بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الزَّاي الْأَسدي الْمَكِّيّ ولد فِي بَاطِن الْكَعْبَة عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ وَفِي الْإِسْلَام أَيْضا سِتِّينَ وَأعْتق مائَة رَقَبَة وَحمل على مائَة بعير فِي الْجَاهِلِيَّة وَحج فِي الْإِسْلَام وَمَعَهُ مائَة بَدَنَة ووقف بِعَرَفَة بِمِائَة رَقَبَة فِي أَعْنَاقهم أطواق الْفضة منقوش فِيهَا عُتَقَاء الله عَن حَكِيم بن حزَام وَأهْدى ألف شَاة وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ أَو أَربع وَخمسين (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى " وَقد فسر الْعليا والسفلى فِي حَدِيث ابْن عمر على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَن الْيَد الْعليا هِيَ المنفقة والسفلى هِيَ السائلة وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث مَالك بن أنس عَن(8/294)
نَافِع عَن عبد الله بن عمر وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ فِيهِ أقوالا. الأول أَن الْعليا يَد الْمُعْطِي للصدقة. وَالثَّانِي هِيَ يَد الْآخِذ. وَالثَّالِث هِيَ الْيَد المتعففة. وَالرَّابِع أَن الْعليا يَد الله ويليها يَد الْمُعْطِي وَيَد السَّائِل هِيَ السُّفْلى وَقَالَ عِيَاض قيل الْعليا الآخذة. والسفلى الْمَانِعَة وَقيل الْيَد هُنَا النِّعْمَة فَكَانَ الْمَعْنى أَن الْعَطِيَّة الجزيلة خير من الْعَطِيَّة القليلة وَهَذَا حث على المكارم بأوجز لفظ وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عَطِيَّة السَّعْدِيّ وَفِيه " إِن الْيَد المعطية هِيَ الْعليا وَإِن السائلة هِيَ السُّفْلى " وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار بِلَفْظ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " الْيَد المعطية خير من الْيَد السُّفْلى " وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عدي الجذامي وَفِي حَدِيثه " يَا أَيهَا النَّاس تعلمُوا فَإِنَّمَا الْأَيْدِي ثَلَاثَة فيد الله الْعليا وَيَد الْمُعْطِي الْوُسْطَى وَيَد الْمُعْطى السُّفْلى فتعففوا وَلَو بحزم الْحَطب أَلا هَل بلغت ". وروى أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي رمثة بِلَفْظ يدل الْمُعْطِي الْعليا وروى عَليّ بن عَاصِم عَن إِبْرَاهِيم الهجري عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَيْدِي ثَلَاثَة يَد الله الْعليا وَيَد الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَد السَّائِل أَسْفَل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ الْبَيْهَقِيّ تَابع عليا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن الهجري على رَفعه وَرَوَاهُ جَعْفَر بن عون عَن الهجري فَوَقفهُ وَقَالَ الْحَاكِم حَدِيث مَحْفُوظ مَشْهُور وخرجه وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله تَعَالَى الصَّوَاب أَن الْعليا هِيَ المعطية كَمَا تشهد بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَقَالَ الْخطابِيّ وَقد يتَوَهَّم كثير من النَّاس أَن معنى الْعليا هُوَ أَن يَد الْمُعْطِي المستعلية فَوق يَد الْآخِذ يجعلونه من علو الشَّيْء إِلَى فَوق قَالَ وَلَيْسَ ذَلِك عِنْدِي بِالْوَجْهِ وَإِنَّمَا هُوَ من عَلَاء الْمجد وَالْكَرم يرِيه بِهِ الترفع عَن المساءلة وَالتَّعَفُّف عَنْهَا وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ لَا يمْتَنع أَن يحمل على مَا أنكرهُ الْخطابِيّ لِأَنَّهُ إِذا حملت الْعليا على المتعففة لم يكن للمنفق ذكر وَقد صحت لَفْظَة المنفقة فَكَانَ المُرَاد أَن هَذِه الْيَد الَّتِي علت وَقت الْعَطاء على يَد السَّائِل هِيَ الْعَالِيَة فِي بَاب الْفضل قَوْله " وابدأ بِمن تعول " قد مر تَفْسِيره عَن قريب وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق طَارق الْمحَاربي وَلَفظه " قدمنَا الْمَدِينَة فَإِذا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَائِم على الْمِنْبَر يخْطب النَّاس وَهُوَ يَقُول يَد الْمُعْطِي الْعليا وابدأ بِمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثمَّ أدناك أدناك " وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تصدقوا فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله عِنْدِي دينا فَقَالَ تصدق بِهِ على نَفسك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ تصدق بِهِ على زَوجتك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ تصدق بِهِ على ولدك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ تصدق بِهِ على خادمك قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ أَنْت أبْصر " وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه هَكَذَا وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَصَححهُ بِتَقْدِيم الْوَلَد على الزَّوْجَة قَالَ الْخطابِيّ إِذا تَأَمَّلت هَذَا التَّرْتِيب علمت أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم الأولى فَالْأولى وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَهُوَ يَأْمُرهُ أَن يبْدَأ بِنَفسِهِ ثمَّ بولده لِأَن الْوَلَد كبعضه فَإِذا ضيعه هلك وَلم يجد من يَنُوب عَنهُ فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ ثمَّ ثلث بِالزَّوْجَةِ وأخرجها عَن دَرَجَة الْوَلَد لِأَنَّهُ إِذا لم يجد مَا ينْفق عَلَيْهَا فرق بَينهمَا وَكَانَ لَهَا مَا يمونها من زوج أَو ذِي محرم تجب نَفَقَتهَا عَلَيْهِ ثمَّ ذكر الْخَادِم لِأَنَّهُ يُبَاع عَلَيْهِ إِذا عجز عَن نَفَقَته انْتهى كَلَام الْخطابِيّ وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين وَقد اقْتضى اخْتِيَاره تَقْدِيم الْوَلَد وَهُوَ احْتِمَال للْإِمَام وَوجه فِي الْوَلَد الطِّفْل وَالَّذِي أطبق عَلَيْهِ الْأَصْحَاب كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة تَقْدِيم الزَّوْجَة لِأَن نَفَقَتهَا آكِد لِأَنَّهَا لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلَا بالإعسار وَلِأَنَّهَا وَجَبت عوضا وَاعْترض الإِمَام بِأَن نَفَقَتهَا إِذا كَانَت كَذَلِك كَانَت كالديون وَنَفَقَة الْقَرِيب فِي مَال الْمُفلس مُقَدّمَة على الدُّيُون وَخرج لذَلِك احْتِمَالا فِي تَقْدِيم الْقَرِيب وأيده بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ تَقْدِيم الْوَلَد وَإِذ قد اخْتلفت الرِّوَايَتَانِ وَكِلَاهُمَا من رِوَايَة ابْن عجلَان عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة فيصار إِلَى التَّرْجِيح وَقد اخْتلف على حَمَّاد بن زيد فَقدم السُّفْيانَانِ وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل وروح بن الْقَاسِم عَن حَمَّاد ذكر الْوَلَد على الزَّوْجَة وَهِي رِوَايَة الشَّافِعِي فِي الْمسند وَأبي دَاوُد وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك وَصَححهُ وَقدم اللَّيْث وَيحيى الْقطَّان عَن حَمَّاد الزَّوْجَة على الْوَلَد وَهِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَعند ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ ذكر الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيح رِوَايَة تَقْدِيم الْوَلَد على الزَّوْجَة كَمَا قَالَه الْخطابِيّ وخرجه الإِمَام احْتِمَالا (قلت) كَيفَ طَابَ للنووي تَقْدِيم الزَّوْجَة على الْوَلَد وَالْولد بضعَة من الْأَب وَالزَّوْجَة أَجْنَبِيَّة ثمَّ يُعلل مَا قَالَه بقوله لِأَن نَفَقَتهَا آكِد لِأَنَّهَا لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلَا بالإعسار وَهَذَا أَيْضا عَجِيب مِنْهُ لِأَن نَفَقَتهَا صلَة فِي نفس الْأَمر وَهِي على شرف السُّقُوط وَنَفَقَة الْوَلَد حتم لَا تسْقط بِشَيْء قَوْله " وَمن يستعفف " من الاستعفاف(8/295)
وَهُوَ طلب الْعِفَّة وَهِي الْكَفّ عَن الْحَرَام وَالسُّؤَال من النَّاس وَقيل الاستعفاف الصَّبْر والنزاهة عَن الشَّيْء قَوْله " يعفه الله " بِضَم الْيَاء من الإعفاف وَمَعْنَاهُ يصيره عفيفا قَوْله " وَمن يسْتَغْن يغنه الله " شَرط وَجَزَاء وعلامة الْجَزْم حذف الْيَاء أَي من يطْلب الْغنى من الله يُعْطه
(وَعَن وهيب قَالَ أخبرنَا هِشَام عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ بِهَذَا) هَذَا مَعْطُوف على إِسْنَاد حَدِيث حَكِيم كَأَنَّهُ قَالَ حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا وهيب حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن أبي هُرَيْرَة بِهَذَا أَي بِحَدِيث حَكِيم بن حزَام وَزعم أَبُو مَسْعُود وَخلف وَأَبُو نعيم أَن البُخَارِيّ روى حَدِيث وهيب الْمَذْكُور آخرا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَنهُ (قلت) هَذَا يدل على أَنه حمله عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَنهُ بالطريقين مَعًا فَكَانَ هشاما حدث بِهِ وهيبا تَارَة عَن أَبِيه عَن حَكِيم وَتارَة عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَو حدث بِهِ عَنْهُمَا مجموعا ففرقه وهيب أَو الرَّاوِي عَنهُ وَقد وصل الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ أَخْبرنِي ابْن ياسين حَدثنَا مُحَمَّد بن سُفْيَان حَدثنَا حبَان هُوَ ابْن هِلَال حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ مثل حَدِيث حَكِيم بن حزَام وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث بَيَان بن بشر عَن قيس بن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة " الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى وابدأ بِمن تعول " وَقَالَ حسن صَحِيح غَرِيب يستغرب من حَدِيث بَيَان عَن قيس -
9241 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ ابنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَة عنْ مالِكٍ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَهْوَ علَى المِنْبَرِ وذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ والمَسْألَةَ اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى فالْيَدُ العُلْيَا هِيَ المنْفِقَةُ والسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَذكر الصَّدَقَة) لِأَن مَعْنَاهُ: ذكر أَحْكَام الصَّدَقَة، وَمن جملَة أَحْكَامهَا: لَا صَدَقَة إلاَّ عَن ظهر غِنىً. وَقد تعسف بَعضهم فِي ذكر الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة بِمَا يستبعده من لَهُ نوع إِلْمَام من هَذَا الْفَنّ.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: أَيُّوب ابْن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن مسلمة. السَّادِس: مَالك بن أنس. السَّابِع: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَبَا النُّعْمَان وَحَمَّاد وَأَيوب بصريون وَنَافِع وَمَالك مدنيان وَعبد الله بن مسلمة مدنِي سكن الْبَصْرَة. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: طَرِيقَانِ: طَرِيق أبي النُّعْمَان، وَطَرِيق عبد الله بن مسلمة، وَفِي بعض طرقه: المتعففة، بدل: المنفقة. قَالَ: اخْتلف على أَيُّوب عَن نَافِع فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ عبد الْوَارِث: الْيَد الْعليا المتعففة، وَقَالَ أَكْثَرهم، عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب: الْيَد الْعليا المنفقة. وَقَالَ وَاحِد: المتعففة، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: قلت: بل قَالَه عَن حَمَّاد اثْنَان: أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد الزهْرَانِي كَمَا روينَاهُ فِي (كتاب الزَّكَاة) ليوسف بن يَعْقُوب القَاضِي، وَالْآخر: مُسَدّد كَمَا رَوَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) . وَرَوَاهُ أَيْضا عَن نَافِع مُوسَى بن عقبَة فَاخْتلف عَلَيْهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَنهُ: المتعففة، وَقَالَ حَفْص بن ميسرَة عَنهُ: المنفقة، رويناهما كَذَلِك فِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ) وَرجح الْخطابِيّ فِي (المعالم) رِوَايَة المتعففة، فَقَالَ: إِنَّهَا أشبه وَأَصَح فِي الْمَعْنى، وَذَلِكَ أَن ابْن عمر قَالَ فِيهِ وَهُوَ يذكر الصَّدَقَة وَالتَّعَفُّف، فعطف الْكَلَام على سنَنه الَّذِي خرج عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يطابقه فِي مَعْنَاهُ أولى، وَرجح ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) رِوَايَة المنفقة، فَقَالَ: إِنَّهَا أولى وأشبه بِالصَّوَابِ من قَول من قَالَ: المتعففة، وَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن عَارِم عَن حَمَّاد بن زيد. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : إِنَّه الصَّحِيح، قَالَ: وَيحْتَمل صِحَة الرِّوَايَتَيْنِ فالمنفقة أَعلَى من السائلة، والمتعففة أولى من السائلة.(8/296)
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن يحيى وقتيبة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ على الْمِنْبَر) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (وَذكر الصَّدَقَة) ، جملَة فعلية وَقعت حَالا. قَوْله: (وَالْمَسْأَلَة) بواو الْعَطف على مَا قبله، وَفِي رِوَايَة مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى: عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالتَّعَفُّف عَن الْمَسْأَلَة. وَلأبي دَاوُد، رَحمَه الله تَعَالَى: وَالتَّعَفُّف مِنْهَا، أَي: من أَخذ الصَّدَقَة. وَالْمعْنَى: أَنه كَانَ يحض الْغنى على الصَّدَقَة وَالْفَقِير على التعفف عَن الْمَسْأَلَة، إو يحضه على التعفف ويذم على الْمَسْأَلَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: كَرَاهَة السُّؤَال إِذا لم يكن عَن ضَرُورَة نَحْو الْخَوْف من هَلَاكه وَنَحْوه، وَقَالَ أَصْحَابنَا: من لَهُ قوت يَوْم فسؤاله حرَام. وَفِيه: الْغَنِيّ الشاكر أفضل من الْفَقِير، وَفِيه خلاف. وَفِيه: إِبَاحَة الْكَلَام للخطيب بِكُل مَا يصلح من موعظة وَعلم وقربة. وَفِيه: الْحَث على الصَّدَقَة والإنفاق فِي وُجُوه الطَّاعَة.
91 - (بابُ المَنَّانِ بِمَا أعْطَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ المنان بِمَا أعْطى أَي: بِمَا أعطَاهُ، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن لفظ المنان يشْعر بالذم لِأَنَّهُ لَا يذكر إلاَّ فِي مَوضِع الذَّم فِي حق بني آدم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) . فَإِذا كَانَ الْمَنّ مُبْطلًا للصدقات يكون من الْأَشْيَاء الذميمة. قَالَ ابْن بطال: الامتنان مُبْطل لأجر الصَّدَقَة. قَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يكون الْمَنّ غَالِبا إلاَّ عَن الْبُخْل وَالْكبر وَالْعجب ونسيان منَّة الله تَعَالَى فِيمَا أنعم الله عَلَيْهِ، فالبخيل تعظم فِي نَفسه الْعَطِيَّة، وَإِن كَانَت حقيرة فِي نَفسهَا، وَالْعجب يحملهُ على النّظر لنَفسِهِ بِعَين العظمه وَأَنه منعم بِمَالِه عَن الْمُعْطِي، وَالْكبر يحملهُ على أَن يحقر الْمُعْطى لَهُ وَإِن كَانَ فِي نَفسه فَاضلا، وَمُوجب ذَلِك كُله الْجَهْل ونسيان منَّة الله تَعَالَى فِيمَا أنعم عَلَيْهِ، وَلَو نظر مصيره لعلم أَن الْمِنَّة للآخذ لما يزِيل عَن الْمُعْطِي من إِثْم الْمَنْع وذم الْمَانِع وَلما يحصل لَهُ من الْأجر الجزيل وَالثنَاء الْجَمِيل. انْتهى. وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالوعيد الشَّديد فِي حق المنان فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة: المنان الَّذِي لَا يُعْطي شَيْئا إِلَّا منَّة، والمنفق سلْعَته بِالْحلف، والمسبل إزَاره) . وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأبي أُمَامَة بن ثَعْلَبَة وَعمْرَان بن حُصَيْن وَمَعْقِل بن يسَار. فَإِن قلت: لم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يتَّفق لَهُ حَدِيث على شَرطه، فَلذَلِك اكْتفى بِذكر الْآيَة الْمَذْكُورَة. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي يُقَارب شَرطه حَدِيث أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي ذَر مَرْفُوعا. قلت: هَذَا كَلَام غير موجه، لِأَنَّهُ كَيفَ يُشِير إِلَى شَيْء لَيْسَ بموجود وَالْإِشَارَة إِنَّمَا تكون للحاضر؟ وَلِهَذَا لم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده بِغَيْر حَدِيث.
لِقَوْلِهِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أنْفَقُوا} (الْبَقَرَة: 262) . الْآيَة.
علل التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الْآيَة، وَوجه ذَلِك أَن الله تَعَالَى مدح الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبيله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا من الْخيرَات وَالصَّدقَات منّا على مَا أَعْطوهُ، وَلَا يمنون بِهِ على أحد لَا بقول وَلَا بِفعل، وَالَّذين يتبعُون مَا أَنْفقُوا منّا وأذىً يكونُونَ مذمومين وَلَا يسْتَحقُّونَ من الْخيرَات مَا يسْتَحق الَّذين لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منّا وَلَا أَذَى، فَيكون وَجه التَّعْلِيل هَذَا، وَالشَّيْء يتَبَيَّن بضده، قَوْله: (وَلَا أَذَى) أَي: وَلَا يَفْعَلُونَ مَعَ من أَحْسنُوا إِلَيْهِ مَكْرُوها يحبطون بِهِ مَا سلف من الْإِحْسَان، ثمَّ وعدهم الله بالجزاء الْجَمِيل على ذَلِك، فَقَالَ: لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم، أَي: ثوابهم على الله لَا على أحد سواهُ، وَلَا خوف عَلَيْهِم فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ من أهوال الْقِيَامَة وَلَا هم يَحْزَنُونَ، أَي: على مَا خلفوه من الْأَوْلَاد وَلَا مَا فاتهم من الْحَيَاة الدُّنْيَا وزهرتها، وَذكر الواحدي عَن الْكَلْبِيّ، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، جَاءَ عبد الرَّحْمَن إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، نصف مَاله، وَقَالَ عُثْمَان: عَليّ جهاز من لَا جهاز لَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك، فَجهز الْمُسلمين بِأَلف بعير بأقتابها وأحلاسها، فَنزلت فيهمَا هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وَالله أعلم. وَقَالَ ابْن بطال: ذكر أهل التَّفْسِير أَنَّهَا نزلت فِي الَّذِي يُعْطي مَاله الْمُجَاهدين فِي(8/297)
سَبِيل الله تَعَالَى مَعُونَة لَهُم على جِهَاد الْعَدو، ثمَّ يمن عَلَيْهِم بِأَنَّهُ قد صنع إِلَيْهِم مَعْرُوفا إِمَّا بِلِسَان أَو بِفعل، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يمن بِهِ على أحد، لِأَن ثَوَابه على الله تَعَالَى.
02 - (بابُ مَنْ أحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من أحب تَعْجِيل الصَّدَقَة وَلم يؤخرها من وَقتهَا، ثمَّ الصَّدَقَة أَعم من أَن تكون من الصَّدقَات الْمَفْرُوضَة أَو من صدقَات التَّطَوُّع، فعلى، فعلى كل حَال خِيَار الْبر عاجله.
0341 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدٍ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ عُقْبَةَ بنَ الحَارِثِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ قَالَ صَلَّى بِنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَصْرَ فأسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ البَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أوْ قِيلَ لَهُ فَقَالَ كنْتُ خَلَّفْتُ فِي البَيْتِ تِبْرا مِنَ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فرغ من صلَاته أسْرع وَدخل الْبَيْت وَفرق تبرا كَانَ فِيهِ، ثمَّ أخبر أَنه كره تبييته عِنْده، فَدلَّ ذَلِك على اسْتِحْبَاب تَعْجِيل الصَّدَقَة. والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ، فَذكر حَاجَة فتخطاهم، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن عبيد عَن عِيسَى بن يُونُس، وَهَهُنَا رَوَاهُ: عَن أبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد عَن عمر بن سعيد النَّوْفَلِي الْقرشِي الْمَكِّيّ عَن عبد الله بن أبي مليكَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. والتبر جمع تبرة، وَهِي الْقطعَة من الذَّهَب أَو الْفضة غير مصوغة، وَقيل: قطع الذَّهَب فَقَط. قَوْله: (إِن أبيته) أَي: أتركه يدْخل عَلَيْهِ اللَّيْل.
12 - (بابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ والشَّفَاعَةِ فِيهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب التحريض على الصَّدَقَة، وَبَيَان: ثَوَاب الشَّفَاعَة فِي الصَّدَقَة، وَمعنى الشَّفَاعَة فِي الصَّدَقَة السُّؤَال والتقاضي للإجابة.
1341 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَدِيٌّ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى ركْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ مالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلالٌ فَوعَظَهُنَّ وأمَرَهُنَّ أنْ يتَصَدَّقْنَ فجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي القُلْبَ والخُرْصَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فوعظهن وأمرهن أَن يتصدقن) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما وعظهن بمواعظ حرضهن فِيهَا أَيْضا على الصَّدَقَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الْخطْبَة بعد الْعِيد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت ... إِلَى آخِره، وَبَين متنيهما بعض التَّفَاوُت، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (الْقلب) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَهُوَ: السوار، وَقيل: هُوَ مَخْصُوص بِمَا كَانَ من عظم (والخرص) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة: الْحلقَة.
2341 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا أبُو بُرْدَةَ بنُ عَبْدِ الله بن أبِي بُرْدَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو بُرْدَةَ بنُ أبِي مُوسى عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا جاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حاجَةٌ قَالَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ويَقْضِي الله عَلى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شَاءَ.
.(8/298)
مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشفعوا) حِين يَجِيء سَائل أَو طَالب حَاجَة. .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد. الثَّالِث: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء: ابْن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. الرَّابِع: أَبُو بردة أَيْضا، بِضَم الْبَاء: اسْمه عَامر، وَقيل: الْحَارِث. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَبُو بردة الأول الَّذِي اسْمه بريد يرْوى عَن جده أبي بردة الَّذِي اسْمه عَامر أَو حَارِث وَهُوَ يروي عَن أَبِيه عبد الله بن قيس وَفِيه الرِّوَايَة عَن الْأَب وَعَن الْجد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَعبد الْوَاحِد بصريان والبقية كوفيون. وَفِيه: المكنى بِأبي بردة اثْنَان وهما الْأَب وجده كل مِنْهُمَا كنيته أَبُو بردة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب وَفِي التَّوْحِيد عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة وَعَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي بكر عَن عَليّ بن مسْهر وَحَفْص بن غياث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَفِي السّنة عَن أبي معمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن الْحسن بن عَليّ الْحَلَال ومحمود بن غيلَان وَغير وَاحِد، كلهم عَن أبي أُسَامَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَو طلبت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (اشفعوا) ، وَفِي رِوَايَة أبي الْحسن: (شفعوا) ، بِحَذْف الْألف ليشفع بَعْضكُم فِي بعض يكن لكم الْأجر فِي ذَلِك، وأنكم إِذا شفعتم إِلَيّ فِي حق طَالب الْحَاجة فَقضيت حَاجته بِمَا يقْضِي الله على لساني فِي تَحْصِيل حَاجته حصل للسَّائِل الْمَقْصُود، وَلكم الْأجر، والشفاعة مرغب فِيهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا} (النِّسَاء: 58) . قَوْله: (وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ) ، بَيَان أَن السَّاعِي مأجور على كل حَال، وَإِن خَابَ سَعْيه، قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَالله فِي عون العَبْد مَا كَانَ العَبْد فِي عون أَخِيه) . وَلَا يَأْبَى كَبِير أَن يشفع عِنْد صَغِير فَإِن شفع عِنْده وَلم يقضها لَهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يُؤْذِي الشافع، فقد شفع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد بُرَيْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِترد زَوجهَا فَأَبت.
3341 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قَالَ أخبرنَا عبْدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ فَاطِمَةَ عنْ أسْمَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الإيكاء، وَهُوَ لَا يفعل إلاَّ للإدخار، فَكَانَ الْمَعْنى: لَا تدخري وتصدقي.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: صَدَقَة بن الْفضل أَبُو الْفضل، مر فِي: بَاب الْعلم. الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير. الرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير. الْخَامِس: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَعَبدَة كُوفِي والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَفِي الْهِبَة عَن عبيد الله ابْن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن هناد عَن عَبدة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا توكي) من أوكى يوكي إيكاءً، يُقَال: أوكى مَا فِي سقائه إِذا شده بالوكاء، وَهُوَ الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة، وأوكى علينا أَي: بخل. وَفِي (التَّلْوِيح) قَوْله: (لَا توكي) أَي: لَا تدخري وتمنعي مَا فِي يدك. قلت: هَذَا لَيْسَ بتفسيره لُغَة، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَا توكي للادخار. قَوْله: (فيوكى عَلَيْك) بِفَتْح الْكَاف: فيوكى، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة مُسلم (فيوكي الله عَلَيْك) ، وَالْمعْنَى: لَا توكي مَالك عَن الصَّدَقَة خشيَة نفاده فيوكي الله عَلَيْك أَو يمنعك وَيقطع مَادَّة الرزق عَنْك.(8/299)
فَدلَّ الحَدِيث على أَن الصَّدَقَة تنمي المَال وَتَكون سَببا إِلَى الْبركَة وَالزِّيَادَة فِيهِ وَأَن من شح وَلم يتَصَدَّق فَإِن الله يوكي عَلَيْهِ ويمنعه من الْبركَة فِي مَاله والنماء فِيهِ.
حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ عنْ عَبْدَةَ وَقَالَ لَا تُحْصَى فَيُحْصِيَ الله عَلَيْكِ
هَذَا طَرِيق آخر عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن عَبدة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَالظَّاهِر أَن عَبدة روى الحَدِيث باللفظين أَحدهمَا: (لَا توكي فيوكى عَلَيْك) ، وَالْآخر: (لَا تحصى فيحصي الله عَلَيْك) ، وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام باللفظين مَعًا، وَسَيَأْتِي فِي الْهِبَة عِنْد البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن نمير عَن هِشَام باللفظين، لَكِن لَفظه: لَا توعي، بِعَين مُهْملَة بدل: لَا توكى، من: أوعيت الْمَتَاع فِي الْوِعَاء أوعيه، إِذا جعلته فِيهِ. ووعيت الشَّيْء حفظته. قَوْله: (لَا تحصى) من الإحصاء، وَهُوَ معرفَة قدر الشَّيْء أَو وَزنه أَو عدده، وَهَذَا مُقَابلَة اللَّفْظ بِاللَّفْظِ، وتجنيس الْكَلَام فِي مثله فِي جَوَابه أَي: يمنعك كَمَا منعت، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} (آل عمرَان: 45) . وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تحصي مَا تُعْطِي فتستكثريه فَيكون سَببا لانقطاعه. وَقيل: قد يُرَاد بالإحصاء والوعي عَنَّا عده خوف أَن تَزُول الْبركَة مِنْهُ، كَمَا قَالَت عَائِشَة: حَتَّى كلناه، ففني. وَقيل: إِن عَائِشَة عددت مَا أنفقته فَنَهَاهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ذَلِك.
22 - (بابُ الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تنبغي فِي قدر مَا اسْتَطَاعَ الْمُتَصَدّق.
4341 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ وحدَّثني محَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عنْ حَجَّاجِ بنِ مُحَمَّدٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ. قَالَ أَخْبرنِي ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ عَبَّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُ عنْ أسْمَاءَ بنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّهَا جاءَتْ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لاَ تُوعِى فَيُوعِيَ الله عَلَيْكِ ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ارضخي مَا اسْتَطَعْت) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم. الرَّابِع: حجاج بن مُحَمَّد الْأَعْوَر. الْخَامِس: عبد الله بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم. السَّادِس: عباد بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام من سَادَات التَّابِعين. السَّابِع: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: صِيغَة الْإِخْبَار عَن مَاض مُفْرد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه بغدادي وَابْن جريج مكي وحجاج ابْن مُحَمَّد ترمذي سكن المصيصة وَابْن أبي مليكَة وَعباد مكيان. . وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة وَالْهِبَة عَن أبي عَاصِم. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَهَارُون بن عبد الله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن الْحسن بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا توعي) خطاب لأسماء، وَقد مر تَفْسِيره آنِفا. قَوْله: (فيوعَي) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْعين وَنصب الْيَاء: لِأَنَّهُ جَوَاب النَّهْي بِالْفَاءِ، وَإِسْنَاده إِلَى الله تَعَالَى مجَاز عَن الْإِمْسَاك. فَإِن قلت: مَا معنى النَّهْي إِذْ لَيْسَ الإيعاء حَرَامًا؟ قلت: لَازمه وَهُوَ الْإِمْسَاك حرَام أَو النَّهْي لَيْسَ للتَّحْرِيم بِالْإِجْمَاع. قَالَ التَّيْمِيّ: المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْإِمْسَاك وَالْبخل وَجمع الْمَتَاع فِي الْوِعَاء وشده وَترك الْإِنْفَاق مِنْهُ. قَوْله: (ارضخي) من الرضخ بالضاد وَالْخَاء المعجمتين وَهُوَ الْعَطاء لَيْسَ بالكثير وَألف: ارضخي، ألف وصل. قَوْله: (مَا اسْتَطَعْت) أَي: مَا دمت مستطيعة قادرة على الرضخ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَعْنَاهُ الَّذِي استطعته أَو(8/300)
شَيْئا استطعته، فَمَا: موصوله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ مِمَّا يرضى بِهِ الزبير، وَهُوَ زَوجهَا، وَتَقْدِيره: إِن لَك فِي الرضخ مَرَاتِب وَكلهَا يرضاها الزبير فافعلي أَعْلَاهَا، وَالله أعلم.
32 - (بابٌ الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّدَقَة تكفر الْخَطِيئَة، فباب منون، وَالصَّدَََقَة مُبْتَدأ، وتكفر الْخَطِيئَة، خَبره، وَيجوز بِإِضَافَة الْبَاب إِلَى الصَّدَقَة، تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الصَّدَقَة تكفر الْخَطِيئَة.
5341 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الفِتْنَةِ قَالَ قُلْتُ أَنا أحْفَظُهُ كَما قَالَ إنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرىءٌ فَكَيْفَ قَالَ قُلْتُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ والمَعْرُوفُ. قَالَ سُلَيْمَانُ قَدْ كانَ يَقُولُ الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ والأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عنِ المُنْكَرِ قَالَ لَيْسَ هاذِهِ أُرِيدُ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ قَالَ قُلْتُ لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ بأْسٌ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا بابٌ مُغْلَقٌ قَالَ فَيُكْسَرُ البَابُ أوْ يُفْتَحُ قَالَ قُلْتُ لاَ بَلْ يُكْسَرُ قَالَ فإنَّهُ إذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقُ أبَدا قَالَ قُلْتُ أجَلْ فَهِبْنَا أنْ نَسْألَهُ مَنِ البَابُ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ سَلْهُ قَالَ فَسَألَهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قُلْنَا فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي قَالَ نَعَمْ كَما أنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذالِكَ أنِّي حَدَّثْتُهُ حدِيثا لَيْسَ بالأغَالِيظِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فتْنَة الرجل) إِلَى قَوْله: (وَالْمَعْرُوف) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وقتيبة بن سعيد، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. وَقد مضى الحَدِيث فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن الْأَعْمَش، إِلَى آخِره، وَبَينهمَا تفَاوت يسير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (الجريء) من الجراءة، قَالَ ابْن بطال: إِنَّك لجريء أَي: إِنَّك لَكُنْت كثير السُّؤَال عَن الْفِتْنَة فِي أَيَّامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنت الْيَوْم جرىء على ذكره عَالم بِهِ. قَوْله: (وَالْمَعْرُوف) ، أَي: الْخَيْر، وَهُوَ تَعْمِيم بعد تَخْصِيص. قَوْله: (قَالَ سُلَيْمَان) يَعْنِي: الْأَعْمَش الْمَذْكُور فِي السَّنَد. قَوْله: (قد كَانَ يَقُول) أَي: قد كَانَ يَقُول أَبُو وَائِل فِي بعض الْأَوْقَات بدل (الْمَعْرُوف) (الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر) . قَوْله: (قَالَ لَيْسَ هَذِه) أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَيْسَ هَذِه الْفِتْنَة أريدها. قَوْله: (أُرِيد الَّتِي) أَي: الْفِتْنَة الَّتِي. قَوْله: (قَالَ: قلت) أَي: قَالَ حُذَيْفَة: قلت. قَوْله: (بهَا) ، ويروى: (فِيهَا) أَي: فِي الْفِتْنَة. قَوْله: (لَا بَأْس) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: لَيْسَ، قَوْله: (فيكسر الْبَاب أَو يفتح) ، ويروى: (أم تفتح) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَوته بِدُونِ الْقَتْل، كَانَ يَرْجُو أَن الْفِتْنَة، وَإِن بَدَت تسكن أَي: كَانَ ذَلِك بِسَبَب مَوته دون قَتله، وَأما إِن ظهر بِسَبَب قَتله فَلَا تسكن أبدا. قَوْله: (بل يكسر) ، وَأَشَارَ حُذَيْفَة بِهَذِهِ اللَّفْظَة إِلَى قتل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قَالَ: فَإِنَّهُ) أَي: قَالَ عمر: فَإِن الْبَاب إِذا كسر لم يغلق أبدا، وَأَشَارَ بِهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى أَنه إِذا قتل ظَهرت الْفِتَن فَلَا تسكن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ كَانَ سدا أَو بَابا دون الْفِتْنَة، فَلَمَّا قتل كثرت الْفِتْنَة. وَعلم عمر أَنه الْبَاب. قَوْله: (فهبنا) ، بِكَسْر الْهَاء أَي: خفنا أَن نسْأَل حُذَيْفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ حُذَيْفَة مهيبا، فهاب أَصْحَابه أَن يسألوه مَن الْبَاب؟ يَعْنِي: مَن المُرَاد بِالْبَابِ؟ وَكَانَ مَسْرُوق أجرأ على سُؤَاله لِكَثْرَة علمه وعلو مَنْزِلَته، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هُوَ عمر، أَي: الْبَاب الَّذِي كني بِهِ عَنهُ، ثمَّ قَالُوا: فَعلم عمر من تَعْنِي؟ أَي: من تقصد من الْبَاب؟ قَالَ حُذَيْفَة: نعم علم علما لَا شكّ فِيهِ، كَمَا أَن دون غَد لَيْلَة، يَعْنِي: كَمَا لَا شكّ أَن الْيَوْم الَّذِي أَنْت فِيهِ يسْبق الْغَد الَّذِي يَأْتِي بعْدهَا. قَوْله: (لَيْلَة) ، بِالنّصب اسْم: إِن و: (دون غَد) خَبره، ثمَّ علل ذَلِك بقوله: (وَذَلِكَ أَنِّي حدثته) أَي: حدثت عمر بِحَدِيث وَاضح لَا شُبْهَة فِيهِ عَن مَعْدن الصدْق وَرَأس الْعلم، وَهُوَ معنى قَوْله: (حَدِيثا لَيْسَ بالأغاليط)(8/301)
وَهُوَ جمع أغلوطة، وَهِي مَا يغلط بِهِ عَن الشَّارِع، وَنهى الشَّارِع عَن الأغلوطات، وَهَذَا مِنْهُ. وَقَالَ ابْن قرقول: الأغاليط. صعاب الْمسَائِل ودقاق النَّوَازِل الَّتِي يغلط فِيهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ بالأغاليط لَيْسَ بالصغير من الْأَمر واليسير الرزية.
وَفِيه: من الْفَوَائِد: ضرب الْأَمْثَال فِي الْعلم وَالْحجّة لسد الذرائع. وَفِيه: قد يكون عِنْد الصَّغِير من الْعلم مَا لَيْسَ عِنْد الْعَالم المبرز. وَفِيه: أَن الْعَالم قد يرمز بِهِ رمزا ليفهم المرموز لَهُ دون غَيره، لِأَنَّهُ لَيْسَ كل الْعلم تَحت إِبَاحَته إِلَى من لَيْسَ بمتفهم لَهُ وَلَا عَالم بِمَعْنَاهُ. وَفِيه: أَن الْكَلَام فِي الجريان مُبَاح إِذا كَانَ فِيهِ أثر عَن النُّبُوَّة، وَمَا سوى ذَلِك مَمْنُوع، لِأَنَّهُ لَا يصدق مِنْهُ إلاَّ أقل من عشر الْعشْر، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تِلْكَ الْكَلِمَة من الْحق يحفظها الجني فيضيف إِلَيْهَا أَزِيد من مائَة كذبة، وَالله أعلم.
42 - (بابُ مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أسْلَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من تصدق فِي حَالَة الشّرك، ثمَّ أسلم وَلم يذكر الْجَواب. قيل: لقُوَّة الِاخْتِلَاف فِيهِ، تَقْدِيره: ثمَّ أسلم هَل يعْتد لَهُ بِثَوَاب تِلْكَ الصَّدَقَة بعد الْإِسْلَام أم لَا؟ قلت: إِنَّمَا لم يذكر الْجَواب اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَالْجَوَاب أَنه: يعْتد بِهِ.
6341 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ أشْيَاءَ كُنْتُ أتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أجْرٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أسلمت على مَا سلف من خير) ، وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) أَن هَذَا الحَدِيث كَذَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب من كتاب الزَّكَاة فِيمَا رَأَيْت من النّسخ، وَفِيه أَيْضا ذكره صَاحب الْمُسْتَخْرج، وَزعم شَيخنَا أَبُو الْحجَّاج فِي كِتَابه (الْأَطْرَاف) تبعا لأبي مَسْعُود وَخلف أَن البُخَارِيّ خرجه بِهَذَا السَّنَد فِي كتاب الصَّلَاة، وَلم يذكرُوا تَخْرِيجه لَهُ هُنَا فَينْظر.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر المسندي. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن، قَاضِي صنعاء. الثَّالِث: معمر بن رَاشد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: حَكِيم بن حزَام بن خويلد الْأَسدي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَشَيخ شَيْخه يماني وَهُوَ من أَفْرَاده وَمعمر بَصرِي وَالزهْرِيّ وَعُرْوَة مدنيان. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى أَبِيه فَقَط، وَالزهْرِيّ إِلَى قبيلته، وَالثَّلَاثَة مجردون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع، وَفِي الْأَدَب عَن أبي الْيَمَان، وَفِي الْعتْق عَن عبيد الله ابْن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن الْحسن بن عَليّ وَعبد بن حميد وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَعَن أبي بكر عَن عبد الله بن نمير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي عَن حكم أَشْيَاء كنت أَتَعبد بهَا قبل الْإِسْلَام مثل مَا حمل مائَة بعير واعتق مائَة رَقَبَة. قَوْله: (أتحنث) بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي: أَتَقَرَّب، وَقَالَ ابْن قرقول: كنت أتحنث بتاء مثناة، رَوَاهُ الْمروزِي فِي: بَاب من وصل رَحمَه، وَهُوَ غلط من جِهَة الْمَعْنى. وَأما الرِّوَايَة فصحيحة، وَالوهم فِيهِ من شُيُوخ البُخَارِيّ بِدَلِيل قَول البُخَارِيّ، وَيُقَال، أَي عَن أبي الْيَمَان: أتحنث أَو أتحنت على الشَّك، وَالصَّحِيح الَّذِي هُوَ رِوَايَة الْعَامَّة بثاء مُثَلّثَة، وَعَن عِيَاض بالثاء الْمُثَنَّاة غلط من جِهَة الْمَعْنى، وَيحْتَمل أَن يكون لَهَا معنى، وَهُوَ: الْحَانُوت، لِأَن الْعَرَب كَانَت تسمي بيُوت الحمارين الحوانيت، يَعْنِي كنت أتحنت حوانيتهم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: التحنت التَّعَبُّد كَمَا فسره فِي الحَدِيث، وَفَسرهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى(8/302)
بالتبرر، وَهُوَ فعل الْبر، وَهُوَ الطَّاعَة. وَقَالَ أهل اللُّغَة: أصل التحنث أَن يفعل فعلا يخرج بِهِ من الْحِنْث وَهُوَ الْإِثْم، وَكَذَا تأثم وتحرج وتهجد، أَي: فعل فعلا يخرج عَن الْإِثْم والحرج والهجود. قَوْله: (من صَدَقَة) كلمة من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (أَو عتاقة) وَهُوَ أَنه أعتق مائَة رَقَبَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَحمل على مائَة بعير، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (على مَا سلف) ، أَي: على اكْتِسَاب مَا سلف لَك من خير أَو على احتسابه، أَو على قبُول مَا سلف، وَرُوِيَ أَن حَسَنَات الْكَافِر إِذا ختم لَهُ بِالْإِسْلَامِ مَقْبُولَة أَو تحسب لَهُ، فَإِن مَاتَ على كفره بَطل عمله. قَالَ تَعَالَى: {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} (الْمَائِدَة: 5) . وَقَالَ الْمَازرِيّ: اخْتلف فِي قَوْله: (أسلمت على مَا سلف من خير) ، ظَاهره خلاف مَا يَقْتَضِيهِ الْأُصُول، لِأَن الْكَافِر لَا تصح مِنْهُ قربَة فَيكون مثابا على طَاعَته، وَيصِح أَن يكون مُطيعًا غير متقرب كَنَظِيرِهِ فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُ مُطِيع من حَيْثُ كَانَ مُوَافقا لِلْأَمْرِ وَالطَّاعَة عندنَا مُوَافقَة لِلْأَمْرِ، وَيصِح أَن يكون مُطيعًا غير متقرب كَنَظِيرِهِ فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُ مُطِيع من حَيْثُ كَانَ مُوَافقا لِلْأَمْرِ وَالطَّاعَة عندنَا مُوَافقَة لِلْأَمْرِ، وَلكنه لَا يكون متقربا، لِأَن من شَرط التَّقَرُّب أَن يكون عَارِفًا بالمتقرب إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي حِين نظره لم يحصل لَهُ الْعلم بِاللَّه تَعَالَى بعد.
فَإِذا قرر هَذَا فَاعْلَم أَن الحَدِيث متأول، وَهُوَ يحْتَمل وُجُوهًا.
أَحدهَا: أَن يكون الْمَعْنى: أَنَّك اكْتسبت طباعا جميلَة وَأَنت تنْتَفع بِتِلْكَ الطباع فِي الْإِسْلَام، وَتَكون تِلْكَ الْعَادة تمهيدا لَك ومعونة على فعل الْخَيْر والطاعات. الثَّانِي: مَعْنَاهُ: اكْتسبت بذلك ثَنَاء جميلاً فَهُوَ بَاقٍ عَلَيْك فِي الْإِسْلَام. الثَّالِث: أَن لَا يبعد أَن يُزَاد فِي حَسَنَاته الَّتِي يَفْعَلهَا فِي الْإِسْلَام وَيكثر أجره لما تقدم لَهُ من الْأَفْعَال الجميلة، وَقد قَالُوا فِي الْكَافِر: إِذا كَانَ يفعل الْخَيْر فَإِنَّهُ يُخَفف عَنهُ بِهِ، فَلَا يبعد أَن يُزَاد هَذَا فِي الأجور.
وَقَالَ عِيَاض، وَقيل: مَعْنَاهُ ببركة مَا سبق لَك من خير هداك الله تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَام، فَإِن من ظهر فِيهِ خير فِي أول أمره فَهُوَ دَلِيل على سَعَادَة أخراه وَحسن عاقبته. وَذهب ابْن بطال وَغَيره من الْمُحَقِّقين إِلَى أَن الحَدِيث على ظَاهره وَأَنه إِذا أسلم الْكَافِر وَمَات على الْإِسْلَام يُثَاب على فعله من الْخَيْر فِي حَال الْكفْر، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أذا أسلم الْكَافِر فَحسن إِسْلَامه كتب الله لَهُ حَسَنَة زلفها، ومحا عَنهُ كل سَيِّئَة كَانَ زلفها، وَكَانَ عمله بعد ذَلِك الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، والسيئة بِمِثْلِهَا إلاَّ أَن يتَجَاوَز الله تَعَالَى) ، ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غَرِيب حَدِيث مَالك) ، وَرَوَاهُ عَنهُ من تسع طرق وَثَبت فِيهَا كلهَا أَن الْكَافِر إِذا حسن إِسْلَامه يكْتب لَهُ فِي الْإِسْلَام كل حَسَنَة عَملهَا فِي الشّرك، وَقَالَ ابْن بطال، بعد ذكر هَذَا الحَدِيث: وَللَّه تَعَالَى أَن يتفضل على عباده مَا شَاءَ، لَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْهِ، وَهُوَ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحكيم بن حزَام: أسلمت على مَا أسفلت من خير. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: مَعْنَاهُ كل مُشْرك أسلم أَنه يكْتب لَهُ كل خير عمله قبل إِسْلَامه وَلَا يكْتب عَلَيْهِ من سيئاته شَيْء، لِأَن الْإِسْلَام يهدم مَا قبله، وَإِنَّمَا كتب لَهُ بِهِ الْخَيْر لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى، لأَنهم كَانُوا مقرين بالربوبية، إلاَّ أَن عَمَلهم كَانَ مردودا عَلَيْهِم لَو مَاتُوا على شركهم، فَلَمَّا أَسْلمُوا تفضل الله عَلَيْهِم فَكتب لَهُم الْحَسَنَات ومحا عَنْهُم السَّيِّئَات، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ. .) وَفِيه، وَهُوَ الثَّالِث: (وَرجل من أهل الْكتاب آمن بِنَبِيِّهِ وآمن بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَالَ الْمُهلب: وَلَعَلَّ حكيما لَو مَاتَ على جاهليته أَن يكون مِمَّن يُخَفف عَنهُ من عَذَاب النَّار، كَمَا حُكيَ فِي أبي طَالب وَأبي لَهب. انْتهى. وَهَذَانِ لَا يُقَاس عَلَيْهِمَا لخصوصيتهما.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقيل: إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ورى عَن جَوَابه فَإِنَّهُ سَأَلَهُ: هَل لي فِيهَا أجر؟ يُرِيد ثَوَاب الْآخِرَة؟ وَمَعْلُوم أَنه لَا ثَوَاب فِي الْآخِرَة لكَافِر، فَقَالَ لَهُ: أسلمت على مَا سلف لَك من خير، وَالْعِتْق فعل خير، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّك قد فعلت خيرا وَالْخَيْر يمدح فَاعله، وَقد يجازى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَذكر حَدِيث أنس من (صَحِيح مُسلم) عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أما الْكَافِر فيطعم بحسناته فِي الدُّنْيَا، فَإِذا لَقِي الله لم يكن لَهُ حَسَنَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: رُوِيَ أَن حَسَنَات الْكَافِر إِذا ختم لَهُ بِالْإِسْلَامِ محتسبة لَهُ، فَإِن مَاتَ على كفره كَانَت هدرا. وَقَالَ أَبُو الْفرج: فَإِن صَحَّ هَذَا كَانَ الْمَعْنى: أسلمت على قبُول مَا سلف لَك من خير. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْإِسْلَام إِذا حسن هدم مَا قبله من الآثام، وأحرز مَا قبله من الْبر. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: معنى حَدِيث حَكِيم: مَا تقدم لَك من الْخَيْر الَّذِي عملته هُوَ لَك، كَمَا تَقول: أسلمت لَك على ألف دِرْهَم على أَن أحوزها لنَفْسي. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْحَرْبِيّ هُوَ أشبههَا وأولاها، وَالله أعلم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقد يعْتد بعض أَفعَال الْكَافرين فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، فقد قَالَ الْفُقَهَاء: إِذا وَجب على الْكَافِر كَفَّارَة ظِهَار أَو غَيرهَا، فَكفر فِي حَال كفره أَجزَأَهُ ذَلِك، وَإِذا أسلم لَا تجب عَلَيْهِ إِعَادَتهَا. وَاخْتلف(8/303)
أَصْحَاب الشَّافِعِي فيماإذا أجنب واغتسل فِي حَال كفره، ثمَّ أسلم هَل يجب عَلَيْهِ إِعَادَة الْغسْل أم لَا؟ وَبَالغ بَعضهم فَقَالَ: يَصح من كل كَافِر كل طَهَارَة من غسل ووضوء وَتيَمّم إِذا أسلم صلى بهَا. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: غسل الْكَافِر إِذا أسلم مُسْتَحبّ إِن لم يكن جنبا، وَلم يغْتَسل، فَإِن كَانَ جنبا وَلم يغْتَسل حَتَّى أسلم فَفِيهِ اخْتِلَاف الْمَشَايِخ، وَالله أعلم.
52 - (بابُ أجْرِ الخَادِمِ إذَا تَصَدَّقَ بِأمْرِ صاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر الْخَادِم، وَقد قُلْنَا إِنَّه أَعم من الْمَمْلُوك وَغَيره. قَوْله: (بِأَمْر صَاحبه) قيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا تصدق بِغَيْر إِذن صَاحبه لَا يجوز. قَوْله: (غير مُفسد) ، أَي: حَال كَونه غير مُفسد فِي صدقته، وَمعنى الْإِفْسَاد: الْإِنْفَاق بِوَجْه لَا يحل.
7341 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا تَصَدَّقَتِ المَرْأةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كانَ لَهَا أجْرُها ولِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذالِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (غير مفْسدَة) . فَإِن قلت: الحَدِيث فِي الْمَرْأَة إِذا تَصَدَّقت من مَال زَوجهَا غير مفْسدَة، والترجمة فِي الْخَادِم؟ قلت: لفظ الْخَادِم يتَنَاوَل الْمَرْأَة لِأَنَّهَا مِمَّن تخْدم الزَّوْج، والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب من أَمر خادمه فِي الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن مَسْرُوق بن الأجدع عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
42 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن بريد بن عبد الله عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الخازن الْمُسلم الْأمين الَّذِي ينفذ وَرُبمَا قَالَ يُعْطي مَا أَمر بِهِ كَامِلا موفرا طيب بِهِ نَفسه فيدفعه إِلَى الَّذِي أَمر لَهُ بِهِ أحد المتصدقين) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " الخازن " إِلَى آخِره لِأَن الْخَادِم يتَنَاوَل الخازن أَيْضا (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن الْعَلَاء أَبُو كريب الْهَمدَانِي. الثَّانِي أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ. الثَّالِث بريد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الله وكنيته أَبُو بردة وَقد مضى عَن قريب. الرَّابِع أَبُو بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة واسْمه عَامر أَو الْحَارِث وَقد مر أَيْضا. الْخَامِس أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبد الله بن قيس (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته كلهم كوفيون وَفِيه رِوَايَة الرجل عَن جده وَفِيه رِوَايَة الابْن عَن الْأَب (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوكَالَة عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة وَفِي الْإِجَارَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي عَامر وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير أربعتهم عَن أبي أُسَامَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبد الله بن الْهَيْثَم بن عُثْمَان (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " الخازن الْمُسلم " إِلَى آخِره قيد فِيهِ قيودا. الأول أَن يكون خَازِنًا لِأَنَّهُ إِذا لم يكن خَازِنًا لَا يجوز لَهُ أَن يتَصَدَّق من مَال الْغَيْر. الثَّانِي أَن يكون مُسلما فَأخْرج بِهِ الْكَافِر لِأَنَّهُ لَا نِيَّة لَهُ. الثَّالِث أَن يكون أَمينا فَأخْرج بِهِ الخائن لِأَنَّهُ مأزور. الرَّابِع أَن يكون منفذا أَي منفذا صَدَقَة الْآمِر وَهُوَ معنى قَوْله الَّذِي ينفذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة إِمَّا من الإنفاذ من بَاب الْأَفْعَال وَإِمَّا من التَّنْفِيذ من بَاب التفعيل وَهُوَ الْإِمْضَاء مثل مَا أَمر بِهِ الْآمِر ويروى يُعْطي بدل ينفذ. الْخَامِس أَن تكون نَفسه بذلك طيبَة لِئَلَّا يعْدم النِّيَّة فيفقد الْأجر وَهُوَ معنى قَوْله " طيب بِهِ نَفسه " فَقَوله " طيب " خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي وَهُوَ طيب النَّفس بِهِ أَو قَوْله نَفسه مُبْتَدأ وَطيب خَبره مقدما وَقَالَ التَّمِيمِي روى طيبَة بِهِ نَفسه على أَن يكون حَالا للخازن وَنَفسه مَرْفُوع بقوله طيبَة. السَّادِس أَن يكون دَفعه الصَّدَقَة إِلَى الَّذِي أَمر لَهُ بِهِ أَي إِلَى الشَّخْص(8/304)
الَّذِي أَمر الْآمِر لَهُ بِهِ أَي بِالدفع فَإِن دفع إِلَى غَيره يكون مُخَالفا فَيخرج عَن الْأَمَانَة وَهَذِه الْقُيُود شَرط لحُصُول هَذَا الثَّوَاب فَيَنْبَغِي أَن يعتني بهَا ويحافظ عَلَيْهَا قَوْله " أحد المتصدقين " مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْله " الخازن " وَقد مر الْكَلَام فِي فَتْحة الْقَاف وكسرتها وَقَالَ التَّيْمِيّ وَمعنى أحد المتصدقين أَن الَّذِي يتَصَدَّق من مَاله يكون أجره مضاعفا أضعافا كَثِيرَة وَالَّذِي ينفذهُ أجره غير مضاعف لَهُ عشر حَسَنَات فَقَط وَقَالَ النَّوَوِيّ لَهُ أجر متصدق -
62 - (بابُ أجْرِ المَرْأةِ إذَا تَصَدَّقَتْ أوْ أطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر الْمَرْأَة إِذا تَصَدَّقت من مَال زَوجهَا أَو أطعمت شَيْئا من بَيت زَوجهَا حَال كَونهَا غير مفْسدَة، وَلم يُقيد هُنَا بِالْأَمر، وَقيد بِهِ فِي الخازن فِي الْبَاب الَّذِي قبله، لِأَن للْمَرْأَة أَن تتصرف فِي بَيت زَوجهَا للرضى بذلك غَالِبا، وَلَكِن بِشَرْط عدم الْإِفْسَاد، بِخِلَاف الخازن لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تصرف إلاَّ بِالْإِذْنِ، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث همام عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا أنفقت الْمَرْأَة من كسب زَوجهَا من غير أمره فلهَا نصف أجره) ، وَسَيَأْتِي الحَدِيث فِي الْبيُوع.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَنه لَا بُد فِي الْعَامِل، وَهُوَ الخازن، وَفِي الزَّوْجَة والمملوك من إِذن الْمَالِك فِي ذَلِك، فَإِن لم يكن لَهُ إِذن أصلا فَلَا يجوز لأحد من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، بل عَلَيْهِم وزر تصرفهم فِي مَال غَيرهم بِغَيْر إِذْنه، وَالْإِذْن ضَرْبَان. أَحدهمَا: الْإِذْن الصَّرِيح فِي النَّفَقَة وَالصَّدَََقَة. وَالثَّانِي: الْإِذْن الْمَفْهُوم من اطراد الْعرف: كإعطاء السَّائِل كسرة وَنَحْوهَا مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة، واطراد الْعرف فِيهِ، وَعلم بِالْعرْفِ رضى الزَّوْج وَالْمَالِك بِهِ، فإذنه فِي ذَلِك حَاصِل وَإِن لم يتَكَلَّم، وَهَذَا إِذا علم رِضَاهُ لاطراد الْعرف، وَعلم أَن نَفسه كنفوس غَالب النَّاس فِي السماحة بذلك والرضى بِهِ، فَأن اضْطربَ الْعرف وَشك فِي رِضَاهُ أَو كَانَ شحيح النَّفس يشح بذلك، وَعلم من حَاله ذَلِك أَو شكّ فِيهِ، لم يجز للْمَرْأَة وَغَيرهَا التَّصَدُّق من مَاله إلاَّ بِصَرِيح إِذْنه، وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة آنِفا فَمَعْنَاه: من غير أمره الصَّرِيح فِي ذَلِك الْقدر المهين، وَيكون مَعهَا إِذن سَابق يتَنَاوَل لهَذَا القدرلا وَغَيره، وَذَلِكَ هُوَ الْإِذْن الَّذِي قدمْنَاهُ سَابِقًا إِمَّا بِالصَّرِيحِ وَإِمَّا بِالْعرْفِ، وَلَا بُد من هَذَا التَّأْوِيل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْأجر مُنَاصَفَة فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، رَحمَه الله، فلهَا نصف أجره وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذا أنفقت من غير إِذن صَرِيح وَلَا مَعْرُوف من الْعرف فَلَا أجر لَهَا، بل عَلَيْهَا وزر، فَتعين تَأْوِيله.
9341 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مَنْصُورٌ وَالأعْمَشُ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ مَسْرُوقِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصَدَّقَتِ المَرْأةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا.
حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ شَقيقٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالتْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أطْعَمَتِ الْمَرْأةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ لَهَا أجْرُهَا ولَهُ مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذالِكَ لَهُ بِمَا اكْتَسَبَ ولَهَا بِمَا أنْفَقَتْ..
1441 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ يَحْيَى قَالَ أخبرنَا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ شَقِيقٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا أنْفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَلَهَا أجْرُهَا وَلِلزَّوْجِ بِمَا اكْتَسَبَتْ وَلِلْخَازِنَ مِثْلُ ذالِكَ..
هَذِه ثَلَاثَة طرق فِي حَدِيث عَائِشَة تَدور على أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن مَسْرُوق عَنْهَا، ومطابقتها للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَسليمَان الْأَعْمَش، كِلَاهُمَا (عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق الْأَعَمّ عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق إِلَى آخِره، وَلم يسق البُخَارِيّ تَمام هَذَا الطَّرِيق، لكنه ذكره بِتَمَامِهِ على سَبِيل التَّحْوِيل. قَوْله: (تَعْنِي) أَي عَائِشَة، حَدِيث: (إِذا تَصَدَّقت الْمَرْأَة من(8/305)
بَيت زَوجهَا) . الطَّرِيق الثَّانِي عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه خفص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش ... إِلَى آخِره. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث الْأَعْمَش. الطَّرِيق الثَّالِث عَن يحيى بن يحيى أبي زَكَرِيَّا التَّمِيمِي عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور ابْن الْمُعْتَمِر ... إِلَى آخِره. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب من أَمر خادمه بِالصَّدَقَةِ، عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب أجر الْخَادِم، عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهَا مُسْتَوفى هُنَاكَ.
72 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {فأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وصَدَّقَ بِالحُسْنَى فسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} )
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَا إِشَارَة إِلَى التَّرْغِيب فِي الأنفاق فِي وُجُوه الْبر، لِأَن الله تَعَالَى يُعْطِيهِ الْخلف فِي العاجل، وَالثَّوَاب الجزيل فِي الآجل، وَإِشَارَة إِلَى التهديد لمن يبخل وَيمْتَنع من الْإِنْفَاق فِي القربات. وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) : عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فأمَّا من اعطى وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 5) . قَالَ أعْطى مِمَّا عِنْده، وَصدق بالخلف من الله تَعَالَى، وَاتَّقَى ربه، وَقَالَ قَتَادَة: أعْطى حق الله تَعَالَى، وَاتَّقَى مَحَارمه الَّتِي نهى عَنْهَا. وَقَالَ الضَّحَّاك: زكى وَاتَّقَى الله تَعَالَى. قَوْله: {وصدَّق بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 5 01) . يَعْنِي: قَالَ: لَا إِلَه إلاَّ الله، قَالَه الضَّحَّاك وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد: وَصدق بِالْحُسْنَى: بِالْجنَّةِ. وَقَالَ قَتَادَة: صدق بموعود الله تَعَالَى على نَفسه، فَعمل بذلك الْمَوْعُود الَّذِي وعده، وَذكر الطَّبَرِيّ أَيْضا: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (الْمعَانِي) للفراء: نزلت فِي أبي بكر وَفِي أبي سُفْيَان. وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي (تَفْسِيره) بأسناده عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اشْترى بِلَالًا من أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف بِبُرْدَةٍ وَعشر أَوَاقٍ ذهب، فَأعْتقهُ لله تَعَالَى، فَأنْزل الله هَذِه السُّورَة: {وَاللَّيْل إِذا يغشى وَالنَّهَار إِذا تجلى وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى إِن سعيكم لشتى} (اللَّيْل: 1 4) . يَعْنِي: سعي أبي بكر وَأُميَّة بن خلف. {فَأَما من أعْطى} (اللَّيْل: 1 01) . المَال. {وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 1 01) . الشّرك. {وَصدق بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي: بِلَا إِلَه إلاَّ الله. {فسنيسره لليسرى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي الْجنَّة. {وَأما من بخل} (اللَّيْل: 1 01) . بِالْمَالِ. {وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي: بِلَا إِلَه إلاَّ الله. {فسنيسره للعسرى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي: سنهون عَلَيْهِ أُمُور النَّار، يَعْنِي أُميَّة وأبيا إِذا مَاتَا. وَقيل: فَأَما من أعْطى يَعْنِي: أَبَا الدحداح أعْطى من فضل مَاله. وَقيل: الصدْق من قلبه. وَقيل: حق الله وَاتَّقَى محارم الله الَّتِي نهي عَنْهَا، وَصدق بالحسني أَي: بِالْجنَّةِ، وَقيل: بوعد الله، وَقيل: بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّوْم. قَوْله: {وَاسْتغْنى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي: عَن ثَوَاب الله تَعَالَى فَلم يرغب فِيهِ. وَقيل: اسْتغنى بِمَالِه. قَوْله: {فسنيسره للعسرى} (اللَّيْل: 1 01) . يَعْنِي الْعَمَل بِمَا لَا يرضى الله بِهِ. وَقيل: سندخله جَهَنَّم. وَقيل: للعود إِلَى الْبُخْل.
أللَّهُمَ أعْطِ مُنْفِقَ مالٍ خلَفا
قَالَ الْكرْمَانِي: وَجه ربطه بِمَا قبله أَنه مَعْطُوف على قَول الله تَعَالَى، وَحذف حرف الْعَطف جَائِز، وَهُوَ بَيَان للحسنى، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن قَول الله تَعَالَى مُبين بِالْحَدِيثِ، يَعْنِي: تيسير الْيُسْرَى لَهُ إِعْطَاء الْخلف لَهُ، والْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة كَمَا يجيىء الْآن: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} (سبإ: 93) .
2441 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أبِي مُزَرِّدٍ عنْ أبِي الحُبَابِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقا خَلَفا ويَقُولُ الآخَرُ ألَّلهُمَّ أعْطِ مُمْسِكا تَلَفا.
مطابقته لقَوْله: (أللهم أعْط منفقَ مالٍ خلفا) ظَاهِرَة لِأَنَّهُ بَينه.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. الثَّانِي: أَخُوهُ، وَهُوَ أَبُو بكر واسْمه عبد الحميد. الثالت: سُلَيْمَان بن بِلَال. الرَّابِع: مُعَاوِيَة بن أبي مزرد، بِضَم الْمِيم وَفتح(8/306)
الزَّاي وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: واسْمه عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى، واسْمه سعيد بن يسَار ضد الْيَمين عَم مُعَاوِيَة الْمَذْكُور. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن أَخِيه. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن نصر، وَفِي الْمَلَائِكَة عَن عَبَّاس بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من من يَوْم) ، وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: (مَا من يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس إلاَّ وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلاَّ الثقلَيْن: يَا أَيهَا النَّاس هلموا إِلَى ربكُم إِن مَا قل وَكفى خير مِمَّا كثر وألهى، وَلَا غربت شمسه إلاَّ وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأَرْض إلاَّ الثقلَيْن: أللهم أعْط منفقا خلفا وَأعْطِ ممسكا مَالا تلفا) . رَوَاهُ أَحْمد. قَوْله: (بجنبتيها) تَثْنِيَة: جنبة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون وَهِي: النَّاحِيَة. قَوْله: (مَا من يَوْم) يَعْنِي: لَيْسَ من يَوْم، وَكلمَة: من، زَائِدَة، و: يَوْم، اسْمه. وَقَوله: (يصبح الْعباد فِيهِ) صفة يَوْم. وَقَوله: (إلاَّ ملكان) مُسْتَثْنى من مُتَعَلق مَحْذُوف، وَهُوَ خبر: مَا، الْمَعْنى: لَيْسَ يَوْم مَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف ينزل فِيهِ أحد إلاَّ ملكان يَقُولَانِ كَيْت وَكَيْت، فَحذف الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَدلّ عَلَيْهِ بِوَصْف: الْملكَانِ ينزلان، وَنَظِيره فِي مَجِيء الْمَوْصُوف مَعَ الصّفة بُعد إلاَّ فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ، قَوْلك: مَا أخْبرت مِنْكُم أحدا إلاَّ رَفِيقًا. قَوْله: (خلفا) بِفَتْح اللَّام أَي: عوضا. يُقَال أخلف الله عَلَيْك خلفا أَي: عوضا أَي: أبدلك بِمَا ذهب مِنْك. قَوْله: (أعطِ ممسكا تلفا) التَّعْبِير بِالْعَطِيَّةِ هُنَا من قبيل المشاكلة، لِأَن التّلف لَيْسَ بعطية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} (سبإ: 93) . وَلقَوْله: (ابْن آدم أنْفق أنْفق عَلَيْك) ، وَهَذَا يعم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب. وَفِيه: أَن الممسك يسْتَحق تلف مَاله، وَيُرَاد بِهِ الْإِمْسَاك عَن الْوَاجِبَات دون المندوبات، فَإِنَّهُ قد لَا يسْتَحق هَذَا الدُّعَاء، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يغلب عَلَيْهِ الْبُخْل بهَا، وَإِن قلت فِي نَفسهَا كالحبة واللقمة وَنَحْوهمَا. وَفِيه: الحض على الْإِنْفَاق فِي الْوَاجِبَات كَالنَّفَقَةِ على الْأَهْل وصلَة الرَّحِم، وَيدخل فِيهِ صَدَقَة التَّطَوُّع وَالْفَرْض. وَفِيه: دُعَاء الْمَلَائِكَة، وَمَعْلُوم أَنه مجاب بِدَلِيل قَوْله: (من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) .
82 - (بابُ مَثَلِ المُتَصَدِّقِ وَالبَخِيلِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مثل الْمُتَصَدّق والبخيل، وَمثل الْمُتَصَدّق كَلَام إضافي مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مَحْذُوف، حذفه البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة اكْتِفَاء بِذكرِهِ فِي حَدِيث الْبَاب.
3441 - حدَّثنا مُوسى اقال حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طَاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة جُزْء من الحَدِيث وَهُوَ ظَاهر.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان.
قَوْله: (مثل الْبَخِيل والمنفق) ، وَوَقع عِنْد مُسلم من طَرِيق سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد: (مثل الْمُنفق والمتصدق) ، قَالَ عِيَاض: هُوَ وهم، وَيُمكن أَنه حذف مُقَابِله لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقع فِي بَاقِي الرِّوَايَات: مثل الْبَخِيل والمتصدق، وَقد يحْتَمل أَن صِحَة رِوَايَة الْمُنفق والمتصدق أَن يكون فِيهِ حذف تَقْدِير: مثل الْمُنفق والمتصدق وقسيمهما هُوَ الْبَخِيل، وَحذف الْبَخِيل لدلَالَة الْمُنفق والمتصدق عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 18) . أَي: وَالْبرد، حذف الْبرد لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ. قيل: رَوَاهُ الْحميدِي وَأحمد وَابْن أبي عَمْرو وَغَيرهم فِي مسانيدهم عَن ابْن عُيَيْنَة، فَقَالُوا فِي رواياتهم: (مثل الْمُنفق والبخيل) ، كَمَا فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد، وَهُوَ الصَّوَاب. قَوْله: والمتصدق)(8/307)
وَقع فِي بعض الْأُصُول: الْمُتَصَدّق، بِالتَّاءِ وَفِي بَعْضهَا بِحَذْف التَّاء وَتَشْديد الصَّاد، هما صَحِيحَانِ، قَالَه النَّوَوِيّ قلت: وَجه هَذَا أَن التَّاء لَا تحذف بل تقلب صادا، ثمَّ تُدْغَم الصَّاد فِي الصَّاد، وَهَذَا الَّذِي تَقْتَضِيه الْقَاعِدَة. قَوْله: (كَمثل رجلَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة عَمْرو: رجل، بِالْإِفْرَادِ وَكَأَنَّهُ تَغْيِير من بعض الروَاة، وَصَوَابه: رجلَيْنِ. قَوْله: (جبتان) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (كَمثل رجل عَلَيْهِ جبتان أَو جنتان) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما جبتان أَو جنتان فَالْأول بِالْبَاء وَالثَّانِي بالنُّون، وَوَقع فِي بعض الْأُصُول عَكسه، وَقَالَ ابْن قرقول: وَالنُّون أصوب بِلَا شكّ، وَهِي الدرْع، يدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الحَدِيث نَفسه: (لزقت كل حَلقَة) ، وَفِي لفظ: (فَأخذت كل حَلقَة موضعهَا) . وَكَذَا قَوْله: (من حَدِيد) . قلت: وَرَوَاهُ حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان الجُمَحِي عَن طَاوُوس، بالنُّون، كَمَا يَجِيء عَن قريب، ورجحت هَذِه الرِّوَايَة بِمَا قَالَه ابْن قرقول، وَالْجنَّة هِيَ الْحصن فِي الأَصْل، وَسميت بهَا الدرْع لِأَنَّهَا تجن صَاحبهَا أَي: تحصنه، والجبة بِالْبَاء الْمُوَحدَة هِيَ الثَّوْب الْمعِين، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا مَانع من اطلاقه على الدرْع. قلت: الْمَانِع مَوْجُود، لِأَن الْجُبَّة بِالْبَاء لَا تحصن مثل الْجنَّة بالنُّون، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : جنتان، بالنُّون. فِي هَذَا الْموضع بِلَا شكّ، وَلَا اخْتِلَاف. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هُوَ الْأَنْسَب، لِأَن الدرْع لَا يُسمى جُبَّة بِالْبَاء بل بالنُّون.
وحدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إلَى تَرَاقِيهِمَا فأمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إلاَّ سَبَغَتْ أوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تَخْفِي بَنَانَهُ وَتَعْفُو أثَرَهُ وَأمَّا البَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أنْ يُنْفِقَ شَيْئا إلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهْوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ.
هَذَا طَرِيق آخر أتم من الأول، رَوَاهُ عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون، عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الْبَخِيل والمنفق) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مثل الْمُنفق والمتصدق كَمثل رجل عَلَيْهِ جنتان أَو جبتان) ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقع فِي هَذَا الحَدِيث أَوْهَام كَثِيرَة من الروَاة تَصْحِيف وتحريف وَتَقْدِيم وَتَأْخِير، فَمِنْهُ: مثل الْمُنفق والمتصدق، وَمِنْه: كَمثل رجل، وَصَوَابه رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان، وَمِنْه قَوْله: (جبتان أَو جنتان) ، بالنُّون بِالشَّكِّ وَالصَّوَاب: جنتان، بالنُّون بِلَا شكّ. قَوْله: (من ثديهما) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الدَّال، كَذَا فِي رِوَايَة أبي الْحسن جمع ثدي، نَحْو الْفُلُوس والفلس، فعلى هَذَا أَصله: ثدوي، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: ثدي، بِضَم الدَّال ثمَّ أبدلت الضمة كسرة لأجل الْيَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَيصِح نصب الثَّاء، وَفِي رِوَايَة: ثدييهما، بالتثنية وَفِي (الْمُجْمل) : الثدي، بِالْفَتْح للْمَرْأَة وَالْجمع الثدي، يذكر وَيُؤَنث. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَالْجمع أثد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الثدي للرجل وَالْمَرْأَة، وَالْجمع أثد وثدي، على فعول، وثدي بِكَسْر الثَّاء. قَوْله: (إِلَى تراقيهما) جمع ترقوة، وَيُقَال: الترائق أَيْضا على الْقلب، وَقَالَ ثَابت فِي (خلق الْإِنْسَان) : الترقوتان هما العظمان المشرفان فِي أَعلَى الصَّدْر من رَأس الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى طرف ثغرة النَّحْر، وَهِي اللهزمة الَّتِي بَينهمَا. وَفِي (الْمُخَصّص) : هِيَ من رقى يرقى. فَإِن قلت: لِمَ لَا تقلب الْوَاو ألفا؟ قلت: لِئَلَّا يخْتل الْبناء كَمَا فِي سرو، وَفِي (الصِّحَاح) لَا تقل: ترقوة بِالضَّمِّ. قَوْله: (إلاَّ سبغت) أَي: امتدت وغطت، وَقيل: كملت وتمت، وَضَبطه الْأصيلِيّ بِضَم التَّاء وَهُوَ شَيْء لَا يعرف. قَوْله: (أَو وقرت) ، شكّ من الرَّاوِي، من الوفور بِمَعْنى: كملت. وَفِي (التَّلْوِيح) : سبغت أَو مرت على جلد، كَذَا فِي النّسخ: مرت، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقيل صَوَابه، يَعْنِي فِي مُسلم مدت بِالدَّال، بِمَعْنى: سبغت كَمَا فِي الحَدِيث الآخر: (انبسطت) . وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ: مادت، بدال مُخَفّفَة من ماد إِذا مَال، وَرَوَاهُ بَعضهم: مارت، وَمَعْنَاهُ: سَالَتْ عَلَيْهِ وامتدت. قَالَ الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ تردّدت وَذَهَبت وَجَاءَت بكمالها. قَوْله: (حَتَّى تجن) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَتَشْديد النُّون، هَذَا فِي رِوَايَة الْحميدِي وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تستر، من أجن إِذا ستر، وَكَذَلِكَ جن بِمَعْنَاهُ: ويروى حق يخفى(8/308)
وَقَالَ ابْن التِّين رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَان حَتَّى تجربانه وَقَالَ النَّوَوِيّ وَرَوَاهُ بَعضهم يحز بحاء وزاي وَهُوَ وهم وَالصَّوَاب تجن بجيم وَنون قَوْله (بنانه) أَي أَصَابِعه وَهُوَ رِوَايَة الْجُمْهُور كَمَا فِي الحَدِيث الآخر أنامله ويروى ثِيَابه بثاء مُثَلّثَة وَهُوَ وهموقد وَقع فِي رِوَايَة الْحسن بن مُسلم حَتَّى تغشى بالغين والشين المعجمتين قَوْله (وتعفوا أَثَره) أَي يمحوا أَثَره وَهُوَ يَجِيء لَازِما ومتعدياً فَهُنَا مُتَعَدٍّ لِأَنَّهُ نصب أَثَره وأثره بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبكسر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء مَعْنَاهُ تمحو أثر مَشْيه بسبوغها وكمالها وَقَالَ الدَّاودِيّ بعفى أثر صَاحبه إِذا مَشى بمرور الذيل عَلَيْهِ لِأَن الْمُنفق إِذا أنْفق طَال ذَلِك اللبَاس الَّذِي عَلَيْهِ حَتَّى يجره بِالْأَرْضِ قَوْله (لزقت) أَي التصقت وَفِي رِوَايَة مُسلم (انقبضت) وَفِي رِوَايَة همام (عضت كل حَلقَة مَكَانهَا) وي رِوَايَة سُفْيَان عِنْد مُسلم (قلصت) وَكَذَا فِي رِوَايَة الْحسن بن مُسلم عِنْد البُخَارِيّ وَزعم ابْن التِّين أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْبَخِيل يكوى بالنَّار يَوْم الْقِيَامَة قَوْله (فَهُوَ يوسعها وَلَا تتسع) وَفِي رِوَايَة عِنْد مُسلم قَالَ أَبُو هُرَيْرَة (فَهُوَ يوسعها وَلَا يَتَّسِع) (فَإِن قلت) هَذَا يَوْم أَنه مدرج (قلت) لَيْسَ كَذَلِك وَقد وَقع التَّصْرِيح بِرَفْع هَذِه الْجُمْلَة فِي طَرِيق طَاوُوس عَن أبي هُرَيْرَة وَفِي رِوَايَة ابْن طَاوُوس عِنْد البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (فيجتهدان يوسعها وَلَا تتسع) وَفِي رِوَايَة لمُسلم (فَسمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَذكره وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُسلم عِنْدهَا (فَأَنا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بإصبعه هَكَذَا فِي جيبه فَلَو رَأَيْته يوسعها وَلَا تتسع وَعند أَحْمد من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن أبي الزِّنَاد فِي هَذَا الحَدِيث وَأما الْبَخِيل فَإِنَّهَا لَا تزداد عَلَيْهِ إِلَّا استحكاماً وَهَذَا بِالْمَعْنَى وَقَالَ الْخطابِيّ هَذَا مثل ضربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للجواد الْبَخِيل شبهما برجلَيْن أَرَادَ كل مِنْهُمَا أَن يلبس درعا يستجن بهَا والدرع أول مَا يلبس إِنَّمَا يَقع على مَوضِع الصَّدْر والثديين إِلَى أَن يسْلك لَابسهَا يَدَيْهِ فِي كميه، وَيُرْسل ذيلها على أَسْفَل بدنه فيستمر سفلاً، فَجعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمُنفق مثل من لبس درعا سابغة فاسترسلت عَلَيْهِ حَتَّى سترت جَمِيع بدنه وخصته، وَجعل الْبَخِيل كَرجل يَدَاهُ مغلولتان مَا بَين دون صَدره فَإِذا أَرَادَ لبس الدرْع حَالَتْ يَدَاهُ بَينهَا وَبَين أَن تمر سفلاً على الْبدن، وَاجْتمعت فِي عُنُقه فلزمت ترقوته، فَكَانَت ثقلاً ووبالاً عَلَيْهِ من غير وقاية لَهُ وتحصين لبدنه، وَحَاصِله أَن الْجواد إِذا هم بِالنَّفَقَةِ اتَّسع لذَلِك صَدره وطاوعت يَدَاهُ فامتدتا بالعطاء، وَأَن الْبَخِيل يضيق صَدره وتنقبض يَده عَن الْإِنْفَاق. وَقيل: ضرب الْمثل بهما لِأَن الْمُنفق يستره الله بِنَفَقَتِهِ وَيسْتر عوراته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كستر هَذِه الْجُبَّة لَابسهَا، والبخيل كمن لبس جُبَّة إِلَى ثدييه فَيبقى مكشوفا ظَاهر الْعَوْرَة مفتضحا فِي الدَّاريْنِ. وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد أَن الْمُنفق إِذا أنْفق كفرت الصَّدَقَة ذنُوبه ومحتها، كَمَا أَن الْجُبَّة إِذا أسبغت عَلَيْهِ سترته وَوَقته، والبخيل لَا تطاوعه نَفسه على الْبَذْل فَيبقى غير مكفر عَنهُ الآثام، كَمَا أَن الْجُبَّة تبقي من بدنه مَا لَا تستره، فَيكون معرض الْآفَات. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: شبه السخي إِذا قصد التَّصَدُّق يسهل عَلَيْهِ بِمن عَلَيْهِ الْجُبَّة وَيَده تحتهَا، فَإِذا أَرَادَ أَن يُخرجهَا مِنْهَا يسهل عَلَيْهِ، والبخيل على عَكسه، والأسلوب من التَّشْبِيه المفرق. قَالَ: وَقيد الْمُشبه بِهِ بالحديد إعلاما بِأَن الْقَبْض والشدة جبلة الْإِنْسَان، وأوقع الْمُتَصَدّق مَوضِع السخي مَعَ أَن مُقَابل الْبَخِيل هُوَ السخي لَا الْمُتَصَدّق إشعارا بِأَن السخاوة هِيَ مَا أَمر بِهِ الشَّرْع وَندب إِلَيْهِ من الْإِنْفَاق إلاَّ مَا يتعاناه المبذرون. وَقَالَ الْمُهلب: المُرَاد أَن الله يسر الْمُنفق فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة، بِخِلَاف الْبَخِيل فَإِنَّهُ يَفْضَحهُ، وَمعنى: تَعْفُو أَثَره، تمحو خطاياه، وَاعْترض عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض بِأَن الْخَبَر جَاءَ على التَّمْثِيل لَا على الْإِخْبَار عَن كَائِن، وَقيل: هُوَ تَمْثِيل لنماء المَال بِالصَّدَقَةِ، وَالْبخل بضده، وَقيل: تَمْثِيل لِكَثْرَة الْجُود وَالْبخل، وَأَن الْمُعْطِي إِذا أعْطى انبسطت يَدَاهُ بالعطاء، وتعود ذَلِك، فَإِذا أمسك صَار ذَلِك عَادَة.
تَابَعَهُ الحَسَنُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ طَاوُسٍ فِي الجُبتَيْنِ
أَي: تَابع ابْن طَاوُوس الْحسن بن مُسلم بن يناق فِي رِوَايَته عَن طَاوُوس فِي الجبتين بِالْبَاء، وَأخرج البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب اللبَاس فِي: بَاب جيب الْقَمِيص من عِنْد الصَّدْر. وَغَيره، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد أخبرنَا أَبُو عَامر أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن الْحسن بن مُسلم عَن طَاوُوس عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (ضرب رَسُول الله، صلى الله(8/309)
عَلَيْهِ وَسلم، مثل الْبَخِيل والمتصدق كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان من حَدِيد) الحَدِيث، ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تَابعه ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه.
وَقَالَ حَنْظَلَة عَن طَاوُوس جنتان
أَي قَالَ حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان فِي رِوَايَته عَن طَاوُوس جنتان بالنُّون وَهَذَا تَعْلِيق ذكره البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا فِي كتاب اللبَاس مُعَلّقا حَيْثُ قَالَ وَقَالَ حَنْظَلَة سَمِعت طَاوُوس سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق الْأَزْرَقِيّ عَن حنطلة.
وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرٌ عنِ ابنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَنَّتَانِ
أَي: قَالَ اللَّيْث بن سعد عَن جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن الْأَعْرَج، ذكر أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَخلف: أَن البُخَارِيّ علقه أَيْضا فِي الصَّلَاة.
92 - (بابُ صَدَقَةِ الكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَدَقَة الْكسْب وَالتِّجَارَة، وَالْحَاصِل أَنه أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا يعْتد بهَا إِذا كَانَت من كسب حَلَال أَو تِجَارَة من الْحَلَال، وَلم يذكر فِيهَا حَدِيثا إكتفاء بِمَا ذَكرْنَاهُ من الْآيَة الْكَرِيمَة، فَإِنَّهَا تَأمر بِالصَّدَقَةِ من الْجلَال وتنهى عَن الصَّدَقَة من الْحَرَام على مَا يذكرهُ.
لِقَوْلِهِ تَعالى {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسِبْتُمْ} إلَى قَولهِ: {أنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدُ} (الْبَقَرَة: 762) .
بَين مَا أَرَادَهُ من هَذِه التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الْآيَة على طَرِيق التَّعْلِيل بقوله لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أَن تغمضوا فِيهِ وأعلموا أَن الله غَنِي حميد} (الْبَقَرَة: 762) . إِن الله يَأْمر عباده الْمُؤمنِينَ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْمرَاد بِهِ الصَّدَقَة هَهُنَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: من طَيّبَات من رزقهم من الْأَمْوَال الَّتِي اكتسبوها. وَقَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي التِّجَارَة بتيسيره إِيَّاهَا لَهُم. وَقَالَ عَليّ وَالسُّديّ: من طَيّبَات مَا كسبتم يَعْنِي: الذَّهَب وَالْفِضَّة وَمن الثِّمَار وَالزَّرْع الَّتِي أنبتها الله تَعَالَى من الأَرْض. قَالَ ابْن عَبَّاس: أَمرهم بِالْإِنْفَاقِ من أطيب المَال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عَن التَّصَدُّق برذالة المَال ورديئه وَهُوَ خبيثه، فَإِن الله طيب لَا يقبل إلاَّ الطّيب. وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا تيمموا الْخَبيث} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: لَا تقصدوا {الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم بآخذيه} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: لَو أعطيتموه مَا أخذتموه إلاَّ أَن تتعلموا فِيهِ، وَالله أغْنى عَنهُ مِنْكُم، فَلَا تجْعَلُوا لله مَا تَكْرَهُونَ. وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تعدلوا عَن المَال الْحَلَال وتقصدوا إِلَى الْحَرَام فتجعلوا نفقتكم مِنْهُ، وروى الإِمَام أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله يُعْطي الدُّنْيَا من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إلاَّ من أحب، فَمن أعطَاهُ الدّين فقد أحبه، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يسلم عبد حَتَّى يسلم قلبه وَلسَانه، وَلَا يُؤمن حَتَّى يَأْمَن مَا جَاره بوائقه. قَالُوا: وَمَا بوائقه؟ قَالَ: غشمته وظلمته، وَلَا يكْسب عبد مَالا من حرَام فينفق مِنْهُ فيبارك لَهُ فِيهِ، وَلَا يتَصَدَّق بِهِ فَيقبل مِنْهُ، وَلَا يتْركهُ خلف ظَهره إلاَّ إِذا كَانَ راده إِلَى النَّار إِن الله لَا يمحو السيء بالسيء، وَلَكِن يمحو السيء بالْحسنِ، إِن الْخَبيث لَا يمحو الْخَبيث) . وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنِي الْحسن بن عَمْرو الْعَنْبَري حَدثنِي أبي عَن أَسْبَاط عَن السّديّ عَن عدي بن ثَابت عَن الْبَراء بن عَازِب فِي قَول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم ... } (الْبَقَرَة: 762) . الْآيَة، قَالَ: نزلت فِي الْأَنْصَار، كَانَت الْأَنْصَار إِذا كَانَ أَيَّام جذاذ النّخل أخرجت من حيطانها أقناء الْبُسْر فعلقوه على حَبل بَين الأسطوانتين فِي مَسْجِد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيأكل فُقَرَاء الْمُهَاجِرين مِنْهُ، فيعمد الرجل إِلَى الحشف فيدخله مَعَ أقناء الْبُسْر، يظنّ أَن ذَلِك جَائِز، فَأنْزل الله فِيمَن فعل ذَلِك {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا، وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا يحيى بن الْمُغيرَة حَدثنَا جرير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الله بن مُغفل فِي هَذِه الْآيَة: {وَلَا تيمموا(8/310)
الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ: كسب الْمُسلم لَا يكون خبيثا، وَلَكِن لَا يتَصَدَّق بالحشف وَالدِّرْهَم الزيف وَمَا لَا خير فِيهِ، وَقَالَ أَحْمد بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضب فَلم يَأْكُلهُ، وَلم ينْه عَنهُ. قلت: يَا رَسُول الله نطعمه الْمَسَاكِين؟ قَالَ: لَا تطعموهم مِمَّا لَا تَأْكُلُونَ) . وَقَالَ عُبَيْدَة: سَأَلت عليا عَن قَوْله: {انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَكَذَا قَالَ السّديّ قَالَ عُبَيْدَة وَسَأَلَهُ عَن قَوْله (وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض) قَالَ من قَالَ: من الْحبّ وَالثَّمَر كل شَيْء عَلَيْهِ زَكَاة، وَقَالَ مُجَاهِد: من النّخل، وَلَا تيمموا، قَالَ الطَّبَرِيّ: لَا تقصدوا وتعمدوا، وَفِي قِرَاءَة عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا تَمُوتُوا من أممت، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَإِن اخْتلفت الْأَلْفَاظ. وَقَالَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ: عَن ابْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أنزلت هَذِه الْآيَة فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، كَانَ الرجل يعمد إِلَى التَّمْر فيصرمه فيعزل الْجيد نَاحيَة، فَإِذا جَاءَ صَاحب الصَّدَقَة أعطَاهُ من الرَّدِيء، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} (الْبَقَرَة: 762) . قَالَ ابْن زيد: الْخَبيث هُنَا هُوَ الْحَرَام. وَقَالَ الثَّوْريّ: عَن السّديّ عَن أبي مَالك، واسْمه عزوان عَن الْبَراء: {ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ} (الْبَقَرَة: 762) . يَقُول: لَو كَانَ لرجل على رجل دين فَأعْطَاهُ ذَلِك لم يَأْخُذهُ إلاَّ أَن يرى أَنه قد نَقصه من حَقه، رَوَاهُ ابْن جرير، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة: عَن ابْن عَبَّاس: {ولستم بآخذيه إلاَّ أَن تغمضوا فِيهِ} (الْبَقَرَة: 762) . يَقُول: لَو كَانَ لكم على أحد حق فجاءكم بِحَق دون حقكم لم تأخذوه بِحِسَاب الْجيد حَتَّى تنقصوه، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْله: {إلاَّ أَن تغمضوا فِيهِ} (الْبَقَرَة: 762) . فَكيف ترْضونَ لي مَا لَا ترْضونَ لأنفسكم، وحقي عَلَيْكُم من أطيب أَمْوَالكُم وأنفسها؟) . رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَابْن جرير، وَزَاد قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} (آل عمرَان: 29) . قَوْله: {وَاعْلَمُوا أَن الله غَنِي حميد} (الْبَقَرَة: 762) . أَي: وَإِن أَمركُم بالصدقات وبالطيب مِنْهَا فَهُوَ غَنِي عَنْهَا، حميد فِي جَمِيع أَفعاله وأقواله وشرعه وَقدره لَا إلاه إلاص هُوَ وَلَا رب سواهُ.
03 - (بابٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٌ صَدَقَةٌ فَمَنْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ على كل مُسلم صَدَقَة. قَوْله: (فَمن لم يجد) من التَّرْجَمَة أَي: فَمن لم يقدر على الصَّدَقَة فليعمل بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوف اسْم جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله عز وَجل، والتقرب إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وكل مَا ندب إِلَيْهِ الشَّرْع وَنهى عَنهُ من المحسنات والمقبحات.
5441 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ عنْ جَدِّهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فقالُوا يَا نَبِيَّ الله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنفَعُ نَفْسَهُ وَيَتصَدَّقُ قَالُوا فإنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ قالُوا فإنْ لَمْ يَجِدْ قالَ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ ولْيُمْسِكْ عنِ الشَّرِّ فإنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ.
(الحَدِيث 5441 طرفه فِي 2206) .
مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الأول بِعَيْنِه وللجزء الثَّانِي فِي قَوْله: (فليعمل بِالْمَعْرُوفِ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: سعيد بن أبي بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عَامر. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو بردة عَامر. الْخَامِس: جد سعيد وَهُوَ: أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه عَن جده.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على كل مُسلم صَدَقَة) قَالَ بَعضهم: أَي على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب المتأكد. قلت: كلمة: على، تنَافِي هَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره الْوُجُوب، لَكِن خففه، عز وَجل، حَيْثُ جعل مَا خَفِي من المندوبات مسْقطًا لَهُ لطفا مِنْهُ وتفضلاً، قلت: يُمكن أَن يحمل ظَاهر الْوُجُوب على كل مُسلم رأى مُحْتَاجا عَاجِزا عَن التكسب، وَقد أشرف على الْهَلَاك فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق عَلَيْهِ إحْيَاء لَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أطلق الصَّدَقَة هُنَا وَبَينهَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، بقوله: (فِي كل يَوْم) ، وَهَذَا أخرجه مُسلم(8/311)
عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل سلامي من النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَة كل يَوْم تطلع فِيهِ الشَّمْس) الحَدِيث، وَرُوِيَ عَن أبي ذَر مَرْفُوعا: (يصبح على كل سلامي على أحدكُم صَدَقَة) . والسلامي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام: الْمفصل، وَله فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (خلق الله كل إِنْسَان من بني آدم على سِتِّينَ وثلاثمائة مفصل) . قَوْله: (يَا نَبِي الله فَمن لم يجد؟) أَي: فَمن لم يقدر على الصَّدَقَة، فكأنهم فَهموا من الصَّدَقَة الْعَطِيَّة، فَلذَلِك قَالُوا: فَمن لم يجد، فَبين لَهُم أَن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ مَا هُوَ أَعم من ذَلِك وَلَو بإغاثة الملهوف وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. قَوْله: (يعْمل بِيَدِهِ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (يعتمل بيدَيْهِ) ، من الإعتمال من بَاب الافتعال. وَفِيه معنى التَّكَلُّف. قَوْله: (يعين) من أعَان إِعَانَة. قَوْله: (الملهوف) بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة: ذَا الْحَاجة، وانتصاب هَذَا على المفعولية، والملهوف يُطلق على المتحسر والمضطر وعَلى الْمَظْلُوم، وتلهف على الشَّيْء تحسر. قَوْله: (فليعمل بِالْمَعْرُوفِ) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (قَالُوا فَإِن لم يفعل؟ قَالَ: فليمسك عَن الشَّرّ) . وَإِذا أمسك شَره عَن غَيره فَكَأَنَّهُ قد تصدق عَلَيْهِ لأمنه مِنْهُ، فَإِن كَانَ شرا لَا يعدو نَفسه فقد تصدق على نَفسه، بِأَن منعهَا من الْإِثْم. قَوْله: (فَإِنَّهَا) تَأْنِيث الضَّمِير فِيهِ إِمَّا بِاعْتِبَار الفعلة الَّتِي هِيَ الْإِمْسَاك، أَو بِاعْتِبَار الْخَبَر، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَدَب: فَإِنَّهُ، أَي: فَإِن الْإِمْسَاك. قَوْله: (لَهُ) أَي: للممسك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى لَا بُد مِنْهَا، وَهِي إِمَّا بِالْمَالِ أَو بِغَيْرِهِ، وَالْمَال إِمَّا حَاصِل أَو مَقْدُور التَّحْصِيل لَهُ والغير، إِمَّا فعل، وَهُوَ: الْإِعَانَة، أَو ترك وَهُوَ: الْإِمْسَاك، وأعمال الْخَيْر إِذا حسنت النيات فِيهَا تنزل منزلَة الصَّدقَات فِي الأجور وَلَا سِيمَا فِي حق من لَا يقدر على الصَّدَقَة، وَيفهم مِنْهُ أَن الصَّدَقَة فِي حق الْقَادِر عَلَيْهَا أفضل من سَائِر الْأَعْمَال القاصرة على فاعلها، وَأجر الْفَرْض أَكثر من النَّفْل، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن الرب، عز وَجل: (وَمَا تقرب إِلَى عَبدِي بِشَيْء أحب إِلَيّ مِمَّا افترضت عَلَيْهِ) . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، عَن بعض الْعلمَاء: ثَوَاب الْفَرْض يزِيد على ثَوَاب النَّافِلَة بسبعين دَرَجَة.
وَاعْلَم أَنه لَا تَرْتِيب فِيمَا تضمنه الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا هُوَ للإيضاح لما يَفْعَله من عجز عَن خصْلَة من الْخِصَال الْمَذْكُورَة، فَإِنَّهُ يُمكنهُ خصْلَة أُخْرَى، فَمن أمكنه أَن يعْمل بِيَدِهِ فَيتَصَدَّق، وَأَن يغيث الملهوف وَأَن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر ويمسك عَن الشَّرّ فَلْيفْعَل الْجَمِيع.
وَفِيه: فضل التكسب لما فِيهِ من الْإِعَانَة وَتَقْدِيم النَّفس على الْغَيْر، وَالله أعلم.
13 - (بابٌ قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أعْطَى شَاة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قدر كم يُعْطي من الزَّكَاة، وَكم يُعْطي من الصَّدَقَة؟ وَإِنَّمَا لم يبين الكمية فِيهَا إعتمادا على سبق الأفهام إِلَيْهِ، لِأَن عَادَته قد جرت بِمثل ذَلِك فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، أما الكمية فِي قدر مَا يُعْطي من الزَّكَاة فقد علمت فِي أَبْوَاب الزَّكَاة فِي كل صنف من الْأَصْنَاف، وَقد أَشَارَ فِي الْكتاب إِلَى أَكْثَرهَا على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد علم أَيْضا أَن التنقيص فِيهَا من الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّارِع لَا يجوز، وَأما الكمية فِي الصَّدَقَة فَغير مقدرَة لِأَن الْمُتَصَدّق محسن، وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ. قَوْله: (كم يعْطى) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على بِنَاء الْمَعْلُوم أَي: مِقْدَار كم يُعْطي الْمُزَكي فِي زَكَاته، وَكم يُعْطي الْمُتَصَدّق فِي صدقته. وَقَالَ بَعضهم: وَحذف مفعول يُعطي اختصارا لكَوْنهم ثَمَانِيَة أَصْنَاف، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الرَّد على من كره أَن يدْفع إِلَى شخص وَاحِد قدر النّصاب، وَهُوَ محكي عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: لَيْت شعري كم من لَيْلَة سهر هَذَا الْقَائِل حَتَّى سطر هَذَا الْكَلَام الَّذِي تمجه الأسماع، وَحذف الْمَفْعُول هُنَا كَمَا فِي قَوْلهم: فلَان يعْطى وَيمْنَع، وَكَيف يدل ذَلِك على الرَّد على أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَلَكِن هَذَا يطرد فِي الصَّدَقَة وَلَا يطرد فِي الزَّكَاة على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَالصَّدَََقَة) من عطف الْعَام على الْخَاص، قيل: لَو اقْتصر على الزَّكَاة لأوهم أَن غَيرهَا بِخِلَافِهَا. قلت: لَا يشك أحد أَن حكم الصَّدَقَة غير حكم الزَّكَاة إِذا ذكرت فِي مُقَابلَة الزَّكَاة، وَأما إِذا أطلق لفظ الصَّدَقَة فَتكون شَامِلَة لَهما. قَوْله: (وَمن أعْطى شَاة) ، عطف على قَوْله: (قدر كم يُعْطي؟) أَي: وَفِي بَيَان حكم من أعْطى شَاة فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه إِذا أعْطى شَاة فِي الزَّكَاة، إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَت كَامِلَة، لِأَن الشَّارِع نَص على كَمَال الشَّاة فِي مَوضِع تُؤْخَذ مِنْهُ الشَّاة، فَإِذا أعْطى جزأ مِنْهَا لَا يجوز، وَأما فِي الصَّدَقَة فَيجوز أَن يُعْطي الشَّاة كلهَا وَيجوز أَن يُعْطي جزأ مِنْهَا، على مَا يَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي حَدِيث الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(8/312)
6441 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا أبُو شِهَابٍ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أُمِّ عطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ بُعِثَ إلَي نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةَ بِشَاةٍ فأرْسَلَتْ إلَى عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مِنْها فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْتُ لاَ إلاَّ مَا أرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ فَقَالَ هاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن لَهَا جزآن: أَحدهمَا: مِقْدَار كم يُعْطي؟ وَالْآخر: وَمن أعْطى شَاة؟ فمطابقته للجزء الأول فِي إرْسَال نسيبة إِلَى عَائِشَة من تِلْكَ الشَّاة الَّتِي أرسلها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا من الصَّدَقَة، على مَا صرح بِهِ مُسلم على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ مِقْدَار مِنْهَا. ومطابقته للجزء الثَّانِي فِي إرْسَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا من الصَّدَقَة بِشَاة كَامِلَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: أَبُو شهَاب، واسْمه: عبد ربه بن نَافِع الحناط، بالنُّون: صَاحب الطَّعَام. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء. الرَّابِع: حَفْصَة بنت أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: أم عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَاسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مرت فِي: بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَأَن أَبَا شهَاب مدائني وَأَن خَالِدا بَصرِي وَأَن حَفْصَة وَأم عَطِيَّة مدنيتان. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر بنسبته إِلَى جده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بعث إِلَى نسيبة الْأَنْصَارِيَّة) بعث، على صِيغَة الْمَجْهُول، والباعث هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا فِي (صَحِيح مُسلم) قَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن خَالِد عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، قَالَت: بعث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة من الصَّدَقَة، فَبعثت إِلَى عَائِشَة مِنْهَا بِشَيْء، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ: هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ فَقَالَت: لَا إلاَّ أَن نسيبة بعثت إِلَيْنَا من الشَّاة الَّتِي بعثتم بهَا إِلَيْهَا. قَالَ: إِنَّهَا بلغت محلهَا) . وَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن يَقُول فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: بعث إِلَيّ، بِلَفْظ ضمير الْمُتَكَلّم الْمَجْرُور، لَكِن وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، إِمَّا على سَبِيل الإلتفات، وَإِمَّا على سَبِيل التَّجْرِيد من نَفسهَا شخصا اسْمه نسيبة. قَوْله: (إِلَى نسيبة) ، بِالْفَتْح فِي آخِره لِأَنَّهُ غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَقَوله: (الْأَنْصَارِيَّة) ، بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفته. قَوْله: (فَأرْسلت) ، يحْتَمل أَن يكون متكلما، وَأَن يكون غَائِبا وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لَكِن الرِّوَايَة بالغيبة. (مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ الشَّاة. قَوْله: (عنْدكُمْ شَيْء؟) أَي: هَل عنْدكُمْ شَيْء كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (هَات) أَصله: هَاتِي، لِأَنَّهُ أَمر للمؤنث، وَلَكِن حذفت الْيَاء مِنْهُ تَخْفِيفًا. قَالَ الْخَلِيل: أصل: هَات، آتٍ من آتى يُؤْتِي، فقلبت الْألف هَاء. قَوْله: (فقد بلغت محلهَا) ، بِكَسْر الْحَاء أَي: مَوضِع الْحُلُول والاستقرار، يَعْنِي أَنه قد حصل الْمَقْصُود مِنْهَا من ثَوَاب التَّصَدُّق، ثمَّ صَارَت ملكا لمن وصلت إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَرِيرَة: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَهُوَ لنا هَدِيَّة) .(8/313)
23 - (بابُ زَكاةِ الوَرَقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زَكَاة الْوَرق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء، وَهُوَ الْفضة، وَيُقَال بِفَتْح الْوَاو وبكسرها، وبكسر الرَّاء وسكونها، قدم هَذَا الْبَاب على سَائِر الْأَمْوَال الزكوية لِكَثْرَة دوران الْفضة فِي أَيدي النَّاس ورواجها بِكُل مَكَان.
7441 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالكٌ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ عَن أبيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنَ الإبِلِ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) ، والْحَدِيث مضى فِي بَاب: مَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْحَاق بن يزِيد عَن شُعَيْب بن إِسْحَاق عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة عَن أَبِيه عَن يحيى بن عُثْمَان بن أبي الْحسن أَنه سمع أَبَا سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... الحَدِيث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثني يَحْيى بنُ سَعِيدٍ قَالَ أخْبَرَنِي عَمْرٌ ووسَمِعَ أباهُ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهاذا
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالْغَرَض من هَذَا بَيَان التقوية لِأَنَّهَا هِيَ الْمرتبَة الْأَعْلَى لعدم احْتِمَال الْوَاسِطَة بِخِلَاف الْإِسْنَاد السَّابِق، وَهُوَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ مُحْتَمل للواسطة.
وَفِيه: التحديث والإخبار وَالسَّمَاع، وَهُنَاكَ يروي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه بالعنعنة، وَهنا صرح بِأَنَّهُ سمع أَبَاهُ. وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الْبَصْرِيّ، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه السِّتَّة كَمَا ذكرنَا فِي: بَاب مَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَقد حكى ابْن عبد الْبر عَن بعض أهل الْعلم أَن حَدِيث الْبَاب لم يَأْتِ إلاَّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَغْلَب، إلاَّ أنني وجدته من رِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. وَمن طَرِيق مُحَمَّد بن مُسلم عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَرِوَايَة سُهَيْل فِي (الْأَمْوَال) لأبي عبيد وَرِوَايَة مُحَمَّد بن مُسلم فِي (الْمُسْتَدْرك) . وَقد أخرجه مُسلم من وَجه آخر عَن جَابر، وَجَاء أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَائِشَة وَأبي رَافع وَمُحَمّد بن عبد الله بن جحش. أخرج أَحَادِيث الْأَرْبَعَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَمن حَدِيث ابْن عمر أخرجه ابْن أبي شيبَة وَأبي عبيد أَيْضا. انْتهى.
قلت: حَدِيث سُهَيْل فِي (كتاب الْأَمْوَال) لأبي عبيد من حَدِيث(9/2)
معمر عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِمثل حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ. وَحَدِيث مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي عَن عَمْرو بن دِينَار (عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَيْسَ على الرجل الْمُسلم زَكَاة فِي كره وَلَا فِي زرعه إِذا كَانَ أقل من خَمْسَة أوسق) ، أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من هَذَا الْوَجْه هَكَذَا، وَمن هَذَا الْوَجْه أَيْضا بِزِيَاد أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَعَ جَابر، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَدَقَة فِي الزَّرْع وَلَا فِي الْكَرم وَلَا فِي النّخل إِلَّا مَا بلغ خَمْسَة أوسق، وَذَلِكَ مائَة فرق) . وَحَدِيث جَابر أخرجه مُسلم من طَرِيق ابْن وهيب: أَخْبرنِي عِيَاض بن عبد الله عَن أبي الزبير عَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود من الْإِبِل صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من التَّمْر صَدَقَة) . وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة عبد الْكَرِيم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: لَيْسَ فِي أقل من خمس ذود شَيْء، وَلَا فِي أقل من الْأَرْبَعين من الْغنم شَيْء وَلَا فِي أقل من الْبَقر شَيْء وَلَا فِي أقل من عشْرين مِثْقَالا من الذَّهَب شَيْء وَلَا فِي أقل من مِائَتي دِرْهَم شَيْء، وَلَا فِي أقل من خمس أوسق شَيْء، وَالْعشر فِي التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَمَا سقى سيحا فَفِيهِ الْعشْر، وَمَا سقِِي بِالْقربِ فَفِيهِ نصف الْعشْر) ، وَعبد الْكَرِيم هُوَ ابْن أبي الْمخَارِق أَبُو أُميَّة الْبَصْرِيّ ضَعِيف. وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة صَالح بن مُوسَى عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت جرت السّنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق زَكَاة، والوسق سِتُّونَ صَاعا، وَذَلِكَ ثلثمِائة صَاع من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب، وَلَيْسَ فِيمَا أنبتت الأَرْض من الْخضر زَكَاة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: صَالح بن مُوسَى ضَعِيف الحَدِيث، وَضَعفه أَيْضا ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم، وَهُوَ من ولد صطلحة بن عبيد الله يُقَال لَهُ: الطلحي. وَحَدِيث أبي رَافع أخرجه الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة شُعْبَة عَن الحكم عَن ابْن أبي رَافع عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا من بني مَخْزُوم على الصَّدَقَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق صَدَقَة، وَلَا فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) . وَحَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله ابْن جحش أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي كثير مولى ابْن جحش عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين بَعثه إِلَى الْيمن أَن يَأْخُذ من كل أَرْبَعِينَ دِينَارا دِينَارا، وَمن كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة، وَلَا فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، وَلَيْسَ لَهُم فِي الخضروات صَدَقَة) . وَأَبُو كثير ذكره أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب (الكنى) مِمَّن لَا يعرف اسْمه، وَقَالَ: روى عَنهُ الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، وَفِيه عبد الله بن شبيب ضعفه ابْن حبَان. وَحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) من رِوَايَة لَيْث بن أبي سليم عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ أَيْضا مَوْقُوفا عَلَيْهِ، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أَيُّوب بن مُوسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ مثل ذَلِك غير مَرْفُوع. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَمْرو بن حزم أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات) ، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (وَفِي كل خمس أَوَاقٍ من الْوَرق خَمْسَة دَرَاهِم) ، وَمَا زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ شَيْء) . وَقَالَ ابْن حبَان: سُلَيْمَان هُوَ ابْن دَاوُد الْخَولَانِيّ ثِقَة، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: الْأَشْبَه أَنه سُلَيْمَان بن أَرقم، وَهُوَ مَتْرُوك.
33 - (بابُ العَرْضِ فِي الزَّكَاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز أَخذ الْعرض فِي الزَّكَاة، وَالْعرض، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء: خلاف الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم الَّتِي هِيَ قيم الْأَشْيَاء، وبفتح الْعين: مَا كَانَ عارضا لَك من مَال، قل أَو كثر، يُقَال: الدُّنْيَا عرض حَاضر يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، فَكل عرض بِسُكُون عرض بِالْفَتْح بِدُونِ الْعَكْس، وَالْعرض يجمع على عرُوض، وَقَالَ ابْن قرقول: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض) ، بِفَتْح الرَّاء: يَعْنِي كَثْرَة المَال وَالْمَتَاع وَيُسمى عرضا لِأَنَّهُ عَارض يعرض وقتا ثمَّ يَزُول ويفنى. وَمِنْه قَوْله: (يَبِيع دينه(9/3)
بِعرْض من الدُّنْيَا) أَي: بمتاع مِنْهَا ذَاهِب فانٍ. وَالْعرض مَا عدا الْعين، قَالَه أَبُو زيد. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كَانَ من مَال غير نقد، قَالَ أَبُو عبيد، مَا عدا الْحَيَوَان وَالْعَقار والمكيل وَالْمَوْزُون. وَفِي (الصِّحَاح) : الْعرض الْمَتَاع وكل شَيْء فَهُوَ عرض سوى الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِنَّهَا عين. وَقَالَ أَبُو عبيد: الْعرُوض الْأَمْتِعَة الَّتِي لَا يدخلهَا كيل وَلَا وزن وَلَا يكون حَيَوَانا وَلَا عقارا، وَالْعرض، بِكَسْر الْعين: النَّفس، يُقَال أكرمت عرضي عَنهُ أَي: صنت عَنهُ نَفسِي، وَفُلَان نقي الْعرض أَي: برىء من أَن يشْتم أَو يعاب. وَقد قيل: عرض الرجل حَسبه، وَالْعرض، بِضَم الْعين: نَاحيَة الشَّيْء من أَي وَجه جِئْته ورأيته فِي عرض النَّاس أَي فِيمَا بَينهم.
وَقَالَ طاوسٌ قَالَ مُعَاذٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لأِهْلِ اليَمَنِ ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أهْوَنُ عَلَيْكُمْ وخَيْرٌ لأِصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ائْتُونِي بِعرْض) ، وَهَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن ابْن عُيَيْنَة عَن إِبْرَاهِيم ن ميسرَة عَن طَاوُوس قَالَ معَاذ: ائْتُونِي بِخمْس، وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابراهيم عَن طَاوُوس أَن معَاذًا كَانَ يَأْخُذ الْعرُوض فِي الصَّدَقَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِعرْض ثِيَاب) بِغَيْر إِضَافَة على أَن قَوْله: ثِيَاب، إِمَّا بدل أَو عطف بَيَان، ويروى بِإِضَافَة الْعرض إِلَى ثِيَاب من قبيل شجر الْأَرَاك، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة. قَوْله: (خميص) ، بالصَّاد، كَذَا ذكره البُخَارِيّ فِيمَا قَالَه عِيَاض وَابْن قرقول، وَقَالَ الدَّاودِيّ والجوهري: ثوب خَمِيس، بِالسِّين، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: خموص، وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي طوله خَمْسَة أَذْرع، يَعْنِي: الصَّغِير من الثِّيَاب، وَقَالَ أَبُو عمر: وَأول من عَملهَا بِالْيمن ملك يُقَال لَهُ الْخَمِيس. وَفِي (مجمع الغرائب) : أول من عمله يُقَال لَهُ الْخَمِيس. وَفِي (المغيث) : الْخَمِيس الثَّوْب المخموس الَّذِي طوله خمس. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا وَجه لِأَن يكون بالصَّاد، فَإِن صحت الرِّوَايَة بالصَّاد فَيكون مُذَكّر الخميصة، فاستعارها للثوب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ الكساء الْأسود المربع لَهُ علمَان. قَوْله: (أَو لَيْسَ) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: بِمَعْنى الملبوس، مثل قَتِيل ومقتول، وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَو كَانَ أَرَادَ الأسم لقَالَ: لبوس. لِأَن اللبوس كل مَا يلبس من ثِيَاب وَدرع. قَوْله: (والذرة) ، بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء. قَوْله: (أَهْون) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ أَهْون، أَي: أسهل. قَوْله: (عَلَيْكُم) ، وَإِنَّمَا لم يقل لكم لإِرَادَة معنى تسليط السهولة عَلَيْهِم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا فِي جَوَاز دفع الْقيم فِي الزكوات، وَلِهَذَا قَالَ ابْن رشيد: وَافق البُخَارِيّ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْحَنَفِيَّة مَعَ كَثْرَة مُخَالفَته لَهُم، لَكِن قَادَهُ إِلَى ذَلِك الدَّلِيل، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن أجَاب الْجُمْهُور عَن قصَّة معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: من جملَة مَا قَالُوا: إِنَّه مُرْسل. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدِيث طَاوُوس لَو كَانَ صَحِيحا لوَجَبَ ذكره لينتهي إِلَيْهِ وَإِن كَانَ مُرْسلا فَلَا حجَّة فِيهِ، وَمِنْهُم من قَالَ: إِن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ الْجِزْيَة لأَنهم يطلقون ذَلِك مَعَ تَضْعِيف الْوَاجِب حذرا من الْعَار. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الْأَلْيَق بمعاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْأَشْبَه بِمَا أَمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ الْجِنْس فِي الصَّدقَات وَأخذ الدِّينَار، وعدله معافر ثِيَاب الْيمن فِي الْجِزْيَة. قَالُوا: وَيدل عَلَيْهِ نَقله إِلَى الْمَدِينَة، وَذهب معَاذ أَن النَّقْل فِي الصَّدقَات مُمْتَنع وَيدل عَلَيْهِ إضافتها إِلَى الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار والجزية تسْتَحقّ بالهجلاة والنصرة وَأما الزَّكَاة فتستحق بالفقر والمسكنة وَقَالُوا أَيْضا أَن قَوْله ائْتُونِي بِعرْض ثِيَاب مَعْنَاهُ آتوني بِهِ آخذه مِنْكُم مَكَان الشّعير والذرة الَّذِي آخذه شِرَاء بِمَا آخذه فَيكون بِأَخْذِهِ قد بلغت مَحَله ثمَّ يَأْخُذ مَكَان مَا يَشْتَرِيهِ مِمَّا هُوَ وَاسع عِنْدهم وانفع للآخذ وَقَالُوا لَو كَانَت هَذِه من الزَّكَاة لم تكن مَرْدُودَة على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ دون غَيرهم وَكَيف كَانَ الْوَجْه فِي رده عَلَيْهِم وَقد قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد فِي فقرائهم) وَأما الْجَواب عَن ذَلِك كُله فَهُوَ أَن قَوْلهم أَنه مُرْسل فَنَقُول الْمُرْسل حجَّة عندنَا وَأَن قَوْلهم المُرَاد بِالصَّدَقَةِ الْجِزْيَة فَالْجَوَاب عَنهُ من أَرْبَعَة أوجه. أَولهَا أَنه قَالَ مَكَان الشّعير والذرة وَتلك غير وَاجِبَة فِي الْجِزْيَة بِالْإِجْمَاع. الثَّانِي أَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ لفظ الصَّدَقَة، كَمَا فِي لفظ البُخَارِيّ، والجزي صغَار لَا صَدَقَة، ومسميها بِالصَّدَقَةِ مكابر. الثَّالِث: قَالَه حِين بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخذ زكااهم، وَفعله امْتِثَال لما بعث من أَجله وَسَببه هُوَ الزَّكَاة، فَكيف يحمل على الْجِزْيَة؟ الرَّابِع: أَن الْخطاب مَعَ الْمُسلمين لِأَنَّهُ يبين لَهُم مَا فِيهِ من النَّفْع لأَنْفُسِهِمْ وللمهاجرين وَالْأَنْصَار، فلولا أَنهم يُرِيدُونَ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لما قَالَ: خير الْأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ وهم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار، لِأَن الْكفَّار(9/4)
لَا يختارون الْخَيْر للمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَأَن قَوْلهم: مَذْهَب معَاذ أَن النَّقْل من الصَّدقَات مُمْتَنع، لَا أصل لَهُ لِأَنَّهُ لَا ينْسب إِلَى أحد من الصَّحَابَة مَذْهَب فِي حَيَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وسلمد وَأَن قَوْلهم: وَيدل عَلَيْهِ إضافتها إِلَى الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ... إِلَى آخِره، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم يضف الصَّدَقَة إِلَيْهِم مُطلقًا، بل أَرَادَ أَنه خير للْفُقَرَاء مِنْهُم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: خير للْفُقَرَاء مِنْهُم، فَحذف الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وأعربه إعرابه، وَمَا نقل الزَّكَاة إِلَى الْمَدِينَة إلاَّ بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَعثه لذَلِك، وَلِأَنَّهُ يجوز نقلهَا إِلَى قوم أحْوج من الْفُقَرَاء الَّذين هم هُنَاكَ، وفقراء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار أحْوج لِلْهِجْرَةِ وضيق حَال الْمَدِينَة فِي ذَلِك الْوَقْت. فَإِن قلت: قد قيل: إِن الْجِزْيَة كَانَت يَوْمئِذٍ من قوم عرب باسم الصَّدَقَة، فَيجوز أَن يكون معَاذ أَرَادَ ذَلِك فِي قَوْله: فِي الصَّدَقَة؟ قلت: قَالَ السرُوجِي: قَالَ هَذَا القَاضِي أَبُو مُحَمَّد، ثمَّ قَالَ: مَا أقبح الْجور وَالظُّلم مِنْهُ، وَمَا أجهله بِالنَّقْلِ، إِنَّمَا جَاءَت تَسْمِيَة الْجِزْيَة بِالصَّدَقَةِ من بني تغلب ونصارى الْعَرَب بالتماسهم فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: هِيَ جِزْيَة فسموها مَا شِئْتُم، وَمَا سَمَّاهَا المسمون صَدَقَة قطّ. قلت: قَالَ الطرطوشي: قَالَ معَاذ: للمهاجرين وَالْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَفِي الْمُهَاجِرين بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَلَا يحل لَهُم الصَّدَقَة، وَفِي الْأَنْصَار أَغْنِيَاء وَلَا يحل لَهُم الصَّدَقَة، فَدلَّ على أَن ذَلِك الْجِزْيَة. قلت: قَالَ السرُوجِي: ركة مَا قَالَه ظَاهِرَة جدا، وَهُوَ تعلق بحبال الْهوى وخبطة العشواء لِأَنَّهُ أَرَادَ بالمهاجرين وَالْأَنْصَار من يحل لَهُ الصَّدَقَة لَا من تحرم عَلَيْهِ، وَكَذَا الْجِزْيَة لَا تصرف إِلَى جَمِيع الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بل إِلَى مصارفها المعروفين. فَافْهَم. فَإِن قلت: إِن قصَّة معَاذ اجْتِهَاد مِنْهُ فَلَا حجَّة فِيهَا؟ قلت: كَانَ معَاذ أعلم النَّاس بالحلال وَالْحرَام، وَقد بَين لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أرْسلهُ إِلَى الْيمن مَا يصنع بِهِ.
وَقَالَ النبيُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمَّا خالِدٌ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَأعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ الله
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن أَدْرَاع خَالِد وأعتده من الْعرض، وَلَوْلَا أَنه وقفهما لأعطاهما فِي وَجه الزَّكَاة أَو لما صَحَّ مِنْهُ صرفهما فِي سَبِيل الله لدخلا فِي أحد مصارف الزَّكَاة الثَّمَانِية الْمَذْكُورَة. فِي قَوْله عز وَجل: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 06) . فَلم يبْق عَلَيْهِ شَيْء، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب قَول الله عز وَجل {وَفِي الرّقاب والغارمين وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وَسَيَأْتِي بعد أَرْبَعَة عشر بَابا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّدَقَةِ، فَقيل: منع ابْن جميل وخَالِد بن الْوَلِيد وعباس بن عبد الْمطلب رَضِي الله تعاى عَنْهُم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ينْتَقم ابْن جميل إِلَّا أَنه كَانَ فَقِيرا فأغناه الله وَرَسُوله وَأما خَالِد فأنكم تظْلمُونَ خَالِدا فقد احْتبسَ أدراعه وَاعْتَمدهُ فِي سَبِيل الله وَأما الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَعم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أما خَالِد) ، هُوَ خَالِد بن الْوَلِيد سيف الله. قَوْله: (احْتبسَ) أَي: وقف، وَهُوَ يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى، وحبسته وَاحْتَبَسَتْهُ بِمَعْنى. قَوْله: (أدراعه) جمع درع. قَوْله: (وأعتده) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: جمع: عتد، بِفتْحَتَيْنِ. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم أعتاده، وَهُوَ جمعه أَيْضا. قيل: هُوَ مَا يعده الرجل من الدَّوَابّ وَالسِّلَاح، وَقيل: الْخَيل خَاصَّة. يُقَال: فرس عتيد أَي صلب أَو معد للرُّكُوب أَو سريع الْوُثُوب، ويروى: (أعبده) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، جمع: عبد، حَكَاهَا عِيَاض وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَهَذَا حجَّة أَيْضا للحنفية. وَاسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ أَيْضا على إِخْرَاج الْعرُوض فِي الزَّكَاة، وَوجه ذَلِك أَنهم ظنُّوا أَنَّهَا للتِّجَارَة فطالبوه بِزَكَاة قيمتهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي مَوْضِعه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصَدَّقْنَ ولَوْ مِنْ حلِيِّكُنَّ فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتِ المَرْأةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وسِخَابِهَا ولَمْ يَخُصُّ الذَّهَبَ والفِضَّةَ مِنَ العُرُوضِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خرصها وسخابها) ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهن بِالصَّدَقَةِ وَلم يعين الْفَرْض من غَيره، ثمَّ إلقاؤهن الْخرص والسخاب وَعدم رده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا مِنْهُنَّ دَلِيل على أَخذ الْعرُوض فِي الزَّكَاة، وَيفهم من كَلَامه أَنه لم يفرق بَين مصارف الزَّكَاة(9/5)
وَبَين مصارف الصَّدَقَة، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الْقرْبَة، والمصروف إِلَيْهِ الْفَقِير والمحتاج. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا حث على الصَّدَقَة وَلَو من أنفس مَال، وَلَيْسَ فِي ذَلِك فرض، فَلَو كَانَ من الْفَرْض لقَالَ: أدين صَدَقَة أموالكن. قلت: معنى: تصدقن أدِّينَ صدقاتكن، وَهن أمرن بِالصَّدَقَةِ، وَهُوَ يتَنَاوَل الْفَرْض وَالنَّفْل، وَلَكِن هَذَا اللَّفْظ إِذا أطلق يكون المُرَاد مِنْهُ الْكَمَال، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ فِي الْفَرْض، ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا، وَقد تقدم فِي الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الْعلم الَّذِي فِي الْمصلى. قَوْله: (وَلَو من حليكن) أَي: وَلَو كَانَت صدقتكن من حليكن، بِضَم الْحَاء وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: جمع حلي بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون اللَّام، وَهَذَا للْمُبَالَغَة. قَوْله: (فَلم يسْتَثْن صَدَقَة الْفَرْض من غَيرهَا) من كَلَام البُخَارِيّ. قَوْله: (خرصها) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة: وَهُوَ الْحلقَة الَّتِي تعلق فِي الْأذن، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِكَسْر الْخَاء أَيْضا. قَوْله: (وسخابها) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَهِي القلادة. قَوْله: (وَلم يخص. .) إِلَى آخِره، من كَلَام البُخَارِيّ ذكره لكيفية استدلاله على أَدَاء الْعرض فِي الزَّكَاة.
8441 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ أنَّ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أمَرَ الله رسولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقتُهُ بِنْتَ مَخاضٍ ولَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ويُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَما أوْ شَاتَيْنِ فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابنُ لَبُونٍ فإنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ولَيْسَ مَعَهُ شَيءٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ جَوَاز إِعْطَاء سنّ من الْإِبِل بدل سنّ آخر، وَلما صَحَّ إِعْطَاء الْعَامِل الْجبرَان صَحَّ الْعَكْس أَيْضا، وَلما جَازَ أَخذ الشَّاة بدل تفَاوت سنّ الْوَاجِب جَازَ أَخذ الْعرض بدل الْوَاجِب.
ذكر رِجَاله: وهم: أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الله ابْن الْمثنى، بِضَم الْمِيم وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالنُّون. الثَّانِي: أَبوهُ عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله بن أنس بن مَالك. الثَّالِث: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: وَهُوَ عبد الله بن أنس قَاضِي الْبَصْرَة، وَقد مر فِي كتاب الْعلم. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: أَن السَّنَد كُله بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن التحديث مسلل بالأنسبين. وَفِيه: أَنهم كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده وَهُوَ رِوَايَة ثُمَامَة عَن أنس، فَإِن أنسا جده. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه، وَهُوَ رِوَايَة عبد الله بن الْمثنى عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس. وَفِيه: أَن عبد الله ابْن الْمثنى من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه من رباعيات الحَدِيث.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره ذكر صَاحب (التَّلْوِيح) أَن هَذَا الحَدِيث خرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع من كِتَابه بِإِسْنَاد وَاحِد مقطعا من حَدِيث ثُمَامَة عَن أنس: أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : فِي سِتَّة مَوَاضِع من الزَّكَاة، وَفِي الْخمس وَفِي الشّركَة وَفِي اللبَاس وَفِي ترك الْحِيَل مقطعا وَمُطَولًا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن جده أنس بِهِ، وَقَالَ فِي اللبَاس: وَزَادَنِي أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْأنْصَارِيّ، فَذكر قصَّة الْخَاتم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: اخذت من ثُمَامَة بن عبد الله ابْن أنس كتابا زعم أَن أَبَا بكر كتبه لأنس وَعَلِيهِ خَاتم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين بَعثه مُصدقا، وَكتبه لَهُ، فَإِذا فِيهِ: هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة، فَذكره بِطُولِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَعَن عبد الله بن فضَالة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار وَمُحَمّد بن مَرْزُوق ثَلَاثَتهمْ عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ، نَحوه وَلَيْسَ فِيهِ قصَّة الْخَاتم.
فَنَقُول: الْموضع الأول: من الزَّكَاة هُوَ الْمَذْكُور هَهُنَا. وَالثَّانِي: فِي: بَاب لَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي ثُمَامَة أَن أنسا حَدثهُ أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتب لَهُ الَّذِي فرض لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة) . وَالثَّالِث فِي: بَاب مَا كَانَ من خليطين: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله ... إِلَى آخِره بِالْإِسْنَادِ(9/6)
الْمَذْكُور. وَالرَّابِع فِي: بَاب من بلغت عِنْده صَدَقَة بنت مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده، حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله. . إِلَى آخِره، بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَالْخَامِس فِي: بَاب زَكَاة الْغنم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله ... إِلَى آخِره، نَحوه. وَالسَّادِس فِي: بَاب لَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة، حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى آخِره نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كتب لَهُ النَّبِي) ، أَي: كتب لَهُ الْفَرِيضَة الَّتِي تُؤْخَذ فِي زَكَاة الْحَيَوَان الَّتِي أَمر الله تَعَالَى وَرَسُوله بهَا. قَوْله: (بنت مَخَاض) ، بِفَتْح الْمِيم وبالخاء الْمُعْجَمَة الْخَفِيفَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة: وَهِي الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حول وَدخلت فِي الثَّانِي وحملت أمهَا، والماخض الْحَامِل أَي: دخل وَقت حملهَا، وَإِن لم تحمل، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل فِي (كتاب الْإِبِل) تأليفه: إِن ولد النَّاقة لَا يزَال فصيلاً سنة، فَإِذا لقحت أمه انْفَصل عَنهُ اسْم الفصيل وَهُوَ ابْن مَخَاض، فَإِذا بلغت أمه مضربها من رَأس السّنة فَإِن ضربت فلقحت فإبنها ابْن مَخَاض، وَالْجَمَاعَة: بَنَات مَخَاض حَتَّى تلقح أمه من الْعَام الْمقبل، فَإِذا نتجت فَهُوَ ابْن اللَّبُون حَتَّى تضع أمه من آخر سنتَيْن، وَالْأُنْثَى ابْنة لبون، وَذَلِكَ للبن أمه من آخر عامها، وَالْجَمَاعَة بَنَات اللَّبُون، فَيكون ابْن لبون سنة ثمَّ تكون حَقًا وَالْأُنْثَى حقة لسنة، وَالْجَمَاعَة الحقاق، وَثَلَاثَة أَحَق وَالْإِنَاث ثَلَاث حقائق، والحقة يُقَال لَهَا: طروقة، وَذَلِكَ حِين تبلغ أمه اللقَاح فتريد الْفَحْل أول مَا تريده، يُقَال لَهَا طروقة الْفَحْل، وَإِن لم ترد الْفَحْل فَهِيَ طروقة على كل حَال، فَإِذا بلغت الحقاقة وَلم ترد الْفَحْل فَهِيَ الآبية فَإِذا بلغ رَأس الْحول فَهُوَ الْجذع، وَالْأُنْثَى الْجَذعَة وَالْجَمَاعَة الجذاع، وَيُقَال الجذعان والجذاع أَكثر، وَعَن الْأَصْمَعِي: الجذوعة وَقت من الزَّمَان لَيست بسن، وَقيل هُوَ فِي جَمِيع الدَّوَابّ قبل أَن يثني بسنه، وَالْجمع جذعان وجذان. وَفِي (الْمُخَصّص) : الْحق الَّذِي اسْتحق أَن يركب وَيحمل عَلَيْهِ، وَقيل: الَّذِي اسْتحقَّت أمه الْحمل بعد الْعَام الْمقبل، وَقيل: إِذا اسْتحق هُوَ واخته أَن يحمل عَلَيْهِمَا فَهُوَ حق، وَعند سِيبَوَيْهٍ حَقه وحقق وحقق بِالضَّمِّ وحقائق جمع حقة على غير قِيَاس، والحقة يكون مصدرا واسْمه.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (سنَنه) : سمعته من الرياشي وَأبي حَاتِم وَغَيرهمَا، وَمن كتاب النَّضر بن شُمَيْل، وَمن كتاب أبي عبيد وَرُبمَا ذكر أحدهم الْكَلِمَة، قَالُوا: يُسمى الحوار ثمَّ الفصيل إِذا أفصل، ثمَّ يكون بنت مَخَاض لسنة إِلَى تَمام سنتَيْن، فَإِذا دخلت فِي الثَّالِثَة فَهِيَ ابْنة لبون، فَإِذا تمت لَهُ ثَلَاث سِنِين فَهُوَ حق وحقة إِلَى تَمام أَربع سِنِين لِأَنَّهَا اسْتحقَّت أَن تركب وَتحمل عَلَيْهَا الْفَحْل فَهِيَ تلقح، وَلَا يلقح الذّكر حَتَّى يثنى، وَيُقَال للحقة طروقه الْفَحْل لِأَن الْفَحْل يطرقها إِلَى تَمام أَربع سِنِين، فَإِذا طعنت فِي الْخَامِسَة فَهِيَ جَذَعَة حَتَّى يتم لَهَا خمس سِنِين، فَإِذا دخلت فِي السَّادِسَة وَألقى ثنيته لَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ ثني حَتَّى تستكمل سِتا فَإِذا طعن فِي السَّابِعَة سمي الذّكر رباعي وَالْأُنْثَى ربَاعِية إِلَى تَمام السَّابِعَة، فَإِذا دخل فِي الثَّامِنَة ألْقى السن السديس الَّذِي بعد الرّبَاعِيّة فَهُوَ سديس وَسدس إِلَى تَمام الثَّامِنَة، فَإِذا دخل فِي التسع طلع نابه فَهُوَ باذل، أَي: بذل نابه، يَعْنِي طلع حَتَّى يدْخل فِي الْعَاشِرَة فَهُوَ حِينَئِذٍ مخلف، ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم، وَلَكِن يُقَال بازل عَام وبازل عَاميْنِ ومخلف عَام ومخلف عَاميْنِ ومخلف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَى خمس سِنِين، والخلفة الْحَامِل.
قَوْله: (وَلَيْسَت عِنْده) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَن بنت مَخَاض لَيست بموجودة عِنْده. قَوْله: (وَعِنْده بنت لبون) ، جملَة حَالية أَيْضا أَي: وَالْحَال أَن الْمَوْجُود عِنْده بنت لبون. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن بنت لبون تقبل مِنْهُ، أَي تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة وَلَكِن يُعْطِيهِ، أَي: الْمُصدق، وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذ الزَّكَاة يُعْطي صَاحب الْمَاشِيَة عشْرين درهما أَو يُعْطِيهِ شَاتين، وَذَلِكَ ليجبر بهَا تفَاوت سنّ الْإِبِل، وَيُسمى ذَلِك بالجبران. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا أَن الْخِيَار فِي الشاتين وَالدَّرَاهِم لدافعها، سَوَاء كَانَ الْمَالِك أَو السَّاعِي، وَفِي قَول: إِن الْخيرَة إِلَى السَّاعِي مُطلقًا فعلى هَذَا إِن كَانَ هُوَ الْمُعْطِي رَاعى الْمصلحَة للْمَسَاكِين، وكل مِنْهُمَا أصل بِنَفسِهِ وَلَيْسَ بِبَدَل لِأَنَّهُ خير بَينهمَا بِحرف أَو فَعلم أَن ذَلِك لَا يجْرِي مجْرى تَعْدِيل الْقيمَة لاخْتِلَاف ذَلِك فِي الْأَزْمِنَة والأمكنة، وَإِنَّمَا هُوَ فرض شَرْعِي كالغرة فِي الْجَنِين والصاع فِي الْمُصراة. انْتهى. قلت: قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَمن وَجب عَلَيْهِ سنّ فَلم يُوجد عِنْده أَخذ الْمُصدق أَعلَى مِنْهَا ورد الْفضل أَو أَخذ دونهَا وَأخذ الْفضل. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: إِذا وَجَبت بنت مَخَاض وَلم تُوجد أَخذ ابْن لبون، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: لَا يجوز ذَلِك إلاَّ بطرِيق الْقيمَة. وَفِي (الْمَبْسُوط) : يتَعَيَّن ابْن لبون عِنْد عدم بنت مَخَاض فِي رِوَايَة عَن أبي يُوسُف، وَفِي (الْبَدَائِع) : قَالَ مُحَمَّد: فِي الأَصْل إِن الْمُصدق بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ قيمَة الْوَاجِب(9/7)
وَإِن شَاءَ أَخذ الأدون وَأخذ تَمام قيمَة الْوَاجِب من الدَّرَاهِم. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : وَقيل: يَنْبَغِي الْخِيَار لصَاحب السَّائِمَة إِن شَاءَ دفع الْأَفْضَل واسترد الْفضل من الدَّرَاهِم، وَإِن شَاءَ دفع الأدون وَدفع الْفضل من الدَّرَاهِم، لِأَن دفع الْقيمَة جَائِز فِي الزَّكَاة، وَالْخيَار فِي ذَلِك لصَاحب المَال دون الْمُصدق إلاَّ فِي فصل وَاحِد، وَهُوَ مَا إِذا أَرَادَ صَاحب المَال أَن يدْفع بعض الْعين لأجل الْوَاجِب، فالمصدق بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ ذَلِك وَإِن شَاءَ لم يَأْخُذهُ، كَمَا إِذا وَجَبت بنت لبون، فَأَرَادَ صَاحب المَال أَن يدْفع بعض الحقة بطرِيق الْقيمَة أَو كَانَ الْوَاجِب الحقة فَأَرَادَ أَن يدْفع عَنْهَا بعض الْجَذعَة بطرِيق الْقيمَة فالمصدق بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ قبل، وَإِن شَاءَ لم يقبل لما فِيهِ من عيب التشقيص.
ثمَّ اعْلَم أَن الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب أَن دفع الْقيمَة فِي الزَّكَاة جَائِز عندنَا، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر وَالْخَرَاج وَالنّذر، وَهُوَ قَول عمر وَابْنه عبد الله وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ومعاذ وطاووس. وَقَالَ الثَّوْريّ: يجوز إِخْرَاج الْعرُوض فِي الزَّكَاة إِذا كَانَت بِقِيمَتِهَا، وَهُوَ مَذْهَب البُخَارِيّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وَلَو أعْطى عرضا عَن ذهب وَفِضة، قَالَ أَشهب: يجْزِيه. وَقَالَ الطرطوشي: هَذَا قَول بَين فِي جَوَاز إِخْرَاج الْقيم فِي الزَّكَاة، قَالَ: وَأجْمع أَصْحَابنَا على أَنه لَو أعْطى فضَّة عَن ذهب أَجزَأَهُ، وَكَذَا إِذا أعْطى درهما عَن فضَّة عِنْد مَالك: وَقَالَ سَحْنُون: لَا يجْزِيه وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَأَجَازَ ابْن حبيب دفع الْقيمَة إِذا رَآهُ أحسن للْمَسَاكِين، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز، وَهُوَ قَول دَاوُد. قلت: حَدِيث الْبَاب حجَّة لنا لِأَن ابْن لبون لَا مدْخل لَهُ فِي الزَّكَاة إلاَّ بطرِيق الْقيمَة لِأَن الذّكر لَا يجوز فِي الْإِبِل إِلَّا بِالْقيمَةِ، وَلذَلِك احْتج بِهِ البُخَارِيّ أَيْضا فِي جَوَاز أَخذ الْقيم مَعَ شدَّة مُخَالفَته للحنفية.
قَوْله: (على وَجههَا) ، أَي: وَجه الزَّكَاة الَّتِي فَرضهَا الله تَعَالَى بِلَا تعد. قَوْله: (ابْن لبون) ، وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ: ابْن لبون ذكر، وَجعل لفظ الذّكر من متن الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَمن الْمَعْلُوم أَنه لَا يكون إلاَّ ذكرا، وَإِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا كَقَوْلِه تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} (التَّوْبَة: 06) . وَكَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَرَجَب مُضر الَّذِي بَين جُمَادَى وَشَعْبَان) ، وَزعم بَعضهم أَنه احْتِرَاز من الْخُنْثَى، وَقيل: ذكر ذَلِك تَنْبِيها لرب المَال وعامل الزَّكَاة، لتطيب نفس رب المَال بِالزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَة مِنْهُ وللمصدق، ليعلم أَن سنّ الذُّكُور مَقْبُول من رب المَال فِي هَذَا الْموضع.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب جَوَاز الْكِتَابَة فِي الحَدِيث، وَقيل لمَالِك فِي الرجل يَقُول لَهُ الْعَالم: هَذَا كتابي فاحمله عني وَحدث بِمَا فِيهِ، قَالَ: لَا أرَاهُ يجوز، وَمَا يُعجبنِي. وروى عَنهُ غير هَذَا وَأَنه قَالَ: كتبت ليحيى بن سعيد مائَة حَدِيث من حَدِيث ابْن شهَاب فحملها عني، وَلم يَقْرَأها عَليّ وَقد أجَاز الْكتاب ابْن وهب وَغَيره، والمقاولة أقوى من الْإِجَازَة إِذا صَحَّ الْكتاب. وَفِيه: حجَّة لجَوَاز كِتَابَة الْعلم، وَالله أعلم.
9441 - حدَّثنا مُؤملٌ قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ عَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ. قَالَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أشْهَدُ عَلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ فَرَأى أنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فأتاهُنَّ ومَعَهُ بِلالٌ فَوعَظَهُنَّ وَأمَرَهُنَّ أنْ يتصَدَّقْنَ فجَعَلَتِ المَرْأةُ تُلْقِي وأشَارَ أيّوبُ إلَى أُذُنِهِ وَإلَى حَلْقِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر النِّسَاء بِدفع الزَّكَاة فدفعن الْحلق والقلائد، فَهَذَا يدل على جَوَاز أَخذ الْعرض فِي الزَّكَاة والْحَدِيث تقدم عَن ابْن عَبَّاس فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الْعلم الَّذِي بالمصلى، وَفِي: بَاب موعظة الإِمَام النِّسَاء، فَإِنَّهُ أخرجه فِي: بَاب الْعلم، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَابس عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي: بَاب موعظة الإِمَام عَن طَاوُوس عَنهُ، وَهنا أخرجه: عَن مُؤَمل، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التأميل، وَهُوَ مُؤَمل بن هِشَام أَبُو هِشَام الْبَصْرِيّ ختن إِسْمَاعِيل بن علية، يروي عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن علية عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (لصلى) ، بِفَتْح اللامين: اللَّام الأولى جَوَاب قسم مَحْذُوف يتضمنه لفظ: أشهد، لِأَنَّهُ كثيرا مَا يسْتَعْمل فِي معنى الْقسم، تَقْدِيره: وَالله لقد صلى، وَمَعْنَاهُ: أَحْلف بِاللَّه على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الْعِيد قبل الْخطْبَة. قَوْله: (فَرَأى أَنه) أَي: فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يسمع النِّسَاء، من الإسماع، وَذَلِكَ لبعدهن عَنهُ(9/8)
(فأتاهن) ، أَي: فجَاء إِلَيْهِم. قَوْله: (وَمَعَهُ بِلَال) الْوَاو فِيهِ وَاو الْحَال أَي: وَالْحَال أَن بِلَالًا كَانَ مَعَه. قَوْله: (ناشر ثَوْبه) ، يجوز بِالْإِضَافَة وبتركها، وَقد علم أَن اسْم الْفَاعِل يعْمل عمل فعله. قَوْله: (وَأَشَارَ أَيُّوب) أَي: الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث إِلَى أُذُنه أَي: إِلَى مَا فِي أُذُنه، وَأَرَادَ بِهِ: الْحلق والقرط، وَإِلَى مَا فِي حلقه، وَأَرَادَ بِهِ القلادة.
43 - (بابٌ لاَ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يجمع إِلَى آخِره. قَوْله: (متفرق) ، بِتَقْدِيم التَّاء على الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء رِوَايَة الْكشميهني وَرِوَايَة غَيره: لَا يجمع بَين مفترق، بِتَقْدِيم الْفَاء من الِافْتِرَاق، صُورَة: لَا يجمع بَين متفرق أَن يكون لهَذَا أَرْبَعُونَ شَاة ولذاك أَرْبَعُونَ أَيْضا، وَللْآخر أَرْبَعُونَ فيجمعوها حَتَّى لَا يكون فِيهَا إلاَّ شَاة، وَصُورَة: لَا يفرق بَين مُجْتَمع: أَن يكون شريكان وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة شَاة وشَاة، فَيكون عَلَيْهِمَا فِي مَالهمَا ثَلَاث شِيَاه، ثمَّ يفرقان غنمهما عِنْد طلب السَّاعِي الزَّكَاة، فَلم يكن على كل وَاحِد مِنْهُمَا إلاَّ شَاة وَاحِدَة. قَوْله: (مُجْتَمع) ، بِكَسْر الْمِيم الثَّانِيَة، قيل: لم يُقيد البُخَارِيّ التَّرْجَمَة بقوله خشيَة الصَّدَقَة لاخْتِلَاف نظر الْعلمَاء فِي المُرَاد بذلك لما سَنذكرُهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى عَن قريب.
ويُذْكَرُ عنْ سالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلُهُ
أَي: يذكر عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، أَي: مثل لفظ هَذِه التَّرْجَمَة، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره التِّرْمِذِيّ مَوْصُولا مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب الْبَغْدَادِيّ وَإِبْرَاهِيم ابْن عبد الله الْهَرَوِيّ وَمُحَمّد بن كَامِل الْمروزِي، وَالْمعْنَى وَاحِد، قَالُوا: حَدثنَا عَفَّان بن الْعَوام عَن سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الْهَرَوِيّ (عَن سَالم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب كتاب الصَّدَقَة فَلم يُخرجهُ إِلَى عماله حَتَّى قبض، فقرنه بِسَيْفِهِ فَلَمَّا قبض عمل بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى قبض، وَعمر حَتَّى قبض) الحَدِيث، وَفِيه: (لَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع مَخَافَة الصَّدَقَة) إِلَى آخِره. وَقَالَ: حَدِيث ابْن عمر حَدِيث حسن، وخرجه أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ فِي كِتَابه الملقب (بِالصَّحِيحِ) وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (كتاب الْعِلَل) : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن حَدِيث سَالم عَن أَبِيه كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتاب الصَّدَقَة؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَن يكون مَحْفُوظًا، وسُفْيَان بن حُسَيْن صَدُوق. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَيفَ سَاغَ للْبُخَارِيّ أَن يعلق هَذَا الحَدِيث ممرضا، وَهُوَ نقض لما يَقُوله المحدثون. قلت: لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من تَحْسِين التِّرْمِذِيّ إِيَّاه أَن يكون حسنا عِنْده.
0541 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ أنَّ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتبَ لَهُ الَّتِي فرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة عين لفظ الحَدِيث، والإسناد بِعَيْنِه مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة. قَوْله: (فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: قدر، قَالَ الْخطابِيّ: لِأَن الْإِيجَاب قد بَينه الله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن يكون على بَابه بِمَعْنى الْأَمر، يُبينهُ قَوْله فِي الرِّوَايَة الَّتِي مَضَت، وَهِي الَّتِي أَمر الله رَسُوله.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : تَفْسِير (وَلَا يجمع بَين متفرق) ، أَن يكون ثَلَاثَة أنفس لكل وَاحِد أَرْبَعُونَ شَاة، فَإِذا أظلهم الْمُصدق جمعوها ليؤدوا شَاة، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع أَن يكون لكل وَاحِد مائَة شَاة وشَاة فعلَيْهِمَا ثَلَاث شِيَاه، فيفرقونها، ليؤدوا شَاتين فنهوا عَن ذَلِك، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: تَفْسِيره أَن يفرق السَّاعِي الأول ليَأْخُذ من كل وَاحِد شَاة، وَفِي الثَّانِي ليَأْخُذ ثَلَاثًا فَالْمَعْنى وَاحِد لَكِن صرف الْخطاب الشَّافِعِي إِلَى السَّاعِي كَمَا حَكَاهُ عَنهُ الدَّاودِيّ فِي (كتاب الْأَمْوَال) ، وَصَرفه مَالك إِلَى الْمَالِك، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر، وَقَالَ الْخطابِيّ عَن الشَّافِعِي: إِنَّه صرفه إِلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: معنى لَا يجمع بَين متفرق أَن يكون بَين رجلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاة، فَإِذا جمعاها فشاة، وَإِذا فرقاها فَلَا شَيْء، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع أَن يكون لرجل مائَة شَاة وَعِشْرُونَ شَاة، فَإِن(9/9)
فرقها الْمُصدق أَرْبَعِينَ فَثَلَاث شِيَاه، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: معنى الأول أَن يكون لرجل ثَمَانُون شَاة، فَإِذا جَاءَ الْمُصدق قَالَ: هِيَ بيني وَبَين إخوتي، لكل وَاحِد عشرُون فَلَا زَكَاة، أَو أَن يكون لَهُ أَرْبَعُونَ ولأخوته أَرْبَعُونَ فَيَقُول: كلهَا لي، فشاة. وَفِي (الْمُحِيط) : وَتَأْويل هَذَا أَنه كَانَ لَهُ ثَمَانُون شَاة تجب فِيهَا وَاحِدَة فَلَا يفرقها ويجعلها لِرجلَيْنِ فَيَأْخُذ شَاتين، فعلى هَذَا يكون خطابا للساعي، وَإِن كَانَت لِرجلَيْنِ فعلى كل وَاحِد شَاة فَلَا تجمع وَيُؤْخَذ مِنْهَا شَاة، وَالْخطاب فِي هَذَا يحْتَمل أَن يكون للمصدق بِأَن يكون لأَحَدهمَا مائَة شَاة وَللْآخر مائَة شَاة وشَاة فعلَيْهِمَا شَاتَان فَلَا يجمع الْمُصدق بَينهمَا، وَيَقُول هَذِه كلهَا لَك فَيَأْخُذ مِنْهُ ثَلَاث شِيَاه، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع بِأَن يكون لرجل مائَة وَعِشْرُونَ شَاة فَيَقُول السَّاعِي: هِيَ لثَلَاثَة فَيَأْخُذ ثَلَاث شِيَاه، وَلَو كَانَت لوَاحِد تجب شَاة، وَيحْتَمل أَن يكون الْخطاب لرب المَال، ويقوى بقوله: (خشيَة الصَّدَقَة) أَي: فيخاف فِي وجوب الصَّدَقَة فيحتال فِي إِسْقَاطهَا بِأَن يجمع نِصَاب أَخِيه إِلَى نصابه فَتَصِير ثَمَانِينَ فَيجب فِيهَا شَاة وَاحِدَة، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع بِأَن يكون لَهُ أَرْبَعُونَ فَيَقُول نصفهَا لي وَنِصْفهَا لأخي فَتسقط زَكَاتهَا. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَالْمرَاد من الْجمع والتفريق فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان لإجماعنا على أَن النّصاب إِذا كَانَ فِي ملك وَاحِد يجمع وَإِن كَانَ فِي أمكنة مُتَفَرِّقَة، فَدلَّ أَن المتفرق فِي الْملك لَا يجمع فِي حق الصَّدَقَة. قَوْله: (خشيَة الصَّدَقَة) مِمَّا تنَازع فِيهِ الفعلان، والخشية خشيتان: خشيَة السَّاعِي أَن تقل الصَّدَقَة، وخشية رب المَال أَن تكْثر الصَّدَقَة، فَأمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن لَا يحدث شَيْئا من الْجمع والتفريق. قيل: لَو فرض أَن المالكين أَرَادَا ذَلِك لإِرَادَة تَكْثِير الصَّدَقَة أَو وجوب مَا لم يجب عَلَيْهِمَا التماسا لِكَثْرَة الْأجر، أَو لإِرَادَة وُقُوع مَا أَرَادَ التَّصَدُّق بِهِ تَطَوّعا ليصير وَاجِبا. وثواب الْوَاجِب أَكثر من ثَوَاب التَّطَوُّع، فَالظَّاهِر جَوَاز ذَلِك.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: النَّهْي عَن اسْتِعْمَال الْحِيَل لسُقُوط مَا كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ. وَيجْرِي ذَلِك فِي أَبْوَاب كَثِيرَة من أَبْوَاب الْفِقْه، وللعلماء فِي ذَلِك خلاف فِي التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة أَو الْإِبَاحَة، وَالْحق أَنه كَانَ ذَلِك لغَرَض صَحِيح فِيهِ رفق للمعذور وَلَيْسَ فِيهِ إبِْطَال لحق الْغَيْر، فَلَا بَأْس بِهِ من ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} (ص: 44) . وَإِن كَانَ لغَرَض فَاسد: كإسقاط حق الْفُقَرَاء من الزَّكَاة بِتَمْلِيك مَاله قبل الْحول لوَلَده، أَو نَحْو ذَلِك، فَهُوَ حرَام أَو مَكْرُوه على الْخلاف الْمَشْهُور فِي ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن من كَانَ عِنْده دون النّصاب من الْفضة وَدون النّصاب من الذَّهَب مثلا إِنَّه لَا يجب ضم بعضه إِلَى بعض حَتَّى يصير نِصَابا كَامِلا فَتجب فِيهِ الزَّكَاة، خلافًا لمن قَالَ: يضم على الْأَجْزَاء كالمالكية، أَو على الْقيم كالحنفية. انْتهى. قلت: هَذَا اسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن النَّهْي فِي الحَدِيث مُعَلل بخشية الصَّدَقَة، وَفِيه إِضْرَار للْفُقَرَاء بِخِلَاف مَا قَالَه الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فَإِن فِيهِ نفعا للْفُقَرَاء وَهُوَ ظَاهر. وَقيل: اسْتدلَّ بِهِ لِأَحْمَد على أَن من كَانَ لَهُ مَاشِيَة فِي بلد لَا تبلغ النّصاب كعشرين شَاة، مثلا بِالْكُوفَةِ، وَمثلهَا بِالْبَصْرَةِ أَنَّهَا لَا تضم بِاعْتِبَار كَونهَا ملك رجل وَاحِد وَيُؤْخَذ مِنْهَا الزَّكَاة. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَن الْجمع والتفريق أَن يكون فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر: خَالفه الْجُمْهُور فَقَالُوا: يجب على صَاحب المَال زَكَاة مَاله وَلَو كَانَ فِي بلدان شَتَّى، وَيخرج مِنْهُ الزَّكَاة.
53 - (بابٌ مَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَترَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَا كَانَ من خليطين إِلَى آخِره، وَكلمَة: مَا، هُنَا تَامَّة نكرَة متضمنة معنى حرف الِاسْتِفْهَام، وَمَعْنَاهَا أَي: شَيْء كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان، والخليطان تَثْنِيَة خليط، وَاخْتلف فِي المُرَاد بالخليط، فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنه الشَّرِيك، لِأَن الخليطين فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هما الشريكان اللَّذَان اخْتَلَط مَالهمَا وَلم يتَمَيَّز كالخليطين من النَّبِيذ. قَالَه ابْن الْأَثِير، وَمَا لم يخْتَلط مَعَ غَيره فليسا بخليطين، هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ، وَإِذا تميز مَال كل وَاحِد مِنْهُمَا من مَال الآخر فَلَا خلْطَة، فعلى قَول أبي حنيفَة: لَا يجب على أحد من الشَّرِيكَيْنِ أَو الشُّرَكَاء فِيمَا يملك إلاَّ مثل الَّذِي كَانَ يجب عَلَيْهِ لَو لم يكن خلط، وَذكر فِي (الْمَبْسُوط) ، وعام كتب أَصْحَابنَا: أَن الخليطين يعْتَبر لكل وَاحِد نِصَاب كَامِل كَحال الِانْفِرَاد، وَلَا تَأْثِير للخلطة فِيهَا سَوَاء كَانَت شركَة ملك بِالْإِرْثِ وَالْهِبَة وَالشِّرَاء وَنَحْوهَا، أَو شركَة عقد كالعنان والمفاوضة. ذكره الوبري وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي رجلَيْنِ بَينهمَا مَاشِيَة نِصَاب وَاحِد، قَالَت طَائِفَة: لَا زَكَاة عَلَيْهِمَا، قَالَ:(9/10)
هَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر وَأهل الْعرَاق، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَبِه قَالَ شريك بن عبد الله وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ الشَّافِعِي وَاللَّيْث وَابْن حَنْبَل وَإِسْحَاق تجب عَلَيْهِمَا الزَّكَاة وَلَو كَانُوا أَرْبَعِينَ رجلا لكل وَاحِد شَاة تجب عَلَيْهِم شَاة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الأول أصح، يَعْنِي عدم وجوب الزَّكَاة، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : الْخلطَة لَا تحيل حكم الزَّكَاة هُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الطرطوشي: لَا تصح الْخلطَة إلاَّ أَن يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا نِصَاب كَامِل، والمعاني الْمُعْتَبرَة فِيهَا: الرَّاعِي والفحل والمراح والدلو وَالْمَبِيت، ذكرهَا مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وَمِنْهُم من ذكر: الحلاب، مَكَان الْمبيت، وَحُصُول جَمِيعهَا لَيْسَ بِشَرْط، والحلاب مَعْنَاهُ أَن يكون الْحَالِف وَاحِدًا إِلَّا أَن يخلط الألبان، وَلَو كَانَ أَحدهمَا عبدا أَو كَافِرًا. قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: لم تصح الْخلطَة، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: تصح وَلَا تشْتَرط الْخلطَة فِي جَمِيع الْحول، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو اختلطا قبل الْحول بشهرين فَأَقل فهما خليطان. وَقَالَ ابْن حبيب: أدناه شهر. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: إِذا لم يقْصد الْفِرَار صَحَّ، وَرَأى الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأَبُو الْحسن بن الْمُفلس من الظَّاهِرِيَّة، الْخلطَة فِي الْمَوَاشِي لَا غير، وَرَأى الشَّافِعِي حكم الْخلطَة الَّتِي قَالَ بِهِ جَارِيا فِي الْمَوَاشِي والزروع وَالثِّمَار وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير، وَقَالَ ابْن حزم، وَرَأى أَن مِائَتي نفس لَو ملكوا مِائَتي دِرْهَم كل وَاحِد درهما يجب عَلَيْهِم فِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْخلطَة، بِضَم الْخَاء، سَوَاء كَانَت خلْطَة شيوع واشتراك فِي الْأَعْيَان، أَو خلْطَة أَوْصَاف وَجَوَاز فِي الْمَكَان بِشُرُوط تِسْعَة: أَن يكون الشُّرَكَاء من أهل وجوب الزَّكَاة، وَأَن يكون المَال بعد الْخَلْط نِصَابا، وَأَن يمْضِي عَلَيْهِ بعد الْخَلْط حول كَامِل، وَأَن لَا يتَمَيَّز أَحدهمَا عَن الآخر فِي المراح وَفِي المسرح وَفِي المشرب كالبئر وَالنّهر والحوض وَالْعين، أَو كَانَت الْمِيَاه مُخْتَلفَة بِحَيْثُ لَا تخْتَص غنم أَحدهمَا بِشَيْء، وَالسَّابِع: الرَّاعِي، وَالثَّامِن: الْفَحْل، وَالتَّاسِع فِي المحلب، وَلَا يشْتَرط خلط اللَّبن. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي: يشْتَرط فِيهِ فيحلب أَحدهمَا فَوق لبن الآخر، قَالَ صَاحب (الْبَيَان) : هُوَ أصح الْوُجُوه الثَّلَاثَة، وَفِي وَجه: يشْتَرط أَن يحلبا مَعًا ويخلطا اللَّبن ثمَّ يقتسمانه، وَقَالَ صَاحب (الْمُفِيد) : وَيشْتَرط عِنْده اتِّحَاد الدَّلْو وَالْكَلب، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك بمذهبه، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الحناطي أَنه حكى أَن خلط الْجوَار لَا أثر لَهَا وَغلط، والمسرح المرعى. وَقيل: طريقها إِلَى المرعى. وَقيل: الْموضع الَّذِي تَجْتَمِع فِيهِ لتستريح، والمحلب، بِالْكَسْرِ، هُنَا وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي تحلب فِيهِ.
وَفِي بعض كتب الْحَنَابِلَة ذكر للخلطة سِتّ شَرَائِط، ثمَّ أَنه قد يكون أثر الْخلطَة فِي إِيجَابهَا، وَقد يكون فِي تكثيرها، وَقد يكون فِي تقليلها. مِثَال الأول: خمس من الْإِبِل أَو أَرْبَعُونَ من الْغنم بَين اثْنَيْنِ تجب فيهمَا الزَّكَاة، وَلَو انْفَرَدت لَا تجب. وَمِثَال الثَّانِي: لكل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة شَاة وشَاة تجب على كل وَاحِد شَاة وَنصف، وَلَو انْفَرَدت تجب على كل وَاحِد شَاة، وَمِثَال الثَّالِث: وَهُوَ التقليل مائَة وَعِشْرُونَ شَاة بَين ثَلَاثَة يجب على كل وَاحِد ثلث شَاة، وَلَو انْفَرَدت لوَجَبَ على كل وَاحِد شَاة، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَلنَا أَنه قد ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة) الحَدِيث، وَجَمِيع النُّصُوص الْوَارِدَة فِي نصب الزَّكَاة تمنع الْوُجُوب فِيمَا دونهَا، وَلِأَنَّهُ لَا حق لأَحَدهمَا فِي ملك الآخر، وَمَاله غير زكوي لنقصانه عَن النّصاب، وَمثله مَال الآخر، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَرَأَوا فِي خَمْسَة أنفس لكل وَاحِد بنت مَخَاض تجب على كل مُسلم خمس شَاة، وَفِي عشرَة بَينهم خمس من الْإِبِل لكل وَاحِد نصف بعير تجب على كل وَاحِد مِنْهُم عُشر شَاة مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي أَربع من الْإِبِل شَيْء) فَهَذِهِ زَكَاة مَا أوجبهَا الله تَعَالَى فَقَط، وَحكم بِخِلَاف حكم الله تَعَالَى، وَحكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجعلُوا لمَال أَحدهمَا حكما فِي مَال الآخر، وَهَذَا بَاطِل، وَخلاف الْقُرْآن وَالسّنَن، وَاشْتِرَاط الشُّرُوط التِّسْعَة الْمَذْكُورَة، وَغَيرهَا تحكم بِلَا دَلِيل أصلا لَا من قُرْآن وَلَا من سنة وَلَا من قَول صَاحب قِيَاس وَلَا من وَجه مَعْقُول، وليت شعري من جعل الْخلطَة مَقْصُورَة على الْوُجُوه الَّتِي ذكروها دون أَن يُرِيد بِهِ الْخلطَة فِي الْمنزل أَو فِي الصِّنَاعَة أَو فِي الشّركَة أَو فِي الْمغنم، كَمَا قَالَ طَاوُوس وَعَطَاء. وَلَو وَجَبت بالاختلاط فِي المرعى لَوَجَبَتْ فِي كل مَاشِيَة فِي الأَرْض، لِأَن المراعي مُتَّصِلَة فِي أَكثر الدُّنْيَا، إلاَّ أَن يقطع بَينهَا بحرا ونهرا وَعمارَة. قَالَ: وَأما تَقْدِير الْمَالِكِيَّة الِاخْتِلَاط بالشهر والشهرين فتحكم بَارِد، وَقَوله ظَاهر الإحالة جدا لِأَنَّهُ خص بهَا الْمَوَاشِي فَقَط دون الْخلطَة فِي الثِّمَار والزروع والنقدين، وَلَيْسَ ذَلِك فِي الْخَبَر. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الخليطان مَا اجْتمعَا على الْحَوْض والراعي(9/11)
والفحل) . قلت: فِي سَنَده عبد الله بن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف فَلَا يجوز التَّمَسُّك بِهِ، كَذَا ذكره عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام الْكُبْرَى) وأعجب الْأُمُور أَن الْبَيْهَقِيّ إِذا كَانَ الحَدِيث لَهُم يسكت عَن ابْن لَهِيعَة وَمثله، وَإِذا كَانَ عَلَيْهِم يتَكَلَّم فيهم بالباع والذراع. قَوْله: (فَإِنَّهُمَا يتراجعان) أَي: فَإِن الخليطين يتراجعان بَينهمَا، مَعْنَاهُ أَن السَّاعِي إِذا أَخذ من مَال أَحدهمَا جَمِيع الْوَاجِب فَإِنَّهُ يرجع على شَرِيكه بِحِصَّتِهِ، مثلا، إِذا كَانَ بَينهمَا أَرْبَعُونَ شَاة لكل وَاحِد مِنْهُمَا عشرُون، وَقد عرف كل مِنْهُمَا عين مَاله فَأخذ الْمُصدق من أَحدهمَا شَاة فَإِن الْمَأْخُوذ من مَاله يرجع على خليطه بِقِيمَة نصف شَاة، وَهَذِه تسمى خلْطَة الْجوَار، وَيَقَع التراجع فِيهَا. وَقد يَقع قَلِيلا فِي خلْطَة الشُّيُوع. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : والتراجع مُقْتَضَاهُ من اثْنَيْنِ. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ من: بَاب التفاعل، وَمُقْتَضَاهُ من اثْنَيْنِ وَجَمَاعَة، وَالَّذِي من اثْنَيْنِ فَقَط يكون من: بَاب المفاعلة، كَمَا علم فِي مَوْضِعه.
وَقَالَ طاوُوس وَعَطَاءٌ إذَا عَلِمَ الخَلِيطَانِ أمْوَالَهُمَا فَلاَ يُجْمَعُ مالُهُمَا
طَاوُوس بن الْيَمَانِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَهَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس، قَالَ: إِذا كَانَ كَانَ الخليطان يعلمَانِ أموالهما فَلَا تجمع أموالهما فِي الصَّدَقَة، وَحدثنَا مُحَمَّد ابْن أبي بكر عَن ابْن جريج، قَالَ: أخْبرت عَطاء عَن قَول طَاوُوس، فَقَالَ: مَا أرَاهُ إلاَّ حَقًا، وَاعْترض ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ: قَول طَاوُوس وَعَطَاء غَفلَة مِنْهُمَا، إِذْ غير جَائِز أَن يتراجعا بِالسَّوِيَّةِ وَالْمَال بَينهمَا لَا يعرف أحد مَاله من مَال صَاحبه. قَوْله: (إِذا علم الخليطان) يَعْنِي: لَا يكون المَال بَينهمَا مشَاعا، وَهَذَا يُسمى بخلطة الْجوَار، فمذهب طَاوُوس وَعَطَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، هُوَ خلْطَة الشُّيُوع.
وقالَ سُفْيَانُ لاَ تَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهاذا أرْبَعُونَ شَاة وَلِهاذا أرْبَعُونَ شَاة
أَي: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ، رَحمَه الله تَعَالَى: لَا تجب الزَّكَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي لَا تثبت الْخلطَة، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَنهُ، وَقَالَ التَّيْمِيّ: كَانَ سُفْيَان لَا يرى للخلطة تَأْثِيرا كَمَا لَا يرَاهُ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَول مَالك كَقَوْل عَطاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
1541 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثمامَةُ أنَّ أنَسا حدَّثَهُ أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَترَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ..
حَدِيث أنس هَذَا قطعه البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَذكره فِي سِتَّة مَوَاضِع هَهُنَا بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد. الأول: فِي: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة. وَالثَّانِي: فِي: بَاب لَا يجمع بَين متفرق. وَالثَّالِث: فِي هَذَا الْبَاب. وَالرَّابِع: فِي: بَاب من بلغت عِنْده. وَالْخَامِس: فِي بَاب زَكَاة الْغنم. وَالسَّادِس: فِي: بَاب لَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي عشرَة مَوَاضِع بِإِسْنَاد وَاحِد مقطعا، وَذكره فِي كتاب الزَّكَاة فِي سِتَّة مَوَاضِع، وَالْأَرْبَعَة فِي الْخمس وَالشَّرِكَة واللباس، وَفِي ترك الْحِيَل، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي مَوضِع وَاحِد بِتَمَامِهِ، قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا حَمَّاد قَالَ: أخذت من ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتبه لأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَلِيهِ خَاتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين بَعثه مُصدقا وَكتبه لَهُ، فَإِذا فِيهِ: هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُسلمين الَّتِي أَمر الله بهَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن سئلها من الْمُسلمين على وَجههَا فليعطها، وَمن سُئِلَ فَوْقهَا فَلَا يُعْطه فِيمَا دون خمس وَعشْرين من الْإِبِل وَالْغنم، فِي كل خمس ذود شَاة فَإِذا بلغت خمْسا وَعشْرين فَفِيهَا بنت مَخَاض إِلَى أَن تبلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ، فَإِن لم يكن فِيهَا بنت مَخَاض فَابْن لبون ذكر، فَإِذا بلغت سِتا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بنت لبون إِلَى خمس وَأَرْبَعين، فَإِذا بلغت سِتا وَأَرْبَعين فَفِيهَا حقة طروقة الْفَحْل إِلَى سِتِّينَ، فَإِذا بلغت إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَة إِلَى خمس وَسبعين، فَإِذا بلغت(9/12)
سِتا وَسبعين فَفِيهَا ابنتا لبون إِلَى تسعين، فَإِذا بلغت إِحْدَى وَتِسْعين فَفِيهَا حقتان طروقتا الْفَحْل إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَإِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة فَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون، وَفِي كل خمسين حقة، فَإِذا تبَاين أَسْنَان الْإِبِل فِي فَرَائض الصَّدقَات فَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الجزعة وَلَيْسَت عِنْده جزعة وَعِنْده حقة فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ، وَأَن يَجْعَل مَعهَا شَاتين إِن استيسرتا لَهُ، أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الحقة وَلَيْسَت عِنْده حقة وَعِنْده جَذَعَة فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما، أَو شَاتين، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الحقة وَلَيْسَ عِنْده حقة وَعِنْده بنت لبون وَلَيْسَت عِنْد اللاحقة فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ إِلَى هَهُنَا ثمَّ أيقنت وَيُعْطِيه الْمُصدق عشْرين درهما أَو شَاتين وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة بنت لبون فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَمن هَهُنَا لم أضبط عَن مُوسَى كَمَا أحب، وَيجْعَل مَعهَا شَاتين إِن استيسرتا لَهُ أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة بنت لبون وَلَيْسَ عِنْده إلاَّ بنت مَخَاض فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ وشاتين أَو عشْرين درهما، وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة بنت مَخَاض وَلَيْسَ عِنْده إلاَّ ابْن لبون ذكر فَإِنَّهَا تقبل مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَه شَيْء، وَمن لم يكن عِنْده إِلَّا أَربع فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إلاَّ أَن يَشَاء رَبهَا، وَفِي سَائِمَة الْغنم إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاة إِلَى عشْرين وَمِائَة، فَإِذا زَادَت على عشريني وَمِائَة فَفِيهَا شاتاة إِلَى أَن تبلغ مِائَتَيْنِ، فَإِذا زَادَت على مِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاث شِيَاه إِلَى أَن تبلغ ثلثمِائة، فَإِذا زَادَت على ثَلَاثمِائَة فَفِي كل مائَة شَاة شَاة، وَلَا تُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة هرمة وَلَا زَادَت عوار من الْغنم وَلَا تَيْس الْغنم إلاَّ أَن يَشَاء المصدِّق، وَلَا يجمع بَين متفرق وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة، وَمَا كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَإِن لم تبلغ سَائِمَة الرجل أَرْبَعِينَ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إلاَّ أَن يَشَاء رَبهَا، وَفِي الرقة ربع الْعشْر، فَإِن لم يكن المَال إلاَّ تسعين وَمِائَة فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إلاَّ أَن يَشَاء رَبهَا.
63 - (بابُ زَكاةِ الإبِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زَكَاة الْإِبِل وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي لفظ: بَاب الْإِبِل، بِكَسْر الْبَاء، وَقد تسكن وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا.
ذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ وَأبُو ذَرٍّ وَأبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهمْ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: ذكر حكم زَكَاة الْإِبِل أَبُو بكر الصّديق وَأَبُو ذَر جُنْدُب بن جُنَادَة وَأَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أما حَدِيث أبي بكر فقد ذكره مطولا كَمَا يَأْتِي بعد بَاب من رِوَايَة أنس عَنهُ، وَلأبي بكر حَدِيث آخر مضى فِي: بَاب مَا يتَعَلَّق بِقِتَال مانعي الزَّكَاة. وَأما حَدِيث أبي ذَر فَسَيَأْتِي بعد ذكر سِتَّة أَبْوَاب من رِوَايَة الْمَعْرُور بن سُوَيْد عَنهُ، فِي وَعِيد من لَا يُؤَدِّي زَكَاة إبِله وَغَيرهَا، وَيَأْتِي مَعَه حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر وبهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَمْرو بن حزم وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع ورقاد بن ربيعَة. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا فِي أول: بَاب لَا يجمع بَين متفرق، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مَوْصُولا وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا مَوْصُولا مطولا. وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا. وَأما حَدِيث بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى بهز، وَلَفظه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فِي كل سَائِمَة إبل: فِي أَرْبَعِينَ بنت لبون لَا يفرق إبل عَن حِسَابهَا من أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بهَا فَلهُ أجرهَا وَمن منعهَا فَإنَّا آخِذُوهَا وَشطر مَاله عَزمَة من عَزمَات رَبنَا، عز وَجل، لَيْسَ لآل مُحَمَّد مِنْهَا شَيْء. وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِيمَا دون خمس من الْإِبِل صَدَقَة، وَلَيْسَ فِي أَربع شَيْء، فَإِذا بلغت خمْسا فَفِيهَا شَاة إِلَى أَن تبلغ تسعا. .) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَأما حَدِيث عَمْرو بن حزم فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات، وَفِي الْكتاب: فِي كل خمس من الْإِبِل سَائِمَة شَاة) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَأما حَدِيث سَلمَة ابْن الْأَكْوَع فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن معَاذ بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ أَن عَمْرو بن يحيى عَن سعيد بن زُرَارَة أخبرهُ(9/13)
عَن ابْن سَلمَة بن الْأَكْوَع عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: نعم الْإِبِل الثَّلَاثُونَ يخرج فِي زَكَاتهَا وَاحِدَة وترحل مِنْهَا فِي سَبِيل الله وَاحِدَة وتمنح مِنْهَا وَاحِدَة هِيَ خير من الْأَرْبَعين وَالْخمسين وَالسِّتِّينَ وَالسبْعين والثمانين وَالتسْعين وَالْمِائَة، وويل لصَاحب الْمِائَة من الْمِائَة. وَأما حَدِيث رقاد بن ربيعَة فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ حَدثنَا أَحْمد بن كثير البَجلِيّ حَدثنَا يعلى بن الإشدق، وَقَالَ: أدْركْت عدَّة من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم رقاد بن ربيعَة قَالَ: أَخذ منا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْغنم من الْمِائَة شَاة فَإِذا زَادَت فشاتان، ويعلى بن الْأَشْدَق ضَعِيف جدا مُتَّهم بِالْكَذِبِ، وَأحمد بن كثير البَجلِيّ لَا أَدْرِي من هُوَ.
55 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدثنِي ابْن شهَاب عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن أَعْرَابِيًا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْهِجْرَة فَقَالَ وَيحك إِن شَأْنهَا شَدِيد فَهَل لَك من إبل تُؤدِّي صدقتها قَالَ نعم قَالَ فاعمل من وَرَاء الْبحار فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَهَل لَك من إبل تُؤدِّي صدقتها قَالَ نعم ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي الْوَلِيد بن مُسلم على لفظ الْفَاعِل من الْإِسْلَام الْقرشِي. الثَّالِث عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عَطاء بن يزِيد مَعَ الزِّيَادَة أَبُو زيد اللَّيْثِيّ. السَّادِس أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه أَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ شاميان وَأَن ابْن شهَاب وَعَطَاء مدنيان (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن خَلاد عَن الْوَلِيد بِهِ وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن مُؤَمل بن الْفضل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيعَة وَفِي السّير عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن أَعْرَابِيًا " الْأَعرَابِي البدوي وكل بدوي أَعْرَابِي وَإِن لم يكن من الْعَرَب وَإِن كَانَ يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ من الْعَجم (قلت) فِيهِ عرباني قَالَه ابْن قرقول وَقَالَ غَيره الْأَعرَابِي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب والأعراب ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة والعربي نِسْبَة إِلَى الْعَرَب وهم الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية والمدن قَوْله " فَقَالَ وَيحك " قَالَ الدَّاودِيّ وَيْح كلمة تقال عِنْد الزّجر وَالْمَوْعِظَة وَالْكَرَاهَة لفعل الْمَقُول لَهُ أَو قَوْله وَيدل عَلَيْهِ أَنه إِنَّمَا سَأَلَهُ أَن يبايعه على ذَلِك على أَن يُقيم بِالْمَدِينَةِ وَلم يكن من أهل مَكَّة الَّذين وَجَبت عَلَيْهِم الْهِجْرَة قبل الْفَتْح وَفرض عَلَيْهِم إتْيَان الْمَدِينَة وَالْمقَام بهَا إِلَى مَوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَنه ألح فِي ذَلِك قلت الَّذِي ذكره أهل اللُّغَة فِي وَيْح أَنَّهَا كلمة رَحْمَة أَو توجع إِن وَقع فِي هلكة لَا يَسْتَحِقهَا قَوْله " أَن شَأْنهَا شَدِيد " أَي أَن شَأْن الْهِجْرَة وَذَلِكَ لَا يسْأَله أَن يبايعه على ذَلِك على أَن يُقيم بِالْمَدِينَةِ وَلما علم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لَا يُهَاجر قَالَ لَهُ ذَلِك وَكَانَ ذَلِك قبل الْفَتْح قبل انْقِضَاء الْهِجْرَة قَوْله " فَهَل لَك من إبل تُؤدِّي صدقتها " أَي زَكَاتهَا وَإِنَّمَا خص بِصَدقَة الْإِبِل مَعَ أَن أَدَاء جَمِيع الْوَاجِبَات وَاجِب لِأَنَّهُ كَانَ من أهل الْإِبِل وَالْبَاقِي منقاس عَلَيْهِ قَوْله " فاعمل من وَرَاء الْبحار " مَعْنَاهُ إِذا كنت تُؤدِّي فرض الله عَلَيْك فِي نَفسك وَمَالك فَلَا تبال أَن تقيم فِي بَيْتك وَإِن كَانَت دَارك من وَرَاء الْبحار وَلَا تهَاجر فَإِن الْهِجْرَة من جَزِيرَة الْعَرَب وَمن كَانَت دَاره من وَرَاء الْبحار لن يصل إِلَيْهَا وَقيل المُرَاد من الْبحار الْبِلَاد قيل فِي قَوْله تَعَالَى {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر} أَنه الْقرى والأمصار وَمِنْه اصْطلحَ أهل الْبحيرَة يَعْنِي فِي ابْن أبي أَن يعصبوه يَعْنِي أهل الْمَدِينَة وَفِي(9/14)
حَدِيث آخر كتب لَهُم ببحرهم أَي ببلدهم وأرضهم وَقيل الْبحار نَفسهَا وَفِي الْمطَالع قَالَ أَبُو الْهَيْثَم من وَرَاء الْبحار وَهُوَ وهم وَقَالَ الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ لَا مسكن وَرَاء الْبحار (قلت) الْمَقْصُود مِنْهُ فاعمل وَلَو من الْبعد الْأَبْعَد من الْمَدِينَة وَلم يرد مِنْهُ حَقِيقَة ذَلِك (فَإِن قلت) فَهَل لمن أَرَادَ الْهِجْرَة من مَكَان لَا يقدر فِيهِ على إِقَامَة حد الله ثَوَاب الْهِجْرَة حَيْثُ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ (قلت) نعم وَكَذَلِكَ كل طَاعَة كَالْمَرِيضِ يُصَلِّي قَاعِدا وَلَو كَانَ صَحِيحا لصلى قَائِما فَإِن لَهُ ثَوَاب صَلَاة الْقَائِم (فَإِن قلت) لم مَنعه من الْهِجْرَة (قلت) لِأَنَّهَا كَانَت متعذرة على السَّائِل شاقة عَلَيْهِ وَكَانَ الْإِيجَاب حرجا عَلَيْهِ وأضرارا (فَإِن قلت) لم لَا تَقول بِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت بعد نسخ وجوب الْهِجْرَة إِذْ لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح (قلت) التَّارِيخ غير مَعْلُوم مَعَ أَن الْمَنْسُوخ هُوَ الْهِجْرَة من مَكَّة وَأما غَيرهَا فَكل مَوضِع لَا يقدر الْمُكَلف فِيهِ على إِقَامَة حُدُود الدّين فالهجرة عَلَيْهِ مِنْهُ وَاجِبَة انْتهى كَلَام الْكرْمَانِي وَقَالَ الْمُهلب كَانَ هَذَا القَوْل قبل فتح مَكَّة إِذْ لَو كَانَ بعده لقَالَ لَهُ لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح كَمَا قَالَه لغيره وَلكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أَن الْأَعْرَاب قَلما تصبر على لأواء الْمَدِينَة أَلا يرى إِلَى قلَّة صَبر الْأَعرَابِي الَّذِي استقال الْهِجْرَة حِين مسته حمى الْمَدِينَة فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إِذا أدّيت الْحق الَّذِي هُوَ أكبر شَيْء على الْأَعْرَاب ثمَّ منحت مِنْهَا وحلبتها يَوْم وُرُودهَا لمن ينتظرها من الْمَسَاكِين فقد أدّيت الْمَعْرُوف من حَقّهَا فرضا ونفلا فَهُوَ أقل لفتنتك كَمَا افْتتن المستقيل الْبيعَة وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك خَاصّا بِهَذَا الْأَعرَابِي لما علم من حَاله وَضَعفه عَن الْمقَام بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ بَعضهم كَانَت الْهِجْرَة على غير أهل مَكَّة من الرغائب وَلم تكن فرضا وَقَالَ أَبُو عبيد كَانَت الْهِجْرَة على أهل الْحَاضِرَة وَلم تكن على أهل الْبَادِيَة وَقيل إِنَّمَا كَانَت الْهِجْرَة وَاجِبَة إِذا أسلم بعض أهل الْبَلَد وَلم يسلم بَعضهم لِئَلَّا يجْرِي على من أسلم أَحْكَام الْكفَّار وَلِأَن فِي هجرته توهينا لمن يسلم وَتَفْرِيقًا لجماعتهم وَذَلِكَ بَاقٍ إِلَى الْيَوْم إِذا أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم يُمكنهُ إِظْهَار دينه وَجب عَلَيْهِ الْخُرُوج فَأَما إِذا أسلم كل من فِي الدَّار فَلَا هِجْرَة عَلَيْهِم لحَدِيث وَفد عبد الْقَيْس وَأما الْهِجْرَة الْبَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " المُهَاجر من هجر مَا نهى الله عَنهُ " قَوْله " فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا " قَالَ ابْن بطال لفظ الْكتاب يتْرك بِوَزْن مُسْتَقْبل ترك رَوَاهُ بَعضهم يتْرك بِكَسْر التَّاء وَفتح الرَّاء على أَن يكون مُسْتَقْبل وتر يتر وَمَعْنَاهُ لن ينْقصك وَفِي الْقُرْآن {وَلنْ يتركم أَعمالكُم} أَي لن ينقصكم شَيْئا من ثَوَاب أَعمالكُم وَقَالَ ابْن التِّين ضبط فِي رِوَايَة الْحسن بتَشْديد التَّاء وَصَوَابه بِالتَّخْفِيفِ وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ الْفرْيَابِيّ بِالتَّشْدِيدِ وَالله أعلم -
73 - (بابُ منْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ ولَيْسِتْ عِنْدَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من بلغت عِنْده. . إِلَى آخِره. قَوْله: (صَدَقَة) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: بلغت، وَهُوَ مُضَاف إِلَى: بنت مَخَاض. قَوْله: (وَلَيْسَت عِنْده) ، جملَة حَالية، وَقَالَ ابْن بطال: ذكر الحَدِيث وَلم يذكر مَا بوب لَهُ وَكَأَنَّهَا غَفلَة مِنْهُ، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهَا غَفلَة مِمَّن ظن بِهِ الْغَفْلَة، وَإِنَّمَا مقْصده أَن يسْتَدلّ على أَن من بلغت صدقته بنت مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده هِيَ وَلَا ابْن لبون لَكِن عِنْده مثلا: حَقه، وَهِي أرفع من بنت مَخَاض، لِأَن بَينهمَا بنت لبون، وَقد تقرر أَن بَين بنت اللَّبُون وَبنت الْمَخَاض عشْرين درهما أَو شَاتين، وَكَذَلِكَ سَائِر مَا وَقع ذكره فِي الحَدِيث من سنّ يزِيد أَو ينقص، إِنَّمَا ذكر فِيهِ مَا يَليهَا لَا مَا يَقع بَينهمَا بتفاوت دَرَجَة، فَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَنه يستنبط من الزَّائِد والناقص الْمُتَّصِل مَا يكون مُنْفَصِلا بِحِسَاب ذَلِك، فعلى من بلغت صدقته بنت مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده إلاَّ حقة أَن يرد عَلَيْهِ الْمُصدق أَرْبَعِينَ درهما أَو أَربع شِيَاه جبرانا، أَو بِالْعَكْسِ، فَلَو ذكر اللَّفْظ الَّذِي ترْجم بِهِ لما أفهم هَذَا الْغَرَض فتدبره. وَقيل: إِن من أمعن النّظر فِي تراجم هَذَا الْكتاب وَمَا أودعهُ فِيهَا من أسرار الْمَقَاصِد استبعد أَن يفعل أَو يضع لفظا لغير معنى أَو يرسم فِي الْبَاب خَبرا يكون غَيره بِهِ أقعد وَأولى، وَإِنَّمَا قصد بِذكر مَا لم يترجم بِهِ أَن يُقرر أَن الْمَقْصُود إِذا وجد الْأَعْلَى مِنْهُ أَو الأنقص شرع الْجبرَان كَمَا شرع ذَلِك فِيمَا يتضمنه هَذَا الْخَبَر من ذكر الْأَسْنَان، فَإِنَّهُ لَا فرق بَين فقد بنت مَخَاض وَوُجُود الْأَكْمَل مِنْهَا، قَالَ: وَلَو جعل الْعُمْدَة فِي هَذَا الْبَاب الْخَبَر الْمُشْتَمل على ذكر فقد بنت الْمَخَاض لَكَانَ نصا فِي التَّرْجَمَة ظَاهرا، فَلَمَّا تَركه وَاسْتدلَّ بنظيره أفهم مَا ذَكرْنَاهُ من الْإِلْحَاق بِنَفْي الْفَارِق وتسويته عين فقد ابْنة الْمَخَاض، وَوُجُود الْأَكْمَل بَينهَا وَبَين فقد الحقة، وَوُجُود الْأَكْمَل مِنْهَا.(9/15)
انْتهى. قلت: هَذَا تَطْوِيل مخل، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: هُوَ جَار على عَادَته فِي أَنه يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا، وَيكون أصل ذَلِك الحَدِيث فِيهِ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْبَاب، وَلم يذكرهُ ليكل النَّاظر إِلَى الْبَحْث وَالنَّظَر.
3541 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثُمامَةُ أنَّ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتَبَ لَهُ فَريضَةَ الصَّدَقةِ الَّتِي أمَرَ الله رسولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةُ الجَذَعَةِ ولَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وعِنْدَهُ حقَّةٌ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ ويَجْعَلُ مَعَها شَاتَيْنِ إنِ اسْتَيْسَرَتا لَهُ أوْ عِشْرِينَ دِرْهَما ومَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صدَقَةُ الحِقَّةِ ولَيْسَتْ عِنْدَهُ الحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الجَذَعَةُ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الجَذَعَةُ ويُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ درْهَما أوْ شَاتَيْنِ ومَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلاَّ بِنْتُ لَبُونٍ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُون ويُعْطى شاتَيْنِ أوْ عِشْرِينَ دِرْهَما ومَنْ بَلَغَت صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وعِنْدَهُ حِقَّةٌ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ ويُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرينَ دِرْهَما أوْ شَاتَيْنِ ومَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ ولَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ ويُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَما أوْ شَاتَيْنِ..
هَذَا من جملَة الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي: بَاب الْعرض فِي الزَّكَاة، عَن أنس بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه. قَوْله: (كتب لَهُ فَرِيضَة الصَّدَقَة) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه (المسالك شرح موطأ مَالك) : ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَاشِيَة ثَلَاثَة كتب: كتاب أبي بكر، وَكتاب آل عَمْرو بن حزم، وَكتاب عمر بن الْخطاب، وَعَلِيهِ عول مَالك لطول مُدَّة خِلَافَته وسعة بَيْضَة الْإِسْلَام فِي أَيَّامه وَكَثْرَة مصدقيه، وَمَا من أحد اعْترض عَلَيْهِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَقر بِالْمَدِينَةِ وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل مَعَ أَنه رِوَايَة سَائِر أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ أَبُو الْحَارِث: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: كتاب عَمْرو بن حزم فِي الصَّدقَات صَحِيح وَإِلَيْهِ أذهب. قَوْله: (من بلغت عِنْده) كلمة: من، مُبْتَدأ فِيهَا معنى الشَّرْط. وَقَوله: (فَإِنَّهَا) خَبره. قَوْله: (صَدَقَة الْجَذعَة) كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: بلغت، وَالْوَاو فِي: وَلَيْسَت، وَفِي: وَعِنْده، للْحَال، وَقد مر تَفْسِير الْجَذعَة والحقة وَبنت اللَّبُون وَبنت مَخَاض عَن قريب. قَوْله: (إِن استيسرتا) أَي: إِن وجدتا فِي مَاشِيَته، يُقَال: تيَسّر واستيسر بِمَعْنى. قَوْله: (أَو عشْرين) أَي: أَو يَجْعَل عشْرين درهما بَدَلا من الشاتين. قَوْله: (وَمن بلغت عِنْده صَدَقَة الحقة) الْكَلَام فِيهِ من حَيْثُ الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب مثل الْكَلَام فِي قَوْله: (وَمن بلغت عِنْده من الْإِبِل صَدَقَة الْجَذعَة) ، وَكَذَا فِي لفظ: (وَمن بلغت) ، فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف فِي المَال الَّذِي لَا يُوجد فِيهِ السن الَّذِي يجب وَيُوجد دونهَا فَكَانَ النَّخعِيّ يَقُول بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرد عشرَة دَرَاهِم أَو شَاتين، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ، وَقَالَ ابْن حزم: وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ قَول عُبَيْدَة وَأحد قولي إِسْحَاق، وَقَوله الثَّانِي كَقَوْل الشَّافِعِي. وَقيل: تُؤْخَذ فِيهَا قيمَة السن الَّذِي يجب عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول مَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقيل: تُؤْخَذ قيمَة السن الَّذِي وَجب عَلَيْهِ، وَإِن شَاءَ أَخذ الْفضل مِنْهَا ورد عَلَيْهِ فِيهِ دَرَاهِم، وَإِن شَاءَ أَخذ دونهَا وَأخذ الْفضل دَرَاهِم وَلم يعين عشْرين درهما وَلَا غَيرهَا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ مَالك: على رب المَال أَن يبْتَاع للمصدق السن الَّذِي يجب عَلَيْهِ، وَلَا خير فِي أَن يُعْطِيهِ بنت مَخَاض عَن بنت ليون وَيزِيد ثمنا، أَو يُعْطي بنت لبون عَن بنت مَخَاض وَيَأْخُذ ثمنا، وَقَول أبي يُوسُف وَأحمد مثل قَول الشَّافِعِي: إِذا وَجَبت عَلَيْهِ بنت مَخَاض وَلم تُوجد أَخذ ابْن ليون.
وَفِيه: فِي قَوْله: (أَو عشْرين) ، دَلِيل على أَن دفع الْقيم فِي الزَّكَاة جَائِز خلافًا للشَّافِعِيّ وَأَيْضًا، فَإِن قَوْله تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} (التَّوْبَة: 301) . جعل فِيهِ مَحل الْأَخْذ مَا يُسمى مَالا، ثمَّ التَّقْيِيد بِأَنَّهَا شَاة أَو نَحْوهَا زِيَادَة(9/16)
على كتاب الله تَعَالَى، وَأَنه يجْرِي مجْرى النّسخ فَلَا يجوز ذَلِك بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، وَأما مَا ورد من ذكر علين الشَّاة وَذكر عين صنف من أَصْنَاف الْإِبِل وَالْبَقر فلبيان الْوَاجِب بِمَا سمى، وَتَخْصِيص الْمُسَمّى لبَيَان أَنه أبسر على صَاحب الْمَاشِيَة أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ: فِي الْخمس من الْإِبِل شَاة، وحرف، فِي، حَقِيقَة للظرف، وَعين الشَّاة لَا تُوجد فِي الْإِبِل، عرفنَا أَن المُرَاد قدرهَا من المَال. قَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه: دَلِيل على أَن كل وَاحِدَة من الشَّاة وَالْعِشْرين درهما أصل فِي نَفسه لَيست بِبَدَل، وَذَلِكَ أَنه خَيره بِحرف: أَو. قُلْنَا: لَا دَلِيل لَهُ على هَذَا الْكَلَام، بل التَّخْيِير يدل على أَن الأَصْل قدرهَا من المَال، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
83 - (بابُ زَكَاةِ الغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَيَان زَكَاة الْغنم. الْغنم، جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَعَن أبي حَاتِم: هِيَ أُنْثَى، وَعَن صَاحب (الْعين) : الْجمع أَغْنَام وأغانم وغنوم، وَوَاحِد الْغنم من غير لَفظهَا: شَاة، وَهُوَ يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَالْأَصْل: شاهة، حذفت الْهَاء لِاجْتِمَاع الهاءين، وَالْجمع: شَاءَ وشياه وشيه وشوي وشواه وأشاوه. وَعَن سيبوه: شِيَاه، بِالْألف وَالتَّاء، وَأَرْض مشاهة من الشَّاء، وَرجل شاوي ذُو شَاءَ، والضائنة مِنْهَا ذَوَات الصُّوف، والضأن والضان والضئن والضين: اسْم للْجمع، وَعَن صَاحب (الْعين) : أضؤن، جمع ضَأْن. وَعَن أبي حَاتِم: الضَّأْن مُؤَنّثَة، الْوَاحِد ضائن وضائنة. وَقَالَ ابْن سَيّده: الضَّأْن، اسْم للْجمع وَلَيْسَ بِجمع، والماعز والمعز والمعيز اسْم للْجمع، والمعزاة لُغَة فِي المعزى. وَعَن أبي حَاتِم السجسْتانِي: يُقَال: شَاة من الظباء، وَمن بقر الْوَحْش، وَمن حمره، أنْشد أَبُو زيد:
(كَأَنَّهُ شَاة من النعام)
زَاد هِشَام، وَيُسمى الظبي والظبية والثور وَالْبَقَرَة شَاة، كَمَا يُقَال للْمَرْأَة: إِنْسَان، وَيُقَال: شَاة للتيس وَالْغنم والكبش. وَذكر النّحاس: أَن الشَّاة يكنى بهَا عَن الْمَرْأَة، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الشَّاء إسم للْجمع.
4541 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ المُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثَمَامَةُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أنَسٍ أنَّ أنسا حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَتَبَ لَهُ هاذا الكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى البَحْرَيْنِ:
بِسْمَ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ هاذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى المُسْلِمِينَ وَالَّتِي أمَرَ الله بِهَا رَسولَهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ المُسْلِمينَ عَلى وجْهِهَا ومَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ فِي أرْبَعٍ وعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شاةٌ إذَا بَلَغَتْ خَمْسا وعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِذا بَلَغَتْ سِتّا وَثَلاَثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى فإذَا بَلَغَتْ سِتّا وَأرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجَمَلِ فإذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وسَبْعِينَ فِفِيهَا جذَعَةٌ فإذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتّا وسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَ لَبُونٍ فإذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ ومِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ فإذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمائَةٍ فَفِي كلِّ أرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسينَ حِقَّةٌ ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلاَّ أرْبَعٌ مِنَ الإبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ(9/17)
إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا فإذَا بَلَغَتْ خَمْسا مِنَ الإبِلِ فَفِيهَا شَاة وَفي صدَقَةِ الغَنَمُ فِي سائِمَتِهَا إذَا كانَتْ أرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةَ شاةٌ فإذَا زَادَتْ عَلى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ شاتانِ فإذَا زَادتْ عَلَى مائَتَيْنِ إلَى ثَلاَثِمَائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثٌ فإذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمَائَةٍ فَفِي كلِّ مائَةِ شاةٌ فإذَا كانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ ناقِصَةً مِنْ أرْبَعِين شَاة وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صدَقَةٌ إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفي الرِّقة رُبْعُ العُشْرِ فإنْ لَمْ تَكُنْ إلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَة فَلَيْسَ فِيهَا شيءٌ إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا..
حَدِيث أنس هَذَا قد تقدم مقطعا بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَهُوَ مُشْتَمل على بَيَان زَكَاة الْإِبِل وَالْغنم وَالْوَرق، وَعبد الله بن الْمثنى أَبُو شيخ البُخَارِيّ احتلف فِيهِ، قَول ابْن معِين، فَقَالَ مرّة: صَالح، وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: قوي، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم وَالْعجلِي. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِقَوي، وَقَالَ الْعقيلِيّ: لَا يُتَابع فِي أَكثر حَدِيثه. قلت: قد تَابعه على حَدِيثه هَذَا حَمَّاد ابْن سَلمَة فَرَوَاهُ عَن ثُمَامَة أَنه أعطَاهُ كتابا، زعم أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتبه لأنس وَعَلِيهِ خَاتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين بَعثه مُصدقا، هَكَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد عَن أبي سَلمَة عَنهُ، وَقد سقناه بِتَمَامِهِ فِي: بَاب مَا كَانَ من خليطين، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ: حَدثنَا أَبُو كَامِل، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد قَالَ أخذت هَذَا الْكتاب من ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن أنس: أَن أَبَا بكر. . فَذكره، وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) : أخبرنَا النَّضر بن شُمَيْل حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة أَخذنَا هَذَا الْكتاب من ثُمَامَة يحدثه عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكره، فَظهر من هَذَا أَن حمادا سَمعه من ثُمَامَة وأقرأه الْكتاب، فَانْتفى بذلك تَعْلِيل من أعله بِكَوْنِهِ مُكَاتبَة، وَكَذَا انْتَفَى تَعْلِيل من أعله بِكَوْن عبد الله بن الْمثنى لم يُتَابع عَلَيْهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كتب لَهُ هَذَا الْكتاب) أَي: كتب لأنس، وَكَانَ ذَلِك مَا وَجهه عَاملا على الْبَحْرين وَهُوَ تَثْنِيَة: بَحر، خلاف الْبر مَوضِع مَعْرُوف بَين بحري: فَارس والهند، ومقارب جَزِيرَة الْعَرَب، وَيُقَال: هُوَ اسْم لإقليم مَشْهُور يشْتَمل على مدن مَعْرُوفَة قاعدتها هجر، وَهَكَذَا يتَلَفَّظ بِلَفْظ التَّثْنِيَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا بحراني. قَوْله: (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) ذكر التَّسْمِيَة فِي أول كِتَابه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله أَبتر) . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: يسْتَدلّ بِهِ على إِثْبَات الْبَسْمَلَة فِي ابْتِدَاء الْكتب، وعَلى أَن الِابْتِدَاء بِالْحَمْد لَيْسَ بِشَرْط. قلت: كَمَا ورد الِابْتِدَاء بالبسملة فِي أول كل أَمر، ورد الِابْتِدَاء بِالْحَمْد أَيْضا، وَلَكِن الْجمع بَينهمَا بِأَن الأولية أَمر نسبي فَكل ثَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَالِث أول. فَافْهَم. قَوْله: (هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة) ، أَي: نُسْخَة فَرِيضَة الصَّدَقَة، فَحذف الْمُضَاف للْعلم بِهِ. قَوْله: (الَّتِي) ، كَذَا فِي غير مَا نُسْخَة. وَفِي بَعْضهَا: (الَّذِي) ، وَمعنى الْفَرْض: الْإِيجَاب، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى قد أوجبهَا وَأحكم فَرضهَا فِي كِتَابه الْعَزِيز، ثمَّ أَمر رَسُوله بالتبليغ فأضيف الْفَرْض إِلَيْهِ بِمَعْنى الدُّعَاء إِلَيْهِ، وَحمل النَّاس عَلَيْهِ، وَقد فرض الله طَاعَته على الْخلق فَجَاز أَن يُسمى أمره وتبليغه عَن الله فرضا على هَذَا الْمَعْنى. وَقيل: معنى الْفَرْض هُنَا معنى التَّقْدِير، وَمِنْه: فرض القَاضِي نَفَقَة الْأزْوَاج، وَفرض الإِمَام أرزاق الْجند، وَمَعْنَاهُ رَاجع إِلَى قَوْله: {لنبين للنَّاس مَا نُزِّل إِلَيْهِم} (النَّحْل: 44) . وَقيل: معنى الْفَرْض هُنَا السّنة، وَمِنْه مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض كَذَا أَي: سنه، وَعَن ثَعْلَب: الْفَرْض الْوَاجِب، وَالْفَرْض الْقِرَاءَة، يُقَال: فرضت حزبي، أَي: قرأته، وَالْفَرْض السّنة. قَوْله: (وَالَّتِي أَمر الله بهَا) ، كَذَا فِي كثير من النّسخ: بهَا، بِالْبَاء وَوَقع أَيْضا: مِنْهَا، بِحرف: من، وَقيل: وَقع فِي كثير من النّسخ بِحَذْف: بهَا، وأنكرها النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) . وَقَوله: (وَالَّتِي) وَقع هُنَا بِحرف الْعَطف، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: الَّتِي، قد ذَكرْنَاهُ: الَّتِي، بِدُونِ حرف الْعَطف على أَنَّهَا بدل من الْجُمْلَة الأولى. قَوْله: (فَمن سئلها) ، بِضَم السِّين أَي: فَمن سُئِلَ الصَّدَقَة من الْمُسلمين، وَهِي الزَّكَاة. قَوْله: (على وَجههَا) ، أَي: على حسب مَا سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فرض مقاديرها. قَوْله: (فليعطها) ، أَي: على هَذِه الْكَيْفِيَّة المبينة فِي الحَدِيث. قَوْله: (وَمن سُئِلَ فَوْقهَا) ، أَي: زَائِدا على الْفَرِيضَة الْمعينَة أما فِي السن أَو الْعدَد. قَوْله: (فَلَا يُعْط) ، ويروى: (فَلَا يُعْطه) ، بالضمير أَي: فَلَا يُعْطي الزَّائِد على الْوَاجِب. وَقيل: لَا يُعْطي شَيْئا من الزَّكَاة لهَذَا الْمُصدق لِأَنَّهُ خَان بِطَلَبِهِ فَوق الْوَاجِب، فَإِذا ظَهرت خيانته سَقَطت طَاعَته، فَعِنْدَ ذَلِك هُوَ يتَوَلَّى إِخْرَاجه أَو يُعْطي لساع آخر. قَوْله: (فِي أَربع وَعشْرين من الْإِبِل) إِلَى آخِره شُرُوع فِي بَيَان كَيْفيَّة الْفَرِيضَة، وَبَيَان كَيْفيَّة أَخذهَا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فِي أَربع وَعشْرين اسْتِئْنَاف بَيَان لقَوْله: (هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ إِلَى مَا فِي الذِّهْن، ثمَّ أَتَى بِهِ بَيَانا لَهُ. قَوْله: (فِي أَربع) خبر مُبْتَدأ مُقَدّر مقدما تَقْدِيره فِي أبع وَعشْرين من الْإِبِل زَكَاة وَكلمَة من بَيَانه قَوْله: (فَمَا دونهَا) أَي: فَمَا دون أَربع وَعشْرين. وَقَوله: (من الْغنم) ، مُتَعَلق بالمبتدأ الْمُقدر. قَوْله: (من كل خمس) ، خبر لقَوْله: (شَاة) ، وَكلمَة: من، للتَّعْلِيل، أَي: لأجل كل خمس من الْإِبِل. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: من الْغنم من كل خمس(9/18)
شَاة. من الأولى ظرف مُسْتَقر لِأَنَّهُ بَيَان لشاة توكيدا كَمَا فِي قَوْله: (فِي كل خمس ذود من الْإِبِل) و: من، الثَّانِيَة لَغوا ابتدائية مُتَّصِلَة بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوف، أَي: ليعط فِي أَربع وَعشْرين شَاة كائنة من الْغنم لأجل كل خمس من الْإِبِل. قَوْله: (من الْغنم) ، كَذَا هُوَ بِكَلِمَة: من، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن بِإِسْقَاط: من. قيل: هُوَ الصَّوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فعلى قَوْله: (الْغنم) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: فِي أَربع وَعشْرين، ثمَّ بَين ذَلِك بقوله: (من كل خمس شَاة) ، ويروى: (فِي كل خمس) ، بِكَلِمَة: فِي، عوض: من، وَقَالَ ابْن بطال: وَفِي نُسْخَة البُخَارِيّ بِزِيَادَة لفظ: من الْغنم، وَهُوَ غلط عَن بعض الكتبة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ الْفُقَهَاء: فِيهِ تَفْسِير من وَجه وإجمال من وَجه، فالتفسير أَنه لَا يجب فِي أَربع وَعشْرين إلاَّ الْغنم، والإجمال أَنه لَا يدْرِي قدر الْوَاجِب. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك مُفَسرًا لهَذَا الْإِجْمَال: فِي كل خمس شَاة، فَكَانَ هَذَا بَيَانا لابتداء النّصاب، وَقدر الْوَاجِب فِيهِ، فَأول نِصَاب الْإِبِل خمس، وَقَالَ: إِنَّمَا بَدَأَ بِزَكَاة الْإِبِل لِأَنَّهَا غَالب أَمْوَالهم وتعم الْحَاجة إِلَيْهَا، وَلِأَن أعداد نصبها وأسنان الْوَاجِب فِيهَا يصعب ضَبطهَا، وَتَقْدِيم الْخَبَر على الْمُبْتَدَأ لِأَن الْمَقْصُود بَيَان النصب إِذْ الزَّكَاة إِنَّمَا تجب بعد النّصاب فَكَانَ تَقْدِيمه أهم لِأَنَّهُ السَّابِق فِي السَّبَب، وَكَذَا تَقْدِيم الْخَبَر فِي قَوْله: (بنت مَخَاض انثى) ، قَوْله: (انثى) للتَّأْكِيد، وَقيل: احْتِرَاز عَن الْخُنْثَى، وَفِيه نظر. قَوْله: (بنت لبون) ، انثى، الْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي: (بنت مَخَاض أُنْثَى) . وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وصفهَا بِالْأُنْثَى تَأْكِيدًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نفخة وَاحِدَة} (الحاقة: 31) . أَو لِئَلَّا يفهم أَن الْبِنْت هُنَا وَالِابْن فِي ابْن لبون كالبنت فِي: بنت طبق، وَالِابْن فِي: ابْن آوى، يشْتَرك فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (طروقة الْجمل) ، صفة لقَوْله: (حقة) ، وَقد فسرنا الطروقة من: طرقها الْفَحْل إِذا ضربهَا، يَعْنِي جَامعهَا. قَوْله: (فَإِذا بلغت يَعْنِي سِتا وَسبعين) ، كَذَا فِي الأَصْل بِزِيَادَة: يَعْنِي، وَكَأن الْعدَد حذف من الأَصْل اكْتِفَاء بِدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، فَذكره بعض رُوَاته وأتى بِلَفْظ: يَعْنِي، لينبه على أَنه مزبدا، وَشك أحد رُوَاته فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ الْمَكْتُوب لم يكن فِيهِ لفظ: سِتا وَسبعين، أَو ترك الرَّاوِي ذكره لظُهُور المُرَاد ففسره الرَّاوِي عَنهُ توضيحا. وَقَالَ: يَعْنِي. فَإِن قلت: لم غير الأسلوب حَيْثُ لم يقل فِي جَوَابه مثل ذَلِك؟ قلت: إشعارا بانتهاء أَسْنَان الْإِبِل فِيهِ، وتعدد الْوَاجِب عِنْده فَغير اللَّفْظ عِنْد مُغَايرَة الحكم. قَوْله: (إِلَّا أَن يَشَاء رَبهَا) ، أَي: إلاَّ أَن يتَبَرَّع صَاحبهَا ويتطوع، وَهُوَ كَمَا ذكر فِي حَدِيث الْأَعرَابِي فِي الْإِيمَان: (إلاَّ أَن تطوع) . قَوْله: (وَإِذا كَانَت) فِي رِوَايَة الْكشميهني (إِذا بلغت) قَوْله (فازدادت على عشْرين وَمِائَة) أَي وَاحِدَة فصاعد قَوْله (فِي سائمتها) أَي: راعيتها. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ دَلِيل على أَن لَا زَكَاة فِي المعلوفة، أما من جِهَة اعْتِبَار مَفْهُوم الصّفة، وَأما من جِهَة أَن لفظ: فِي سائمتها، بدل عَنهُ بِإِعَادَة الْجَار، والمبدل فِي حكم الطرح فَلَا يجب فِي مُطلق الْغنم. فَإِن قلت: لَا يجوز أَن يكون: شَاة، مُبْتَدأ و: فِي صَدَقَة الْغنم، خَبره لِأَن لفظ الصَّدَقَة يأباه، فَمَا وَجه إعرابه؟ قلت: لَا نسلم، وَلَئِن سلمنَا فَلفظ: فِي صَدَقَة، يتَعَلَّق بِفَرْض أَو كتب مُقَدرا، أَي: فرض فِي صدقتها شَاة أَو كتب فِي شَأْن صَدَقَة الْغنم هَذَا، وَهُوَ إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى آخِره، وَحِينَئِذٍ يكون شَاة خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: فزكاتها شَاة أَو بِالْعَكْسِ، أَي: فَفِيهَا شَاة. وَقَالَ التَّيْمِيّ: شَاة، رفع بِالِابْتِدَاءِ، و: فِي صَدَقَة الْغنم، فِي مَوضِع الْخَبَر، وكذك: شَاتَان، وَالتَّقْدِير: فِيهَا شَاتَان، وَالْخَبَر مَحْذُوف. قَوْله: (وَاحِدَة) ، إِمَّا مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: بِوَاحِدَة، وَإِمَّا حَال من ضمير النَّاقِصَة، وَفِي بعض الرِّوَايَة: بِشَاة وَاحِدَة، بِالْجَرِّ. قَوْله: (وَفِي الرقة) ، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف: الْوَرق، وَالْهَاء عوض عَن الْوَاو، نَحْو: الْعدة والوعد، وَهِي: الْفضة المضروبة، وَيجمع على: رقين. مثل: أرة وأرين. قَوْله: (فَإِن لم تكن) ، أَي: الرقة، قَوْله: (إِلَّا تسعين وَمِائَة) ، قَالَ الْخطابِيّ: هَذَا يُوهم أَنَّهَا إِذا زَاد عَلَيْهِ شَيْء قبل أَن يتم مِائَتَيْنِ كَانَ فِيهَا الصَّدَقَة، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَن نصابها المئتان. وَإِنَّمَا ذكر التسعين لِأَنَّهُ آخر فصل من فُصُول الْمِائَة، والحساب إِذا جَاوز الْآحَاد كَانَ تركيبه بِالْعُقُودِ كالعشرات والمئات والألوف، فَذكر التسعين ليدل بذلك على أَن لَا صَدَقَة فِيمَا نقص عَن كَمَال الْمِائَتَيْنِ، يدل على صِحَّته حَدِيث: (لَا صَدَقَة إِلَّا فِي خمس أَوَاقٍ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فِي قَوْله: (فَلَا يُعْط) ، دَلِيل على أَن الإِمَام وَالْحَاكِم إِذا ظهر فسقهما بَطل حكمهمَا، قَالَه الْخطابِيّ. وَفِيه: فِي قَوْله: (من الْمُسلمين) ، دلَالَة على أَن الْكَافِر لَا يُخَاطب بذلك. وَفِيه: فِي قَوْله: (فليعطها) دلَالَة على دفع الْأَمْوَال الظَّاهِرَة إِلَى الْأَمَام. وَفِيه: من أول الحَدِيث إِلَى قَوْله: (فَإِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة) ، لَا خلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة، وَعَلَيْهَا اتّفقت(9/19)
الْأَخْبَار عَن كتب الصَّدقَات الَّتِي كتبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْخلاف فِيمَا إِذا زَادَت على مائَة وَعشْرين، فَعِنْدَ الشَّافِعِي: فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون، وَفِي كل خمسين حقة. وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث، ومذهبه أَنه إِذا زَادَت على مائَة وَعشْرين وَاحِدَة فَفِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون، فَإِذا صَارَت مائَة وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حقة وبنتا لبون، ثمَّ يَدُور الْحساب على الأربعينات والخمسينات، فَيجب فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون، وَفِي كل خمسين حقة، وَبِه قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ مُحَمَّد بن (إِسْحَاق وَأَبُو عبيد وَأحمد فِي رِوَايَة: لَا يتَغَيَّر الْفَرْض إِلَى ثَلَاثِينَ وَمِائَة، فَيكون فِيهَا حقة وبنتا لبون. وَعَن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رِوَايَتَانِ روى عَنهُ ابْن الْقَاسِم وَابْن عبد الحكم، رحمهمَا الله تَعَالَى: أَن السَّاعِي بِالْخِيَارِ بَين أَن يَأْخُذ ثَلَاث بَنَات لبون أَو حقتين، وَهُوَ قَول مطرف وَابْن أبي حَازِم وَابْن دِينَار وَأصبغ. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم، رَحمَه الله تَعَالَى: فِيهَا ثَلَاث بَنَات لبون، وَلَا يُخَيّر السَّاعِي إِلَى أَن يبلغ ثَلَاثِينَ وَمِائَة، فَيكون فِيهَا حَقه وابنتا لبون، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وروى عبد الْملك وَأَشْهَب وَابْن نَافِع عَن مَالك: أَن الْفَرِيضَة لَا تَتَغَيَّر بِزِيَادَة وَاحِدَة حَتَّى تزيد عشرا، فَيكون فِيهَا بِنْتا لبون وحقة، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد. وَعند أهل الظَّاهِر: إِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة ربع بعير أَو ثمنه أَو عشره، فَفِي كل خمسين حقة، وَفِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون، وَهُوَ قَول الاصطخري. وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير: يتَخَيَّر بَين الاسئناف وَعَدَمه لوُرُود الْأَخْبَار بهما. وَوَقع فِي (النِّهَايَة) للشَّافِعِيَّة، وَفِي (الْوَسِيط) أَيْضا أَنه قَول ابْن جُبَير، أَن بدل، ابْن جرير، وَهُوَ تَصْحِيف، وَحكى السفاقسي عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْحكم بن عتيبة أَن فِي مائَة وَخمْس وَعشْرين حقتين وَبنت مَخَاض، وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه: تسْتَأْنف الْفَرِيضَة فَيكون فِي الْخمس شَاة مَعَ الحقتين، وَفِي الْعشْر شَاتَان، وَفِي خمس عشرَة ثَلَاث شِيَاه وَفِي عشْرين أَربع شِيَاه، وَفِي خمس وَعشْرين بنت مَخَاض، وَفِي سِتّ وَثَلَاثِينَ بنت لبون فَإِذا بلغت مائَة وستا وَتِسْعين فَفِيهَا أَربع حقاق إِلَى مِائَتَيْنِ، ثمَّ تسْتَأْنف الْفَرِيضَة أبدا كَمَا تسْتَأْنف فِي الْخمسين الَّتِي بعد الْمِائَة وَالْخمسين، وَهَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأهل الْعرَاق، وَحكى السفاقسي أَنه قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لكنه غير مَشْهُور عَنهُ. وَاحْتج أَصْحَابنَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (الْمَرَاسِيل) وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) والطَّحَاوِي فِي (مشكله) عَن حَمَّاد بن سَلمَة. قلت: لقيس بن سعد: خُذ لي كتاب مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، فَأَعْطَانِي كتابا أخبر أَنه من أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتبه لجده، فَقَرَأته فَكَانَ فِيهِ ذكر مَا يخرج من فَرَائض الْإِبِل، فَقص الحَدِيث إِلَى: أَن تبلغ عشْرين وَمِائَة، فَإِذا كَانَت أَكثر من عشْرين وَمِائَة فَإِنَّهُ يُعَاد إِلَى أول فَرِيضَة الْإِبِل وَمَا كَانَ أقل من خمس وَعشْرين فَفِيهِ الْغنم، فِي كل خمس ذود شَاة.
وَأما الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي فَنحْن قد عَملنَا بِهِ لأَنا قد أَوجَبْنَا فِي الْأَرْبَعين بنت لبون، فَإِن الْوَاجِب فِي الْأَرْبَعين مَا هُوَ الْوَاجِب فِي سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَكَذَلِكَ أَوجَبْنَا فِي خمسين حقة، وَهَذَا الحَدِيث لَا يتَعَرَّض لنفي الْوَاجِب عَمَّا دونه، وَإِنَّمَا هُوَ عمل بِمَفْهُوم النَّص فَنحْن عَملنَا بالنصين، وَهُوَ أعرض عَن الْعَمَل بِمَا روينَاهُ. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا الحَدِيث مُرْسل، وَقَالَ هبة الله الطَّبَرِيّ: هَذَا الْكتاب صحيفَة لَيْسَ بِسَمَاع وَلَا يعرف أهل الْمَدِينَة كلهم عَن كتاب عَمْرو بن حزم إلاَّ مثل روايتنا، رَوَاهَا الزُّهْرِيّ وَابْن الْمُبَارك وَأَبُو أويس، كلهم عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده مثل قَوْلنَا، ثمَّ لَو تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ عَن عَمْرو بن حزم بقيت روايتنا عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِي فِي (الصَّحِيح) وَبهَا عمل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا حَدِيث مُنْقَطع بَين أبي بكر بن حزم إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيس بن سعد، أَخذه عَن كتاب لَا عَن سَماع، وَكَذَلِكَ حَمَّاد بن سَلمَة أَخذه عَن كتاب لَا عَن سَماع، وَقيس بن سعد وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَإِن كَانَا من الثِّقَات، فروايتهما هَذِه تخَالف رِوَايَة الْحفاظ عَن كتاب عَمْرو بن حزم وَغَيره، وَحَمَّاد بَين سَلمَة سَاءَ حفظه فِي آخر عمره فالحفاظ لَا يحتجون بِمَا يُخَالف فِيهِ، ويتجنبون مَا ينْفَرد بِهِ، وخاصة عَن قيس بن سعد وَأَمْثَاله. قلت: الْأَخْذ من الْكتاب حجَّة، صرح الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْمدْخل) : أَن الْحجَّة تقوم بِالْكتاب، وَإِن كَانَ السماع أولى مِنْهُ بِالْقبُولِ، وَالْعجب من الْبَيْهَقِيّ أَنه يُصَرح بِمثل هَذَا القَوْل ثمَّ يَنْفِيه فِي الْموضع الَّذِي تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة. وَقَوله: وَعمل بهَا الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، غير مُسلم لِأَن ابْن أبي شيبَة روى فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم بن حَمْزَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: إِذا زَادَت الْإِبِل على عشْرين وَمِائَة يسْتَقْبل بهَا الْفَرِيضَة، وَحدثنَا يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إبراهي مثله. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ:(9/20)
قَالَ الشَّافِعِي فِي كِتَابه الْقَدِيم: رَاوِي هَذَا مَجْهُول عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأكْثر الروَاة عَن ذَلِك الْمَجْهُول يزْعم أَن الَّذِي روى هَذَا عَنهُ غلط عَلَيْهِ، وَأَن هَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثه. قلت: الَّذِي رَوَاهُ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ عَاصِم بن حَمْزَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَجْهُول بل مَعْرُوف، روى عَنهُ الحكم وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وَغَيرهمَا، وَوَثَّقَهُ ابْن الْمَدِينِيّ وَالْعجلِي، وَأخرج لَهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَإِن أَرَادَ الشَّافِعِي بقوله: يزْعم أَن الَّذِي يرْوى هَذَا عَنهُ غلط عَلَيْهِ، أَبَا إِسْحَاق السبيعِي فَلم يقل أحد غَيره إِنَّه غلط، وَقد ذكر الْبَيْهَقِيّ وَغَيره عَن يَعْقُوب الْفَارِسِي وَغَيره من الْأَئِمَّة أَنهم أحالوا بالغلط على عَاصِم، وَأما قَول الْبَيْهَقِيّ وَحَمَّاد بن سَلمَة: سَاءَ حفظه فِي آخر عمره، فالحفاظ لَا يحتجون بِمَا يُخَالف فِيهِ، فصادر عَن تعسف وتمحل لِأَنَّهُ لم ير أحد من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن ذكر حمادا بِشَيْء من ذَلِك، وَالْعجب مِنْهُ أَنه أقتصر فِيهِ فِيهِ على هَذَا الْمِقْدَار، لِأَنَّهُ ذكره فِي غير هَذَا الْموضع بِأَسْوَأ مِنْهُ. وَقَوله: وخاصة عَن قيس بن سعد، بَاطِل، وَمَا لقيس بن سعد فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ وَأخرج لَهُ مُسلم على أَن روايتهم الَّتِي يستدلون بهَا غير سَالِمَة عَن النزاع، فَإِن الدَّارَقُطْنِيّ ذكر فِي كتاب (التتبع على الصَّحِيحَيْنِ) أَن ثُمَامَة لم يسمعهُ من أنس وَلَا سَمعه عبد الله بن الْمثنى من ثُمَامَة. انْتهى. وَكَيف يَقُول الْبَيْهَقِيّ: وروينا الحَدِيث من حَدِيث ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن أنس من أوجه صَحِيحَة، وَفِي (الْأَطْرَاف) للمقدسي: قيل لِابْنِ معِين: حَدِيث ثُمَامَة عَن أنس فِي الصَّدقَات؟ قَالَ: لَا يَصح وَلَيْسَ بِشَيْء، وَلَا يَصح فِي هَذَا حَدِيث فِي الصَّدقَات، وَفِي إِحْدَى رِوَايَات الْبَيْهَقِيّ: عبد الله بن الْمثنى، قَالَ السَّاجِي: ضَعِيف مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أخرج حَدِيثه، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الضُّعَفَاء) وَقَالَ: قَالَ أَبُو سَلمَة: كَانَ ضَعِيفا فِي الحَدِيث. وَأما قَول الظَّاهِرِيَّة، الَّذِي قَالَ بِهِ ابْن حزم أَيْضا فَبَاطِل بِلَا شُبْهَة إِذْ لم يرد الشَّرْع بِجعْل السَّائِمَة نِصَابا بِربع بعير أَو ثمنه أَو عشره، وتعلقوا بقوله: فَإِذا زَادَت، وَقَالُوا: الزِّيَادَة تحصل بِالثّمن وَالْعشر.
وَفِيه: فِي قَوْله: (فِي كل خمس شَاة) تعلق مَالك وَأحمد على تعين إِخْرَاج الْغنم فِي مثل ذَلِك حَتَّى لَو أخرج بَعِيرًا عَن الْأَرْبَع وَالْعِشْرين لم يجزه عِنْدهمَا، وَعند الْجُمْهُور، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي إِنَّه يجْزِيه لِأَنَّهُ يجزىء عَن خمس وَعشْرين فَمَا دونهَا إولى لِأَن الأَصْل أَن يجب من جنس المَال، وَإِنَّمَا عدل عَنهُ رفقا بالمالك، فَإِذا رَجَعَ بِاخْتِيَارِهِ إِلَى الأَصْل أَجزَأَهُ، فَإِن كَانَت قيمَة الْبَعِير مثلا دون قيمَة أَربع شِيَاه فَفِيهِ خلاف عِنْد الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، والأقيس أَنه لَا يجزىء.
وَفِيه: فِي قَوْله: (فِي أَربع وَعشْرين) دلَالَة على أَن الْأَرْبَع مَأْخُوذَة عَن الْجَمِيع، وَإِن كَانَت الْأَرْبَع الزَّائِدَة على الْعشْرين وقصا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي (الْبُوَيْطِيّ) وَقَالَ فِي غَيره: إِنَّه عَفْو، وَيظْهر أثر الْخلاف فِيمَن لَهُ تسع من الْإِبِل فَتلف مِنْهَا أَرْبَعَة بعد الْحول، وَقبل التَّمَكُّن حَيْثُ قَالُوا: إِنَّه شَرط فِي الْوُجُوب، وَجَبت عَلَيْهِ شَاة بِلَا خلاف، وَكَذَا إِذا قَالُوا: التَّمَكُّن شَرط فِي الضَّمَان، وَقَالُوا: الوقص عَفْو. فَإِن قَالُوا يتَعَلَّق بِهِ الْفَرْض وَجب خَمْسَة أتساع شَاة، وَالْأول قَول الْجُمْهُور كَمَا نَقله ابْن الْمُنْذر، وَعَن مَالك رِوَايَة كَالْأولِ.
وَفِيه: أَن مَا دون خمس من الْإِبِل لَا زَكَاة فِيهِ وَهَذَا بِالْإِجْمَاع.
وَفِيه: فِي قَوْله: (إِلَى خمس وَثَلَاثِينَ إِلَى خمس وَأَرْبَعين إِلَى سِتِّينَ) دَلِيل على أَن الأوقاص لَيست بِعَفْو، وَأَن الْفَرْض يتَعَلَّق بِالْجَمِيعِ وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَالأَصَح خِلَافه.
وَفِيه: أَن زَكَاة الْغنم فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة، وَقد أجمع الْعلمَاء على أَن لَا شَيْء فِي أقل من الْأَرْبَعين من الْغنم، وَأَن فِي الْأَرْبَعين شَاة، وَفِي مائَة وَعشْرين شَاتين وثلاثمائة ثَلَاث شِيَاه، وَإِذا زَادَت وَاحِدَة فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء إِلَى أَرْبَعمِائَة فَفِيهَا أَربع شِيَاه، ثمَّ فِي كل مائَة شَاة، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي (الصَّحِيح) عَنهُ، وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة أهل الْأَثر، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود. وَقَالَ الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن بن حَيّ: إِذا زَادَت على ثَلَاثمِائَة وَاحِدَة فَفِيهَا أَربع شِيَاه إِلَى أَرْبَعمِائَة، فَإِذا زَادَت وَاحِدَة يجب فِيهَا خمس شِيَاه، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد، وَهُوَ مُخَالف للآثار. وَقيل: إِذا زَادَت على مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَان حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، حَكَاهُ ابْن التِّين وفقهاء الْأَمْصَار على خِلَافه.
وَفِيه: أَن شَرط وجوب الزَّكَاة فِي الْغنم السّوم عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهِي الراعية فِي كلأ مُبَاح، وَقَالَ ابْن حزم: قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَبَعض أَصْحَابنَا: تزكّى السوائم والمعلوفة والمتخذة للرُّكُوب وللحرث وَغير ذَلِك من الْإِبِل وَالْغنم، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: أما الْإِبِل فَنعم، وَأما الْبَقر وَالْغنم فَلَا زَكَاة إلاَّ فِي سائمتها، وَهُوَ قَول أبي الْحسن بن الْمُفلس، وَقَالَ بَعضهم: أما الْإِبِل وَالْغنم فتزكى سائمتها وَغير سائمتها، وَأما الْبَقر فَلَا يزكّى إلاَّ سائمتها، وَهُوَ قَول أبي بكر بن دَاوُد، وَلم يخْتَلف أحد من أَصْحَابنَا فِي أَن سَائِمَة الْإِبِل وَغير سَائِمَة الْإِبِل مِنْهَا(9/21)
تزكّى سَوَاء. وَقَالَ بَعضهم: تزكّى غير السَّائِمَة عَن كل وَاحِدَة مرّة وَاحِدَة فِي الدَّهْر، ثمَّ لَا يُعِيد الزَّكَاة فِيهَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: وَلَيْسَ فِي العوامل والحوامل والمعلوفة صَدَقَة، هَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم كعطاء وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَابْن جُبَير وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَأبي عبيد وَابْن الْمُنْذر، ويروى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَقَالَ قَتَادَة وَمَكْحُول وَمَالك: تجب الزَّكَاة فِي الْمَعْلُومَة والنواضح بالعمومات، وَهُوَ مَذْهَب معَاذ وَجَابِر بن عبد الله وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ ومعاذ أَنه: لَا زَكَاة فِيهَا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَحجَّة من اشْتَرَطَهُ كتاب الصّديق وَحَدِيث عَمْرو بن حزم مثله، وَشرط فِي الْإِبِل حَدِيث بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده. مَرْفُوعا: (فِي كل سَائِمَة من كل أَرْبَعِينَ من الْإِبِل ابْنة لبون) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقد ورد تَقْيِيد السّوم وَهُوَ مَفْهُوم الصّفة، وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد إِذا كَانَا فِي حَادِثَة وَاحِدَة، وَالصّفة إِذا قرنت بالإسم الْعلم تنزل منزلَة الْعلَّة لإِيجَاب الحكم. وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي العوامل صَدَقَة) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَصَححهُ ابْن الْقطَّان، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، وَعَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (قَالَ: لَا يُؤْخَذ من الْبَقر الَّتِي يحرث عَلَيْهَا من الزَّكَاة شَيْء) ، وَرَفعه حجاج عَن ابْن جريج عَن زِيَاد بن سعد عَن أبي الزبير، عَنهُ بِلَفْظ: (لَيْسَ فِي المثيرة صَدَقَة) ، وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة من حَدِيث لَيْث عَن طَاوُوس عَن معَاذ أَنه: كَانَ لَا يَأْخُذ من الْبَقر العوامل صَدَقَة، حَدثنَا هَاشم عَن مُغيرَة ابْن إِبْرَاهِيم وَمُجاهد، قَالَا: لَيْسَ فِي الْبَقَرَة العوامل صَدَقَة، وَمن حَدِيث حجاج عَن الحكم أَن عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: (لَيْسَ فِي العوامل شَيْء) ، وَكَذَا قَالَه سعيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالضَّحَّاك وَعَمْرو بن دِينَار وَعَطَاء، وَفِي (الْأَسْرَار) للدبوسي وَعلي وَجَابِر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: وَحجَّة من مَنعه مَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (مبسوطه) عَن اللَّيْث، قَالَ: رَأَيْت الْإِبِل الَّتِي تكرى لِلْحَجِّ تزكّى بِالْمَدِينَةِ، وَيحيى بن سعيد وَرَبِيعَة وَغَيرهمَا من أهل الْمَدِينَة حُضُور لَا ينكرونه، ويرون ذَلِك من السّنة إِذا لم تكن مُتَفَرِّقَة وَعَن طَلْحَة بن أبي سعيد أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كتب، وَهُوَ خَليفَة: أَن تُؤْخَذ الصَّدَقَة من الَّتِي تعْمل فِي الرِّيف. قَالَ طَلْحَة: حضرت ذَلِك وعاينته. وَعند أبي حنيفَة وَأحمد: أَن السَّائِمَة هِيَ الَّتِي تكتفي بالرعي فِي أَكثر الْحول لِأَن اسْم السّوم لَا يَزُول عَنْهَا بالعلف الْيَسِير وَلِأَن الْعلف البسير لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ، وَلِأَن الضَّرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ فِي بعض الأحيان لعدم المرعى فِيهِ، وَاعْتبر الشَّافِعِي السّوم فِي جَمِيع الْحول وَلَو علفت قدرا أتعيش بِدُونِهِ بِلَا ضَرَر بيِّن وَجَبت الزَّكَاة. وَفِي (الْبَدَائِع) : إِن أسيمت الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم للْحَمْل أَو الرّكُوب أَو اللَّحْم فَلَا زَكَاة فِيهَا، وَإِن أسيمت للتِّجَارَة فَفِيهَا زَكَاة التِّجَارَة حَتَّى لَو كَانَت أَرْبعا من الْإِبِل أَو أقل تَسَاوِي مِائَتي دِرْهَم يجب فِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَإِن كَانَت خمْسا لَا تَسَاوِي مِائَتي دِرْهَم لَا يجب فِيهَا الزَّكَاة. وَفِي (الذَّخِيرَة) : من اشْترى إبِلا سَائِمَة بنية التِّجَارَة وَحَال عَلَيْهَا الْحول وَهِي سَائِمَة تجب فِيهَا زَكَاة التِّجَارَة دون زَكَاة السَّائِمَة.
وَفِيه: أَن الزَّكَاة فِي الْفضة ربع عشرهَا، مثلا إِذا كَانَت مِائَتَا دِرْهَم فزكاتها خَمْسَة دَرَاهِم، وَفِي أَرْبَعمِائَة عشرَة دَرَاهِم وَفِي ألف خَمْسَة وَعِشْرُونَ، وَفِي عشرَة آلَاف مِائَتَان وَخَمْسُونَ درهما، وَفِي عشْرين ألفا خَمْسمِائَة، وَفِي أَرْبَعِينَ ألفا ألف، وَفِي مائَة ألف أَلفَانِ وَخَمْسمِائة. . وهلم جرا.
وَفِيه: أَن الْفضة إِن لم تكن إِلَّا تسعين وَمِائَة فَلَيْسَ فِيهَا شَيْء لعدم النّصاب، إلاَّ أَن يتَطَوَّع صَاحبهَا.
93 - (بابٌ لاَ تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إلاَّ مَا شاءَ المُصَدِّقُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (لَا تُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة) أَي: فِي الزَّكَاة (هرمة) بِفَتْح الْهَاء وَكسر الرَّاء: أَي: كَبِيرَة سَقَطت أسنانها، وَعَن الْأَصْمَعِي: الْهَرم، الَّذِي قد بلغ إقصى السن، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: امْرَأَة هرمة وَرِجَال هرمون وهرائم، وَنسَاء هرمات، وَرُبمَا قيل: شُيُوخ هرمى، وَقد هرم هرما مِثَال: حذر، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : ومهرما وَنسَاء هرمى. وَفِي (الْكَامِل) لأبي الْعَبَّاس: وَقد أهرمه الدَّهْر وهرمه. قَوْله: (عوار) ، بِفَتْح الْعين وَبِضَمِّهَا: وَهُوَ الْعَيْب أَي: وَلَا تُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة ذَات عيب. وَقيل: بِالْفَتْح الْعَيْب وبالضم: العور. قَوْله: (وَلَا تَيْس) ، وَهُوَ فَحل الْغنم، وَقَيده ابْن التِّين أَنه من الْمعز أَي: وَلَا يُؤْخَذ فِي الصَّدَقَة تَيْس، مَعْنَاهُ: إِذا كَانَت مَاشِيَة كلهَا أَو بَعْضهَا إِنَاثًا لَا يُؤْخَذ مِنْهُ الذّكر، إِنَّمَا تُؤْخَذ الْأُنْثَى إلاَّ فِي موضِعين وَردت بهما السّنة. أَحدهمَا:(9/22)
أَخذ التبيع من ثَلَاثِينَ من الْبَقر، وَالْآخر: أَخذ ابْن اللَّبُون من خمس وَعشْرين من الْإِبِل، بدل بنت الْمَخَاض عِنْد عدمهَا. وَأما إِذا كَانَت مَاشِيَة كلهَا ذُكُورا فَيُؤْخَذ الذّكر، وَقيل: إِنَّمَا لَا يُؤْخَذ التيس لِأَنَّهُ مَرْغُوب عَنهُ لنتنه وَفَسَاد لَحْمه، أَو لِأَنَّهُ رُبمَا يقْصد بِهِ الْمَالِك مِنْهُ الفحولة فيتضرر بِإِخْرَاجِهِ. قَوْله: (إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصدق) روى أَبُو عبيد، بِفَتْح الدَّال، وَجُمْهُور الْمُحدثين بِكَسْرِهَا، فعلى الأولى يُرَاد بِهِ الْمُعْطِي وَيكون الِاسْتِثْنَاء مُخْتَصًّا بقوله: (وَلَا تَيْس) لِأَن رب المَال لَيْسَ لَهُ أَن يخرج فِي صدقته ذَات عوار، والتيس وَإِن كَانَ غير مَرْغُوب فِيهِ لنتنه فَإِنَّهُ رُبمَا زَاد على خِيَار الْغنم فِي الْقيمَة لطلب الفحولة، وعَلى الثَّانِي مَعْنَاهُ إلاَّ مَا شَاءَ الْمُصدق مِنْهَا، وَرَأى ذَلِك أَنْفَع للمستحقين فَإِنَّهُ وكيلهم فَلهُ أَن يَأْخُذ مَا شَاءَ، وَيحْتَمل تَخْصِيص ذَلِك إِذا كَانَت الْمَوَاشِي كلهَا مَعِيبَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هَذَا إِذا كَانَ الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا، وَيحْتَمل أَن يكون مُنْقَطِعًا، وَالْمعْنَى: لَا يخرج الْمُزَكي النَّاقِص والمعيب لَكِن يخرج مَا شَاءَ الْمُصدق من السَّلِيم أَو الْكَامِل. وَفِي (التَّلْوِيح) : قَالَ بَعضهم: الْمُصدق، بتَشْديد الصَّاد وَالدَّال، وَقَالَ أَصله: الْمُتَصَدّق، فأدغمت التَّاء فِي الصَّاد لقرب مخرجهما. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل أبدلت التَّاء صادا ثمَّ أدغمت الصَّاد فِي الصَّاد على مَا تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد الصرفية.
5541 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني أبِي قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ أنَّ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتَبَ لهُ الَّتِي أمَرَ الله رَسولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إلاَّ مَا شاءَ المُصَدِّقُ..
قد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ قطع هَذَا الحَدِيث قطعا، فترجم لكل قِطْعَة مِنْهَا تَرْجَمَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد ذكر غير مرّة، وَنَفس لفظ الحَدِيث هُوَ عين التَّرْجَمَة فَلَا مُطَابقَة بَينهمَا أقوى وأنسب من ذَلِك، وَقد فسرنا أَلْفَاظه. وَأما الحكم فِيهِ فعامة الْفُقَهَاء على الْعَمَل بِهِ، فالمأخوذ فِي الصَّدقَات الْعدْل، وَهُوَ مَا بَين خِيَار المَال ودونه، فَإِن كَانَ المَال كُله معيبا يُؤْخَذ الْوسط مِنْهُ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي أَيْضا. وَعند مَالك: يُكَلف بسليم من الْعَيْب، وَهُوَ مَشْهُور مذهبع، وَيُؤْخَذ فِي الصَّغِيرَة الَّتِي تبلغ سنّ الْجذع، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: إِذا كَانَت كلهَا صغَارًا أَو مراضا أَخذ مِنْهَا، ونحا إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الحكم والمخزومي والماجشون وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف، وَقَالَ مطرف: إِن كَانَت عِجَافًا أَو ذَوَات عوار أَو تيوسا أخذنها، وَإِن كَانَت مواحض أَو أكولة أَو سخالاً لم تُؤْخَذ مِنْهَا. وَقَالَ عبد الْملك: يَأْخُذ من ذَلِك كُله إِذا لم تكن فِيهَا جَذَعَة أَو ثنية إلاَّ أَن تكون سخالاً فَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا. وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِن السخال والعجاجيل لَا شَيْء فِيهَا.
وَتَحْقِيق مَذْهَب الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا الْبَاب مَا قَالَه صَاحب (الْهِدَايَة) : وَلَيْسَ فِي الفصلان والعجاجيل والحملان صَدَقَة، وَهَذَا آخر أَقْوَال أبي حنيفَة، وَبِه قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَالثَّوْري وَالشعْبِيّ وَدَاوُد أَبُو سُلَيْمَان، وَكَانَ يَقُول أَولا: يجب فِيهَا مَا يجب فِي الْكِبَار من الْجذع والتثنية، وَبِه قَالَ زفر وَمَالك وَأَبُو عبيد وَأَبُو بكر من الْحَنَابِلَة، وَفِي (الْمُغنِي) : فِي (الصَّحِيح) : ثمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: تجب وَاحِدَة مِنْهَا، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَالشَّافِعِيّ فِي (الْجَدِيد) وصححوه، ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا. وروى عَن الثَّوْريّ: أَن الْمُصدق يَأْخُذ مُسِنَّة وَيرد على صَاحب المَال فضل مَا بَين المسنة وَالصَّغِيرَة الَّتِي هِيَ فِي مَاشِيَته، وَهُوَ وَجه للحنابلة، وَهنا قَول آخر ضَعِيف جدا لم ينْقل عَن غير الْحَنَابِلَة: أَنه يجب فِي خمس وَعشْرين من الفصلان وَاحِدَة مِنْهَا، وَفِي سِتّ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا كسن وَاحِدَة مِنْهَا مرَّتَيْنِ، وَفِي سِتّ وَأَرْبَعين وَاحِدَة سنّهَا مثل سنّ وَاحِدَة مِنْهَا كسن وَاحِدَة مِنْهَا مرَّتَيْنِ، وَفِي سِتّ وَأَرْبَعين وَاحِدَة سنّهَا مثل سنّ وَاحِدَة مِنْهَا ثَلَاث مَرَّات، وَفِي إِحْدَى وَسِتِّينَ وَاحِدَة مثل سنّهَا أَربع مَرَّات، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) للنووي: إِذا كَانَت الْمَاشِيَة صغَارًا أَو وَاحِدَة مِنْهَا فِي سنّ الْفَرْض يجب سنّ الْفَرْض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ عِنْد الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد، فَإِن هَلَكت المسنة بعد الْحول لَا يُؤْخَذ مِنْهَا شَيْء فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد، وَيجْعَل تبعا لَهَا فِي الْوُجُوب والهلاك، فَإِذا هَلَكت بِغَيْر صنع أحد تجْعَل كَأَنَّهَا هَلَكت مَعَ الصغار، وَعند أبي يُوسُف: يجب تِسْعَة وَثَلَاثُونَ جزأ من أَرْبَعِينَ جزأ من حمل هُوَ أفضلهَا، وَيسْقط فضل المسنة، كَأَن الْكل كَانَ حملانا وَهلك مِنْهَا حمل، وَعند زفر: يجب مثلهَا من تَثْنِيَة وسط، وَإِن هَلَكت الصغار وَبقيت المسنة يجب فِيهَا جُزْء من شَاة وسط اتِّفَاقًا. ذكره الوبري.
04 - (بابُ أخْذِ العَنَاقِ فِي الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز أَخذ العناق فِي الصَّدَقَة: أَي: الزَّكَاة، والعناق، بِفَتْح الْعين وَتَخْفِيف النُّون: ولد الْمعز إِذا أَتَى عَلَيْهِ(9/23)
أَرْبَعَة أشهر وَفصل من أمه وَقَوي على الرَّعْي، فَإِن كَانَ ذكرا فَهُوَ جدي، وَإِن كَانَ أُنْثَى فَهُوَ عنَاق، فَإِذا أَتَى عَلَيْهِ حول فالذكر ثني وَالْأُنْثَى عنز، ثمَّ يكون جذعا فِي السّنة الثَّانِيَة. وَنقل ابْن التِّين عَن القَاضِي إبي مُحَمَّد: أَن المُرَاد بالعناق الْجَذعَة من الْمعز، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَاخْتلف فِي الْجذع من الْمعز، فَقيل: ابْن سنة. وَقيل: وَدخل فِي الثَّانِيَة، وَاخْتلف فِي الثني فَقيل: إِذا أسقط سنة وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ أَو ثناياه كلهَا فَهُوَ ثني، وَقيل: لَا يكون سنيا إلاَّ بِسُقُوط ثِنْتَيْنِ، وَأما الْجذع من الضَّأْن فَفِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال عِنْد الملكية: ابْن سنة، ابْن عشرَة أشهر، ابْن ثَمَانِيَة، ابْن سِتَّة، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة: مَا اسْتكْمل سنة وَدخل فِي الثَّانِيَة.
6541 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خالِدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقا كانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَمَا هُوَ إلاَّ أنْ رَأيْتُ أنَّ الله شَرَحَ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بالقِتَالِ فَعَرَفْتُ أنَّهُ الحَقُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو مَنَعُونِي عنَاقًا) إِلَى آخِره، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى جَوَاز أَخذ الصَّغِير من الْغنم فِي الزَّكَاة، وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث قصَّة عمر مَعَ أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قتال مانعي الزَّكَاة، وَقد مر الحَدِيث بِتَمَامِهِ مطولا فِي أول الزَّكَاة، أخرجه هُنَاكَ من طَرِيق وَاحِد عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله آخِره، وَهَهُنَا أخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله، وَالْآخر مُعَلّق حَيْثُ قَالَ: قَالَ اللَّيْث ... إِلَى آخِره، وَوَصله الذهلي فِي الزهريات عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلفُوا فِي أَخذ العناق والسخال، والبهم إِذا كَانَت الْغنم كَذَلِك كلهَا، أَو كَانَ فِي الْإِبِل فصلان أَو فِي الْبَقر عجاجيل، فَقَالَ مَالك: عَلَيْهِ فِي الْغنم جَذَعَة أَو ثنية، وَعَلِيهِ فِي الْإِبِل وَالْبَقر مَا فِي الْكِبَار مِنْهَا، وَهُوَ قَول زفر وَأبي ثَوْر، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: يُؤْخَذ مِنْهَا إِذا كَانَت صغَارًا من كل صنف وَاحِد مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَمُحَمّد: لَا شَيْء فِي الفصلان وَلَا فِي العجاجيل، وَلَا فِي صغَار الْغنم لَا مِنْهَا وَلَا من غَيرهَا، وَذكر ابْن الْمُنْذر: وَكَانَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد يَقُولُونَ: فِي أَرْبَعِينَ حملا مُسِنَّة، وعَلى هَذَا القَوْل هم موافقون لقَوْل مَالك، وَقد مر تَحْقِيق هَذَا فِي الْبَاب السَّابِق، فَإِن قلت: كَيفَ وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث عِنْد من يرى جَوَاز أَخذ الصَّغِير إِذا كَانَت الْمَاشِيَة كلهَا صغَارًا؟ قلت: قَالُوا: قَول أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها) يدل على أَنَّهَا مَأْخُوذَة فِي الصَّدَقَة، وَهُوَ مَذْهَب البُخَارِيّ أَيْضا، فَلذَلِك ترْجم بالترجمة الْمَذْكُورَة، وَأجَاب المانعون، بِأَن تَأْوِيله: يؤدون عَنْهَا مَا يجوز أَدَاؤُهُ، وَيشْهد لَهُ قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أعدد عَلَيْهِم السخلة وَلَا تأخذها، وَإِنَّمَا خرج قَول الصّديق على الْمُبَالغَة بِدَلِيل الرِّوَايَة الْأُخْرَى: لَو مَنَعُونِي عقَالًا، والعقال لَيْسَ فِيهِ زَكَاة، وَالله تَعَالَى أعلم.
14 - (بابٌ لاَ تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا تُؤْخَذ ... إِلَى آخِره، والكرائم جمع كَرِيمَة، يُقَال: نَاقَة كَرِيمَة، أَي: غزيرة اللَّبن، وَيدخل فِيهِ الحديثة الْعَهْد بالنتاج، والسمينة للْأَكْل وَالْحَامِل.
8541 - حدَّثنا أُمَيَّةُ بنُ بِسْطَامٍ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا رَوْحُ بنُ القَاسِمِ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أُمَيَّةَ عنْ يَحْيى بنِ عَبْدِ الله بنِ صَيْفِي عنْ أبِي مَعْبَدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذا رَضِي الله عنهُ عَلَى اليَمَنِ قَالَ إنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أهْلِ كِتَابٍ(9/24)
فلْيَكُنْ أوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إليْهِ عِبَادَةُ الله فإذَا عَرَفُوا الله فأخْبَرَهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ ولَيْلَتِهِمْ فإذَا فَعَلُوا فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله فَرَضَ علَيْهِمْ زَكاةً تُؤْخَذُ مِنْ أمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فإذَا أطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمُ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أمْوَالِ النَّاسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتوق كرائم أَمْوَال النَّاس) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي أول الزَّكَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق عَن يحيى بن عبد الله إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن أُميَّة بن بسطَام، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِفَتْحِهَا، وَالْأول أشهر، وَقَالَ ابْن الصّلاح: أعجمي لَا ينْصَرف، وَمِنْهُم من صرفه العيشي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ يروي عَن يزِيد بن زُرَيْع مصغر الزَّرْع المرادف للحرث، مر فِي: بَاب الْجنب يخرج، وَهُوَ يروي عَن روح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن الْقَاسِم، مر فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي غسل الْبَوْل، وَهُوَ يروي عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة الْأمَوِي الْمَكِّيّ، مَاتَ فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، عَن يحيى بن عبد الله عَن أبي معبد، بِفَتْح الْمِيم واسْمه: نَافِذ، بالنُّون. وَالْفَاء والذال الْمُعْجَمَة، والتفاوت بَينهمَا يسير، وَلَيْسَ فِي الَّذِي رَوَاهُ أول الزَّكَاة.
قَوْله: (وتوق كرائم أَمْوَال النَّاس) ، فلنذكر فِيهِ بعض شَيْء، وَإِن كَانَ الْكَلَام قد مضى فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى، فَقَوله: (على الْيمن) ، وَهُوَ الإقليم الْمَعْرُوف، وَإِنَّمَا قَالَ: على الْيمن، مَعَ أَن الْبَعْث يتَعَدَّى بإلى لِأَنَّهُ ضمن فِيهِ معنى الْولَايَة أَي: بعث واليا عَلَيْهِم. قَوْله: (تقدم) بِفَتْح الدَّال من قدم، بِالْكَسْرِ، إِذا جَاءَ من السّفر. وَأما قدُم بِالضَّمِّ فَمَعْنَاه: تقدم. قَوْله: (أول) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ خبر كَانَ، واسْمه قَوْله: (عبَادَة الله) . قَوْله: (فَإِذا عرفُوا الله) أَي: بِالتَّوْحِيدِ، وَنفي الألوهية عَن غَيره. وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يُقَال: معرفَة الله بِقَرِينَة، فَإِذا عرفُوا الْحق. فَإِن قلت: المُرَاد من الْعِبَادَة الْمعرفَة، كَمَا قيل بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إلاَّ ليعبدونِ} (الذاريات: 65) . أَي: ليعرفونِ. انْتهى قلت: معنى الْعِبَادَة التَّوْحِيد، وَمعنى قَوْله: {إلاَّ ليعبدونِ} (الذاريات: 65) . إلاَّ ليعرفونِ. قَوْله: (وَترد على فقرائهم) ، مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: تُؤْخَذ من أَمْوَالهم وَترد على فقرائهم، والمحذوف مَوْجُود فِي بعض النّسخ. قَوْله: (توق) ، أَي: إحذر النفائس وَخيَار أَمْوَالهم. قَالَ صَاحب (الْمطَالع) : أَي: جَامِعَة الْكَمَال الْمُمكن فِي حَقّهَا من: غزارة اللَّبن، وجمال الصُّورَة، وَكَثْرَة اللَّحْم، وَالصُّوف.
24 - (بابٌ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود زَكَاة، وَقد مر تَفْسِيره وَشرح حَدِيث الْبَاب أَيْضا فِي: بَاب زَكَاة الْوَرق، وَقد تكلّف بَعضهم، فَقَالَ: هَذِه التَّرْجَمَة تتَعَلَّق بِزَكَاة الْإِبِل، وَإِنَّمَا اقتطعها من ثمَّ لِأَن التَّرْجَمَة الْمُتَقَدّمَة مسوقة للْإِيجَاب، وَهَذِه للنَّفْي، فَلذَلِك فصل بَينهمَا بِزَكَاة الْغنم وتوابعه. انْتهى. قلت: هَذَا تعسف لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة فَائِدَة لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي التَّرْتِيب بَين الْأَبْوَاب وَإِنَّمَا أعَاد هَذَا الحَدِيث هُنَا للِاخْتِلَاف فِي سَنَده، وَلِأَنَّهُ ترْجم هُنَاكَ للورق وَهَهُنَا لِلْإِبِلِ.
9541 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي صَعْصَعَةَ المَازِنِيِّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُق مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسِ أوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الْأَخير من الحَدِيث، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة الْمَازِني، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مَالك، وَالْمَعْرُوف أَنه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي صعصعة نسب إِلَى جده، وجده نسب إِلَى جده.
قَوْله: (عَن أَبِيه) ، كَذَا رَوَاهُ مَالك، وروى إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) عَن أبي أُسَامَة عَن الْوَلِيد بن كثير عَن مُحَمَّد هَذَا عَن عَمْرو(9/25)
ابْن يحيى وَعباد بن تَمِيم كِلَاهُمَا عَن أبي سعيد، وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي أَن مُحَمَّدًا أسمعهُ من ثَلَاثَة أنفس وَأَن الطَّرِيقَيْنِ محفوظان.
34 - (بابُ زَكَاةِ البَقَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِيجَاب زَكَاة الْبَقر. الْبَقر: جمع بقرة، وَهُوَ الباقر أَيْضا، وَيُقَال لَهَا: باقر إِذا كَانَت جمَاعَة مَعَ الرُّعَاة، وَالْبَقر أَيْضا اسْم للْجمع، كالكليب وَالْعَبِيد، والبيقور مثله. وَفِي (الْمُحكم) : الْبَقَرَة من الأهلي والوحشي تكون للمذكر والمؤنث، وَالْجمع: بقر، وَجمع الْبَقَرَة أبقر، كزمن وأزمن، فَأَما باقر وبقير وباقورة، فأسماء للْجمع. وَفِي (كتاب الوحوش) لهشام الكرنبائي: يُقَال للْأُنْثَى من بقر الْوَحْش، بقرة ونعجة ومهاة، وَقد يُقَال فِي الشّعْر للبقرة: ثورة، وَلم يَجِيء فِي الْكَلَام: والباقرة جماع بقرة والبقير لَا وَاحِد لَهُ، وَفِي (الصِّحَاح) ؛ وَالْجمع الْبَقَرَات، وَفِي (الْمغرب) للمطرزي: والباقور والبيقور والأبقور: الْبَقر، وَكَذَا الباقورة.
وَقَالَ أبُو حُمَيْدٍ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ الله رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ ويُقَالُ جُؤَارٌ تَجْأرُونَ تَرْفَعُونَ أصْوَاتَكُمْ كَما تجْأرُ البَقَرَةُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث يتَضَمَّن الْوَعيد فِيمَن لم يؤد زَكَاة الْبَقر، فَيدل على وجوب زَكَاة الْبَقر، وَقد قُلْنَا: إِن التَّقْدِير فِي التَّرْجَمَة: بَاب فِي بَيَان إِيجَاب زَكَاة الْبَقر، وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث ابْن اللتيبة أخرجه مُسْندًا مَوْصُولا من طرق، وَهَذَا الْقدر وَقع عِنْده مَوْصُولا فِي كتاب: ترك الْحِيَل، وَأَبُو حميد، بِضَم الْحَاء: السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، قيل: اسْمه عبد الرَّحْمَن، وَقيل: الْمُنْذر بن سعد، مر فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة. قَوْله: (لأعرفن) أَي: لأعرفنكم غَدا على هَذِه الْحَالة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لأعرفن، بِحرف النَّفْي، أَي: مَا يَنْبَغِي أَن تَكُونُوا على هَذِه الْحَالة فأعرفكم بهَا. قَالَ القَاضِي: رِوَايَة النَّفْي أشهر، وَرِوَايَة: لأعرفن، أَكثر. رَوَاهُ مُسلم. قَوْله: (مَا جَاءَ الله رجل) كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وَلَفْظَة: الله، مَنْصُوبَة بقوله: جَاءَ، وَرجل مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: جَاءَ، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول قَوْله: لأعرفن، وَتَقْدِير الْكَلَام: لأعرفن مَجِيء رجل إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة ببقرة لَهَا خوار، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَبِغير الْهمزَة، وَهُوَ: صَوت الْبَقر. قَوْله: (وَيُقَال جؤار) ، من كَلَام البُخَارِيّ: أَي: يُقَال: جؤار، بِضَم الْجِيم وبالهمزة مَوضِع: خوار، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَشْهُور بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. وَأما: الجؤار، بِالْجِيم والهمزة فَمَعْنَاه: رفع الصَّوْت، والاستغاثة من جأر يجأر جأرا وجؤارا إِذا رفع صَوته مَعَ تضرع واستغاثة. قَالَه فِي (الْمُحكم) : وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ رفع الصَّوْت بِالدُّعَاءِ. وَفِي كتاب (الوحوش) للكرنبائي: الخوار غير مَهْمُوز، والجؤار مَهْمُوز وهما سَوَاء. قَوْله: (تجأرون) أَشَارَ بِهِ إِلَى الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ، مَعْنَاهُ: ترفعون أَصْوَاتكُم، وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ إِذا وقف على لَفْظَة غَرِيبَة تطابق كلمة فِي الْقُرْآن نقل تَفْسِير تِلْكَ الْكَلِمَة الَّتِي من الْقُرْآن تكثيرا للفائدة وتنبيها على مَا وَقع من ذَلِك فِي الْقُرْآن، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم هَذَا التَّفْسِير عَن السّديّ، وروى أَيْضا من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: (تجأرون) قَالَ: تَسْتَغِيثُونَ.
0641 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنُ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنِ المَعْرُوِرِ ابنِ سُوَيْدٍ عنْ أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ انْتَهَيْتُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أوْ وَالَّذِي لاَ إلاهَ غَيْرُهُ أوْ كَمَا حَلَفَ مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إبِلٌ أوْ بَقَرٌ أوْ غَنَمٌ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إلاَّ أُتِيَ بِهَا يوْمَ القِيَامَةِ أعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كلَّمَا جازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عليهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضى بَيْنَ النَّاسِ.
(الحَدِيث 0641 طرفه فِي: 8366) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا، وَالْأَعْمَش(9/26)
هُوَ سُلَيْمَان، والمعرور، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالراء المكررة، مر فِي: بَاب الْمعاصِي، فِي كتاب الْإِيمَان.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور مقطعا. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي كريب وَعَن أبي مُعَاوِيَة، ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ مُخْتَصرا (مَا من صَاحب إبل) الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (انْتَهَيْت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ويروى: (انْتَهَيْت إِلَيْهِ) أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، أَيْضا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : انْتَهَيْت إِلَيْهِ يَعْنِي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (جِئْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . أما رِوَايَة مُسلم فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد (عَن أبي ذَر، قَالَ: انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس فِي ظلّ الْكَعْبَة، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: هم الأخسرون وَرب الْكَعْبَة) الحَدِيث، وَفِيه: (مَا من صَاحب إبل وَلَا بقر وَلَا غنم لَا يُؤَدِّي زَكَاتهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أعظم مَا كَانَت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها، كلما نفدت أخراها عَادَتْ عَلَيْهِ أولاها حَتَّى يقْضى بَين النَّاس) . وَأما رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا هناد بن السّري حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد (عَن أبي ذَر، قَالَ: جِئْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس فِي ظلّ الْكَعْبَة، قَالَ: فرآني مُقبلا، فَقَالَ: هم الأخسرون وَرب الْكَعْبَة يَوْم الْقِيَامَة) الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يَمُوت رجل فيدع إبِلا أَو بقر لم يؤد زَكَاتهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أعظم مَا كَانَت وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما نفدت. .) إِلَى آخِره، نَحْو رِوَايَة مُسلم. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: قَالَ: انْتَهَيْت إِلَيْهِ) هُوَ مقول الْمَعْرُور، وَالضَّمِير يعود على أبي ذَر، وَهُوَ الْحَالِف. انْتهى قلت: رِوَايَة مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ تظهر غلط هَذَا الْقَائِل، وَهَذَانِ العمدتان فِي هَذَا الْأَمر يصرحان أَن قَوْله: انْتَهَيْت، مقول أبي ذَر، وَلَيْسَ بمقول الْمَعْرُور، وَأَن الْحَالِف هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَو كَمَا حلف) ، يَعْنِي: حَالفا بِلَا خلاف، وَلَكِن أَبَا ذَر تردد بَين هَذِه الْأَلْفَاظ وَلم يضبطها كَمَا وَقع. قَوْله: (مَا من رجل) مقول قَوْله: (قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) وَهَذِه الْجُمْلَة مُعْتَرضَة بَين قَالَ ومقولة. قَوْله: (لَا يُؤَدِّي حَقّهَا) أَي: زَكَاتهَا، وَكَذَا صرح فِي رِوَايَة مُسلم حَيْثُ قَالَ: (لَا يُؤَدِّي مُسلم زَكَاتهَا) . قَوْله: (أُتِي بهَا) بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (أعظم) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (وأسمنه) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى مَا يكون. قَوْله: (وتنطحه) ، بِكَسْر عينه وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب فِي (الفصيح) وماضيه: نطح، بِفَتْح الْعين. قَالَ الْقَزاز: النطح ضرب الْكَبْش بِرَأْسِهِ، وَحكى المطرزي فِي (شَرحه) يَنْطَح، بِفَتْح الْعين فِي الْمُسْتَقْبل وَفِي الْمَاضِي بِالتَّشْدِيدِ: نطح قلت: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك وَلَا يَأْتِي من: فعَّل، بِالتَّشْدِيدِ إلاَّ بِفعل كَذَلِك بِالتَّشْدِيدِ. وَقيل: النطح مَخْصُوص بالكباش، وَكَانَ ابْن خروف يخطؤه فِي ذَلِك، وَقد اسْتعْمل فِي غير الكباش، وَحكى ابْن قُتَيْبَة: نطح الْكَبْش والثور، وَحكى اللغويون: نطح الشجاع قرنه فصرعه. وَفِي كتاب (الفصيح) : نطح الْكَبْش وَغَيره يَنْطَح. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: وتناطحت الأمواج. وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه فِي كِتَابه (شرح الفصيح) : النطح بالقرنين أَو الرأسين، ويخص بذلك الكباش لِأَنَّهَا مولعة بِهِ، حَتَّى إِن الأقران فِي الْحَرْب تشبه بهَا، فَيُقَال: تناطحوا وانتطحوا، ونطح فلَان قرنه فصرعه. قَوْله: (بأخفافها) جمع: خف، فالخف للبعير كَمَا أَن الْقرن للبقر وَالْغنم. قَوْله: (كلما جَازَت) أَي: مرت. قَوْله: (ردَّتْ) على صِيغَة الْمَجْهُول ويروى على صِيغَة الْمَعْلُوم، فالفاعل أما الأولى، وَأما الْأُخْرَى. قَوْله: (عَلَيْهِ) أَي: على رجل لَهُ إبل، وَهُوَ الْمَذْكُور، وَمَعْنَاهُ: يُعَاقب بِهَذِهِ الْعقُوبَة حَتَّى يقْضِي بَين النَّاس أَي: إِلَى أَن يفرغ الْحساب.
رَوَاهُ بُكَيْرٌ عنْ أبِي صَالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى هَذَا الحَدِيث بكير بن عبد الله بن الْأَشَج عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه مُسلم مطولا مَوْصُولا من طَرِيق بكير بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَقَالَ: حَدثنِي هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن بكيرا حَدثهُ عَن ذكْوَان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا لم يؤد الْمَرْء حق الله أَو الصَّدَقَة فِي إبِله) وسَاق الحَدِيث بِنَحْوِ حَدِيث سُهَيْل عَن أَبِيه. فَإِن قلت: لم يذكر البُخَارِيّ كَيْفيَّة(9/27)
زَكَاة الْبَقر، وَإِنَّمَا ذكر مَا يدل على وُجُوبهَا فَقَط؟ قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: الحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَارِيّ أصح الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي زَكَاة الْبَقر، وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي ذَلِك شَيْئا. وَأرَاهُ لم يَصح عِنْده فِي ذَلِك حَدِيث. قلت: روى أَبُو عَليّ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ (عَن معَاذ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن وَأَمرَنِي أَن آخذ من أَرْبَعِينَ بقرة مُسِنَّة، وَمن كل ثَلَاثِينَ بقرة تبيعا) ، وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم. وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وروى الْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث عَمْرو ابْن حزم (عَن كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِي كل أَرْبَعِينَ باقورة بقرة) . وَاخْتلف النَّاس فِي زَكَاة الْبَقر، فَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: لَا زَكَاة فِي أقل من خمسين من الْبَقر، فَإِذا ملك خمسين بقرة عَاما قمريا مُتَّصِلا فَفِيهَا بقرة، وَفِي الْمِائَة بقرتان، ثمَّ فِي كل خمسين بقرة بقرة، وَلَا شَيْء فِي الزِّيَادَة حَتَّى تبلغ الْخمسين، وَقَالَت طَائِفَة: لَيْسَ فِيمَا دون ثَلَاثِينَ شَيْء فَإِذا بلغت ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تبيع، ثمَّ لَا شَيْء فِيهَا حَتَّى تبلغ أَرْبَعِينَ، فَإِذا بلغتهَا فَفِيهَا بقرة، ثمَّ لَا شَيْء فِيهَا حَتَّى تبلغ خمسين فَإِذا بلغتهَا فَفِيهَا بقرة وَربع بقرة، ثمَّ لَا شَيْء فِيهَا حَتَّى تبلغ سبعين، فَإِذا بلغتهَا فَفِيهَا تبيع ومسنة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن إِبْرَاهِيم، وَهِي رِوَايَة غير مَشْهُورَة عَن أبي حنيفَة، وَالْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة: لَيْسَ فِي أقل من ثَلَاثِينَ من الْبَقر صَدَقَة، فَإِذا كَانَت ثَلَاثِينَ سَائِمَة وَحَال عَلَيْهَا الْحول فَفِيهَا تبيع أَو تبيعه وَهِي الَّتِي طعنت فِي الثَّالِثَة، فَإِذا زَادَت على أَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَة بِقدر ذَلِك إِلَى سِتِّينَ عِنْد أبي حنيفَة، فَفِي الْوَاحِدَة الزَّائِدَة ربع عشر مُسِنَّة، وَفِي السِّتين نصف عشر مُسِنَّة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا شَيْء فِي الزِّيَادَة حَتَّى تبلغ سِتِّينَ فَيكون فِيهَا تبيعان أَو تبيعتان، وَهِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة، وَفِي سبعين مُسِنَّة وتبيع، وَفِي ثَمَانِينَ مسنتان، وَفِي تسعين ثَلَاثَة أتبعة، وَفِي الْمِائَة تبيعان ومسنة، وعَلى هَذَا يتَغَيَّر الْفَرْض فِي كل عشرَة من تبيع إِلَى مُسِنَّة، ومذهبنا مَذْهَب عَليّ بن أبي طَالب وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَالشعْبِيّ وطاووس وَشهر بن حُوسِبَ وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.
44 - (بابُ الزَّكَاةِ عَلَى الأقَارِبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الزَّكَاة على الْأَقَارِب، وَلَيْسَ المُرَاد من الزَّكَاة هَهُنَا مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ الَّذِي هُوَ إيتَاء جُزْء من النّصاب الشَّرْعِيّ الحولي إِلَى فَقير مُسلم غير هاشمي وَلَا مَوْلَاهُ بِشَرْط قطع الْمَنْفَعَة عَن الْمُزَكي لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهَا مَا أخرجته من مَالك لتسد بِهِ خلة الْمُحْتَاج وتكتسب بِهِ الْأجر والمثوبة عِنْد الله، وللزكاة معَان فِي اللُّغَة: مِنْهَا مَا ذَكرْنَاهُ، فَبِهَذَا يلتئم مَا فِي الْبَاب من الْأَحَادِيث مَعَ التَّرْجَمَة، وَقد تعسفت جمَاعَة هَهُنَا بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ وَلَا مُنَاسبَة، مِنْهُم الْكرْمَانِي حَيْثُ يَقُول: فَإِن قلت: عقد الْبَاب لِلزَّكَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذكرهَا؟ قلت: لَعَلَّه أثبت لِلزَّكَاةِ حكم الصَّدَقَة بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ أجْرَانِ أجْرُ القَرَابةَ وَالصَّدَقَةِ
هَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسْندًا فِي: بَاب الزَّكَاة على الزَّوْج والأيتام، بعد ثَلَاثَة أَبْوَاب من هَذَا الْبَاب فِي حَدِيث زَيْنَب امْرَأَة عبد الله ابْن مَسْعُود، وَلَكِن لَفظه فِيهِ: (لَهَا أَجْرَانِ: أجر الْقَرَابَة وَأجر الصَّدَقَة) .
1641 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقُولُ كانَ أبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأنْصَارِ بالمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ وكانَ أحَبَّ إلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وكانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُهَا ويَشْرَبُ منْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هاذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمرَان: 29) . قامَ أبُو طَلْحَةَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله إِن الله تَبَارَكَ وتَعَالى يقُولُ {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمرَان: 29) . وَإنَّ أحَبَّ أمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ وإنَّهَا صَدَقَةٌ لله أرْجُو بِرَّهَا وذُخْرَهَا عِنْدَ الله فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيثُ أرَاكَ الله قَالَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَخْ ذالِكَ مالٌ رَابِحٌ ذالِكَ مالٌ رَابِحٌ(9/28)
وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتُ وَإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ أفْعَلُ يَا رسولَ الله فَقَسَمَها أبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم مماذ ذكرنَا الْآن، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْحَاق هَذَا ابْن أخي أنس بن مَالك، وَأَبُو طَلْحَة اسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الْوَصَايَا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْوكَالَة عَن يحيى بن يحيى، وَفِي الْوَصَايَا وَفِي الإشربة عَن القعْنبِي، وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى ابْن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَكثر الْأَنْصَار) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ. قَوْله: (مَالا) ، نصب على التَّمْيِيز أَي: من حَيْثُ المَال، وَكلمَة: من، فِي: (من نخل) للْبَيَان. قَوْله: (بيرحاء) ، اخْتلفُوا فِي ضَبطه على أوجه جمعهَا ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) فَقَالَ: يرْوى بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وبكسرها، وبفتح الرَّاء وَضمّهَا، وبالمد وَالْقصر، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة: بريحا، بِفَتْح أَوله وَكسر الرَّاء وتقديمها على الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بأريحاء، مثله لَكِن بِزِيَادَة ألف. وَقَالَ الْبَاجِيّ: أفصحها بِفَتْح الْبَاء وَسُكُون الْيَاء وَفتح الرَّاء مَقْصُور، وَكَذَا جزم بِهِ الصغاني. وَقَالَ: إِنَّه فيعلاً من: البراح. قَالَ: وَمن ذكره بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَظن أَنَّهَا: بِئْر، من أبار الْمَدِينَة فقد صحف. وَقَالَ القَاضِي: روينَا بِفَتْح الْبَاء وَالرَّاء وَضمّهَا مَعَ كسر الْبَاء، وَمِنْهُم من قَالَ: من رفع الرَّاء وألزمها حكم الْإِعْرَاب فقد أَخطَأ. وَقَالَ: وبالرفع قرأناه على شُيُوخنَا بالأندلس، وَالرِّوَايَات فِيهِ الْقصر، وروينا أَيْضا بِالْمدِّ، وَهُوَ حَائِط سمي بِهَذَا الإسم وَلَيْسَ اسْم بِئْر، وَقَالَ التَّيْمِيّ: هُوَ بِالرَّفْع اسْم كَانَ (وَأحب) خَبره، وَيجوز بِالْعَكْسِ و: حا، مَقْصُور كَذَا الْمَحْفُوظ، وَيجوز أَن يمد فِي اللُّغَة، يُقَال: هَذِه حاء بِالْقصرِ وَالْمدّ، وَقد جَاءَ: حا، فِي اسْم قَبيلَة، وبير حاء، بُسْتَان. وَكَانَت بساتين الْمَدِينَة تدعى بالآبار الَّتِي فِيهَا أَي الْبُسْتَان الَّتِي فِيهِ بِئْر حا، أضيف الْبِئْر إِلَى: حا، ويروى: بير حا، بِفَتْح الْبَاء وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وَفتح الرَّاء، هُوَ اسْم مَقْصُور وَلَا يَتَيَسَّر فِيهِ إِعْرَاب، أَي: فَهُوَ كلمة وَاحِدَة لَا مُضَاف وَلَا مُضَاف إِلَيْهِ. قَالَ: وَيجوز أَن يكون فِي مَوضِع رفع، وَأَن يكون فِي مَوضِع نصب، ويروى: (وَأَن أحب أَمْوَالِي بير حا) ، فعلى هَذَا مَحَله رفع وَهُوَ اسْم بُسْتَان، وَقَالَ ابْن التِّين: قيل: حا، اسْم امْرَأَة، وَقيل: اسْم مَوضِع وَهُوَ مَمْدُود وَيجوز قصره. وَفِي (مُعْجم أبي عبيد) : حا، على لفظ حرف الهجاء مَوضِع بِالشَّام، و: حا، آخر، مَوضِع بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي ينْسبهُ إِلَيْهِ بِئْر حا، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت، أرِيحَا، خرجه أَبُو دَاوُد وَلَا أعلم أرِيحَا إلاَّ بِالشَّام. وَقيل: سميت بيرحا، بزجر الْإِبِل عَنْهَا، وَذَلِكَ أَن الْإِبِل إِذا زجرت عَن المَاء، وَقد رويت: حاحا، وَقيل: بير حا، من البرح وَالْيَاء زَائِدَة. وَفِي (الْمُنْتَهى) : بيرح اسْم رجل، زَاد فِي (الواعي) : الْيَاء فِيهِ زَائِدَة. قَوْله: (وَكَانَت) أَي: بيرحا (مُسْتَقْبلَة الْمَسْجِد) أَو مُقَابلَته، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا الْموضع يعرف بقصر بني جديلة، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الدَّال الْمُهْملَة، قبلي الْمَسْجِد، وَفِي (التَّلْوِيح) : هُوَ مَوضِع بِقرب الْمَسْجِد يعرف بقصر بني حديلة، وضبطها بِالْكِتَابَةِ: بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال. قلت: الصَّوَاب بِالْجِيم. قَوْله: (من مَاء فِيهَا) أَي: فِي بيرحا. قَوْله: (طيب) بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفة للْمَاء. قَوْله: (فَلَمَّا أنزلت هَذِه الْآيَة) وَهِي قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} (آل عمرَان: 29) . قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أبي صَالح: لن تنالوا مَا عِنْد الله من ثَوَابه فِي الْجنَّة حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون من الصَّدَقَة، أَي: بعض مَا تحبون من الْأَمْوَال. وَقَالَ الضَّحَّاك: يَعْنِي لن تدْخلُوا الْجنَّة حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون، يَعْنِي: تخرجُونَ زَكَاة أَمْوَالكُم طيبَة بهَا أَنفسكُم، وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة، نسختها آيَة الزَّكَاة. قَوْله: {وَمَا تنفقوا من شَيْء} (آل عمرَان: 29) . يَعْنِي: الصَّدَقَة وصلَة الرَّحِم، {فَإِن الله بِهِ عليم} (آل عمرَان: 29) . أَي: مَا يخفى عَلَيْهِ فيثيبكم عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَن عبد الله ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه اشْترى جَارِيَة جميلَة وَهُوَ يُحِبهَا، فَمَكثت عِنْده أَيَّامًا فَأعْتقهَا فَزَوجهَا من رجل فولد لَهَا ولد، فَكَانَ يَأْخُذ وَلَدهَا ويضمه إِلَى نَفسه، فَيَقُول: إِنِّي أَشمّ مِنْك ريح أمك. فَقيل لَهُ: قد رزقك الله من حَلَال فَأَنت تحبها فَلم تركتهَا؟ فَقَالَ: ألم تسمع هَذِه الْآيَة: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} (آل عمرَان: 29) . ذكره أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي (تَفْسِيره) وَذكر أَيْضا عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَشْتَرِي أعدالاً من سكر وَيتَصَدَّق بِهِ، فَقيل لَهُ: هلا تَصَدَّقت بِثمنِهِ؟ فَقَالَ: لِأَن السكر أحب إِلَيّ، فَأَرَدْت أَن أنْفق مِمَّا أحب. قَوْله: (قَامَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)(9/29)
أَي: قَامَ أَبُو طَلْحَة منتهيا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (برهَا) ، أَي: خَيرهَا، وَالْبر إسم جَامع لأنواع الْخيرَات والطاعات، وَيُقَال أَرْجُو ثَوَاب برهَا. قَوْله: (وَذُخْرهَا) أَي: أقدمها فأدخرها لأجدها هُنَاكَ، وَعَن ابْن مَسْعُود: الْبر فِي الْآيَة: الْجِهَة، وَالتَّقْدِير على هَذَا: أَبْوَاب الْبر. قَوْله: (بخ) ، هَذِه كلمة تقال عِنْد الْمَدْح والرضى بالشَّيْء وتكرر للْمُبَالَغَة، فَإِن وصلت خففت ونونت وَرُبمَا شددت كالاسم، وَيُقَال بِإِسْكَان الْخَاء وتنوينها مَكْسُورَة، وَقَالَ القَاضِي: حُكيَ بِالْكَسْرِ بِلَا تَنْوِين، وَرُوِيَ بِالرَّفْع، فَإِذا كررت فالاختيار تَحْرِيك الأول منونا وَإِسْكَان الثَّانِي، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: مَعْنَاهُ تَعْظِيم الْأَمر وتفخيمه، وسكنت الْخَاء فِيهِ كسكون اللَّام فِي: هَل وبل، وَمن نونه شبهه بالأصوات: كصه ومه، وَفِي (الواعي) : قَالَ الْأَحْمَر: فِي بخ أَربع لُغَات: الْجَزْم والخفض وَالتَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف. وَقَالَ ابْن بطال: هِيَ كلمة إعجاب، وَقَالَ ابْن التِّين: هِيَ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد الْمَدْح والمحمدة، وَقَالَ الْقَزاز: هِيَ كلمة يَقُولهَا المفتخر عِنْد ذكر الشَّيْء الْعَظِيم، وَكلهَا مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنى. قَوْله: (مَال رابح) بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَي: يربح فِيهِ صَاحبه فِي الْآخِرَة، وَمَعْنَاهُ: ذُو ربح كلابن وتامر، أَي: ذُو لبن وَذُو تمر، وَقَالَ ابْن قرقول: وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت من الرواح يَعْنِي: يروح عَلَيْهِ أجره. وَقَالَ ابْن بطال: وَالْمعْنَى أَن مسافته قريبَة وَذَلِكَ أنفس الْأَمْوَال. وَقيل: مَعْنَاهُ يروح بِالْأَجْرِ وَيَغْدُو بِهِ، وَاكْتفى بالرواح عَن الغدو، ولعلم السَّامع، وَيُقَال: مَعْنَاهُ أَنه مَال رائح، يَعْنِي من شَأْنه الرواح أَي: الذّهاب والفوات فَإِذا ذهب فِي الْخَيْر فَهُوَ أولى. وَقَالَ القَاضِي: وَهِي رِوَايَة يحيى بن يحيى وَجَمَاعَة، وَرِوَايَة أبي مُصعب وَغَيره بِالْبَاء الْمُوَحدَة. وَقَالَ ابْن قرقول: بل الَّذِي روينَاهُ ليحيى بِالْبَاء المفردة، وَهُوَ مَا فِي مُسلم، وَفِي (التَّلْوِيح) : يحيى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن قرقول يحيى اللَّيْثِيّ المغربي، وَيحيى الَّذِي فِي البُخَارِيّ هُوَ النَّيْسَابُورِي، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الواني فِي كِتَابه (أَطْرَاف الْمُوَطَّأ) : فِي رِوَايَة يحيى الأندلسي بِالْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ: وَتَابعه روح بن عبَادَة وَغَيره، وَقَالَ يحيى بن يحيى النَّيْسَابُورِي وَإِسْمَاعِيل وَابْن وهب وَغَيرهم: رائح، بِالْهَمْزَةِ من الرّوح، وَشك القعْنبِي فِيهِ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: من قَالَ رابح، بِالْبَاء، فقد صحف. قَوْله: (وَقد سَمِعت مَا قلت) بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الْوكَالَة: بَاب إِذا قَالَ الرجل لوَكِيله ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاك الله، وَقَالَ الْوَكِيل: قد سَمِعت، وَقَالَ الْمُهلب: دلّ على قبُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا جعل إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَة، ثمَّ رد الْوَضع فِيهَا إِلَى أبي طَلْحَة بعد مشورته عَلَيْهِ فِيمَن يَضَعهَا. قَوْله: (أفعل) . قَالَ السفاقسي: هُوَ فعل مُسْتَقْبل مَرْفُوع، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يَقُول: إفعل أَنْت ذَاك فقد أمضيته على مَا قلت، فَجعله أمرا. قَوْله: (فِي أَقَاربه) الْأَقَارِب جمع: الْأَقْرَب، وَقَالَت الْفُقَهَاء: لَو قَالَ: وقفت على قَرَابَتي، يتَنَاوَل الْوَاحِد، وَيُقَال: هم قَرَابَتي وَهُوَ قَرَابَتي، وَفِي (الفصيح) : ذُو قَرَابَتي للْوَاحِد وَذُو قَرَابَتي للإثنين وَذُو قَرَابَتي للْجمع، والقرابة والقربى فِي الرَّحِم. وَفِي (الصِّحَاح) : والقرابة الْقُرْبَى فِي الرَّحِم، وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر تَقول: بيني وَبَينه قرَابَة وَقرب وقربى ومقربة ومقربة وقربة وقربة، بِضَم الرَّاء، وَهُوَ قربى وَذُو قَرَابَتي وهم أقربائي وأقاربي، والعامة تَقول: هُوَ قَرَابَتي وهم قراباتي. قَوْله: (وَبني عَمه) ، من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الرجل الصَّالح قد يُضَاف إِلَيْهِ حب المَال وَقد يضيفه هُوَ إِلَى نَفسه، وَلَيْسَ فِي ذَلِك نقيصة عَلَيْهِ. وَفِيه: اتِّخَاذ الْبَسَاتِين وَالْعَقار، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَفِيه رد لما يرْوى عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه قاال: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فترغبوا فِي الدُّنْيَا) . وَفِيه: إِبَاحَة دُخُول الْعلمَاء الْبَسَاتِين. وَفِيه: دُخُول الشَّارِع حَوَائِط أَصْحَابه وشربه من مَائِهَا. وَفِيه: أَن كسب الْعقار مُبَاح إِذا كَانَ حَلَالا وَلم يكن بِسَبَب ذل وَلَا صغَار، فَإِن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كره كسب أَرض الْخراج وَلم ير شراها، وَقَالَ لَا تجْعَل فِي عُنُقك صغَارًا. وَفِيه: إِبَاحَة شرب من مَاء الصّديق وَكَذَا الْأكل من ثماره وَطَعَامه. قَالَ أَبُو عمر: إِذا علم أَن نفس صَاحبه تطيب بذلك. وَفِيه: دلَالَة للْمَذْهَب الصَّحِيح أَنه يجوز أَن يُقَال: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يَقُول، كَمَا يُقَال: ءن الله تَعَالَى قَالَ، خلافًا لما قَالَه مطرف بن عبد الله بن الشخير، إِذْ قَالَ: لَا يُقَال الله وَتَعَالَى يَقُول، إِنَّمَا يُقَال: قَالَ الله، أَو الله، عز وَجل، كَأَنَّهُ ينجر إِلَى اسْتِئْنَاف القَوْل. وَقَول الله قديم، وَكَأَنَّهُ ذهل عَن قَوْله عز وَجل {وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل} (الْأَحْزَاب: 4) . وَفِيه: اسْتِعْمَال ظَاهر الْخطاب وعمومه، أَلا ترى أَن أَبَا طَلْحَة حِين سمع: {لن تنالوا الْبر} (آل عمرَان: 29) . لم يحْتَج أَن يقف حَتَّى يرد عَلَيْهِ الْبَيَان عَن الشَّيْء الَّذِي يُرِيد الله عز وَجل، أَن ينْفق عباده مِنْهُ إِمَّا بِآيَة أَو سنة تبين ذَاك.(9/30)
وَفِيه: مُشَاورَة أهل الْعلم وَالْفضل فِي كَيْفيَّة وُجُوه الطَّاعَات وَغَيرهَا والإنفاق من المحبوب. وَفِيه: أَن الْوَقْف صَحِيح وَإِن لم يذكر سَبيله، وَهُوَ الَّذِي بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الْوَصَايَا. وَفِيه: أَن الْوكَالَة لَا تتمّ إِلَّا بِالْقبُولِ. وَفِيه: أَن أَبَا طَلْحَة هُوَ الَّذِي قسمهَا فِي أَقَاربه وَبني عَمه وَقد ذكر إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (الْمَبْسُوط) عَن القعْنبِي بِسَنَدِهِ. وَفِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسمهَا فِي أقَارِب أبي طَلْحَة وَبني عَمه لَا خلاف فِي ذَلِك، وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ الْمَحْفُوظ عِنْد الْعلمَاء. قلت: هَذَا خلاف مَا ذكر هُنَا، وَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا أضيف إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ الْآمِر بِهِ. وَفِيه: فِي قَوْله: (فضعها يَا رَسُول الله حَيْثُ أَرَاك الله) ، جَوَاز أَمر الرجل لغيره أَن يتَصَدَّق عَنهُ، أَو يقف عَنهُ وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ الآخر: خُذ هَذَا المَال فاجعله حَيْثُ أَرَاك الله من وُجُوه الْخَيْر. وَقَالَ مَالك: فِي هَذَا لَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا وَإِن كَانَ فَقِيرا، فَقَالَ غَيره: وَجَاز لَهُ أَن يَأْخُذهُ كُله إِذا كَانَ فَقِيرا. وَفِيه: صِحَة الصَّدَقَة الْمُطلقَة وَالْحَبْس الْمُطلق، وَهُوَ الَّذِي لم يعين مصرفه ثمَّ بعد ذَلِك يعين. وَفِيه: جَوَاز أَن يُعْطي الْوَاحِد من الصَّدَقَة فَوق مِائَتي دِرْهَم لِأَن هَذَا الْحَائِط مَشْهُور أَن ريعه يحصل للْوَاحِد مِنْهُ أَكثر من ذَلِك، قَالَه الْقُرْطُبِيّ، وَلَا فرق بَين فرض الصَّدَقَة ونفلها فِي مِقْدَار مَا يجوز إِعْطَاؤُهُ الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ فِيمَا ذكره الْخطابِيّ. وَفِيه: أَن الصَّدَقَة إِذا كَانَت جزلة مدح صَاحبهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بخ ذَلِك مَال رابح) . وَفِيه: أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب وضعفاء الأهلين أفضل مِنْهَا على سَائِر النَّاس إِذا كَانَت صَدَقَة تطوع، وَيدل على ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَك أَجْرَانِ: أجر الْقَرَابَة وَالصَّدَََقَة) . وَقَالَ لميمونة حِين أعتقت جَارِيَة لَهَا (أما إِنَّك لَو أعطيتهَا أخوالك كَانَ أعظم لأجرك) ذكره البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْهِبَة.
تابَعَهُ رَوْحٌ
أَي: تَابع عبد الله بن يُوسُف روح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة الْبَصْرِيّ عَن مَالك فِي قَوْله: (رابح) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب الْبيُوع.
وَقَالَ يَحْيى بنُ يَحْيى وَإسْمَاعِيلُ عَن مالِكٍ رَايِحٌ
أَي: قَالَ يحيى بن يحيى النَّيْسَابُورِي، رَحمَه الله تَعَالَى، وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس فِي روايتهما عَن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَايِح بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، أما رِوَايَة يحيى فستأتي مَوْصُولَة فِي الْوكَالَة، وَأما رِوَايَة إِسْمَاعِيل فوصلها البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي التَّفْسِير.
2641 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبرنِي زَيْدٌ عنْ عِيَاضِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أضْحًى أوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وأمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فإنِّي رأيْتُكُنَّ أكْثَرَ أهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ ذالِكَ يَا رَسُولَ الله قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ مَا رَأيْتُ مِنْ ناقِصَاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صارَ إلَى مَنْزِلِهِ جاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأةُ ابنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رسولَ الله هاذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أيُّ الزَّيانِبِ فَقِيلَ امرأةُ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائذِنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قالَتْ يَا نَبِيَّ الله إنَّكَ أمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وكانَ عِنْدي حُلِيٌّ لِي فأرَدْتُ أنْ أتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ وَوَلَدَهُ أحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَ ابنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ.
.(9/31)
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي صدر الْبَاب فَليرْجع إِلَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: سعيد ابْن أبي مَرْيَم وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: زيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة الْعَدوي. الرَّابِع: عِيَاض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح الْقرشِي العامري الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر فِي كتاب الْحيض، فِي: بَاب ترك الْحَائِض الصَّوْم مَعَ الْمَتْن من قَوْله: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى قَوْله: (من إحداكن) ، وَفِيه زِيَادَة وَهِي قَوْله: (قُلْنَ: وَمَا نُقْصَان ديننَا وعقلنا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل، قُلْنَ: بلَى. قَالَ: فَذَاك من نُقْصَان عقلهَا، أَلَيْسَ إِذا حَاضَت لم تصل وَلم تصم؟ قُلْنَ: بلَى. قَالَ: فَذَاك من نُقْصَان دينهَا. .) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَبَقِيَّة الحَدِيث تَأتي عَن قريب فِي: بَاب الزَّكَاة على الزَّوْج والأيتام فِي الْحجر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَت زَيْنَب امْرَأَة ابْن مَسْعُود) ، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: زَيْنَب هَذِه هِيَ رائطة قَالَ: وَلَا نعلم عبد الله تزوج غَيرهَا فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الكلاباذي: رائطة هِيَ الْمَعْرُوفَة بِزَيْنَب، وَقَالَ ابْن طَاهِر وَغَيره: امْرَأَة ابْن مَسْعُود زَيْنَب. وَيُقَال اسْمهَا: رائطة. وَأما ابْن سعد وَأَبُو أَحْمد العسكري وَأَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو عمر بن عبد الْبر وَأَبُو نعيم الْحَافِظ وَأَبُو عبد الله بن مَنْدَه وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فجعلوهما ثِنْتَيْنِ. وَالله أعلم. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَمِمَّا يرجح القَوْل الأول مَا روينَاهُ عَن القَاضِي يُوسُف فِي كتاب الزَّكَاة: حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن غياث حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة أخبرنَا هِشَام عَن عُرْوَة عَن عبد الله بن عبد الله الثَّقَفِيّ عَن أُخْته رائطة ابْنة عبد الله، وَكَانَت امْرَأَة ابْن مَسْعُود، وَكَانَت امْرَأَة صناعًا الحَدِيث. قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة (عَن رائطة إمرأة عبد الله بن مَسْعُود وَكَانَت امْرَأَة صناع الْيَد، قَالَ: فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ وعَلى وَلَده من صنعتها. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنفقي عَلَيْهِم فَإِن لَك فِي ذَلِك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم) ، وَإِسْنَاده صَحِيح. قَوْله: (فَقيل: يَا رَسُول الله هَذِه زَيْنَب {) الْقَائِل هُوَ بِلَال كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب. قَوْله: (فَقَالَ: أَي الزيانب؟) أَي: أَيَّة زَيْنَب من الزيانب، وتعريف الْمثنى وَالْمَجْمُوع من الْأَعْلَام وَإِنَّمَا هُوَ بِالْألف وَاللَّام. قَوْله: (إيذنوا لَهَا. فَأذن لَهَا، قَالَت: يَا نَبِي الله) إِلَى آخِره، لم يبين أَبُو سعيد مِمَّن سمع ذَلِك، فَإِن كَانَ حَاضرا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال الْمُرَاجَعَة الْمَذْكُورَة فَهُوَ من مُسْنده وإلاَّ فَيحْتَمل أَن يكون حمله عَن زَيْنَب صَاحِبَة الْقِصَّة، فَيكون فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَأَشْهَب من الْمَالِكِيَّة، وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأهل الظَّاهِر، وَقَالُوا: يجوز للْمَرْأَة أَن تُعْطِي زَكَاتهَا إِلَى زَوجهَا الْفَقِير. وَقَالَ الْقَرَافِيّ: كرهه الشَّافِعِي وَأَشْهَب وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الْجوزجَاني، (عَن عَطاء، قَالَت: أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن عَليّ نذرا أَن أَتصدق بِعشْرين درهما، وَأَن لي زوجا فَقِيرا أفيجزىء عني أَن أعْطِيه؟ قَالَ: نعم كفلان من الْأجر) . وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة وَأَبُو بكر من الْحَنَابِلَة: لَا يجوز للْمَرْأَة أَن تُعْطِي زَوجهَا من زَكَاة مَالهَا، ويروى ذَلِك عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث زَيْنَب بِأَن الصَّدَقَة الْمَذْكُورَة فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من غير الزَّكَاة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد بَين ذَلِك مَا حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ: أخبرنَا اللَّيْث عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عبيد الله بن عبد الله، (عَن رائطة بنت عبد الله إمرأة عبد الله بن مَسْعُود، وَكَانَت امْرَأَة صنعا، وَلَيْسَ لعبد الله بن مَسْعُود مَال، وَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ وعَلى وَلَده مَعهَا، فَقَالَت: وَالله لقد شغلتني أَنْت وولدك عَن الصَّدَقَة فَمَا أَسْتَطِيع أَن أَتصدق مَعكُمْ بِشَيْء} فَقَالَ: مَا أحب أَنه لم يكن لَك فِي ذَلِك أجر أَن تفعلي، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ، وَهُوَ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة ذَات صَنْعَة، أبيع مِنْهَا وَلَيْسَ لوَلَدي وَلَا لزوجي شَيْء، فشغلوني فَلَا أَتصدق، فَهَل لي فيهم أجر؟ فَقَالَ: لَك فِي ذَلِك أجر مَا أنفقتِ عَلَيْهِم، فأنفقي عَلَيْهِم. .) فَفِي هَذَا الحَدِيث أَن تِلْكَ الصَّدَقَة مِمَّا لم يكن فِيهِ زَكَاة، وَالدَّلِيل على أَن الصَّدَقَة كَانَت تَطَوّعا كَمَا ذكرنَا. قَوْلهَا: (كنت امْرَأَة صنعا أصنع بيَدي فأبيع من ذَلِك فانفق على عبد الله؟) . فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون المُرَاد من الصَّدَقَة التَّطَوُّع فِي حق وَلَدهَا؟ وَصدقَة الْفَرْض فِي حق زَوجهَا عبد الله؟ قلت: لَا مساغ لذَلِك لِامْتِنَاع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز حِينَئِذٍ،(9/32)
وَمِمَّا يدل على مَا قُلْنَا قَوْلهَا: وَكَانَ عِنْدِي حلي فَأَرَدْت أَن أَتصدق، وَلَا تجب الصَّدَقَة فِي الْحلِيّ عِنْد بعض الْعلمَاء، وَمن يُجِيزهُ لَا يكون الْحلِيّ كُله زَكَاة، إِنَّمَا يجب جُزْء مِنْهُ. وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت عَلَيْهِم) ، وَالْولد لَا تدفع إِلَيْهِ الزَّكَاة إِجْمَاعًا، وَقَالَ بَعضهم: احْتج الطَّحَاوِيّ لقَوْل أبي حنيفَة. فَأخْرج من طَرِيق رائطة امْرَأَة ابْن مَسْعُود أَنَّهَا كَانَت امْرَأَة صنعاء الْيَدَيْنِ، فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ وعَلى وَلَده، قَالَ: فَهَذَا يدل على أَنَّهَا صَدَقَة تطوع، وَأما الْحلِيّ فَإِنَّمَا يحْتَج بِهِ على من لَا يُوجب فِيهِ الزَّكَاة، وَأما من يُوجِبهُ فَلَا. وَقد روى الثَّوْريّ عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة، قَالَ: قَالَ ابْن مَسْعُود لامْرَأَته فِي حليها إِذا بلغ مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ الزَّكَاة، فَكيف يحْتَج الطَّحَاوِيّ بِمَا لَا يَقُول بِهِ؟ قلت: لَو فهم هَذَا الْقَائِل مَوضِع احتجاج الطَّحَاوِيّ من هَذَا الحَدِيث لَكَانَ سكت عَمَّا قَالَه، وَمَوْضِع احتجاجه هُوَ قَوْلهَا: إِنِّي امْرَأَة ذَات صَنْعَة أبيع مِنْهَا ... إِلَى آخِره، مَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ آنِفا، فَكَانَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَابا لَهَا فِي سؤالها. وَلَيْسَ فِي احتجاجه بِهَذَا مفتقرا إِلَى الِاحْتِجَاج بِأَمْر الْحلِيّ سَوَاء كَانَ فِيهِ الزَّكَاة أَو لم يكن. قَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا. وَالَّذِي يظْهر لي أَنَّهُمَا قضيتان: إِحْدَاهمَا فِي سؤالها عَن تصدقها بحليها على زَوجهَا وَولده، وَالْأُخْرَى: فِي سؤالها عَن النَّفَقَة.
قلت: الَّذِي يظْهر من هَذَا الحَدِيث خلاف مَا ظهر لَهُ لِأَن فِي الحَدِيث سؤالها عَن الصَّدَقَة الَّتِي أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُنَّ بهَا، وأجابها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت بِهِ عَلَيْهِم، فَمن أَيْن السؤالان فِيهِ؟ وَمن أَيْن الجوابان عَنْهُمَا؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن ظَاهر قَوْله فِي حَدِيث ابْن سعيد الْمَذْكُور: (زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت بِهِ عَلَيْهِم) دَال على أَنَّهَا صَدَقَة تطوع لِأَن الْوَلَد لَا يعْطى من الزَّكَاة الْوَاجِبَة بِالْإِجْمَاع، كَمَا نَقله ابْن الْمُنْذر وَغَيره، وَفِي هَذَا الِاحْتِجَاج نظر، لِأَن الَّذِي يمْتَنع إِعْطَاؤُهُ من الصَّدَقَة الْوَاجِبَة من يلْزم الْمُعْطِي نَفَقَته، وَالأُم لَا يلْزمهَا نَفَقَة وَلَدهَا مَعَ وجود أَبِيه. قلت: يلْزم الْأُم نَفَقَة وَلَدهَا إِذا كَانَ أَبوهُ فَقِيرا عَاجِزا عَن التكسب جدا، وَذكر أَصْحَابنَا أَن الْأَب إِذا كَانَ مُعسرا كسوبا وَله ابْن زَمِنٌ وَله أم موسرة هَل تُؤمر بِالْإِنْفَاقِ على الابْن؟ اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ، قيل: تُؤمر، وَقيل: لَا ترجع الْأُم على الْأَب، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي حنيفَة نصا. انْتهى. وَقيل: قَوْله: ولدك، مَحْمُول على أَن الْإِضَافَة للتربية لَا للولادة، فَكَأَنَّهُ وَلَده من غَيرهَا. قلت: هَذَا ارْتِكَاب الْمجَاز بِغَيْر قرينَة وَهُوَ غير صَحِيح وَقد خاطبها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (وولدك) ، فَدلَّ على أَنه وَلَدهَا حَقِيقَة، وَيدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيث آخر: (أيجزىء عني أَن أنْفق على زَوجي وأيتام لي فِي حجري؟) وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : (أيجزىء أَن أجعَل صدقتي فِيك وَفِي بني أخي أَيْتَام؟) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة: (يَا رَسُول الله! هَل لي من أجر أَن أَتصدق على ولد عبد الله من غَيْرِي؟) وإسنادهما جيد، وللبيهقي: (كنت أعول عبد الله ويتامى) ، وَقيل: اعتل من منعهَا من إعطائها زَكَاتهَا لزَوجهَا بِأَنَّهَا تعود إِلَيْهَا فِي النَّفَقَة فَكَأَنَّهَا مَا خرجت عَنْهَا، وَجَوَابه: إِن احْتِمَال رُجُوع الصَّدَقَة إِلَيْهَا وَاقع فِي التَّطَوُّع أَيْضا قلت: لَيست الصَّدَقَة كَالزَّكَاةِ، لِأَن عود الزَّكَاة إِلَيْهَا فِي النَّفَقَة يضر فَتَصِير كَأَنَّهَا مَا خرجت بِخِلَاف الصَّدَقَة، فَإِن احْتِمَال عودهَا إِلَيْهَا لَا يضر، فخروجها وَعَدَمه سَوَاء.
وَأما مَسْأَلَة الْحلِيّ فَفِيهَا خلاف بَين الْعلمَاء، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري: تجب فِيهَا الزَّكَاة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر ابْن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَمُحَمّد بن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وطاووس وَمَيْمُون بن مهْرَان وَالضَّحَّاك وعلقمة وَالْأسود وَعمر بن عبد الْعَزِيز وذر الْهَمدَانِي وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَابْن حزم: الزَّكَاة وَاجِبَة بِظَاهِر الْكتاب وَالسّنة، وَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي أظهر قوليه: لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله وَعَائِشَة وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَالشعْبِيّ، وَكَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي بِهَذَا فِي الْعرَاق وَتوقف بِمصْر، وَقَالَ: هَذَا مِمَّا استخير الله فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْث: مَا كَانَ من حلي يلبس ويعار فَلَا زَكَاة فِيهِ، وَإِن اتخذ للتحرز عَن الزَّكَاة فَفِيهِ الزَّكَاة، وَقَالَ أنس: يزكّى عَاما وَاحِدًا لَا غير.
وَاسْتدلَّ من أسقط الزَّكَاة بِحَدِيث جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة، ذكره فِي (الإِمَام) وَعَن جَابر أَنه كَانَ يرى الزَّكَاة فِي كثير الْحلِيّ دون قليلها، وروى عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ، وروى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن عبد الرَّحْمَن(9/33)
ابْن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَت تلِي بَنَات أُخْتهَا يتامى فِي حجرها فَلَا تخرج من حليهن الزَّكَاة، وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ عَن شريك عَن عَليّ بن سُلَيْمَان، قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْحلِيّ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاة. وروى الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة: أخبرنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: سَمِعت ابْن خَالِد يسْأَل جَابر بن عبد الله عَن الْحلِيّ أفيه زَكَاة؟ فَقَالَ جَابر: لَا، وَإِن كَانَ يبلغ ألف دِينَار. وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء بنت أبي بكر أَنَّهَا كَانَت تحلي بناتها الذَّهَب وَلَا تزكيه نَحوا من خمسين ألف.
وَاحْتج من رأى فِيهَا الزَّكَاة بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن امْرَأَة أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهَا بنت لَهَا وَفِي يَد ابْنَتهَا مسكتان غليظتان من ذهب، فَقَالَ لَهَا: أتعطين زَكَاة هَذَا؟ قَالَت: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَن يسورك الله بهما يَوْم الْقِيَامَة سِوَارَيْنِ من نَار؟ قَالَت: فخلعتهما فألقيتهما إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَت: هما لله وَلِرَسُولِهِ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء. قلت: قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه: إِسْنَاده صَحِيح، وَقَالَ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده لَا مقَال فِيهِ، فَإِن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ عَن أبي كَامِل الجحدري وَحميد بن مسْعدَة وهما من الثِّقَات احْتج بهما مُسلم، وخَالِد بن الْحَارِث إِمَام فَقِيه احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَكَذَلِكَ حُسَيْن بن ذكْوَان الْمعلم احتجا بِهِ فِي (الصَّحِيح) وَوَثَّقَهُ ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن معِين وَأَبُو حَاتِم، وَعَمْرو بن شُعَيْب مِمَّن قد علم وَهَذَا إِسْنَاد تقوم بِهِ الْحجَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: أخرج التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة (عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن جده، قَالَ: أَتَت امْرَأَتَانِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَيْدِيهِمَا سواران من ذهب، فَقَالَ لَهما: أتؤديان زَكَاة هَذَا؟ قَالَتَا: لَا. فَقَالَ: أتحبان أَن يسوركما الله بسوارين من نَار؟ قَالَتَا: لَا، قَالَ: فأديا زَكَاته) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ ابْن الْمثنى بن الصَّباح عَن عمر بن شُعَيْب نَحْو هَذَا، وَابْن لَهِيعَة وَابْن الصَّباح يُضعفَانِ فِي الحَدِيث، وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء. قلت: قَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّ التِّرْمِذِيّ قصد الطَّرِيقَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا، وإلاَّ فطريق أبي دَاوُد لَا مقَال فِيهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث (عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد أَنه، قَالَ: دَخَلنَا على عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى فِي يَدي فتخات من ورق، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَة؟ فَقلت صنعتهن أتزين لَك يَا رَسُول الله! قَالَ: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لَا أَو مَا شَاءَ الله، قَالَ: هُوَ حَسبك من النَّار) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قلت: الحَدِيث على شَرط مُسلم وَلَا يلْزم، من قَول التِّرْمِذِيّ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء، أَن لَا يَصح عِنْد غَيره فَافْهَم.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) : (حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد، قَالَت: دخلت أَنا وخالتي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعلينا أسورة من ذهب، فَقَالَ لنا: أتعطيان زَكَاتهَا؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: أما تخافان أَن يسوركما الله أسورة من نَار؟ أديا زَكَاتهَا. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَعلي بن عَاصِم رَمَاه يزِيد بن هَارُون بِالْكَذِبِ، وَعبد الله بن خَيْثَم قَالَ ابْن معِين: أَحَادِيثه لَيست بالقوية، وَشهر بن حَوْشَب قَالَ ابْن عدي: لَا يحْتَج بحَديثه. قلت: ذكر فِي (الْكَمَال) : وَسُئِلَ أَحْمد عَن عَليّ بن عَاصِم فَقَالَ: هُوَ وَالله عِنْدِي ثِقَة، وَأَنا أحدث عَنهُ، وَعبد الله بن خَيْثَم قَالَ ابْن معِين، هُوَ ثِقَة حجَّة، وَشهر بن حَوْشَب قَالَ أَحْمد: مَا أحسن حَدِيثه وَوَثَّقَهُ، وَعَن يحيى: هُوَ ثِقَة، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: هُوَ لَا بَأْس بِهِ، فَظهر من هَذَا كُله سُقُوط كَلَام ابْن الجوزري وَصِحَّة الحَدِيث.
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : عَن نصر بن مُزَاحم عَن أبي بكر الْهُذلِيّ أخبرنَا شُعَيْب بن الْحجاب (عَن الشّعبِيّ قَالَ: سَمِعت فَاطِمَة بنت قيس، تَقول: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطوق فِيهِ سَبْعُونَ مِثْقَالا من ذهب، فَقلت: يَا رَسُول الله خُذ مِنْهُ الْفَرِيضَة فَأخذ مِنْهُ مِثْقَالا وَثَلَاثَة أَربَاع مِثْقَال) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أَبُو بكر الْهُذلِيّ مَتْرُوك لم يَأْتِ بِهِ غَيره، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث أم سليمَة أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن عِيسَى حَدثنَا عتاب عَن ثَابت بن عجلَان (عَن عَطاء عَن أم سَلمَة، قَالَت: كنت ألبس أَوْضَاحًا من ذهب، فَقلت: يَا رَسُول الله أكنز هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بلغ أَن تُؤدِّي زَكَاته فَزكِّي فَلَيْسَ بكنز) ، وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَلم يخرجَاهُ. وَلَفظه: (إِذا أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز) . فَإِن قلت: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: تفرد بِهِ ثَابت بن عجلَان، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : مُحَمَّد بن مهَاجر، قَالَ ابْن حبَان: يضع الحَدِيث(9/34)
على الثِّقَات. قلت: قَالَ فِي (تَنْقِيح التَّحْقِيق) : لَا يضر تفرد ثَابت بِهِ فَإِنَّهُ روى لَهُ البُخَارِيّ وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ فِيهِ أَيْضا: الَّذِي قيل فِي مُحَمَّد ابْن مهَاجر وهم، فَإِن مُحَمَّد بن مهَاجر الْكذَّاب لَيْسَ هُوَ هَذَا، فَهَذَا الَّذِي يروي عَن ثَابت بن عجلَان ثِقَة شَامي أخرج لَهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين وَأَبُو زرْعَة ودحيم وَأَبُو دَاوُد وَآخَرُونَ، وَذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَقَالَ: كَانَ متقنا، وَأما مُحَمَّد بن مهَاجر الْكذَّاب فَإِنَّهُ مُتَأَخّر، وعتاب بن بشير وَثَّقَهُ ابْن معِين.
وَأما حَدِيث جَابر الَّذِي احتجب بِهِ الْفرْقَة الأولى فقد قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَهُوَ حَدِيث لَا أصل لَهُ، وَفِيه عَافِيَة بن أَيُّوب، وَهُوَ مَجْهُول، فَمن احْتج بِهِ مَرْفُوعا كَانَ مغرورا بِدِينِهِ دَاخِلا فِيمَا يعيب بِهِ مِمَّن يحْتَج بالكذابين. قلت: هَذَا غَرِيب من الْبَيْهَقِيّ مَعَ تعصبه للشَّافِعِيّ، وَقَالَ سبط بن الْجَوْزِيّ: هُوَ حَدِيث ضَعِيف مَعَ أَنه مَوْقُوف على جَابر.
قَوْله: (مسكتان) ، تَثْنِيَة مسكة بالفتحات، وَهُوَ السوار من الدبل، وَهِي قُرُون الأوعال. وَقيل: جُلُود دَابَّة بحريّة، وَالْجمع: مسك، وَقيل: الدبل ظهر السلحفات البحرية. (والفتخات) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالخاء الْمُعْجَمَة جمع: فتخة، بِالتَّحْرِيكِ وَهِي حَلقَة من فضَّة لَا فص لَهَا، فَإِذا كَانَ فِيهَا فص فَهِيَ خَاتم، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق، هِيَ الخواتيم الْعِظَام، وَقيل: خَوَاتِيم عراض الفصوص لَيْسَ بمستقيمة، وَقيل: خلخل لَا جرس لَهُ، والفتخ تلبس فِي الْأَيْدِي. وَقيل: فِي الأرجل. (والأوضاح) جمع: وضح، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، وَهُوَ نوع من الْحلِيّ يعْمل من الْفضة، سميت بِهِ لبياضها، ثمَّ اسْتعْملت فِي الَّتِي يعْمل من الذَّهَب أَيْضا. وَقيل: حلي من الدَّرَاهِم الصَّحِيحَة والوضح الدِّرْهَم الصَّحِيح، وَقيل: حلي من الْحِجَارَة، وَقيل: الأوضاح: الخلاخل.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور: اسْتِئْذَان النِّسَاء على الرِّجَال. وَفِيه: أَنه إِذا لم ينْسب إِلَيْهِ من يسْتَأْذن سَالَ أَن ينْسب. وَفِيه: الْحَث على الصَّدَقَة على الْأَقَارِب. وَفِيه: ترغيب ولي الْأَمر فِي أَفعَال الْخَيْر للرِّجَال وَالنِّسَاء. وَفِيه: التحدث مَعَ النِّسَاء الْأَجَانِب عِنْد أَمن الْفِتْنَة.
54 - (بابٌ لَيْسَ عَلَى المُسْلِمُ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَيْسَ على الْمُسلم فِي فرسه صَدَقَة، واشتقاق الْفرس من الْفرس وَهُوَ الْكسر، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْفرس يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى وَلَا يُقَال للْأُنْثَى فرسه، وَجمعه: الْخَيل، من غير لَفظه، وَالْخَيْل اسْم جمع للعراب والبرازين ذكورها وإناثها كالركب، وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وواحدها: فرس، وَالْخَيْل الفرسان أَيْضا قَالَ تَعَالَى: {واجلب عَلَيْهِم بخيلك} (الْإِسْرَاء: 46) . وَالْخَيْل: يجمع على خُيُول فَيكون جمع اسْم الْجمع: كالقوم والأقوام.
3641 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ دِيْنَارٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بنَ يَسَارٍ عنْ عِرَاكِ بنِ مَالِكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ عَلَى المَسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ.
(الحَدِيث 3641 طرفه فِي: 4641) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي عين متن الحَدِيث، غير أَن فِيهِ لَفْظَة: وَغُلَامه، زَائِدَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا فِيمَا مضى، فسليمان بن يسَار ضد الْيَمين مر فِي: بَاب الْوضُوء، وعراك بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره كَاف، مر فِي: بَاب الْوضُوء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هُنَا، عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن وهيب، كِلَاهُمَا عَن خَيْثَم بن عرَاك بن مَالك عَن أَبِيه بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة أَيْضا، عَن يحيى بن يحيى وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَهَارُون بن سعيد وَأحمد بن عِيسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي كريب ومحمود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عبيد الله بن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظه وَمن أخرجه غير السِّتَّة: وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي عَبده وَلَا فرسه) ، وَلَفظ(9/35)
مُسلم: (لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فِي فرسه صَدَقَة) ، وَفِي لفظ: (لَيْسَ فِي العَبْد صَدَقَة إلاَّ صَدَقَة الْفطر) . وَلَفظ أبي دَاوُد: (لَيْسَ فِي الْخَيل وَالرَّقِيق زَكَاة إلاَّ زَكَاة الْفطر فِي الرَّقِيق) . وَفِي لفظ: (لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فِي فرسه صَدَقَة) . وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: (لَيْسَ على الْمُسلم فِي فرسه وَلَا فِي عَبده صَدَقَة) . وَلَفظ النَّسَائِيّ، كَلَفْظِ أبي دَاوُد الثَّانِي، وَفِي لفظ: (لَا زَكَاة على الرجل الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فِي فرسه) ، وَفِي لفظ: (لَيْسَ على الْمَرْء فِي فرسه وَلَا مَمْلُوكه صَدَقَة) ، وَفِي لفظ: (لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي غُلَامه وَلَا فِي فرسه) . وَلَفظ ابْن مَاجَه، كَلَفْظِ مُسلم الأول، وَفِي لفظ فِي (مُسْند عبد الله بن وهب) : (لَا صَدَقَة على الرجل فِي خيله وَلَا فِي رَقِيقه) ، وَفِي لفظ لِابْنِ أبي شيبَة: (وَلَا فِي وليدته) وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن يزِيد بن يزِيد بن جَابر عَن عرَاك عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَوَقفهُ.
وَفِي الْبَاب عَن عَليّ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه الْأَرْبَعَة. فَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَاصِم بن حَمْزَة عَن عَليّ: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قد عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق) ، وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الْحَارِث عَن عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تجوزت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق) .
وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَمْرو بن حزم، وَعمر بن الْخطاب، وَحُذَيْفَة وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة، وَسمرَة بن جُنْدُب. فَحَدِيث عَمْرو بن حزم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة سُلَيْمَان بن دَاوُد: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات) ، وَفِيه: (أَنه لَيْسَ فِي عَبده وَلَا فِي فرسه شَيْء) ، وَسليمَان بن دَاوُد الحزيبي وَثَّقَهُ أَحْمد وَضَعفه ابْن معِين. وَحَدِيث عمر بن الْخطاب وَحُذَيْفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ أَحْمد: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان حَدثنَا أَبُو بكر بن عبد الله عَن رَاشد بن سعد عَن عمر بن الْخطاب وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْخُذ من الْخَيل وَالرَّقِيق صَدَقَة) ، وَأَبُو بكر ضَعِيف. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) و (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (قد عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق وَلَيْسَ فِيمَا دون الْمِائَتَيْنِ زَكَاة) . وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن أَرقم عَن الْحسن (عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا صَدَقَة فِي الكسعة والجبهة والنخة) ، وَسليمَان بن أَرقم مَتْرُوك الحَدِيث. الكسعة، بِضَم الْكَاف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا عين مُهْملَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ: هِيَ الْحمير، وَقيل: هِيَ الرَّقِيق. والجبهة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، هِيَ الْخَيل، والنخة، بِضَم النُّون وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة هِيَ: الرَّقِيق، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو عَمْرو وَقَالَ الْكسَائي: إِنَّهَا الْبَقر العوامل وَذكر الْفَارِسِي فِي (مجمع الغرائب) عَن الْفراء أَن النخة أَن يَأْخُذ الْمُصدق دِينَارا بعد فَرَاغه من الصَّدَقَة، وَقيل: النخة الْحمير، يُقَال لَهَا: النخة والكسعة. وَقَالَ بَقِيَّة ابْن الْوَلِيد: النخة المربيات فِي الْبيُوت، والكسعة البغال وَالْحمير. وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب رَوَاهُ الْبَزَّار، فَذكر أَحَادِيث ثمَّ قَالَ: وبإسناده (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَأْمُرنَا أَن لَا تخرج الصَّدَقَة من الرَّقِيق) وَإِسْنَاده ضَعِيف.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بالأحاديث الْمَذْكُورَة سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمَكْحُول وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَالْحكم وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَالزهْرِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر، فَإِنَّهُم قَالُوا: لَا زَكَاة فِي الْخَيل أصلا، وَمِمَّنْ قَالَ بقَوْلهمْ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد من أَصْحَابنَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ، أَي: على حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب عِنْد أهل الْعلم أَنه لَيْسَ فِي الْخَيل السَّائِمَة صَدَقَة وَلَا فِي الرَّقِيق إِذا كَانُوا للْخدمَة صَدَقَة إلاَّ أَن يَكُونُوا للتِّجَارَة، فَإِذا كَانُوا للتِّجَارَة فَفِي أثمانهم الزَّكَاة إِذا حَال عَلَيْهَا الْحول، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو حنيفَة وَزفر: تجب الزَّكَاة فِي الْخَيل المتناسلة وَذكر شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، أَنه مَذْهَب زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من الصَّحَابَة وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم مطولا من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من صَاحب كنز لَا يُؤَدِّي زَكَاته إلاَّ حمي عَلَيْهِ فِي نَار جَهَنَّم) الحَدِيث، وَفِيه: (الْخَيل ثَلَاثَة فَهِيَ: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر) . الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: (وَأما الَّذِي هِيَ لَهُ ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملاً، وَلَا ينسى حق ظُهُورهَا(9/36)
وبطونها فِي عسرها ويسرها. .) الحَدِيث، وَهَذَا الْمِقْدَار الَّذِي ذَكرْنَاهُ أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا مطولا، وَلَفظه: (وَلَا يحبس حق ظُهُورهَا وبطونها) وَأَبُو حنيفَة وَمن مَعَه تعلقوا بِهِ فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي الْخَيل، وَقَالَ: إِن فِي هَذَا دَلِيلا على أَن لله فِيهَا حَقًا، وَهُوَ كحقه فِي سَائِر الْأَمْوَال الَّتِي تجب فِيهَا الزَّكَاة، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء. قَالَ: حَدثنَا جوَيْرِية عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ أَن السَّائِب بن يزِيد أخبرهُ، قَالَ: رَأَيْت أبي يقوم الْخَيل وَيدْفَع صدقتها إِلَى عمر بن الْخطاب، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي، وَأَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) وَأخرجه ابْن أبي شيبَة: عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الله بن حُسَيْن أَن ابْن شهَاب أخبرهُ أَن السَّائِب ابْن أُخْت نمرة أخبرهُ أَنه كَانَ يَأْتِي عمر بن الْخطاب بصدقات الْخَيل، وَأخرجه بَقِي بن مخلد فِي (مُسْنده) عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: الْخَبَر فِي صَدَقَة الْخَيل عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صَحِيح من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد، وَقَالَ ابْن رشد الْمَالِكِي فِي (الْقَوَاعِد) : قد صَحَّ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَأْخُذ الصَّدَقَة عَن الْخَيل، وروى أَبُو عمر بن عبد الْبر بِإِسْنَادِهِ: أَن عمر بن الْخطاب قَالَ ليعلى بن أُميَّة: تَأْخُذ من كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة، وَلَا تَأْخُذ من الْخَيل شَيْئا؟ خُذ من كل فرس دِينَارا، فَضرب على الْخَيل دِينَارا دِينَارا، وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي عبد الله غورك بن الخضرم السَّعْدِيّ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الْخَيل فِي كل فرس دِينَار) ، ذكره فِي (الإِمَام) عَن الدَّارَقُطْنِيّ وَرَوَاهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن أبي إِسْحَاق عَن حَارِثَة بن مضرب، قَالَ: جَاءَ نَاس من أهل الشَّام إِلَى عمر فَقَالُوا: إِنَّا قد أصبْنَا أَمْوَالًا خيلاً ورقيقا وإماء، نحب أَن نزكيه، فَقَالَ: مَا فعله صَاحِبي قبلي فأفعله أَنا، ثمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: حسن، وَسكت عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هُوَ حسن لَو لم يكن جِزْيَة راتبة يَأْخُذُونَ بهَا بعْدك، فَأخذ من الْفرس عشرَة دَرَاهِم، ثمَّ أعَاد قَرِيبا مِنْهُ بالسند الْمَذْكُور، والقضية. وَقَالَ فِيهِ: فَوضع على كل فرس دِينَارا.
وروى مُحَمَّد بن الْحسن فِي كتاب (الْآثَار) : أخبرنَا أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: فِي الْخَيل السَّائِمَة الَّتِي تطلب نسلها إِن شِئْت فِي كل فرس دِينَار أَو عشرَة دَرَاهِم، وَإِن شِئْت فَالْقيمَة، فَيكون فِي كل مأتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم فِي كل فرس ذكرا أَو أُنْثَى. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْجَواب عَن قَوْله: (ثمَّ لم ينس حق الله) إِلَى آخِره من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن حَقّهَا إعارتها وَحمل المنقطعين عَلَيْهَا فَيكون ذَلِك على وَجه النّدب. وَالثَّانِي: أَن يكون وَاجِبا، ثمَّ نسخ بِدَلِيل قَوْله: (قد عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل) ، إِذْ الْعَفو لَا يكون إلاَّ عَن شَيْء لَازم. قلت: الَّذِي يكون على وَجه النّدب لَا يُطلق عَلَيْهِ حق، وَأَيْضًا فَالْمُرَاد بِهِ صَدَقَة خيل الْغَازِي، وَفِي (الْأَسْرَار) للدبوسي: لما سمع زيد بن ثَابت حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا قَالَ: صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه أَرَادَ فرس الْغَازِي. وَأما مَا طلب نسلها ورسلها فَفِيهَا الزَّكَاة فِي كل فرس دِينَار أَو عشرَة دَرَاهِم، قَالَ أَبُو زيد: وَمثل هَذَا لَا يعرف قِيَاسا، فَثَبت أَنه مَرْفُوع، وَأما النّسخ فَإِنَّهُ لَو كَانَ اشْتهر فِي زمن الصَّحَابَة لما قرر عمر الصَّدَقَة فِي الْخَيل، وَأَن عُثْمَان مَا كَانَ يصدقها. فَإِن قلت: روى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سُلَيْمَان ابْن يسَار أَن أهل الشَّام قَالُوا لأبي عُبَيْدَة بن الجراج: خُذ من خَيْلنَا ورقيقنا صَدَقَة فَأبى، ثمَّ كتب إِلَى عمر فَأبى عمر، ثمَّ كَلمُوهُ أَيْضا فَكتب إِلَى عمر فَكتب إِلَيْهِ عمر: إِن احبوا فَخذهَا مِنْهُم وارددها عَلَيْهِم وارزق رقيقهم، فَفِي إباء أبي عُبَيْدَة وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، من الْأَخْذ من أهل الشَّام مَا ذكرُوا من رقيقهم وخيلهم دلَالَة وَاضِحَة أَنه لَا زَكَاة فِي الرَّقِيق وَلَا فِي الْخَيل، وَلَو كَانَت الزَّكَاة وَاجِبَة فِي ذَلِك مَا امتنعا من أَخذ مَا أوجب الله عَلَيْهِم أَخذه لأَهله وَوَضعه فيهم. قلت: هَذَا يُعَارضهُ مَا ذَكرْنَاهُ من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، وَغَيره، وَفِي (شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي) و (شرح التَّجْرِيد) : إِن شَاءَ أدّى ربع عشر قيمتهَا، وَإِن شَاءَ أدّى عَن كل فرس دِينَارا. وَفِي (جَامع الْفِقْه) : يجب فِي الْإِنَاث والمختلطة عِنْده لكل فرس دِينَار، وَقيل: ربع عشر قيمتهَا، وَفِي (أَحْكَام الْقُرْآن) للرازي: إِن كَانَت إِنَاثًا أَو ذُكُورا وإناثا يجب، وَفِي (الْبَدَائِع) : الْخَيل إِن كَانَت تعلف للرُّكُوب أَو الْحمل أَو الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَلَا زَكَاة فِيهَا إِجْمَاعًا، وَإِن كَانَت للتِّجَارَة تجب إِجْمَاعًا، وَإِن كَانَت تسام للدر والنسل وَهِي ذُكُور وإناث يجب عِنْده فِيهَا الزَّكَاة حولا وَاحِدًا، وَفِي الذُّكُور المنفردة وَالْإِنَاث المنفردة رِوَايَتَانِ. وَفِي (الْمُحِيط) : الْمَشْهُور عدم الْوُجُوب فيهمَا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور: جَوَاز قَول: غُلَام فلَان وَجوَار فلَان. وَفِي (الصَّحِيح)(9/37)
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول الرجل: عَبدِي وَأمتِي، وَليقل: فَتَاي وَفَتَاتِي) .
64 - (بابٌ لَيْسَ عَلَى المُسْلِمُ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده صَدَقَة، أورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة بترجمتين الأولى: بِلَفْظ: غُلَامه. وَالثَّانيَِة: بِلَفْظ: عَبده، الْغُلَام، فِي اللُّغَة اسْم للصَّبِيّ الَّذِي فطم إِلَى سبع سِنِين، وَفِي اصْطِلَاح النَّاس يُطلق على العَبْد وعَلى الْحر الَّذِي يخْدم النَّاس، وَفِي (الْمغرب) : الْغُلَام الطار الشَّارِب، ويستعار للْعَبد، وَغُلَام الْقصار أجيره، وَالْجمع: غلمة وغلمان، وَالْعَبْد خلاف الْحر، وَيجمع على: عبيد وأعبد وَعباد وعبدان، بِالضَّمِّ، وعبدان، بِالْكَسْرِ، وعبدان مُشَدّدَة الدَّال، وعبدا تمد وتقصر ومعبوداء بِالْمدِّ، وَحكى الْأَخْفَش: عبد، بِضَمَّتَيْنِ مثل سقف وسقف، وَالْمرَاد بالغلام فِي الحَدِيث: العَبْد الَّذِي فِي الرَّقَبَة.
4641 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ خُثَيْمِ بنِ عِرَاكٍ قَالَ حدَّثني أبي عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبُ بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا خُثَيْمُ بنُ عِرَاكِ بنِ مالِكٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 3641) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله سَبْعَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وخثيم، بِضَم الْخَاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عرَاك بن مَالك الْغِفَارِيّ، ووهيب مصغر وهب. قَوْله: (فِي عَبده) مُطلق لكنه مُقَيّد بِمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) لَيْسَ فِي العَبْد إلاَّ صَدَقَة الْفطر، هَذَا إِذا لم يكن للتِّجَارَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي الْبَاب السَّابِق، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
74 - (بابُ الصَّدَقَةِ عَلَى اليَتَامَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّدَقَة على الْيَتَامَى، وَذكر لفظ: الصَّدَقَة، لكَونهَا أَعم من صَدَقَة التَّطَوُّع، وَمن صَدَقَة الْفَرْض، قيل: عبر بِالصَّدَقَةِ دون الزَّكَاة لتردد الْخَبَر بَين صَدَقَة الْفَرْض والتطوع، لكَون ذكر الْيَتِيم جَاءَ متوسطا بَين الْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل وهما من مصارف الزَّكَاة. قلت: إِنَّمَا ذكر لفظ الصَّدَقَة لعمومها وشمولها الْقسمَيْنِ، وَالصَّدَََقَة مُطلقًا مَرْغُوب فِيهَا، ولفاعلها أجر عَظِيم وثواب جزيل إِذا وَقعت لمستحقها، وَذكر فِي الحَدِيث هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أَعنِي: الْمِسْكِين واليتيم وَابْن السَّبِيل، فالمسكين وَابْن السَّبِيل مصرفان لِلزَّكَاةِ ولصدقة التَّطَوُّع، بِخِلَاف الْيَتِيم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يكون مصرفا إِذا كَانَ فَقِيرا، والشارع مدح الَّذِي يتَصَدَّق على هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ لفظ: وخصهم بِالذكر دون هذَيْن الْإِثْنَيْنِ للاهتمام بهم، وَحُصُول الْأجر فِي الصَّدَقَة عَلَيْهِم أَكثر من غَيرهم، وَقد ورد فِي الحَدِيث: أَن الصَّدَقَة على الْيَتِيم تذْهب قساوة الْقلب.
5641 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيى عنْ هِلالِ بنِ أبي مَيْمُونَةَ قَالَ حدَّثنا عَطَاءُ بنُ يَسَارٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يُحَدِّثُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وجَلَسْنا حَوْلَهُ فَقَالَ إنِّي مِمَّا أخافُ عَلَيكُمْ من بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم مِن زَهْرةِ الدُّنيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رسولَ الله أوَ يأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ فسَكتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيلَ لَهُ مَا شَأنُكَ تُكَلِّمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ يُكَلِّمُكَ فَرأيْنَا أنَّهُ يُنْزَلُ عَليهِ قَالَ فمسَحَ عنهُ الرُّحْضَاءَ فَقَالَ أينَ السَّائِلُ وكأنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ إنَّهُ لَا يَأتِي الخَيرُ بِالشَّرِّ وَإنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطا أوْ يُلِمُّ إلاَّ آكِلَةَ الخَضْرَاءِ أكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَدَّتْ خاصِرَتَاهَا استَقْبلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فثَلَطتْ وبَالَتْ وَرَتعَتْ وَإنَّ هاذا المَالَ(9/38)
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فنَعِمَ صَاحبُ المُسْلِمِ مَا أعْطَى منهُ المِسْكِينَ واليَتِيمَ وَابنَ السَّبِيلِ أوْ كَما قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كالَّذِي يَأكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ويَكُونُ شَهِيدا عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واليتيم) ، وَذكر وَجه تَخْصِيصه بِالذكر.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: معَاذ، بِضَم الْمِيم ابْن فضَالة بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة، مر فِي بَاب من اتخذ ثِيَاب الْحيض. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي هِلَال وَهُوَ هِلَال بن عَليّ، وَيُقَال: ابْن أُسَامَة الفِهري، وَمن قَالَ: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة ينْسبهُ إِلَى جد أَبِيه، وَقد ذكر فِي أول كتاب الْعلم. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين، وَقد مر فِي: بَاب كفران العشير، السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَهِشَام أهوازي وَيحيى طائي يمامي وهلال مدنِي، وَكَذَا عَطاء. وَفِيه: إثنان مذكوران بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: من ينْسب إِلَى جد أَبِيه وَهُوَ: هِلَال.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُحَمَّد بن سِنَان، وَفِي الرقَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَعَن عَليّ بن حجر، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ذَات يَوْم) ، مَعْنَاهُ: جلس قِطْعَة من الزَّمَان، فَيكون: ذَات يَوْم، صفة للقطعة الْمقدرَة وَلم تتصرف لِأَن إضافتها من قبيل إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى الإسم، وَلَيْسَ لَهُ تمكن فِي الظَّرْفِيَّة الزمانية لِأَنَّهُ لَيْسَ من أَسمَاء الزَّمَان. قَوْله: (إِن مِمَّا أَخَاف) ، كلمة مَا يجوز أَن تكون مَوْصُولَة وَالتَّقْدِير أَن من الَّذِي أَخَاف وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة فالتقدير أَن من خوفي عَلَيْكُم وَقَوله: (مَا يفتح عَلَيْكُم) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ اسْم: إِن (وَمِمَّا أَخَاف) مقدما خَبره، وَكلمَة: مَا، فِي: مَا يفتح، تحْتَمل الْوَجْهَيْنِ أَيْضا. قَوْله: (من زهرَة الدُّنْيَا) أَي: من حسنها وبهجتها، مَأْخُوذَة من زهرَة الْأَشْجَار، وَهُوَ مَا يصغر من أنوارها، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ الْأَبْيَض مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الزهر والنور سَوَاء، وَفِي (مجمع الغرائب) : هُوَ مَا يزهر مِنْهَا من أَنْوَاع الْمَتَاع وَالْعين وَالثيَاب والزروع وَغَيرهَا تغر الْخلق بحسنها مَعَ قلَّة بَقَائِهَا. وَفِي (الْمُحكم) : زهر الدُّنْيَا وزهرتها يَعْنِي، بتسكين الْهَاء وَفتحهَا. وَفِي (الْجَامِع) : وزهرها. قَوْله: (أَو يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟) الْهمزَة للاستفهام، وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر بعد الْهمزَة، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الِاسْتِفْهَام فِيهِ استرشاد مِنْهُم، وَمن ثمَّة حمد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، السَّائِل، وَالْبَاء فِي: بِالشَّرِّ، صلَة يَأْتِي بِمَعْنى: هَل يستجلب الْخَيْر الشَّرّ؟ وَجَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ، لَكِن قد يكون سَببا لَهُ ومؤديا إِلَيْهِ كَمَا يَأْتِي فِي التَّمْثِيل. وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا سُؤال مستبعد لما سَمَّاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بركَة، وَسَماهُ الله تَعَالَى خيرا بقوله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} (العاديات: 8) . فَأُجِيب بِأَن هَذَا الْخَيْر قد يعرض لَهُ مَا يَجعله شرا إِذا أسرف فِيهِ وَمنع من حَقه، وَلذَلِك قَالَ: (أَو خير هُوَ؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وواو الْعَطف الْوَاقِعَة بعْدهَا الْمَفْتُوحَة على الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، مُنْكرا على من توهم أَنه لَا يحصل مِنْهُ شَرّ أصلا، لَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالْعرضِ، وَقَالَ التَّيْمِيّ: أتصير النِّعْمَة عُقُوبَة؟ أَي: إِن زهرَة الدُّنْيَا نعْمَة من الله على الْخلق أتعود هَذِه النِّعْمَة وبالاً عَلَيْهِم؟ قَوْله: (فَسكت، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي انتظارا للوحي، فلام الْقَوْم هذاالسائل، وَقَالُوا لَهُ: مَا شَأْنك تكلم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكلمك؟ قَوْله: (فَرَأَيْنَا) من الرُّؤْيَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فأرينا، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء، ويروى: فَرَأَيْنَا، بِضَم الرَّاء، أَي: ظننا، وكل مَا جَاءَ من هَذَا اللَّفْظ بِمَعْنى رُؤْيَة الْعين فَهُوَ مَفْتُوح الأول، وَمَا كَانَ من الظَّن والحسبان فَهُوَ أرِي وأريت، بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (إِنَّه ينزل عَلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول يَعْنِي: الْوَحْي. قَوْله: (فَمسح عَنهُ الرحضاء) ، بِضَم الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: هُوَ عرق يغسل الْجلد لكثرته، وَكَثِيرًا مَا يسْتَعْمل فِي عرق الْحمى والمرضى. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الرحضاء: الْعرق حَتَّى كَأَنَّهُ رحض جسده من الْعرق، أَي: غسل. ووزنه: فعلاء، بِضَم الْفَاء وَفتح الْعين، وَجَاءَت أَمْثِلَة على هَذَا الْوَزْن مِنْهَا: العدواء: الشّغل، والعرواء: الرعدة، وَالْخُيَلَاء من الاختيال والتكبر، والصعداء، من قَوْلهم: هُوَ يتنفس الصعداء، من غم أَي: يصاعد نَفسه. قَوْله: (وَكَأَنَّهُ حَمده) أَي: وَكَأن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حمد السَّائِل وَكَانَ النَّاس ظنُّوا أَنه، صلى الله(9/39)
عَلَيْهِ وَسلم، أنكر مَسْأَلته فَلَمَّا رَأَوْهُ يسْأَل عَنهُ سُؤال راضٍ علمُوا أَنه حَمده، فَقَالَ: إِنَّه لَا يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ، أَي: إِن مَا قضى الله أَن يكون خيرا يكون خيرا، وَمَا قَضَاهُ أَن يكون شرا يكون شرا، وَأَن الَّذِي خفت عَلَيْكُم: تضييعكم نعم الله، وصرفكم إِيَّاهَا فِي غير مَا أَمر الله، وَلَا يتَعَلَّق ذَلِك بِنَفس النِّعْمَة وَلَا ينْسب إِلَيْهَا، ثمَّ ضرب لذَلِك مثلا فَقَالَ: (وَإِن مِمَّا ينْبت الرّبيع. .) إِلَى آخِره، ينْبت، بِضَم الْيَاء من الإنبات. قَوْله: (يقتل أَو يلم) ، قَالَ الْقَزاز: هَذَا حَدِيث جرى فِيهِ البُخَارِيّ على عَادَته فِي الِاخْتِصَار والحذف، لِأَن قَوْله (فَرَأَيْنَا أَنه ينزل عَلَيْهِ) يُرِيد الْوَحْي، وَفِي قَوْله: (وَإِن مِمَّا ينْبت الرّبيع يقتل أَو يلم) حذف: مَا، أَي كلمة: مَا، قبل: يقتل، وَحذف: حَبطًا، والْحَدِيث: (إِن مِمَّا ينْبت الرّبيع مَا يقتل حَبطًا أَو يلم) ، فَحذف: حَبطًا، وَحذف: مَا. قَالَ الْقَزاز: وروينا بهما، وَفِي نُسْخَة صَاحب (التَّلْوِيح) لفظا: حَبطًا، مَوْجُود، وغالب النّسخ لَيْسَ فِيهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: سقط فِي الْكَلَام من الرِّوَايَة: مَا، وَتَقْدِيره: مَا يقتل. قلت: لَا بُد من تَقْدِير كلمة: مَا، لِأَن قَوْله: (ينْبت الرّبيع) ، فعل وفاعل وَلَا يصلح أَن يكون لفظ: يقتل، مَفْعُولا إلاَّ بِتَقْدِير: مَا، وَقَوله: (حَبطًا) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وانتصابه على التَّمْيِيز، وَهُوَ دَاء يُصِيب الْإِبِل، وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ وجع يَأْخُذ الْبَعِير فِي بَطْنه من كلاء يستوبله، وَقد حَبط حَبطًا فَهُوَ حَبط، وإبل حباطي وحبطة، وحبطت الشَّاة حَبطًا: انتفخ بَطنهَا عَن أكل الدرق، وَذَلِكَ الدَّاء الحباط. قَوْله: (أَو يلم) من الْإِلْمَام أَي: أَو يقرب وَيَدْنُو من الْهَلَاك. قَوْله: (إِلَّا آكِلَة الْخضر) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد المعجمتين وَفِي آخِره رَاء، وَوَقع فِي رِوَايَة العذري: (إلاَّ آكِلَة الخضرة) ، بِالتَّاءِ فِي آخِره. وَعند الطَّبَرِيّ: (الخضرة) ، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الضَّاد، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: الخضراء، بِزِيَادَة ألف قبل الِاسْتِثْنَاء مفرغ، وَالْأَصْل: مِمَّا ينْبت الرّبيع مَا يقتل آكله إلاَّ آكِلَة الْخضر، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاء المفرغ لقصد التَّعْمِيم فِيهِ، وَنَظِيره: قَرَأت إلاَّ يَوْم كَذَا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَالْأَظْهَر أَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع لوُقُوعه فِي الْكَلَام الْمُثبت، وَهُوَ غير جَائِز عِنْد صَاحب (الْكَشَّاف) إلاَّ بالتأويل، وَلِأَن مَا يقتل حَبطًا بعض مَا ينْبت الرّبيع لدلَالَة: من، التبعيضية عَلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا، لَكِن يجب التَّأْوِيل فِي المستثننى، وَالْمعْنَى: من جملَة مَا ينْبت الرّبيع شَيْئا يقتل آكله إلاَّ الْخضر مِنْهُ إِذا اقتصد فِيهِ آكله وتحرى دفع مَا يُؤَدِّيه إِلَى الْهَلَاك. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن آكِلَة الْخضر، قَالَ الْخطابِيّ: الْخضر لَيْسَ من أَحْرَار الْبُقُول الَّتِي تستكثر مِنْهُ الْمَاشِيَة فتهلكه أكلا، وَلكنه من الجنبة الَّتِي ترعى الْمَاشِيَة مِنْهَا بعد هيج العشب ويبسه، وَأكْثر مَا تَقول الْعَرَب لما اخضر من الكلاء الَّذِي لم يصفر، والماشية من الْإِبِل ترتع مِنْهَا شَيْئا فَشَيْئًا، فَلَا تستكثر مِنْهُ فَلَا تحبط بطونها عَلَيْهِ. قَوْله: (حَتَّى إِذا امتدت خاصرتاها) يَعْنِي: إِذا امْتَلَأت شبعا وَعظم جنباها، والخاصرة: الْجنب اسْتقْبلت الشَّمْس لِأَنَّهُ الْحِين الَّذِي تشْتَهي فِيهِ الشَّمْس، وَجَاءَت وَذَهَبت (فثلطت) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي: أَلْقَت السرقين، وَقَالَ ابْن التِّين: ثَلَطَتْ، ضَبطه بَعضهم بِفَتْح اللَّام وَبَعْضهمْ بِكَسْرِهَا، وَفِي (الْمُحكم) : ثلط الثور وَالْبَعِير وَالصَّبِيّ، يثلط ثلطا: سلح سلحا رَقِيقا. وَفِي (مجمع الغرائب) : خرج رجيعها عفوا من غير مشقة لاسترخاء ذَات بَطنهَا فَيبقى نَفعهَا وَيخرج فضولها وَلَا يتَأَذَّى بهَا. وَفِي (الْعباب) و (المغيث) : وَأكْثر مَا يُقَال للبعير والفيل. قَوْله: (ورتعت) أَي: رعت، وارتع إبِله أَي: رعاها فِي الرّبيع، وأرتع الْفرس وتربع: أكل الرّبيع، وَقَالَ الدَّاودِيّ: رتعت افتعل من الرَّعْي قلت: لَيْسَ كَذَلِك، وَلَا يَقُول هَذَا إلاَّ من لم يمس شَيْئا من علم التصريف. قَوْله: (وَإِن هَذَا المَال خضر) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد المعجمتين، وَإِنَّمَا سمي الْخضر خضرًا لحسنه ولإشراق وَجهه، وَالْخضر عبارَة عَن الْحسن، وَهِي من أحسن الألوان، ويروى: خضرَة، بتاء التَّأْنِيث، وَالْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال: إِنَّمَا أنث على معنى تَأْنِيث الْمُشبه بِهِ، أَي: هَذَا المَال شَيْء كالخضرة، وَقيل: مَعْنَاهُ كالبقلة الخضرة، أَو يكون على معنى فَائِدَة المَال أَي: الْحَيَاة بِهِ والمعيشة خضرَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يُمكن أَن يعبر عَن المَال بالدنيا لِأَنَّهُ أعظم زينتي الْحَيَاة الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {المَال والبنون زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا} (الْكَهْف: 64) . وَقَالَ الْخطابِيّ يُريدَان صُورَة الدُّنْيَا حَسَنَة المنظر موثقة تعجب النَّاظر وَلذَلِك أنث اللَّفْظَيْنِ يَعْنِي خضرَة حلوة وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَله وَجه آخر وَهُوَ أَن تكون التَّاء للْمُبَالَغَة، نَحْو: رجل راوية وعلامة. قَوْله: (وَنعم صَاحب الْمُسلم) ، إِلَى آخِره، يَقُول: إِن من أعطي مَالا وسلط على هَلَكته فِي الْحق فَأعْطى من فَضله الْمِسْكِين وَغَيره، فَهَذَا المَال المرغوب فِيهِ. قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) شكّ من يحيى. قَوْله: (وَإنَّهُ من يَأْخُذهُ) أَي: وَإِن المَال من يَأْخُذهُ بِغَيْر حَقه، بِأَن جمعه من الْحَرَام(9/40)
أَو من غير احْتِيَاج إِلَيْهِ وَلم يخرج مِنْهُ حَقه الْوَاجِب فِيهِ، فَهُوَ كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع، يَعْنِي: أَنه كلما نَالَ مِنْهُ شَيْئا ازدادت رغبته واستقل مَا فِي يَده، وَنظر إِلَى مَا فَوْقه فينافسه. قَوْله: (فَيكون عَلَيْهِ شَهِيدا يَوْم الْقِيَامَة) ، يحْتَمل الْبَقَاء على ظَاهره، وَهُوَ أَنه يجاء بِمَالِه يَوْم الْقِيَامَة فينطق الصَّامِت مِنْهُ مَا فعل بِهِ أَو يمثل لَهُ بمثال حَيَوَان أَو يشْهد عَلَيْهِ الموكلون بكتب الْكسْب والأنفاق وَقيل: معنى قَوْله: (وَيكون عَلَيْهِ شَهِيدا) أَي: حجَّة عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة، يشْهد على صرفه وإسرافه وَأَنه أنفقهُ فِيمَا لَا يرضاه الله تَعَالَى، وَلم يؤد حَقه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مثلان ضربهما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَحدهمَا: للمفرط فِي جمع الدُّنْيَا ومنعها من حَقّهَا، وَالْآخر: للمقتصد فِي أَخذهَا، فَأَما قَوْله: (وَإِن مِمَّا ينْبت الرّبيع) فَهُوَ مثل المفرط الَّذِي يَأْخُذهَا بِغَيْر حق، وَذَلِكَ أَن الرّبيع ينْبت أَحْرَار العشب فتستكثر مِنْهَا الْمَاشِيَة حَتَّى تنتفخ بطونها، لما قد جَاوَزت حد الِاحْتِمَال، فَتَنْشَق أمعاؤها مِنْهَا فتهلك، كَذَلِك الَّذِي يجمع الدُّنْيَا من غير حلهَا، وَيمْنَع ذَا الْحق حَقه يهْلك فِي الْآخِرَة بِدُخُولِهِ النَّار. وَأما قَوْله: (إلاَّ آكِلَة الْخضر) فَهُوَ مثل المقتصد، وَذَلِكَ أَن الْخضر لَيْسَ من أَحْرَار الْبُقُول الَّتِي ينبتها الرّبيع، وَلكنهَا من الجنبة الَّتِي ترعاها الْمَوَاشِي بعد هيج الْبُقُول، فَضَربهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلا لمن يقتصد فِي أَخذ الدُّنْيَا وَجَمعهَا وَلَا يحملهُ الْحِرْص على أَخذهَا بِغَيْر حَقّهَا، فَهُوَ نَاجٍ من وبالها كَمَا نجت آكِلَة الْخضر. وَقيل: الرّبيع قد ينْبت أَحْرَار العشب والكلأ فَهِيَ كلهَا خير فِي نَفسهَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرّ من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فِيهَا بِحَيْثُ تنتفخ أضلاعه مِنْهُ وتمتلىء خاصرتاه، وَلَا يقْلع عَنهُ فيهلكه سَرِيعا، وَمن أكل كَذَا فيشرفه إِلَى الْهَلَاك، وَمن: أكل مُسْرِفًا حَتَّى تنتفخ خاصرتاه وَلكنه يتوخى إِزَالَة ذَلِك ويتحيل فِي دفع مضرتها حَتَّى يهضم مَا أكل وَمن أكل غير مفرط وَلَا مُسْرِف يَأْكُل مِنْهَا مَا يسد جوعه وَلَا يسرف فِيهِ حَتَّى يحْتَاج إِلَى دَفعه، وَمن أكل مَا يسد بِهِ رمقه وَيقوم بِهِ طَاعَته. الأول: مِثَال الْكَافِر، وَمن ثمَّة أكد الْقَتْل بالحبط أَي: يقتل قتلا حَبطًا، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يحبط أَعماله. وَالثَّانِي: مِثَال الْمُؤمن الظَّالِم لنَفسِهِ المنهمك فِي الْمعاصِي. وَالثَّالِث: مِثَال المقتصد. وَالرَّابِع: مِثَال السَّابِق الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا الرَّاغِب فِي الْآخِرَة، هَذَا الْوَجْه يفهم من الحَدِيث، وَإِن لم يُصَرح بِهِ، وَفِي كَلَام النَّوَوِيّ إِشْعَار بِهَذَا.
وَفِيه: جَوَاز ضرب الْأَمْثَال بالأشياء التافهة وَالْكَلَام الوضيع كالبول وَنَحْوه.
وَفِيه: جَوَاز عرض التلميذ على الْعَالم الْأَشْيَاء المجملة، وَأَن للْعَالم إِذا سُئِلَ عَن شَيْء أَن يُؤَخر الْجَواب حَتَّى يتَيَقَّن. وَفِيه: أَن السُّؤَال إِذا لم يكن فِي مَوْضِعه يُنكر على سائله. وَفِيه: أَن الْعَالم إِذا سُئِلَ عَن شَيْء وَلم يستحضر جَوَابه أَو أشكل عَلَيْهِ يُؤَخر الْجَواب حَتَّى يكْشف الْمَسْأَلَة مِمَّن فَوْقه من الْعلمَاء، كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سُكُوته حَتَّى استطلعها من قبل الْوَحْي. وَفِيه: أَن كسب المَال من غير حلّه غير مبارك فِيهِ، وَالله تَعَالَى يرفع عَنهُ الْبركَة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد: مِثَال المَال مِثَال الْحَيَّة الَّتِي فِيهَا ترياق نَافِع وسم ناقع، فَإِن أَصَابَهَا المعزم الَّذِي يعرف وَجه الِاحْتِرَاز من شَرها وَطَرِيق اسْتِخْرَاج ترياقها النافع كَانَت نعْمَة، وَإِن أَصَابَهَا السوادي الْغَنِيّ فَهِيَ عَلَيْهِ بلَاء مهلك. وَفِيه: أَن للْعَالم أَن يحذر من يجالسه من فتْنَة المَال، وينبههم على مَوَاضِع الْخَوْف، كَمَا قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {إِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم} (الْبَقَرَة: 672) . فوصف لَهُم مَا يخَاف عَلَيْهِم ثمَّ عرفهم بمداواة تِلْكَ الْفِتْنَة، وَهِي إطْعَام الْمِسْكِين وَنَحْوه. وَفِيه: الحض على الاقتصاد فِي المَال والحث على الصَّدَقَة وَترك الْإِمْسَاك. قَالَ الْكرْمَانِي وَفِيه: حجَّة لمن يرجح الْغَنِيّ على الْفقر. قلت: هَذَا الْكَلَام عكس مَا نقل عَن الْمُهلب، فَإِنَّهُ قَالَ: احْتج قوم بِهَذَا الحَدِيث فِي تَفْضِيل الْفقر على الْغنى، وَلَيْسَ كَمَا تأولوه، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخْش عَلَيْهِم مَا يفتح عَلَيْهِم من زهرَة الدُّنْيَا إلاَّ إِذا ضيعوا مَا أَمرهم الله تَعَالَى بِهِ فِي إِنْفَاق حَقه. قلت: جمع المَال غير محرم، وَلَكِن الاستكثار مِنْهُ وَالْخُرُوج عَن حد الاقتصاد فِيهِ ضار، كَمَا أَن الاستكثار من المآكل مسقم من غير تَحْرِيم للآكل، وَلَكِن الاقتصاد فِيهِ هُوَ الْمَحْمُود. وَفِيه: جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر عِنْد الموعظة وجلوس النَّاس حوله. وَفِيه: خوف المنافسة لقَوْله: (إِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم من بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم من زهرَة الدُّنْيَا) . وَفِيه: استفهامهم بِضَرْب الْمثل. وَفِيه: مسح الرحضاء للشدة الْحَاصِلَة. وَفِيه: دُعَاء السَّائِل لقَوْله: (أَيْن السَّائِل؟) وَفِيه: ظُهُور الْبُشْرَى لقَوْله: (وَكَأَنَّهُ حَمده) أَي: لما رأى فِيهِ من الْبُشْرَى لِأَنَّهُ كَانَ إِذا سر برقتْ أسارير وَجهه. وَالله أعلم.(9/41)
84 - (بابُ الزَّكَاةِ علَى الزَّوْجِ وَالأيْتامِ فِي الحَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صرف الزَّكَاة على الزَّوْج وعَلى الْأَيْتَام الَّذين فِي حجر الْمُنفق، الْحجر، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَالْمرَاد بِهِ الحضن. وَفِي (الْمطَالع) إِذا أُرِيد بِهِ الْمصدر فالفتح لَا غير، وَإِن أُرِيد الِاسْم فالكسر لَا غير، وَحجر الْكَعْبَة بِالْكَسْرِ لَا غير، وَإِنَّمَا أعَاد الْأَيْتَام هُنَا، مَعَ أَنه ذكر فِي الْبَاب السَّابِق لِأَن الأول فِيهِ الْعُمُوم، وَفِي هَذَا الْخُصُوص. قيل: وَجه الِاسْتِدْلَال بهما على الْعُمُوم لِأَن الْإِعْطَاء أَعم من كَونه وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا. قلت: لَا نسلم عُمُوم جَوَاز الْإِعْطَاء، بل الْوَاجِب لَهُ حكم، وَالْمَنْدُوب لَهُ حكم. أما الْوَاجِب فَلِأَن فِي إِعْطَاء الزَّوْجَة زَكَاتهَا فِيهِ خلاف، كَمَا ذكرنَا. وَكَذَلِكَ الْإِعْطَاء للأيتام إِنَّمَا يجوز بِشَرْط الْفقر، وَأما الْمَنْدُوب فَلَا كَلَام فِيهِ.
قالَهُ أبُو سَعيدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ الْمَذْكُور من الزَّكَاة على الزَّوْج والأيتام أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا التَّعْلِيق تقدم مُسْندًا عِنْد البُخَارِيّ فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب، وَقَالَ بَعضهم: يُشِير إِلَى حَدِيثه السَّابِق مَوْصُولا فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب. قلت: لَيْسَ فِيهِ ذكر الْأَيْتَام أصلا، وَلِهَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: هُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
6641 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمشُ قَالَ حدَّثني شَقيقٌ عنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ عنْ زَيْنَبَ امْرَأةِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ فَذَكَرْتُهُ لإبراهِيمَ فحَدَّثني إبْرَاهِيمُ عنْ أبِي عُبَيْدَةَ عنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ عنْ زَيْنَبَ امْرَأةِ عَبْدِ الله بِمِثْلِهِ سَوَاءً قالَتْ كُنْتُ فِي المَسْجدِ فرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تَصَدَّقْنَ ولَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وكانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلى عَبْدِ الله وأيْتامٍ فِي حَجْرِهَ قَالَ فقَالَتْ لَعَبْدِ الله سَلْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيَجْزِي عَنِّي أَن أُنْفِقَ علَيْكَ وعَلَى أيْتَامِي فِي حَجْري مِنَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أنْتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانْطَلَقْتُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَجَدْتُ امْرأةً مِنَ الأنْصَارِ عَلَى البَابِ حاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاٍ لٌ فقُلْنَا سَلِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيَجْزِي عَنِّي أنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وقُلْنَا لاَ تُخْبِرْ بِنَا فدَخَلَ فسَألَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأةُ عَبْدِ الله قالَ نعَمْ ولَهَا أجْرَانِ أجْرُ القَرَابَةِ وَأجْرُ الصَّدَقَة.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: ثَمَانِيَة: الأول: عمر بن حَفْص أَبُو حَفْص النَّخعِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: أَبُو حَفْص بن غياث بن طلق. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: شَقِيق أَبُو وَائِل، وَقد مر عَن قريب. الْخَامِس: عَمْرو ابْن الْحَارِث بن أبي ضرار، بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة: الْخُزَاعِيّ ثمَّ المصطلقي، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالقاف: أَخُو جوَيْرِية بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ صُحْبَة. السَّادِس: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. السَّابِع: أَبُو عُبَيْدَة، بِضَم الْعين: واسْمه عَامر بن عبد الله بن مَسْعُود، وَيُقَال: اسْمه كنيته. الثَّامِن: زَيْنَب بنت مُعَاوِيَة، وَيُقَال: بنت عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عتاب الثقفية، وَيُقَال لَهَا: رائطة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون مَا خلا عَمْرو بن الْحَارِث. وَفِيه: رِوَايَة صحابية عَن صحابية وهما عَمْرو وَزَيْنَب. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ فِي الطَّرِيق الأول، وهما: الْأَعْمَش وشقيق. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين وهم:(9/42)
الْأَعْمَش وشقيق وَإِبْرَاهِيم وَأَبُو عُبَيْدَة. وَفِيه: أَن الْأَعْمَش روى هَذَا الحَدِيث عَن شيخين، وهما: شَقِيق وَإِبْرَاهِيم، لِأَن الْأَعْمَش قَالَ فِي الطَّرِيق الأول: حَدثنِي شَقِيق، وَقَالَ فِي الطَّرِيق الثَّانِي: فَحَدثني إِبْرَاهِيم، فَفِي هَذِه الطَّرِيق ثَلَاثَة من التَّابِعين مُتَوَالِيَة، وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: لفظ الذّكر وَهُوَ قَوْله: قَالَ: فَذَكرته لإِبْرَاهِيم، الْقَائِل هُوَ الْأَعْمَش، أَي: ذكرت الحَدِيث لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد بن يُوسُف السّلمِيّ عَن عَمْرو بن حَفْص بِإِسْنَادِهِ نَحْو إِسْنَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه أَيْضا عَن الْحسن بن الرّبيع عَن أبي الْأَحْوَط عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق بِهِ، وَلم يذكر حَدِيث إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش وَعَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب عَن عمر بن حَفْص وَعَن بشر بن خَالِد، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزَّكَاة عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَالْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كنت فِي الْمَسْجِد فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) إِلَى آخِره، زِيَادَة على مَا فِي حَدِيث أبي سعيد الَّذِي مضى عَن قريب. قَوْله: (من حليكن) ، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون اللَّام مُفردا، وبضم الْحَاء وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء جمعا. قَوْله: (أيجزي؟) بِفَتْح الْيَاء مَعْنَاهُ: هَل يَكْفِي عني، لِأَن الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، وَكَانَ الظَّاهِر يَقْتَضِي أَن يُقَال: عَنَّا، وَكَذَلِكَ يُقَال: ننفق، بالنُّون المصدرة للْجَمَاعَة، وَلَكِن لما كَانَ المُرَاد كل وَاحِدَة منا، ذكرت بِذَاكَ الأسلوب أَو اكتفت زَيْنَب فِي الْحِكَايَة بِحَال نَفسهَا. قَوْله: (فَوجدت امْرَأَة من الْأَنْصَار) وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ: (فَإِذا امْرَأَة من الْأَنْصَار يُقَال لَهَا: زَيْنَب) ، وَكَذَا أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش، وَزَاد من وَجه آخر عَن عَلْقَمَة: (عَن عبد الله، قَالَ: انْطَلَقت امْرَأَة عبد الله، يَعْنِي: ابْن مَسْعُود، وَامْرَأَة أبي مَسْعُود يَعْنِي: عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ) . وَقَالَ بَعضهم: لم يذكر ابْن سعد لأبي مَسْعُود امْرَأَة أنصارية سوى: هزيلة بنت ثَابت بن ثَعْلَبَة الخزرجية، فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ أَو وهم من سَمَّاهَا زَيْنَب انتقالاً من اسْم امْرَأَة عبد الله إِلَى اسْمهَا. قلت: عدم ذكر ابْن سعد لأبي مَسْعُود امْرَأَة غير هزيلة الْمَذْكُورَة لَا يسْتَلْزم أَن لَا يكون لَهُ امْرَأَة أُخْرَى. قَوْله: (وأيتام لي فِي حجري) وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ: (هم بَنو أَخِيهَا وَبَنُو أُخْتهَا) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عَلْقَمَة: (لإحداهما فضل مَال وَفِي حجرها بَنو أَخ لَهَا إيتام، وللأخرى فضل مَال وَزوج خَفِيف الْيَد) . وَهُوَ كِنَايَة عَن الْفقر. قَوْله: (لَا تخبر بِنَا) خطاب لِبلَال أَي: لَا تعين إسمنا، وَلَا تقل إِن السائلة فُلَانَة بل قَالَ: يَسْأَلك امْرَأَتَانِ مُطلقًا، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فلِمَ خَالف بِلَال قَوْلهمَا، وَهُوَ إخلاف للوعد وإفشاء للسر؟ قلت: عَارضه سُؤال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن جَوَابه وَاجِب متحتم لَا يجوز تَأْخِيره، فَإِذا تَعَارَضَت المصلحتان بدىء بأهمهما فَإِن. قلت: كَانَ الْجَواب المطابق للفظ هُوَ أَن يُقَال: زَيْنَب وفلانة. قلت: الْأُخْرَى محذوفة، وَهِي أَيْضا اسْمهَا: زَيْنَب الْأَنْصَارِيَّة، وَزوجهَا أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَوَقع الِاكْتِفَاء باسم من هِيَ أكبر وَأعظم مِنْهُمَا. قَوْله: (لَهَا أَجْرَانِ: أجر الْقَرَابَة) أَي: أجر صلَة الرَّحِم، (وَأجر الصَّدَقَة) أَي أجر مَنْفَعَة الصَّدَقَة. قلت: فِي حَدِيث أبي سعيد الَّذِي فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب: أَنَّهَا شافهته بالسؤال وشافهها لقَوْله فِيهِ: (قَالَت: يَا نَبِي الله) . وَقَوله فِيهِ: (صَدَقَة زَوجك) ، وَهَهُنَا لم تشافهه بالسؤال وَلَا شافهها بِالْجَوَابِ؟ قلت: يحْتَمل إِن تَكُونَا قضيتين، وَقيل: يجمع بَينهمَا بِأَن يجمل هَذِه الْمُرَاجَعَة على الْمجَاز، وَإِنَّمَا كَانَت على لِسَان بِلَال. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَبَقِيَّة الأبحاث مَضَت فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
7641 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ يَا رسُولَ الله ألِي أجْرٌ أنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أبِي سَلَمَةَ إنَّمَا هُمْ بَنِيَّ فَقَالَ أنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أجْرُ مَا أنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ.
(الحَدِيث 7641 طرفه فِي: 9635) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لما علم مِنْهُ أَن الصَّدَقَة مجزية على أَيْتَام هم أَوْلَاد الْمُزَكي، فبالقياس عَلَيْهِ تجزىء الزَّكَاة على أَيْتَام(9/43)
هم لغيره، أَو أَن الحَدِيث ذكر فِي هَذَا الْبَاب لمناسبة الحَدِيث الأول فِي كَون الْإِنْفَاق على الْيَتِيم فَقَط، وَالْبُخَارِيّ كثيرا يعْمل من ذَلِك، هَكَذَا ذكره الْكرْمَانِي، وَالْوَجْه الثَّانِي هُوَ الْأَوْجه.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن الْعَبْسِي أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، مَاتَ فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان الْكلابِي. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: زَيْنَب بنت أم سَلمَة، وَهِي بنت أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد المَخْزُومِي، وَكَانَ اسْمهَا برة فسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد البُخَارِيّ. السَّادِس: أم سَلمَة، وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي كريب وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه كوفيان وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما هِشَام وَأَبوهُ. وَفِيه: رِوَايَة صحابية عَن صحابية وهما زَيْنَب وَأمّهَا أم سَلمَة. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الاب. وَقد مضى فقهه فِي بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب.
قَوْلهَا: (أَلِي أجر) ، الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (على بني أبي سَلمَة) كَانُوا أبناءها من أبي سَلمَة الزَّوْج الَّذِي كَانَ قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم: عمر وَمُحَمّد وَزَيْنَب ودرة. قَوْلهَا: (إِنَّمَا هم بني) أَصله بنُون، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء المتكلمة سَقَطت نون الْجمع فَصَارَ بنوى، فاجتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأدغمت الْوَاو فِي الْيَاء فَصَارَ: بني، بِضَم النُّون وَتَشْديد الْيَاء، ثمَّ أبدلت من ضمة النُّون كسرة لأجل الْيَاء، فَصَارَ بني، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
94 - (بابُ قَولِ الله تعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله} (التَّوْبَة: 06)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المُرَاد من قَول الله تَعَالَى: {وَفِي الرّقاب} (التَّوْبَة: 06) . وَكَذَا من قَوْله: {وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وهما من آيَة الصَّدقَات، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين. .} (التَّوْبَة: 06) . الْآيَة، اقتطعهما مِنْهَا للاحتياج إِلَيْهِمَا فِي جملَة مصارف الزَّكَاة، وَهِي ثَمَانِيَة، من جُمْلَتهَا: الرّقاب، وَهُوَ جمع: رَقَبَة، وَالْمرَاد: المكاتبون يعانون من الزَّكَاة فِي فك رقابهم، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم وَابْن نَافِع عَن اللَّيْث، وَفِي (الْمُغنِي) : وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد، وَقَالَ ابْن تَيْمِية: إِن كَانَ مَعَه وَفَاء لكتابته لم يُعْط لأجل فقره لِأَنَّهُ عبد، وَإِن لم يكن مَعَه شَيْء أعطي الْجَمِيع، وَإِن كَانَ مَعَه بعضه تمم، سَوَاء كَانَ قبل حُلُول النَّجْم أَو بعده كَيْلا يحل النَّجْم وَلَيْسَ مَعَه شَيْء فتفسخ الْكِتَابَة، وَيجوز دَفعهَا إِلَى سَيّده. وَعند الشَّافِعِيَّة: إِن لم يحل عَلَيْهِ نجم فَفِي صرفه إِلَيْهِ وَجْهَان، وَإِن دَفعه إِلَيْهِ فَأعْتقهُ الْمولى أَو أَبرَأَهُ من بدل الْكِتَابَة أَو عجر نَفسه وَالْمَال فِي يَد الْمكَاتب رَجَعَ فِيهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ الْمَذْهَب. قَوْله: {فِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وَهُوَ مُنْقَطع الْغُزَاة عِنْد أبي يُوسُف، ومنقطع الْحَاج عِنْد مُحَمَّد، وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَفِي سَبِيل الله فُقَرَاء الْغُزَاة عِنْد أبي يُوسُف، وَعند مُحَمَّد: فُقَرَاء الْحَاج. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي (الْأَشْرَاف) قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد: فِي سَبِيل الله هُوَ الْغَازِي غير الْغَنِيّ، وَحكى أَبُو ثَوْر عَن أبي حنيفَة أَنه الْغَازِي دون الْحَاج، وَذكر ابْن بطال أَنه قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَمثله النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) . وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَأما قَول أبي حنيفَة: لَا يُعطى الْغَازِي من الزَّكَاة إلاَّ أَن يكون مُحْتَاجا، فَهُوَ خلاف ظَاهر للْكتاب وَالسّنة، فَأَما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وَأما السّنة فروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ إلاَّ لخمسة: لعامل عَلَيْهَا، أَو لغاز فِي سَبِيل الله، أَو غَنِي اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو فَقير تصدق عَلَيْهِ فأهدى لَغَنِيّ إو غَارِم) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُرْسلا فَإِن قلت: مَا أحسن الْأَدَب سِيمَا مَعَ الأكابر، وَأَبُو حنيفَة لم يُخَالف الْكتاب وَلَا السّنة، وَإِنَّمَا عمل بِالسنةِ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحل(9/44)
الصَّدَقَة لَغَنِيّ) ، وَقَالَ: المُرَاد من قَوْله: (لغاز فِي سَبِيل الله) ، هُوَ الْغَازِي الْغَنِيّ بِقُوَّة الْبدن، وَالْقُدْرَة على الْكسْب لَا الْغَنِيّ بالنصاب الشَّرْعِيّ، بِدَلِيل حَدِيث معَاذ: وردهَا إِلَى فقرائهم.
وَيُذْكَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مالِهِ ويُعْطِي فِي الحَجِّ
علق هَذَا عَن ابْن عَبَّاس ليشير أَن شِرَاء العَبْد وعتقه من مَال الزَّكَاة جَائِز، وَهُوَ مُطَابق للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو بكر فِي (مُصَنفه) : عَن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْمَش عَن حسان عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يعْطى الرجل من زَكَاته فِي الْحَج، وَأَن يعْتق النَّسمَة مِنْهَا. وَفِي (كتاب الْعِلَل) لعبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش حَدثنَا الْأَعْمَش عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ ابْن عَبَّاس: أعتق من زكاتك، وَفِي رِوَايَة أبي عبيد: أعتق من زَكَاة مَالك. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: قيل لأبي عبد الله: يشترى الرجل من زَكَاة مَاله الرّقاب فَيعتق وَيجْعَل فِي ابْن السَّبِيل؟ قَالَ: نعم، ابْن عَبَّاس يَقُول ذَلِك، وَلَا أعلم شَيْئا يَدْفَعهُ، وَهُوَ ظَاهر الْكتاب. قَالَ الْخلال فِي (علله) : هَذَا قَوْله الأول، وَالْعَمَل على مَا بَينه الْجَمَاعَة فِي ضعف الحَدِيث. أخبرنَا أَحْمد بن هَاشم الْأَنْطَاكِي، قَالَ: قَالَ أَحْمد: كنت أرى أَن يعْتق من الزَّكَاة، ثمَّ كَفَفْت عَن ذَلِك لِأَنِّي لم أر إِسْنَادًا يَصح. قَالَ حَرْب: فاحتج عَلَيْهِ بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: هُوَ مُضْطَرب. انْتهى. وَبقول ابْن عَبَّاس فِي عتق الرَّقَبَة من الزَّكَاة قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن الْحسن الْعَنْبَري وَمَالك وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَفِي (الْجَوَاهِر) للمالكية: يَشْتَرِي بهَا الإِمَام الرّقاب فيعقتها عَن الْمُسلمين وَالْوَلَاء لجميعهم. وَقَالَ ابْن وهب: هُوَ فِي فكاك المكاتبين، وَوَافَقَ الْجَمَاعَة، وَلَو اشْترى بِزَكَاتِهِ رَقَبَة فَأعْتقهَا ليَكُون ولاؤها لَهُ لَا يجْزِيه عِنْد ابْن الْقَاسِم، خلافًا لأَشْهَب، وَلَا يَجْزِي فك الْأَسير بهَا عِنْد ابْن الْقَاسِم خلافًا لِابْنِ حبيب، وَلَا يدْفع عِنْد مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى مكَاتب وَلَا إِلَى عبد مُوسِرًا كَانَ سَيّده أَو مُعسرا، وَلَا من الْكَفَّارَات. وَجه قَول الْجُمْهُور مَا رَوَاهُ الْبَراء بن عَازِب: (أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: دلَّنِي على عمل يقربنِي من الْجنَّة وَيُبَاعِدنِي من النَّار، فَقَالَ: أعتق النَّسمَة، وَفك الرَّقَبَة، قَالَ: يَا رَسُول الله أوليسا وَاحِدًا، قَالَ: لَا، عتق النَّسمَة أَن تنفرد بِعتْقِهَا، وَفك الرَّقَبَة: أَن تعين فِي ثمنهَا) . رَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَالَ الحسَنُ إنِ اشْتَرَى أباهُ مِنَ الزَّكَاةِ جازَ وَيُعْطِي فِي المُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلا إنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآيةَ فِي أيِّهَا أعْطَيْتَ أجْزَأتْ
مطابقته فِي الْجُزْء الْأَخير من التَّرْجَمَة، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، هَذَا التَّعْلِيق روى بعضه أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن أَشْعَث بن سوار، قَالَ: سُئِلَ الْحسن عَن رجل اشْترى أَبَاهُ من الزَّكَاة فَأعْتقهُ. قَالَ: اشْترى خير الرّقاب. قَوْله: (فِي أَيهَا) أَي: فِي مصرف من المصارف الثَّمَانِية أَعْطَيْت (أجزت) كَذَا فِي الأَصْل بِغَيْر همز أَي: قَضَت. قَالَ الْكرْمَانِي: أَعْطَيْت، بِلَفْظ الْمَعْرُوف والمجهول، وَكَذَلِكَ: أَجْزَأت، من الْإِجْزَاء، وَذكر ابْن التِّين بِلَفْظ: أجزت، بِدُونِ الْهمزَة، وَقَالَ: مَعْنَاهُ قَضَت عَنهُ وَقيل: جزأ وأجزأ بِمَعْنى، أَي: قضى. وَمن قَول الْحسن يعلم أَن اللَّام فِي قَوْله: (للْفُقَرَاء) لبَيَان الْمصرف لَا للتَّمْلِيك. فَلَو صرف الزَّكَاة فِي صنف وَاحِد كفى.
وَقَالَ النبيُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خالِدا احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ الله
هَذَا التَّعْلِيق يَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب مَوْصُولا، والإدراع جمع: درع، ويروى: أدرعه.
وَيُذْكَرُ عنْ أبِي لاَسٍ حَمَلَنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ
أَبُو لاس، بِالسِّين الْمُهْملَة: خزاعي، وَقيل: حارثي يعد فِي الْمَدَنِيين، اخْتلف فِي اسْمه فَقيل: زِيَاد، وَقيل: عبد الله بن عتمة، بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة بعْدهَا نون مَفْتُوحَة، وَقيل: مُحَمَّد بن الْأسود، وَله حديثان أَحدهمَا هَذَا، وَلَيْسَ لَهُم أَبُو لاس غَيره، وَهُوَ فَرد. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن عبيد بن غَنَّام: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَحدثنَا أَبُو خَليفَة حَدثنَا ابْن الْمَدِينِيّ حَدثنَا(9/45)
مُحَمَّد بن عبيد الطنافسي، حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث عَن عمر بن الحكم بن ثَوْبَان عَن أبي لاس، قَالَ: (حملنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على إبل من إبل الصَّدَقَة ضِعَاف لِلْحَجِّ، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله مَا نرى أَن تحملنا هَذِه! فَقَالَ: مَا من بعير إلاَّ وَفِي ذروته شَيْطَان، فَإِذا ركبتموها فاذكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم كَمَا أَمركُم الله ثمَّ امتهنوها لأنفسكم، فَإِنَّمَا يحمل الله) ، وَأخرجه أَحْمد أَيْضا وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم وَغَيرهم وَرِجَاله ثِقَات، إلاَّ أَن فِيهِ عنعنة ابْن إِسْحَاق، وَلِهَذَا توقف ابْن الْمُنْذر فِي ثُبُوته.
8641 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصَّدَقَةِ فَقِيلَ منَعَ ابنُ جَميلٍ وخالِدُ بنُ الوَلِيدِ وعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَنْقِمُ ابنُ جَمِيلٍ ألاَّ أنَّهُ كانَ فَقِيرا فأغْنَاهُ الله ورسولُهُ وأمَّا خالِدٌ فإنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خالِدا قَدِ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَأعْبُدَهُ فِي سَبِيلِ الله وأمَّا العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهْيَ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا معَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وأعبده فِي سَبِيل الله) . وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد قد مضوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش: عَن شُعَيْب مِمَّا حَدثهُ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج مِمَّا ذكر أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره، صرح بِالْحَدِيثِ فِي الْإِسْنَاد وَزَاد فِيهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْمَحْفُوظ أَنه من مُسْند أبي هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا جرى لعمر فِيهِ ذكر فَقَط.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّدَقَةِ) أَي: بِالصَّدَقَةِ الْوَاجِبَة، يَعْنِي: الزَّكَاة لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَة بانصراف الْألف وَاللَّام إِلَيْهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْجُمْهُور صَارُوا إِلَى أَن الصَّدَقَة هِيَ الْوَاجِبَة، لَكِن يلْزم على هَذَا استبعاد هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين لَهَا، وَلذَلِك قَالَ بعض الْعلمَاء: كَانَت صَدَقَة التَّطَوُّع، وَقد روى عبد الرَّزَّاق هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ندب النَّاس إِلَى الصَّدَقَة) الحَدِيث، وَقَالَ ابْن الْقصار: وَهَذَا أليق بالقصة لأَنا لَا نظن بأحدهم منع الْوَاجِب. قَوْله: (فَقيل: منع ابْن جميل) الْقَائِل هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي الزِّنَاد عِنْد أبي عبيد، فَقَالَ بعض من يلمز أَي: يعيب وَابْن جميل بِفَتْح الْجِيم، ذكره الذَّهَبِيّ فِيمَن عرف بِابْنِهِ وَلم يسم، قيل: وَقع فِي تَعْلِيق القَاضِي حُسَيْن الْمروزِي الشَّافِعِي وَتَبعهُ الرَّوْيَانِيّ أَن اسْمه: عبد الله، وَوَقع فِي (التَّوْضِيح) أَن ابْن بزيزة سَمَّاهُ حميدا، وَلَيْسَ بمذكور فِي كِتَابه، وَقيل: وَقع فِي رِوَايَة ابْن جريج: أَبُو جهم ابْن حُذَيْفَة، بدل ابْن جميل وَهُوَ خطأ لإطباق الْجَمِيع على ابْن جميل لِأَنَّهُ أَنْصَارِي، وَأَبُو جهم قرشي. قَوْله: (وخَالِد بن الْوَلِيد) بِالرَّفْع عطف على: منع ابْن جميل، (وعباس بن عبد الْمطلب) عطف عَلَيْهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عبيد: (منع ابْن جميل وخَالِد وعباس أَن يُعْطوا) ، وَهُوَ مُقَدّر هَهُنَا، لِأَن: منع، يَسْتَدْعِي مَفْعُولا. وَقَوله: (أَن يُعْطوا) فِي مَحل النصب على المفعولية، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير: منع هَؤُلَاءِ الْإِعْطَاء. قَوْله: (فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بَيَان لوجه امْتنَاع هَؤُلَاءِ عَن الْإِعْطَاء فَلذَلِك ذكره بِالْفَاءِ. قَوْله: (مَا ينقم) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتحهَا، أَي: مَا يُنكر أَي: لَا يَنْبَغِي أَن يمْنَع الزَّكَاة، وَقد كَانَ فَقِيرا فأغناه الله إِذْ لَيْسَ هَذَا جَزَاء النِّعْمَة قَالَ ابْن الْمُهلب: كَانَ ابْن جميل منافقا فَمنع الزَّكَاة فاستتابه الله تَعَالَى بقوله: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله فَإِن يتوبوا يَك خيرا لَهُم} (التَّوْبَة: 47) . فَقَالَ: استتابني رَبِّي، فَتَابَ وصلحت حَاله، انْتهى. وَفِيه تَأْكِيد الْمَدْح بِمَا يشبه الذَّم لِأَنَّهُ إِذا لم يكن لَهُ عذر إلاَّ مَا ذكر من أَن الله أغناه فَلَا عذر لَهُ. قَوْله: (وَأما خَالِد) إِلَى آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: قصَّة خَالِد تؤول على وُجُوه: أَحدهَا: أَنه قد اعتذر لخَالِد ودافع عَنهُ بِأَنَّهُ احْتبسَ فِي سَبِيل الله تقربا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ غير وَاجِب عَلَيْهِ، فَكيف يجوز عَلَيْهِ منع الْوَاجِب؟ وَثَانِيها: أَن خَالِدا طُولِبَ بِالزَّكَاةِ عَن أَثمَان الأدرع، على معنى أَنَّهَا كَانَت عِنْده للتِّجَارَة، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا زَكَاة عَلَيْهِ فِيهَا إِذْ جعلهَا حبسا فِي سَبِيل الله. وَثَالِثهَا: أَنه قد أجَاز لَهُ أَن يحْتَسب بِمَا حَبسه فِي سَبِيل الله من(9/46)
الصَّدَقَة الَّتِي أَمر بقبضها مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَن أحد الْأَصْنَاف: سَبِيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها فِي الْحَال كصرفها فِي الْمَآل. قَوْله: (قد احْتبسَ) أَي: حبس (أدراعه) ، جمع: درع. قَوْله: (وأعبده) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: جمع عبد، حَكَاهُ عِيَاض، وَالْمَشْهُور: أعتده، بِضَم التَّاء المثناء من فَوق، جمع: عتد، بِفتْحَتَيْنِ. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أعتاده، وَهُوَ أَيْضا جمع: عتد. قيل: هُوَ مَا يعده الرجل من الدَّوَابّ وَالسِّلَاح، وَقيل: الْخَيل خَاصَّة، يُقَال: فرس عتيد، أَي: صلب أَو معد للرُّكُوب أَو سريع الْوُثُوب. قَوْله: (وَأما الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب) فَأخْبر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عَمه، وَعم الرجل صنو أَبِيه، وَعَن الحكم بن عتيبة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مُصدقا، فَشَكَاهُ الْعَبَّاس إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا ابْن الْخطاب! أما علمت أَن عَم الرجل صنو الْأَب؟ وَأَنا استسلفنا زَكَاته عَام الأول؟ وَمعنى: صنو أَبِيه: أَصله وأصل أَبِيه وَاحِد، وأصل ذَلِك أَن طلع النخلات من عرق وَاحِد. قَوْله: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة) ، مَعْنَاهُ: هِيَ صَدَقَة ثَابِتَة عَلَيْهِ سيتصدق بهَا وَمثلهَا مَعهَا، أَي: وَيتَصَدَّق مثل هَذِه الصَّدَقَة مَعهَا كرما مِنْهُ، إِ لَا امْتنَاع مِنْهُ وَلَا بخل فِيهِ، وَقيل: مَعْنَاهُ فأمواله هِيَ كالصدقة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَدَانَ فِي مفاداة نَفسه، وَعقيل، فَصَارَ من الغارمين الَّذين لَا تلزمهم الزَّكَاة، وَقيل: إِن الْقِصَّة جرت فِي صَدَقَة التَّطَوُّع فَلَا إِشْكَال عَلَيْهِ، لكنه خلاف الْمَشْهُور وَمَا عَلَيْهِ الرِّوَايَات.
ثمَّ إعلم أَن لَفْظَة الصَّدَقَة إِنَّمَا وَقعت فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد كَمَا مرت. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، فِي رِوَايَة شُعَيْب هَذِه: يبعد أَن تكون مَحْفُوظَة لِأَن الْعَبَّاس كَانَ من صلبية بني هَاشم مِمَّن تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة، فَكيف يَجْعَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عَلَيْهِ من صَدَقَة عَاميْنِ صَدَقَة عَلَيْهِ؟ وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّ ذَلِك قبل تَحْرِيم الصَّدَقَة على آل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرَأى إِسْقَاط الزَّكَاة عَنهُ عَاميْنِ لوجه رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه لَفْظَة لم يُتَابع عَلَيْهَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن اثْنَيْنِ تَابعا شعيبا: أَحدهمَا: عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب، وَالْآخر: مُوسَى بن عقبَة، فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عمرَان: حَدثنَا عَليّ ابْن عَيَّاش عَن شُعَيْب. . وَسَاقه بِلَفْظ البُخَارِيّ، قَالَ: وَأَخْبرنِي أَحْمد بن حَفْص حَدثنِي أبي حَدثنِي إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى أَخْبرنِي أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: أَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِصَدقَة) الحَدِيث، وَفِي آخِره: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا) .
وَاعْلَم أَيْضا أَنه وَقع اخْتِلَاف فِي هَذَا اللَّفْظ، فَفِي لفظ وَقع: مثلهَا، فِي متن حَدِيث الْبَاب، وَفِي لفظ: (فَهِيَ لَهُ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَفِي لفظ: (فَهِيَ عَليّ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَفِي لفظ: (فَهِيَ عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعهَا) . أما معنى الَّذِي فِي متن حَدِيث الْبَاب أَي: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة) وَاجِبَة فأداها قبلمحلها (وَمثلهَا مَعهَا) : أَي: قد أَدَّاهَا لعام آخر، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن الحكم آنِفا. وَأما معنى: (فَهِيَ لَهُ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَهِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة، أَي: فَهِيَ عَلَيْهِ، قيل: عَلَيْهِ وَله بِمَعْنى وَاحِد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة} (غَافِر: 25) . وَفِي قَوْله: {وَإِن أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) . وَيحْتَمل أَن يكون: فَهِيَ لَهُ، أَي فَهِيَ لَهُ عَليّ، وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت لَهُ عَلَيْهِ إِذا كَانَ قدمهَا. وَأما معنى قَوْله: (فَهِيَ عَليّ وَمثلهَا مَعهَا) ، أَي: فَهَذِهِ الصَّدَقَة عَليّ بِمَعْنى: أؤديها عَنهُ لما لَهُ عَليّ من الْحق، خُصُوصا لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: عَم الرجل صنو أَبِيه، وَأما معنى: (فَهِيَ عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعهَا) ، وَهِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، قَالَ أَبُو عبيد: نرَاهُ، وَالله أعلم، أَنه كَانَ أخر الصَّدَقَة عَنهُ عَاميْنِ من أجل حَاجَة الْعَبَّاس فَإِنَّهُ يجوز للْإِمَام أَن يؤخرها على وَجه النظرة ثمَّ يَأْخُذهَا مِنْهُ بعد، كَمَا فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِصَدقَة عَام الرَّمَادَة، فَلَمَّا أجبى النَّاس فِي الْعَام الْمقبل أَخذ مِنْهُم صَدَقَة عَاميْنِ. وَقيل: إِنَّمَا تعجل مِنْهُ لِأَنَّهُ أوجبهَا عَلَيْهِ وضمنها إِيَّاه وَلم يقبضهَا مِنْهُ، فَكَانَت دينا على الْعَبَّاس. ألاَ ترى قَوْله: (فَإِنَّهَا عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعَه؟) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: قَالَ لنا ابْن نَاصِر: يجوز أَن يكون قد قَالَ: هُوَ عَلَيْهِ، بتَشْديد الْيَاء، وَزَاد فِيهَا هَاء السكت.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِثْبَات الزَّكَاة فِي أَمْوَال التِّجَارَة. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز أَخذ الْقيمَة عَن أَعْيَان الْأَمْوَال. وَفِيه: جَوَاز وضع الصَّدَقَة فِي صنف وَاحِد. وَفِيه: جَوَاز تَأْخِير الزَّكَاة إِذا رأى الإِمَام فِيهِ نظرة. وَفِيه: جَوَاز تَعْجِيل الزَّكَاة. وَقَالَ أَبُو عَليّ الطوسي: اخْتلف أهل الْعلم فِي تَعْجِيل الزَّكَاة قبل محلهَا، فَرَأى طَائِفَة من أهل الْعلم أَن لَا يعجلها، وَبِه يَقُول سُفْيَان، وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم: إِن عجلها قبل محلهَا أَجْزَأت عَنهُ، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَكره مَالك وَاللَّيْث بن سعد تَعْجِيلهَا قبل وَقتهَا، وَقَالَ الْحسن: من زكى قبل الْوَقْت أعَاد، كَالصَّلَاةِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعند مَالك فِي إخْرَاجهَا قبل الْحول بِيَسِير قَولَانِ، وحدَّ الْقَلِيل بِشَهْر وَنصف شهر وَخَمْسَة أَيَّام وَثَلَاثَة. وَفِيه: تحبيس آلَات الْحَرْب وَالثيَاب وكل مَا ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه وَالْخَيْل وَالْإِبِل كالأعبد، وَفِي تحبيس غير الْعقار(9/47)
ثَلَاثَة أَقْوَال للمالكية: الْمَنْع الْمُطلق فِي مُقَابلَة الْخَيل فَقَط. وَقيل: يكره فِي الرَّقِيق خَاصَّة، وَرُوِيَ أَن أَبَا معقل وقف بَعِيرًا لَهُ فَقيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يُنكره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يلْزم الْوَقْف فِي شَيْء إلاَّ أَن يحكم بِهِ حَاكم، أَو يكون الْوَقْف مَسْجِدا أَو سِقَايَة أَو وَصِيَّة من الثُّلُث. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن أصل الْخلاف أَن الْوَقْف لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة أصلا، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الأَصْل، وَقيل: يجوز عِنْده إلاَّ أَنه لَا يلْزم بِمَنْزِلَة الْعَارِية حَتَّى يرجع فِيهِ أَي وَقت شَاءَ، وَيُورث عَنهُ إِذا مَاتَ وَهُوَ الْأَصَح، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يجوز وَيَزُول ملك الْوَاقِف عَنهُ، غير أَنه عِنْد أبي يُوسُف يَزُول بِمُجَرَّد القَوْل، وَعند مُحَمَّد حَتَّى يَجْعَل للْوَقْف وليا ويسلمه إِلَيْهِ. وَأما وقف الْمَنْقُول فإمَّا أَن يكون فِيهِ تعامل بوقفه أَو لَا يكون، فَالْأول: يجوز وَقفه كالكراع وَالسِّلَاح والفأس وَالْقدر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها والمصاحف وَكتب الْفِقْه والْحَدِيث والأدبية وَنَحْوهَا. وَالثَّانِي: لَا يجوز وَقفه كالزرع وَالثَّمَر وَنَحْوهمَا، وَعند أبي يُوسُف: لَا يجوز إلاَّ فِي الكراع وَالسِّلَاح والكراع الْخَيل. وَفِيه: بعث الإِمَام الْعمَّال لجباية الزكوات بِشَرْط أَن يَكُونُوا أُمَنَاء فُقَهَاء عارفين بِأُمُور الجباية. وَفِيه: تَنْبِيه الغافل على مَا أنعم الله بِهِ من نعْمَة الْغنى بعد الْفقر ليقوم بِحَق الله عَلَيْهِ. وَفِيه: الْعَيْب على من منع الْوَاجِب وَجَوَاز ذكره فِي غيبته بذلك. وَفِيه: تحمل الإِمَام عَن بعض رَعيته مَا يجب عَلَيْهِ. وَفِيه: الِاعْتِذَار بِمَا يسوغ الِاعْتِذَار بِهِ. وَفِيه: إِسْقَاط الزَّكَاة عَن الْأَمْوَال المحبسة. وَفِيه: التَّعْرِيض بكفران النِّعْمَة والتقريع بِسوء الصَّنِيع فِي مُقَابلَة الْإِحْسَان.
تابَعَهُ ابنُ أبي الزِّنَادِ عنْ أبِيهِ
أَي: تَابع الْأَعْرَج عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه أبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان بِوُجُود لفظ الصَّدَقَة، وروى هَذِه الْمُتَابَعَة الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْمحَامِلِي: حَدثنَا عَليّ بن شُعَيْب حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج بِهِ، كَذَا هُوَ فِي نُسْخَة، وَفِي أُخْرَى بِسُقُوط: ابْن، وَهِي رِوَايَة مُسلم، وَهِي الصَّحِيحَة.
وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ عنْ أبِي الزِّنادِ هيَ عَلَيْهِ ومِثْلُهَا معَهَا
قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن ابْن إِسْحَاق هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار ضد الْيَمين الْمدنِي الإِمَام صَاحب الْمَغَازِي، مَاتَ سنة خمسين وَمِائَة، وَدفن بمقبرة الخيزران بِبَغْدَاد، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن إبي الزِّنَاد بِحَذْف لفظ: الصَّدَقَة، وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا هَذِه الْمُتَابَعَة عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد: حَدثنِي عبد الْكَرِيم بن الْهَيْثَم حَدثنَا ابْن يعِيش حَدثنِي يُونُس بن بكير حَدثنَا ابْن أبي إِسْحَاق عَن أبي الزِّنَاد، فَذكره.
وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ حُدِّثْتُ عَن الأعْرَجِ بِمِثْلِهِ
ابْن جريج، هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، بِضَم الْجِيم. قَوْله: (حدثت) بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِمثلِهِ) ، أَي: بِمثل مَا روى ابْن إِسْحَاق، بِدُونِ لفظ: الصَّدَقَة.
05 - (بابُ الاسْتِعْفَافِ عنِ المَسْألَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاستعفاف: هُوَ طلب العفاف، وَقيل: الاستعفاف الصَّبْر والنزاهة عَن الشَّيْء، وَقيل: التَّنَزُّه عَن السُّؤَال، وَفِي بعض النّسخ عَن الْمَسْأَلَة.
9641 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عَطَتاءِ بنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ نَاسا مِنَ الأنْصَارِ سألُوا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعْطَاهُمْ ثُمَّ سَألُوهُ فأعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِذَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ(9/48)
ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله ومَنْ يَتَصَبَّرُ يُصَبِّرُهُ الله ومَا أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ.
(الحَدِيث 9641 طرفه فِي: 0746) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. .
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة وَفِي الرقَاق عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن نَاسا من الْأَنْصَار) لم يعرف أَسمَاؤُهُم، وَلَكِن قَالَ بَعضهم: فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ مَا يدل على أَن أَبَا سعيد مِنْهُم، فَفِي حَدِيثه: (سرحتني أُمِّي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي لاسأله من حَاجَة شَدِيدَة، فَأَتَيْته وَقَعَدت فاستقبلني فَقَالَ: من اسْتغنى أغناه الله) الحَدِيث، وَزَاد فِيهِ: (وَمن سَأَلَ وَله أُوقِيَّة فقد ألحف، فَقلت: نَاقَتي خير من أُوقِيَّة، فَرَجَعت وَلم أسأله) . قلت: لَيْت شعري أَي: دلَالَة هَذِه من أَنْوَاع الدلالات وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء يدل على كَونه مَعَ الْأَنْصَار فِي حَالَة سُؤَالهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله: (سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَعْطَاهُمْ) ، أَي: شَيْئا. وَهَذِه اللَّفْظَة فِي بعض النّسخ ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (حَتَّى نفد) ، بِكَسْر الْفَاء وبالدال الْمُهْملَة، أَي: فرغ وفني، وَقَالَ ابْن سَيّده: وأنفده هُوَ واستنفده. قَوْله: (مَا يكون) ، كلمة: مَا، فِيهِ مَوْصُولَة متضمنة لِمَعْنى الشَّرْط. وَقَوله: (فَلم أدخره) جَوَاب الشَّرْط، وَمَعْنَاهُ لن أجعله ذخيرة لغيركم معرضًا عَنْكُم، والفصيح فِيهِ إهمال الدَّال وَجَاء بإعجامها مدغما وَغير مدغم، لَكِن تقلب التَّاء دَالا مُهْملَة فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات. وَيُقَال: مَعْنَاهُ لن أحبسه عَنْكُم، ويروى عَن مَالك: (فَلَنْ أدخره) . قَوْله: (وَمن يستعف) أَي: من طلب الْعِفَّة عَن السُّؤَال وَلم يظْهر الِاسْتِغْنَاء عَن الْخلق وَلم يقبل أَن أعْطى فَهُوَ هُوَ إِذْ الصَّبْر جَامع لمكارم الإخلاق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَمن يسْتَغْن) أَي وَمن يظْهر الإستغناء (يغنه الله) (يعفه الله) ، أَي: يرزقه الله الْعِفَّة، أَي: الْكَفّ عَن الْحَرَام، يُقَال: عف يعف عفة فَهُوَ عفيف. قَالَ الطَّيِّبِيّ: مَعْنَاهُ من طلب الْعِفَّة عَن السُّؤَال وَلم يظْهر الِاسْتِغْنَاء (يغنه الله) أَي: يرزقه الْغنى عَن النَّاس، فَلَا يحْتَاج إِلَى أحد. قَوْله: (وَمن يتصبر) ، أَي: من يعالج الصَّبْر، وَهُوَ مَا بَاب: التفعل، فِيهِ معنى التَّكَلُّف (يصبره الله) أَي: يرزقه الله صبرا وَهُوَ من بَاب: التفعيل. قَوْله: (عَطاء) أَي: شَيْئا من الْعَطاء. قَوْله: (خيرا) ، بِالنّصب صفته، ويروى: خير، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ خير.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: إِعْطَاء السَّائِل مرَّتَيْنِ والاعتذار إِلَى السَّائِل والحض على التعفف.
وَفِيه: الْحَث على الصَّبْر على ضيق الْعَيْش وَغَيره من مكاره الدُّنْيَا. وَفِيه: أَن الِاسْتِغْنَاء والعفة وَالصَّبْر بِفعل الله تَعَالَى. وَفِيه: جَوَاز السُّؤَال للْحَاجة وَإِن كَانَ الأولى تَركه وَالصَّبْر حَتَّى يَأْتِيهِ رزقه بِغَيْر مَسْأَلَة. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْكَرم والسخاء والسماحة والإيثار على نَفسه.
0741 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأتِيَ رَجُلاً فَيَسْألَهُ أعْطَاهُ أوْ منَعَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن من عمل بِهَذَا الحَدِيث يحصل لَهُ الاستعفاف عَن الْمَسْأَلَة. وَرِجَاله قد تكرروا، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَليّ بن شُعَيْب عَن معن ابْن عِيسَى عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لِأَن يَأْخُذ) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَفِي الْمُوَطَّأ: (ليَأْخُذ أحدكُم) . قَوْله: (حبله) أَي: رسنه. قَوْله: (فيحتطب) أَي: فَإِن يحتطب أَي: يجمع الْحَطب. قَوْله: (خير) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ خير لَهُ. قَوْله: (فيسأله) أَي: فَإِن يسْأَله، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَة ابْن وهب: (خير لَهُ من أَن يَأْتِي رجلا قد أعطَاهُ الله من فَضله فيسأله) . قَوْله: (أعطَاهُ أَو مَنعه) لِأَن حَال المسؤول مِنْهُ إِمَّا الْعَطاء فَفِيهِ الْمِنَّة وذل السُّؤَال، وَإِمَّا الْمَنْع فَفِيهِ الذل والخيبة(9/49)
والحرمان، وَكَانَ السّلف إِذا سقط من أحدهم سَوْطه. لَا يسْأَل من يناوله إِيَّاه.
وَفِيه: التحريض على الْأكل من عمل يَده والاكتساب من الْمُبَاحَات.
وَاعْلَم أَن مدَار الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب على كَرَاهِيَة الْمَسْأَلَة، وَهِي على ثَلَاثَة أوجه: حرَام ومكروه ومباح. فالحرام لمن سَأَلَ وَهُوَ غَنِي من زَكَاة أَو أظهر من الْفقر فَوق مَا هُوَ بِهِ. وَالْمَكْرُوه لمن سَأَلَ وَعِنْده مَا يمنعهُ عَن ذَلِك وَلم يظْهر من الْفقر مَا هُوَ بِهِ، والمباح لمن سَأَلَ بِالْمَعْرُوفِ قَرِيبا أَو صديقا. وَأما السُّؤَال عِنْد الضَّرُورَة فَوَاجِب لإحياء النَّفس. وَأدْخلهُ الدَّاودِيّ فِي الْمُبَاح. وَأما الْأَخْذ من غير مَسْأَلَة وَلَا إشراف نفس فَلَا بَأْس بِهِ.
وَفِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث: عَن عَطِيَّة السَّعْدِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أَغْنَاك الله فَلَا تسْأَل النَّاس شَيْئا فَإِن الْيَد الْعليا المعطية وَإِن الْيَد السُّفْلى هِيَ المعطاء) ، رَوَاهُ ابْن عبد الْبر. وَعَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سَأَلَ وَله مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ومسألته فِي وَجهه خموش أَو خدوش أَو كدوح، قيل: يَا رَسُول الله وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، قَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ بَقِيَّة الْأَرْبَعَة وَالْحَاكِم، وَرَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي (كتاب القناعة) وَلَفظه: (من سَأَلَ النَّاس عَن ظهر غنى جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي وَجهه كدوح أَو خموش، قيل: يَا رَسُول الله مَا الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو قِيمَته من الذَّهَب) . وَعَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. وَعَن حُبَيْش بن جُنَادَة السَّلُولي قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَة) الحَدِيث، وَفِيه: (وَمن سَأَلَ النَّاس ليثري بِهِ مَاله كَانَ خموشا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة، ورضفا يَأْكُلهُ من جَهَنَّم، فَمن شَاءَ فليقِلَّ وَمن شَاءَ فليكثِر) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَانْفَرَدَ بِهِ. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه مثل حَدِيث عبد الله بن عَمْرو. وَعَن قبيصَة بن الْمخَارِق الْهِلَالِي، قَالَ: (تحملت حمالَة فَأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه: (يَا قبيصَة: إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل إلاَّ لأحد ثَلَاثَة: رجل تحمل حمالَة فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيبهَا ثمَّ يمسك، وَرجل أَصَابَته جَائِحَة اجتاحت مَاله فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش. أَو قَالَ: سدادا من عَيْش، وَرجل أَصَابَته فاقة حَتَّى يَقُول ثَلَاثَة من ذَوي الحجى من قومه: لقد أصَاب فلَانا فاقة، فَحلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب قواما من عَيْش، أَو قَالَ: سدادا من عَيْش، فَمَا سواهن من الْمَسْأَلَة يَا قبيصَة سحت يأكلها صَاحبهَا سحتا) . رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَعَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رجلا من الْأَنْصَار) الحَدِيث، وَفِيه: (أَن الْمَسْأَلَة لَا تصلح إلاَّ لثَلَاثَة: لذِي فقر مدقع، أَو لذِي غرم مقطع، أَو لذِي دم موجع) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي) ، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَعَن عمرَان ابْن حُصَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَسْأَلَة الْغَنِيّ شين فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة) ، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار. وَعَن ثَوْبَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من سَأَلَ مَسْأَلَة وَهُوَ عَنْهَا غَنِي كَانَت شَيْئا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة) ، رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ، وَإِسْنَاده صَحِيح. وَعَن مَسْعُود بن عَمْرو أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يزَال العَبْد يسْأَل وَهُوَ غَنِي حَتَّى يخلق وَجهه فَلَا يكون لَهُ عِنْد الله وَجه) ، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير. وَعَن جَابر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من سَأَلَ وَهُوَ غَنِي عَن الْمَسْأَلَة يحْشر يَوْم الْقِيَامَة وَهِي خموش فِي وَجهه) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَعَن رجلَيْنِ غير مسميين أَتَيَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع وَهُوَ يقسم الصَّدَقَة، فسألا مِنْهَا، فَرفع فِينَا الْبَصَر وخفضه فرآنا جلدين، فَقَالَ: (إِن شئتما أعطيتكما وَلَا حظَّ فِيهَا لَغَنِيّ وَلَا لقوي مكتسب) ، وَرِجَاله فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سَأَلَ وَله قيمَة أُوقِيَّة فقد ألحف، فَقلت نَاقَتي الياقوتة خير من أُوقِيَّة) . وَفِي رِوَايَة: (خير من أَرْبَعِينَ درهما، فَرَجَعت فَلم أسأله) . وَكَانَت الْأُوقِيَّة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ درهما، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه. وَعَن سُهَيْل بن الحنظلية قَالَ: (قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُيَيْنَة بن حُصَيْن والأقرع بن حَابِس فَسَأَلَاهُ فَأمر لَهما بِمَا سألاه. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من سَأَلَ وَعِنْده مَا يُغْنِيه فَإِنَّمَا يستكثر من النَّار، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله! وَمَا يُغْنِيه؟ وَقَالَ النُّفَيْلِي: وَمَا الْغنى الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَه الْمَسْأَلَة؟ قَالَ: قدر مَا يغديه ويعشيه) . وَقَالَ النُّفَيْلِي، فِي مَوضِع آخر: (أَن يكون لَهُ شبع يَوْم(9/50)
وَلَيْلَة أَو لَيْلَة وَيَوْم) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَلَفظه: (قَالُوا: وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ: مَا يغديه أَو يعشيه) . (وَعَن رجل من بني أَسد قَالَ: نزلت أَنا وَأَهلي ببقيع الْغَرْقَد) الحَدِيث، وَفِيه: (من سَأَلَ مِنْكُم وَله أُوقِيَّة أَو عدلها فقد سَأَلَ إلحافا، فَقَالَ الْأَسدي: فَقلت: للقحة لنا خير من أُوقِيَّة) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (وَعَن الرجل الَّذِي من مزينة، قَالَت لَهُ أمه: أَلا تَنْطَلِق فتسأل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يسْأَله النَّاس، فَانْطَلَقت أسأله فَوَجَدته قَائِما يخْطب، وَهُوَ يَقُول: من استعف أعفه الله، وَمن اسْتغنى أغناه الله وَمن سَأَلَ النَّاس وَله عدل خمس أَوَاقٍ فقد سَأَلَ إلحافا، فَقلت بيني وَبَين نَفسِي: لناقة لنا خير من خَمْسَة أَوَاقٍ، ولغلامه نَاقَة أُخْرَى خير من خمس أَوَاقٍ، فَرَجَعت وَلم أسأله) ، رَوَاهُ أَحْمد، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح. وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من سَأَلَ مَسْأَلَة عَن ظهر غنى أسْتَكْثر بهَا من رضف جَهَنَّم، قَالُوا: وَمَا ظهر غنى؟ قَالَ: عشَاء لَيْلَة) . رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي زياداته على (الْمسند) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَعَن زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سَأَلَ النَّاس عَن ظهر غنى فصداع فِي الرَّأْس وداء فِي الْبَطن) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَبَعضه عِنْد أبي دَاوُد. وَعَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو يعلم صَاحب الْمَسْأَلَة مَا لَهُ فِيهَا لم يسْأَل) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة قَابُوس، قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا أحتج بِهِ، وَقَالَ ابْن حبَان: رَدِيء الْحِفْظ. وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَزَّار بِلَفْظ: (استغنوا عَن النَّاس وَلَو بشوص السِّوَاك) ، وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات، وَعَن مُعَاوِيَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تلحفوا فِي الْمَسْأَلَة فوَاللَّه لَا يسألني أحد مِنْكُم شَيْئا فَتخرج لَهُ مَسْأَلته مني شَيْئا وَأَنا كَارِه فيبارك لَهُ فِيمَا أَعْطيته) ، رَوَاهُ مُسلم. . وَعَن سَمُرَة ابْن جُنْدُب قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَسْأَلَة كد يكد بهَا الرجل وَجهه إلاَّ أَن يسْأَل الرجل سُلْطَانا أَو فِي أَمر لَا بُد مِنْهُ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَعَن أبي ذَر، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يشْتَرط على أَن لَا أسأَل النَّاس شَيْئا، قلت: نعم. قَالَ: وَلَا سَوْطك إِن سقط مِنْك حَتَّى تنزل فتأخذه) ، رَوَاهُ أَحْمد وَرِجَاله ثِقَات، وَعَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من يُبَايع؟ فَقَالَ ثَوْبَان: بَايعنَا رَسُول الله. قَالَ: على أَن لَا تسألوا شَيْئا؟ قَالَ ثَوْبَان: فَمَا لَهُ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الْجنَّة. فَبَايعهُ ثَوْبَان) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ. وَعَن عدي الجذامي فِي أثْنَاء حَدِيث فِيهِ: (فتعففوا وَلَو بحزم الْحَطب، ألاَ هَل بلَّغت؟) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، (وَعَن الفراسي قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أسأَل يَا رَسُول الله! فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا، وَإِن كنت لَا بُد سَائِلًا فسل الصَّالِحين) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، والفراسي، بِكَسْر الْفَاء وَفتح الرَّاء وَكسر السِّين الْمُهْملَة. قَالَ فِي (الْكَمَال) : روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا وَاحِدًا، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَله حَدِيث آخر فِي الْبَحْر: (هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ والحل ميتَته) ، كِلَاهُمَا يرويهِ اللَّيْث بن سعد، (وَعَن عَائِذ بن عَمْرو أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا وضع رجله على أُسْكُفَّة الْبَاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو تعلمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَة مَا مَشى أحد إِلَى أحد يسْأَله شَيْئا) .
1741 - حدَّثنا مُوسى اقال حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ أبِيهِ عنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأَنْ يأخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيأتِي بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلى ظَهْرِهِ فيَبِيعَهَا فيَكُفَّ الله بِهَا وَجْهَهُ خيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يسْألَ النَّاسَ أعْطَوْهُ أوْ مَنَعُوهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، ووهيب هُوَ ابْن خَالِد. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشّرْب عَن مُعلى بن أَسد عَن وهيب، وَفِي الْبيُوع عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزَّكَاة عَن عَليّ ابْن مُحَمَّد وَعَمْرو بن عبد الله الأودي، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ. قَوْله: (لِأَن يَأْخُذ) ، اللَّام فِيهِ إِمَّا ابتدائية أَو جَوَاب قسم مَحْذُوف، والحزمة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي: مَا سمي بِالْفَارِسِيَّةِ: دستة. قَوْله: (فيكف الله) أَي: فَيمْنَع الله بِهِ وَجهه من أَن يريق مَاءَهُ بالسؤال من النَّاس. قَوْله: (خير) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ خير لَهُ من أَن يسْأَل أَي: من سُؤال النَّاس، وَالْمعْنَى: إِن لم يجد إلاَّ الاحتطاب من الْحَرْف، فَهُوَ مَعَ مَا فِيهِ من امتهان الْمَرْء نَفسه، وَمن الْمَشَقَّة خير لَهُ من الْمَسْأَلَة.
2741 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ(9/51)
بنِ الزُّبَيْرِ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَام رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ سَلْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعْطانِي ثُمَّ سألْتُهُ فأعْطَاني ثُمَّ سألْتُهُ فأعْطَاني ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إنَّ هاذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ومَنْ أخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَك لَهُ فِيهِ وَكَانَ كالَّذِي يأكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى قَالَ حَكِيمٌ فقُلْتُ يَا رسولَ الله وَالَّذِي بعثَكَ بِالحَقِّ لَا أرْزأُ أحَدا بَعْدَكَ شَيْئا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكانَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَدْعُو حَكِيما إلَى العَطَاءِ فَيأبى أنْ يَقْبَلهُ مِنْهُ ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فأبَى أنْ يقْبَلَ منْهُ شَيْئا فَقَالَ عُمَرُ إنِّي أُشْهِدَكُمْ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ إنِّي أعْرِضُ عَلَيه حَقَّهُ منْ هاذا الفَيءِ فيَأبَى أنْ يأخُذَهُ فلَمْ يَرْزأ حَكيمٌ أحدا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تُوُفِّيَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى) لِأَن المُرَاد من الْيَد الْعليا على قَول: هِيَ المتعففة وَإِن كَانَ الْمَشْهُور هِيَ المنفقة، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب لَا صَدَقَة إلاَّ عَن ظهر غنى.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: عَبْدَانِ، هُوَ عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي، وعبدان لقبه. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد ابْن مُسلم الزُّهْرِيّ الْمدنِي. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام الْمدنِي. السَّادِس: سعيد بن الْمسيب الْمدنِي. السَّابِع: حَكِيم، بِفَتْح الْحَاء: ابْن حزَام، بِكَسْر الْحَاء وبالزاي المخففة، وَقد مر عَن قريب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بلقبه. وَفِيه: اثْنَان مذكوران مجردين. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بنسبته إِلَى قبيلته ويروى عَن اثْنَيْنِ. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: الزُّهْرِيّ وَعُرْوَة وَسَعِيد بن الْمسيب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا وَفِي الْخمس عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الْأَوْزَاعِيّ وَفِي الرقَاق عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَأَعَادَهُ فِي الرقَاق عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خضرَة) ، التَّأْنِيث إِمَّا بِاعْتِبَار الْأَنْوَاع أَو الصُّورَة أَو تَقْدِيره، كالفاكهة الخضرة الحلوة، شبه المَال فِي الرَّغْبَة فِيهِ بهَا فَإِن الْأَخْضَر مَرْغُوب من حَيْثُ النّظر، والحلو من حَيْثُ الذَّوْق، فَإِذا اجْتمعَا زادا فِي الرَّغْبَة، حَاصله أَن التَّشْبِيه فِي الرَّغْبَة فِيهِ والميل إِلَيْهِ وحرص النُّفُوس عَلَيْهِ بالفاكهة الخضراء المستلذة، فَإِن الْأَخْضَر مَرْغُوب فِيهِ على انْفِرَاده، والحلو كَذَلِك على انْفِرَاده، فاجتماعهما أَشد، وَفِيه أَيْضا إِشَارَة إِلَى عدم بَقَائِهِ لِأَن الخضراوات لَا تبقى وَلَا ترَاد للبقاء. قَوْله: (فَمن أَخذه بسخاوة) ، نفس أَي: بِغَيْر شَره وَلَا إلحاح، وَفِي رِوَايَة: (بِطيب نفس) . فَإِن قلت: السخاوة ءنما هِيَ فِي الْإِعْطَاء لَا فِي الْأَخْذ. قلت: السخاوة فِي الأَصْل السهولة، وَالسعَة. قَالَ القَاضِي: فِيهِ احْتِمَالَانِ: أظهرهمَا أَنه عَائِد إِلَى الْآخِذ، أَي من أَخذه بِغَيْر حرص وطمع وإشراف عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: إِلَى الدَّافِع، أَي: من أَخذه مِمَّن يَدْفَعهُ منشرحا بِدَفْعِهِ طيب النَّفس لَهُ. قَوْله: (بإشراف نفس) الإشراف على الشَّيْء: الِاطِّلَاع عَلَيْهِ والتعرض لَهُ، وَقيل: معنى إشراف نفس أَن المسؤول يُعْطِيهِ عَن تكره. وَقيل: يُرِيد بِهِ شدَّة حرص السَّائِل وإشرافه على الْمَسْأَلَة. قَوْله: (لم يُبَارك لَهُ فِيهِ) الضَّمِير فِي: لَهُ، يرجع إِلَى الْآخِذ، وَفِي: فِيهِ، إِلَى المعطَى بِفَتْح الطَّاء، وَمَعْنَاهُ: إِذْ لم يمْنَع نَفسه الْمَسْأَلَة وَلم يصن مَاء وَجهه لم يُبَارك لَهُ فِيمَا أَخذ وَأنْفق. قَوْله: (كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع) أَي: كمن بِهِ الْجُوع الْكَاذِب، وَقد يُسمى بجوع الْكَلْب كلما ازْدَادَ أكلا ازْدَادَ جوعا لِأَنَّهُ يَأْكُل من سقم كلما أكل ازْدَادَ سقما وَلَا يجد شبعا وَيَزْعُم أهل الطِّبّ أَن ذَلِك من غَلَبَة السَّوْدَاء، ويسمونها: الشَّهْوَة الْكَلْبِيَّة، وَهِي صفة لمن يَأْكُل وَلَا يشْبع. قلت:(9/52)
الظَّاهِر أَنه من غَلَبَة السَّوْدَاء وشدتها كلما ينزل الطَّعَام فِي معدته يَحْتَرِق وإلاَّ فَلَا يتَصَوَّر أَن يسع فِي الْمعدة أَكثر مَا يسع فِيهِ، وَقد ذكر أهل الْأَخْبَار أَن رجلا من أهل الْبَادِيَة أكل جملا وَامْرَأَته أكلت فصيلاً ثمَّ أَرَادَ أَن يُجَامِعهَا فَقَالَت: بيني وَبَيْنك جمل وفصيل كَيفَ يكون ذَاك؟ قَوْله: (الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب لَا صَدَقَة إلاَّ عَن ظهر غنى. قَوْله: (لَا أرزأ) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الزَّاي وبالهمزة: مَعْنَاهُ لَا أنقص مَاله بِالطَّلَبِ، وَفِي (النِّهَايَة) : مَا رزأته أَي: مَا نقصته، وَفِي رِوَايَة لإسحاق: (قلت: فوَاللَّه لَا تكون يَدي بعْدك تَحت يَد من أَيدي الْعَرَب. قلت: هَذَا معنى قَوْله: (بعْدك) ، الْخطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: غَيْرك، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ امْتنع من الْأَخْذ مُطلقًا وَهُوَ مبارك إِذا كَانَ بسعة الصَّدْر مَعَ عدم الإشراف؟ قلت: مُبَالغَة فِي الِاحْتِرَاز إِذْ مُقْتَضى الجبلة الإشراف والحرص وَالنَّفس سراقَة والعرق دساس، وَمن حام حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ. قَوْله: (فَأبى أَن يقبل مِنْهُ) ، أَي: فَامْتنعَ حَكِيم أَن يقبل عَطاء من أبي بكر فِي الأول، وَمن عمر فِي الثَّانِي، وَجه امْتِنَاعه من أَخذ الْعَطاء مَعَ أَنه حَقه لِأَنَّهُ خشِي أَن يقبل من أحد شَيْئا فيعتاد الْأَخْذ فتتجاوز بِهِ نَفسه إِلَى مَا لَا يُريدهُ، ففطمها عَن ذَلِك وَترك مَا يرِيبهُ إِلَى مَا لَا يرِيبهُ، وَلِأَنَّهُ خَافَ أَن يفعل خلاف مَا قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لِأَنَّهُ قَالَ: لَا أرزأ أحدا بعْدك) . حَتَّى روى فِي رِوَايَة: (وَلَا مِنْك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا مني) . قَوْله: (فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي أشهدكم) إِنَّمَا أشهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على حَكِيم لِأَنَّهُ خشِي سوء التَّأْوِيل، فَأَرَادَ تبرئة ساحته بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَأَن أحدا لَا يسْتَحق شَيْئا من بَيت المَال بعد أَن يُعْطِيهِ الإِمَام إِيَّاه. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَأما قبل ذَلِك فَلَيْسَ بمستحق لَهُ، وَلَو كَانَ مُسْتَحقّا لَهُ لقضى عمر على حَكِيم بِأَخْذِهِ، ذَلِك يدل عَلَيْهِ قَول الله تَعَالَى، حِين ذكر قسم الصَّدقَات، وَفِي أَي الْأَقْسَام يقسم أَيْضا: {كَيْلا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . الْآيَة. فَإِنَّمَا هُوَ لمن أوتيه لَا لغيره. وَإِنَّمَا قَالَ الْعلمَاء فِي إِثْبَات الْحُقُوق فِي بَيت المَال مشددا على غير المرضى من السلاطين ليغلقوا بَاب الامتداد إِلَى أَمْوَال الْمُسلمين، وَالسَّبَب إِلَيْهَا بِالْبَاطِلِ، وَيدل على ذَلِك أَن من سرق بَيت المَال أَنه يقطع، وزنى بِجَارِيَة من الفىء أَنه يحد، وَلَو اسْتحق فِي بَيت المَال أَو فِي الْفَيْء شَيْئا على الْحَقِيقَة قبل إِعْطَاء السُّلْطَان لَهُ لكَانَتْ شُبْهَة تدرأ الْحَد عَنهُ. قلت: جُمْهُور الْأمة على أَن للْمُسلمين حَقًا فِي بَيت المَال والفيء، وَلَكِن الإِمَام بقسمه على اجْتِهَاده، فعلى هَذَا لَا يجب الْقطع وَلَا الْحَد للشُّبْهَة وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقه فِي: بَاب الِاجْتِهَاد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (حَتَّى توفّي) ، زَاد إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) من طَرِيق معمر بن عبد الله بن عُرْوَة مُرْسلا: أَنه مَا أَخذ من أبي بكر وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان وَلَا مُعَاوِيَة ديوانا وَلَا غَيره حَتَّى مَاتَ لعشر سِنِين من إِمَارَة مُعَاوِيَة، وَزَاد ابْن إِسْحَاق أَيْضا فِي (مُسْنده) من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: فَمَاتَ حيت مَاتَ وَأَنه لمن أَكثر قُرَيْش مَالا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَا قَالَ الْمُهلب: إِن سُؤال السُّلْطَان الْأَكْبَر لَيْسَ بِعَارٍ. وَفِيه: أَن السَّائِل إِذا ألحف لَا بَأْس برده وموعظته وَأمره بالتعفف وَترك الْحِرْص. وَفِيه: أَن الْإِنْسَان لَا يسْأَل إِلَّا عِنْد الْحَاجة والضرورة لِأَنَّهُ إِذا كَانَت يَده السُّفْلى مَعَ إِبَاحَة الْمَسْأَلَة فَهُوَ أَحْرَى أَن يمْتَنع من ذَلِك عِنْد غير الْحَاجة. وَفِيه: أَن من كَانَ لَهُ حق عِنْد أحد فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَخذه إِذا أَتَى، فَإِن كَانَ مِمَّا لَا يسْتَحقّهُ إلاَّ ببسط الْيَد فَلَا يجْبر على أَخذه، وَفِيه: مَا قَالَ ابْن أبي جَمْرَة: قد يَقع الزّهْد مَعَ الْأَخْذ، فَإِن سخاوة النَّفس هُوَ زهدها. تَقول: سخت بِكَذَا أَي: جَادَتْ، وسخت عَن كَذَا أَي: لم تلْتَفت إِلَيْهِ. وَفِيه: أَن الْأَخْذ مَعَ سخاوة النَّفس يحصل أجر الزّهْد وَالْبركَة فِي الرزق، فَظهر أَن الزّهْد يحصل خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَفِيه: ضرب الْمثل بِمَا لَا يعقله السَّامع من الْأَمْثِلَة، لِأَن الْغَالِب من النَّاس لَا يعرف الْبركَة إلاَّ فِي الشَّيْء الْكثير، فَبين بالمثال الْمَذْكُور أَن الْبركَة هِيَ خلق من خلق الله تَعَالَى، وَضرب لَهُم الْمثل بِمَا يعهدون بِالْأَكْلِ إِنَّمَا يُؤْكَل ليشبع فَإِذا أكل وَلم يشْبع كَانَ عناء فِي حَقه بِغَيْر فَائِدَة، وَكَذَلِكَ المَال لَيست الْفَائِدَة فِي عينه وَإِنَّمَا هِيَ لما يتَحَصَّل بِهِ من الْمَنَافِع، فَإِذا كثر المَال عِنْد الْمَرْء بِغَيْر تَحْصِيل مَنْفَعَة كَانَ وجوده كَالْعدمِ. وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للْإِمَام أَن لَا يبين للطَّالِب مَا فِي مَسْأَلته من الْمفْسدَة إلاَّ بعد قَضَاء حَاجته لتقع موعظته لَهُ الْموقع لِئَلَّا يتخيل أَن ذَلِك سَبَب لمَنعه حَاجته. وَفِيه: جَوَاز تكَرر السُّؤَال ثَلَاثًا. وَجَوَاز الْمَنْع فِي الرَّابِعَة. وَفِيه: أَن رد السَّائِل بعد ثَلَاث لَيْسَ بمكروه. وَأَن الْإِجْمَال فِي الطّلب مقرون بِالْبركَةِ.(9/53)
15 - (بابُ مَنْ أعْطَاهُ الله شَيْئا مِنْ غَيْرِ مَسْئلَةٍ وَلاَ إشْرَافِ نَفْسٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أعطَاهُ الله. . إِلَى آخِره، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: فليقبل، وَهَذَا هُوَ الحكم، وَإِنَّمَا حذفه اكْتِفَاء بِمَا دلّ عَلَيْهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا حذفه للْعلم بِهِ وَفِيه نظر، لِأَن مُرَاده إِن كَانَ علمه من الْخَارِج فَلَا نسلم أَنه يُعلمهُ مِنْهُ، وَإِن كَانَ من الحَدِيث فَلَا يُقَال إلاَّ بِمَا قُلْنَا لِأَنَّهُ الْأَوْجه والأسد. قَوْله: (من غير مَسْأَلَة) أَي: من غير سُؤال، وَالْمَسْأَلَة مصدر ميمي من سَأَلَ. قَوْله: (وَلَا إشراف) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ التَّعَرُّض للشَّيْء والحرص عَلَيْهِ من قَوْلهم: أشرف على كَذَا إِذا تطاول لَهُ، وَمِنْه قيل للمكان المتطاول: شرف.
{وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ} (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) .
لَيْسَ هَذَا بموجود عِنْد أَكثر الروَاة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي الْآيَة مُقَدّمَة على قَوْله: من أعطَاهُ الله شَيْئا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل والمحروم} (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) . وَكَذَا فِي نُسْخَة، وَفِي أُخْرَى: بَاب من أعطَاهُ الله ... إِلَى آخِره، وَكَأَنَّهُ أليق بِالْحَدِيثِ. قَوْله: {وَفِي أَمْوَالهم} (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52) . أَي: وَفِي أَمْوَال الْمُتَّقِينَ الْمَذْكُورين قبل هَذِه الْآيَة وَهِي قَوْله: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون آخذين مَا آتَاهُم رَبهم إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك محسنين كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل والمحروم} (الذاريات: 51 91) . والسائل هُوَ الَّذِي يسْأَل النَّاس ويستجدي، والمحروم الَّذِي يحْسب غَنِيا فَيحرم الصَّدَقَة لتعففه. وَقيل: المحروم المحارف الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَام سهم، وَقيل: المحارف الَّذِي لَا يكَاد يكْسب، وَعَن عِكْرِمَة: المحروم الَّذِي لَا ينمى لَهُ مَال، وَعَن زيد بن أسلم: هُوَ الْمُصَاب بثمره وزرعه أَو مَاشِيَته. وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: هُوَ صَاحب الْحَاجة، والمحارف، بِفَتْح الرَّاء: المنقوص الْحَظ الَّذِي لَا يُثمر لَهُ مَال، وَهُوَ خلاف الْمُبَارك، والعوام بِكَسْر الرَّاء، وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة جمَاعَة من التَّابِعين، وَمن الصَّحَابَة أَبُو ذَر على أَن فِي المَال حَقًا غير الزَّكَاة. وَقَالَ الْجُمْهُور: المُرَاد من الْحق هُوَ الزَّكَاة، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِأَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث الْأَعرَابِي فِي (الصَّحِيح) (هَل عَليّ غَيرهَا؟ قَالَ: لَا إلاَّ إِن تطوع) فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث أبي سعيد، قَالَ: (بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سفر إِذْ جَاءَ رجل على رَاحِلَته، فَجعل يصرفهَا يَمِينا وَشمَالًا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من كَانَ لَهُ فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا ظهر لَهُ، وَمن كَانَ عِنْده فضل زَاد فليعد بِهِ على من لَا زَاد لَهُ، حَتَّى ظننا أَنه لَا حق لأحد منا فِي الْفضل) . فَفِيهِ: إِيجَاب إِنْفَاق الْفضل من الْأَمْوَال. قلت: الْأَمر بإنفاق الْفضل أَمر إرشاد وَندب إِلَى الْفضل، وَقيل: كَانَ ذَلِك قبل نزُول فرض الزَّكَاة، وَنسخ بهَا كَمَا نسخ صَوْم عَاشُورَاء بِصَوْم رَمَضَان، وَعَاد ذَلِك فضلا وفضيلة بَعْدَمَا كَانَ فَرِيضَة.
3741 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سالِمٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعْطِيني العَطَاءَ فأقُولُ أعْطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إليْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ إذَا جاءَكَ مِنْ هاذا المالِ شَيءٌ وأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سائِلٍ فَخُذْهُ وَما لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خُذْهُ إِذا جَاءَك من هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف وَلَا سَائل) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيُونُس وَالزهْرِيّ قد ذكرا فِي سَنَد حَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع عَن شُعَيْب. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن هَارُون بن مَعْرُوف وحرملة بن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَأَقُول: أعْطه من هُوَ أفقر مني) ، زَاد فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ الْآتِيَة فِي الْأَحْكَام: (حَتَّى أَعْطَانِي مرّة مَالا فَقلت: أعْطه أفقر إِلَيْهِ مني، فَقَالَ: خُذْهُ فتموله وَتصدق بِهِ) . وَذكر شُعَيْب فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ إِسْنَادًا آخر، قَالَ: أَخْبرنِي السَّائِب(9/54)
بن يزِيد أَن حويطب بن عبد الْعُزَّى أخبرهُ أَن عبد الله بن السَّعْدِيّ أخبرهُ أَنه قدم على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي خِلَافَته، فَذكر قصَّة فِيهَا هَذَا الحَدِيث، والسائب وَمن فَوْقه صحابة فَفِيهِ أَرْبَعَة من الصَّحَابَة فِي نسق. قَوْله: (إِذا جَاءَك) شَرط وجزاؤه قَوْله: (فَخذه) ، وَأطلق الْأَخْذ أَولا بِالْأَمر، وعلق ثَانِيًا بِالشّرطِ، فَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد. قَوْله: (وَأَنت غير مشرف) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَقد مضى تَفْسِير الإشراف. قَوْله: (وَمَا لَا) أَي: وَمَا لَا يكون كَذَلِك بِأَن لَا يَجِيء إِلَيْك وتميل نَفسك إِلَيْهِ (فَلَا تتبعه نَفسك) فِي الطّلب واتركه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الطَّبَرِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي قَوْله: (فَخذه) بعد إِجْمَاعهم على أَنه أَمر ندب وإرشاد. فَقَالَ بَعضهم: هُوَ ندب لكل من أعطي عَطِيَّة أَن يقبلهَا سَوَاء كَانَ الْمُعْطِي سُلْطَانا أَو غَيره، صَالحا كَانَ أَو فَاسِقًا، بعد أَن كَانَ مِمَّن تجوز عطيته. رُوِيَ (عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: مَا أحد يهدي إِلَيّ هَدِيَّة إلاَّ قبلتها، فَأَما أَن أسأَل، فَلَا) وَعَن أبي الدَّرْدَاء مثله، وَقبلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من مُعَاوِيَة. وَقَالَ حبيب بن أبي ثَابت: رَأَيْت هَدَايَا الْمُخْتَار تَأتي ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فيقبلانها، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جوائز السُّلْطَان لحم ظَبْي زكي، وَبعث سعيد بن الْعَاصِ إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَدَايَا فقبلها، وَقَالَ: خُذ مَا أعطوك. وَأَجَازَ مُعَاوِيَة الْحُسَيْن بأربعمائة ألف، وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن هَدَايَا السُّلْطَان، فَقَالَ: إِن علمت أَنه من غصب وسحت فَلَا تقبله، وَإِن لم تعرف ذَلِك فاقبله، ثمَّ ذكر قصَّة بَرِيرَة، وَقَالَ الشَّارِع: هُوَ لنا هَدِيَّة، وَقَالَ: مَا كَانَ من مأثم فَهُوَ عَلَيْهِم، وَمَا كَانَ من مهنأ فَهُوَ لَك، وَقبلهَا عَلْقَمَة وَالْأسود وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَالشعْبِيّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذَلِك ندب مِنْهُ أمته إِلَى قبُول عَطِيَّة غير ذِي سُلْطَان، فَأَما السُّلْطَان فَإِن بَعضهم كَانَ يَقُول: حرَام قبُول عطيته، وَبَعْضهمْ كرهها، وَرُوِيَ أَن خَالِد بن أسيد أعْطى مسروقا ثَلَاثِينَ ألفا فَأبى أَن يقبلهَا. فَقيل لَهُ: لَو أَخَذتهَا فوصلت بهَا رَحِمك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو أَن لصا نقب بَيْتا مَا أُبَالِي أَخَذتهَا أَو أخذت ذَلِك، وَلم يقبل ابْن سِيرِين وَلَا ابْن محيريز من السُّلْطَان، وَقَالَ هِشَام بن عُرْوَة: بعث إِلَيّ عبد الله ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَإِلَى أخي بِخَمْسِمِائَة دِينَار، فَقَالَ أخي: درها فَمَا أكلهَا أحد وَهُوَ غَنِي عَنْهَا إلاَّ أحوجه الله إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كره جوائز السُّلْطَان مُحَمَّد بن وَاسع وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَأحمد. وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذَلِك ندب إِلَى قبُول هَدِيَّة السُّلْطَان دون غَيره، وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة قَالَ: إِنَّا لَا نقبل إلاَّ من الْأُمَرَاء. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَالصَّوَاب عِنْدِي أَنه ندب مِنْهُ إِلَى قبُول عَطِيَّة كل معط جَائِزَة لسلطان كَانَت أَو غَيرهَا لحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فندبه إِلَى قبُول كل مَا آتَاهُ الله من المَال من جَمِيع وجوهه من غير تَخْصِيص سوى مَا اسْتَثْنَاهُ، وَذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ من وَجه حرَام عَلَيْهِ، وَعلم بِهِ.
وَوجه من رد أَنه إِنَّمَا كَانَ على من كَانَ الْأَغْلَب من أمره أَنه لَا يَأْخُذ المَال من وَجهه، فَرَأى أَن الأسلم لدينِهِ وَالْإِبْرَاء لعرضه تَركه، وَلَا يدْخل فِي ذَلِك مَا إِذا علم حرمته. وَوجه من قبل مِمَّن لم يبال من أَيْن أَخذ المَال وَلَا فِيمَا وَضعه أَنه يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: مَا علم حلّه يَقِينا فَلَا يسْتَحبّ رده، وَعَكسه فَيحرم قبُوله، وَمَا لَا فَلَا يُكَلف الْبَحْث عَنهُ، وَهُوَ فِي الظَّاهِر أولى بِهِ من غَيره مَا لم يسْتَحق.
وَأما مبايعة من يخالط مَاله الْحَرَام وَقبُول هداياه فكره ذَلِك قوم وَأَجَازَهُ آخَرُونَ. فَمِمَّنْ كرهه: عبد الله بن يزِيد وَأَبُو وَائِل وَالقَاسِم وَسَالم، وَرُوِيَ أَنه توفيت مولاة لسالم كَانَت تبيع الْخمر بِمصْر فَترك مِيرَاثهَا أَيْضا. وَقَالَ مَالك: قَالَ عبد الله بن يزِيد بن هُرْمُز: إِنِّي لَا أعجب مِمَّن يرْزق الْحَلَال ويرغب فِي الرِّبْح فِيهِ الشَّيْء الْيَسِير من الْحَرَام فَيفْسد المَال كُله، وَكره الثَّوْريّ المَال الَّذِي يخالطه الْحَرَام، وَمِمَّنْ أجَازه ابْن مَسْعُود، رُوِيَ عَنهُ أَن رجلا سَأَلَهُ فَقَالَ فِي جَار: لَا يتورع من أكل الرِّبَا وَلَا من أَخذ مَا لَا يصلح، وَهُوَ يَدْعُونَا إِلَى طَعَامه وَتَكون لنا الْحَاجة فنستقرضه؟ فَقَالَ: أجبه إِلَى طَعَامه واستقرضه، فَلَكَ المهنأ وَعَلِيهِ المأثم، وَسُئِلَ ابْن عمر عَن رجل أكل طَعَام من يَأْكُل الرِّبَا فَأَجَازَهُ، وَسُئِلَ النَّخعِيّ عَن الرجل يَأْتِي المَال من الْحَلَال وَالْحرَام، قَالَ: لَا يحرم عَلَيْهِ إلاَّ الْحَرَام بِعَيْنِه. وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مر بالعشَّارين وَفِي أَيْديهم شماريخ، فَقَالَ: ناولونيها من سحتكم هَذَا إِنَّه حرَام عَلَيْكُم وعلينا حَلَال. وَأَجَازَ الْبَصْرِيّ طَعَام العشار والضراب وَالْعَامِل وَعَن مَكْحُول وَالزهْرِيّ: إِذا اخْتَلَط الْحَرَام والحلال فَلَا بَأْس بِهِ فَإِنَّمَا يكره من ذَلِك شَيْء يعرف بِعَيْنِه، وَأَجَازَهُ ابْن أبي ذِئْب، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَاحْتج من رخص فِيهِ بِأَن الله تَعَالَى ذكر الْيَهُود، فَقَالَ: {سماعون للكذب أكالون للسحت} (الْمَائِدَة: 24) . وقدرهن الشَّارِع درعه عِنْد يَهُودِيّ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي إِبَاحَة الله تَعَالَى أَخذ الْجِزْيَة من أهل الْكتاب مَعَ علمه بِأَن أَكثر(9/55)
أَمْوَالهم أَثمَان الْخُمُور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا أبين الدّلَالَة على أَن من كَانَ من أهل الْإِسْلَام بِيَدِهِ مَال لَا يدْرِي أَمن حرَام كَسبه أَو من حَلَال؟ فَإِنَّهُ لَا يحرم قبُوله لمن أعطَاهُ، وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يُبَالِي اكْتَسبهُ من غير حلّه بعد أَن لَا يعلم أَنه حرَام بِعَيْنِه، وَبِنَحْوِ ذَلِك قَالَت الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن كرهه فَإِنَّمَا ركب فِي ذَلِك طَرِيق الْوَرع وتجنب الشُّبُهَات والاستبراء لدينِهِ.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور أَن للْإِمَام أَن يُعْطي الرجل وَغَيره أحْوج إِلَيْهِ مِنْهُ إِذا رأى لذَلِك وَجها، وَأَن مَا جَاءَ من المَال الْحَلَال من غير سُؤال فَإِن أَخذه خير من تَركه، وَإِن رد عَطاء الإِمَام لَيْسَ من الْأَدَب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا فِيمَن جَاءَهُ مَال: هَل يجب قبُوله؟ الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنه يسْتَحبّ فِي غير عَطِيَّة السُّلْطَان، وَأما عطيته فَالصَّحِيح أَنه إِن غلب الْحَرَام فِيمَا فِي يَده فَحَرَام، وإلاَّ فمباح وَقَالَت طَائِفَة: الْأَخْذ وَاجِب من السُّلْطَان لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . فَإِذا لم يَأْخُذهُ فَكَأَنَّهُ لم يأتمر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ معنى هَذَا الحَدِيث فِي الصَّدقَات، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَال الَّتِي يقسمها الإِمَام على أَغْنِيَاء النَّاس وفقرائهم، فَكَانَت تِلْكَ الْأَمْوَال يعطاها النَّاس لَا من جِهَة الْفقر، وَلَكِن من حُقُوقهم فِيهَا، فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر حِين أعطَاهُ قَوْله: (أعْطه من هُوَ أفقر إِلَيْهِ مني) لِأَنَّهُ إِنَّمَا أعطَاهُ لِمَعْنى غير الْفقر، ثمَّ قَالَ لَهُ: خُذْهُ فتموله، كَذَا رَوَاهُ شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، فَدلَّ أَن ذَلِك لَيْسَ من أَمْوَال الصَّدقَات، لِأَن الْفَقِير لَا يَنْبَغِي أَن يَأْخُذهُ من الصَّدقَات مَا يَتَّخِذهُ مَالا كَانَ عَن مَسْأَلَة أَو غير مَسْأَلَة.
25 - (بابُ مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّرا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من سَأَلَ النَّاس لأجل التكثر، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: من سَأَلَ النَّاس لأجل التكثر فَهُوَ مَذْمُوم، وَوجه الْحَذف قد ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمَة الْبَاب السَّابِق. قيل: حَدِيث الْمُغيرَة فِي النَّهْي عَن كَثْرَة السُّؤَال الَّذِي أوردهُ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ أصرح فِي مَقْصُود التَّرْجَمَة من حَدِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا آثره عَلَيْهِ لِأَن من عَادَته أَن يترجم بالأخفى. قلت: دلَالَة حَدِيث الْبَاب على السُّؤَال تكثرا غير خُفْيَة، لِأَن قَوْله: (لَا يزَال الرجل يسْأَل النَّاس) يدل على كَثْرَة السُّؤَال، وَكَثْرَة السُّؤَال لَا تكون إلاَّ لأجل التكثر على مَا لَا يخفى، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا، أَو لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بالسؤال فِي حَدِيث الْمُغيرَة النَّهْي عَن الْمسَائِل المشكلة كالأغلوطات. أَو السُّؤَال عَمَّا لَا يَعْنِي، أَو عَمَّا لم يَقع مِمَّا يكره وُقُوعه؟ قلت: هَذَا الْوَجْه بَيَان اعتذار من جِهَة البُخَارِيّ فِي تَركه حَدِيث الْمُغيرَة فِي هَذَا الْبَاب، وَلَكِن الْوُجُوه الثَّلَاثَة الَّتِي زعم أَن حَدِيث الْمُغيرَة فِي قَوْله (وَكَثْرَة السُّؤَال) تحتملها فِيهِ نظر، لِأَنَّهَا دَاخِلَة تَحت قَوْله: (قيل، وَقَالَ) وَقَوله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) تمحض لسؤال النَّاس لأجل التكثر، وَفِيه زِيَادَة فَائِدَة على مَا لَا يخفى، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأَشَارَ مَعَ ذَلِك إِلَى حَدِيث لَيْسَ على شَرطه، وَهُوَ مَا أخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيق حُبَيْش بن جُنَادَة فِي أثْنَاء حَدِيث مَرْفُوع، وَفِيه: (من سَأَلَ النَّاس ليثري مَاله كَانَ خموشا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة، فَمن شَاءَ فليقلَّ وَمن شَاءَ فليكثر) . قلت: لَا نسلم أَولا وَجه هَذِه الْإِشَارَة، وَلَئِن سلمنَا فَلَا فَائِدَة فِيهَا إِذْ الْوَاقِف على هَذِه التَّرْجَمَة إِن كَانَ قد وقف على حَدِيث حُبَيْش قبل ذَلِك فَلَا فَائِدَة فِي الْإِشَارَة إِلَيْهِ، وإلاَّ فَيحْتَاج فِيهِ إِلَى الْعلم من الْخَارِج فَلَا يكون ذَلِك من إِشَارَته إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم عطيب كَلَام هَذَا الْقَائِل: وَفِي (صَحِيح مُسلم) من طَرِيق أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة مَا هُوَ مُطَابق للفظ التَّرْجَمَة، فاحتمال كَونه أَشَارَ إِلَيْهِ أولى، وَلَفظه: (من سَأَلَ النَّاس تكثرا فَإِنَّمَا يسْأَل جمرا) قلت: هَذَا الَّذِي ذكره أَنما يتَوَجَّه إِذا كَانَ البُخَارِيّ قد وقف عَلَيْهِ، وَلَئِن سلمنَا وُقُوفه عَلَيْهِ فَلَا نسلم الْتِزَامه أَن تكون الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة، والْحَدِيث من كل وَجه على مَا لَا يخفى.
4741 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبي جَعْفرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمزةَ بنَ عَبدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَزالُ الرَّجُلُ يَسألُ حَتى يَأتِي يومُ القِيَامَةِ لَيسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ. وقَالَ إنَّ الشَّمْسَ(9/56)
تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فبَيْنَا هُمْ كذالِكَ اسْتَغاثُوا بآدَمَ ثُمَّ بِمُوسى ثُمَّ بَمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَزَادَ عَبْدُ الله حدَّثني اللَّيْثُ حدَّثني ابنُ أبي جَعْفَرٍ فيَشْفَعُ لِيُقْضى بَينَ الخَلْقِ فيَمْشِي حَتَّى يأخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ الله مَقَاما مَحْمُودا يَحْمَدُهُ أهْلِ الجَمْعِ كُلُّهُمْ.
(الحَدِيث 5741 طرفه فِي: 8174) .
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث قد علم مِمَّا ذكرنَا آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن بكير. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن أبي جَعْفَر، واسْمه يسَار، مر فِي: بَاب الْجنب يتَوَضَّأ، فِي كتاب الْغسْل. الرَّابِع: حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، مر فِي: بَاب فضل الْعلم. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّادِس: عبد الله بن صَالح، كَاتب اللَّيْث.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسم جده وَاسم أَبِيه عبد الله بن بكير، وَهُوَ وَاللَّيْث وَعبيد الله بن أبي جَعْفَر وَعبد الله بن صَالح مصريون وَحَمْزَة بن عبد الله مدنِي أما عبد الله بن صَالح فَفِيهِ مقَال: قَالَ ابْن عدي: سقيم الحَدِيث، وَلَكِن البُخَارِيّ روى عَنهُ فِي صَحِيحه على الصَّحِيح، وَلكنه يُدَلس، فَيَقُول: حَدثنَا عبد الله وَلَا ينْسبهُ، وَهُوَ هُوَ، نعم قد علق البُخَارِيّ، حَدِيثا فَقَالَ فِيهِ: قَالَ اللَّيْث ابْن سعد: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة، ثمَّ قَالَ فِي آخر الحَدِيث: حَدثنِي عبد الله بن صَالح، حَدثنَا اللَّيْث فَذكره وَلَكِن هَذَا عِنْد ابْن حمويه السَّرخسِيّ دون صَاحِبيهِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه النَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم عَن شُعَيْب ابْن اللَّيْث عَن أَبِيه بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مزعة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة: الْقطعَة. وَقَالَ ابْن التِّين: ضَبطه بَعضهم بِفَتْح الْمِيم وَالزَّاي، قَالَ أَبُو الْحسن: وَالَّذِي أحفظه عَن الْمُحدثين الضَّم. وَقَالَ ابْن فَارس بِكَسْر الْمِيم، وَاقْتصر عَلَيْهِ الْقَزاز فِي (جَامعه) وَذكر ابْن سَيّده الضَّم فَقَط، وَكَذَا الْجَوْهَرِي قَالَ، وبالكسر: من الريش والقطن، يُقَال: مزعت اللَّحْم قطعته قِطْعَة قِطْعَة، وَيُقَال: أطْعمهُ مزعة من لحم، أَي: قِطْعَة مِنْهُ. قَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَنه يَأْتِي سَاقِطا لَا قدر لَهُ وَلَا جاه، أَو يعذب فِي وَجهه حَتَّى يسْقط لَحْمه لمشاكلة الْعقُوبَة فِي مَوَاضِع الْجِنَايَة من الْأَعْضَاء، لكَونه أذلّ وَجهه بالسؤال أَو أَنه يبْعَث وَوَجهه عظم كُله فَيكون ذَلِك شعاره الَّذِي يعرف بِهِ. وَقَالَ ابْن أبي جَمْرَة: مَعْنَاهُ أَنه لَيْسَ فِي وَجهه من الْحسن شَيْء لِأَن حسن الْوَجْه هُوَ مِمَّا فِيهِ من اللَّحْم. قَوْله: (وَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الشَّمْس تَدْنُو) أَي: تقرب من الدنو، وَهُوَ الْقرب، وَوجه اتِّصَال هَذَا بِمَا قبله هُوَ أَن الشَّمْس إِذا دنت يَوْم الْقِيَامَة يكون أذاها لمن لَا لحم لَهُ فِي وَجهه أَكثر وَأَشد من غَيره. قَوْله: (حَتَّى يلغ الْعرق) ، أَي: حَتَّى يتسخن النَّاس من دنو الشَّمْس فيتعرقون فَيبلغ الْعرق نصف الْأذن. قَوْله: (فبيناهم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين فزيدت الْألف بإشباع فَتْحة النُّون، يُقَال: بَينا وبينما، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة فعلية أَو إسمية ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَابه قَوْله: (اسْتَغَاثُوا) ، والأفصح فِي جَوَابه أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا، كَمَا وَقع هُنَا بِدُونِ وَاحِد مِنْهُمَا، وَقد يُقَال: بَينا زيد جَالس إِذْ دخل عَلَيْهِ عَمْرو، وَإِذا دخل عَلَيْهِ عَمْرو. قَوْله: (ثمَّ بِمُحَمد) أَي: ثمَّ اسْتَغَاثُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه اخْتِصَار، إِذْ يستغاث بِغَيْر آدم ومُوسَى أَيْضا، وَسَيَأْتِي فِي الرقَاق فِي حَدِيث طَوِيل فِي الشَّفَاعَة ذكر من يقصدونه بَين آدم ومُوسَى وَبَين مُوسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَزَاد عبد الله) يحْتَمل التَّعْلِيق حَيْثُ لم يضفه إِلَى نَفسه وَلم يقل: زادني. قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَعَلَّ المُرَاد بِمَا حكى الغساني عَن أبي عبد الله الْحَاكِم أَن البُخَارِيّ لم يخرج عَن عبد ابد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث فِي (الصَّحِيح) شَيْئا إِنَّه لم يخرج عَنهُ حَدِيثا تَاما مُسْتقِلّا. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَنه روى عَنهُ وَلم ينْسبهُ على وَجه التَّدْلِيس. قَوْله: (زَاد عبد الله) ، هَكَذَا وَقع عِنْد أبي ذَر، وَسقط عِنْد الْأَكْثَرين. وَفِي (التَّلْوِيح) : قَول البُخَارِيّ: وَزَاد عبد الله، يَعْنِي: ابْن صَالح كَاتب اللَّيْث بن سعد، قَالَه أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ وَخلف فِي (الْأَطْرَاف) وَوَقع أَيْضا(9/57)
فِي بعض الْأُصُول مَنْسُوبا وَفِي الْإِيمَان لِابْنِ مَنْدَه من طَرِيق أبي زرْعَة الرَّاوِي عَن يحيى بن بكير وَعبد الله بن صَالح جَمِيعًا عَن اللَّيْث، وَسَاقه بِلَفْظ عبد الله بن صَالح، وَقد رَوَاهُ مَوْصُولا من طَرِيق عبد الله بن صَالح وَحده الْبَزَّار عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصَّاغَانِي وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن مطلب بن شُعَيْب وَابْن مَنْدَه فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق يحيى بن عُثْمَان، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الله بن صَالح فَذكره، وَزَاد بعد قَوْله: (اسْتَغَاثُوا بِآدَم فَيَقُول لست بِصَاحِب ذَلِك) ، وتابع عبد الله بن صَالح على هَذِه الزِّيَادَة عبد الله بن عبد الحكم عَن اللَّيْث أخرجه ابْن مَنْدَه أَيْضا. قَوْله: (بِحَلقَة الْبَاب) أَي: بَاب الْجنَّة، أَو هُوَ مجَاز عَن الْقرب إِلَى الله. قَوْله: (مقَاما مَحْمُودًا) هُوَ مقَام الشَّفَاعَة الْعُظْمَى الَّتِي اخْتصّت بِهِ لَا شريك لَهُ فِي ذَلِك، وَهُوَ إراحة أهل الْموقف من أهواله بِالْقضَاءِ بَينهم والفراغ من حسابهم. قَوْله: (أهل الْجمع) أَي: أهل الْمَحْشَر، وَهُوَ يَوْم مَجْمُوع فِيهِ جَمِيع النَّاس من الْأَوَّلين والآخرين.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: مَا نقل ابْن بطال عَن الْمُهلب، فهم البُخَارِيّ أَن الَّذِي يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة لَا لحم فِي وَجهه من كَثْرَة السُّؤَال، إِنَّه للسَّائِل تكثرا لغير ضَرُورَة إِلَى السُّؤَال، وَمن سَأَلَ تكثرا فَهُوَ غَنِي لَا تحل لَهُ الصَّدَقَة وَإِذا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة لَا لحم على وَجهه فتؤذيه الشَّمْس أَكثر من غَيره، أَلا ترى قَوْله فِي الحَدِيث: (الشَّمْس تَدْنُو حَتَّى يبلغ الْعرق) ، فحذر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الإلحاف فِي الْمَسْأَلَة لغير حَاجَة إِلَيْهَا وَأما من سَأَلَ مُضْطَرّا فمباح لَهُ ذَلِك إِذا لم يجد عَنْهَا بدا وَرَضي بِمَا قسم لَهُ ويرجي أَن يُؤجر عَلَيْهَا. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: يبلغ عرق الْكَافِر، فإمَّا أَن يكون سكت عَنهُ للتتابع فِي الموعظة وَلَا يَقُول إِلَّا الْحق، أَو سقط عَن النَّاقِل أَو أخبر فِي وَقت بذلك مُجملا ثمَّ حدث بِهِ مُفَسرًا.
وَقَالَ مُعَلَّى حدَّثنا وُهَيْبَ عنِ النُّعْمَانِ بنِ رَاشِدٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُسْلِمٍ أخِي الزُّهْرِيِّ عنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْئلَةِ
هَذَا تَعْلِيق ذكره عَن مُعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن أَسد، مر فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض، عَن وهيب تَصْغِير وهب بن خَالِد عَن النُّعْمَان بن رَاشد الْجَزرِي الرقي عَن عبد الله بن مُسلم أخي مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة ابْن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق الْبَيْهَقِيّ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن الْقطَّان حَدثنَا ابْن درسْتوَيْه حَدثنَا يَعْقُوب بن سُفْيَان حَدثنَا مُعلى بن أَسد حَدثنَا وهيب عَن النُّعْمَان بن رَاشد عَن عبد الله بن مُسلم أخي الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ لنا ابْن عمر: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (مَا تزَال الْمَسْأَلَة بِالرجلِ حَتَّى يلقى الله وَمَا فِي وَجهه مزعة لحم) .
قَوْله: (فِي الْمَسْأَلَة) أَي: فِي الْجُزْء الأول من الحَدِيث وَلم يرو الزِّيَادَة الَّتِي لعبد الله بن صَالح، وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن هَذَا الْوَعيد يحتص بِمن أَكثر السُّؤَال إلاَّ من ندر ذَلِك مِنْهُ، وَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز سُؤال غير الْمُسلم، لِأَن لفظ النَّاس فِي الحَدِيث يعم، قَالَه ابْن أبي حَمْزَة، ويحكى عَن بعض الصَّالِحين أَنه كَانَ إِذا احْتَاجَ سَأَلَ ذِمِّيا لِئَلَّا يُعَاقب الْمُسلم بِسَبَبِهِ لَو رده.
35 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إلْحَافا (الْبَقَرَة: 372) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} (الْبَقَرَة: 372) . لأجل مدح من لَا يسْأَل النَّاس إلحافا. أَي: سؤالاً إلحافا أَي: إلحاحا وإبراما. قَالَ الطَّبَرِيّ: ألحف السَّائِل فِي مَسْأَلته إِذا ألح فَهُوَ ملحف فِيهَا. وَقَالَ السّديّ: لَا يلحفون فِي الْمَسْأَلَة إلحافا، وَهَذَا من آيَة كَرِيمَة فِي سُورَة الْبَقَرَة أَولهَا قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} (الْبَقَرَة: 372) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} (الْبَقَرَة: 372) . يَعْنِي الْمُهَاجِرين قد انْقَطَعُوا إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله وَسَكنُوا الْمَدِينَة، وَلَيْسَ لَهُم سَبَب يردون بِهِ على أنفسهم مَا يغنيهم. {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} (الْبَقَرَة: 372) . يَعْنِي: سفرا للتسبب فِي طلب المعاش، وَالضَّرْب فِي الأَرْض هُوَ السّفر. قَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض} (المزمل: 02) . وَمعنى عدم استطاعتهم أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الْمسير لِئَلَّا(9/58)
تفوتهم صُحْبَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: {يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف} (الْبَقَرَة: 372) . فِي لباسهم وحالهم ومقالهم. قَوْله: {تعرفهم بِسِيمَاهُمْ} (الْبَقَرَة: 372) . إِنَّمَا يظْهر لِذَوي الْأَلْبَاب من صفاتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم} (الْفَتْح: 92) . وَقيل: الْخطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: لكل رَاغِب فِي معرفَة حَالهم، يَقُول: تعرف فَقرهمْ بالعلامة فِي وُجُوههم من أثر الْجُوع وَالْحَاجة، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : هم أَصْحَاب الصّفة، وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة إِنْسَان لم يكن لَهُم مسَاكِن فِي الْمَدِينَة وَلَا عشائر، فَكَانُوا يخرجُون فِي كل سَرِيَّة بعثها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى مَسْجِد الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: {وَمَا تنفقوا من خير} (الْبَقَرَة: 372) . من أَبْوَاب القربات {فَإِن الله بِهِ عليم} (الْبَقَرَة: 372) . لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ وَلَا من غَيره، وسيجزي عَلَيْهِ أوفى الْجَزَاء وأتمه يَوْم الْقِيَامَة أحْوج مَا يكونُونَ إِلَيْهِ.
وكَمِ الغِنى؟
أَي: مِقْدَار الْغنى الَّذِي يمْنَع السُّؤَال؟ و: كم، هُنَا استفهامية تَقْتَضِي التَّمْيِيز، وَالتَّقْدِير: كم الْغنى؟ أهوَ الَّذِي يمْنَع السُّؤَال أم غَيره؟ والغنى، بِكَسْر الْغَيْن وبالقصر: ضد الْفقر وَإِن صحت الرِّوَايَة بِالْفَتْح وبالمد فَهُوَ: الْكِفَايَة، وَقد تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود (يَا رَسُول الله مَا الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما) . وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة، جملَة أَحَادِيث عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي هَذَا الْبَاب.
وقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ
بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله من الْمَجْرُور، وَهَذَا جُزْء من حَدِيث رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة، يَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب، وَفِيه: (وَلَكِن الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه) ، وَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا ذكر هَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِير لقَوْله: (وَكم الْغنى؟) ليَكُون الْمَعْنى: إِن الْغنى هُوَ الَّذِي يجد الرجل مَا يُغْنِيه، وَفسّر هَذَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (من سَأَلَ النَّاس وَله مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ومسألته فِي وَجهه خموش. قيل: يَا رَسُول الله {وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب) . وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِنَّمَا لم يذكرهُ البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه، لِأَن فِيهِ مقَالا.
لِقَوْلِهِ تَعَالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ} إلَى قَولِهِ {فإنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَة: 372) .
هَذَا تَعْلِيق لقَوْله: (وَلَا يجد غنى يُغْنِيه) ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الحَدِيث: الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه وَلَا يفْطن بِهِ، فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ، وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس. وَوصف الْمِسْكِين بِثَلَاثَة أَوْصَاف: مِنْهَا عدم قِيَامه للسؤال، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ لتعففه وَحصر نَفسه عَن ذَلِك وَعلل ذَلِك الْمِسْكِين الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف الَّذِي ذكر مِنْهَا البُخَارِيّ: عدم وجدان الْغنى، وَاكْتفى بِهِ بقوله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا} (الْبَقَرَة: 372) . الْآيَة، وَكَانَ حصرهم لأَنْفُسِهِمْ عَن السُّؤَال للتعفف، وَعدم ضَربهمْ فِي الأَرْض خوفًا من فَوَات صُحْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَأما: اللَّام، الَّتِي فِي قَوْله: {للْفُقَرَاء الَّذِي أحْصرُوا} (الْبَقَرَة: 372) . فلبيان مصرف الصَّدَقَة وموضعها لِأَنَّهُ قَالَ قبل هَذَا: {وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم} (الْبَقَرَة: 272) . ثمَّ بَين مصرف ذَلِك وموضعه بقوله: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . إِلَى آخِره، وَقد تصرف الْكرْمَانِي هُنَا تَصرفا عجيبا لَا يقبله من لَهُ أدنى معرفَة فِي أَحْوَال تراكيب الْكَلَام، فَقَالَ: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . عطف على {لَا يسْأَلُون} (الْبَقَرَة: 372) . وحرف الْعَطف مُقَدّر، أَو: هُوَ حَال بِتَقْدِير لفظ: قَائِلا، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فِي بَعْضهَا لقَوْل الله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . قلت: مَعْنَاهُ شَرط فِي السُّؤَال عدم وجدان الْغنى لوصف الله الْفُقَرَاء بِلَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض، إِذْ من اسْتَطَاعَ ضربا فِيهَا فَهُوَ وَاجِد لنَوْع من الْغنى. انْتهى. قلت: كَانَ فِي نُسْخَة: وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلَا يجد غنى يُغْنِيه للْفُقَرَاء الَّذين. . فَقَالَ: هَذَا عطف على: لَا يسْأَلُون، فليت شعري أَي وَجه لهَذَا الْعَطف، وَلَا عطف هُنَا أصلا، وَأي ضَرُورَة دعت إِلَى ارتكابه تَقْدِير حرف الْعَطف الَّذِي لَا يجوز حذف حرف الْعَطف إلاَّ فِي مَوضِع الضَّرُورَة على الشذوذ، أَو فِي الشّعْر كَذَلِك، وَلَا ضَرُورَة هُنَا أصلا} ثمَّ لما وقف على نُسْخَة فِيهَا لقَوْل الله عز وَجل: {للْفُقَرَاء} (الْبَقَرَة: 372) . سَأَلَ السُّؤَال الْمَذْكُور وَأجَاب بالجوابين الْمَذْكُورين اللَّذين تمجهما الأسماع ويتركهما أهل اليراع، وَقَالَ بَعضهم: اللَّام فِي قَوْله: لقَوْل الله، لَام التَّعْلِيل لِأَنَّهُ أورد الْآيَة تَفْسِيرا لقَوْله فِي التَّرْجَمَة، وَكم(9/59)
الْغنى؟ قلت: وَهَذَا أعجب من ذَلِك، لِأَن التَّعْلِيل لَا يُقَال لَهُ: التَّفْسِير، وَيفرق بَينهمَا من لَهُ أدنى مسكة فِي التَّصَرُّف فِي علم من الْعُلُوم، وَبَاقِي الْكَلَام فِي الْآيَة الْكَرِيمَة تقدم آنِفا.
6741 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّدُ بنُ زِيادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتانِ وَلاكِنِ المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنىٍ ويَسْتَحْيي ولاَ يَسْألُ النَّاسَ إلْحَافا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يسْأَل النَّاس إلحافا) . وَرِجَاله أَرْبَعَة وَهُوَ من الرباعيات.
قَوْله: (الْمِسْكِين) ، مُشْتَقّ من السّكُون وَهُوَ عدم الْحَرَكَة فَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمَيِّت ووزنه، مفعيل، وَقَالَ ابْن سَيّده: الْمِسْكِين والمسكين الْأَخِيرَة نادة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام: مفعيل، يَعْنِي بِفَتْح الْمِيم. وَفِي (الصِّحَاح) : الْمِسْكِين الْفَقِير، وَقد يكون بِمَعْنى المذلة والضعف، يُقَال: تمسكن الرجل وتمسكن، وَهُوَ شَاذ، وَالْمَرْأَة مسكينة، وَقوم مَسَاكِين ومسكينون، وَالْإِنَاث مسكينات، وَالْفَقِير مُشْتَقّ من قَوْلهم: فقرت لَهُ فقرة من مَالِي، والفقر والفقر ضد الْغنى، وَقدر ذَلِك أَن يكون لَهُ مَا يَكْفِي عِيَاله، وَقد فقر فَهُوَ فَقير، وَالْجمع: فُقَرَاء، وَالْأُنْثَى فقيرة من نسْوَة فقائر، وَقَالَ الْقَزاز: أصل الْفقر فِي اللُّغَة من فقار الظّهْر كَأَن الْفَقِير كسر فقار ظَهره، فَبَقيَ لَهُ من جِسْمه بَقِيَّة. قَالَ الْقَزاز: الْفقر والفقر، وَالْفَتْح أَكثر. قَوْله: (الْأكلَة وَالْأكْلَتَان) ، بِضَم الْهمزَة فيهمَا، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأكلَة، ضَبطهَا بَعضهم بِضَم الْهمزَة بِمَعْنى: اللُّقْمَة، فَإِن فتحتها كَانَت الْمرة الْوَاحِدَة. وَفِي (الفصيح) لِأَحْمَد بن يحيى: الْأكلَة: اللُّقْمَة، والأكلة، بِالْفَتْح: الْغذَاء وَالْعشَاء. قَوْله: (لَيْسَ لَهُ غنى) ، زَاد فِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (غنى يُغْنِيه) . قَوْله: (ويستحي) بالياءين وبياء وَاحِدَة زَاد فِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (وَلَا يفْطن بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لَهُ فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس) ، وَهُوَ بِنصب: يتَصَدَّق، وَيسْأل. قَوْله: (وَلَا يسْأَل) ويروى: (وَأَن لَا يسْأَل) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: كلمة: لَا، زَائِدَة فِي: (وَأَن لَا يسْأَل) . قَوْله: (إلحافا) أَي: إلحاحا، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب. وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد: لَيْسَ الْمِسْكِين الْكَامِل لِأَنَّهُ بمسألته يَأْتِيهِ الكفاف، وَإِنَّمَا الْمِسْكِين الْكَامِل فِي أَسبَاب المسكنة من لَا يجد غنى وَلَا يتَصَدَّق عَلَيْهِ، أَي: لَيْسَ فِيهِ نفي المسكنة بل نفي كمالها، أَي: الَّذِي هُوَ أَحَق بِالصَّدَقَةِ وأحوح إِلَيْهَا.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: حسن الْإِرْشَاد لموْضِع الصَّدَقَة، وَأَن يتحَرَّى وَضعهَا فِيمَن صفته التعفف دون الإلحاح. وَفِيه: حسن الْمِسْكِين الَّذِي يستحي وَلَا يسْأَل النَّاس. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْحيَاء فِي كل الْأَحْوَال.
7741 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ الحَذَّاءَ عنِ ابنِ أشْوعَ عنِ الشَّعبِيِّ قَالَ حدَّثني كاتبُ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ كتبَ مُعاويةُ إلَى المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أنِ اكْتُبْ إلَيَّ بشَىءٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكتَبَ إلَيْهِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ الله كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قيلَ وقالَ وإضَاعَةَ المالِ وكَثْرَةَ السُّؤَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) .
وَرِجَاله ثَمَانِيَة: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي، وَإِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ، وَعليَّة اسْم أمه، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَقد مر غير مرّة، وَابْن أَشوع، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ سعيد بن عَمْرو بن الأشوع الْهَمدَانِي الْكُوفِي قَاضِي الْكُوفَة، نسب لجده. وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَكَاتب الْمُغيرَة هُوَ: وراد، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، والمغيرة بن شُعْبَة مَوْلَاهُ، وَمُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان. وَفِيه: تابعيان وصحابيان، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الذّكر بعد الصَّلَاة، تعدد ذكره وَمن أخرجه غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن قيل وَقَالَ) ، هما إِمَّا فعلان: الأول، يكون بِنَاء الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَالثَّانِي يكون بِنَاء الْفَاعِل، وَإِمَّا مصدران، يُقَال: قلت قولا وقيلاً وَقَالا. وَحِينَئِذٍ يكونَانِ منونين، وَإِمَّا إسمان. قَالَ ابْن السّكيت: هما إسمان لَا مصدران،(9/60)
وَقَالَ الْخطابِيّ: إِمَّا أَن يُرَاد بهما حِكَايَة أقاويل النَّاس، كَمَا يُقَال: قَالَ فلَان كَذَا، وَقيل لَهُ: كَذَا، من بَاب مَا لَا يَعْنِي. وَأما مَا كَانَ من أَمر الدّين يَنْقُلهُ بِلَا حجَّة وَبَيَان يُقَلّد مَا يسمعهُ وَلَا يحْتَاط فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: المُرَاد بِهِ حِكَايَة شَيْء لَا تعلم صِحَّته فَإِن الحاكي يَقُول: قيل وَقَالَ: وَعَن مَالك: هُوَ الْإِكْثَار من الْكَلَام والإرجاف، نَحْو قَول الْقَائِل: أعطي فلَان كَذَا وَمنع من كَذَا، أَو الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي. وَقَالَ ابْن التِّين: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ حِكَايَة أَقْوَال النَّاس وأحاديثهم والبحث عَنْهَا لينمي فَيَقُول: قَالَ فلَان كَذَا وَفُلَان كَذَا، مِمَّا لَا يجر خيرا، إِنَّمَا هُوَ ولوع وشغب، وَهُوَ من التَّجَسُّس الْمنْهِي عَنهُ. وَالثَّانِي: أَن يكون فِي أَمر الدّين فَيَقُول: قيل لَهُ فِيهِ كَذَا، وَقَالَ فلَان فيقلد وَلَا يحْتَاط بمواضع الِاحْتِيَاط بالحجج. قَوْله: (وإضاعة المَال) ، هُوَ رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (إِضَاعَة الْأَمْوَال) ، وَهُوَ أَن يتْركهُ من غير حفظ لَهُ فيضيع، أَو يتْركهُ حَتَّى يفْسد، أَو يرميه إِذا كَانَ يَسِيرا كبرا عَن تنَاوله، أَو بِأَن يرضى بِالْغبنِ، أَو يُنْفِقهُ فِي الْبناء واللباس والمطعم بإسراف، أَو يُنْفِقهُ فِي الْمعاصِي، أَو يُسلمهُ لخائن أَو مبذر، أَو يموه الْأَوَانِي بِالذَّهَب أَو يطرز الثِّيَاب بِهِ، أَو يذهِّب سقوف الْبَيْت، فَإِنَّهُ من التضييع الْفَاحِش لِأَنَّهُ لَا يُمكن تخليصه مِنْهُ وإعادته إِلَى أَصله، وَمِنْه قسْمَة مَا لَا ينْتَفع بقسمته كاللؤلؤة، وَمِنْه الصَّدَقَة وإكثارها وَعَلِيهِ دين لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاء دينه، وَمِنْه سوء الْقيام على مَا يملكهُ كالرقيق إِذا لم يتعهده ضَاعَ، وَمِنْه أَن يتخلى الرجل من كل مَاله وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ غير قوي على الصَّبْر والإطاقة، وَقد يحْتَمل أَن يؤول معنى الإضاعة على الْعَكْس مِمَّا تقدم بِأَن يُقَال: إضاعته: حَبسه عَن حَقه وَالْبخل بِهِ على أَهله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(وَمَا ضَاعَ مَال أورث الْمجد أَهله ... وَلَكِن أَمْوَال الْبَخِيل تضيع)
وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِضَاعَة المَال تُؤدِّي إِلَى الْفقر الَّذِي يخْشَى مِنْهُ الْفِتْنَة، وَكَأن الشَّارِع، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَعَوَّذ من الْفقر وفتنته. وَقَالَ الْمُهلب فِي إِضَاعَة المَال: يُرِيد السَّرف فِي إِنْفَاقه وَإِن كَانَ فِيمَا يحل، أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد تَدْبِير المعدم لِأَنَّهُ أسرف على مَاله فِيمَا يحل ويؤجر فِيهِ، لكنه أضاع نَفسه، وأجره فِي نَفسه آكِد من أجره فِي غَيره. قَوْله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) ، أما السُّؤَال إِمَّا أَن يكون من سُؤال النَّاس أَمْوَالهم والاستكثار مِنْهُ، أَو سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهي عَنهُ من الْمُتَشَابه الَّذِي تعبدنا بِظَاهِرِهِ، أَو السُّؤَال من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أُمُور لم يكن لَهُم بهَا حَاجَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمسَائِل فِي كتاب الله تَعَالَى على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا مَحْمُود كَقَوْلِه: {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 512 و 912) . وَنَحْوه من الإشياء الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي الدّين، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} (النَّحْل: 34، الْأَنْبِيَاء: 7) . وَالْآخر مَذْمُوم كَقَوْلِه: {يَسْأَلُونَك عَن الرّوح} (الْإِسْرَاء: 58) . وَنَحْوه مِمَّا لَا ضَرُورَة فِيهِ لَهُم إِلَى علمه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تَبْدُ لكُم تَسُؤْكُمْ} (الْمَائِدَة: 101) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل إِن يُرَاد بِكَثْرَة السُّؤَال سُؤال الْإِنْسَان عَن حَاله وتفاصيل أمره، لِأَنَّهُ يتَضَمَّن حُصُول الْحَرج فِي حق المسؤول عَنهُ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيد إخْبَاره بأحواله، فَإِن أخبرهُ شقّ عَلَيْهِ وَإِن أهمل جَوَابه ارْتكب سوء الْأَدَب. وَيُقَال: فِي كَثْرَة السُّؤَال وَجْهَان ذكرا عَن مَالك: الأول: سُؤال سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قَالَ: (ذروني مَا تركتكم) . وَالثَّانِي: سُؤال النَّاس، وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: التَّعَرُّض لما فِي أَيدي النَّاس من الحطام بالحرص والشره، وَهُوَ تَأْوِيل البُخَارِيّ. ثَانِيهَا: أَن يكون فِي سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهى عَنهُ من متشابه الْأُمُور على مَذْهَب أهل الزيغ وَالشَّكّ وابتغاء الْفِتْنَة. ثَالِثهَا: مَا كَانُوا يسْأَلُون الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الشَّيْء من الْأُمُور من غير حَاجَة بهم إِلَيْهِ فتنزل الْبلوى بهم، كالسائل عَمَّن يجد مَعَ امْرَأَته رجلا أَشد النَّاس جرما فِي الْإِسْلَام من سَأَلَ عَن أَمر لم يكن حَرَامًا فَحرم من أجل مَسْأَلته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على الْحجر، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْحجر على الْبَالِغ المضيع لمَاله، فجمهور الْعلمَاء يُوجب الْحجر عَلَيْهِ صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَقَالَ النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وبعدهما أَبُو حنيفَة وَزفر: لَا حجر على الْبَالِغ الحَدِيث الَّذِي يخدع فِي الْبيُوع وَلم يمنعهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّصَرُّف. وَفِيه: دَلِيل على فضل الكفاف على الْفقر والغنى، لِأَن ضيَاع المَال يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة بالفقر وَكَثْرَة السُّؤَال، وَرُبمَا يخْشَى من الْغنى الْفِتْنَة، قَالَ تَعَالَى: {كلا إِن الْإِنْسَان(9/61)
ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} (العلق: 6 و 7) . والفقر والغنى محنتان وبليتان كَانَ الشَّارِع يتورع مِنْهُمَا، وَمن عَاشَ فيهمَا بالاقتصاد فقد فَازَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَفِيه: الْكتاب بالسؤال عَن الْعلم وَالْجَوَاب عَنهُ. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد وَقبُول الْكتاب وَهُوَ حجَّة فِي الْإِجَازَة. وَفِيه: أَخذ بعض الصَّحَابَة عَن بعض. وَفِيه: دَلِيل على أَن قلَّة السُّؤَال لَا تدخل تَحت النَّهْي خُصُوصا إِذا كَانَ مُضْطَرّا يخَاف على نَفسه التّلف بِتَرْكِهِ، بل السُّؤَال فِي هَذِه الْحَالة وَاجِب لِأَنَّهُ لَا يحل لَهُ إِتْلَاف نَفسه وَهُوَ يجد السَّبِيل إِلَى حَيَاتهَا.
8741 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ غُزَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ عَن أبيهِ عنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عامِرُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ قَالَ أعْطَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَهطا وَأنا جالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فترَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنهُم رجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهْوَ أعْجَبُهُمْ إلَيَّ فقُمْتُ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَاوَرْتُهُ فقُلْتُ مالَكَ عنْ فُلانٍ وَالله إنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما قَالَ فسَكَتُّ قلِيلاً ثُمَّ غَلَبنِي مَا أعْلَمُ فيهِ فقُلْتُ يَا رسولَ الله مَا لَكَ عنْ فُلانٍ وَالله إنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما قَالَ فسَكَتُّ قَليلاً ثُمَّ غلبَني مَا أعْلَمُ فيهِ فقُلْتُ يَا رسولَ الله مالَكَ عَن فُلانٍ وَالله لأُراهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما يَعْنِي فَقَالَ إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وغَيْرَهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 72) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل الَّذِي تَركه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُعْطه شَيْئا، وَهُوَ أَيْضا ترك السُّؤَال أصلا مَعَ مُرَاجعَة سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبَبِهِ ثَلَاث مَرَّات، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص عَن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن غرير، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الزُّهْرِيّ، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء، وَقد تقدم فِي: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى فِي كتاب الْعلم. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتاب الْإِيمَان.
وعَنْ أبيهِ عَن صالِحٍ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ مُحَمَّدٍ أنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ هاذا فَقَالَ فِي حدِيثِهِ فضَرَبَ رسولُ الله بيَدِهِ فجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وكَتِفي ثُمَّ قَالَ أقْبِلْ أيْ سَعْدُ إنِّي لأُعطِي الرَّجُلَ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (وَعَن أَبِيه) ، عطف على الْمَذْكُور أَولا فِي الْإِسْنَاد أَي: قَالَ يَعْقُوب عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم عَن صَالح بن كيسَان عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد بن أبي وَقاص الزُّهْرِيّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَبوهُ مُحَمَّد فروايته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلَة إِذْ لَا بُد من توَسط ذكر سعد حَتَّى يصير مُسْندًا مُتَّصِلا؟ قلت: لفظ، هَذَا، هُوَ إِشَارَة إِلَى قَول سعد، فَهُوَ مُتَّصِل وَبِهَذَا السَّنَد رَوَاهُ مُسلم عَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي عَن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن صَالح عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد، قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن سعد يحدث بِهَذَا ... يَعْنِي حَدِيث الزُّهْرِيّ الْمَذْكُور، فَقَالَ فِي حَدِيثه: فَضرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ بَين عنقِي وكتفي ثمَّ قَالَ: أقتالاً أَي سعد إِنِّي لأعطي الرجل؟ وَفِي الْجمع للحميدي فِي أَفْرَاد مُسلم: عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد عَن أَبِيه عَن جده بِنَحْوِ حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَامر بن سعد. قَوْله: (يحدث) ، هَذَا إِشَارَة إِلَى قَول سعد كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (فِي حَدِيثه) أَي: فِي جملَة حَدِيثه. قَوْله: (فَجمع) ، بفاء الْعَطف، وَفعل الْمَاضِي، وَقَالَ ابْن التِّين: رِوَايَة أبي ذَر: فَجمع، وَفِي رِوَايَة غَيره: جمع، بِدُونِ الْفَاء، ويروى: (فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ فَجمع بَين عنقِي وكتفي) . قَالَ ابْن قرقول: أَي: حَيْثُ يَجْتَمِعَانِ، وَكَذَلِكَ مجمع الْبَحْرين حَيْثُ يجْتَمع بَحر وبحر، وتوجيه هَذِه الرِّوَايَة إِن يكون لفظ: بَين، إسما لَا ظرفا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لقد تقطع بَيْنكُم} (الْأَنْعَام: 49) . على قراء الرّفْع فَيكون(9/62)
لفظ: مجمع، مُضَافا إِلَيْهِ، ويروى: (فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ يجمع بَين عنقِي وكتفي) ، بِالْبَاء الجارة وَضم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، وَمحله نصب على الْحَال تَقْدِيره: ضرب بِيَدِهِ حَال كَونهَا مَجْمُوعَة، وَيجوز فِي الْكَتف ثَلَاث لُغَات. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقبل) بِفَتْح الْهمزَة، أَمر من الإقبال أَو بِكَسْر الْهمزَة وَفتح الْبَاء من الْقبُول، حسب الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ التَّيْمِيّ: فِي بَعْضهَا أقبل بِقطع الْألف، كَأَنَّهُ لما قَالَ ذَلِك تولى ليذْهب فَقَالَ لَهُ: أقبل لأبين لَك وَجه الْإِعْطَاء وَالْمَنْع، وَفِي بَعْضهَا بوصل الإلف أَي: أقبل مَا أَنا قَائِل لَك وَلَا تعترض عَلَيْهِ. قلت: وَيدل عَلَيْهِ بَاقِي رِوَايَة مُسلم: (أقتالاً أَي سعد) أَي: أتقاتل قتالاً؟ أَي: أتعارضني فِيمَا أَقُول مرّة بعد مرّة كَأَنَّك تقَاتل؟ وَهَذَا يشْعر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره مِنْهُ إلحاحه عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة. قَوْله: (أَي سعد) يَعْنِي: يَا سعد إِنِّي لأعطي، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا أعطي الرجل ليتألفه ليستقر الْإِيمَان فِي قلبه وَعلم أَنه إِن لم يُعْطه قَالَ قولا أَو فعل فعلا دخل بِهِ النَّار، فَأعْطَاهُ شَفَقَة عَلَيْهِ، وَمنع الآخر علما مِنْهُ رسوخ الْإِيمَان فِي صَدره ووثوقا على صبره.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الشَّفَاعَة للرجل من غير أَن يسْأَلهَا ثَلَاثًا. وَفِيه: النَّهْي عَن الْقطع لأحد من النَّاس بِحَقِيقَة الْإِيمَان وَأَن الْحِرْص على هِدَايَة غير الْمُهْتَدي آكِد من الْإِحْسَان إِلَى الْمُهْتَدي. وَفِيه: الْأَمر بالتعفف والاستغناء وَترك السُّؤَال.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله فَكُبْكِبُوا قُلِبُوا مُكِبا أكَبَّ الرَّجُلِ إذَا كانَ فِعلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أحَدٍ فإذَا وقَعَ الفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ الله لِوَجْهِهِ وكبَبْتُهُ أنَا
قَالَ أَبُو عبد الله، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقد جرت عَادَته أَنه إِذا كَانَ فِي الْقُرْآن لفظ يُنَاسب لفظ الحَدِيث يذكرهُ اسْتِطْرَادًا فَقَوله: (فكبكبوا) ، مَذْكُور فِي سُورَة الشُّعَرَاء مَعْنَاهُ: فكبوا بِلَفْظ الْمَجْهُول من الكب، وَهُوَ الْإِلْقَاء على الْوَجْه. وَفِي بَعْضهَا: قلبوا بِالْقَافِ وَاللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (مكبا) ، بِضَم الْمِيم هُوَ الْمَذْكُور فِي سُورَة الْملك، وَهُوَ قَوْله: {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} (الْملك: 22) . قَوْله: (أكب الرجل) يَعْنِي: وَقع على وَجهه، وَهُوَ لَازم أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (إِذا كَانَ فعله غير وَاقع على أحد) ، وَذَلِكَ أَنهم يسمون الْفِعْل الَّذِي لَا يتَعَدَّى: لَازِما وَغَيره وَاقع. قَوْله: (فَإِذا وَقع الْفِعْل) ، يَعْنِي: إِذا وَقع على أحد يكون مُتَعَدِّيا: وَيُسمى وَاقعا أَيْضا، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (قلت كَبه الله لوجهه) ، وَهَذَا من نَوَادِر الْكَلِمَة حَيْثُ كَانَ ثلاثيه مُتَعَدِّيا والمزيد فِيهِ لَازِما، عكس الْقَاعِدَة التصريفية. قَوْله: (وكببته أَنا) متعدٍ أَيْضا، أَي: كببت أَنا فلَانا على وَجهه، وأتى بالمثالين أَحدهمَا من الْغَائِب وَالْآخر من الْمُتَكَلّم، وكببته يجوز فِيهِ أَن تبدل الْيَاء من الْبَاء الثَّانِيَة فَنَقُول: كبيته، على مَا علم فِي مَوْضِعه.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: صالِحُ بنُ كَيْسَانَ أكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَهْوَ قَدْ أدْرَكَ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (صَالح بن كيسَان) هُوَ الْمَذْكُور فِي الإسنادين. قَوْله: (أكبر) أَي: أكبر سنا، كَانَ عمره مائَة وَسِتِّينَ سنة. قَوْله: (من الزُّهْرِيّ) يَعْنِي من مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: صَالح ابْن كيسَان (قد أدْرك عبد الله بن عمر) ، يَعْنِي: أدْرك السماع مِنْهُ. وَأما الزُّهْرِيّ فمختلف فِي لقِيه لَهُ، وَالصَّحِيح أَنه لم يلقه وَإِنَّمَا يرْوى عَن أَبِيه سَالم عَنهُ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَان وَقع فِي رِوَايَة معمر عَنهُ أَنه سمعهما من ابْن عمر ثَبت ذكر سَالم بَينهمَا فِي رِوَايَة غَيره.
9741 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلى الناسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ ولاكِنَّ المِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فيَسْألُ النَّاسَ.
(انْظُر الحَدِيث 6741 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس) .
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِي مَعْنَاهُ(9/63)
فِي بَاب الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة. قَوْله: (وَلَا يفْطن بِهِ) أَي: لَا يكون للنَّاس الْعلم بِحَالَة فيتصدقون عَلَيْهِ، ويروى (وَلَا يفْطن لَهُ) بِاللَّامِ، قَوْله: (فَيسْأَل) بِالنّصب، وَكَذَا: (فَيتَصَدَّق) وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول.
0841 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا أَبُو صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأَن يأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُو أحْسِبُهُ إلَي الجَبَلِ فيَحْتَطِبَ فيَبِيعَ فيَأْكُلَ ويَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ النَّاسَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خير لَهُ من أَن يسْأَل النَّاس) ، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة ... الحَدِيث، وَهنا أخرجه: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (ثمَّ يَغْدُو) أَي: ثمَّ يذهب والغدو الذّهاب فِي أول النَّهَار قَوْله: (أَحْسبهُ) أَي قَالَ أَبُو هُرَيْرَة أطن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِلَى الْجَبَل مَوضِع الْحَطب. قَوْله: (فيحتطب فيبيع) ، بِالْفَاءِ فيهمَا لِأَن الاحتطاب يكون عقيب الغدو إِلَى الْجَبَل، وَالْبيع يكون عقيب الاحتطاب. قَوْله: (وَيتَصَدَّق) ، بواو الْعَطف ليدل على أَنه يجمع بَين البيع وَالصَّدَََقَة، يَعْنِي: إِذا بَاعَ يتَصَدَّق مِنْهُ.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب الاستعفاف عَن الْمَسْأَلَة. واستحباب التكسب بِالْيَدِ. واستحباب الصَّدَقَة من كسب يَده.
45 - (بابُ خَرْص التمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة خرص التَّمْر، الْخرص، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا صَاد مُهْملَة: مصدر من خرص الْعدَد ويخرصه من بَاب: نصر ينصر وَضرب يضْرب، خرصا وخرصا بِالْفَتْح وَالْكَسْر إِذا حزره، وَيُقَال بِالْفَتْح مصدر وبالكسر اسْم. وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ حزر على النّخل من الرطب تَمرا. وَقَالَ ابْن السّكيت: الْخرص والخرص لُغَتَانِ فِي الشَّيْء المخروص، وَحكى التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل الْعلم: أَن تَفْسِيره أَن الثِّمَار إِذا أدْركْت من الرطب وَالْعِنَب مِمَّا يجب فِيهِ الزَّكَاة بعث السُّلْطَان خارصا ينظر فَيَقُول: يخرج من هَذَا كَذَا وَكَذَا زبيبا وَكَذَا ثمرا فيصيه، وَينظر مبلغ العُشر فيثبته عَلَيْهِم ويخلي بَينهم وَبَين الثِّمَار فَإِذا جَاءَ وَقت الْجذاذ أَخذ مِنْهُم العُشر.
1841 - حدَّثنا سَهْلُ بنُ بَكَّارٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى عَن عَبَّاسٍ السَّاعِديِّ عنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ غزَوْنَا معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ فلَمَّا جاءَ وَادِي القُرى إذَا امْرَأةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَها فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِصْحَابِهِ اخْرُصُوا وخَرَصَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشْرَةَ أوْسُق فَقَالَ لهَا أحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فلَمَّا أتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ أمَا إنَّهَا ستَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلا يَقُومَنَّ أحَدٌ ومَنْ كانَ معَهُ بَعِيرٌ فلْيَعْقِلْهُ فعَقَلْنَاهَا وهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدةٌ فقامَ رجلٌ فألقَتْهُ بِجَبَلِ طيِّىءٍ وأَهْدَى مَلِكُ أيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وكسَاهُ بُرْدا وكتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ فلَمَّا أتَى وَادِي القُرَى قَالَ لِلْمَرأةِ كَمْ جاءَ حَدِيقَتُكِ قالَتْ عَشَرَةَ أوْسُقٍ خَرْصَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي مُتَعَجِّلٌ إلَى المَدِينَةِ فَمَنْ أرَادَ مِنْكُمْ أنْ يتَعَجَّلَ مَعِي فلْيَتَعَجَّلْ فلَمَّا قَالَ ابنُ بَكَّارٍ كلِمَةً مَعْنَاها أشْرَفَ عَلى المدِينَةِ. قَالَ هاذِهِ طابَةُ فلَمَّا رَأي أُحُدا قَالَ هاذا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ ألاَ أخبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنصَارِ قالُوا بَلى قالَ دُورُ بَنِي النَّجَّار ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ ثُمَّ دُورِ بَنِي ساعِدَةَ أوْ دُورُ بَنِي الحَارِثِ بنِ الخزْرَجِ وفِي كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ يَعْنِي خَيْرا. وقالَ سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ حدَّثني(9/64)
عَمْرٌ وثُمَّ دَارُ بَنِي الحارِثِ ثُمَّ بَنِي ساعِدَةَ وَقَالَ سُلَيْمَانُ عنْ سَعْدِ بنِ سَعِيدٍ عنْ عُمَارَةَ بنِ غَزِيَّةَ عنْ عَبَّاسٍ عنْ أبِيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (اخرصوا وخرص رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: سهل بن بكار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْكَاف وبالراء: أَبُو بشر الدَّارمِيّ. الثَّانِي: وهيب بن خَالِد أَبُو بكر. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة. الرَّابِع: عَبَّاس، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سهل بن سعد، مَاتَ زمن الْوَلِيد بِالْمَدِينَةِ. الْخَامِس: أَبُو حميد، بِضَم الحاءر الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم: اسْمه الْمُنْذر أَو عبد الرَّحْمَن بن سعد السَّاعِدِيّ، مر فِي: بَاب فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَن عَمْرو بن يحيى، وَلمُسلم من وَجه آخر عَن وهيب حَدثنَا عَمْرو بن يحيى. وَفِيه: عَبَّاس وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: عَن الْعَبَّاس السَّاعِدِيّ، يَعْنِي ابْن سهل بن سعد، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر: عَن وهيب أخبرنَا عَمْرو بن يحيى حَدثنَا عَبَّاس ابْن سهل السَّاعِدِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان وَعَمْرو بن يحيى وعباس بن سهل مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَفِي الْمَغَازِي بِتَمَامِهِ وَفِي فضل الْأَنْصَار بِبَعْضِه: (خير دور الْأَنْصَار) ، عَن خَالِد ابْن مخلد، وَأخرجه مُسلم فِي فضل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِيه وَفِي الْحَج عَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن سهل بن بكار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غَزْوَة تَبُوك) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة وَفِي آخِره كَاف، منصرف بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة أَربع عشرَة مرحلة من طرف الشَّام، وَبَينهَا وَبَين دمشق إِحْدَى عشرَة مرحلة. وَفِي (الْمُحكم) : تَبُوك اسْم أَرض وَقد يكون: تَبُوك، تفعل، وَزعم ابْن قُتَيْبَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ فِي غَزْوَة تَبُوك وهم يبوكون حسيها بقدح، فَقَالَ: مَا زلتم تبوكونها بعد؟ فسميت: بتبوك، وَمعنى: تبوكون تدخلون فِيهِ السهْم وتحركونه ليخرج مَاؤُهُ. قلت: هَذَا يدل على أَنه معتل، وَذكرهَا ابْن سَيّده فِي الثلاثي الصَّحِيح. قَوْله: (حسيها) ، أَي: حشي تَبُوك، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف: مَا تنشفه الأَرْض من الرمل، فَإِذا صَار إِلَى صلابة أمسكته فيحفر عَنهُ الرمل فتستخرجه وَهُوَ الاحتساء، وَيجمع الْحسي على أحساء، وغزوة تَبُوك تسمى الْعسرَة والفاضحة، وَكَانَت فِي رَجَب يَوْم الْخَمِيس سنة تسع، وَقَالَ ابْن التِّين: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أول يَوْم من رَجَب إِلَيْهَا وَرجع فِي سلخ شَوَّال. وَقيل: فِي شهر رَمَضَان. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ آخر غَزَوَاته، لم يقدر أحد أَن يتَخَلَّف عَنْهَا، وَكَانَت فِي شدَّة الْحر وإقبال الثِّمَار، وَلم يكن فِيهَا قتال وَلم تكن غَزْوَة إلاَّ ورى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا إلاَّ غَزْوَة تَبُوك، ومكرت طَائِفَة من الْمُنَافِقين فِي هَذِه الْغَزْوَة برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادوا أَن يلقوه من الْعقبَة فَنزل فيهم مَا فِي سُورَة بَرَاءَة. قَوْله: (وَادي الْقرى) ، ذكر السَّمْعَانِيّ أَنَّهَا مَدِينَة قديمَة بالحجاز مِمَّا يَلِي الشَّام، وَذكر ابْن قرقول، أَنَّهَا من أَعمال الْمَدِينَة، وَهَذَا قريب. قَوْله: (إِذا امْرَأَة فِي حديقة) ، قَالَ ابْن مَالك فِي (الشواهد) : لَا يمْتَنع الِابْتِدَاء بالنكرة الْمَحْضَة على الْإِطْلَاق، بل إِذا لم تحصل فَائِدَة نَحْو: رجل يتَكَلَّم، إِذْ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا من رجل يتَكَلَّم، فَلَو اقْترن بالنكرة قرينَة تتحصل بهَا الْفَائِدَة جَازَ الِابْتِدَاء بهَا، وَمن تِلْكَ الْقَرَائِن الِاعْتِمَاد على: إِذا، المفاجأة نَحْو: انْطَلَقت فَإِذا سبع فِي الطَّرِيق، والحديقة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ ابْن سَيّده: هِيَ من الرياض كل أَرض استدارت. وَقيل: الحديقة كل أَرض ذَات شَجَرَة بثمر ونخل. وَقيل: الحديقة الْبُسْتَان والحائط وَخص بَعضهم بِهِ الْجنَّة من النّخل وَالْعِنَب، وَقيل: الحديقة حُفْرَة تكون فِي الْوَادي تحبس المَاء فِي الْوَادي، وَإِن لم يكن المَاء فِي بَطْنه فَهُوَ حديقة، والحديقة أعمق من الغدير، والحديقة الْقطعَة من الزَّرْع من كرَاع، وَكله فِي معنى الاستدارة. وَفِي (الغريبين) : يُقَال للقطعة من النّخل: حديقة. قَوْله: (اخرصوا) بِضَم الرَّاء زَاد سُلَيْمَان: (فخرصنا) . قَوْله: (عشرَة أوسق) على وزن أفعل، بِضَم الْعين: جمع وسق بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ سِتُّونَ صَاعا، وَهُوَ ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رطلا عِنْد أهل الْحجاز، وَأَرْبَعمِائَة وَثَمَانُونَ رطلا عِنْد أهل الْعرَاق، على اخْتلَافهمْ فِي(9/65)
مِقْدَار الصَّاع وَالْمدّ. قَوْله: (احصى) ، بِفَتْح الْهمزَة من الإحصاء وَهُوَ الْعد، وَمَعْنَاهُ: احفظي عدد كيلها. وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: (إحصيها حَتَّى نرْجِع إِلَيْك إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . وأصل الإحصاء الْعد بالحصى لأَنهم كَانُوا لَا يحسنون الْكِتَابَة، فَكَانُوا يضبطون الْعدَد بالحصى. قَوْله: (أما إِنَّهَا) أما، بِفَتْح الْهمزَة بِالتَّخْفِيفِ، وَهِي حرف استفتاح بِمَنْزِلَة أَلاَ، وَيكون بِمَعْنى: حَقًا. قَوْله: (ستهب اللَّيْلَة) ، زَاد سُلَيْمَان: (عَلَيْكُم) ، وستهب، بِضَم الْهَاء وَالسِّين فِيهِ عَلامَة الِاسْتِقْبَال، وَأَصله من: هَب يهب، ككب يكب، وَهَذَا الْبَاب إِذا كَانَ مُتَعَدِّيا يكون عين الْفِعْل فِيهِ مضموما إلاَّ: حبه يُحِبهُ، فَإِنَّهُ مكسور. وأحرف نادرة جَاءَ فِيهَا الْوَجْهَانِ إِذا كَانَ لَازِما مثل: ضل يضل. قَوْله: (فليعقله) أَي: يشده بالعقال، وَهُوَ الْحَبل، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان: (فليشد عقاله) ، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) : عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن عَبَّاس بن سهل: (وَلَا يخْرجن أحد مِنْكُم اللَّيْلَة إلاَّ وَمَعَهُ صَاحب لَهُ) . قَوْله: (بجبل طي) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بجبلي طي) ، وَفِي رِوَايَة: (فَحملت الرّيح حَتَّى ألقته بجبلي طَيء) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَفَّان عَن وهيب: (فَلم يقم فِيهَا أحد غير رجلَيْنِ ألقتهما بجبلي طَيء) ، وَفِيه نظر تبينه رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَلَفظه: (فَفعل النَّاس مَا أَمرهم إلاَّ رجلَيْنِ من بني سَاعِدَة خرج أَحدهمَا لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ خنق على مذْهبه، وَأما الَّذِي ذهب فِي طلب بعيره فاحتملته الرّيح حَتَّى طرحته بجبلي طَيء، فَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ألم أنهكم أَن يخرج رجل إلاَّ وَمَعَهُ صَاحب لَهُ؟ ثمَّ دعى الَّذِي أُصِيب على مذْهبه فشفي، وَأما الآخر فَإِنَّهُ وصل إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين قدم من تَبُوك) . وَأما جبلا طَيء فقد ذكر الْكَلْبِيّ فِي كِتَابه (أَسمَاء الْبلدَانِ) أَن سلمى بنت حام بن حمى بن برارة من بني عمليق كَانَت لَهَا حاضنة يُقَال لَهَا العوجاء، وَكَانَت الرَّسُول بَينهَا وَبَين أجأ بن عبد الْحَيّ من العماليق، فعشقها فهرب بهَا وبحاضنتها إِلَى مَوضِع جبل طييء، وبالجبلين قوم من عَاد، وَكَانَ لسلمى أخوة فجاؤوا فِي طلبَهَا فلحقوهم بِموضع الجبلين، فَأخذُوا سلمى فنزعوا عينهَا ووضعوها على الْجَبَل، وكتف أجأ، وَكَانَ أول من كتف وَوضع على الْجَبَل الآخر، فَسُمي بهَا الجبلان، أجأ وسلمى. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أجأ، بِفَتْح أَوله وثانيه على وزن فعل يهمز وَلَا يهمز وَيذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ مَقْصُور فِي كلا الْوَجْهَيْنِ من همزه وَترك همزه. وَقَالَ بَعضهم: وَيُقَال: إِن الجبلين سميا باسم رجل وَامْرَأَة من العماليق، قلت: الْكَلْبِيّ قد سماهما كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (ملك أَيْلَة) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللام: إسم بَلْدَة على سَاحل الْبَحْر آخر الْحجاز وَأول الشَّام. قلت: أَيْلَة على وزن: فعلة، مَدِينَة على شاطىء الْبَحْر فِي منصف مَا بَين مصر وَمَكَّة، شرفها الله تَعَالَى، سميت بأيلة بنت مَدين بن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد روى أَن أَيْلَة هِيَ الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَملك أَيْلَة اسْمه يوحنا بن روبة، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان عِنْد مُسلم: (وَجَاء رَسُول ابْن العلما صَاحب أَيْلَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكِتَاب، وَأهْدى لَهُ بغلة بَيْضَاء) . قلت: يوحنا، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون مَقْصُور. وروبة، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء، وَالظَّاهِر أَن علما اسْم يوحنا، وإسم البغلة: دُلْدُل. قَوْله: (وَكتب لَهُ ببحرهم) ، أَي: ببلدهم، وَالْمرَاد بِأَهْل بحرهم لأَنهم كَانُوا سكانا بساحل الْبَحْر، ويروى: (ببحرتهم) ، أَي: ببلدتهم، وَقيل: البحرة الأَرْض، كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أقطع هَذَا الْملك من بِلَاده قطائع، وفوض إِلَيْهِ حكومتها، وَذكر ابْن إِسْحَاق الْكتاب، وَهُوَ بعد الْبَسْمَلَة: (هَذِه أَمَنَة من الله وَمن مُحَمَّد النَّبِي رَسُول الله ليوحنا بن روبة وَأهل أَيْلَة سفنهم وسيارتهم فِي الْبر وَالْبَحْر لَهُم ذمَّة الله، وَمُحَمّد النَّبِي) ، وسَاق بَقِيَّة الْكتاب. قَوْله: (كم جَاءَ حديقتك) أَي: قدر ثَمَر حديقتك؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَسَأَلَ الْمَرْأَة عَن حديقتها: كم بلغ ثَمَرهَا؟) . قَوْله: (قَالَت عشرَة أوسق) ، بِنَزْع الْخَافِض، أَي جَاءَ بِمِقْدَار عشرَة أوسق، أَو نصب على الْحَال، وَيجوز أَن يعْطى لقَوْله: جَاءَ، حكم الْأَفْعَال النَّاقِصَة، فَيكون عشرَة خَبرا لَهُ، وَالتَّقْدِير: جَاءَت عشرَة أوسق. قَوْله: (خرص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، خرص، مصدر بِالنّصب على أَنه بدل من قَوْله: (عشرَة أوسق) ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد خرصها عشرَة أوسق لما جَاءَ وَادي الْقرى، أَو عطف بَيَان لعشرة، وَيجوز الرّفْع فِي عشرَة وَفِي خرص، وَالتَّقْدِير: الْحَاصِل عشرَة أوسق خرص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيجوز الرّفْع فِي: خرص، وَحده على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ خرص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: الْعشْرَة خرص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلَمَّا قَالَ ابْن بكار) كلمة: فَلَمَّا، مقول ابْن بكار، وَهُوَ سهل(9/66)
شيخ البُخَارِيّ، وَلَفظ ابْن بكار مقول البُخَارِيّ. و: كلمة، بِالنّصب مقول ابْن بكار، مَعْنَاهَا: أَي معنى هَذِه الْكَلِمَة أشرف أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَدِينَة مَعْنَاهُ: قرب مِنْهَا واطلع إِلَيْهَا، وَكَأن البُخَارِيّ شكّ فِي هَذِه اللَّفْظَة، فَقَالَ هَذَا. قَوْله: (قَالَ هَذِه طابة) جَوَاب لما، أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَشَارَ إِلَى الْمَدِينَة بقوله: (هَذِه طابة) ، وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَمَعْنَاهَا الطّيبَة، وسماها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الِاسْم وَكَانَ اسْمهَا يثرب. قَوْله: (فَلَمَّا رأى أحدا) أَي: الْجَبَل الْمُسَمّى بِأحد. قَوْله: (يحبنا ونحبه) ، يَعْنِي: أهل الْجَبَل، وهم الْأَنْصَار لِأَنَّهُ لَهُم، فَيكون مجَازًا كَمَا فِي قَوْله: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . وَلَا منع من حَقِيقَته فَلَا حَاجَة إِلَى إِضْمَار فِيهِ، وَقد ثَبت (أَنه ارتج تَحْتَهُ فَقَالَ لَهُ: إثبت، فَلَيْسَ عَلَيْك إلاَّ نَبِي وصديق وشهيدان) . وحن الْجذع الْيَابِس إِلَيْهِ حَتَّى نزل فضمه، وَقَالَ: لَو لم أضمه لحن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَكَلمه الذِّئْب، وَسجد لَهُ الْبَعِير، وَسلم عَلَيْهِ الْحجر، وَكَلمه اللَّحْم المسموم أَنه مَسْمُوم فَلَا يُنكر حب الْجَبَل لَهُ، وَحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه لِأَن بِهِ قُبُور الشُّهَدَاء، وَلِأَنَّهُم لجأوا إِلَيْهِ يَوْم أحد وامتنعوا. قَوْله: (أَلا أخْبركُم بِخَير دور الْأَنْصَار؟) كلمة: أَلا، للتّنْبِيه، وَالْخطاب لمن كَانَ مَعَه من الصَّحَابَة، ودور جمع: دَار، نَحْو أَسد وَأسد، وَيُرِيد بِهِ الْقَبَائِل الَّذين يسكنون الدّور، يَعْنِي: الْمحَال. قَوْله: (بني النجار) ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْجِيم وبالراء: وَهُوَ تيم الله بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج. قيل: سمي النجار لِأَنَّهُ اختتن بقدوم، وَقيل: بل نجر وَجه رجل بالقدوم فَسُمي النجار. قَوْله: (بني عبد الْأَشْهَل) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن جشم بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عَمْرو، وَهُوَ: النبيت بن مَالك بن الْأَوْس، والأوس أحد جذمي الْأَنْصَار لأَنهم جذمان: الْأَوْس والخزرج، وهما أَخَوان وأمهما: قَبيلَة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة. وَقيل: قَبيلَة بنت كَاهِل بن عدي بن سعد بن قضاعة. قَوْله: (بني سَاعِدَة) ، سَاعِدَة بن كَعْب بن الْخَزْرَج. قَوْله: (يَعْنِي خيرا) ، أَي: كَانَ لفظ خيرا محذوفا من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه أَرَادَهُ.
قَوْله: (وَقَالَ سُلَيْمَان بن بِلَال) ، أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي التَّيْمِيّ مولى عبد الله بن أبي عَتيق، واسْمه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، وَيُقَال: مولى الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو عَليّ بن خُزَيْمَة فِي (فَوَائده) قَالَ: حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان، أَي: ابْن بِلَال، حَدثنِي أَبُو بكر بن أبي أويس عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، فَذكره، وأوله: (أَقبلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِذا دنا من الْمَدِينَة أَخذ طَرِيق غراب لِأَنَّهَا أقرب طَرِيق إِلَى الْمَدِينَة، وَترك الْأُخْرَى) فساق الحَدِيث وَلم يذكر أَوله. قَوْله: (حَدثنِي عَمْرو) ، هُوَ عَمْرو بن يحيى الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث. قَوْله: (وَقَالَ سُلَيْمَان) ، هُوَ ابْن بِلَال الْمَذْكُور. قَوْله: (سعيد بن سعيد) ، هُوَ الْأنْصَارِيّ أَخُو يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (عَن عمَارَة) ، بِضَم الْعين ابْن غزيَّة، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الزَّاي وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْمَازِني الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (عَن عَبَّاس) هُوَ عَبَّاس بن سهل وَأَبوهُ سهل ابْن سعد، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْخرص الَّذِي ذكرنَا تَفْسِيره، وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ. فَذهب الزُّهْرِيّ وَعَطَاء وَالْحسن وَعمر بن دِينَار وَعبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق ومروان وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد إِلَى جَوَاز الْخرص فِي النخيل وَالْأَعْنَاب حِين يَبْدُو إصلاحها. وَقَالَ ابْن رشد: جُمْهُور الْعلمَاء على إجَازَة الْخرص فِيهَا، ويخلى بَينهَا وَبَين أَهلهَا يَأْكُلُونَهُ رطبا. وَقَالَ دَاوُد: لَا خرص إلاَّ فِي النخيل فَقَط، وَقَالَ الشَّافِعِي: إذابدا صَلَاح ثمار النّخل وَالْكَرم فقد تعلق وجوب الزَّكَاة بهما وَوَجَب خرصهما للْعلم بِمِقْدَار زكاتهما، فيخرصهما رطبا. وَينظر الخارض كم يصير تَمرا، ثمَّ يخبر رب المَال فِيهَا، فَإِن شَاءَ كَانَت مَضْمُونَة فِي يَده وَله التَّصَرُّف فِيهَا، فَإِذا تصرف فِيهَا ضمنهَا، وَيُسْتَفَاد بالخرص الْعلم بِقدر الزَّكَاة فِيهَا واستباحة رب المَال التَّصَرُّف فِي الثَّمَرَة، بِشَرْط الضَّمَان. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَبِه قَالَ أَبُو بكر، وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَهُوَ سنة فِي الرطب وَالْعِنَب، وَلَا خرص فِي الزَّرْع، وَهُوَ قَول أَحْمد. وَذكر ابْن بزيزة، قَالَ الْجُمْهُور: يَقع الْخرص فِي النّخل وَالْكَرم.
وَاخْتلف مَذْهَب مَالك: هَل يخرص الزَّيْتُون أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: الْجَوَاز قِيَاسا على الْكَرم، وَالْمَنْع لوَجْهَيْنِ: الأول: لِأَن أوراقه تستره. وَالثَّانِي: أَن أَهله لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَن يأكلوه رطبا، فَلَا معنى لخرصه وَقد اخْتلفُوا هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ، فَحكى الضميري عَن الشَّافِعِيَّة وَجها بِوُجُوبِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُور: هُوَ مُسْتَحبّ إلاَّ أَن تعلق بِهِ حق لمحجور مثلا، أَو كَانَ شركاؤه غير مؤتمنين، فَيجب لحفظ مَال الْغَيْر. وَاخْتلفُوا أَيْضا: هَل يخْتَص بِالنَّخْلِ أَو يلْحق بِهِ الْعِنَب أَو يعم كل مَا ينْتَفع بِهِ رطبا وجافا؟ وبالأول قَالَ(9/67)
شُرَيْح القَاضِي وَبَعض الظَّاهِرِيَّة. وَالثَّانِي: قَول الْجُمْهُور، وَإِلَى الثَّالِث نحى البُخَارِيّ، وَهل يمْضِي قَول الخارص أَو يرجع مَا آل إِلَيْهِ الْحَال بعد الْجَفَاف؟ الأول: قَول مَالك وَطَائِفَة. وَالثَّانِي: قَول الشَّافِعِي وَمن تبعه. وَهل يَكْفِي خارص وَاحِد عَارِف ثِقَة أم لَا بُد من اثْنَيْنِ؟ وهما قَولَانِ للشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور على الأول، وَاخْتلف أَيْضا هَل هُوَ اعْتِبَار أَو تضمين، وهما قَولَانِ للشَّافِعِيّ أظهرهمَا الثَّانِي، وَفَائِدَته جَوَاز التَّصَرُّف فِي جَمِيع الثَّمَرَة، وَلَو أتلف الْمَالِك الثَّمَرَة بعد الْخرص أخذت مِنْهُ الزَّكَاة بِحِسَاب مَا خرص.
وَاخْتلفُوا فِي الْخرص هَل هُوَ شَهَادَة أَو حكم؟ فَإِن كَانَ شَهَادَة لم يكتف بخارص وَاحِد، وَإِن كَانَ حكما اكْتفى بِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي الْقَائِف والطبيب يشْهد فِي الْعُيُوب، وحاكم الْجَزَاء فِي الصَّيْد، وَاخْتلفُوا: هَل يُحَاسب أَصْحَاب الزَّرْع وَالثِّمَار بِمَا أكلُوا قبل التصفية والجذاذ أم لَا؟ وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا: هَل يُؤْخَذ قدر العواري والضيف وَمَا فِي مَعْنَاهُ أم لَا؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا إِذا غلط الخارص.
ومحصل الْأَمر فِيهِ أَنه: إِن لم يكن من أهل الْمعرفَة بالخرص فالرجوع إِلَى الْخَارِج لَا إِلَى قَوْله، وَإِن كَانَ من أهل الْمعرفَة ثمَّ تبين أَنه أَخطَأ فَهَل يُؤْخَذ بقوله أَو بِمَا تبين؟ فِيهِ خلاف على اخْتلَافهمْ فِي الْمُجْتَهد يخطيء هَل ينْقض حكمه أم لَا؟ قَالَ ابْن قدامَة: وَيلْزم الخارص أَن يتْرك الثُّلُث أَو الرّبع فِي الْخرص توسعة على أَرْبَاب الْأَمْوَال، وَبِه قَالَ إِسْحَاق وَاللَّيْث لحَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرصتم فَخُذُوا ودعوا الثُّلُث فَإِن لم تدعوا الثُّلُث فدعوا الرّبع، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَاسْتدلَّ من يرى الْخرص فِي النّخل وَالْكَرم بِمَا رَوَاهُ ابْن الْمسيب عَن عتاب بن أسيد، قَالَ: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرص الْعِنَب كَمَا يخرص النّخل، وَتُؤْخَذ زَكَاته زبيبا كَمَا تُؤْخَذ صَدَقَة النّخل تَمرا) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الدَّلِيل على جَوَاز الْخرص وُرُود السّنة قولا وفعلاً وامتثالاً: أما القَوْل فَحَدِيث عتاب، وَأما الْفِعْل فَحَدِيث البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَأما الِامْتِثَال فَمَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ خراصون، كَأَنَّهُ يَعْنِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى يهود فيخرص حِين يطيب قبل أَن يُؤْكَل. وَعَن ابْن عمر فِي (صَحِيح ابْن حبَان) : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غلب أهل خَيْبَر على الأَرْض وَالزَّرْع وَالنَّخْل فَصَالَحُوهُ، وَفِيه: فَكَانَ ابْن رَوَاحَة يَأْتِيهم فيخرصها عَلَيْهِم ثمَّ يضمنهم الشّطْر. وَفِي (المُصَنّف) بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر قَالَ: خرصها عَلَيْهِم ابْن رَوَاحَة يَعْنِي: خيبرا أَرْبَعِينَ ألف وسق.
وَاسْتدلَّ من يرى الْخرص مُطلقًا فِي النخيل وَغَيره بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَعْفَر بن برْقَان عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين افْتتح خَيْبَر الحَدِيث، وَفِيه: (فَلَمَّا كَانَ حِين يصرم النّخل بعث إِلَيْهِم ابْن رَوَاحَة فحرز النّخل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل الْمَدِينَة الْخرص) . الحَدِيث. وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الصائت بن زبيد عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعْملهُ على الْخرص، فَقَالَ: اثْبتْ لنا النّصْف وأبقِ لَهُم النّصْف فَإِنَّهُم يسرفون، وَلَا تصل إِلَيْهِم) الحَدِيث.
وَقَالَ الشّعبِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْخرص مَكْرُوه. وَقَالَ الشّعبِيّ: الْخرص بِدعَة. وَقَالَ الثَّوْريّ خرص الثِّمَار لَا يجوز. وَفِي (أَحْكَام ابْن بزيزة) : قَالَ أَبُو حنيفَة وصاحباه: الْخرص بَاطِل. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: احْتج أَبُو حنيفَة بِمَا رَوَاهُ جَابر مَرْفُوعا: (نهى عَن الْخرص) ، وَبِمَا رَوَاهُ جَابر بن سَمُرَة: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع كل ثَمَرَة بخرص) ، وَبِأَنَّهُ تخمين، وَقد يخطىء، وَلَو جَوَّزنَا لجوزنا خرص الزَّرْع، وخرص الثِّمَار بعد جذاذها أقرب إِلَى الإبصار من خرص مَا على الأشحار، فَلَمَّا لم يجز فِي الْقَرِيب لم يجز فِي الْبعيد، وَلِأَنَّهُ تضمين رب المَال بِقدر الصَّدَقَة، وَذَلِكَ غير جَائِز لِأَنَّهُ بيع رطب بِتَمْر، وَأَنه بيع حَاضر بغائب، وَأَيْضًا فَهُوَ من الْمُزَابَنَة الْمنْهِي عَنْهَا وَهُوَ بيع التَّمْر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَهُوَ أَيْضا من: بَاب بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة، فيدخله الْمَنْع بَين التَّفَاضُل وَبَين النَّسِيئَة. وَقَالُوا: الْخرص مَنْسُوخ بنسخ الرِّبَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: أنكر أَصْحَاب الرَّأْي الْخرص، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا كَانَ يفعل تخويفا للمزارعين لِئَلَّا يخونوا، لَا ليلزم بِهِ الحكم، لِأَنَّهُ تخمين وغرور، أَو كَانَ يجوز قبل تَحْرِيم الرِّبَا والقمار ثمَّ تعقبه الْخطابِيّ بِأَن تَحْرِيم الرِّبَا وَالْميسر مُتَقَدم، والخرص عمل بِهِ فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى مَاتَ ثمَّ أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَمن بعدهمْ، وَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم وَلَا من التَّابِعين تَركه إلاَّ الشّعبِيّ، قَالَ: وَأما قَوْلهم إِنَّه تخمين وغرور فَلَيْسَ، كَذَلِك، بل هُوَ اجْتِهَاد فِي معرفَة مِقْدَار التَّمْر وإدراكه بالخرص الَّذِي هُوَ نوع من الْمَقَادِير. قلت: قَوْله: تَحْرِيم الرِّبَا وَالْميسر مُتَقَدم، يحْتَاج إِلَى معرفَة التَّارِيخ، وَعِنْدنَا مَا يدل على صِحَة النّسخ(9/68)
وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث جَابر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْخرص، وَقَالَ: أَرَأَيْتُم إِن هلك التَّمْر أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل مَال أَخِيه بِالْبَاطِلِ؟) والحظر بعد الْإِبَاحَة عَلامَة النّسخ. وَقَوله: والخرص عمل بِهِ ... إِلَى قَوْله: إلاَّ الشّعبِيّ، مُسلم لكنه لَيْسَ على الْوَجْه الَّذِي ذَكرُوهُ، وَإِنَّمَا وَجهه أَنهم فعلوا ذَلِك ليعلم مِقْدَار مَا فِي أَيدي النَّاس من الثِّمَار فَيُؤْخَذ مثله بِقَدرِهِ فِي أَيَّام الصرام لَا أَنهم يملكُونَ شَيْئا مَا يجب لله فِيهِ بِبَدَل لَا يَزُول ذَلِك الْبَدَل. وَأما قَوْلهم: إِنَّه تخمين ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِكَلَام موجه لِأَنَّهُ لَا شكّ أَنه تخمين وَلَيْسَ بتحقيق، وعيان، وَكَيف يُقَال لَهُ: هُوَ اجْتِهَاد، والمجتهد فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة قد يخطىء؟ فَفِي مثل هَذَا أَجْدَر بالْخَطَأ، ثمَّ الْجَواب عَن حَدِيث الْبَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بذلك معرفَة مِقْدَار مَا فِي نخل تِلْكَ الْمَرْأَة خَاصَّة، ثمَّ يَأْخُذ مِنْهَا الزَّكَاة وَقت الصرام على حسب مَا تجب فِيهَا، وَأَيْضًا فقد خرص حديقتها وأمرها أَن تحصي، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه جعل زَكَاته فِي ذمَّتهَا وأمرها أَن تتصرف فِي ثَمَرهَا كَيفَ شَاءَت، وَإِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِك تخويفا لِئَلَّا يخونوا، وَأَن يعرفوا مِقْدَار مَا فِي النّخل ليأخذوا الزَّكَاة وَقت الصرام هَذَا معنى الْخرص، فَأَما أَنه يلْزم بِهِ حكم شَرْعِي، فَلَا.
وَأما حَدِيث عتاب بن أسيد، فَإِن الَّذِي رَوَاهُ سعيد بن الْمسيب، فعتاب توفّي سنة ثَلَاث عشرَة وَسَعِيد ولد فِي سنة خمس عشرَة، وَقيل: سنة عشْرين، وَقَالَ أبي: عَليّ بن السكن لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَجه غير هَذَا، وَهُوَ من رِوَايَة عبد الله بن نَافِع عَن مُحَمَّد بن صَالح عَن ابْن شهَاب عَن سعيد، وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ، وَخَالَفَهُمَا صَالح بن كيسَان فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر عتابا، وَلم يقل: عَن عتاب، وَسُئِلَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة الرازيان فِيمَا ذكره أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ عَنهُ، فَقَالَا: هُوَ خطأ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الصَّحِيح: عَن سعيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... مُرْسلا. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: الصَّحِيح عِنْدِي: عَن الزُّهْرِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... وَلَا أعلم أحدا تَابع عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق فِي هَذِه الرِّوَايَة. فَإِن قلت: زعم الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْوَاقِدِيّ رَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَن الْمسور بن مخرمَة عَن عتاب، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرص أعناب الثقيف كخرص النّخل، ثمَّ يُؤدى زبيبا كَمَا تُؤَدّى زَكَاة النّخل تَمرا، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ انْقِطَاع؟ قلت: سُبْحَانَ الله، إِذا كَانَ الْوَاقِدِيّ فِيمَا يحتجون بِهِ يسكتون عَنهُ، وَإِذا كَانَ فِيمَا يحْتَج بِهِ عَلَيْهِم يشنعون بأنواع الطعْن، وَمَعَ هَذَا قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: لم يَصح حَدِيث سعيد، وَلَا حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة، وَلَا فِي الْخرص حَدِيث صَحِيح إلاَّ حَدِيث البُخَارِيّ. قَالَ: ويليه حَدِيث ابْن رَوَاحَة.
قلت: قد مر الْجَواب عَن حَدِيث البُخَارِيّ، وَأما حَدِيث ابْن رَوَاحَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة فَفِي إِسْنَاده رجل مَجْهُول، لِأَن أَبَا دَاوُد قَالَ: حَدثنَا يحيى بن معِين أخبرنَا حجاج عَن ابْن جريج، قَالَ: أخْبرت عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت، وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى يهود فيخرص النّخل حَتَّى يطيب قبل أَن يُؤْكَل مِنْهُ. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَحَدِيث الصَّلْت بن زبيد الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا، فداخل تَحت قَول ابْن الْعَرَبِيّ: وَلَا فِي الْخرص حَدِيث صَحِيح، وَيُقَال: إِن قصَّة خَيْبَر مَخْصُوصَة لِأَن الأَرْض أرضه وَالْعَبِيد عبيده، فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعلم مَا بِأَيْدِيهِم من الثِّمَار فَيتْرك لَهُم مِنْهَا قدر نفقاتهم، وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرهم مَا أقرهم الله، فَلَو كَانَ على وَجه الْمُسَاقَاة لوَجَبَ ضرب الْأَجَل وَالتَّقْيِيد بِالزَّمَانِ، لِأَن الْإِجَارَة المجهولة مُحرمَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ الَّذين لَا يرَوْنَ بالخرص: أَن لَيْسَ فِي شَيْء من الْآثَار الَّتِي وَردت فِيهِ أَن الثَّمَرَة كَانَت رطبا فِي وَقت مَا خرصت، وَكَيف يجوز أَن يكون رطبا حِينَئِذٍ فَيجْعَل لصَاحِبهَا حق الله فِيهَا بكيله ذَلِك تَمرا يكون عَلَيْهِ نسيئه؟ وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع التَّمْر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَنهى عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ نَسِيئَة، وَقد يجوز أَن يُصِيب الثَّمَرَة بعد ذَلِك آفَة فتتلفها، أَو نَار فتحرقها، فَيكون مَا يُؤْخَذ من صَاحبهَا بَدَلا من حق الله مأخوذا مِنْهُ بَدَلا مِمَّا لم يسلم لَهُ، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن الْقَائِلين بِهِ لَا يضمنُون أَرْبَاب الْأَمْوَال مَا تلف بعد الْخرص. قَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع من يحفظ عَنهُ الْعلم أَن المخروص إِذا أَصَابَته جَائِحَة قبل الْجذاذ فَلَا ضَمَان. قلت: إِذا لم يكن ضَمَان بعد تلف المخروص فَلَا فَائِدَة فِي الْخرص حِينَئِذٍ، وَالْأَظْهَر عِنْد الشَّافِعِي: أَن الْخرص تضمين حَتَّى لَو أتلف الْمَالِك الثَّمَرَة بعد الْخرص أخذت مِنْهُ الزَّكَاة بِحِسَاب مَا خرص، فَإِذا كَانَ نفس الْخرص تضمينا يَنْبَغِي أَن لَا يُفَارق الْأَمر بَين التّلف والإتلاف، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: لم يثبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرص النّخل إلاَّ على الْيَهُود، لأَنهم كَانُوا شُرَكَاء وَكَانُوا غير أُمَنَاء، وَأما الْمُسلمُونَ فَلم يخرص عَلَيْهِم.(9/69)
وَمن الَّذِي يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب: ظُهُور معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إخْبَاره عَن الرّيح الَّتِي تهب، وَمَا ذكر فِي تِلْكَ الْقِصَّة. وَفِيه: تدريب الأتباع وتعليمهم وَأخذ الحذر مِمَّا يتَوَقَّع الْخَوْف مِنْهُ. وَفِيه: فضل الْمَدِينَة. وَفِيه: فضل أحد. وَفِيه: فضل الْأَنْصَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَفِيه: قبُول هَدِيَّة الْكفَّار. وَفِيه: جَوَاز الإهداء لملك الْكفَّار وَجَوَاز إقطاع أَرض لَهُم. وَفِيه: أَن الْمُخَالفَة لما قَالَه الرَّسُول تورث شدَّة وبلاء.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حائِطٌ فَهْوَ حدِيقَةٌ وَما لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حائِطٌ لَمْ يُقَلْ حَدِيقَةٌ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبيد الله، هُوَ الْقَاسِم بن سَلام الإِمَام الْمَشْهُور صَاحب (الْغَرِيب) وَقد ذكر هَذَا فِيهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
55 - (بابُ العُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وبِالمَاءِ الجَارِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أَخذ العُشر فِي الأَرْض الَّتِي تسقى من مَاء السَّمَاء وَهُوَ الْمَطَر. قَوْله: (وَالْمَاء الْجَارِي) أَي: وَمن الَّذِي يسقى بِالْمَاءِ الْجَارِي، وَإِنَّمَا اخْتَار لفظ: المَاء الْجَارِي، وَالْحَال أَن الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب هُوَ الْعُيُون لعمومه وشموله الْعُيُون والأنهار، وَهَذَا كَمَا وَقع فِي (سنَن أبي دَاوُد) : (فِيمَا سقت السَّمَاء والأنهار والعيون) الحَدِيث.
ولَمْ يَرَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي العَسَلِ شَيْئا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعَسَل فِيهِ جَرَيَان، وَمن طبعه الانحدار فيناسب المَاء من هَذِه الْجِهَة. وَقيل: الْمُنَاسبَة فِيهِ من جِهَة أَن الحَدِيث يدل على أَن لَا عشر فِيهِ لِأَنَّهُ خص الْعشْر أَو نصفه بِمَا يسقى، فأفهم أَن مَا لَا يسقى لَا يعشر، وَفِيه نظر، لِأَن مَا لَا يعسر مِمَّا لَا يسقى كثير، فَمَا وَجه ذكر الْعَسَل؟ وَقيل: إِدْخَاله الْعَسَل فِيهِ للتّنْبِيه على الْخلاف فِيهِ، وَأَنه لَا يرى فِيهِ زَكَاة، وَإِن كَانَت النَّحْل تغتذي مِمَّا يسقى من السَّمَاء. قلت: هَذَا أبعد من الأول على مَا لَا يخفى على المتأمل.
وَهَذَا الْموضع يحْتَاج إِلَى بَيَان مَا ورد فِيهِ من الْأَخْبَار، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْأَئِمَّة، فَنَقُول بحول الله وقوته وتوفيقه.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي زَكَاة الْعَسَل، حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى النَّيْسَابُورِي حَدثنَا عَمْرو بن أبي سَلمَة التنيسِي عَن صَدَقَة بن عبد الله عَن مُوسَى ابْن يسَار عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الْعَسَل فِي كل عشرَة أزق زق) . ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سيارة المنعي، وَعبد الله بن عَمْرو، قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث ابْن عمر فِي إِسْنَاده مقَال، وَلَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب كثير شَيْء، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم، وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: لَيْسَ فِي الْعَسَل شَيْء. انْتهى. قلت: انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِحَدِيث ابْن عمر هَذَا، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أهل الْيمن أَن يُؤْخَذ من الْعَسَل الْعشْر) ، وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن الْمُحَرر، بتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة وتكرارها، وَهُوَ مَتْرُوك. قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِثِقَة، وَقَالَ أَحْمد: ترك النَّاس حَدِيثه، وَقَالَ الْجوزجَاني: هَالك، وَقَالَ ابْن حبَان: من خِيَار عباد الله إلاَّ أَنه كَانَ يكذب وَلَا يعلم، ويقلب الْأَخْبَار وَلَا يفهم. وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ حَدِيث أبي سيار المنعي، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله إِن لي نخلا! قَالَ: إِذن تعشر؟ قلت: إحم لي جبلة، فحماه لي) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: وَهَذَا أصح مَا رُوِيَ فِي وجوب الْعشْر فِيهِ، وَهُوَ مُنْقَطع. قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا فَقَالَ: حَدِيث مُرْسل، وَإِنَّمَا قَالَ: مُرْسل، لِأَن فِيهِ سُلَيْمَان بن مُوسَى يروي عَن أبي سيارة، وَسليمَان لم يُدْرِكهُ، وَلَا أحدا من الصَّحَابَة، وَأَبُو سيارة المتعي اسْمه: عميرَة بن الأعلم، وَقيل: عُمَيْر بن الأعلم، ذكره أَبُو عمر فِي (كتاب الْأَنْسَاب) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: جَاءَ أحد بني متعان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعشور بِحل لَهُ، وَكَانَ سَأَلَهُ أَن يحمي وَاديا يُقَال لَهُ: سلبة، فحمى لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك الْوَادي، فَلَمَّا ولي عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كتب سُفْيَان بن وهب إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يسْأَله عَن ذَلِك؟ فَكتب عمر، رَضِي الله(9/70)
تَعَالَى عَنهُ: إِن أدّى إِلَيْك مَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من عشور نحله فَاحم لَهُ سلبة، وإلاَّ فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَاب غيث يَأْكُلهُ من شَاءَ. وسلبة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَاللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة، كَذَا قَيده الْبكْرِيّ.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَوَقع فِي سَمَاعنَا من السّنَن، بِسُكُون اللَّام، وَقَالَ شَيخنَا أَيْضا: حكى التِّرْمِذِيّ عَن أَكثر أهل الْعلم وجوب الزَّكَاة فِي الْعَسَل، وسمى مِنْهُم: أَحْمد وَإِسْحَاق، وَفِيه نظر، فَإِن الَّذين لم يَقُولُوا بِالْوُجُوب: مَالك وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح بن حَيّ وَأَبُو بكر بن الْمُنْذر وَدَاوُد، وَبِه قَالَ من الصَّحَابَة: عبد الله بن عمر، وَمن التَّابِعين: الْمُغيرَة بن حَكِيم وَعمر بن عبد الْعَزِيز. وَقَالَ: وَفرق أَبُو حنيفَة بَين أَن يكون النَّحْل فِي أَرض الْعشْر وَبَين أَن يكون فِي أَرض الْخراج، فَإِن كَانَ فِي أَرض الْعشْر فَفِيهِ الزَّكَاة، وَإِن كَانَ فِي أَرض الْخراج فَلَا زَكَاة فِيهِ، قل أَو كثر. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا كَانَ فِي أَرض الْعشْر فَفِي قَلِيل الْعَسَل وَكَثِيره الْعشْر، وَحكى عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من الْعَسَل عشر، وَحكى ابْن حزم عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا بلغ الْعَسَل عشرَة أَرْطَال فَفِيهِ رَطْل وَاحِد، وَكَذَا مَا زَاد فَفِيهِ الْعشْر، والرطل هُوَ الفلفلي. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا بلغ الْعَسَل خَمْسَة أفراق فَفِيهِ الْعشْر، وإلاَّ فَلَا. قَالَ: وَالْفرق سِتَّة وَثَلَاثُونَ رطلا فلفلية. وَحكى صَاحب (الْهِدَايَة) عَن أبي يُوسُف: أَنه يعْتَبر فِيهِ الْقيمَة كَمَا هُوَ أَصله، وَعنهُ: أَنه لَا شَيْء فِيهِ حَتَّى يبلغ عشر قرب، وَعنهُ: خَمْسَة أُمَنَاء. قلت: تَحْقِيق مَذْهَبنَا فِيهِ أَن عِنْد أبي حنيفَة: يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره لِأَنَّهُ لَا يشْتَرط النّصاب فِي الْعشْر، وَعَن أبي يُوسُف: إِذا بلغت قِيمَته خَمْسَة أوساق، وَعنهُ أَنه قدره بِعشْرَة أَرْطَال، قَالَ فِي (الْمَبْسُوط) : وَهِي رِوَايَة الأمالي، وَهِي: خَمْسَة أُمَنَاء. وَعنهُ أَنه اعْتبر فِيهِ عشر قرب، وَعَن مُحَمَّد ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهَا: خمس قرب، والقربة خَمْسُونَ منا، ذكره فِي (الْيَنَابِيع) وَفِي (الْمُغنِي) : الْقرْبَة مائَة رَطْل. وَالثَّانيَِة: خَمْسَة أُمَنَاء. وَالثَّالِثَة: خَمْسَة أَوَاقٍ. وَقَالَ السَّرخسِيّ: وَهِي تسعون منا.
واحتجت أَصْحَابنَا بِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عبد الله ابْن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه أَخذ من الْعَسَل الْعشْر، وبرواية أبي دَاوُد أَيْضا عَن عَمْرو بن شُعَيْب، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَبِمَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا عَنهُ عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن حَده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُؤْخَذ فِي زَمَانه من قرب الْعَسَل من كل عشر قرب قربَة من أوسطها. قَالَ: هُوَ حَدِيث حسن. وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن ابْن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كتب إِلَى أهل الْيمن أَن يُؤْخَذ عَن الْعَسَل الْعشْر، ذكره فِي (الإِمَام) . فَإِن قلت: ذكرُوا عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ عَن الْعَسَل فِي الْيمن؟ قَالَ: لم أومر فِيهِ بِشَيْء. قلت: لَا يلْزم من عدم أَمر معَاذ أَن لَا يجب فِيهِ الْعشْر، وَإِثْبَات أبي هُرَيْرَة مقدم على نفي أَمر معَاذ. وَبِمَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي ذئاب عَن أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أمره فِي الْعَسَل بالعشر) ، رَوَاهُ الْأَثْرَم، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ. قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا أنس بن عِيَاض عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذئاب عَن أَبِيه (عَن سعد بن أبي ذئاب، قَالَ: قدمت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسْلمت، ثمَّ قلت: يَا رَسُول الله إجعل لقومي مَا أَسْلمُوا عَلَيْهِ من أَمْوَالهم، فَفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستعملني عَلَيْهِم، ثمَّ استعملني أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: وَكَانَ سعد من أهل السراة، قَالَ: تَكَلَّمت قومِي فِي الْعَسَل فَقلت زَكَاة فَإِنَّهُ لَا خير فِي ثَمَرَة لَا تزكّى، فَقَالُوا: كم؟ قَالَ: قلت: الْعشْر، فَأخذت مِنْهُم الْعشْر وأتيت عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ، قَالَ: فَقَبضهُ عمر فَبَاعَهُ ثمَّ جعل ثمنه فِي صدقَات الْمُسلمين) . وَبِمَا رَوَاهُ عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ لعمر: إِن عندنَا وَاديا فِيهِ عسل كثير، فَقَالَ: عَلَيْهِم فِي كل عشرَة أفراق فرق، ذكره حميد بن زَنْجوَيْه فِي (كتاب الْأَمْوَال) وَقَالَ الْأَثْرَم: قلت لِأَحْمَد: أَخذ عمر الْعشْر من الْعَسَل كَانَ على أَنهم تطوعوا بِهِ، قَالَ: لَا بل أَخذه مِنْهُم حَقًا. فَإِن قلت: فقد رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: لَيْسَ فِي الْخَيل وَلَا فِي الرَّقِيق وَلَا فِي الْعَسَل صَدَقَة؟ قلت: الْعمريّ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. فَإِن قلت: قَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ فِي زَكَاة الْعَسَل حَدِيث يَصح؟ قلت: هَذَا لَا يقْدَح مَا لم يبين عِلّة الحَدِيث والقادح فِيهِ، وَقد رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو دَاوُد، وَلم يتَكَلَّم عَلَيْهِ، فَأَقل حَاله أَن يكون حسنا وَهُوَ حجَّة، وَلَا يلْزمنَا قَول البُخَارِيّ لِأَن الصَّحِيح لَيْسَ مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَكم من حَدِيث صَحِيح(9/71)
لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ، وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونه غير صَحِيح أَن لَا يحْتَج بِهِ، فَإِن الْحسن، وَإِن لم يبلغ دَرَجَة الصَّحِيح، فَهُوَ يحْتَج بِهِ، وَلِأَن النَّحْل تتَنَاوَل من الْأَنْوَار وَالثِّمَار وفيهَا الْعشْر.
3841 - حدَّثنا سعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ بنُ يَزِيدَ عَن الزُّهْرِيِّ عَن سالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ أوْ كانَ عَثَرِيا العُشْرُ ومَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) ، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ يروي عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والخديث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة أَيْضا عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي عَن ابْن وهب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن الْحسن التِّرْمِذِيّ عَن سعيد بن أبي مَرْيَم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه جَمِيعًا فِيهِ عَن هَارُون بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) أَي: الْمَطَر لِأَنَّهُ ينزل مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} (الْفرْقَان: 84) . وَهُوَ من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (أَو كَانَ عثريا) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة المخففة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ مَا يشرب بعروقه من غير سقِِي، قَالَه الْخطابِيّ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَهُوَ مَا يسيل إِلَيْهِ مَاء الْمَطَر وتحمله إِلَيْهِ الْأَنْهَار، سمي بذلك لِأَنَّهُ يكسر حوله الأَرْض ويعثر جريه إِلَى أصُول النّخل بِتُرَاب هُنَاكَ يرْتَفع، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : قيل لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ يصنع لَهُ شبه الساقية يجْتَمع فِيهِ المَاء من الْمَطَر إِلَى أُصُوله، وَيُسمى ذَلِك: العاثور، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: هُوَ الَّذِي يشرب بعروقه من مَاء يجْتَمع فِي حفير، وَسمي بِهِ لِأَن الْمَاشِي يتعثر فِيهِ، وَقَالَ ابْن فَارس: العثري مَا سقِِي من النّخل سيحا، وَكَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي وَصَاحب (الْجَامِع) و (الْمُنْتَهى) وَلَفظ الحَدِيث يرد عَلَيْهِم لِأَنَّهُ عطف العثري على قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون) والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، وَالصَّوَاب مَا قَالَه الْخطابِيّ. وَقَالَ الهجري: يجوز فِيهِ تَشْدِيد الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَحَكَاهُ ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) عَن ابْن الْأَعرَابِي، ورده ثَعْلَب. وَفِي (الْمثنى والمثلث) لِابْنِ عديس: فِيهِ ضم الْعين وَفتحهَا وَإِسْكَان الثَّاء. قلت: هُوَ مَنْسُوب إِلَى العثر، بِسُكُون الثَّاء، لَكِن الْحَرَكَة من تغييرات النّسَب. قَوْله: (الْعشْر) مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) ، تَقْدِيره: الْعشْر وَاجِب، أَو: يجب فِيمَا سقت السَّمَاء. قَوْله: (أَو كَانَ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى لفظ: مسقي مُقَدّر تَقْدِيره: أَو كَانَ المسقي عثريا، وَدلّ على ذَلِك قَوْله: (فِيمَا سقت) . قَوْله: (وَفِيمَا سقِِي بالنضح) تَقْدِيره: وَفِيمَا سقِِي بالنضح (نصف الْعشْر) أَي: يجب أَو وَاجِب، و: النَّضْح، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: وَهُوَ مَا سقِِي بالسواني، وَقَالَ بَعضهم: النَّضْح مَا سقِِي بالدوالي والرشاء، والنواضح الْإِبِل الَّتِي يستقى عَلَيْهَا، وأحدها: نَاضِح، وَالْأُنْثَى: ناضحة، وَقَالَ بَعضهم: بالنضح أَي: بالسانية، وَهِي رِوَايَة مُسلم. قلت: رِوَايَة مُسلم عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: (أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فِيمَا سقت الْأَنْهَار والغيم الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف الْعشْر) . وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِيمَا سقت السَّمَاء والأنهار والعيون أَو كَانَ بعلاً الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بالسواني والنضح نصف الْعشْر) . قَوْله: (أَو كَانَ بعلاً) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره لَام: وَهُوَ مَا يشرب من النّخل بعروقه من الأَرْض من غير سقِِي سَمَاء وَلَا غَيرهَا والسواني: جمع سانية، وَهِي النَّاقة الَّتِي يستقى عَلَيْهَا. وَقيل: السانية الدَّلْو الْعَظِيمَة، والأنهار الَّتِي تستقى بهَا، والنضح قد مر تَفْسِيره. فَإِن قلت: قد علمت أَن النَّضْح هُوَ السانية، فَكيف وَجه رِوَايَة أبي دَاوُد بالسواني أَو النَّضْح؟ قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا شكّ من الرَّاوِي بَين السواني والنضح، أَرَادَ أَن لفظ الحَدِيث أما فِيمَا سقِِي بالسواني، وَأما فِيمَا سقِِي بالنضح، وَأما الْعشْر، فقد قَالَ ابْن بزيزة فِي (شرح الْأَحْكَام) : وَهُوَ بِضَم الْعين والشين وسكونها، وَمِنْهُم من يَقُول: العشور، بِفَتْح الْعين وَضمّهَا أَيْضا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَأكْثر الروَاة بِفَتْح الْعين، وَهُوَ اسْم للقدر الْمخْرج. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْعشْر، بِضَم الْعين وَسُكُون الشين، وَيجمع على: عشور، قَالَ: وَالْحكمَة فِي فرض الْعشْر أَنه يكْتب بِعشْرَة أَمْثَاله، فَكَأَن الْمخْرج للعشر تصدق بِكُل مَاله. فَافْهَم.(9/72)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: بِظَاهِر الحَدِيث الْمَذْكُور أَخذ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقدر فِيهِ مِقْدَارًا، فَدلَّ على وجوب الزَّكَاة فِي كل مَا يخرج من الأَرْض قل أَو كثر. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث مُجمل يفسره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) . قلت: لَا نسلم أَنه مُجمل، فَإِن الْمُجْمل مَا لَا يعرف المُرَاد بصيغته لَا بِالتَّأَمُّلِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الحَدِيث عَام فَإِن كلمة: مَا، من أَلْفَاظ الْعُمُوم. فَإِن قلت: سلمنَا أَنه عَام، وَلَكِن الحَدِيث الْمَذْكُور خصصه؟ قلت: إِجْرَاء الْعَام على عُمُومه أولى من التَّخْصِيص لِأَن فِيهِ إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله الْعَام أَن يكون مرَادا، وَلَو صلح هَذَا الحَدِيث أَن يكون مُخَصّصا أَو مُفَسرًا لحَدِيث الْبَاب لصلح حَدِيث مَا عز أَن يكون مُخَصّصا أَو مُفَسرًا لحَدِيث أنيس فِي الْإِقْرَار بِالزِّنَا، فَحِينَئِذٍ يحمل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن المُرَاد بِالصَّدَقَةِ هِيَ الزَّكَاة، وَهِي زَكَاة التِّجَارَة بِقَرِينَة عطفها على زَكَاة الْإِبِل وَالْوَرق، إِذْ الْوَاجِب فِي الْعرُوض والنقود وَاحِد، وَهُوَ الزَّكَاة. وَكَانُوا يتبايعون بالأوساق، وَقِيمَة الْخَمْسَة أوساق كَانَت مِائَتي دِرْهَم فِي ذَلِك الْوَقْت غَالِبا، فأدير الحكم على ذَلِك.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب على تِسْعَة أَقْوَال:
الأول: قَول أبي حنيفَة، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَاحْتج بِظَاهِر الحَدِيث كَمَا ذكرنَا، وبعموم قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} (الْبَقَرَة: 762) . وَقَوله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَاسْتثنى أَبُو حنيفَة من ذَلِك: الْحَطب والقصب والحشيش والتبن وَالسَّعَف، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ لأحد، وَذكر فِي (الْمَبْسُوط) : الطرفاء عوض الْحَطب. وَالسَّعَف: ورق جريد النّخل الَّذِي تصنع مِنْهُ المراوح وَنَحْوهَا، وَالْمرَاد بالقصب الْفَارِسِي، وَهُوَ يدْخل بالأبنية وتتخذ مِنْهُ الأقلام: قيل: هَذَا إِذا كَانَ الْقصب نابتا فِي الأَرْض، وَأما إِذا اتخذ الأَرْض مقبة فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْعشْر، ذكره الاسبيجابي والمرغيناني وَغَيرهمَا، وَيجب فِي قصب السكر والذريرة وقوائم الْخلاف، بتَخْفِيف اللَّام، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قَالَه غير نعْمَان. وَقَالَ السرُوجِي: لقد كذب فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يخفى عَنهُ من قَالَه غَيره، وَإِنَّمَا عصبيته تحمله على ارْتِكَاب مثله قلت: قَول أبي حنيفَة مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُجاهد وَحَمَّاد وَزفر وَعمر بن عبد الْعَزِيز، ذكره أَبُو عمر، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول دَاوُد وَأَصْحَابه فِيمَا لَا يوسق، وَحَكَاهُ يحيى بن آدم بِسَنَد جيد عَن عَطاء: مَا أخرجته الأَرْض فِيهِ الْعشْر أَو نصف الْعشْر، وَقَالَهُ أَيْضا حَفْص بن غياث عَن أَشْعَث عَن الحكم، وَعَن أبي بردة: فِي الرّطبَة صَدَقَة، وَقَالَ بَعضهم: فِي دستجة من بقل، وَعَن الزُّهْرِيّ: مَا كَانَ سوى الْقَمْح وَالشعِير وَالنَّخْل وَالْعِنَب والسلت وَالزَّيْتُون فإنى أرى أَن تخرج صدقته من أثمانه، رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ ابْن بطال: وَقَول أبي حنيفَة خلاف السّنة، وَالْعُلَمَاء، قَالَ: وَقد تنَاقض فِيهَا لِأَنَّهُ اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرقة ربع الْعشْر) ، مَعَ قَوْله: (لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) ، وَلم يَسْتَعْمِلهُ فِي حَدِيث الْبَاب مَعَ مَا بعده، وَكَانَ يلْزمه القَوْل بِهِ. انْتهى. قلت: قَوْله: خلاف السّنة، بَاطِل لِأَنَّهُ احْتج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بِحَدِيث الْبَاب، كَمَا ذكرنَا، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن بطال خلاف الْقُرْآن، لِأَن عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَوله: وَخلاف الْعلمَاء، أَيْضا بَاطِل، لِأَن قَول أبي حنيفَة هُوَ قَول من ذَكَرْنَاهُمْ الْآن، فَكيف يَقُول بترك الْأَدَب خلاف الْعلمَاء؟ وَقَوله: وَقد تنَاقض، غير صَحِيح، لِأَن من نقل ذَلِك من أَصْحَابه لم يقل أحد مِنْهُم إِنَّه اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر، وَأَصْحَابه أدرى بِمَا قَالَه وَبِمَا ذهب إِلَيْهِ، وَلما نقل صَاحب (التَّوْضِيح) مَا قَالَه ابْن بطال أظهر النشاط بذلك، وَقَالَ: وَفِي حَدِيث جَابر: لَا زَكَاة فِي شَيْء من الْحَرْث حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوسق، فَإِذا بلغَهَا فَفِيهِ الزَّكَاة، ذكرهَا ابْن التِّين، وَقَالَ: هِيَ زِيَادَة من ثِقَة فَقبلت، وَفِي مُسلم من حَدِيث جَابر: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق من التَّمْر صَدَقَة) ، وَفِي رِوَايَة من حَدِيث أبي سعيد: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق من تمر وَلَا حب صَدَقَة) . وَفِي رِوَايَة: (لَيْسَ فِي حب وَلَا تمر صَدَقَة) ، حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوساق. انْتهى. قلت: قد ذكرنَا أَن المُرَاد من الصَّدَقَة فِي هَذِه الْأَحَادِيث زَكَاة التِّجَارَة، وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَوْله: (لَا زَكَاة فِي شَيْء) ، أَي: لَا زَكَاة فِي التِّجَارَة، وَنحن نقُول بِهِ حِينَئِذٍ، وَقَالَ ابْن التِّين: روى ابان بن أبي عَيَّاش عَن أنس مَرْفُوعا: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر فِي قَلِيله وَكَثِيره) ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مُطِيع الْبَلْخِي وَهُوَ مَجْهُول عِنْد أهل النَّقْل، والمروي عَن أبي حنيفَة عَن أبان عَن رجل عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضَعِيف عَن رجل مَجْهُول. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا خلاف بَين الْمُسلمين أَنه لَا زَكَاة فِيمَا دون خَمْسَة أوسق إلاَّ مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: إِنَّه تجب الزَّكَاة فِي قَلِيل الحَبِّ وَكَثِيره، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل، منابذ لصريح(9/73)
الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: لَيْت شعري كَيفَ تلفظ بِهَذَا الْكَلَام مَعَ شهرته بالزهد والورع؟ وعجبي كل الْعجب يَقُول هَذَا مَعَ اطِّلَاعه على مستنداته من الْكتاب وَالسّنة، وَلَا ينْفَرد حطه على أبي حنيفَة وَحده، بل على كل من كَانَ مذْهبه مثل مذْهبه.
القَوْل الثَّانِي: يجب فِيمَا لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة إِذا بلغ خَمْسَة أوسق، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَلَا يجب فِي الخضراوات وَلَا فِي الْبِطِّيخ وَالْخيَار والقثاء. وَنَصّ مُحَمَّد على أَنه: لَا عشر فِي السفرجل، وَلَا فِي التِّين والتفاح والكمثري والخوخ والمشمش والإجاص، وَفِي الْيَنَابِيع، وَيجب فِي كل ثَمَرَة تبقى سنة كالجوز واللوز والبندق والفستق. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وأوجبا فِي الْجَوْز واللوز وَفِي الفستق على قَول أبي يُوسُف، وعَلى قَول مُحَمَّد: لَا يجب، وَفِي المرغيناني عَن مُحَمَّد: أَنه لَا عشر فِي التِّين والبندق والتوت والموز والخرنوب، وَعنهُ: يجب فِي التِّين. قَالَ الْكَرْخِي: هُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَلَا فِي الإهليلجة وَسَائِر الْأَدْوِيَة والسدر والأشنان، وَيجب فِيمَا يَجِيء مِنْهُ مَا يبْقى سنة: كالعنب وَالرّطب، وَعَن مُحَمَّد: إِن كَانَ الْعِنَب لَا يَجِيء مِنْهُ الزَّبِيب لرقته لَا يجب فِيهِ الْعشْر، وَلَا يجب فِي السعتر والصنوبر والحلبة، وَعَن أبي يُوسُف أَنه أوجب فِي الْحِنَّاء، وَقَالَ مُحَمَّد: لَا يجب فِيهِ كالرياحين، وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي الثوم والبصل، وَلَا عشر فِي التفاح والخوخ الَّذِي يشق وييبس، وَلَا شَيْء فِي بذر الْبِطِّيخ والقثاء وَالْخيَار والرطبة، وكل بذر لَا يصلح إلاَّ للزِّرَاعَة، ذكره الْقَدُورِيّ. وَيجب فِي بذر القنب دون عيدانه، وَيجب فِي الكمون والكراويا والخردل لِأَن ذَلِك من جملَة الْحُبُوب. وَفِي (الْمُحِيط) : وَلَا عشر فِيمَا هُوَ تَابع للْأَرْض: كالنخل وَالْأَشْجَار، وَأَصله أَن كل شَيْء يدْخل فِي بيع الأَرْض تبعا فَهُوَ كالجزء مِنْهَا فَلَا شَيْء فِيهِ، وَمَا لَا يدْخل إلاَّ بِالشّرطِ يجب فِيهِ: كالثمر والحبوب.
القَوْل الثَّالِث: يجب فِيمَا يدّخر ويقتات كالحنطة وَالشعِير والدخن والذرة والأرز والعدس والحمص والباقلاء والجلبان والماش واللوبيا وَنَحْوهَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) أطلق القَوْل فِي وجوب الزَّكَاة فِي كل شَيْء يجْرِي فِيهِ الوساق والصاع، وَلَا شكّ أَنه أَرَادَ مِمَّا يزرع ويستنبت وإلاَّ فَلَا يجْرِي فِيهِ الوسق والصاع، وَلَا زَكَاة فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتلف الْعلمَاء فِي أَشْيَاء مِمَّا يستنبت، فمذهب الشَّافِعِي، كَمَا اتّفق عَلَيْهِ الْأَصْحَاب: أَن يكون قوتا فِي حَال الِاخْتِيَار، وَأَن يكون من جنس مَا ينبته الآدميون، وَشرط الْعِرَاقِيُّونَ أَن يدّخر وييبس. قَالَ الرَّافِعِيّ: لَا حَاجَة إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا ملازمان لكل مقتات مستنبت وَهُوَ الْحِنْطَة وَالشعِير والسلت والذرة والدخن والأرز والجاورش، بِالْجِيم وَفتح الْوَاو، وَفَسرهُ بِأَنَّهُ: حب صغَار من جنس الذّرة، وَكَذَلِكَ القطنية، بِكَسْر الْقَاف وَجَمعهَا القطاني، وَهِي العدس والحمص والماش والباقلاء، وَهُوَ الفول واللوبيا والهرطمان وَهُوَ الجلبان، وَيُقَال لَهُ الخلر، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وَفتحهَا وَآخره رَاء، لِأَنَّهَا تصلح للاقتيات وتدخر للْأَكْل، وَاحْترز الْأَصْحَاب بقَوْلهمْ: فِي حَال الِاخْتِيَار عَن حب الحنظل وَعَن القت، وَبِه مثله الشَّافِعِي، وَفَسرهُ الْمُزنِيّ وَغَيره: بحب الغاسول، وَهُوَ الأشنان وَسَائِر بذور البراري، قَالُوا: وَلَا تجب الزَّكَاة فِي الثفاء، وَهُوَ حب الرشاد، وَلَا فِي الترمس والسمسم والكمون والكراويا والكزبرة وبذر القطونا وبذر الْكتاب وبذر الفجل وَمَا أشبه ذَلِك من البذورات، وَلَا شَيْء فِي هَذِه عندنَا بِلَا خلاف، وَإِن جرى فِيهِ الْكَيْل بالصاع وَنَحْوه، إلاَّ مَا حَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ أَن فِي الترمس قولا قَدِيما فِي وجوب الزَّكَاة فِيهِ، وإلاَّ مَا حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج من حِكَايَة قَول قديم فِي بذر الفجل، وَلَا زَكَاة عِنْد الشَّافِعِي فِي التِّين والتفاح والسفرجل وَالرُّمَّان والخوخ والجوز واللوز والموز وَسَائِر الثِّمَار سوى الرطب وَالْعِنَب، وَلَا فِي الزَّيْتُون فِي الْجَدِيد.
وَفِي الورس فِي الْجَدِيد وواجبها فِي الْقَدِيم من غير شَرط النّصاب فِي قَلِيله وَكَثِيره وَلَا تجب فِي الترمس فِي الْجَدِيد.
القَوْل الرَّابِع: قَول مَالك مثل قَول الشَّافِعِي، وَزَاد عَلَيْهِ: وجوب العُشر فِي الترمس والسمسم وَالزَّيْتُون، وَأوجب الْمَالِكِيَّة فِي غير رِوَايَة ابْن الْقَاسِم فِي بذر الْكتاب وبذر السلجم لعُمُوم نفعهما بِمصْر وَالْعراق، مَعَ أَنه لَا يُؤْكَل بذرهما.
القَوْل الْخَامِس: قَول أَحْمد: يجب فِيمَا لَهُ الْبَقَاء واليبس والكيل من الْحُبُوب وَالثِّمَار، سَوَاء كَانَ قوتا كالحنطة وَالشعِير والسلت وَهُوَ نوع من الشّعير. وَفِي الْمغرب: شعير لَا قشر لَهُ يكون بالغور والحجاز، والأرز والدهن والعلس وَهُوَ نوع من الْحِنْطَة يزْعم أَهله أَنه إِذا أخرج من قشره لَا يبْقى بَقَاء غَيره من الْحِنْطَة، وَيكون مِنْهُ حبتان وَثَلَاث فِي كمام وَاحِد، وَهُوَ طَعَام أهل صنعاء وَفِي الْمغرب هُوَ بِفتْحَتَيْنِ حَيَّة سَوْدَاء إِذا أجدب النَّاس خلطوها وأكلوها. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم الْمَالِكِي: لَيْسَ هُوَ من نوع الْحِنْطَة، وَتجب فِي الْأرز والذرة وَفِي القطنيات كالعدس والباقلاء والحمص والماش، وَفِي الإبازير كالكزبرة والكمون، وَفِي البذور كبذر(9/74)
الْكَتَّان والقثاء وَالْخيَار وَنَحْوهَا، وَفِي الْبُقُول كالرشال والفجل، وَفِي القرطم والترمس والسمسم، وَتجب عِنْده فِي التَّمْر وَالزَّبِيب واللوز والبندق والفستق، دون الْجَوْز والتين والمشمش والتفاح والكمثري والخوخ والإجاص، دون القثاء وَالْخيَار والباذنجان والقت والجزر، وَلَا تجب فِي ورق السدر والخطمي والأشنان والآس، وَلَا فِي الأزهار كالزعفران والعصفر، وَلَا فِي الْقطن.
القَوْل السَّادِس: تجب فِي الْحُبُوب والبقول وَالثِّمَار، وَهُوَ قَول حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان شيخ أبي حنيفَة.
القَوْل السَّابِع: لَيْسَ فِي شَيْء من الزَّرْع زَكَاة إلاَّ فِي التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَالشعِير، حَكَاهُ الْعَبدَرِي عَن الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى، وَحَكَاهُ ابْن الْعُزَّى عَن الْأَوْزَاعِيّ وَزَاد: الزَّيْتُون.
القَوْل الثَّامِن: يُؤْخَذ من الخضراوات إِذا بلغت مِائَتي دِرْهَم، وَهُوَ قَول الْحسن وَالزهْرِيّ.
القَوْل التَّاسِع: أَن مَا يوسق يجب فِي خَمْسَة أوسق مِنْهُ، وَمَا لَا يوسق يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره، وَهُوَ قَول دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَأَصْحَابه.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله هاذا تَفْسِيرُ الأوَّلِ لأِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأوَّلِ يَعْنِي حَديثَ ابنِ عُمَرَ وفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءِ العُشْرُ وبَيَّنَ فِي هاذا وَوَقَّتَ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَالمُفَسَّرُ يَقْضِي علَى المُبْهَمِ إذَا رَوَاهُ أهْلُ الثَّبَتِ كَمَا رَوَي الفَضْلُ ابنُ عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يُصَلِّ فِي الكَعْبَةِ وَقَالَ بِلاَلٌ قَدْ صَلَّى فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلاَلٍ وَتُرِكَ قَوْلُ الفَضْلِ.
هَذَا كُله وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر هَهُنَا عقيب حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور، وَفِي نُسْخَة الْفربرِي وَقع فِي الْبَاب الَّذِي بعد هَذَا الْبَاب بعد حَدِيث أبي سعيد، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَجزم أَبُو عَليّ الصَّدَفِي بِأَن ذكره عقيب حَدِيث ابْن عمر من قبل بعض نساخ الْكتاب. قلت: وَكَذَا قَالَ التَّيْمِيّ، وَنسبه إِلَى غلط من الْكَاتِب، وَلَا احْتِيَاج إِلَى هَذِه المشاححة، وَلكُل ذَلِك وَجه لَا يخفى، وَلَكِن رجح بَعضهم كَونه بعد حَدِيث أبي سعيد لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَسّر لحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّرْجِيح أَيْضا لأَنا نمْنَع الْإِجْمَال وَالتَّفْسِير هَهُنَا، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (هَذَا تَفْسِير الأول) ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى حَدِيث أبي سعيد الَّذِي يَأْتِي وَأَرَادَ بِالْأولِ حَدِيث ابْن عمر، فَهَذَا يدل على أَن هَذَا الْكَلَام من البُخَارِيّ إِنَّمَا كَانَ بعد حَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله: (لِأَنَّهُ لم يُوَقت فِي الأول) أَي: لم يعين شَيْئا فِي حَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر) . قَوْله: (وَبَين فِي هَذَا) أَي: فِي حَدِيث أبي سعيد، ووقَّت أَي: عيَّن، وَهُوَ قَوْله: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، وَقد عيَّن فِيهِ بِأَن النّصاب خَمْسَة أوسق. قَوْله: (وَالزِّيَادَة) يَعْنِي: تعْيين النّصاب (مَقْبُولَة) يَعْنِي: من الثِّقَة. قَوْله: (والمفسر) ، بِفَتْح السِّين يَعْنِي: الْمُبين، وَهُوَ الْخَاص (يقْضِي) أَي: يحكم (على الْمُبْهم) أَي الْعَام، وسمى البُخَارِيّ الْخَاص بِحَسب تصرفه مُفَسرًا لوضوح المُرَاد مِنْهُ، وسمى الْعَام مُبْهما لاحْتِمَال إِرَادَة الْكل وَالْبَعْض مِنْهُ، وغرضه أَن حَدِيث ابْن عمر عَام للنصاب، ودونه وَحَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، خَاص بِقدر النّصاب، وَالْخَاص وَالْعَام إِذا تَعَارضا يخصص الْخَاص الْعَام، وَهُوَ معنى الْقَضَاء عَلَيْهِ، وَهَذَا حَاصِل مَا قَالَه البُخَارِيّ. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَن إِجْرَاء الْعَام على عُمُومه أولى من التَّخْصِيص، فَارْجِع إِلَيْهِ.
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَنه: أذا ورد حديثان أَحدهمَا عَام وَالْآخر خَاص فَإِن علم تَقْدِيم الْعَام على الْخَاص خص الْعَام بالخاص، كمن يَقُول لعَبْدِهِ: لَا تعط لأحد شَيْئا، ثمَّ قَالَ لَهُ: أعْط زيدا درهما، وَإِن علم تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام ينْسَخ الْعَام للخاص، كمن يَقُول لعَبْدِهِ: أعْط زيدا درهما، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا تعط أحدا شَيْئا، فَإِن هَذَا نَاسخ للْأولِ، هَذَا مَذْهَب عِيسَى بن أبان، وَهُوَ الْمَأْخُوذ بِهِ، وَإِذا لم يعلم فَإِن الْعَام يَجْعَل آخرا لما فِيهِ من الِاحْتِيَاط، وَهنا لم يعلم التَّارِيخ فَيجْعَل الْعَام آخرا احْتِيَاطًا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفى الصَّدَقَة وَلم ينف الْعشْر، وَقد كَانَ فِي المَال صدقَات نسختها آيَة الزَّكَاة، وَالْعشر لَيْسَ بِصَدقَة مُطلقَة إِذْ فِيهِ معنى المؤونة، حَتَّى وَجب فِي أَرض الْوَقْف وَلَا تجب الزَّكَاة فِي الْوَقْف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَذْهَب الْحَنَفِيّ أَن الْخَاص الْمُتَقَدّم مَنْسُوخ بِالْعَام الْمُتَأَخر، وَلَعَلَّه ضبط التَّارِيخ وَعلم تَقْدِيم حَدِيث أبي سعيد، فَلهَذَا لَا يشْتَرط النّصاب فِيهِ. قلت: فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يَقُول بِمثلِهِ فِي الْوَرق، إِذْ مر فِي: بَاب زَكَاة الْغنم، فِي الرقة ربع الْعشْر، انْتهى. قلت: لَا يلْزمه ذَلِك لِأَنَّهُ لم يدع ضبط(9/75)
التَّارِيخ، وَلَا تقدم حَدِيث أبي سعيد، وَإِنَّمَا الأَصْل عِنْده التَّوَقُّف إِذا جهل التَّارِيخ وَالرُّجُوع إِلَى غَيرهمَا، أَو يرجح أَحدهمَا بِدَلِيل، وَمن جملَة تَرْجِيح الْعَام هُنَا هُوَ أَنه إِذا خص لزم إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله أَن يكون مرَادا، وَمِنْهَا الِاحْتِيَاط فِي جعله آخرا كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ ابْن بطال: نَاقض أَبُو حنيفَة حَيْثُ اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي مَسْأَلَة الرقة، وَلم يسْتَعْمل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، كَمَا أَنه أوجب الزَّكَاة فِي الْعَسَل وَلَيْسَ فِيهِ خبر وَلَا إِجْمَاع. قلت: كَيفَ يسْتَعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهُوَ غير قَائِل بِهِ هُنَا لعدم الْإِجْمَال فِيهِ، وَمن أَيْن الْإِجْمَال ودلالته ظَاهِرَة، لِأَن دلَالَته على إِفْرَاده كدلالة الْخَاص على فَرد وَاحِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير، وَلَفظ الصَّدَقَة فِي الزَّكَاة أظهر من الْعشْر فَصَرفهُ إِلَيْهَا أولى، وَلَا كَذَلِك صَدَقَة الرقة. وَلم يفهم ابْن بطال الْفرق بَينهمَا، وَكَيف يَقُول ابْن بطال: كَمَا أَنه أوجب الزَّكَاة وَلَيْسَ فِيهِ خبر؟ وَقد ذكرنَا عَن التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (فِي الْعَسَل فِي كل عشرَة أزق زق) ، وَذكرنَا فِيمَا مضى عَن قريب جملَة أَحَادِيث تدل على الْوُجُوب، وَقَوله: وَلَا إِجْمَاع، كَلَام واهٍ، لِأَن الْمُجْتَهد لَا يرى بِالْوُجُوب فِي شَيْء إلاَّ إِذا كَانَ فِيهِ إِجْمَاع، وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد. قَوْله: (أهل الثبت) ، بتحريك الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: أهل الثَّبَات. قَوْله: (كَمَا روى الْفضل بن عَبَّاس) أَي: عبد الْمطلب، ابْن عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا الَّذِي ذكره صُورَة اجْتِمَاع النَّفْي وَالْإِثْبَات، لِأَن الْفضل يَنْفِي صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوف الْكَعْبَة لما حج عَام الْفَتْح، وبلال يثبت ذَلِك، فَأخذ بقول بِلَال لكَونه يثبت أمرا، وَترك قَول الْفضل لِأَنَّهُ يَنْفِيه، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن النَّفْي مَتى عرف بدليله يُعَارض الْمُثبت وإلاَّ فَلَا، وَهَهُنَا لم يعرف النَّفْي بِدَلِيل، فَقدم عَلَيْهِ الْإِثْبَات، وَذكر بعض أَصْحَابنَا هَذِه الصُّورَة بِخِلَاف مَا قَالَه البُخَارِيّ، وَهِي: أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي جَوف الْكَعْبَة، ورجحنا رِوَايَته على رِوَايَة بِلَال أَنه: لم يصل فِي جَوف الْكَعْبَة عَام الْفَتْح فِي تِلْكَ الْأَيَّام.
65 - (بابٌ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة، أَي: زَكَاة.
4841 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى قَالَ حدَّثنا مالِكٌ قَالَ حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ فِيمَا أقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلاَ فِي أقَلَّ منْ خَمْسَةٍ مِنَ الإبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ وَلاَ فِي أقَلَّ مِنْ خَمْسِ أوَاقٍ منَ الوَرَقِ صَدَقَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة الْجُزْء الأول من الحَدِيث، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب زَكَاة الْوَرق، رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَلَكِن فِي الْمَتْن اخْتِلَاف فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره، وَهَهُنَا رَوَاهُ عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن مَالك.
قَوْله: (فِيمَا أقل) ، كلمة: مَا، زَائِدَة و: أقل، فِي مَحل الْجَرّ، وَقَالَ ابْن بطال: الأوسق الْخَمْسَة هِيَ الْمِقْدَار الْمَأْخُوذ مِنْهُ، وَأوجب أَبُو حنيفَة فِي قَلِيل مَا تخرجه الأَرْض وَكَثِيره، فَإِنَّهُ خَالف الْإِجْمَاع. قلت: لَيْت شعري كَيفَ يتَلَفَّظ بِهَذَا الْكَلَام؟ وَمن أَيْن الْإِجْمَاع حَتَّى خَالفه أَبُو حنيفَة؟ وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة ذَهَبُوا إِلَى مَا قَالَه أَبُو حنيفَة، قَالَ: وَكَذَلِكَ أوجبهَا فِي الْبُقُول والرياحين وَمَا لَا يوسق كالرمان، وَالْجُمْهُور على خِلَافه. قلت: أوجب أَبُو حنيفَة فِي الْبُقُول، يَعْنِي: الخضروات بِعُمُوم حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور عَن قريب، وبعموم حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِيمَا سقت السَّمَاء والغيم العُشر، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف العُشر) ، رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأحمد، فَدلَّ عمومها على وجوب العُشر فِي جَمِيع مَا أخرجته الأَرْض من غير قيد وَإِخْرَاج لبَعض الْخَارِج عَن الْوُجُوب وإخلائه عَن حُقُوق الْفُقَرَاء، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي (عارضة الأحوذي) : وَأقوى الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة(9/76)
مَذْهَب أبي حنيفَة دَلِيلا، وأحفظها للْمَسَاكِين، وأولاها قيَاما بشكر النِّعْمَة، وَعَلِيهِ يدل عُمُوم الْآيَة والْحَدِيث، وَقد رام الْجُوَيْنِيّ أَن يخرج عُمُوم الحَدِيث من يَدي أبي حنيفَة بِأَن قَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث لم يَأْتِ للْعُمُوم، وَإِنَّمَا جَاءَ لتفصيل الْفرق بَين مَا يقلّ وَيكثر مؤونته وَأبْدى، فِي ذَلِك وَأعَاد، وَلَيْسَ بممتنع أَن يَقْتَضِي الحَدِيث الْوَجْهَيْنِ: الْعُمُوم وَالتَّفْصِيل، وَذَلِكَ أكمل فِي الدَّلِيل وَأَصَح فِي التَّأْوِيل. انْتهى. وَقَالَ الْقَرَافِيّ فِي (الذَّخِيرَة الْمَالِكِيَّة) وَالظَّاهِر أَنه نَقله من كَلَام الْجُوَيْنِيّ: إِن الْكَلَام إِذا سيق لِمَعْنى لَا يحْتَج بِهِ فِي غَيره، وَهَذِه قَاعِدَة أصولية، فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا المَاء من المَاء) ، لَا يسْتَدلّ بِهِ على جَوَاز المَاء الْمُسْتَعْمل، لِأَنَّهُ لم يرد إلاَّ لبَيَان حصر الْوُجُوب للْغسْل، فَكَذَا قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر) ورد لبَيَان جُزْء الْوَاجِب لَا لبَيَان مَحل الْوُجُوب، فَلَا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ. انْتهى. قلت: النَّص اشْتَمَل على جملتين: شَرْطِيَّة وجزائية، فالجملة الشّرطِيَّة لعُمُوم مَحل الْوَاجِب، فإلغاء عمومها بَاطِل، وَالْجُمْلَة الجزائية لبَيَان مِقْدَار الْوَاجِب، مِثَاله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه) ، فالجملة الشّرطِيَّة وَهِي الأولى وَردت لبَيَان سَبَب اسْتِحْقَاق الْقَاتِل، وَعُمُوم من فعل ذَلِك. وَالْجُمْلَة الثَّانِيَة: الجزائية، وَردت لبَيَان مَا يسْتَحقّهُ، وَهُوَ سلب الْمَقْتُول، واختصاصه بِهِ، فَلَا يجوز إبِْطَال مَدْلُول الشَّرْط كَمَا لَا يجوز إبِْطَال مَدْلُول الْجَزَاء، وَلَيْسَ هَذَا نَظِير مَا اسْتشْهد بِهِ الْقَرَافِيّ، وَقد يساق الْكَلَام لأمر وَله تعلق بِغَيْرِهِ وإيماء بِهِ وَإِشَارَة إِلَيْهِ، ألاَ ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن} (الْبَقَرَة: 332) . سيقت الْآيَة لبَيَان وجوب نَفَقَة المطلقات وكسوتهن إِذا أرضعن أَوْلَادهنَّ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن للْأَب تَأْوِيلا فِي نفس الْوَلَد وَمَاله حَتَّى لَا يسْتَوْجب الْعقُوبَة بوطىء جَارِيَته، وَلَا بِسَبَبِهِ، ذكره السَّرخسِيّ فِي (أُصُوله) ، وَقَاعِدَة الْقَرَافِيّ هَذِه إِن كَانَت صَحِيحَة أبطلت عَلَيْهِ قَاعِدَة مذْهبه ومدركه لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَدَقَة فِي حب وَلَا ثَمَر حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوسق) سيق لبَيَان تَقْدِير النّصاب، وَنفى الْوُجُوب عَمَّا دون الْخَمْسَة الأوسق، فَلَا يدل حِينَئِذٍ على عُمُوم الْحبّ وَالثَّمَر، وَقد قَالَ: هُوَ عَام فِي الْحُبُوب وَالثِّمَار. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ عَن معَاذ أَنه كتب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَله عَن الخضروات وَهِي: الْبُقُول، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْء! قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح، وَلَيْسَ يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء، وَإِنَّمَا يرْوى هَذَا عَن مُوسَى بن طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا، وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن عَائِشَة قَالَت: جرت السّنة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ فِيمَا أنبتت الأَرْض من الْخضر زَكَاة، وَفِي سَنَده صَالح بن مُوسَى، ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن جَابر، قَالَ: لم يكن المقاثي فِيمَا جَاءَ بِهِ معَاذ، وَلَيْسَ فِي المقاثي شَيْء، وَقد تكون عندنَا المقثاة تخرج عشرَة الْآن، فَلَا يكون فِيهَا شَيْء، قلت: فِي سَنَده عدي بن الْفضل، وَهُوَ مَتْرُوك.
قالَ أبُو عَبْدِ الله هاذا تَفْسِيرُ الأوَّلِ إذَا قالَ لَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ لِكَوْنِهِ لَمْ يُبَيِّنْ وَيُؤْخَذُ أبَدا فِي العِلْمِ بِمَا زَادَ أهْلُ الثَّبَتِ أوْ بَيَّنُوا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِالْأولِ حَدِيث أبي سعيد، وَقد مر هَذَا عَن قريب. قَوْله: (وَيُؤْخَذ أبدا) إِلَى آخِره، يرد عَلَيْهِ مَا بيَّنه أَبُو حنيفَة من استدلاله بِعُمُوم حَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ من أهل الْعلم الْكِبَار الْمُجْتَهدين، وَقد بيّن هَذَا، فَيَنْبَغِي أَن يُؤْخَذ بِهِ، والمكابرة مطروحة.
75 - (بابُ أخذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فيَمَس تَمْرَ الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَخذ الصَّدَقَة من التَّمْر عِنْد صرام النّخل، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة، وَهُوَ: الْجذاذ والقطاف وزنا وَمعنى، وصرام النّخل أَوَان إِدْرَاكه، وأصرم: حَان صرامه، والصرامة: مَا صرم من النّخل، ونخل صريم مصروم، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (المغيث) : قد يكون الصرام النّخل لِأَنَّهُ يصرم أَي: يجتنى ثمره، والصرام التَّمْر بِعَيْنِه أَيْضا لِأَنَّهُ يصرم، فَسمى بِالْمَصْدَرِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: قَوْله: عِنْد صرام النّخل، يُرِيد بعد أَن يصير تَمرا لِأَنَّهُ يصرم النّخل وَهُوَ رطب فيثمر فِي المربد، وَلَكِن ذَاك لَا يَتَطَاوَل، فَحسن أَن ينْسب إِلَيْهِ. قَوْله: (وَهل يتْرك الصَّبِي؟) تَرْجَمَة أُخْرَى، وللترجمة الأولى تعلق بقوله(9/77)
تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: {حَقه} (الْأَنْعَام: 141) . فَعَن ابْن عَبَّاس: هِيَ الْوَاجِبَة، وَعَن ابْن عمر: هُوَ شَيْء سوي الزَّكَاة، وَبِه قَالَ عَطاء وَغَيره، وللترجمة الثَّانِيَة تعلق بِالتّرْكِ، وَلكنه ذكره بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام لاحْتِمَال أَن يكون النَّهْي خَاصّا بِمن لَا يحل لَهُ تنَاول الصَّدَقَة. فَإِن قلت: الصَّبِي لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ الْخطاب؟ قلت: وليه يُخَاطب بتأديبه وتعليمه. قَوْله: (فيمس) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام.
5841 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ الأسَدِيُّ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤتى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ فيَجِيءُ هاذا بِتَمْرِهِ وَهاذا مِنْ تَمرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهْ كَوْما مِنْ تَمْر فجَعَلَ الحَسنُ والحُسَينُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يلْعَبَانِ بِذالِكَ التَّمْرِ فأخذَ أحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجعَلَهُ فِي فِيهِ فنَظَرَ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ أمَا عَلِمْتَ أنَّ آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يأْكُلونَ الصَّدَقَةَ.
مطابقته للترجمتين ظَاهِرَة لِأَن مطابقته للأولى فِي قَوْله: (عِنْد صرام النّخل) ، وللثانية فِي قَوْله: (فَجعل الْحسن. .) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عمر بن مُحَمَّد بن الْحسن الْمَعْرُوف بِابْن التل، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد اللَّام: الْأَسدي، بِسُكُون السِّين الْمُهْملَة. وَحكى الغساني: الْأَزْدِيّ، بالزاي بدل السِّين، مَاتَ سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ مُحَمَّد بن الْحسن أَبُو جَعْفَر، مَاتَ سنة مِائَتَيْنِ. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء، مر فِي: بَاب الْقِسْمَة وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وخفة الْيَاء آخر الْحُرُوف، مر فِي: بَاب غسل الأعقاب. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه أول مَا ذكره هُنَا وَأَنه وأباه كوفيان وَإِبْرَاهِيم هروي سكن نيسابور، ثمَّ سكن مَكَّة وَأَن مُحَمَّد بن زِيَاد مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد أخرج البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، هَذَا الحَدِيث من طَرِيق شُعْبَة: عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة عَن قريب يَأْتِي فِي: بَاب مَا يذكر فِي الصَّدَقَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم من طَرِيق شُعْبَة هَذَا عَن مُحَمَّد هُوَ: ابْن زِيَاد، سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: (أَخذ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، تَمْرَة من تمر الصَّدَقَة فَجَعلهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كخ كخ إرم بهَا، أما علمت أنّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة؟) وَفِي رِوَايَة لَهُ: (أنّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي (السّير) : عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة.
وَفِي الْبَاب عَن أبي رَافع، وَأنس وَأبي هُرَيْرَة وَالْحسن بن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَعبد الرَّحْمَن بن عَلْقَمَة وَمُعَاوِيَة بن حيدة وَعبد الْمطلب بن ربيعَة وَأبي ليلى وَبُرَيْدَة بن حصيب وسلمان الْفَارِسِي وهرمز أَو كيسَان مولى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورشيد بن مَالك وَمَيْمُون أَو مهْرَان وَالْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَحَدِيث أبي رَافع أخرجه أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، قَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن الحكم عَن ابْن رَافع (عَن أبي رَافع: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا على الصَّدَقَة من بني مَخْزُوم، فَقَالَ لأبي رَافع: إصحبني فَإنَّك تصيب مِنْهَا. فَقَالَ: حَتَّى آتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْأَلْهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مولى الْقَوْم من أنفسهم، وَإِنَّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة) ، وَاسم أبي رَافع: إِبْرَاهِيم أَو أسلم أَو ثَابت أَو هُرْمُز مولى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسم ابْنه عبيد الله، كَاتب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (ورجلاً) ، هُوَ الأرقم بن أبي الأرقم الْقرشِي المَخْزُومِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى عَن شُعْبَة. وَحَدِيث أنس أخرجه الشَّيْخَانِ، وسنذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مُسلم، وَلَفظه: (وَالله إِنِّي لأنقلب إِلَى أَهلِي فأجد التمرة سَاقِطَة على فِرَاشِي. أَو(9/78)
فِي بَيْتِي، فأرفعها لآكلها، ثمَّ أخْشَى أَن تكون صَدَقَة فألقيها) . وَحَدِيث الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة أبي الْحَوْرَاء، قَالَ: كُنَّا عِنْد الْحسن بن عَليّ، فَسئلَ: مَا عقلت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أَو: عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: كنت أَمْشِي مَعَه، فَمر على جرين من تمر الصَّدَقَة، فَأخذت تَمْرَة فألقيتها فِي فمي، فَأَخذهَا بلعابها، فَقَالَ بعض الْقَوْم: وَمَا عَلَيْك لَو تركتهَا؟ فَقَالَ: إنَّا آل مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة) . وَإِسْنَاده صَحِيح. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ قَالَ: (اسْتعْمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأرقم ابْن أبي الأرقم على السّعَايَة، فاستتبع أَبَا رَافع، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا رَافع {إِن الصَّدَقَة حرَام عَليّ وعَلى آل مُحَمَّد، وَإِن مولى الْقَوْم من أنفسهم) . وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو رَوَاهُ أَحْمد، حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا أُسَامَة بن زيد عَن عمر بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد تَمْرَة تَحت جنبه من اللَّيْل فَأكلهَا، فَلم ينم تِلْكَ اللَّيْلَة، فَقَالَ بعض نِسَائِهِ: يَا رَسُول الله أرقت البارحة} قَالَ: إِنِّي وجدت تَمْرَة فَأَكَلتهَا. وَكَانَ عندنَا تمر من تمر الصَّدَقَة فَخَشِيت أَن تكون مِنْهُ) . وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَلْقَمَة أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (قدم وَفد الثقيف على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَهُمْ هَدِيَّة، فَقَالَ: أهدية أم صَدَقَة ... ؟) الحَدِيث. وَفِيه: (قَالُوا: لَا، بل هَدِيَّة، فقبلها مِنْهُم وَقعد مَعَهم يسائلهم ويسائلونه حَتَّى صلى الظّهْر مَعَ الْعَصْر) . وَحَدِيث مُعَاوِيَة بن حيدة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن بنْدَار مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مكي بن إِبْرَاهِيم ويوسف ابْن سعد الضبعِي، قَالَا: حَدثنَا بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أُتِي بِشَيْء سَأَلَ: أصدقة هِيَ أم هَدِيَّة؟ فَإِن قَالُوا: صَدَقَة، لم يَأْكُل وَإِن قَالُوا: هَدِيَّة، أكل) . وجد بهز بن حَكِيم اسْمه مُعَاوِيَة بن حيدة القريشي وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا. وَحَدِيث عبد الْمطلب بن ربيعَة رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ مطولا. وَفِيه: (إِن الصَّدَقَة لَا تنبغي إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس) ، وَفِي رِوَايَة: (إِن هَذِه الصَّدَقَة إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس، وَإِنَّهَا لَا تحل لمُحَمد وَلَا لآل مُحَمَّد) ، الحَدِيث. وَحَدِيث أبي ليلى رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة شريك عَن عبد الله بن عِيسَى عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى (عَن أبي ليلى قَالَ: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيت الصَّدَقَة وَمَعَهُ الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخذ تَمْرَة فوضعها فِي فِيهِ، فَأدْخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إصبعه فأخرجها من فِيهِ، ثمَّ قَالَ: إنّا أهل بَيت لَا تحل لنا الصَّدَقَة) . وَحَدِيث بُرَيْدَة بن حصيب رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل من رِوَايَة الْحسن بن وَاقد (عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: جَاءَ سلمَان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم الْمَدِينَة بمائدة عَلَيْهَا رطب، فوضعها بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا هَذَا يَا سلمَان؟ قَالَ: صَدَقَة عَلَيْك وعَلى أَصْحَابك. قَالَ: إرفعها فَإنَّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة) . وَحَدِيث سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة أبي ذَر الْكِنْدِيّ عَن سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما قدم الْمَدِينَة) الحَدِيث، وَفِيه: (فَسَأَلَهُ: أصدقة أم هَدِيَّة؟ فَقَالَ: هَدِيَّة، فَأكل) . اللَّفْظ للْحَاكِم، وروى أَحْمد من رِوَايَة أبي الطُّفَيْل (عَن سلمَان، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل الْهَدِيَّة وَلَا يقبل الصَّدَقَة) . وَحَدِيث هُرْمُز أَو كيسَان رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا أَسد، قَالَ: حَدثنَا وَرْقَاء بن عمر (عَن عَطاء بن السَّائِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: دخلت على أم كُلْثُوم بنت عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَت: إِن مولى لنا يُقَال لَهُ هُرْمُز أَو كيسَان أَخْبرنِي أَنه مر على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فدعاني فَجئْت، فَقَالَ: يَا فلَان إنّا أهل بَيت قد نهينَا أَن نَأْكُل الصَّدَقَة، وَإِن مولى الْقَوْم من أنفسهم، فَلَا تَأْكُل الصَّدَقَة) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ: مهْرَان، وَأخرجه الْبَغَوِيّ فِي (مُعْجم الصَّحَابَة) وَقَالَ: هُرْمُز، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة، وَقَالَ: كيسَان، وَأخرجه عبد الرَّزَّاق وَقَالَ: مَيْمُون أَو مهْرَان. وَحَدِيث رشيد، بِضَم الرَّاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مَالك بن عميرَة السَّعْدِيّ التَّمِيمِي الصَّحَابِيّ، عداده فِي الْكُوفِيّين، ويكنى بِأبي عميرَة، بِفَتْح الْعين وَكسر الْمِيم، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ قَالَ: (كُنَّا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتي بطبق عَلَيْهِ تمر، فَقَالَ: أصدقة أم هَدِيَّة؟ قَالَ: بل صَدَقَة، فَوَضعه بَين يَدي الْقَوْم وَالْحسن يتعفر بَين يَدَيْهِ، وَأخذ الصَّبِي تَمْرَة فَجَعلهَا فِي فِيهِ، فَأدْخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إصبعه فَجعل يترفق بِهِ، فأخرجها فقذفها، ثمَّ قَالَ: إنّا آل مُحَمَّد لَا نَأْكُل الصَّدَقَة) . وَأخرجه الْكَجِّي فِي (مُسْنده) نَحوه. قَوْله: (يتعفر) ، أَي: يتمرغ بِالتُّرَابِ، لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا يلْعَب. وَحَدِيث مَيْمُون أَو مهْرَان رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق، وَقد(9/79)
ذَكرْنَاهُ الْآن. وَحَدِيث الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا وَكِيع، قَالَ: حَدثنَا ثَابت ابْن عمَارَة عَن ربيعَة بن شَيبَان، قَالَ: قلت للحسين بن عَليّ: مَا تعقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: صعدت غرفَة فَأخذت تَمْرَة فلكتها فِي فيّ قَالَ: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألقها، فَإنَّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة، وَقد تقدم حَدِيث الْحسن بن عَليّ على نَحْو هَذَا، وَكِلَاهُمَا من رِوَايَة أبي الْحَوْرَاء عَنهُ، وَأَبُو الْحَوْرَاء هُوَ ربيعَة بن شَيبَان، قَالَ شَيخنَا زين الدّين: الظَّاهِر أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ لكل وَاحِد وَاحِدَة، فالحسن مر على جرين تمر، وَالْحُسَيْن صعد غرفَة فِيهَا تمر الصَّدَقَة، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَفِي رِوَايَته الْحسن مكبر، وطرق حَدِيثه أَكثر من طرق حَدِيث الْحُسَيْن، وَالله أعلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عِنْد صرام النّخل) أَي: عِنْد جذاذه، وَهُوَ قطع التمرة مِنْهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (كوما) ، بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ مَعْرُوف، وَأَصله: الْقطع الْعَظِيمَة من الشَّيْء، وَالْمرَاد بِهِ: مَا اجْتمع من التَّمْر كالصرمة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كوما، بِضَم الْكَاف. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: كومت كومة، بِالضَّمِّ: إِذا جمعت قِطْعَة من تُرَاب وَرفعت رَأسهَا، وَهُوَ فِي الْكَلَام بِمَنْزِلَة قَوْلك: صبرَة من الطَّعَام. قَالَ: وَفِي بعض الرِّوَايَة بِالْفَتْح. وانتصاب كوما على أَنه خبر: يصير، أَي: حَتَّى يصير التَّمْر عِنْده كوما ويروى: كوم، بِالرَّفْع على أَنه اسْم: يصير، وَيكون: يصير، تَامَّة فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر. قَوْله: (من تمر) كلمة: من، بَيَانِيَّة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ أَولا بثمرة يَعْنِي بِالْبَاء، وَهنا قَالَ: من تمر، يَعْنِي بِكَلِمَة: من، لِأَن فِي الأول ذكر المجبىء بِهِ، وَفِي الثَّانِي المجىء عَنهُ، وهما متلازمان وَإِن تغايرا مفهوما. قَوْله: (فَأخذ أَحدهمَا) وَهُوَ الْحسن مكبر كَمَا سَيَأْتِي بعد بَابَيْنِ من رِوَايَة شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد بِلَفْظ: فَأخذ الْحسن بن عَليّ. قَوْله: (فَجعله) إِنَّمَا ذكّر الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى: التمرة، بِاعْتِبَار الْمَأْخُوذ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَجَعلهَا، أَي: التمرة على الأَصْل. قَوْله: (فِي فِيهِ) أَي: فِي فَمه، وَفِي الْفَم تسع لُغَات: تثليث الْفَاء مَعَ تَخْفيف الْمِيم وَالنَّقْص وَفتح الْفَاء وَضمّهَا مَعَ تَشْدِيد الْمِيم وَفتحهَا وَضمّهَا وَكسرهَا مَعَ التَّخْفِيف وَالْقصر. قَوْله: وَحكى ابْن الْأَعرَابِي فِي تثنيته: فموان وفميان، وَحكى اللحياني أَنه يُقَال: فَم وأفمام، واللغة التَّاسِعَة: النَّقْص وَاتِّبَاع الْفَاء الْمِيم فِي الحركات الإعرابية، تَقول: هَذَا فَمه، وَرَأَيْت فَمه، وَنظرت إِلَى فَمه. قَوْله: (أما علمت؟) ويروى بِدُونِ همزَة الِاسْتِفْهَام لَكِنَّهَا مقدرَة. قَوْله: (إِن آل مُحَمَّد) آل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَنو هَاشم خَاصَّة عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك، وَعند الشَّافِعِي: هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَبِه قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة. قَالَ القَاضِي: وَقَالَ بعض الْعلمَاء: هم قُرَيْش كلهَا. وَقَالَ إصبغ الْمَالِكِي: هم بَنو قصي، وَبَنُو هَاشم هم آل عَليّ، وَآل عَبَّاس وَآل جَعْفَر وَآل عقيل وَآل الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وهَاشِم هُوَ ابْن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة فَافْهَم. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: بَنو هَاشم آل، وَمَا فَوق غَالب لَيْسَ بآل، وَفِيمَا بَينهمَا قَولَانِ. وَقَالَ إصبغ: هم عترته الأقربون الَّذين ناداهم حِين أنزل الله {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} (الشُّعَرَاء: 412) . وهم آل عبد الْمطلب وهَاشِم وَعبد منَاف وقصي وغالب، وَقد قيل: قُرَيْش كلهَا. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا يدْخل فِي آله من كَانَ فَوق بني هَاشم من بني عبد منَاف أَو من قصي أَو غَيرهم، وَكَذَا فسر ابْن الْمَاجشون ومطرف، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة. وعَلى قَول إصبغ: لَا يَأْخُذهَا الحلفاء الثَّلَاثَة الأول وَلَا عبد الرَّحْمَن وَلَا سعيد بن أبي وَقاص وَلَا طَلْحَة وَلَا الزبير وَلَا سعد وَلَا أَبُو عُبَيْدَة. وَقَالَ: الْأَصَح عندنَا إِلْحَاق مواليهم بهم، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري، وَعند الْمَالِكِيَّة قَولَانِ لِابْنِ الْقَاسِم وإصبغ. قَالَ إصبغ: احتججت على ابْن الْقَاسِم بِالْحَدِيثِ: مولى الْقَوْم مِنْهُم، فَقَالَ: قد جَاءَ حَدِيث آخر: ابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم، فَكَذَلِك حَدِيث الْمولى، وَإِنَّمَا تَفْسِير: مولى الْقَوْم مِنْهُم، فِي الْبر كَمَا فِي حَدِيث: (أَنْت وَمَالك لأَبِيك) ، أَي فِي: الْبر لَا فِي الْقَضَاء واللزوم، وَنقل ابْن بطال عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْقَاسِم الْحل، وَمَا حَكَاهُ عَن الشَّافِعِي غَرِيب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الصَّدَقَة لَا تحل لآل مُحَمَّد، وَفِي (الذَّخِيرَة) للقرافي: إِن الصَّدَقَة مُحرمَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْمَاعًا. وَفِي (الْمُغنِي) : الظَّاهِر أَن الصَّدَقَة فَرضهَا ونفلها كَانَت مُحرمَة على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن شَدَّاد فِي (أَحْكَامه) : اخْتلف النَّاس فِي تَحْرِيم الصَّدَقَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر ابْن تَيْمِية فِي الصَّدَقَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَيْن، وَللشَّافِعِيّ قَوْلَيْنِ. قَالَ: وَإِنَّمَا تَركهَا تنزها. وَعَن أَحْمد: حل صَدَقَة التَّطَوُّع لَهُ، وَفِي (نِهَايَة الْمطلب) يحرم(9/80)
فَرضهَا ونفلها على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَئِمَّة على تَحْرِيمهَا على قرَابَته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ الْمَالِكِي: يحل لَهُم فَرضهَا ونفلها، وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي حنيفَة. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي: إِن منعُوا الْخمس جَازَ صرف الزَّكَاة إِلَيْهِم، وروى ابْن أبي سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف أَن زَكَاة بني هَاشم تحل لبني هَاشم، وَلَا يحل ذَلِك لَهُم من غَيرهم. وَفِي (الْيَنَابِيع) : يجوز للهاشمي أَن يدْفع زَكَاته للهاشمي عِنْد أبي حنيفَة، وَلَا يجوز عِنْد أبي يُوسُف، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : يكره للهاشمي عِنْد أبي يُوسُف، خلافًا لمُحَمد، وروى أَبُو عصمَة عَن أبي حنيفَة جَوَاز دَفعهَا إِلَى الْهَاشِمِي فِي زَمَانه. قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذِه الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة لَيست بالمشهورة. وَفِي (الْمَبْسُوط) : يجوز دفع صَدَقَة التَّطَوُّع والأوقاف إِلَى بني هَاشم، مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد فِي (النَّوَادِر) وَفِي (شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي) و (الْإِسْبِيجَابِيّ) و (الْمُفِيد) إِذا سموا فِي الْوَقْف، وَفِي الْكَرْخِي: إِذا أطلق الْوَقْف لَا يجوز لِأَن حكمهم حكم الْأَغْنِيَاء. وَفِي (شرح الْقَدُورِيّ) : الصَّدَقَة الْوَاجِبَة كَالزَّكَاةِ وَالْعشر وَالنُّذُور وَالْكَفَّارَات لَا تجوز لَهُم، وَأما الصَّدَقَة على وَجه الصِّلَة والتطوع فَلَا بَأْس، وَجوز بعض الْمَالِكِيَّة صَدَقَة التَّطَوُّع لَهُم، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَعند الشَّافِعِيَّة فِيهَا وَجْهَان، وَفِي النذور خلاف عِنْدهم، ذكر ذَلِك إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي (النِّهَايَة) . وَفِي (التَّوْضِيح) ، وَفِي الحَدِيث دلَالَة وَاضِحَة على تَحْرِيم الصَّدَقَة على آله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وللمالكية فِي إعطائهم من الصَّدَقَة أَرْبَعَة أَقْوَال: الْجَوَاز، وَالْمَنْع، ثَالِثهَا: يُعْطون من التَّطَوُّع دون الْوَاجِب، رَابِعهَا: عَكسه، لِأَن الْمِنَّة قد تقع فِيهَا، وَالْمَنْع أولاها، وَقَالَ الطَّبَرِيّ، فِي مقَالَة أبي يُوسُف: لَا الْقيَاس أصَاب وَلَا الْخَبَر اتبع، وَذَلِكَ أَن كل صَدَقَة وَزَكَاة أوساخ النَّاس وغسالة ذنُوب من أخذت مِنْهُ هاشميا أَو مطلبيا، وَلم يفرق الله وَلَا رَسُوله بَين شَيْء مِنْهَا بافتراق حَال الْمَأْخُوذ ذَلِك مِنْهُ، قَالَ: وَصَاحبه أَشد قولا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لزم ظَاهر التَّنْزِيل، وَهُوَ {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 06) . الْآيَة، وَأنكر الْأَخْبَار الْوَارِدَة بتحريمها على بني هَاشم، فَلَا ظَاهر التَّنْزِيل لزموا وَلَا بالْخبر قَالُوا. قلت: هَذَا كَلَام صادر من غير روية ناشيء عَن تعصب بَاطِل، وَأَبُو يُوسُف من أعرف النَّاس بموارد التَّنْزِيل وأعلمهم بِتَأْوِيل الْأَخْبَار ومداركها، وَهَذَا الطَّحَاوِيّ الَّذِي هُوَ من أكبر أَئِمَّة الحَدِيث وأدرى النَّاس بِمذهب أبي حنيفَة وأقوال صَاحبه نقل عَن أبي يُوسُف: أَن التَّطَوُّع يحرم على بني هَاشم، فَإِذا كَانَ التَّطَوُّع حَرَامًا فالفرض أَشد حُرْمَة، ثمَّ إِنْكَار الطَّبَرِيّ على صَاحب أبي يُوسُف: أَن التَّطَوُّع يحرم على بني هَاشم، فَإِذا كَانَ التَّطَوُّع حَرَامًا فالفرض أَشد حُرْمَة، ثمَّ إِنْكَار الطبريي على صَاحب أبي يُوسُف الَّذِي هُوَ الإِمَام أَبُو حنيفَة أَشد شناعة وأقبح إِشَاعَة حَيْثُ يَقُول: إِنَّه أنكر الْأَخْبَار الْوَارِدَة بتحريمها، فَفِي أَي مَوضِع ذكر هَذَا عَنهُ على هَذِه الصِّيغَة؟ وَالْمَنْقُول عَنهُ أَنه قطّ لَا يذهب إِلَى الْقيَاس إلاَّ عِنْد عدم النَّص من الشَّارِع، فعادة هَؤُلَاءِ المتعصبين أَن ينسبوا رِوَايَة سقيمة أَو شَاذَّة إِلَى إِمَام من الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ ينكروا عَلَيْهِ بذلك بِمَا لَا تحل نسبته إِلَى أحد مِنْهُم.
وَفِيه: من الْفَوَائِد: دفع الصَّدقَات إِلَى السُّلْطَان. وَفِيه: أَن السّنة أَخذ صَدَقَة التَّمْر عِنْد جذاذة لقَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . فَإِن أخرجهَا عِنْد محلهَا فسرقت، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: يَجْزِي عَنهُ، وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَالثَّوْري وَأحمد: هُوَ ضَامِن لَهَا حَتَّى يَضَعهَا موَاضعهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ بَقِي لَهُ من مَاله مَا فِيهِ زَكَاة زَكَّاهُ، وَأما إِذا أخر إخْرَاجهَا حَتَّى هَلَكت؟ فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: إِذا أمكن الْأَدَاء بعد حُلُول الْحول وفرط حَتَّى هلك المَال، فَعَلَيهِ الضَّمَان. وَفِيه: أَن الْمَسْجِد قد ينْتَفع بِهِ فِي أَمر جمَاعَة الْمُسلمين فِي غير الصَّلَاة، أَلا يرى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع فِيهِ الصَّدقَات وَجعله مخرجا لَهَا، وَكَذَلِكَ أَمر أَن يوضع فِيهِ مَال الْبَحْرين حَتَّى قسمه فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يقْعد فِيهِ للوفود وَالْحكم بَين النَّاس، وَمثل ذَلِك مِمَّا هُوَ أبين مِنْهُ: لعب الْحَبَشَة بالحراب وَتعلم المثاقفة، وكل ذَلِك إِذا كَانَ شَامِلًا لجَماعَة الْمُسلمين، وَأما إِذا كَانَ الْعَمَل لخاصة نَفسه فَيكْرَه مثل: الْخياطَة وَنَحْوهَا، وَقد كره قوم التَّأْدِيب فِيهِ لِأَنَّهُ خَاص، وَرخّص فِيهِ آخَرُونَ لما يُرْجَى من نفع تعلم الْقُرْآن فِيهِ. وَفِيه: جَوَاز دُخُول الْأَطْفَال فِيهِ واللعب فِيهِ بِغَيْر مَا يسْقط حرمته إِذا كَانَ الْأَطْفَال إِذا نهوا انْتَهوا. وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي أَن يتَجَنَّب الْأَطْفَال مَا يتَجَنَّب الْكِبَار من الْمُحرمَات. وَفِيه: أَن الْأَطْفَال إِذا نهوا عَن الشَّيْء يجب أَن يعرفوا لأي شَيْء نهوا عَنهُ ليكونوا على علم إِذا جَاءَهُم أَوَان التَّكْلِيف. وَفِيه: أَن لأولياء الصغار المعاتبة عَلَيْهِم والحول بَينهم وَبَين مَا حرم الله على عباده، أَلا يرى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استخرج التَّمْر من الصَّدَقَة من فَم الْحسن وَهُوَ طِفْل لَا تلْزمهُ الْفَرَائِض وَلم تجر عَلَيْهِ الأقلام؟ فَبَان بذلك أَن الْوَاجِب على ولي الطِّفْل وَالْمَعْتُوه، إِذا رَآهُ يتَنَاوَل خمرًا يشْربهَا، أَو لحم خِنْزِير يَأْكُلهُ، أَو مَالا لغيره يتلفه، أَن يمنعهُ من فعله ويحول بَينه وَبَين ذَلِك. وَقَالَ صَاحب(9/81)
(التَّوْضِيح) : وَفِيه: الدَّلِيل الْوَاضِح على صِحَة قَول الْقَائِل: إِن على ولي الصَّغِيرَة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَن يجنبها الطّيب والزينة وَالْمَبِيت عَن الْمسكن الَّذِي تسكنه، وَالنِّكَاح وَجَمِيع مَا يجب على البالغات المعتدات اجتنابه، وعَلى خطأ قَول الْقَائِل: لَيْسَ ذَلِك على الصَّغِيرَة اعتلالاً مِنْهُم بِأَنَّهَا غير متعبدة بِشَيْء من الْفَرَائِض، لِأَن الْحسن كَانَ لَا يلْزمه الْفَرَائِض، فَلم يكن لإِخْرَاج التمرة من فِيهِ معنى إلاَّ من أجل مَا كَانَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَنعه مَا على الْمُكَلّفين مِنْهُ من أجل أَنه وليه. قلت: يلْزمهُم على هَذَا أَن يجتنبوا عَن إلباسهم الصغار الْحَرِير، وَمَعَ هَذَا جوزوا ذَلِك، وقياسهم الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة على قَضِيَّة الْحسن غير صَحِيح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا منع الْحسن عَن ذَلِك إلاَّ لأجل أَنه من جزئه، وَلَيْسَ ذَلِك لأجل مَا كَانَ عَلَيْهِ من مَنعه مَا على الْمُكَلّفين من ذَلِك، وَالتَّعْلِيل بِأَنَّهَا غير متعبدة بِشَيْء من الْفَرَائِض صَحِيح لَا نزاع فِيهِ لأحد، واعترافهم بِصِحَّة السَّنَد يلْزمهُم باعتراف الحكم بِهِ على مَا لَا يخفى على المتأمل.
85 - (بابُ مَنْ باعَ ثِمَارَهُ أوْ نَخْلَهُ أوْ أرْضَهُ أوُ زَرْعَهُ وقَدْ وجَبَ فِيهِ العُشْرُ أَو الصَّدَقَة فأدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أوْ بَاعَ ثِمَارَهُ ولَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ وقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحُهَا فَلَمْ يَحْظُرِ البَيْعَ بَعْدَ الصَّلاَحِ عَلى أحَدٍ ولَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَ عليهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من بَاعَ ثماره أَو بَاعَ نخله أَو بَاعَ أرضه أَو بَاعَ زرعه، وَالْحَال أَنه قد وَجب فِيهِ الْعشْر أَو الصَّدَقَة، أَي: الزَّكَاة، فَأدى الزَّكَاة من غير مَا بَاعَ من هَذِه الْأَشْيَاء، أَو بَاعَ ثماره وَلم تجب فِيهِ الصَّدَقَة، وَهُوَ تَعْمِيم بعد تَخْصِيص، وَالْمرَاد من النّخل الَّتِي عَلَيْهَا الثِّمَار، وَمن الأَرْض الَّتِي عَلَيْهَا الزَّرْع، لِأَن الصَّدَقَة لَا تجب فِي نفس النّخل وَالْأَرْض، وَهَذَا يحْتَمل ثَلَاثَة أَنْوَاع من البيع. الأول: بيع الثَّمَرَة فَقَط. الثَّانِي: بيع النّخل فَقَط. الثَّالِث: بيع التَّمْر مَعَ النّخل، وَكَذَا بيع الزَّرْع مَعَ الأَرْض أَو بِدُونِهَا أَو بِالْعَكْسِ، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره: من بَاعَ ثماره ... إِلَى آخِره جَازَ بَيْعه فِيهَا، فدلت هَذِه التَّرْجَمَة على أَن البُخَارِيّ يرى جَوَاز بيع الثَّمَرَة بعد بَدو صَلَاحهَا، سَوَاء وَجب عَلَيْهِ الزَّكَاة أم لَا. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ الرَّد على الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ بِمَنْع البيع بعد الصّلاح حَتَّى يُؤَدِّي الزَّكَاة مِنْهَا، فَخَالف إِبَاحَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ. قَوْله: (وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (من بَاعَ) ، لِأَنَّهُ مجرور محلا بِالْإِضَافَة، وَالتَّقْدِير: وَبَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبِيعُوا ... الحَدِيث، وَهَذَا مُعَلّق سَنَده من حَدِيث ابْن عمر على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَة) يَعْنِي بِدُونِ النَّخْلَة، (حَتَّى يَبْدُو) أَي: حَتَّى يظْهر صَلَاحهَا، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَذَا لجَوَاز بيعهَا مَعهَا قبل بَدو الصّلاح إِجْمَاعًا. قَوْله: (فَلم يحظر) من كَلَام البُخَارِيّ، وَهُوَ بالظاء الْمُعْجَمَة، من الْحَظْر، وَهُوَ الْمَنْع وَالتَّحْرِيم، وَهُوَ على بِنَاء الْفَاعِل، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: لم يحرم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البيع بعد الصّلاح على أحد، سَوَاء وَجَبت عَلَيْهِ الزَّكَاة أَو لَا. وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَلم يخص) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَجَبت عَلَيْهِ الزَّكَاة مِمَّن لم تجب عَلَيْهِ، وَبِهَذَا رد البُخَارِيّ على الشَّافِعِي فِي أحد قوليه: إِن البيع فَاسد، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا يملك وَمَا لَا يملك، وَهُوَ نصيب الْمَسَاكِين، ففسدت الصَّفْقَة، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله: (فَلم يحظر) بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ تَفْسِير لما قبله.
6841 - حدَّثنا حَجَّاجٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَبْدُ الله بنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ الثمَرَةِ حَتى يبْدُو صَلاَحُهَا وكانَ إِذا سُئِلَ عنْ صَلاحِهَا قَالَ حتَّى تَذْهَبَ عاهَتُهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ أسْند ذَلِك الَّذِي علقه فِيمَا قبل، وَهُوَ قَوْله: وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) .
ذكر رِجَاله: وهم: أَرْبَعَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَالْحجاج هُوَ ابْن الْمنْهَال.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي(9/82)
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: السماع، وَهُوَ من الرباعيات.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار إِلَى آخِره نَحوه، وَفِي لفظ لَهُ: (نهى عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا، نهى البَائِع والمبتاع) . وَفِي لفظ: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يزهو، وَعَن السنبل حَتَّى يبيض ويأمن العاهة، نهى البَائِع وَالْمُشْتَرِي. وَفِي لفظ: لَا تبْتَاع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا وَتذهب عَنْهَا العاهة. وَقَالَ: بَدو صَلَاحه حمرته وصفرته. وَفِي لفظ: (لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر مثل رِوَايَة مُسلم وَفِي لفظ لَهُ مثل رِوَايَة مُسلم الثَّالِثَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يزهو) ، وَبِهَذَا الْإِسْنَاد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع السنبل حَتَّى يبيض ويأمن العاهة، نهى البَائِع وَالْمُشْتَرِي وَأخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث اللَّيْث بن سعد عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا البَائِع وَالْمُشْتَرِي) وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أنس وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي سعيد وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم. وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد أَحْمد: حَدثنَا الحكم حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الرِّجَال عَن أَبِيه عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تَبِيعُوا ثماركم حَتَّى يَبْدُو صالحها وتنجو من العاهة) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم، وَلَفظه: (لَا تبتاعوا الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس. وَحَدِيث جَابر عِنْد البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَلَفظه عِنْد أبي دَاوُد: (نهى أَن تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى تشقح، قيل: وَمَا تشقح؟ قَالَ: تحمار وتصفار) . وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد الْبَزَّار، وَلَفظه: (لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا. قيل: وَمَا صَلَاحهَا؟ قَالَ: تذْهب عاهتها وتخلص صَلَاحهَا) . وَحَدِيث زيد بن ثَابت عِنْد أبي دَاوُد، (فَلَا تبتاعوا الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَتَّى يَبْدُو) أَي: حَتَّى يظْهر، وَهُوَ بِلَا همز. قَوْله: (وَكَانَ إِذا سُئِلَ) قَالَ الْكرْمَانِي: وفاعله إِمَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِمَّا ابْن عمر، وقائله: إِمَّا ابْن عمر وَإِمَّا عبد الله بن دِينَار. قلت: صرح فِي مُسلم أَن قَائِله ابْن عمر حَيْثُ قَالَ بعد أَن روى حَدِيث عبد الله بن عمر من طَرِيق شُعْبَة: وَزَاد شُعْبَة، فَقيل لِابْنِ عمر: مَا صَلَاحه؟ قَالَ: تذْهب عاهته، أَي: آفته وَهُوَ أَن يصير إِلَى الصّفة الَّتِي يطْلب كَونه على تِلْكَ الصّفة، كظهور النضج ومبادي الْحَلَاوَة وَزَوَال العفوصة المفرطة، وَذَلِكَ بِأَن يتموه ويلين، أَو يَتلون بالإحمرار أَو الاصفرار أَو الإسوداد وَنَحْوه، وَالْمعْنَى الْفَارِق بَينهمَا أَن الثِّمَار بعد البدو تأمن من العاهات لكبرها وَغلظ نَوَاهَا، بِخِلَافِهَا قبله لِضعْفِهَا، فَرُبمَا تلفت فَلم يبْق شَيْء فِي مُقَابلَة الثّمن، فَكَانَ ذَلِك من قبيل أكل المَال بِالْبَاطِلِ، وَظَاهره يمْنَع البيع مُطلقًا، وَخرج عَنهُ البيع الْمَشْرُوط بِالْقطعِ للْإِجْمَاع على جَوَازه فَيعْمل بِهِ فِيمَا عداهُ. قَوْله: (عاهته) أَي: عاهة التَّمْر، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: عاهتها، وَوجه التَّأْنِيث يكون بِاعْتِبَار أَن التَّمْر جنس، وأصل عاهة: عوهة، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، يُقَال: عاه الْقَوْم وأعوهوا: إِذا أصَاب ثمارهم وماشيتهم العاهة، ومادته: عين وواو وهاء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَ مَالك: من بَاعَ حَائِطه أَو أرضه وَفِي ذَلِك زرع أَو تمر قد بدا صَلَاحه وَحل بَيْعه، فزكاة ذَلِك التَّمْر على البَائِع إلاَّ أَن يشترطها على الْمُبْتَاع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَين إِنْفَاذ البيع ورده، وَالْعشر مَأْخُوذ من التمرة لِأَن سنة السَّاعِي أَن يَأْخُذهَا من كل ثَمَرَة يجدهَا، فَوَجَبَ الرُّجُوع على البَائِع بِقدر ذَلِك، كالعيب الَّذِي يرجع بِقِيمَتِه. وَقَالَ الشَّافِعِي، فِي أحد قوليه: إِن البيع فَاسد لِأَنَّهُ بَاعَ مَا يملك وَمَا لَا يملك وَهُوَ نصيب الْمَسَاكِين، ففسدت الصَّفْقَة. وَاتفقَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: أَنه إِذا بَاعَ أصل الثَّمَرَة وفيهَا ثَمَر لم يبد صَلَاحه إِن البيع جَائِز وَالزَّكَاة على المُشْتَرِي، لقَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَأما الَّذِي ورد فِيهِ النَّهْي عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا(9/83)
وَهُوَ بيع الثَّمَرَة دون الأَصْل، لِأَنَّهُ يخْشَى عَلَيْهِ العاهة، فَيذْهب مَال المُشْتَرِي من غير عوض، وَإِذا ابْتَاعَ رَقَبَة الثَّمَرَة وَكَانَ فِيهَا ثَمَر لم يبد صَلَاحه فَهُوَ جَائِز، لِأَن البيع وَقع على الرَّقَبَة وَلم يظْهر بعد، فَهَذَا هُوَ الْفرق بَينهمَا. وَفِيه: جَوَاز البيع من الثَّمَرَة الَّتِي وَجَبت زَكَاتهَا قبل أَدَاء الزَّكَاة، وَيتَعَيَّن حِينَئِذٍ أَن يُؤَدِّي الزَّكَاة من غَيرهَا، خلافًا لمن أفسد البيع، وَعَن مَالك: الزَّكَاة على البَائِع إلاَّ أَن يشْتَرط على المُشْتَرِي، وَبِه قَالَ اللَّيْث. وَعَن أَحْمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: على البَائِع مُطلقًا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
7841 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني خالِدُ بنُ يَزِيدَ عنْ عَطَاءِ بنِ أبِي رَبَاحٍ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحُهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَيزِيد من الزِّيَادَة، والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا، وَقد ذَكرْنَاهُ.
8841 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مَالِكٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهى عنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ قَالَ حَتَّى تَحْمَارَّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَحميد بِضَم الْحَاء هُوَ الطَّوِيل، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن أبي يُوسُف، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح عَن ابْن وهب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين.
قَوْله: (حَتَّى تزهىَ) أَي: تتلون، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: يُقَال: زهى النّخل إِذا ظَهرت ثَمَرَته، وأزهء إِذا: احمرَّ أَو اصفرَّ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: لَا يُقَال: أزهى، إِنَّمَا يُقَال: زهى، وَقَالَ الْخَلِيل: زهى: إِذا بدا صَلَاحه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: مِنْهُم من أنكر: تزهى، كَمَا أَن مِنْهُم من أنكر: يزهو، أَقُول الحَدِيث الصَّحِيح يبطل قَول مُنكر الإزهاء. قَوْله: (حَتَّى تحمارّ) تَفْسِير لقَوْله: (حَتَّى تُزهيَ) ، وأصل: تحمار، لِأَنَّهُ من حمر فأدغمت الرَّاء فِي الرَّاء.
95 - (بابٌ هَلْ يَشْتَرِي صَدَقَتَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ هَل يَشْتَرِي الرجل الَّذِي تصدق بِشَيْء صدقته؟ وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام مَحْذُوف، وَهُوَ: لَا يَشْتَرِي، وَإِنَّمَا حذف الْجَواب لِأَن فِي الْجَواب وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لَا يَشْتَرِي أصلا. وَالثَّانِي: أَنه يكره، كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَلاَ بَأسَ أنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ غَيْرُهُ لأِنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّما نَهَى المُتَصَدِّقَ خاصَّةً عنِ الشِّرَاءِ ولَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ
تَوْضِيحه حَدِيث بُرَيْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (هُوَ لَهَا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) ، فَإِذا كَانَ هَذَا جَائِزا بِغَيْر عوض فبالعوض أجوز.
9841 - حدَّثنا حدَّثنا يَحْيَى بنُ بكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَن عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ يُحَدِّثُ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبيلِ الله فَوَجدَهُ يُبَاعُ فأرَادَ أنْ يشْتَرِيَهُ ثُمَّ أَتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَأمَرَهُ فَقَالَ لاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ فبِذالِكَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لاَ يَتْرُكُ أنْ يَبْتَاعَ شَيْئا تَصَدَّقَ بِهِ إلاَّ جَعَلَهُ صَدَقَةً.
.(9/84)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن تقديرها لَا يَشْتَرِي فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَرِجَاله سِتَّة قد ذكرُوا كلهم، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الله المَخْزُومِي وَرَوَاهُ معن بن عِيسَى عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عمر، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو قلَابَة عَن بشر بن عمر عَن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَرَوَاهُ عبد الله بن نمير عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عمر، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالْأَشْبَه بِالصَّوَابِ قَول من قَالَ: عَن ابْن عمر أَن عمر، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ (عَن ابْن عمر أَن عمر حمل على فرس فِي سَبِيل الله أَعْطَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليحمل عَلَيْهَا، فَحمل عَلَيْهَا رجلا) وَفِي رِوَايَة ابْن عبد الْبر: (لَا تشتره وَلَا شَيْئا من نتاجه) . وَفِي (الْعِلَل) لِابْنِ أبي حَاتِم: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا تَصَدَّقت بِصَدقَة فأمضها، لقد تَصَدَّقت بِتَمْر على مَسَاكِين فَوجدت تَمْرَة، فأدخلت يَدي فِي فيَّ ثمَّ لفظتها خشيَة أَن تكون من الصَّدَقَة) . وَفِي (المُصَنّف) : فَرَآهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَو شَيْئا من نَسْله يُبَاع فِي السُّوق، فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أتركه حَتَّى يوافيك يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن الزبير بن الْعَوام أَن رجلا حمل على فرس فِي سَبِيل الله تَعَالَى، فَرَأى فرسه أَو مهره يُبَاع بِنسَب فرسه فَنهى عَنْهَا) . وَعَن أُسَامَة بِسَنَد جيد: (أَنه حمل على مهر لَهُ فِي سَبِيل الله تَعَالَى، فَرَآهُ بعد ذَلِك يُبَاع، فَقلت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ فنهاني عَنهُ) . وروى الشّعبِيّ عَن زِيَاد بن حَارِثَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو حَدِيث أُسَامَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تصدق بفرس) ، أَي: حمل عَلَيْهِ رجلا، وَمَعْنَاهُ أَنه ملكه لَهُ، فَلذَلِك سَاغَ لَهُ بَيْعه. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَي حمله على فرس حمل تمْلِيك وغزا بِهِ فَلهُ أَن يفعل فِيهِ مَا شَاءَ فِي سَائِر أَمْوَاله، وَقيل: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد حَبسه، وَفِي هَذَا الْوَجْه إِنَّمَا سَاغَ للرجل بَيْعه لِأَنَّهُ انهزل وَعجز لأَجله عَن اللحاق بِالْخَيْلِ، وانْتهى إِلَى حَالَة عدم الِانْتِفَاع بِهِ. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ اسْم هَذَا الْفرس: الْورْد، وَكَانَ لتميم الدَّارِيّ فأهداه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْطَاهُ لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فِي سَبِيل الله) ، المُرَاد بِهِ جِهَة الْغُزَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَفْهُوم من السَّبِيل الْوَقْف فَكيف يَصح الابتياع؟ قلت: تَمْلِيكه للغازي، والمتبادر إِلَى الذِّهْن من سَبِيل الله: الْجِهَاد. قلت: لَا نسلم أَن الْمَفْهُوم من السَّبِيل الْوَقْف، بل المُرَاد من سَبِيل الله الْغَازِي أَو الْحَاج، وَفِيه خلاف. قَوْله: (يُبَاع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة حَالية لِأَن وجده بِمَعْنى أَصَابَهُ. قَوْله: (فاستأمره) أَي: استشاره. قَوْله: (فَلَا تعد) أَي: فَلَا ترجع فِي صدقتك، وَلَو كَانَ حبسا لعلله بِهِ، وَبِهَذَا يرد على من قَالَ: إِنَّه كَانَ محبسا، وَلَئِن كَانَ حبسا يحْتَمل أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ظن أَنه يجوز لَهُ هَذَا، وَيُبَاح لَهُ شِرَاء الْحَبْس، غير أَن مَنعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شِرَائِهِ وتعليله بِالرُّجُوعِ دَلِيل على أَنه لم يكن حبسا. قَوْله: (فبذلك) أَي: فبسبب (ذَلِك كَانَ ابْن عمر) يَعْنِي: عبد الله. قَوْله: (لَا يتْرك) ، كَذَا هُوَ بِحرف النَّفْي فِي رِوَايَة أبي ذَر، ويروى: يتْرك، وَوَجهه ظَاهر. وَإِمَّا وَجه: لَا يتْرك، فَهُوَ أَن التّرْك بِمَعْنى التَّخْلِيَة، وَكلمَة: من، مقدرَة أَي: لَا يخلي الشَّخْص من أَن يبتاعه فِي حَال إلاَّ حَال جعله صَدَقَة أَو لغَرَض إلاَّ لغَرَض الصَّدَقَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: كَرَاهَة شِرَاء الرجل صدقته، وَقَالَ ابْن بطال: كره أَكثر الْعلمَاء شِرَاء الرجل صدقته لحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول مَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَسَوَاء كَانَت الصَّدَقَة فرضا أَو تَطَوّعا، فَإِن اشْترى أحد صدقته لم يفْسخ بَيْعه، وَأولى بِهِ التَّنَزُّه عَنْهَا، وَكَذَا قَوْلهم فِيمَا يُخرجهُ الْمُكَفّر فِي كَفَّارَة الْيَمين. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رخص فِي شِرَاء الصَّدَقَة الْحسن وَعِكْرِمَة وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ، قَالَ ابْن الْقصار: قَالَ قوم: لَا يجوز لأحد أَن يَشْتَرِي صدقته وَيفْسخ البيع، وَلم يذكر قَائِل ذَلِك، وَكَأَنَّهُ يُرِيد بِهِ أهل الظَّاهِر. وَأَجْمعُوا أَن من تصدق بِصَدقَة ثمَّ ورثهَا أَنَّهَا حَلَال لَهُ، وَقد جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله إِنِّي تَصَدَّقت على أُمِّي بِجَارِيَة وَأَنَّهَا مَاتَت، قَالَ: وَجب أجرك وردهَا على الْمِيرَاث، وَقَالَ ابْن التِّين: وشذت فرقة من أهل الظَّاهِر فَكرِهت أَخذهَا بِالْمِيرَاثِ ورأوه من بَاب الرُّجُوع فِي الصَّدَقَة وَهُوَ سَهْو لِأَنَّهَا تدخل قهرا، وَإِنَّمَا كره شراؤها لِئَلَّا يحابيه الْمُصدق بهَا عَلَيْهِ فَيصير عَائِدًا فِي بعض صدقته، لِأَن الْعَادة أَن الصَّدَقَة الَّتِي تصدق بهَا عَلَيْهِ يسامحه إِذا بَاعهَا، وَيُقَال: لَا يكون الْحَبْس إلاَّ أَن ينْفق عَلَيْهِ الْمحبس من مَاله، وَإِذا خرج خَارج إِلَى الْغَزْو وَدفعه إِلَيْهِ مَعَ نَفَقَته على أَن يَغْزُو بِهِ ويصرفه إِلَيْهِ فَيكون مَوْقُوفا على مثل ذَلِك، فَهَذَا لَا يجوز بَيْعه بِإِجْمَاع وَأما إِذا جعله فِي سَبِيل الله وَملكه الَّذِي دَفعه إِلَيْهِ فَهَذَا يجوز بَيْعه، وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا يكره أَن(9/85)
يَشْتَرِي الرجل صدقته إِذا خرجت من يَد صَاحبهَا إِلَى غَيره، رَوَاهُ الْحسن عَنهُ، وَقَالَ بِهِ هُوَ وَابْن سِيرِين.
0941 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكُ بنُ أنسٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ حَمَلْتُ عَلَى فرَسٍ فِي سَبِيلِ الله فأضاعَهُ الَّذِي كانَ عِنْدَهُ فأرَدْتُ أنْ أشْتَرِيَهُ وظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ فَسَألْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لاَ تَشْتَرِ وَلاَ تَعدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإنْ أعْطاكَهُ بِدِرْهَمٍ فإنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَزيد بن أسلم مولى عمر بن الْخطاب يروي عَن أَبِيه أسلم يكنى أَبَا خَالِد، كَانَ من سبي عين الْيمن، ابتاعه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَكَّة سنة إِحْدَى عشرَة، مَاتَ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة وَمِائَة سنة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن يحيى بن قزعة، وَفِي الْجِهَاد عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْجِهَاد وَالْهِبَة عَن الْحميدِي: وَأخرجه مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن القعْنبِي وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن أُميَّة ابْن خَالِد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن الْحَارِث بن مِسْكين وَمُحَمّد بن سَلمَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فأضاعه) أَي: لم يكن يعرف قدره فَكَانَ يَبِيعهُ بالوكس، كَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَقيل: أَي يتْرك الْقيام عَلَيْهِ بِالْخدمَةِ والعلف وَنَحْوهمَا، وَهَذَا التَّفْسِير هُوَ الْأَوْجه. قَوْله: (لَا تشتره) أَي: الْفرس الْمَذْكُور، ويروى: (لَا تشتريه) ، بإشباع كسرة الرَّاء يَاء. قَوْله: (وَإِن أعطاكه بدرهم) مُبَالغَة فِي رخصه، وَكَانَ هُوَ الْحَامِل على شراه. قَوْله: (فَإِن الْعَائِد) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (كالعائد فِي قيئه) الْغَرَض من التَّشْبِيه تقبيح صُورَة ذَلِك الْفِعْل أَي: كَمَا يقبح أَن يقيء ثمَّ يَأْكُل كَذَلِك يقبح أَن يتَصَدَّق بِشَيْء ثمَّ يجره إِلَى نَفسه بِوَجْه من الْوُجُوه.
وَفِيه: كَرَاهَة الرُّجُوع فِي الْهِبَة، وَفضل الْحمل فِي سَبِيل الله، والإعانة على الْغَزْو بِكُل شَيْء وَالْخَيْل الضائعة الْمَوْقُوفَة إِذا رجى صَلَاحهَا وَالِانْتِفَاع بهَا فِي الْجِهَاد كالضعيف المرجو رده، منع ابْن الْمَاجشون بَيْعه وَأَجَازَهُ ابْن الْقَاسِم وَيُوضَع ثمنه فِي ذَلِك الْوَجْه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو مُحَمَّد: لَا بَأْس أَن يركب الْفرس الَّذِي جعله فِي سَبِيل الله تَعَالَى.
06 - (بابُ مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ لِلنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الحكم الَّذِي يذكر فِي الصَّدَقَة لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي فِي حَقه، وَفِي حق آله، وَقد مر تَفْسِير الْآل، وَفِي بعض النّسخ: من الصَّدَقَة، عوض: فِي الصَّدَقَة، وَإِنَّمَا أبهم الحكم لكَونه مَشْهُورا.
1941 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ أخَذَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَخْ كَخْ لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قالَ أمَا شَعَرْتَ أنَّا لَا نَأكُلُ الصَّدَقَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة) ، والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي: بَاب أَخذ صَدَقَة التَّمْر عِنْد صرام النّخل، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ وَهنا زِيَادَة، وَهِي قَوْله: (كخ كخ) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا وتسكين الْخَاء الْمُعْجَمَة وَيجوز كسرهَا مَعَ التَّنْوِين، فَتَصِير سِتّ لُغَات، وَإِنَّمَا كرر للتَّأْكِيد، وَهِي كلمة تزجر بهَا الصّبيان عِنْد مناولة مَا لَا يَنْبَغِي الْإِتْيَان بِهِ، قيل: هِيَ عَرَبِيَّة، وَقيل: أَعْجَمِيَّة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ معربة، وَقد أوردهَا البُخَارِيّ فِي: بَاب من تكلم بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالْمعْنَى هُنَا: اتركه وارمِ بِهِ. قَوْله: (أما شَعرت؟) هَذِه اللَّفْظَة تقال فِي الشَّيْء الْوَاضِح التَّحْرِيم وَنَحْوه، وَإِن لم يكن الْمُخَاطب عَالما بِهِ أَي: كَيفَ خَفِي عَلَيْك مَعَ ظُهُور تَحْرِيمه، وَهَذَا أبلغ فِي الزّجر عَنهُ بقوله: لَا تَفْعَلهُ فَإِن قلت: روى أَحْمد من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد(9/86)
ابْن زِيَاد: (فَنظر إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ يلوك تَمْرَة، فحرك خَدّه، وَقَالَ: ألقها يَا بني ألقها يَا بني) . فَمَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله: (كخ كخ؟) قلت: هُوَ أَنه كلمة أَولا بِهَذَا، فَلَمَّا تَمَادى قَالَ: كخ كخ إِشَارَة إِلَى استقذار ذَلِك، وَقد ذكرنَا الْحِكْمَة فِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِم أَنَّهَا مطهرة للملاك ولأموالهم، قَالَ تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ} (التَّوْبَة: 301) . فَهِيَ كغسالة الأوساخ، وَأَن آل مُحَمَّد منزهون عَن أوساخ النَّاس وغسالاتهم، وَثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الصَّدَقَة أوساخ النَّاس) ، كَمَا رَوَاهُ مُسلم، وَأما إِن أَخذهَا مذلة، وَالْيَد السُّفْلى، وَلَا يَلِيق بهم الذل والافتقار إِلَى غير الله تَعَالَى، وَلَهُم الْيَد الْعليا وَأما أَنَّهَا لَو أخذوها لطال لِسَان الْأَعْدَاء بِأَن مُحَمَّدًا يَدْعُونَا إِلَى مَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ ليَأْخُذ أَمْوَالنَا ويعطيها لأهل بَيته. قَالَ تَعَالَى: {قل، لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا} (الْأَنْعَام: 09، الشورى: 32) . وَلِهَذَا أَمر أَن تصرف إِلَى فقرائهم فِي بلدهم. قَوْله: (إنَّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إِنَّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة) وَفِي رِوَايَة معمر: (إِن الصَّدَقَة لَا تحل لآل مُحَمَّد) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (إِنَّا آل مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة) .
16 - (بابُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّدَقَة على موَالِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: على عتائقهن. قيل: لم يترجم لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا موَالِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده فِيهِ شَيْء؟ قلت: روى الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَغَيره عَن أبي رَافع مَرْفُوعا: (إِنَّا لَا تحل لنا الصَّدَقَة وَأَن موَالِي الْقَوْم من أنفسهم) . وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد وَابْن الْمَاجشون الْمَالِكِي، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقَالَ غَيرهم: يجوز لَهُم لأَنهم لَيْسُوا مِنْهُم حَقِيقَة، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك مَا كَانَ يَنْبَغِي الإعتذار عَن البُخَارِيّ فِي تَركه التَّرْجَمَة لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا لمواليه بقوله لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده فِيهِ شَيْء لِأَن البُخَارِيّ لم يلْتَزم أَن يذكر كل صَحِيح عِنْده أَو عِنْد غَيره، وَقيل: إِنَّمَا أورد البُخَارِيّ هَذِه التَّرْجَمَة ليحقق أَن الْأزْوَاج لَا يدخلن وَلَا تحرم عَلَيْهِنَّ الصَّدَقَة، وَكَذَا قَالَ ابْن بطال: إِن الْأزْوَاج لَا يدخلن فِي ذَلِك بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء، فَإِذا لم يدخلن هن فمواليهن أَحْرَى بِعَدَمِ الدُّخُول. قلت: روى الْخلال من طَرِيق ابْن أبي مليكَة (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِنَّا آل مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة) ، ذكره ابْن قدامَة، وَقَالَ: هَذَا يدل على تَحْرِيمهَا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) حَدثنَا وَكِيع عَن شريك عَن ابْن أبي مليكَة أَن خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ أرسل إِلَى عَائِشَة شَيْئا من الصَّدَقَة، فَردته فَقَالَت: إِنَّا آل مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة.
2941 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ وَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة مَيِّتَةً أعْطَيْتها مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا قَالُوا إنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ إنَّمَا حَرُمَ أكْلُهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أُعطيتها مولاة لميمونة من الصَّدَقَة) ، فَإِن مولاة مَيْمُونَة أُعطيت صَدَقَة فَلم يُنكر عَلَيْهَا، فَدلَّ على أَن موَالِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحل لَهُم الصَّدَقَة، وَبِهَذَا علم أَن مُرَاد البُخَارِيّ من هَذِه التَّرْجَمَة التَّنْبِيه على ذَلِك، لَا مَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذِه التَّرْجَمَة مُسْتَغْنى عَنْهَا، فَإِن تَسْمِيَة الْمولى لغير فَائِدَة، وَإِنَّمَا هُوَ لسوق الحَدِيث على وَجهه فَقَط.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء، مر فِي بَاب من يرد الله بِهِ خيرا. الثَّانِي: عبد الله ابْن وهب. الثَّالِث: يُونُس ين يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن عبد الله، بِفَتْح الْعين: ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَنْسُوب إِلَى جده لِأَنَّهُ سعيد بن كثير بن عفير وَأَنه وَابْن وهب مصريان، وَأَن يُونُس أيلي وَأَن ابْن شهَاب وَعبيد الله مدنيان، وَقَالَ(9/87)
أَبُو عمر: روى هَذَا الحَدِيث غير وَاحِد عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَالصَّحِيح اتِّصَاله، كَذَا رَوَاهُ معمر وَيُونُس والزبيدي وَعقيل، كلهم عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع، وَفِي الذَّبَائِح عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي الطَّاهِر وحرملة، وَعَن الْحسن بن عَليّ وَعبد بن حميد وَعَن يحيى بن يحيى وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن أَحْمد، وَعَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح عَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب وروى مُسلم من حَدِيث عَطاء: (عَن ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة أخْبرته: أَن داجنا كَانَت لبَعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَاتَتْ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أَخَذْتُم إهابها فاستمتعتم بِهِ؟) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرِجَال من قُرَيْش يجرونَ شَاة، فَقَالَ: لَو أَخَذْتُم إهابها؟ قَالُوا: إِنَّهَا ميتَة. قَالَ: يطهره المَاء والقرظ) . وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد (عَن ابْن عَبَّاس: مَاتَت شَاة لسودة بنت زَمعَة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله مَاتَت فلَان، يَعْنِي الشَّاة، فَقَالَ: لَوْلَا أَخَذْتُم مسكها؟ فَقَالَت: تَأْخُذ مسك شَاة قد مَاتَت؟ فَقَالَ: إِنَّكُم لَا تطعمونه تنتفعون بِهِ. قَالَ: فَأرْسلت إِلَيْهَا فسلخت مسكها فدبغته واتخذت مِنْهُ قربَة حَتَّى تخرقت عِنْدهَا) . وَعند البُخَارِيّ (عَن سَوْدَة: مَاتَت لنا شَاة فدبغنا مسكها) الحَدِيث مَوْقُوف، وَعند مُسلم عَنهُ مَرْفُوعا (إِذا دبغ الإهاب فقد طهر) ، وَفِي لفظ: (دباغه طهوره) ، وَعند ابْن شاهين سُئِلَ عَن جُلُود الْميتَة فَقَالَ: طهورها دباغها، وَفِي لفظ مَرْفُوع: (اسْتَمْتعُوا بجلود الْميتَة إِذا دبغت تُرَابا كَانَ أَو رَمَادا أَو ملحا أَو مَا كَانَ، بعد أَن يزِيد صَلَاحه) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فِي إِسْنَاده مَعْرُوف بن حسان مُنكر الحَدِيث، وَفِي كتاب ابْن سعد: قَالَ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث لعَائِشَة: أَلا نجْعَل لَك فروا تلبسيه فَإِنَّهُ أدفأ لَك؟ قَالَت: إِنِّي لأكْره جُلُود الْميتَة. فَقَالَ: أَنا أقوم عَلَيْهِ وَلَا أجعله إلاَّ ذكيا، فَجعله لَهَا فَكَانَت تلبسه، رَوَاهُ معن ومطرف، قَالَا: حَدثنَا مَالك عَن نَافِع عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بِهِ، وروى أَبُو دَاوُد بِسَنَد جيد من حَدِيث قَتَادَة عَن الْحسن عَن الجون بن قَتَادَة (عَن سَلمَة بن المحبق أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مر بِبَيْت بفنائه قربَة معلقَة، فَاسْتَسْقَى فَقيل: إِنَّهَا ميتَة، فَقَالَ: زَكَاة الْأَدِيم دباغه) . وَفِي رِوَايَة: فِي غَزْوَة تَبُوك. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد (عَن جَابر: كُنَّا نصيب مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مغانمنا من الْمُشْركين الأسقية والأوعية فنقسمها وَكلهَا ميتَة) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أم سَلمَة: أَنَّهَا مَاتَت لَهَا شَاة، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَفلا انتفعتم بإهابها؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا ميتَة. فَقَالَ: إِن دباغتها يحل كَمَا يحل الْخمر الْملح. قَالَ: تفرد بِهِ الْفرج بن فضَالة وَهُوَ ضَعِيف، وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث يُوسُف بن السّفر، قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوك، وَمن حَدِيث أبي قيس الأودي عَن هزيل بن شُرَحْبِيل عَن أم سَلمَة أَو زَيْنَب أَو غَيرهمَا من أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن مَيْمُونَة مَاتَت لَهَا شَاة) الحَدِيث.
فَإِن قلت: جَاءَت أَحَادِيث تخَالف الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة. مِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث حبيب بن أبي ثَابت عَن رجل عَن أم سلمَان الأشجعية أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهَا وَهِي فِي قبَّة، فَقَالَ: مَا أحسن هَذِه إِن لم يكن فِيهَا ميتَة؟ قَالَت: فَجعلت أتتبعها. وَمِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن عبد الله بن عكيم، قَالَ: (كتب إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته بِشَهْر: أَن لَا تنتفعوا من الْميتَة بإهاب وَلَا عصب) ، ثمَّ قَالَ: ذكر الْبَيَان بِأَن ابْن عكيم شهد قِرَاءَة كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْض جُهَيْنَة، ثمَّ ذكر عَنهُ، قَالَ: قرىء علينا كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده قَالَ: مَا أصلح إِسْنَاده. وَمِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَبُو حَفْص بن شاهين من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن ينْتَفع من الْميتَة بعصب أَو إهَاب. وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر رَوَاهُ ابْن شاهين أَيْضا من حَدِيث أبي الزبير عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَا ينْتَفع من الْميتَة بِشَيْء) وَرَوَاهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن جُلُود السبَاع أَن تفترش.
قلت: حَدِيث أم سلمَان مَحْمُول على أَنه لم يكن مدبوغا. وَحَدِيث ابْن عكيم مَعْلُول بِأُمُور ثَلَاثَة: الأول: أَنه مُضْطَرب سندا ومتنا وَقد بَيناهُ فِي شرحنا للهداية. وَالثَّانِي: الِاخْتِلَاف فِي صحبته، فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره لَا صُحْبَة لَهُ. وَالثَّالِث: أَنه روى عَنهُ أَنه سمع من النَّاس الداخلين عَلَيْهِ وهم مَجْهُولُونَ، وَلَئِن صَحَّ فَلَا(9/88)
يُقَاوم حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَحَدِيث ابْن عمر أَن عَامَّة من فِي إِسْنَاده مَجْهُولُونَ. وَحَدِيث جَابر فِي إِسْنَاده زَمعَة وَهُوَ مِمَّن لَا يعْتَمد على نَقله. وَأما النَّهْي عَن جُلُود السبَاع فقد قيل: إِنَّهَا كَانَت تسْتَعْمل قبل الدّباغ. وَقَالَ ابْن شاهين: هَذِه الْأَحَادِيث لَا يُمكن ادِّعَاء نسخ شَيْء مِنْهَا بِالْآخرِ. فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عكيم قبل الْوَفَاة بِشَهْر؟ قلت: يُمكن أَن يُقَال: يجوز أَن يكون الْأَمر قبل أَن يَمُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بجمعة، وَالْأولَى هُنَا هُوَ الْأَخْذ بِالْحَدِيثين جَمِيعًا وَهُوَ أَن يحمل الْمَنْع على مَا قبل الدّباغ وَالْأَخْبَار بِالطَّهَارَةِ بعده على أَن الإهاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إيما إهَاب دبغ فقد طهر) ، اسْم للجلد الَّذِي لم يدبغ، فَبعد الدّباغ لَا يُسمى إهابا، وَإِنَّمَا يُسمى أديما أَو جلدا أَو جرابا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مولاة) ، أَي: عتيقة وارتفاعها على أَنَّهَا مفعول مَا لم يسم فَاعله للإعطاء، ومَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولميمونة صفة لمولاة. قَوْله: (من الصَّدَقَة) ، يتَعَلَّق بأعطيت أَو صفة لشاة. قَوْله: (إِنَّمَا حرم أكلهَا) اتّفق معمر وَمَالك وَيُونُس على قَوْله: (إِنَّمَا حرم أكلهَا) ، إِلَّا أَن معمرا قَالَ: لَحمهَا وَلم يذكر وَاحِد مِنْهُم زِيَادَة دباغ أَهلهَا طهورها وَكَانَ ابْن عُيَيْنَة يَقُول: لم أسمع أحدا يَقُول: (إِنَّمَا حرم أكلهَا) إلاَّ الزُّهْرِيّ، وَاتفقَ الزبيدِيّ وَعقيل وَسليمَان بن كثير وَالْأَوْزَاعِيّ على ذكر الدّباغ فِي هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ، وَكَانَ ابْن عُيَيْنَة مرّة يذكرهُ وَمرَّة لَا يذكرهُ، وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى النَّيْسَابُورِي: لست أعْتَمد فِي هَذَا الحَدِيث على ابْن عُيَيْنَة لاضطرابه فِيهِ، وَأما ذكر الدّباغ فَلَا يُوجد إلاَّ عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عقيل، وَمن رِوَايَة بَقِيَّة عَن الزبيدِيّ، وَيحيى وَبَقِيَّة ليسَا بالقويين، وَلم يذكر مَالك وَلَا يُونُس الدّباغ، وَهُوَ الصَّحِيح فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، وَبِه كَانَ يُفْتِي، وَأما من غير رِوَايَة الزُّهْرِيّ فَصَحِيح مَحْفُوظ عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ طابق الْجَواب السُّؤَال يَعْنِي فِي قَوْله: (إِنَّمَا هُوَ حرَام أكلهَا) قلت: الْأكل غَالب فِي اللَّحْم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّحْم حرَام لَا الْجلد. قلت: لَو اطلع الْكرْمَانِي على مَا ذكرنَا الْآن لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا السُّؤَال وَلَا إِلَى الْجَواب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احتجت بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على أَن جلد الْميتَة يطهر بالدباغ، فَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك ابْن مَسْعُود وَابْن الْمسيب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَالم وَابْن جُبَير وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق. وَفِيه: دَلِيل على بطلَان قَول من قَالَ: إِن الْجلد من الْميتَة لَا ينْتَفع بِهِ بعد الدّباغ، وَبَطل أَيْضا قَول من قَالَ إِن جلد الْميتَة وَإِن لم يدبغ يسْتَمْتع بِهِ وَينْتَفع بِهِ، وَهُوَ قَول مَرْوِيّ عَن ابْن شهَاب وَاللَّيْث بن سعد، وَهُوَ مَشْهُور عَنْهُمَا على أَنه قد روى عَنْهُمَا خِلَافه، قَالَ معمر: وَكَانَ الزُّهْرِيّ يُنكر الدّباغ، وَيَقُول: مستمتع بِهِ على كل حَال، قَالَ أَبُو عبد الله الْمروزِي: مَا علمت أحدا قَالَ ذَلِك قبل الزُّهْرِيّ، وَكَانَ الزُّهْرِيّ يذهب إِلَى ظَاهر الحَدِيث فِي قَوْله: (إِنَّمَا حرَام أكلهَا) ، قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ اللَّيْث: لَا بَأْس بِبيع جُلُود الْميتَة قبل الدّباغ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي الِانْتِفَاع بهَا، وَالْبيع من الِانْتِفَاع، قَالَ أَبُو جَعْفَر: لم يُحكَ عَن أحدِ من الْفُقَهَاء جَوَاز بيع جلد الْميتَة قبل الدّباغ إلاَّ عَن اللَّيْث. قَالَ ابْن عمر: يَعْنِي من الْفُقَهَاء أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار بعد التَّابِعين، لِأَن ابْن شهَاب ذَاك عَنهُ صَحِيح، وَقد ذكر ابْن عبد الحكم عَن مَالك مَا يشبه مَذْهَب ابْن شهَاب فِي ذَلِك، قَالَ: من اشْترى جلد ميتَة فدبغه فَقَطعه نعالاً فَلَا يَبِيعهُ حَتَّى ييبس، فَهَذَا يدل على أَن مذْهبه يجوز بيع جلد الْميتَة قبل الدّباغ وَبعده، وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك وَغَيره. وَفِي (التَّوْضِيح) : ومجموع مَا ذكر فِي دباغ جلد الْميتَة وطهارتها سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يطهر بِهِ جَمِيع جُلُود الْميتَة إلاَّ الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَالْفرع ظَاهرا وَبَاطنا، وَيسْتَعْمل فِي الْيَابِس والمائع، وَسَوَاء مَأْكُول اللَّحْم وَغَيره، وَبِه قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي. ثَانِيهَا: لَا يطهر مِنْهَا شَيْء بِهِ، رُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف، قيل: مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهِي أشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَرِوَايَة عَن مَالك. ثَالِثهَا: يطهر بِهِ جلد مَأْكُول اللَّحْم دون غَيره، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَأبي ثَوْر، رَابِعهَا: يطهر جَمِيعهَا إلاَّ الْخِنْزِير، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة. خَامِسهَا: يطهر الْجَمِيع إلاَّ أَنه يطهر ظَاهره دون بَاطِنه وَيسْتَعْمل فِي اليابسات دون الْمَائِعَات، وَيصلى عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ أَصْحَابه. سادسها: يطهر الْجَمِيع وَالْكَلب وَالْخِنْزِير ظَاهرا وَبَاطنا، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَأهل الظَّاهِر، وَحكي عَن أبي يُوسُف.(9/89)
سابعها: أَنه ينْتَفع بجلود الْميتَة وَإِن لم تدبغ، وَيجوز اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَائِعَات واليابسات، وَهُوَ وَجه شَاذ لبَعض الشَّافِعِيَّة.
3941 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا الحَكَمُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها أرادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ وأرَادَ مَوَالِيهَا إنْ يَشْتَرِطُوا وَلاءَهَا فذَكَرَتْ عائِشَةُ لِلنَّيِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِيهَا فإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ قالَتْ وأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَحْمٍ فَقُلْتُ هاذا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فقالَ هُوَ صَدَقَةٌ ولَنَا هَدِيَّةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هَذَا مَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة) إِلَى آخِره، والترجمة فِي الصَّدَقَة على موَالِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبريرة من جملَة مواليات عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتصدق عَلَيْهَا بِصَدقَة فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا كَانَت لَهَا صَدَقَة وَلَهُم هَدِيَّة، لِأَنَّهَا تحولت عَن معنى الصَّدَقَة بِملك الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ بهَا، وانتقلت إِلَى معنى الْهَدِيَّة الْحَلَال لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكر الحَدِيث فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد رَوَاهُ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن يحيى عَن عمْرَة عَن يحيى عَن عَائِشَة، قَالَت: أتتها بَرِيرَة ... الحَدِيث، غير أَنه لم يذكر فِيهِ قَوْله: قَالَت عَائِشَة، وَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، وَهنا رَوَاهُ عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة عَن ابْن الْحجَّاج عَن الحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتبَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد عَن عَائِشَة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كَفَّارَة الْإِيمَان عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الطَّلَاق عَن عبد الله بن رَجَاء وَفِيه أَيْضا عَن آدم وَفِي الْفَرَائِض عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن يزِيد وَفِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ وَفِي الْفَرَائِض عَن بِنِدَاء عَن غنْدر، الْكل عَن شُعْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَرِيرَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى. قَوْله: (مواليها) أَي: ساداتها، وَكَانَت لعتبة بن أبي لَهب، وَقَالَ أَبُو عمر: كَانَت مولاة لبَعض بني هِلَال فكاتبوها ثمَّ باعوها من عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمولى جَاءَ بِمَعْنى الْمُعْتق والعتيق والناصر وَابْن الْعم وَالْجَار والحليف لَا بِمَعْنى السَّيِّد؟ قلت: جَاءَ أَيْضا بِمَعْنى الْمولى والمتصرف فِي الْأَمر. انْتهى. قلت: لَا وَجه لهَذَا السُّؤَال، لِأَن لفظ الْمولى مُشْتَرك بَين الْمولى الْأَعْلَى وَالْمولى الْأَسْفَل، وبريرة مولاة سفلى ومواليها موَالِي عليا. قَوْله: (اشتريها) أَي: بِمَا يُرِيدُونَ، أَي: من الِاشْتِرَاط بِكَوْن الْوَلَاء لَهُم. قَوْله: (تصدق) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْفرق بَين الصَّدَقَة وَالْهِبَة أَن الصَّدَقَة هبة لثواب الْآخِرَة، والهدية هبة تنقل إِلَى الْمُتَّهب إِكْرَاما لَهُ قلت: الصَّدَقَة قد تكون هبة، وَالْهِبَة قد تكون صَدَقَة، وَإِن الصَّدَقَة على الْغَنِيّ هبة، وَالْهِبَة للْفَقِير صَدَقَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة على أَن عَائِشَة اشترتها شِرَاء فَاسِدا فأنفذ الشَّارِع عتقهَا، وَمَعْلُوم أَن شَرط الْوَلَاء لغير الْمُعْتق يُوجب فَسَاد العقد، ثمَّ أنفذ الشَّارِع الْعتْق. قلت: الَّذِي كَانَ من أهل بَرِيرَة فِي هَذَا الحَدِيث لم يكن شرطا فِي بيع، لَكِن فِي أَدَاء عَائِشَة إِلَيْهِم عَن بَرِيرَة، وهم توَلّوا عقد تِلْكَ الْكِتَابَة، وَلم يتَقَدَّم ذَلِك الْأَدَاء من عَائِشَة ملك، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَا يمنعك ذَلِك مِنْهَا، أَي: لَا تَرْجِعِي بِهَذَا الْمَعْنى عَمَّا كنت نَوَيْت عتاقها من الثَّوَاب، اشتريها فأعتقيها فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق، وَكَانَ ذَلِك الشِّرَاء هُنَا ابْتِدَاء من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْسَ مَا كَانَ قبل ذَلِك بَين عَائِشَة وَبَين أهل بَرِيرَة فِي شَيْء، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على أَنَّهَا ملكت بِالْقَبْضِ ملكا تَاما، وَهُوَ بعيد لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذَا الحَدِيث وَغَيره أَمر عَائِشَة بِالشِّرَاءِ وَلم يكن ليأمر بفاسد. قلت: جَوَاب هَذَا يفهم مِمَّا قبله مِمَّا ذكرنَا على أَن بعض أَصْحَابنَا قَالُوا: إِنَّهَا خصت بذلك كَمَا خص غَيرهَا بخصائص قيل: هَذَا بعيد، لِأَن ذَلِك لَو وَقع لنقل. قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا من خَصَائِص عَائِشَة وَلَا عُمُوم لَهَا. فَإِن قلت: فِيهِ صُورَة المخادعة؟ قلت: لم يكن هَذَا إلاَّ للزجر والتوبيخ، لِأَنَّهُ كَانَ بيَّن لَهُم حكم الْوَلَاء، وَأَن هَذَا الشَّرْط لَا يحل، فَلَمَّا ألحوا فِي اشْتِرَاطه وَمُخَالفَة الْأَمر، قَالَ لعَائِشَة هَذَا بِمَعْنى: لَا تبالي سَوَاء شرطته أم لَا،(9/90)
فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل لِأَنَّهُ قد سبق بَيَان ذَلِك لَهُم وَلَيْسَ لفظ: اشترطي، هُنَا للْإِبَاحَة، وَقد تكلمنا فِي هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، واستقصينا الْكَلَام فِيهِ.
26 - (بابٌ إِذا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا تحولت الصَّدَقَة يَعْنِي: إِذا خرجت من كَونهَا صَدَقَة بِأَن دخلت فِي ملك الْمُتَصَدّق بِهِ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: إِذا حولت الصَّدَقَة، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا حولت الصَّدَقَة يجوز للهاشمي تنَاولهَا.
4941 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالدٌ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أم عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فقالَ هَل عنْدَكُمْ شَيْءٌ فقَالَتْ لاَ ألاَّ شَيءٌ بَعَثَتْ بِهِ إلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثَتْ بِهَا مِنَ الصَّدَقةِ فَقَالَ إنَّها قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.
(انْظُر الحَدِيث 6441 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن نسيبة أرسل إِلَى عَائِشَة من الشَّاة الَّتِي أرسلها إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّدَقَة، فَلَمَّا قبلتها نسيبة دخلت فِي ملكهَا وَخرجت من كَونهَا صَدَقَة، فَهَذَا معنى التَّحَوُّل، كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، مصغر زرع ضد الجدب، وَقد مر فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثالت: خَالِد الْحذاء. الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين سيدة التابعيات. الْخَامِس: أم عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَاسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر ذكرهَا غير مرّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الحَدِيث لصحابية مَذْكُورَة بكنيتها.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي شهَاب الحناط، وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن خَالِد بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن خَالِد الْحذاء.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَل عنْدكُمْ شَيْء) أَي: من الطَّعَام. قَوْله: (فَقَالَت: لَا) أَي: لَا شَيْء. (إلاَّ شَيْء) ، والمستثنى مِنْهُ مَحْذُوف وَهُوَ اسْم: لَا، الَّتِي لنفي الْجِنْس، أَي: لَا شَيْء من الطَّعَام إلاَّ شَيْء كَذَا. قَوْله: (بعثت بِهِ نسيبة) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل صفة لقَوْله: شَيْء، وَكلمَة: من، فِي: من الشَّاة، للْبَيَان مَعَ الدّلَالَة على التَّبْعِيض. قَوْله: (بعثت بهَا) على صِيغَة الْمُخَاطب أَي: الَّتِي بعثت بهَا أَنْت إِلَيْهَا قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن الصَّدَقَة (قد بلغت محلهَا) ، بِكَسْر الْحَاء من حل إِذا وَجب، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي {حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: مَكَانَهُ الَّذِي يجب فِيهِ نَحوه، وَقَالَ التَّيْمِيّ: بلغت محلهَا، أَي: حَيْثُ يحل أكلهَا فَهُوَ مفعل من حل الشَّيْء حَلَالا، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى أم عَطِيَّة شَاة من الصَّدَقَة فَبعثت هِيَ من تِلْكَ الشَّاة إِلَى عَائِشَة هَدِيَّة، وَهَذَا معنى قَول البُخَارِيّ: إِذا تحولت الصَّدَقَة، إِذْ كَانَت عَلَيْهَا صَدَقَة ثمَّ صَارَت هَدِيَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة كَمَا قَالَ الطَّحَاوِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْهَاشِمِي، وَيَأْخُذ جعله على ذَلِك وَقد كَانَ أَبُو يُوسُف يكره ذَلِك إِذا كَانَت جعالتهم مِنْهَا، قَالَ: لِأَن الصَّدَقَة تخرج من ملك الْمُتَصَدّق إِلَى غير الْأَصْنَاف الَّتِي سَمَّاهَا الله تَعَالَى فَيملك الْمُتَصَدّق بَعْضهَا وَهِي لَا تحل لَهُ، وَاحْتج بِحَدِيث أبي رَافع فِي ذَلِك، وَخَالفهُ فِيهِ آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَا بَأْس أَن يَجْعَل مِنْهَا للهاشمي لِأَنَّهُ يَجْعَل على عمله، وَذَلِكَ قد يحل للأغنياء، فَلَمَّا كَانَ هَذَا لَا يحرم على الْأَغْنِيَاء الَّذين يحرم عَلَيْهِم غناؤهم الصَّدَقَة، كَانَ ذَلِك أَيْضا فِي النّظر لَا يحرم ذَلِك على بني هَاشم الَّذين يحرم عَلَيْهِم نسبهم الصَّدَقَة، فَلَمَّا كَانَ مَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة جَازَ للشارع أكله لِأَنَّهُ إِنَّمَا أكله بالهدية فَجَاز أَيْضا للهاشمي أَن يجتعل من الصَّدَقَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يملكهَا بِعَمَلِهِ لَا بِالصَّدَقَةِ، هَذَا هُوَ النّظر عندنَا، وَهُوَ أصح مِمَّا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف. قلت: أَرَادَ الطَّحَاوِيّ بقوله: آخَرُونَ، مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَأحمد فِي رِوَايَة(9/91)
وَمُحَمّد بن الْحسن فَإِنَّهُم قَالُوا: لَا بَأْس أَن يكون الْعَامِل هاشميا وَيَأْخُذ عمالته مِنْهَا، لِأَن ذَلِك على عمله، وَلقَائِل أَن يَقُول: هَذَا الْقيَاس لَيْسَ بِصَحِيح: لِأَن الْغَنِيّ إِذا كَانَ عَاملا يكون متفرغا لذَلِك صارفا نَفسه وحابسها لأجل ذَلِك فَيسْتَحق الْجعَالَة فِي مُقَابلَة هَذَا الْفِعْل، وَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَة يكون لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِك، فَيصير كَابْن السَّبِيل تُبَاح لَهُ الصَّدَقَة، وَإِن كَانَ غَنِيا، بِخِلَاف الْهَاشِمِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة لكَونهَا أوساخ النَّاس وَلأَجل لُحُوق الذلة والهوان لشرف نسبه، فَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود دَائِما سَوَاء كَانَ الَّذِي يَأْخُذهُ من الصَّدَقَة على وَجه الاعتمال والاجتعال أَو غير ذَلِك. وَفِيه: دَلِيل على تَحْويل الصَّدَقَة إِلَى هَدِيَّة لِأَنَّهُ لما كَانَ يجوز التَّصَرُّف للمتصدق عَلَيْهِ فِيهَا بِالْبيعِ وَالْهِبَة لصِحَّة ملكه لَهَا، حكم لَهَا بِحكم الْهِبَة، وخروجها عَن معنى الصَّدَقَة فَصَارَت حَلَالا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْكُل الْهَدِيَّة دون الصَّدَقَة لما فِي الْهَدِيَّة من التألف وَالدُّعَاء إِلَى الْمحبَّة، وَقَالَ: تهادوا تحَابوا) ، وَجَائِز أَن يثبت عَلَيْهَا وَأفضل مِنْهَا فيرفع الذلة والْمنَّة بِخِلَاف الصَّدَقَة. وَفِيه: بَيَان أَن الْأَشْيَاء الْمُحرمَة لعلل مَعْلُومَة إِذا ارْتَفَعت عَنْهَا تِلْكَ الْعِلَل حلت وَأَن التَّحْرِيم فِي الْأَشْيَاء لَيْسَ لعينها.
5941 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوسى اقال حدَّثنا وَكِيعٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلى بَريرَة فَقَالَ هُوَ عَلَيْها صدقَةٌ وَهْوَ لَنا هَدِيَّةٌ.
(الحَدِيث 5941 طرفه فِي: 7752) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الصَّدَقَة الَّتِي تصدق بهَا على بَرِيرَة صَارَت هَدِيَّة لملكها إِيَّاهَا.
وَرِجَاله قد ذكرُوا وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي يُقَال لَهُ: خت، قد مر فِي آخر كتاب الصَّلَاة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزّهْد عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع، وَفِي الْهِبَة عَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن وَكِيع وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كلا من غنْدر وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن مَرْزُوق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعمريّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن وَكِيع.
قَوْله: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة) ، قد لفظ: (عَلَيْهَا) ليُفِيد الْحصْر أَي: عَلَيْهَا صَدَقَة لَا علينا، وَحَاصِله أَنَّهَا إِذا قبضهَا الْمُتَصَدّق زَالَ عَنْهَا وصف الصَّدَقَة وَحكمهَا، فَيجوز للغني شراها للْفَقِير، وللهاشمي أكله مِنْهَا.
وَقَالَ أبُو داوُدَ أنْبَأنا شُعْبَةُ عنُ قَتَادَةَ سَمِعَ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو دَاوُد هُوَ سُلَيْمَان الطَّيَالِسِيّ الْحَافِظ، كتب عَنهُ بأصفهان أَرْبَعُونَ ألف حَدِيث، وَلم يكن مَعَه كتاب، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ. وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله حَدثنَا يُونُس حَدثنَا أَبُو دَاوُد يَعْنِي الطَّيَالِسِيّ قَالَ: أَنبأَنَا شُعْبَة، فَذكره وَفَائِدَته تَصْرِيح قَتَادَة بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من أنس، وَلما كَانَ قَتَادَة مدلسا قوي الْإِسْنَاد الأول بِهَذَا حَيْثُ قَالَ: سمع أنسا، إِذْ فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ. قَوْله: (أَنبأَنَا) أَي: أخبرنَا. قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: دَرَجَة أَنبأَنَا أحط من دَرَجَة أخبرنَا، وَهُوَ قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال، وثلاثيه من النبأ وَهُوَ الْخَبَر.
36 - (بابُ أخْذِ الصَّدَقَةِ مِن الأغْنِيَاءِ وتُرَدُّ فِي الفُقرَاءِ حَيْثُ كَانُوا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَخذ الصَّدَقَة، أَي: الزَّكَاة، من الْأَغْنِيَاء، فَإِذا أخذت مَا يكون حكمهَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَترد فِي الْفُقَرَاء) وَترد، بِنصب الدَّال بِتَقْدِير: أَن، ليَكُون فِي حكم الْمصدر، وَيكون التَّقْدِير: وَأَن ترد، أَي: وَالرَّدّ فِي الْفُقَرَاء حَاصله: بَاب فِي أَخذ الصَّدَقَة، وَفِي ردهَا فِي الْفُقَرَاء حَيْثُ كَانَ الْفُقَرَاء. قَوْله: (حَيْثُ كَانُوا) ، يشْعر بِأَنَّهُ اخْتَار جَوَاز نقل الزَّكَاة من بلد إِلَى بلد، وَفِيه خلاف، فَعَن اللَّيْث بن سعد وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه جَوَازه، وَنَقله ابْن الْمُنْذر عَن الشَّافِعِي وَاخْتَارَهُ، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة والمالكية ترك النَّقْل، فَلَو نقل أَجْزَأَ عِنْد الْمَالِكِيَّة على الْأَصَح، وَلم يجزىء عِنْد الشَّافِعِيَّة على الْأَصَح إلاَّ إِذا فقد المستحقون لَهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن غَرَض البُخَارِيّ بَيَان الِامْتِنَاع، أَي: ترد على فُقَرَاء أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاء، أَي: فِي مَوضِع(9/92)
وجد لَهُم الْفُقَرَاء، وإلاَّ جَازَ النَّقْل، وَيحْتَمل أَن يكون غَرَضه عَكسه. قلت: لَيْسَ الظَّاهِر مَا قَالَه، فَإِنَّهُ قَالَ: ترد حَيْثُ كَانُوا، أَي: الْفُقَرَاء، وَهُوَ أَعم من أَن يَكُونُوا فِي مَوضِع كَانَ فِيهِ الْأَغْنِيَاء أَو فِي غَيره، فالعجب مِنْهُ الْعَكْس حَيْثُ جعل الِامْتِنَاع ظَاهرا وَهُوَ مُحْتَمل، وَجعل الظَّاهِر عكسا. فَافْهَم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث معَاذ فِي أَوَائِل الزَّكَاة.
6941 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ عنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الله ابنِ صَيْفِيٍ ّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعثَهُ إِلَى اليَمَنُ إنَّكَ سَتأتِي قَوْما أهْلَ كِتَابٍ فإذَا جِئْتُهمْ فادْعُهُمْ إلَى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدا رسُولَ الله فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ علَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائهِمْ فَتُرَدُّ عَلىَ فُقَرَائِهِمْ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوالِهِم وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فإنَّهُ ليْسَ بَيْنَهُ وبيْنَ الله حِجَابٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد على فقرائهم) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي أول: بَاب وجوب الزَّكَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق. . إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً، وَهَهُنَا زِيَادَة، وَهِي قَوْله: (فإياك وكرائم أَمْوَالهم وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) إِلَى آخِره، ولنذكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ. فَقَوله: (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن) ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الطّرق إلاَّ مَا أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع، فَقَالَ فِيهِ: عَن ابْن عَبَّاس (عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن) فعلى هَذَا فَهُوَ من مُسْند معَاذ، وَسَائِر الرِّوَايَات غير هَذِه من مُرْسل ابْن عَبَّاس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي كريب عَن وَكِيع عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث معَاذًا، وَكَذَا أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن وَكِيع نَحوه، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن وَكِيع، وَأخرجه عَنهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع كَذَلِك. وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن عبد الله المَخْزُومِي، وجعفر بن مُحَمَّد الثَّعْلَبِيّ والإسماعيلي من طَرِيق أبي خَيْثَمَة، ومُوسَى بن المسندي وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم الْبَغَوِيّ، كلهم عَن وَكِيع كَذَلِك، وَلَا يستبعد حُضُور ابْن عَبَّاس لذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِر حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ إِذْ ذَاك مَعَ أَبَوَيْهِ.
قَوْله: (ستأتي قوما) تَوْطِئَة للْوَصِيَّة ليقوي همته عَلَيْهَا لكَون أهل الْكتاب أهل علم فِي الْجُمْلَة فَلذَلِك خصهم بِالذكر تَفْضِيلًا لَهُم على غَيرهم. قَوْله: (أهل كتاب) ، بدل لَا صفة، وَكَانَ فِي الْيمن أهل الذِّمَّة وَغَيرهم. وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي أول (السِّيرَة) : إِن أصل دُخُول الْيَهُود فِي الْيمن فِي زمن أسعد أبي كرب، وَهُوَ تبع الْأَصْفَر. قَوْله: (فَإِذا جئتهم) إِنَّمَا ذكر لَفْظَة: إِذا، دون: أَن، تفاؤلاً بِحُصُول الْوُصُول إِلَيْهِم. قَوْله: (فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) ، كَذَا فِي رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق لم يخْتَلف عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة روح بن الْقَاسِم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة: (فَأول مَا تدعوهم إِلَيْهِ عبَادَة الله تَعَالَى، فَإِذا عرفُوا الله) . وَفِي رِوَايَة الْفضل بن الْعَلَاء عَنهُ: (إِلَى أَن يوحدوا الله، وَإِذا عرفُوا ذَلِك) . قَوْله: (فَإِن هم أطاعوا لَك بذلك) أَي: شهدُوا وانقادوا، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: (فَإِن هم أجابوا لذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة الْفضل ابْن الْعَلَاء: (فَإِذا عرفُوا ذَلِك) ، وَإِنَّمَا عدى: أطاعوا، بِاللَّامِ وَإِن كَانَ يتَعَدَّى بِنَفسِهِ لتَضَمّنه معنى: انقادوا قَوْله (فإياك) كلمة تحذير (وكرائم) مَنْصُوب بِفعل مُضْمر لَا يجوز إِظْهَاره قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَلَا يجوز حذف(9/93)
الْوَاو، أما عدم جَوَاز إِظْهَار الْفِعْل فللقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ ولطول الْكَلَام، وَقيل: لِأَن مثل هَذَا يُقَال عِنْد تَشْدِيد الْخَوْف، وَأما عدم جَوَاز حذف الْوَاو لِأَنَّهَا حرف عطف، فيختل الْكَلَام بحذفه، والكرائم جمع: كَرِيمَة وَهِي النفيسة. قَوْله: (وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) أَي: تجنب الظُّلم لِئَلَّا يَدْعُو عَلَيْك الْمَظْلُوم، وَقيل: هُوَ تذييل لاشْتِمَاله على الظُّلم الْخَاص وَهُوَ أَخذ الكرائم وعَلى غَيره. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الشان، وَهُوَ تَعْلِيل للاتقاء، وتمثيل للدعوة كمن يقْصد إِلَى السُّلْطَان متظلما فيمَ يحجب عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: عظة الإِمَام وتخويفه من الظُّلم قَالَ تَعَالَى: {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . ولعنة الله إبعاده من رَحمته، وَالظُّلم محرم فِي كل شَرِيعَة، وَقد جَاءَ: (إِن دَعْوَة الْمَظْلُوم لَا ترد وَإِن كَانَت من كَافِر) . وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَرْفُوعا: (دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه) . وَمعنى ذَلِك أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يرضى ظلم الْكَافِر كَمَا لَا يرضى ظلم الْمُؤمن، وَأخْبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنه لَا يظلم النَّاس شَيْئا، فَدخل فِي عُمُوم هَذَا اللَّفْظ جَمِيع النَّاس من مُؤمن وَكَافِر، وحذر معَاذًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من الظُّلم مَعَ علمه وفضله وورعه، وَأَنه من أهل بدر وَقد شهد لَهُ بِالْجنَّةِ، غير أَنه لَا يَأْمَن أحدا، بل يشْعر نَفسه بالخوف، وفوائده كَثِيرَة ذَكرنَاهَا فِي حَدِيث معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أول الزَّكَاة.
46 - (بابُ صَلاَةِ الإمامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ وقَوْلِهِ {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الإِمَام ودعائه لصَاحب الصَّدَقَة، وَالْمرَاد من الصَّلَاة الدُّعَاء لِأَن مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ ذَلِك، وَإِنَّمَا عطف لفظ الدُّعَاء على الصَّلَاة لِئَلَّا يفهم أَن الدُّعَاء بِلَفْظ الصَّلَاة مُتَعَيّن، بل إِذا دعِي بِلَفْظ يُؤَدِّي معنى الثَّنَاء وَالْخَيْر فَإِنَّهُ يَكْفِي، مثل أَن يَقُول: آجرك فِيمَا أَعْطَيْت وَبَارك لَك فِيمَا أبقيت أَو يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وَتقبل مِنْهُ، وَنَحْو ذَلِك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث وَائِل بن حجر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي رجل بعث بِنَاقَة حَسَنَة فِي الزَّكَاة: اللَّهُمَّ بَارك فِيهِ وَفِي إبِله. قيل: إِنَّمَا ذكر لفظ الإِمَام فِي التَّرْجَمَة ردا لشُبْهَة أهل الرِّدَّة فِي قَوْلهم لأبي بكر الصّديق: إِنَّمَا قَالَ الله عز وَجل لرَسُوله: {وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} (التَّوْبَة: 301) . وَادعوا خُصُوصِيَّة ذَلِك بالرسول، فَأَرَادَ أَن كل إِمَام دَاخل فِيهِ، وَلِهَذَا ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله من الْمَجْرُور أَعنِي: لفظ الصَّلَاة وَالدُّعَاء، أَمر الله تَعَالَى رَسُوله أَن يَأْخُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا، وَأمره أَن يُصَلِّي عَلَيْهِم بقوله: {وصل عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 301) . أَي: ادْع لَهُم واستغفر لَهُم، كَمَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب: (عَن عبد الله ابْن أبي أوفى قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى بِصَدقَة قوم صلى عَلَيْهِم، فَأَتَاهُ أبي بِصَدقَة فَقَالَ: اللَّهُمَّ صلِّ على آل أبي أوفى) . وَفِي حَدِيث آخر: (إِن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله، صل عَليّ وعَلى زَوجي! فَقَالَ: صلى الله عَلَيْك وعَلى زَوجك) . قَوْله: {إِن صَلَاتك سكن لَهُم} (التَّوْبَة: 301) . قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي سكن لَهُم، وَقَالَ قَتَادَة: وقار وقرىء: {إِن صلواتك} على الْجمع. قَوْله: {وَالله سميع عليم} (التَّوْبَة: 301) . أَي: سميع لدعائك عليم من يسْتَحق ذَلِك مِنْك، وَمن هُوَ أهل لَهُ. وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ صل عَلَيْهِم إِذا مَاتُوا صَلَاة الْجِنَازَة لِأَنَّهَا فِي الشَّرِيعَة مَحْمُولَة على الصَّلَاة أَي: الْعِبَادَة المفتتحة بِالتَّكْبِيرِ المختتمة بِالتَّسْلِيمِ، أَو أَنه من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لم ينْقل أحد أَنه أَمر السعاة بذلك، وَلَو كَانَ وَاجِبا لأمرهم بِهِ ولعلمهم كيفيته، وبالقياس على اسْتِيفَاء سَائِر الْحُقُوق إِذْ لَا يجب الدُّعَاء فِيهِ. انْتهى. قلت: لم ينْحَصر معنى قَوْله تَعَالَى: {وصل عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 301) . على مَا ذكره ابْن بطال من الصَّلَاة على الْجِنَازَة، بل جُمْهُور الْمُفَسّرين فسروا قَوْله: {وصل عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 301) . مثل مَا ذكرنَا، وَعَن هَذَا قَالَ الْخطابِيّ: أصل الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء إلاَّ أَن الدُّعَاء يخْتَلف بِحَسب الْمَدْعُو لَهُ، فَصلَاته عَلَيْهِ السَّلَام لأمته دُعَاء لَهُم بالمغفرة، وَصَلَاة الْأمة لَهُ دُعَاء لَهُ بِزِيَادَة الْقرْبَة والزلفة، وبظاهر الْآيَة أَخذ أهل الظَّاهِر، وَقَالُوا: الدُّعَاء وَاجِب، وَخَالفهُم جَمِيع الْعلمَاء، وَقَالُوا: إِنَّه مُسْتَحبّ لِأَنَّهَا تقع الْموقع وَإِن لم يدع، وَلَو كَانَ وَاجِبا، لأمر السعاة بِهِ، كَمَا ذكرنَا.
7941 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وعنْ عَبْدِ الله بنِ أبي أوْفَى قَالَ(9/94)
كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أتاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فأتاهُ أبي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أبِي أوْفَى..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي على من يَأْتِي بِصَدَقَتِهِ أَي: زَكَاته، والترجمة فِي صَلَاة الإِمَام لصَاحب الصَّدَقَة.
ذكر رِجَاله وهم: أَرْبَعَة: الأول: حَفْص بن عمر بن الْحَارِث أَبُو حَفْص الحوضي. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: ابْن عبد الله بن طَارق الْمرَادِي، وَقد مر فِي تَسْوِيَة الصُّفُوف. الرَّابِع: عبد الله بن أبي أوفى، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْفَاء وبالقصر: واسْمه عَلْقَمَة بن خَالِد بن الْحَارِث الْأَسْلَمِيّ الْمدنِي من أَصْحَاب بيعَة الرضْوَان، رُوِيَ لَهُ خَمْسَة وَتسْعُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ خَمْسَة عشر، وَهُوَ آخر من بَقِي من أَصْحَابه بِالْكُوفَةِ، مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَهُوَ أحد الصَّحَابَة السَّبْعَة الَّذين أدركهم أَبُو حنيفَة سنة ثَمَانِينَ، وَكَانَ عمره سبع سِنِين، سنّ التَّمْيِيز والإدراك من الْأَشْيَاء. وَقيل: مولده سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقيل سنة سبعين، وَالْأول أصح وَأشهر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَن عَمْرو عَن عبد الله وَفِي الْمَغَازِي عَن عَمْرو: وَسمعت ابْن أبي أوفى، وَكَانَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ كُوفِي وَشعْبَة واسطي وَعَمْرو بن مرّة كُوفِي تَابِعِيّ صَغِير لم يسمع من الصَّحَابَة إلاَّ من ابْن أبي أوفى، وَقَالَ: شُعْبَة كَانَ لَا يُدَلس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن آدم، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم وَسليمَان بن حَرْب فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، أربعتهم عَن وَكِيع، وَعَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن عبد الله بن إِدْرِيس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر وَأبي الْوَلِيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن يزِيد عَن بهز بن أَسد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع كلهم عَن شُعْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أُتِي بِصَدقَة) ، أَي: بِزَكَاة. قَوْله: (صلِّ على آل فلَان) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (صل على فلَان) . قَوْله: (صلِّ على آل أبي أوفى) ، يُرِيد بِهِ: أَبَا أوفى، وَأما لفظ آل، فمقحم، وَأما إِن المُرَاد بِهِ ذَات أبي أوفى لِأَن الْآل يذكر وَيُرَاد بِهِ ذَات الشَّيْء، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (لقد أُوتِيَ مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد) . يُرِيد بِهِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: لَا يُقَال ذَلِك، إلاَّ فِي حق الرجل الْجَلِيل الْقَدِير، كآل أبي بكر وَآل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقيل: آل الرجل: أَهله، وَالْفرق بَين الْآل والأهل: أَن الْآل قد خص بالأشراف، فَلَا يُقَال آل الحائك وَلَا آل الْحجام. فَإِن قلت: كَيفَ قيل: آل فِرْعَوْن؟ قلت: لتصوره بِصُورَة الْأَشْرَاف، وَفِي الصِّحَاح: أصل آل: أول، وَقيل: أهل، وَلِهَذَا يُقَال فِي تصغيره: أهيل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور من جوز الصَّلَاة على غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالاستقلال وَهُوَ قَول أَحْمد أَيْضا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ: إِنَّه لَا يُصَلِّي على غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْتِقْلَالا، فَلَا يُقَال: اللَّهُمَّ صل على آل أبي بكر وَلَا على آل عمر أَو غَيرهمَا، وَلَكِن يصلى عَلَيْهِم تبعا. وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن هَذَا حَقه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَهُ أَن يُعْطِيهِ لمن شَاءَ، وَلَيْسَ لغيره ذَلِك. وَفِيه: جَوَاز أَن يُقَال: آل فلَان، يُرِيد بِهِ فلَانا، وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدُّعَاء للمتصدق، كَمَا ذَكرْنَاهُ مشروحا.
56 - (بابُ مَا يُسْتَخْرَجُ منَ البَحْرِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِي بَيَان حكم مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، وَفِيه حذف تَقْدِيره: هَل تجب فِيهِ الزَّكَاة أم لَا؟ والمحذوف فِي نفس الْأَمر خبر، لِأَن كلمة: (مَا) ، مَوْصُولَة. (ويستخرج) صلتها. وَكلمَة (من) بَيَانِيَّة، وَلَا بُد للموصول من عَائِد، وَهُوَ صفة لشَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره:(9/95)
بَاب فِي بَيَان حكم الشَّيْء الَّذِي يسْتَخْرج من الْبَحْر: هَل تجب فِيهِ الزَّكَاة؟ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَيْسَ العَنْبَرُ بِرِكازٍ هُوَ شَيءٌ دَسَرَهْ البَحْرُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي كَون العنبر مِمَّا يسْتَخْرج من الْبَحْر، والعنبر بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ضرب من الطّيب، وَهُوَ غير العبير، بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، فَإِنَّهُ أخلاط تجمع بالزعفران. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن العنبر زبد الْبَحْر، وَقيل: هُوَ رَوْث دَابَّة بحريّة. وَقيل: إِنَّه شَيْء ينْبت فِي قَعْر الْبَحْر فيأكله بعض الدَّوَابّ، فَإِذا امْتَلَأت مِنْهُ قَذَفته رجيعا. وَقَالَ ابْن سينا: هُوَ نبع عين فِي الْبَحْر. وَقيل: إِنَّه من كور النّخل يخرج فِي السنبل بِبَعْض الجزاير، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي كتاب السّلم من الْأُم: أَخْبرنِي عدد مِمَّن أَثِق بِخَبَرِهِ: أَنه نَبَات يخلقه الله تَعَالَى فِي جنبات الْبَحْر. وَحكى ابْن رستم عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه ينْبت فِي الْبَحْر بِمَنْزِلَة الْحَشِيش فِي الْبر. وَقيل: إِنَّه شجر ينْبت فِي الْبَحْر فينكسر فيلقيه الموج إِلَى السَّاحِل. وَقَالَ ابْن سينا: وَمَا يحْكى من أَنه رَوْث دَابَّة أَو قيؤها أَو من زبد الْبَحْر بعيد. قَوْله: (بركاز) الرِّكَاز، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْكَاف وَفِي آخِره زَاي، وَهُوَ يُقَال للمعدن والكنز جَمِيعًا، والمعدن خَاص لما يكون فِي بَاطِن الأَرْض خلقَة، والكنز خَاص لما يكون مَدْفُونا. والركاز يصلح لَهما، كَمَا قُلْنَا. وَفِي (مجمع الغرائب) : الرِّكَاز الْمَعَادِن وَقيل: هُوَ كنوز الْجَاهِلِيَّة. وَفِي (النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: كنوز الأَرْض الْجَاهِلِيَّة المدفونة فِي الأَرْض، وَهِي المطالب فِي الْعرف عِنْد أهل الْحجاز، وَهُوَ الْمَعَادِن عِنْد أهل الْعرَاق، وَالْقَوْلَان تحتملهما اللُّغَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الرِّكَاز بِمَعْنى المركوز، كالكتاب بِمَعْنى الْمَكْتُوب. قلت: من ركز فِي الأَرْض إِذا اثْبتْ أَصله، والكنز يركز فِي الأَرْض كَمَا يركز الرمْح. قَوْله: (دسره) أَي: دَفعه وَرمى بِهِ إِلَى السَّاحِل. ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يَعْقُوب بن سُفْيَان: حَدثنَا الْحميدِي وَابْن قعنب وَسَعِيد قَالُوا: حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أذينة، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس قَالَ: لَيْسَ العنبر بركاز. وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان بن سعيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أذينة عَن ابْن عَبَّاس: لَيْسَ فِي العنبر زَكَاة، إِنَّمَا هُوَ شَيْء دسره الْبَحْر، وأذينة مصغر أذن تَابِعِيّ ثِقَة. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن الثَّوْريّ عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، سُئِلَ فِي العنبر فَقَالَ: إِن كَانَ فِيهِ شَيْء فَفِيهِ الْخمس. قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: علق القَوْل فِيهِ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقطع بِأَن لَا زَكَاة فِيهِ فِي الرِّوَايَة الأولى، وَالْقطع أولى. وَقَالَ ابْن التِّين: قَول ابْن عَبَّاس قَول أَكثر الْعلمَاء. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أَخذ الْخمس من العنبر؟ قلت: هُوَ مَحْمُول على الْجَيْش، يدْخلُونَ أَرض الْحَرْب فيصيبون العنبر فِي ساحلها وَفِيه الْخمس لِأَنَّهُ غنيمَة.
وَقَالَ الحَسَنُ: فِي العَنْبَرِ وَاللّؤْلُؤِ الخُمُس
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن معَاذ بن معَاذ عَن أَشْعَث عَن الْحسن أَنه كَانَ يَقُول: فِي العنبر الْخمس، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول: فِي اللُّؤْلُؤ، واللؤلؤ مطر الرّبيع يَقع فِي الصدف فعلى هَذَا أَصله مَاء، وَلَا شَيْء فِي المَاء. وَقيل: إِن الصدف حَيَوَان يخلق فِيهِ اللُّؤْلُؤ. وَفِي (كتاب الْأَحْجَار) لأبي الْعَبَّاس التيغاشي: إِن حَيَوَان الْجَوْهَر الَّذِي يتكون فِيهِ مِنْهُ الْكَبِير وَيُسمى الدّرّ، وَمِنْه الصَّغِير وَيُسمى اللُّؤْلُؤ. وَهَذَا الْحَيَوَان يُسمى باليونانين: أرسطورس، يَعْلُو لحم ذَلِك الْحَيَوَان صدفتان ملتصقتان بجسمه، وَالَّذِي يَلِي الصدفتين من لَحْمه أسود، وَله فَم وأذنان وشحم من داخلها إِلَى غَايَة الصدفتين، وَالْبَاقِي رغوة وزبد وَمَاء. وَقيل: إِن الْبَحْر الْمُحِيط يلْحق آخِره أول الْبَحْر المسلوك، وَإِن الرِّيَاح تصفق الَّذِي فِيهِ الدّرّ فِي وَقت ريح الشمَال، فَيصير لموجه رشاش فيلتقمه الصدف عِنْد ذَلِك إِلَى قَعْر الْبَحْر، فيتغرس هُنَاكَ وَيضْرب بعروق فيتشعب مثل الشّجر وَيصير نباتا بعد أَن كَانَ حَيَوَانا ذَا نفس، فَإِذا تركت هَذِه الصدفة حَتَّى يطول مكثها تَغَيَّرت وفسدت. واللؤلؤ: بهمزتين وبواوين، وَيُقَال: الثَّانِي بِالْوَاو، وَالْأول بِالْهَمْز، وَبِالْعَكْسِ قَالَ النَّوَوِيّ: أَربع لُغَات. قلت: لَا يُقَال لتخفيف الْهمزَة لُغَة، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَلَا زَكَاة فِي الْمُسْتَخْرج من الْبَحْر كَاللُّؤْلُؤِ والمرجان والعنبر وَنَحْوه فِي ظَاهر قَول الْخرقِيّ، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَمَالك وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد، وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَن فِيهِ الزَّكَاة، لِأَنَّهُ خَارج من مَعْدن التبر، وَبِه قَالَ(9/96)
أَبُو يُوسُف وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: أَن وجد عنبرة فِي صفة الْبَحْر خمست، وَإِن غاص عَلَيْهَا فِي مثل بَحر الْهِنْد فَلَا شَيْء فِيهَا لَا خمس وَلَا نفل وَلَا غَيره، وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: لَيْسَ فِي العنبر زَكَاة، وَإِنَّمَا هُوَ غنيمَة لمن أَخذه.
إنَّما جعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرِّكازِ الخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي المَاءِ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، يُرِيد بِهِ الرَّد على الْحسن، وَوَجهه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا جعل الْخمس فِي الرِّكَاز لَا فِي الشَّيْء الَّذِي يصاب فِي المَاء، وَيَأْتِي الحَدِيث مَوْصُولا عَن قريب، وَقد لفظ فِي الرِّكَاز للحصر. قَوْله: (يصاب) أَي: يُوجد فِي المَاء كالسمك.
8941 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَألَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِأنْ يُسْلِفَهُ ألْفَ دِينَارٍ فدَفَعَهَا إلَيْهِ فخَرَجَ فِي البَحْرِ فَلَمْ يَجِدْ مَركَبا فأخذَ خَشَبةً فنَقَرهَا فأدْخَلَ فِيهَا ألْفَ دِينَارٍ فرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ فخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كانَ أسْلَفَهُ فإذَا بِالخَشَبةِ فأخَذَهَا لأِهْلِهِ حطَبا فذَكَر الحدِيثَ فلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ..
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث على أَنْوَاع.
الأول: فِي وَجه إِيرَاده هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث شَيْء يُنَاسب التَّرْجَمَة، رجل اقْترض قرضا فارتجع قرضه، وَكَذَا قَالَ الدَّاودِيّ: حَدِيث الْخَشَبَة لَيْسَ من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء، وَأجَاب عَن ذَلِك من ساعده وَوجه كَلَامه مِنْهُم عبد الْملك فَقَالَ: إِنَّمَا أَدخل البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لِأَنَّهُ يُرِيد أَن كل مَا أَلْقَاهُ الْبَحْر جَازَ الْتِقَاطه وَلَا خمس فِيهِ إِذا لم يعلم أَنه من مَال الْمُسلمين، وَأما إِذا علم أَنه مِنْهُ فَلَا يجوز أَخذه لِأَن الرجل إِنَّمَا أَخذ خَشَبَة على الْإِبَاحَة ليملكها، فَوجدَ فِيهَا المَال، وَلَو وَقع هَذَا الْيَوْم كَانَ كاللقطة لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن الله تَعَالَى لَا يخلق الدَّنَانِير المضروبة فِي الْخَشَبَة. قلت: يَنْبَغِي أَن يُقيد عَادَة، لِأَن قدرَة الله تَعَالَى صَالِحَة لكل شَيْء عقلا، وَمِنْهُم ابْن الْمُنِير، فَقَالَ: مَوضِع الاستشهاد إِنَّمَا هُوَ أَخذ الْخَشَبَة على أَنَّهَا حطب، فَدلَّ على إِبَاحَة مثل ذَلِك مِمَّا يلفظه الْبَحْر، أما مِمَّا ينشأ فِيهِ كالعنبر أَو مِمَّا سبق فِيهِ ملك وعطب وَانْقطع ملك صَاحبه مِنْهُ على اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء فِي تمْلِيك هَذَا مُطلقًا أَو مفصلا، وَإِذا جَازَ تمْلِيك الْخَشَبَة، وَقد تقدم عَلَيْهَا ملك متملك، فنحو العنبر الَّذِي لم يتَقَدَّم عَلَيْهِ ملك أولى. قلت: التَّرْجَمَة مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، والْحَدِيث يدل على مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، فالمطابقة فِي مُجَرّد الاستخراج من الْبَحْر مَعَ قطع النّظر عَن غَيره، وَأدنى الملابسة فِي التطابق كَاف.
النَّوْع الثَّانِي: أَنه ذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا مُعَلّقا مُخْتَصرا، وَوَقع فِي بعض نسخه عَقِيبه: حَدثنِي بذلك عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث، ذكره الْحَافِظ الْمزي، قَالَ: وَهُوَ ثَابت فِي عدَّة أصُول من كتاب الْبيُوع من الْجَامِع من رِوَايَة أبي الْوَقْت عَن الدَّاودِيّ عَن أبي حمويه عَن الْفربرِي عَنهُ، وَقَالَ الطرقي: أخرجه مُحَمَّد فِي خَمْسَة مَوَاضِع من الْكتاب، فَقَالَ: قَالَ اللَّيْث) قلت: أخرجه هُنَا أَعنِي فِي الزَّكَاة وَفِي الْكفَالَة وَفِي الاستقراض وَفِي اللّقطَة وَفِي الشُّرُوط وَفِي الاسْتِئْذَان، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة، وَقَالَ فِي: بَاب التِّجَارَة فِي الْبَحْر، فِي الْبيُوع. وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل خرج فِي الْبَحْر فَقضى حَاجته) ، وسَاق الحَدِيث. حَدثنِي عبد الله ابْن صَالح، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث بِهَذَا، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي اللّقطَة عَن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ عَن دَاوُد بن مَنْصُور عَن اللَّيْث نَحوه.
أما الَّذِي أخرجه فِي الْكفَالَة فَهُوَ فِي: بَاب الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون، وَلَفظه: قَالَ أَبُو عبد الله، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار، فَقَالَ: إيتني بِالشُّهَدَاءِ أشهدهم، فَقَالَ: كفى بِاللَّه شَهِيدا. قَالَ: فَاتَنِي بالكفيل، قَالَ: كفى بِاللَّه كَفِيلا، قَالَ: صدقت، فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مُسَمّى، فَخرج فِي االبحر فَقضى حَاجته ثمَّ التمس مركبا(9/97)
يركبهَا يقدم عَلَيْهِ للأجل الَّذِي أَجله فَلم يجد مركبا، فَأخذ خَشَبَة فنقرها فأحل فِيهَا ألف دِينَار وصحيفة مِنْهُ إِلَى صَاحبه ثمَّ زجج موضعهَا ثمَّ أَتَى بِهِ إِلَى الْبَحْر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي كنت تسلفت فلَانا ألف دِينَار، فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقلت: كفى بِاللَّه كَفِيلا، فَرضِي بك، وسألني شَهِيدا، فَقلت: كفى بِاللَّه شَهِيدا، فَرضِي بك، وَإِنِّي جهدت أَن أجد مركبا أبْعث إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَلم أقدر، وَإِنِّي أستودعتكها. فَرمى بهَا فِي الْبَحْر حَتَّى ولجت فِيهِ، ثمَّ انْصَرف وَهُوَ فِي ذَلِك يلْتَمس مركبا يخرج إِلَى بَلَده، فَخرج الرجل الَّذِي كَانَ أسلفه ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ بِمَالِه، فَإِذا بالخشبة الَّتِي فِيهَا المَال فَأَخذهَا لأَهله حطبا، فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة، ثمَّ قدم الَّذِي كَانَ أسلفه، فَأتى بِالْألف دِينَار، فَقَالَ: وَالله مَا زلت جاهدا فِي طلب مركب لآتيك بِمَالك فَمَا وجدت مركبا قبل الَّذِي أتيت فِيهِ، قَالَ: هَل كنت بعثت إِلَيّ بِشَيْء؟ قَالَ: أَخْبَرتك إِنِّي لم أجد مركبا قبل الَّذِي جِئْت فِيهِ. قَالَ: فَإِن الله قد أدّى عَنْك الَّذِي بعثت فِي الْخَشَبَة، فَانْصَرف بِالْألف دِينَار راشدا.
وَأما الَّذِي فِي الاستقراض فَأخْرجهُ مُخْتَصرا فِي: بَاب إِذا أقْرضهُ إِلَى أجل مُسَمّى، فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه، فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مُسَمّى) فَذكر الحَدِيث.
وَأما الَّذِي فِي اللّقطَة، فَأخْرجهُ فِي: بَاب إِذا وجد خَشَبَة فِي الْبَحْر أَو سَوْطًا أَو نَحوه، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل) ، وسَاق الحَدِيث (فَخرج ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ بِمَالِه فَإِذا هُوَ بالخشبة، فَأَخذهَا لأَهله حطبا فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة.
وَأما الَّذِي فِي الشُّرُوط فَأخْرجهُ فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْفَرْض مُخْتَصرا، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مُسَمّى) .
وَأما الَّذِي فِي الاسْتِئْذَان فَأخْرجهُ فِي: بَاب بِمن يبْدَأ فِي الْكتاب، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل أَخذ خَشَبَة فنقرها فَأدْخل فِيهَا ألف دِينَار، وصحيفة مِنْهُ إِلَى صَاحبه) ، وَقَالَ عمر ابْن أبي سَلمَة (عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نجر خَشَبَة فَجعل المَال فِي جوفها وَكتب إِلَيْهِ صحيفَة من فلَان إِلَى فلَان) .
النَّوْع الثَّالِث: فِي مَعَاني الحَدِيث، فَقَوله: (أَن يسلفه) ، بِضَم الْيَاء، من أسلف إسلافا، يُقَال: سلفت تسليفا وأسلفت إسلافا، وَالِاسْم السّلف، وَهُوَ فِي الْمُعَامَلَات على وَجْهَيْن: أَحدهمَا الْقَرْض الَّذِي لَا مَنْفَعَة فِيهِ للمقرض غير الْأجر وَالشُّكْر، وعَلى الْمُقْتَرض رده، وَالْعرب تسمي الْقَرْض سلفا. وَالثَّانِي: هُوَ أَن يُعْطي مَالا فِي سلْعَة إِلَى أجل مَعْلُوم بِزِيَادَة فِي السّعر الْمَوْجُود عِنْد السّلف، وَذَلِكَ مَنْفَعَة للمسلف، وَيُقَال لَهُ: سلم، وَالْمرَاد هَهُنَا هُوَ الْمَعْنى الأول. قَوْله: (فَلم يجد مركبا) ، أَي: سفينة يركب عَلَيْهَا وَيَجِيء إِلَى صَاحبه أَو يبْعَث فِيهَا شَيْئا إِلَيْهِ لقَضَاء دينه. قَوْله: (فَأخذ خَشَبَة) والخشبة وَاحِدَة الْخشب. قَوْله: (فنقرها) أَي: قوَّرها. قَوْله: (وَرمى بهَا) ، أَي: الْخَشَبَة المنقورة قَاصِدا وصولها إِلَى صَاحب المَال. قَوْله: (فَإِذا بالخشبة) أَي: فَإِذا هُوَ مفاجىء بالخشبة. قَوْله: (حطبا) ، نصب على أَن أَخذ من أَفعَال المقاربة، فَيعْمل عمل كَانَ، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بمقدر تَقْدِيره فَأَخذهَا يَجْعَلهَا حطبا، يَعْنِي: يستعملها اسْتِعْمَال الْحَطب فِي الوقيد. قَوْله: (بِالشُّهَدَاءِ) ، جمع شَهِيد بِمَعْنى: شَاهد، قَوْله: (يقدم) ، بِفَتْح الدَّال من قدم يقدم من: بَاب فعل يفعل بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي الغابر. قَوْله: (فأحل فِيهَا) من الْإِحْلَال، وَهُوَ الْإِنْزَال وَالْمرَاد وضع فِي الْخَشَبَة المنقورة ألف دِينَار. قَوْله: (وصحيفة) بِالنّصب عطف على ألف دِينَار، وَالْمرَاد مِنْهَا الْمَكْتُوب. قَوْله: (ثمَّ زجج موضعهَا) ، أَي: أصلح مَوضِع النقرة وسواه، قيل: لَعَلَّه من تزجيج الحواجب وَهُوَ الْتِقَاط زَوَائِد الشّعْر الْخَارِج عَن الْخَدين، وَإِن أَخذ من الزج وَهُوَ سِنَان الرمْح فَيكون النقر قد وَقع فِي طرف من الْخَشَبَة فسد عَلَيْهِ رَجَاء أَن يمسِكهُ ويحفظ مَا فِي بَطْنه. قَوْله: (تسلفت) ، من بَاب التفعل مَعْنَاهُ: افترضت. قَوْله: (جهدت) من بَاب: فعل يفعل، بِالْفَتْح فيهمَا أَي: تحملت الْمَشَقَّة. قَوْله: (ولجت) ، من الولوج وَهُوَ: الدُّخُول. قَوْله: (فَلَمَّا نشرها) أَي: قطعهَا بِالْمِنْشَارِ. قَوْله: (بِالْألف دِينَار) ، هُوَ جَائِز على رَأْي الْكُوفِيّين. قَوْله: (راشدا) نصب على الْحَال من فَاعل: انْصَرف.(9/98)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: لفظ: (أجل) فِيهِ دَلِيل على جَوَاز دُخُول الْآجَال فِي الْقَرْض. وَفِيه: فِي قَوْله: (أَخذهَا لأَهله حطبا) دَلِيل على أَن مَا يُوجد فِي الْبَحْر من مَتَاع الْبَحْر وَغَيره أَنه لَا شَيْء فِيهِ، وَهُوَ لمن وجده حَتَّى يسْتَحق مَا لَيْسَ من مَتَاع الْبَحْر من الْأَمْوَال كالدنانير وَالثيَاب وَشبه ذَلِك، فَإِذا اسْتحق رد إِلَى مُسْتَحقّه، وَمَا لَيْسَ لَهُ طَالب وَلم يكن لَهُ كثير قيمَة، وَحكم بِغَلَبَة الظَّن بانقطاعه كَانَ لمن وجده ينْتَفع بِهِ، وَلَا يلْزمه تَعْرِيفه إلاَّ أَن يُوجد فِيهِ دَلِيل يسْتَدلّ بِهِ على مَالِكه: كاسم رجل مَعْلُوم أَو عَلامَة، فيجتهد ملتقطها فِي أَمر التَّعْرِيف لَهُ، قَالَه الْمُهلب. وَفِيه: أَن من توكل على الله فَإِنَّهُ ينصره، فَالَّذِي نقر الْخَشَبَة وتوكل حفظ الله تَعَالَى مَاله، وَالَّذِي أسلفه وقنع بِاللَّه كَفِيلا أوصل الله تَعَالَى مَاله إِلَيْهِ. وَفِيه: جَوَاز ركُوب الْبَحْر بأموال النَّاس وَالتِّجَارَة. وَفِيه: أَن الله تَعَالَى متكفل بعون من أَرَادَ أَدَاء الْأَمَانَة، وَأَن الله يجازي أهل الإرفاق بِالْمَالِ بحفظه عَلَيْهِم مَعَ أجر الْآخِرَة، كَمَا حفظه على المسلف.
66 - (بابٌ فِي الرِّكَازِ الخُمُسُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ فِي الرِّكَاز الْخمس، وَالْخمس مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَفِي الرِّكَاز مقدما خَبره، وَقد مر تَفْسِير الرِّكَاز.
وَقَالَ مالِكٌ وَابنُ إدْرِيسَ الرِّكَازُ دِفْنُ الجَاهِلِيَّةِ فِي قَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ الخُمُسُ ولَيْسَ المَعْدَنُ بِرِكَازٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمَالك هُوَ ابْن أنس صَاحب الْمَذْهَب الْمَشْهُور، وَابْن إِدْرِيس هُوَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس، فَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ أَبُو ذَر: يُقَال: هُوَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي، يَعْنِي صَاحب الْمَذْهَب، وَيُقَال: عبد الله بن إِدْرِيس الأودي الْكُوفِي، وَهُوَ الْأَشْبَه، وَقد جزم أَبُو زيد الْمروزِي أحد الروَاة عَن الْفربرِي بِأَنَّهُ الشَّافِعِي، يَعْنِي صَاحب الْمَذْهَب. وَتَابعه الْبَيْهَقِيّ وَجُمْهُور الْأَئِمَّة. قيل: يُؤَيّد ذَلِك أَنه وجد فِي عبارَة الشَّافِعِي دون الأودي، فروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من طَرِيق الرّبيع، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: والركاز الَّذِي فِيهِ الْخمس دفن الْجَاهِلِيَّة مَا وجد فِي غير ملك لأحد، وَأما فِي قَلِيله وكثيرة الْخمس فَهُوَ قَوْله فِي الْقَدِيم، كَمَا نَقله ابْن الْمُنْذر عَنهُ، وَاخْتَارَهُ. وَأما فِي الْجَدِيد فَقَالَ: لَا يجب فِيهِ الْخمس حَتَّى يبلغ نِصَاب الزَّكَاة، وَالتَّعْلِيق عَن مَالك رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) : حَدثنِي يحيى بن عبد الله بن بكير عَن مَالك، قَالَ: الْمَعْدن بِمَنْزِلَة الزَّرْع تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة كَمَا تُؤْخَذ من الزَّرْع تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة كَمَا تُؤْخَذ من الزَّرْع حِين يحصد. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بركاز، وَإِنَّمَا الرِّكَاز دفن الْجَاهِلِيَّة الَّذِي يُوجد من غير أَن يطْلب بِمَال وَلَا يتَكَلَّف لَهُ كثير عمل. انْتهى. قَوْله: (دفن الْجَاهِلِيَّة) ، بِكَسْر الدَّال، بِمَعْنى: المدفون. قَوْله: (فِي قَلِيله) ، هُوَ الَّذِي لَا يبلغ نِصَابا، وَفِي كَثِيره مَا بلغ نِصَابا، قَوْله: (وَلَيْسَ الْمَعْدن بركاز) فَيجب فِيهِ ربع العُشر لَا الْخمس لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى عمل ومعالجة واستخراج، بِخِلَاف الرِّكَاز، وَقد جرت السّنة أَن مَا غلظت مُؤْنَته خفف عَنهُ فِي مِقْدَار الزَّكَاة، وَمَا خفف زيد فِيهِ، وَسمي الْمَعْدن لإِقَامَة التبر فِيهِ، لِأَنَّهُ من العدن وَهُوَ الْإِقَامَة.
وقَدْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ
هَذَا من جملَة كَلَام مَالك وَابْن إِدْرِيس فِيمَا ذَهَبا إِلَيْهِ، أَرَادَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَين الْمَعْدن والركاز، فَجعل الْمَعْدن جبارا وَأوجب فِي الرِّكَاز الْخمس، وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ فِي هَذَا الْبَاب، فَعَن قريب يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، والجبار، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الهدر لَيْسَ فِيهِ شَيْء.
وَأخَذَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ مِنَ المَعَادِنِ مِنْ كْلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً
أَي: خَمْسَة دَرَاهِم وَهُوَ ربع الْعشْر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) من طَرِيق الثَّوْريّ عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم نَحوه، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة أَن عمر بن عبد الْعَزِيز جعل الْمَعْدن بِمَنْزِلَة الرِّكَاز يُؤْخَذ مِنْهُ الْخمس، ثمَّ عقب بِكِتَاب آخر فَجعل فِيهِ الزَّكَاة، قَالَ: وروينا عَن عبد الله بن أبي بكر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز(9/99)
أَخذ من الْمَعَادِن من كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، وَعَن أبي الزِّنَاد قَالَ: جعل عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْمَعَادِن أَربَاع الْعشْر إلاَّ أَن يكون ركزه، فَإِذا كَانَ ركزه فَفِيهَا الْخمس.
وَقَالَ الحَسَنُ مَا كانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أرْضِ الحَرْبِ فَفِيهِ الخُمُسُ ومَا كانَ منْ أرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، قَوْله: (السّلم) بِكَسْر السِّين وَسُكُون اللَّام، وَهُوَ: الصُّلْح، وَهَذِه التَّفْرِقَة لم تعرف عَن غَيره، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَاصِم الْأَحول عَنهُ بِلَفْظ: (إِذا وجد الْكَنْز فِي أَرض الْعَدو فَفِيهِ الْخمس، وَإِذا وجد فِي أَرض الْعَرَب فَفِيهِ الزَّكَاة) .
وإنْ وَجَدْتَ اللقَطَةَ فِي أرْضِ العَدُوِّ فَعَرِّفْهَا وَإنْ كَانَتْ مِنَ العَدُوِّ فَفِيهَا الخُمُسُ
هَذَا من تَتِمَّة كَلَام الْحسن، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن هِشَام عَن الْحسن: الرِّكَاز الْكَنْز العادي وَفِيه الْخمس، واللقطة، بِفَتْح الْقَاف وسكونها، لَكِن الْقيَاس أَن يُقَال بِالْفَتْح للاّقط، وبسكون الْقَاف للملقوط، وَإِن كَانَت اللّقطَة مَال الْعَدو فَلَا حَاجَة إِلَى التَّعْرِيف، بل يملكهَا وَيجب فِيهَا الْخمس، وَلَا يكون لَهَا حكم اللّقطَة بِخِلَاف مَا لَو كَانَت فِي أَرض الْعَدو والمحتملة لكَونهَا للْمُسلمين.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ المَعْدَنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الجِاهِلِيَّةِ لأنَّهُ يُقَالُ أرْكَزَ المَعْدِنُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيءٌ قِيلَ لَهُ قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيءٌ أوْ رَبِحَ رِبْحا كَثِيرا أوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ أرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ لاَ بَأسَ أنْ يَكْتُمَهُ فَلاَ يُؤَدِّيَ الخُمُسَ
قَالَ ابْن التِّين: المُرَاد بِبَعْض النَّاس هُوَ أَبُو حنيفَة. قلت: جزم ابْن التِّين بِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ أَبُو حنيفَة من أَيْن أَخذه فَلم لَا يجوز أَن يكون مُرَاده هُوَ سُفْيَان الثَّوْريّ من أهل الْكُوفَة، وَالْأَوْزَاعِيّ من أهل الشَّام، فَإِنَّهُمَا قَالَا مثل مَا قَالَ أَبُو حنيفَة: أَن الْمَعْدن كالركاز وَفِيه الْخمس فِي قَلِيله وَكَثِيره، على ظَاهر قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَفِي الرِّكَاز الْخمس) ، وَلَكِن الظَّاهِر أَن ابْن التِّين لما وقف على مَا قَالَه البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) فِي حق أبي حنيفَة مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يذكر فِي حق أحد من أَطْرَاف النَّاس، فضلا أَن يُقَال فِي حق إِمَام هُوَ أحد أَرْكَان الدّين، صرح بِأَن المُرَاد بِبَعْض النَّاس أَبُو حنيفَة، وَلَكِن لَا يرْمى إلاَّ شجر فِيهِ ثَمَر، وَهَذَا ابْن بطال قَالَ: ذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَغَيرهمَا إِلَى أَن الْمَعْدن كالركاز، وَاحْتج لَهُم بقول الْعَرَب: أركز الرجل إِذا أصَاب ركازا، وَهِي قطع من الذَّهَب تخرج من الْمَعَادِن، وَهَذَا قَول صَاحب الْعين، وَأبي عبيد. وَفِي (مجمع الغرائب) : الرِّكَاز الْمَعَادِن. وَفِي (النِّهَايَة) : لِابْنِ الْأَثِير: الْمَعْدن والركاز وَاحِد، فَإِذا علم ذَلِك بَطل التشنيع على أبي حنيفَة.
قَوْله: (مثل دفن الْجَاهِلِيَّة) بِكَسْر الدَّال كَمَا ذكرنَا عَن قريب بِمَعْنى: المدفون. قَوْله: (لِأَنَّهُ يُقَال، أركز الْمَعْدن إِذا خرج مِنْهُ شَيْء) ، وَالضَّمِير فِي: لِأَنَّهُ، ضمير الشَّأْن، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَعْلِيل من يَقُول: إِن الْمَعْدن هُوَ الرِّكَاز، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم ينْقل عَنْهُم وَلَا عَن الْعَرَب أَنهم قَالُوا: أركز الْمَعْدن، وَإِنَّمَا قَالُوا: أركز الرجل، فَإِذا لم يكن هَذَا صَحِيحا فَكيف يتَوَجَّه الْإِلْزَام بقول الْقَائِل: قد يُقَال لمن وهب لَهُ ... إِلَى آخِره؟ أَرَادَ أَنه يلْزم أَن يُقَال: كل وَاحِد من الْمَوْهُوب وَالرِّبْح وَالثَّمَر ركاز، فَيجب فِيهِ الْخمس، وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْوَاجِب فِيهِ العُشر، وَمعنى: أركز الرجل صَار لَهُ ركاز من قطع الذَّهَب، كَمَا ذكرنَا، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه أذا إِذا وهب لَهُ شَيْء أَن يُقَال لَهُ: أركزتَ، بِالْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ إِذا ربح ربحا كثيرا أَو كثر ثمره، وَلَو علم الْمُعْتَرض أَن معنى: أفعل، هَهُنَا مَا هُوَ، وَلما اعْترض وَلَا أفحش فِيهِ، وَمعنى: أفعل، هُنَا للصيرورة يَعْنِي: لصيرورة الشَّيْء مَنْسُوبا إِلَى مَا اشتق مِنْهُ الْفِعْل، كأغدَّ الْبَعِير. أَي: صَار ذَا غُدَّة. وَمعنى: أركز الرجل، صَار لَهُ ركاز من قطع الذَّهَب، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَلَا يُقَال إلاَّ بِهَذَا الْقَيْد، أَعنِي من قطع الذَّهَب، وَلَا يُقَال: أركز الرجل مُطلقًا. قَوْله: (ثمَّ نَاقض) أَي:(9/100)
نَاقض هَذَا الْقَائِل قَوْله، وَجه هَذِه المناقضة على زَعمه أَنه قَالَ، أَولا: الْمَعْدن يجب فِيهِ الْخمس، لِأَنَّهُ ركاز، وَقَالَ ثَانِيًا: إِنَّه لَا يُؤدى الْخمس فِي الرِّكَاز، وَهُوَ متناول للمعدن. قَوْله: (أَن يَكْتُمهُ) أَي: عَن السَّاعِي حَتَّى لَا يُطَالب بِهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بمناقضة لِأَنَّهُ فهم من كَلَام هَذَا الْقَائِل غير مَا أَرَادَهُ فصدر هَذَا عَنهُ بِلَا تَأمل وَلَا ترو.
بَيَان ذَلِك أَن الطَّحَاوِيّ حكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: من وجد ركازا فَلَا بَأْس أَن يُعْطي الْخمس للْمَسَاكِين وَإِن كَانَ مُحْتَاجا جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذهُ لنَفسِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو حنيفَة أَنه تَأَول أَن لَهُ حَقًا فِي بَيت المَال، ونصيبا فِي الْفَيْء، فَلذَلِك لَهُ أَن يَأْخُذ الْخمس لنَفسِهِ عوضا من ذَلِك، وَلَقَد صدق الشَّاعِر:
(وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم)
والكرماني أَيْضا مَشى فِي مشيهم، وَلكنه اعْترف أَن النَّقْض تعسف، حَكَاهُ عَن ابْن بطال، وَرَضي بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: نقل الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة أَيْضا أَنه: لَو وجد فِي دَاره معدنا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، ثمَّ قَالَ: وَبِهَذَا يتَّجه اعْتِرَاض الطَّحَاوِيّ. قلت: مَعْنَاهُ: لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء فِي الْحَال إلاَّ إِذا حَال الْحول وَكَانَ نِصَابا يجب فِيهِ الزَّكَاة، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يجب الْخمس فِي الْحَال، وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ: الزَّكَاة فِي الْحَال، وَهَذَا مُخَالف لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول) ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَالْفرق بَين الْمَعْدن والركاز أَن الْمَعْدن يحْتَاج إِلَى عمل ومؤونة ومعالجة، بِخِلَاف الرِّكَاز. قلت: هَذَا شَيْء عَجِيب لِأَنَّهُ لَيْسَ بِهَذَا يعرف حَقِيقَة كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا هِيَ، وَالْفرق بَين الْأَشْيَاء بِبَيَان ماهياتها وحقائقها، وَالَّذِي ذكره هَذَا من اللوازم الخارجية عَن الْمَاهِيّة.
9941 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ وعَنْ أبي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ العَجْمَاءُ جُبَارٌ وَالبِئْرُ جُبَارٌ والمَعْدَنُ جُبارٌ وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ..
التَّرْجَمَة هِيَ عين متن الْجُزْء الْأَخير من الحَدِيث، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق بن عِيسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة وَفِي الرِّكَاز عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَأَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، وَأوردهُ البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام وَلَيْسَ فِي رِوَايَته، وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة ذكر لأبي سَلمَة، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ابْن الْمسيب فَقَط، وَرَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة الْأسود بن الْعَلَاء عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ؛ (الْبِئْر جرحها جَبَّار والمعدن جرحه جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَاتفقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ من رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (العجماء عقلهَا جَبَّار) الحَدِيث، وَقد ذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث: إِنَّه اخْتلف فِيهِ على الزُّهْرِيّ فِي كَونه عَن ابْن الْمسيب وَأبي سَلمَة، أَو عَن سعيد فَقَط، أَو عَن أبي سَلمَة فَقَط، أَو عَن سعيد بن الْمسيب وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة، أَو عَن عبيد الله وَحده، وَأَنه اخْتلف فِيهِ على اللَّيْث وعَلى مَالك وعَلى ابْن عُيَيْنَة وعَلى يُونُس ابْن يزِيد، فَقيل: عَن اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَحده، وَرَوَاهُ القعْنبِي وَمصْعَب عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد فَقَط، وَقَالَ ابْن وهب: عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة وَحده، وَرَوَاهُ شبيب بن سعيد عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَأبي سَلمَة وَرَوَاهُ ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله وَحده. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَأبي سَلمَة. قَالَ: وَحَدِيثه عَن عبيد الله غير مَدْفُوع لِأَنَّهُ قد اجْتمع عَلَيْهِ إثنان، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (العجماء جَبَّار) الحَدِيث.
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أنس بن مَالك وَعبد الله بن عَمْرو وَعبادَة بن الصَّامِت وَعَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ وَجَابِر. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَزيد بن أَرقم وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وسراء بنت نَبهَان الغنوية. فَحَدِيث أنس عِنْد أَحْمد وَالْبَزَّار مطولا، وَفِيه: (هَذَا ركاز وَفِيه الْخمس) . وَحَدِيث عبد الله بن عمر وَعند(9/101)
الشَّافِعِي من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي كنز وجده رجل فِي خربة جَاهِلِيَّة: (إِن وجدته فِي قَرْيَة مسكونة أَو سَبِيل مَيتا فَعرفهُ، فَإِن وجدته فِي خربة جَاهِلِيَّة أَو فِي قَرْيَة غير مسكونة فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث عبد الله بن الصَّامِت رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة إِسْحَاق بن يحيى بن الْوَلِيد عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمَعْدن جَبَّار وجرحها جَبَّار) . والعجماء: الْبَهِيمَة من الْأَنْعَام وَغَيرهَا، والجبار هُوَ الهدر لَا يغرم، وَهَذَا مُنْقَطع لِأَن إِسْحَاق لم يدْرك عبَادَة. وَحَدِيث عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من رِوَايَة ابْن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (العجماء جرحها جَبَّار والمعدن جَبَّار) ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِهَذَا الْإِسْنَاد مُقْتَصرا على قَوْله: (وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث جَابر رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار من رِوَايَة مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رسو ل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السائبة) الحَدِيث، وَفِيه: (فِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث ابْن مَسْعُود رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من رِوَايَة عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (العجماء جَبَّار والسائمة جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة عِكْرِمَة عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرِّكَاز الْخمس. وَحَدِيث زيد بن أَرقم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن رجل عَن زيد بن أَرقم، قَالَ: (بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا عَاملا على الْيمن، فَأتى بركاز فَأخذ مِنْهُ الْخمس وَدفع بَقِيَّته إِلَى صَاحبه، فَبلغ ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعجبه) وَهَذَا مُنْقَطع لأجل الرجل الَّذِي لم يسم. وَحَدِيث سراء بنت نَبهَان الغنوية رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث سَاكِنة بنت الْجَعْد عَن سراء بنت نَبهَان الغنوية، قَالَت: (احتفر الْحَيّ فِي دَار كلاب فَأَصَابُوا بهَا كنزا عاديا، فَقَالَت كُلَيْب: دَارنَا، وَقَالَ الْحَيّ: احتفرنا، فنافروهم فِي ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى بهم للحي وَأخذ مِنْهُم الْخمس) ، الحَدِيث فِيهِ أَحْمد بن الْحَارِث الغساني، قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ نظر، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (العجماء) أَي: الْبَهِيمَة، وَسميت العجماء لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم، وَعَن أبي حَاتِم: يُقَال لكل من لم يبين الْكَلَام من الْعَرَب والعجم وَالصغَار: أعجم ومستعجم، وَكَذَلِكَ من الطير والبهائم كلهَا، وَالِاسْم: العجمة. قَوْله: (جَبَّار) ، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الهدر، يَعْنِي: لَيْسَ فِيهِ ضَمَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْجَبَّار الهدر الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَّةَ، وكل مَا أفسد وَأهْلك جَبَّار، ذكره ابْن سَيّده، وَفِيه حذف لَا بُد من تَقْدِيره، وَهُوَ فعل: العجماء جَبَّار، لِأَن الْمَعْلُوم أَن نفس العجماء لَا يُقَال لَهَا هدر، وَبلا تَقْدِير لَا يرتبط الْخَبَر بالمبتدأ. قَوْله: (والبئر جَبَّار) ، مَعْنَاهُ الرجل يحْفر بِئْرا بفلاة أَو بِحَيْثُ يجوز لَهُ من الْعمرَان فَيسْقط فِيهَا رجل أَو يسْتَأْجر من يحْفر لَهُ بِئْرا فِي ملكه فينهار عَلَيْهِ فَلَا شيى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَعْدن إِذا اسْتَأْجر من يحفره، وَكَذَا فِي قَوْله: والبئر جَبَّار، حذف تَقْدِيره: وَسُقُوط الْبِئْر على الشَّخْص جَبَّار، أَو: سُقُوط الشَّخْص فِي الْبِئْر، وَكَذَا التَّقْدِير فِي الْمَعْدن، وَالْمَشْهُور فِي الْبِئْر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا همزَة سَاكِنة، وَيجوز تسهيلها. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: رَوَاهُ بَعضهم: النَّار جَبَّار، وَقَالَ أهل الْيمن يَكْتُبُونَ: النَّار، بِالْبَاء وَمَعْنَاهُ عِنْدهم أَن من استوقد نَارا يما يجوز لَهُ فتعدت إِلَى مَا لَا يجوز فَلَا شَيْء فِيهِ، وَرُوِيَ فِي حَدِيث جَابر، والجب جَبَّار، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد: الْبِئْر لَا النَّار، كَمَا هُوَ فِي الْكتب السِّتَّة الْمَشْهُورَة، وَورد فِي بعض طرق الحَدِيث: الرجل جَبَّار، فاستدل بِهِ من فرق فِي حَالَة كَون راكبها مَعهَا بَين أَن يضْرب بِيَدِهَا أَو يرمح برجلها، فَإِن أفسدت بِيَدِهَا ضمنه، وَإِن رمحت برجلها لَا يضمن. قَوْله: (وَفِي الرِّكَاز الْخمس) أَي: يجب، أَو وَاجِب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: مَسْأَلَة العجماء، ظَاهر الحَدِيث مُطلق، وَلكنه مَحْمُول على مَا إِذا اتلفت شَيْئا بِالنَّهَارِ وأتلفت بِاللَّيْلِ من غير تَفْرِيط من مَالِكهَا، أَو أتلفت وَلم يكن مَعهَا أحد، والْحَدِيث مُحْتَمل أَيْضا أَن تكون الْجِنَايَة على الْأَبدَان، أَو على الْأَمْوَال، فَالْأول أقرب إِلَى الْحَقِيقَة، لِأَنَّهُ ورد فِي (صَحِيح مُسلم) وَفِي (البُخَارِيّ) أَيْضا فِي الدِّيات: العجماء جرحها جَبَّار، وَفِي لفظ: (عقلهَا جَبَّار) ، لما مر، وعَلى كل تَقْدِير لم يَقُولُوا بِالْعُمُومِ فِي إهدار كل متْلف من بدن أَو مَال عَن مَا بَين فِي كتب الْفُرُوع، وَالْمرَاد بِجرح العجماء إتلافها، سَوَاء كَانَ بِجرح أَو غَيره، وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على أَن جِنَايَة الْبَهَائِم بِالنَّهَارِ لَا ضَمَان فِيهَا إِذا(9/102)
لم يكن مَعهَا أحد، فَإِن كَانَ مَعهَا رَاكب أَو سائق أَو قَائِد، فجمهور الْعلمَاء على ضَمَان مَا أتلفت، وَقَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: لَا ضَمَان بِكُل حَال، سَوَاء كَانَ بِرَجُل أَو بقدم لإِطْلَاق النَّص، إلاَّ أَن يحملهَا الَّذِي فَوْقهَا على ذَلِك، أَو يَقْصِدهُ فَيكون حِينَئِذٍ كالآلة، وَكَذَا إِذا تعدى فِي ربطها أَو إرسالها فِي مَوضِع لَا يجب ربطها فِيهِ. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة بِالْإِطْلَاقِ، يَعْنِي سَوَاء كَانَ إتلافها بِيَدِهَا أَو رجلهَا أَو فمها، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ يجب ضَمَانه فِي مَال الَّذِي هُوَ مَعهَا، سَوَاء كَانَ مَالِكهَا أَو مُسْتَأْجرًا أَو مستعيرا أَو غَاصبا أَو مودعا أَو وَكيلا أَو غَيره، إلاَّ أَن تتْلف آدَمِيًّا فَتجب دِيَته على عَاقِلَة الَّذِي مَعهَا، وَالْكَفَّارَة فِي مَاله. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا ضَمَان فِيمَا إِذا أَصَابَته بِيَدِهَا أَو رجلهَا، وَعند أبي حنيفَة أَنه: لَا ضَمَان فِيمَا رمحت برجلها دون يَدهَا لِإِمْكَان التحفظ من الْيَد دون الرجل، وَأما إِذا أتلفت بِالنَّهَارِ وَكَانَت مَعْرُوفَة بالإفساد وَلم يكن مَعهَا أحد، فَإِن مَالِكهَا يضمن، لِأَن عَلَيْهِ ربطها وَالْحَالة هَذِه، وَأما جنايتها بِاللَّيْلِ فَقَالَ مَالك: يضمن صَاحبهَا مَا أتلفته، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه: إِن فرط فِي حفظهَا ضمن وإلاَّ فَلَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ضَمَان فِيمَا رعته نَهَارا. وَقَالَ اللَّيْث وَسَحْنُون: يضمن، وَقد ورد حَدِيث صَحِيح مَرْفُوع فِي إتلافها بِاللَّيْلِ دون النَّهَار فِي الْمزَارِع، وَإنَّهُ يضمن كَمَا قَالَه مَالك، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث حرَام بن محيصة عَن الْبَراء، وَمن حَدِيث حرَام عَن أَبِيه: أَن نَاقَة للبراء بن عَازِب دخلت حَائِط رجل فأفسدته فَقضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أهل الْأَمْوَال حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ.
الْوَجْه الثَّانِي: مَسْأَلَة الْبِئْر، وَقد ذَكرْنَاهُ.
الْوَجْه الثَّالِث: مَسْأَلَة الرِّكَاز، وَفِيه وجوب الْخمس وَهُوَ إِجْمَاع الْعلمَاء إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقد ذكرنَا أَيْضا أَن الرِّكَاز قطع من الذَّهَب تخرج من الْمَعَادِن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَل فِي الحَدِيث مَا يدل على أَن الْمَعْدن لَيْسَ بركاز؟ قلت: نعم حَيْثُ عطف الرِّكَاز على الْمَعْدن، وَفرق بَينهمَا بواو فاصلة فصح أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَأَن الْخمس فِي الرِّكَاز لَا فِيهِ. قلت: الْكرْمَانِي حفظ شَيْئا وَغَابَتْ عَنهُ أَشْيَاء، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من حَدِيث حبَان بن عَليّ عَن عبد الله بن سعيد بن أبي عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الرِّكَاز الذَّهَب الَّذِي ينْبت بِالْأَرْضِ) ، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف عَن عبد الله بن سعيد عَن أَبِيه عَن جده عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرِّكَاز الْخمس، قيل: وَمَا الرِّكَاز يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الذَّهَب الَّذِي خلقه الله تَعَالَى فِي الأَرْض يَوْم خلقت) . انْتهى. وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الرِّكَاز هُوَ الْمَعْدن، وأصرح مِنْهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) وَإِن كَانَ تكلم فِيهِ حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الرِّكَاز الَّذِي ينْبت على وَجه الأَرْض) ، وَذكر حميد بن زَنْجوَيْه النَّسَائِيّ فِي (كتاب الْأَمْوَال) عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه جعل الْمَعْدن ركازا وَأوجب فِيهِ الْخمس، وَمثله عَن الزُّهْرِيّ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَكْحُول أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جعل الْمَعْدن بِمَنْزِلَة الرِّكَاز فِيهِ الْخمس. فَافْهَم.
الْوَجْه الرَّابِع فِي الْمَعْدن، وَهُوَ أَنْوَاع ثَلَاثَة: مَا يذوب بالنَّار وَلَا ينطبع، كالجص والنورة والكحل والزرنيخ والمغرة. وَمَا يُوجد فِي الْجبَال، كالياقوت والزمرد والبلخش والفيروزج، وَنَحْوهَا. وَمَا يكون مَائِعا: كالقار والنفط وَالْملح المائي وَنَحْوهَا، فالوجوب يخْتَص بالنوع الأول دون النَّوْعَيْنِ الْأَخيرينِ عندنَا، وَأوجب أَحْمد فِي الْجَمِيع، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة خَاصَّة، وَعُمُوم الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
الْوَجْه الْخَامِس أَنه يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا يشْتَرط فِيهِ النّصاب عندنَا، وَاشْترط مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَن يكون الْمَوْجُود نِصَابا وَلم يشترطوا الْحول. وَقَالُوا: كم من حول قد مضى عَلَيْهِ؟ وَضعف هَذَا الْكَلَام ظَاهر، لِأَن الْأَحْوَال الَّتِي مَضَت عَلَيْهِ فِي غير ملك الْوَاجِد، فَكيف يحْسب عَلَيْهِ؟ وَاخْتَارَ دَاوُد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر وَأحمد والمزني وَالشَّافِعِيّ والبويطي اشْتِرَاط النّصاب والحول فِي ذَلِك، وَلنَا النُّصُوص خَالِيَة عَن اشْتِرَاط النّصاب، فَلَا يجوز اشْتِرَاطه بِغَيْر دَلِيل سَمْعِي.
الْوَجْه السَّادِس: فِي مَكَانَهُ إِن وجد الْمُسلم أَو الذِّمِّيّ فِي دَاره معدنا فَهُوَ لَهُ وَلَا شَيْء فِيهِ عِنْد أبي حنيفَة وَأحمد إلاَّ إِذا حَال عَلَيْهِ الْحول وَهُوَ نِصَاب فَفِيهِ الزَّكَاة، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يجب الْخمس فِي الْحَال، وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ: الزَّكَاة فِي الْحَال(9/103)
والحانوت والمنزل كَالدَّارِ، وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والعنبر واللؤلؤ يسْتَخْرج من الْبَحْر لَا خمس فِيهَا وَلَا زَكَاة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، بل جَمِيعهَا للواجد، وَبِه قَالَ مَالك، كَذَا فِي الْجَوَاهِر لِابْنِ شَاس. وَعَن أبي يُوسُف: يجب فِيهَا الْخمس، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: تجب الزَّكَاة، لَكِن عِنْد الشَّافِعِي فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة خَاصَّة وَإِن وجده فِي الفلاة وَالْجِبَال والموات فَفِيهِ الْخمس وَبَاقِيه للواجد، وَإِن كَانَ فِي العامر وَكَانَ الإِمَام اختطه للغازي فَفِيهِ الْخمس وَأَرْبَعَة أَخْمَاس لصَاحب الخطة أَو لوَرثَته أَو وَرَثَة ورثته إِن عرفُوا وإلاَّ يُعْطي أقْصَى مَالك الأَرْض أَو ورثته، وَإِن لم يعرفوا، فلبيت المَال. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: للواجد، وَهُوَ اسْتِحْسَان وَإِن لم يكن مَمْلُوكا لأحد كالجبال والمفاوز وَنَحْوهمَا فَأَرْبَعَة أخماسه للواجد اتِّفَاقًا.
الْوَجْه السَّابِع فِي الْوَاجِد، وَيَسْتَوِي عندنَا مُسلما كَانَ أَو ذِمِّيا أَو مستأمنا أَو امْرَأَة أَو مكَاتبا أَو عبدا إلاَّ الْحَرْبِيّ: قَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من أحفظ عَنهُ على وجوب الْخمس فِيمَا وجده ذمِّي، مِنْهُم الشَّافِعِي ورده أَصْحَابه، وَالْكَافِر لَا تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة، نصوا على هَذَا فِي كتبهمْ.
الْوَجْه الثَّامِن: فِي مصرفه، ومصرفه مصرف خمس الْغَنِيمَة والفيء عندنَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، والمزني وَأَبُو حَفْص بن الْوَكِيل من الشَّافِعِيَّة، وَعَن مُحَمَّد: يصرف مِنْهُ إِلَى حَملَة الْقُرْآن ودواء المرضى وكتبة الْأُمَرَاء ودواب الْبرد، وَعند الشَّافِعِي: يصرف فِي مصارف الزَّكَاة وَإِن تصدق بِنَفسِهِ أَمْضَاهُ الإِمَام لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي جبايته، وَبِه قَالَ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: بضمنة الإِمَام لَو فعل، وللمحتاج أَن يصرفهُ إِلَى نَفسه. وَقَالَ فِي (التُّحْفَة) : إِذا لم يغنه أَرْبَعَة الْأَخْمَاس، ورده عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على واجده، رَوَاهُ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَاخْتَارَهُ القَاضِي وَابْن عقيل من الْحَنَابِلَة، وَلم يجوزه الشَّافِعِي لكَونه زَكَاة على أَصله، وَيجوز صرفه إِلَى من شَاءَ من أَوْلَاده وآبائه المحتاجين، بِخِلَاف الزَّكَاة وَالْعشر وَصدقَة الْفطر وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور، ذكرهَا الاسبيجابي، رَحمَه الله، وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَلَا يسْقط عَن الرِّكَاز والمعدن وَإِن كَانَ الْوَاحِد مدنيا أَو فَقِيرا لأطلاق النَّص، وَلَا فرق بَين أَرض العنوة وَأَرْض الصُّلْح وَأَرْض الْعَرَب. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد. وَقَالَ مَالك: الرِّكَاز فِي أَرض الْعَرَب للواجد بعد الْخمس، وَفِي أَرض الصُّلْح لأهل تِلْكَ الْبِلَاد، وَلَا شَيْء فِيهِ للواجد، وَمَا يُوجد فِي أَرض العنوة لمن افتتحها بعد الْخمس، وَأما مَا يُوجد من الْجَوْهَر وَالْحَدِيد والرصاص وَنَحْوه فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: فِيهِ الْخمس، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ فَقَالَ: لَا شَيْء فِيهِ.
76 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {والعَامِلينَ عَلَيْهَا} (التَّوْبَة: 06) . ومُحَاسَبَةِ المُصَّدِّقِينَ مَعَ الإِمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب قَول الله تَعَالَى: {والعاملين عَلَيْهَا} (التَّوْبَة: 06) . أَي: على الصَّدقَات، وَهَذَا مَذْكُور فِي آيَة الصَّدقَات. ذكره لِأَنَّهُ روى فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أبي حميد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: محاسبة الإِمَام مَعَ الْمُصدق، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله، ومحاسبة المصدقين، بِلَفْظ الْفَاعِل جمع مُصدق بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذ الصَّدقَات، وَهُوَ السَّاعِي الَّذِي يعيّنه الإِمَام بقبضها.
0051 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ مُوسى اقال حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ اسْتَعْمَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعى ابنَ اللُتْبِيَّةَ فلَمَّا جَاءَ حاسَبَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن ابْن اللتبية كَانَ عَاملا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جَاءَ من عمله أَخذ عَنهُ الْحساب وَأَبُو أُسَامَة اسْمه حَمَّاد بن أُسَامَة، وَأَبُو حميد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، قيل: اسْمه عبد الرَّحْمَن، وَقيل: الْمُنْذر، وَقيل: إِنَّه عَم سهل بن سعد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرج البُخَارِيّ طرفا مِنْهُ فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة بعد التَّشَهُّد أما بعد. حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة (عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ أخبرهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ عَشِيَّة بعد الصَّلَاة فَتشهد وأثني على الله بِمَا هُوَ أَهله ثمَّ قَالَ: أما بعد. .) . وَأخرجه فِي الْهِبَة عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَفِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي النذور عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَفِي الْجُمُعَة كَذَلِك، وَفِي ترك الْحِيَل عَن عبيد الله بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن عَبدة. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَابْن أبي عمر وَعَن(9/104)
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَعَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان وَعَن أبي كريب وَعَبدَة بن سُلَيْمَان وَعبد الله ابْن نمير وَأبي مُعَاوِيَة وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَمُحَمّد ابْن أَحْمد كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من الْأسد) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، قَالَ التَّيْمِيّ: الاسد والأزد يتعاقبان. قَالَ الرشاطي: الْأَسدي بِسُكُون السِّين فِي كهلان هُوَ الْأسد بن الْغَوْث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، وَقَالَ أَيْضا: الْأَزْدِيّ فِي كهلان ينْسب إِلَى الأزد بن الْغَوْث. ثمَّ قَالَ: يُقَال لَهُ الأزد، بالزاي، والاسد بِالسِّين. قَوْله: (يدعى ابْن اللتيبة) ، بِضَم اللَّام وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عبد الله وَكَانَ من بني لتب، حَيّ من الأزد. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: قيل: إِن اللتيبة كَانَت أمه فَعرف بهَا، وَقيل: اللتيبة، بِفَتْح اللَّام. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَيُقَال لَهُ: ابْن الأتيبة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اتّفق الْعلمَاء على أَن الْعلمَاء على الصَّدقَات هم السعاة المتولون فِي قبض الصَّدقَات، وَأَنَّهُمْ لَا يسْتَحقُّونَ على قبضهَا جزأ مِنْهَا مَعْلُوما: سبعا أَو ثمنا، وَإِنَّمَا لَهُ أجر عمله على حسب احتهاد الإِمَام. وَفِيه: من الْفِقْه جَوَاز محاسبة المؤتمن، وَأَن المحاسبة تصحح أَمَانَته، وَهُوَ أصل فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي محاسبة الْعمَّال، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لما رأى مَا قَالُوهُ من كَثْرَة الأرباح، وَعلم أَن ذَلِك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إِنَّمَا كَانَ بِالْمُسْلِمين، فَرَأى مقاسمة أَمْوَالهم واقتدى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَفلا جلس فِي بَيت أَبِيه وَأمه فَيرى أيهدى لَهُ شَيْء أم لَا؟) . وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا الْإِمَارَة لم يهدَ لَهُ شَيْء، وَهَذَا اجْتِهَاد من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا أَخذ مِنْهُم مَا أَخذ لبيت مَال الْمُسلمين لَا لنَفسِهِ. وَفِيه: أَيْضا: أَن الْعَالم إِذا رأى متأولاً أَخطَأ فِي تَأْوِيله يعم النَّاس ضَرَره أَن يعلم النَّاس كَافَّة بِموضع خطئه، ويعرفهم بِالْحجَّةِ القاطعة لتأويله كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِابْن اللتيبة فِي خطبَته للنَّاس. وَفِيه: توبيخ المخطىء وَتَقْدِيم الأدنون إِلَى الْإِمَارَة وَالْأَمَانَة وَالْعَمَل، وَثمّ من هُوَ أَعلَى مِنْهُ وأفقه، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم ابْن اللتيبة وثمة من صحابته من هُوَ أفضل مِنْهُ. قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن لمن شغل بِشَيْء من أَعمال الْمُسلمين أَخذ الرزق على عمله.
86 - (بابُ اسْتِعْمَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَألْبَانِهَا لأِبْنَاءِ السَّبِيلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال إبل الصَّدَقَة وَاسْتِعْمَال أَلْبَانهَا، وَالْمرَاد من اسْتِعْمَال أَلْبَانهَا شربهَا، وكلا الاستعمالين لأبناء السَّبِيل. قَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب إِثْبَات وضع الصَّدَقَة فِي صنف وَاحِد من الْأَصْنَاف الثَّمَانِية خلافًا للشَّافِعِيّ الَّذِي لَا يجوز الْقِسْمَة إلاَّ على الثَّمَانِية، وَالْحجّة قَاطِعَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد أَبنَاء السَّبِيل بِالِانْتِفَاعِ بِإِبِل الصَّدَقَة وَأَلْبَانهَا دون غَيرهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ حجَّة قَاطِعَة وَلَا غير قَاطِعَة إِذْ الصَّدَقَة لم تكن منحصرة عَلَيْهَا بِالِانْتِفَاعِ، إِذْ الرَّقَبَة تكون لغَيرهم، وَلَا الِانْتِفَاع بِتِلْكَ الْمدَّة وَنَحْوهَا. قلت: لَا وَجه لدفع كَلَام ابْن بطال لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أفرد هَؤُلَاءِ العرنيين بِالِانْتِفَاعِ بِإِبِل الصَّدَقَة وَشرب أَلْبَانهَا فقد أفرد صنفا وَاحِدًا من الثَّمَانِية. فَدلَّ على جَوَاز الِاقْتِصَار على صنف وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم عقيب كَلَام ابْن بطال: وَفِيمَا قَالَه نظر لاحْتِمَال أَن يكون مَا أَبَاحَ لَهُم من الِانْتِفَاع إلاَّ بِمَا هُوَ قدر حصتهم. قلت: سُبْحَانَ الله، هَذَا نظر عَجِيب، هَل كَانَت هَهُنَا قسْمَة بَين هَؤُلَاءِ وَغَيرهم من الْأَصْنَاف الثَّمَانِية حَتَّى أَبَاحَ لَهُم مَا يخصهم؟
1051 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ شُعْبَةَ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ نَاسا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوْا المَدِينَةَ فرَخَّصَ لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يأتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ فيَشْرَبُوا مِنْ ألْبَانِهَ وَأبْوَالِهَا فقَتَلُوا الرَّاعِي وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فأرْسَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُتِيَ بِهِمْ فقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وِأرّجُلَهُمْ وسَمَرَ أعْيُنَهُمْ وتَرَكَهُمْ بِالحَرَّةِ يَعَضُّونَ الحِجَارَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لَهُم من شرب ألبان إبل الصَّدَقَة وَأَبْوَالهَا، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب أَبْوَال الْإِبِل وَالدَّوَاب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن(9/105)
أبي قلَابَة (عَن أنس قَالَ: قدم أنَاس من عكل أَو عرينة) الحَدِيث، وَهَهُنَا أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (اجتووا) بِالْجِيم من بَاب الافتعال، يُقَال: اجتويت الْبَلَد إِذا كرهت الْمقَام فِيهِ. قَوْله: (الذود) بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْإِبِل. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: أَرض ذَات حِجَارَة سود كَأَنَّهَا احترقت بالنَّار. قَوْله: (يعضون) ، بِفَتْح الْعين من بَاب فعل يفعل بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي المغابر. وَقيل: هُوَ من بَاب نصر ينصر، ولغة الْقُرْآن مثل الأول: {وَيَوْم بعض الظَّالِم على يَدَيْهِ} (الْفرْقَان: الْآيَة: 72) .
تابَعَهُ أبُو قِلاَبَةَ وَحُمَيْدٌ وثَابِتٌ عنْ أنَسٍ
أَي: تَابع أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الحرمي، وَحميد الطَّوِيل، وثابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة: الْبنانِيّ قَتَادَة فِي رواياتهم عَن أنس. أما مُتَابعَة أبي قلَابَة فقد مرت فِي كتاب الطَّهَارَة، وَأما مُتَابعَة حميد فوصلها مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة، وَأما مُتَابعَة ثَابت فوصلها البُخَارِيّ فِي كتاب الطِّبّ.
96 - (بابُ وَسْمِ الإمَامُ إبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر وسم الإِمَام، وَهُوَ الإِمَام الْأَعْظَم، والوسم بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ: التَّأْثِير بعلامة نَحْو: كَيَّة وَقطع الْأذن، وَأَصله من السمة وَهِي الْعَلامَة، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: كَيفَ يكون الوسم من السمة وَكِلَاهُمَا مصدر؟ يُقَال: وسم يسم وسما وسمة. أَصله وسمة. فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهُ اتبَاعا لفعله، لِأَن أصل يسم يوسم حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة فحذفت فِي سمة أَيْضا وعوضت عَنْهَا التَّاء، كَمَا فعل هَكَذَا فِي بَاب: وعد يعد عدَّة؟ قَوْله: (وَقطع الْأذن) فِيهِ نظر، لِأَن قطع الْأذن من الْمثلَة وَلَا يُسمى وسما، يُقَال: وسمه، إِذا أثر فِيهِ بكي.
2051 - حدَّثنا إبْراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا أبُو عَمْرٍ والأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني إسْحَاقُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ قَالَ حدَّثني أنَسُ بنُ مَالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ غَدَوْتُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَة لِيُحنكِّهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ المِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: من الْإِنْذَار ضد الإبشار، وكنيته أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي، بالزاي: الْقرشِي الْأَسدي. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، أَبُو الْعَبَّاس الْأمَوِي الْقرشِي مَوْلَاهُم. مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: أَبُو عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو. الرَّابِع: إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، يكنى أَبَا يحيى. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده، وَاسم أَبِيه: عبد الله بن الْمُنْذر، وَأَنه وَإِسْحَاق مدنيان وَأَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته ونسبته وَهُوَ الْأَوْزَاعِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه وَهُوَ إِسْحَاق.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي اللبَاس عَن هَارُون بن مَعْرُوف وَفِي بعض النّسخ: عَن هُرْمُز بن مَعْرُوف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غَدَوْت) من الغدو، وَهُوَ الرواح من أول النَّهَار. قَوْله: (ليحنكه) ، من التحنيك، وَهُوَ أَن يمضغ التمرة ويجعلها فِي فَم الصَّبِي وَيحك بهَا فِي حنكه بسبابته حَتَّى يتَحَلَّل فِي حنكه، والحنك أَعلَى دَاخل الْفَم. قَوْله: (فوافيته) ، من الموافاة: وَهُوَ الْإِتْيَان. يُقَال: وافيته إِذا أَتَيْته. قَوْله: (الميسم) بِكَسْر الْمِيم وَفتح السِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ المكوى، وَهُوَ الْآلَة الَّتِي يكوى بهَا وَقيل بالشين الْمُعْجَمَة والمهملة، وَقيل بَينهمَا فرق، فبالمهملة يكون الكي فِي الْوَجْه، وبالمعجمة فِي سَائِر الْجَسَد.(9/106)
وَفِي (الْجَامِع) : الميسم: الحديدة الَّتِي يوسم بهَا، وَالْجمع: مواسم، وأصل ميسم: موسم، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَهَذِه قَاعِدَة مطردَة، وَلم يبين فِي هَذِه الرِّوَايَة الْموضع الَّذِي كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسم فِيهِ إبل الصَّدَقَة، وبيَّن ذَلِك فِي رِوَايَة أُخْرَى فَإِذا هُوَ فِي مربد الْغنم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الكي فِي الْحَيَوَان. وَقَالَ قوم من الشَّافِعِيَّة: الكي مُسْتَحبّ فِي نعم الزَّكَاة والجزية وَجَائِز فِي غَيرهَا، وَالْمُسْتَحب أَن يسم الْغنم فِي آذانها وَالْإِبِل وَالْبَقر فِي أصُول أفخاذها، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَابْن مَاجَه: يسم الْغنم فِي آذانها، ووسم الْآدَمِيّ حرَام، وَغير الْآدَمِيّ فِي الْوَجْه مَنْهِيّ عَنهُ، وَفَائِدَته تَمْيِيز الْحَيَوَان بعضه من بعض، وليرده من أَخذه وَمن التقطه يعرّفه، وَإِذا تصدق بِهِ لَا يعود إِلَيْهِ، وَيسْتَحب أَن يكْتب فِي مَاشِيَة الزَّكَاة: زَكَاة أَو صَدَقَة، وَنقل ابْن الصّباغ وَغَيره إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي حَدِيث الْبَاب حجَّة على من كره الوسم من الْحَنَفِيَّة بالميسم لدُخُوله فِي عُمُوم النَّهْي عَن الْمثلَة، وَقد ثَبت ذَلِك من فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ على أَنه مَخْصُوص من الْعُمُوم الْمَذْكُور للْحَاجة، كالختان فِي الْآدَمِيّ. قلت: ذكر أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ: لَا بَأْس بكي الْبَهَائِم للعلامة، لِأَن فِيهِ مَنْفَعَة، وَكَذَا لَا بَأْس بكي الصّبيان إِذا كَانَ لداء أَصَابَهُم، لِأَن ذَاك مداواة. وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره فِي هَذَا الحَدِيث: إِن للْإِمَام أَن يتَّخذ مبسما وَلَيْسَ للنَّاس أَن يتخذوا نَظِيره. وَهُوَ كالخاتم. وَفِيه: اعتناء الإِمَام بأموال الصَّدَقَة وتوليها بِنَفسِهِ. وَفِيه: جَوَاز إيلام الْحَيَوَان للْحَاجة. وَفِيه: قصد أهل الْفضل وَالصَّلَاح لتحنيك الْمَوْلُود لأجل الْبركَة. وَفِيه: مُبَاشرَة أَعمال المهنة وَترك الاستطابة فِيهَا للرغبة فِي زِيَادَة الْأجر وَنفي الْكبر.
بِسْمِ الله الرحمان الرَّحِيم
(أبْوَابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب صَدَقَة الْفطر، وَفِي بعض النّسخ: صَدَقَة الْفطر، بِدُونِ قَوْله: أَبْوَاب، وَالتَّقْدِير فِيهِ أَيْضا: أَبْوَاب صَدَقَة الْفطر، أَو: بَاب صَدَقَة الْفطر، وَإِضَافَة الصَّدَقَة إِلَى الْفطر من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى شَرطه، كحجة الْإِسْلَام. وَقيل: أضيفت الصَّدَقَة إِلَى الْفطر لكَونهَا تجب بِالْفطرِ من رَمَضَان، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المُرَاد بِصَدقَة الْفطر صَدَقَة النُّفُوس، مَأْخُوذ من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ أصل الْخلقَة، وَالْأول أظهر، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق الحَدِيث: (زَكَاة الْفطر من رَمَضَان) ثمَّ أعلم أَن هَذَا الْبَاب يحْتَاج إِلَى خَمْسَة عشرَة معرفَة.
الأولى: معرفَة صَدَقَة الْفطر لُغَة وَشرعا. فَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ لَفْظَة مولدة لَا عَرَبِيَّة وَلَا معربة بل هِيَ اصطلاحية للفقهاء. كَأَنَّهَا من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ النُّفُوس والخلقة. أَي: زَكَاة الْخلقَة، ذكرهَا صَاحب (الْحَاوِي) وَالْمُنْذِرِي. قلت: وَلَو قيل: لَفْظَة إسلامية كَانَ ولى لِأَنَّهَا مَا عرفت إلاَّ فِي الْإِسْلَام، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اسْمهَا على لِسَان صَاحب الشَّرْع، وَيُقَال لَهَا: صَدَقَة الْفطر وَزَكَاة الْفطر وَزَكَاة رَمَضَان وَزَكَاة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، صَدَقَة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (صَدَقَة رَمَضَان) ، وَتسَمى أَيْضا صَدَقَة الرؤوس وَزَكَاة الْأَبدَان سَمَّاهَا الإِمَام مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، أما شرعا فَإِنَّهَا اسْم لما يعْطى من المَال بطرِيق الصِّلَة ترحما مُقَدرا، بِخِلَاف الْهِبَة فَإِنَّهَا تُعْطى صلَة تكرما لَا ترحما، ذكره فِي (الْمُحِيط) . الثَّانِيَة: معرفَة وُجُوبهَا، فبأحاديث الْبَاب على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِثَة: معرفَة سَبَب وُجُوبهَا، فَهُوَ رَأس يمونه مؤونة تَامَّة ويلي عَلَيْهِ ولَايَة تَامَّة لما فِي الحَدِيث: (عَمَّن تمونون) . الرَّابِعَة: معرفَة شَرط وُجُوبهَا، فالإسلام وَالْحريَّة والغنى على مَا يَأْتِي بِالْخِلَافِ فِيهِ. الْخَامِسَة: معرفَة ركنها، فالتمليك. السَّادِس: معرفَة شَرط جَوَازهَا بِكَوْن الْمصرف إِلَيْهِ فَقِيرا. السَّابِعَة: معرفَة من تجب عَلَيْهِ، فَتجب على الْأَب عَن أَوْلَاده الصغار الْفُقَرَاء، وعَلى السَّيِّد عَن عَبده ومدبره ومدبرته وَأم وَلَده. الثَّامِنَة: معرفَة الَّذِي تجب من أَجله، فأولاده الصغار ومماليكه للْخدمَة دون مكَاتبه وَزَوجته. التَّاسِعَة: معرفَة مِقْدَار الْوَاجِب فِيهَا، فَنصف صَاع من بر أَو صَاع من شعير أَو تمر، على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الْعَاشِرَة: معرفَة الْكَيْل الَّذِي تجب بِهِ، فَهُوَ الصَّاع، وَسَنذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ. الْحَادِيَة عشرَة: معرفَة وَقت وُجُوبهَا، فوقته طُلُوع الْفجْر الثَّانِي من يَوْم الْفطر، وَفِيه(9/107)
الْخلاف على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّانِيَة عشر: معرفَة كَيْفيَّة وُجُوبهَا، فَتجب وجوبا موسعا على الْأَصَح. الثَّالِثَة عشر: معرفَة وَقت اسْتِحْبَاب أَدَائِهَا، فقد اتّفقت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي اسْتِحْبَاب أَدَائِهَا بعد فجر يَوْم الْفطر، قبل الذّهاب إِلَى صَلَاة الْعِيد. الرَّابِعَة عشر: معرفَة جَوَاز تَقْدِيمهَا على يَوْم الْفطر، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: يجوز تَقْدِيمهَا لسنة وسنتين، وَعَن خلف ابْن أَيُّوب: يجوز لشهر، وَقيل: بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ. الْخَامِسَة عشر: معرفَة وَقت أَدَائِهَا، فَيوم الْفطر من أَوله إِلَى آخِره وَبعده، يجب الْقَضَاء عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالأَصَح أَن يكون أَدَاء.
07 - (بابُ فَرْض صَدَقَةِ الْفِطْرِ)
أَي: هَذَا بَاب بَيَان فرض صَدَقَة الْفطر، وَفِي بعض النّسخ: هَذَا الْمِقْدَار مَوْجُود وَمَا قبله غير مَوْجُود إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
ورَأى أبُو العَالِيَةِ وعَطَاءٌ وابنُ سيرِينَ صَدَقَةَ الفِطْرِ فَرِيضَةً
أَبُو الْعَالِيَة من الْعُلُوّ على وزن: فاعلة اسْمه رفيع بن مهْرَان الريَاحي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين. قَوْله: وَرَأى، ويروى: وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة، فتعليق أبي الْعَالِيَة وَابْن سِيرِين رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن وَكِيع عَن عَاصِم عَن أبي الْعَالِيَة وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا قَالَا: صَدَقَة الْفطر فَرِيضَة، وَتَعْلِيق عَطاء وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء.
ثمَّ اعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي صَدَقَة الْفطر: هَل هِيَ فرض أَو وَاجِبَة أَو سنة أَو فعل خير مَنْدُوب إِلَيْهِ، فَقَالَت طَائِفَة: هِيَ فرض وهم الثَّلَاثَة المذكورون هُنَا: الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَقَالَ أَصْحَابنَا: هِيَ وَاجِبَة، وَقَالَت طَائِفَة: هِيَ سنة، وَهُوَ قَول مَالك فِي رِوَايَة ذكرهَا صَاحب الذَّخِيرَة، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ فعل خير قد كَانَت وَاجِبَة ثمَّ نسخت، وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بِحَدِيث قيس بن سعد بن عبَادَة: (قَالَ: أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة الْفطر قبل أَن تنزل الزَّكَاة، فَلَمَّا نزلت لم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا وَنحن نفعله) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة أبي عمار الْهَمدَانِي عَن قيس، وَاسم أبي عمار عريب بن حميد، كُوفِي ثِقَة. قَالَه أَحْمد وَابْن معِين، وَبِحَدِيث قيس بن سعد أَيْضا من وَجه آخر أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث الْقَاسِم بن مخيمرة عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل (عَن قيس بن سعد بن عبَادَة، قَالَ: كُنَّا نَصُوم عَاشُورَاء ونؤدي صَدَقَة الْفطر، فَلَمَّا نزلت رَمَضَان وَنزلت الزَّكَاة لم نؤمر بِهِ وَلم ننه عَنهُ، وَنحن نفعله) . وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن هَذَا لَا يدل على سُقُوط فرضيتها، لِأَن نزُول فرض لَا يُوجب سُقُوط آخر، وَقد أجمع أهل الْعلم على وجوب زَكَاة الْفطر، وَإِن اخْتلفُوا فِي تَسْمِيَتهَا فرضا فَلَا يجوز تَركهَا، وَقد نقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على فَرضِيَّة صَدَقَة الْفطر. قلت: فِيهِ نظر لما ذكرنَا من الِاخْتِلَاف فِيهَا.
3051 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ السَّكَنِ قَالَ حدَّثنا محَمَّدُ بنُ جَهْضَمٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ عُمَرَ بنِ نَافِعٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ فَرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكاةَ الفِطْرِ صَاعا مِنْ تَمْرٍ أوْ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ وَأمَرَ بِهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلاَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن مُحَمَّد بن السكن، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف وَفِي آخِره نون: ابْن حبيب أَبُو عبيد الله الْبَزَّار، بالزاي ثمَّ بالراء: الْقرشِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَهْضَم، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن عبد الله أَبُو جَعْفَر الثَّقَفِيّ. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن كثير أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عمر بن نَافِع، مولى عبد الله بن عمر. الْخَامِس: أَبوهُ نَافِع. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.(9/108)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه مُحَمَّد بن جَهْضَم بصريان وَمُحَمّد هَذَا يمامي ثمَّ خراساني، ثمَّ سكن الْبَصْرَة فعد من أَهلهَا، وَعمر وَأَبوهُ مدنيان، وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن عمر لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي النَّهْي عَن الْفَزع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسم أَبِيه وَاسم جده.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن يحيى بن مُحَمَّد شيخ البُخَارِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: قَالَ: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَة الْفطر على الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر والمملوك صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير. قَالَ: فَعدل النَّاس إِلَى نصف صَاع من بر) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ أَيْضا: حَدثنَا إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ حَدثنَا معن عَن مَالك عَن نَافِع (عَن عبد الله ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر من رَمَضَان صَاعا من تمر أَو صاعآ من شعير على كل حر أَو عبد، ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين) وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فرض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ أَبُو عمر: قَوْله: (فرض) ، يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا وَهُوَ الْأَظْهر: فرض بِمَعْنى أوجب، وَالْآخر: فرض بِمَعْنى قدر. كَمَا تَقول: فرض القَاضِي نَفَقَة الْيَتِيم أَي: قدرهَا، وَالَّذِي أذهب إِلَيْهِ أَن لَا يزَال قَوْله: (فرض) عَن معنى الْإِيجَاب إلاَّ بِدَلِيل الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ مَعْدُوم، فَإِن القَوْل بِأَنَّهَا غير وَاجِبَة شذوذ أَو فِي معنى الشذوذ. وَقَالَ أَصْحَابنَا: بِأَنَّهَا وَاجِبَة على حَقِيقَتهَا الاصطلاحية، وَهِي أَن تكون بَين الْفَرْض وَالسّنة. وَقَالَ الشَّافِعِي: فرض بِنَاء على أَصله أَنه لَا فرق بَين الْوَاجِب وَالْفَرِيضَة. وَقَالَ تَاج الشَّرِيعَة من أَصْحَابنَا: هِيَ وَاجِبَة حَتَّى لَا يكفر جاحدها، وَهُوَ الْفرق بَين الْفَرِيضَة وَالْوَاجِب. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: أصل معنى الْفَرْض فِي اللُّغَة التَّقْدِير، وَلَكِن نقل فِي عرف الشَّرْع إِلَى الْوُجُوب، فالحمل عَلَيْهِ أولى، يَعْنِي: من الْحمل على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ، وَقد ذكرنَا أَن بَعضهم ذَهَبُوا إِلَى أَنه سنة لأَنهم قَالُوا: معنى فرض فِي الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت قدر، وَحَمَلُوهُ على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَفْهُوم من لفظ: فرض، بِحَسب عرف الشَّرْع: الْوُجُوب، وَلَا يجوز للراوي أَن يعبر بِالْفَرْضِ عَن الْمَنْدُوب مَعَ علمه بِالْفرقِ بَينهمَا. قلت: يرد عَلَيْهِم أَنهم لم يفرقُوا بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب مَعَ علمهمْ بِالْفرقِ بَينهمَا بِحَسب اللُّغَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: أَن صَدَقَة الْفطر من التَّمْر وَالشعِير صَاع، وَمذهب دَاوُد وَمن تبعه أَنه: لَا يجوز إلاَّ من التَّمْر وَالشعِير، وَلَا يجزىء عِنْده قَمح وَلَا دقيقه وَلَا دَقِيق شعير وَلَا سويق وَلَا خبز وَلَا زبيب وَلَا غير ذَلِك، وَاحْتج فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ: لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ ابْن عمر التَّمْر وَالشعِير وَلم يذكر غَيرهمَا. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَن الشّعير وَالتَّمْر لَا يجزىء من أَحدهمَا إلاَّ صَاع كَامِل أَرْبَعَة أَمْدَاد.
الثَّانِي: قَوْله: (على العَبْد) تعلق بِهِ دَاوُد فِي وُجُوبهَا على العَبْد وَأَن السَّيِّد يجب عَلَيْهِ أَن يُمكنهُ من كسبها كَمَا يُمكنهُ من صَلَاة الْفَرْض، وَمذهب الْجَمَاعَة وُجُوبهَا على السَّيِّد حَتَّى لَو كَانَ للتِّجَارَة، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر. وَقَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري والحنفيون: إِذا كَانَ للتِّجَارَة لَا تلْزمهُ فطرته، وَأما الْمكَاتب فالجمهور أَنَّهَا لَا تجب عَلَيْهِ، وَعَن مَالك قَولَانِ: يُخرجهَا عَن نَفسه، وَقيل: سَيّده، وَلَا تجب على السَّيِّد عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان وَعَطَاء وَأَبُو ثَوْر: يُؤَدِّي عَنهُ سَيّده، وَاسْتدلَّ لمن قَالَ: لَا تجب على السَّيِّد بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُؤَدِّي زَكَاة الْفطر عَن كل مَمْلُوك لَهُ فِي أرضه وَأَرْض غَيره، وَعَن كل إِنْسَان يعوله من صَغِير وكبير، وَعَن رَقِيق امْرَأَته وَكَانَ لَهُ مكَاتب بِالْمَدِينَةِ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي عَنهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ عَن مُوسَى: كَانَ لِابْنِ عمر مكاتبان فَلَا يُعْطي عَنْهُمَا الزَّكَاة يَوْم الْفطر، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن نَافِع.
الثَّالِث: قَوْله: (وَالْأُنْثَى) ظَاهره وُجُوبهَا على الْمَرْأَة، سَوَاء كَانَ لَهَا زوج أَو لَا، وَأما الْمَرْأَة الْمُزَوجَة فَلَا تجب فطرتها على زَوجهَا عِنْد أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَابْن الْمُنْذر وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي (الصَّحِيح) وَإِسْحَاق: تلْزم على الزَّوْج، مستدلين بقول ابْن عمر: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة الْفطر عَن الصَّغِير وَالْكَبِير مِمَّن تمونون) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده غير قوي.
الرَّابِع: قَوْله: (وَالصَّغِير) ، جُمْهُور(9/109)
الْعلمَاء على وُجُوبهَا على الصَّغِير وَإِن كَانَ يَتِيما، قَالَ ابْن بزيزة: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر: لَا يجب على الْيَتِيم زَكَاة الْفطر كَانَ لَهُ مَال أَو لم يكن، فَإِن أخرجهَا عَنهُ وَصِيّه ضمن، قَالَ: وأصل مَذْهَب مَالك وجوب الزَّكَاة على الْيَتِيم مُطلقًا، وَذكر صَاحب (الْهِدَايَة) : يخرج عَن أَوْلَاده الصغار فَإِن كَانَ لَهُم مَال أدّى من مَالهم عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا لمُحَمد، وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ الْحسن: هِيَ على الْأَب فَإِن أَعْطَاهَا من مَال الابْن ضمن. قَالَ: وَهل يجب إخْرَاجهَا عَن الْجَنِين أم لَا؟ فالجمهور أَنَّهَا غير وَاجِبَة عَلَيْهِ. قَالَ: وَمن شواذ الْأَقْوَال أَنَّهَا تخرج عَن الْجَنِين، روينَا ذَلِك عَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسليمَان بن يسَار. وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة قَالَ: كَانُوا يُعْطون حَتَّى عَن الْحمل. قَالَ ابْن بزيزة: قَالَ قوم من سلف الْعلمَاء: إِذا أكمل الْجَنِين فِي بطن أمه مائَة وَعشْرين يَوْمًا قبل انصداع الْفجْر من لَيْلَة الْفطر وَجب إِخْرَاج زَكَاة الْفطر عَنهُ كَأَنَّهُ اعْتمد على حَدِيث ابْن مَسْعُود: (إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ صباحا) الحَدِيث.
الْخَامِس: قَوْله: (من الْمُسلمين) : تكلم الْعلمَاء فِيهِ، قَالَ الشَّيْخ فِي (الإِمَام) : وَقد اشتهرت هَذِه اللَّفْظَة من رِوَايَة مَالك حَتَّى قيل: إِنَّه تفرد بهَا. قَالَ أَبُو قلَابَة: عبد الْملك بن مُحَمَّد لَيْسَ أحد يَقُول فِيهِ من الْمُسلمين غير مَالك، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد تَخْرِيجه لَهُ: زَاد مَالك (من الْمُسلمين) ، وَقد رَوَاهُ غير وَاحِد عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَلم يَقُولُوا فِيهِ: من الْمُسلمين، وتبعهما على ذَلِك القَوْل جمَاعَة. قَالَ الشَّيْخ: وَلَيْسَ بِصَحِيح، فقد تَابع مَالِكًا هَذِه اللَّفْظَة من الثِّقَات سَبْعَة، وهم: عمر بن نَافِع رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان رَوَاهُ مُسلم عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر من رَمَضَان على كل نفس من الْمُسلمين. .) الحَدِيث، والمعلى بن أَسد رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير عَن كل مُسلم) الحَدِيث، وَعبد الله بن عمر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من بر على كل حر أَو عبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين، وَصَححهُ) ، وَكثير بن فرقد رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر) لحَدِيث وَفِيه: (من الْمُسلمين) وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (مُشكل الْآثَار) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) ، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ عَن ابْن عمر نَحوه سَوَاء، وَيُونُس بن يزِيد رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (مشكله) عَنهُ أَن نَافِعًا أخبرهُ قَالَ: (قَالَ عبد الله بن عمر: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس زَكَاة الْفطر من رَمَضَان صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير على كل إِنْسَان ذكر أَو أُنْثَى حرا أَو عبدا من الْمُسلمين) ، وَبِهَذَا احْتج مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر على أَنه لَا تجب صَدَقَة الْفطر على أحد من عَبده الْكَافِر، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي صَدَقَة الْفطر من عَبده الْكَافِر.
وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالنَّخَعِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَدّوا صَدَقَة الْفطر عَن كل صَغِير وكبير وَذكر أَو أُنْثَى يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ، حر أَو مَمْلُوك، نصف صَاع من بر أَو صَاعا من تمر أَو شعير) . فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسند هَذَا الحَدِيث غير سَلام الطَّوِيل وَهُوَ مَتْرُوك، وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الموضوعات) وَقَالَ: وَقَالَ زِيَادَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ فِيهِ مَوْضُوعَة انْفَرد بهَا سَلام الطَّوِيل وَكَأَنَّهُ تعمدها وَاغْلُظْ فِيهِ القَوْل عَن النَّسَائِيّ وَابْن حبَان جازف ابْن الْجَوْزِيّ فِي مقَالَته من غير دَلِيل، وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ فِي (مشكله) مَا يُؤَيّد هَذَا: عَن ابْن الْمُبَارك عَن ابْن لَهِيعَة عَن عبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ يخرج صَدَقَة الْفطر عَن كل إِنْسَان يعول من صَغِير وكبير حر أَو عبد وَلَو كَانَ نَصْرَانِيّا مدّين من قَمح أَو صَاعا من تمر) . وَحَدِيث ابْن لَهِيعَة يصلح للمتابعة، سِيمَا رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَنهُ وَلم يتْركهُ أحد، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يخرج صَدَقَة الْفطر عَن كل حر وَعبد صَغِير وكبير ذكر أَو أُنْثَى كَافِرًا أَو مُسلم) الحَدِيث. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَعُثْمَان هَذَا هُوَ الْوَقَّاصِ، وَهُوَ مَتْرُوك. وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن ابْن عَبَّاس (قَالَ: يخرج الرجل زَكَاة الْفطر عَن كل مَمْلُوك لَهُ وَإِن كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا) وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن عمر بن(9/110)
مهَاجر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: سمعته يَقُول: يُؤَدِّي الرجل الْمُسلم عَن مَمْلُوكه النَّصْرَانِي صَدَقَة الْفطر، حَدثنَا عبد الله ابْن دَاوُد عَن الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُعْطي عَن مَمْلُوكه النَّصْرَانِي صَدَقَة الْفطر، وروى عَن إِبْرَاهِيم مثله، وَالْجَوَاب عَن قَوْله: (من الْمُسلمين) أَن مَعْنَاهُ من يلْزمه إِخْرَاج الزَّكَاة عَن نَفسه وَعَن غَيره، وَلَا يكون إلاَّ مُسلما. وَأما العَبْد فَلَا يلْزمه فِي نَفسه زَكَاة الْفطر، وَإِنَّمَا يلْزم مَوْلَاهُ الْمُسلم عَنهُ. وَجَوَاب آخر: مَا قَالَه ابْن بزيزة، وَهُوَ: إِن قَوْله: (من الْمُسلمين) زِيَادَة مضطربة من غير شكّ من جِهَة الْإِسْنَاد، وَالْمعْنَى: لِأَن ابْن عمر رَاوِيه كَانَ من مذْهبه إِخْرَاج الزَّكَاة عَن العَبْد الْكَافِر، والراوي إِذا خَالف مَا رَوَاهُ كَانَ تضعيفا لروايته. وَجَوَاب آخر: أَن فِي صَدَقَة الْفطر نصان: أَحدهمَا: جعل الرَّأْس الْمُطلق سَببا، وَهُوَ الرِّوَايَة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا: من الْمُسلمين. وَالْآخر: جعل الرَّأْس الْمُسلم سَببا، وَلَا تنَافِي فِي الْأَسْبَاب كَمَا عرف كالملك يبث بِالشِّرَاءِ وَالْهِبَة وَالْوَصِيَّة وَالصَّدَََقَة وَالْإِرْث فَإِذا امْتنعت المزاجمة وَجب الْجمع بإجراء كل وَاحِد من الْمُطلق والمقيد على سنَنه من غير حمل أَحدهمَا على الآخر، فَيجب أَدَاء صَدَقَة الْفطر عَن العَبْد الْكَافِر بِالنَّصِّ الْمُطلق وَعَن الْمُسلم بالمقيد. فَإِن قلت: إِذا لم يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد أدّى إِلَى إِلْغَاء الْمُقَيد، فَإِن حكمه يفهم من الْمُطلق، فَإِن حكم العَبْد الْمُسلم يُسْتَفَاد من إِطْلَاق إسم العَبْد فَلم يبْق لذكر الْمُقَيد فَائِدَة؟ قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل فِيهِ فَوَائِد، وَهِي: أَن يكون الْمُقَيد دَلِيلا على الِاسْتِحْبَاب وَالْفضل، أَو على أَنه عَزِيمَة وَالْمُطلق رخصَة، أَو على أَنه أهم وأشرف حَيْثُ نَص عَلَيْهِ بعد دُخُوله تَحت الِاسْم الْمُطلق، كتخصيص صَلَاة الْوُسْطَى وَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فِي مُطلق الصَّلَوَات، ودخولهما فِي مُطلق اسْم الْمَلَائِكَة، وَقد أمكن الْعَمَل بهما. وَاحْتِمَال الْفَائِدَة قَائِم لَا يجوز إبِْطَال صفة الْإِطْلَاق.
السَّادِس: قَوْله: (وَأمر بهَا أَن تُؤَدّى قبل خُرُوج النَّاس إِلَى الصَّلَاة) ، وَهَذَا أَمر اسْتِحْبَاب، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالقَاسِم وَأبي نَضرة وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالْحكم بن عُيَيْنَة ومُوسَى بن وردان وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأهل الْكُوفَة، وَلم يحك فِيهِ خلاف، وَحكى الْخطابِيّ الْإِجْمَاع فِيهِ، وَقَالَ ابْن حزم: الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب فَيحرم تَأْخِيرهَا عَن ذَلِك الْوَقْت.
17 - (بابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى العَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر على العَبْد، فَظَاهر هَذِه التَّرْجَمَة أَنه كَانَ يرى وُجُوبهَا على العَبْد وَإِن كَانَ سَيّده يتحملها عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: العَبْد لَا يملك المَال، فَكيف يجب عَلَيْهِ شَيْء؟ قلت: أوجبت طَائِفَة على نفس العَبْد وعَلى السَّيِّد تَمْكِينه من كسبها كتمكينه من صَلَاة الْفَرْض وَالْجُمُعَة على سَيّده عَنهُ، ثمَّ افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن، فَقَالَت طَائِفَة: على السَّيِّد ابْتِدَاء، وَكلمَة: على، بِمَعْنى: عَن، وحروف الْجَرّ يقوم بَعْضهَا مقَام بعض، وَقَالَ آخَرُونَ: تجب على العَبْد، ثمَّ يحملهَا سَيّده عَنهُ. فَكَلمهُ الاستعلاء جَارِيَة على ظَاهرهَا.
4051 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعا مِنْ تَمر أوْ صَاعا مِن شَعِيرٍ عَلى كُلِّ حُرٍّ أوْ عَبْدٍ ذَكرٍ أوْ أُنْثَى مِنَ المُسْلِمينَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو عبد. .) إِلَى آخِره، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَإِنَّمَا ذكره هُنَا لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَنه رَوَاهُ هَهُنَا: عَن عبد الله بن يُوسُف، وَهُنَاكَ: عَن يحيى بن مُحَمَّد، وَالْآخر لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة لينبه على أَنه مِمَّن يرى وُجُوبهَا على العَبْد. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْمَذْكُورَات جَاءَت مزدوجة على التضاد للاستيعاب لَا للتخصيص، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فرض على جَمِيع الْمُسلمين، وَأما كَونهَا فيمَ وَجَبت؟ وعَلى من وَجَبت؟ فَيعلم من نُصُوص أُخر.(9/111)
27 - (بابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ مِنْ شَعِيرٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن صَدَقَة الْفطر صَاع من شعير إِذا أَدَّاهَا مِنْهُ. قَوْله: (صَاع) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، تَقْدِيره: هِيَ صَاع من شعير، وَيجوز أَن تكون: صَدَقَة الْفطر، مُبْتَدأ إِذا قطع بَاب عَن الْإِضَافَة، فَيكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ صَدَقَة الْفطر صَاع من شعير، ويروى: (صَاعا من شعير) ، بِالنّصب وَوَجهه أَن يقدر فِيهِ فعل الْإِخْرَاج، وَتَقْدِيره: هَذَا بَاب إِخْرَاج صَدَقَة الْفطر صَاعا، قيل: على سَبِيل الْحِكَايَة مِمَّا فِي لفظ الحَدِيث، يَعْنِي الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق.
37 - (بابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعا مِنْ طَعَامٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِخْرَاج صَدَقَة الْفطر صَاعا من طَعَام ويروى صَاع بِالرَّفْع وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق.
6051 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ عِيَاضِ بنِ عَبْدِ الله بنِ سَعْدِ بنِ أبي سَرْحٍ العَامِرِيِّ أنَّهُ سَمِعَ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعا مِنْ طَعَامٍ أوْ صَاعا مِنْ شَعيرٍ أوْ صَاعا مِن تَمْرٍ أوْ صَاعا منْ أقِطٍ أوْ صَاعا مِنْ زَبِيبٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صَاعا من طَعَام) .
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل فِي مَوضِع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (زَكَاة الْفطر) أَي: صَدَقَة الْفطر، وَيسْتَعْمل كل مِنْهُمَا فِي مَوضِع الآخر. قَوْله: (من طَعَام) الطَّعَام هُوَ الْبر بِدَلِيل ذكر الشّعير مَعَه، وَقيل: أَرَادَ بِهِ التَّمْر لِأَن الْبر كَانَ قَلِيلا عِنْدهم لَا يَتَّسِع لإِخْرَاج زَكَاة الْفطر. قلت: هَذَا لَا يَتَأَتَّى إلاَّ فِي الرِّوَايَة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ذكر التَّمْر، وَذَلِكَ أَن حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذَا قد رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة: فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ من تسع طرق بأسانيد مُخْتَلفَة وَأَلْفَاظه متباينة. الأول: مثل طَرِيق البُخَارِيّ: عَن عَليّ بن شيبَة عَن قبيصَة عَن سُفْيَان عَن زيد بن أسلم عَن عِيَاض بن عبد الله (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: كُنَّا نعطي زَكَاة الْفطر من رَمَضَان صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من شعير أَو صَاعا من أقط) ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ذكر التَّمْر، وَبَقِيَّة طرقه فِيهَا ذكر التَّمْر، فَلَا يَتَأَتَّى أَن يُفَسر الطَّعَام بِالتَّمْرِ، وَالطَّعَام فِي أصل اللُّغَة عَام فِي كل مَا يقتات بِهِ من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَغير ذَلِك، وسنبسط الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مَعَ بَيَان اخْتِلَاف الْأَئِمَّة فِيهِ. قَوْله: (من أقط) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْقَاف وَفِي آخِره طاء مُهْملَة، وَهُوَ: لبن مجفف يَابِس مستحجر يطْبخ بِهِ، وَرُبمَا تسكن قافه فِي الشّعْر، يُقَال: ايتقطت، أَي اتَّخذت الأقط،(9/112)
وَهُوَ افتعلت، وأقط طَعَامه يأقطه أقطا: عمله بالأقط، وَهُوَ مأقوط، وَيُقَال لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: ماستينه، وبالتركية: قراقرط، وبالتركمانية: قرط، بِضَم الْقَاف وَالرَّاء، بِلَا لفظ: قرا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: احْتج بِهِ الشَّافِعِي على أَن صَدَقَة الْفطر من الْقَمْح صَاع، وَقَالَ: المُرَاد بِالطَّعَامِ الْبر فِي الْعرف، وَقَالَ أَصْحَابه، لَا سِيمَا فِي رِوَايَة الْحَاكِم: صَاعا من حِنْطَة، أخرجهَا فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَن ابْن علية عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الله بن عبد الله بن عُثْمَان بن حَكِيم بن حزَام (عَن عِيَاض بن عبد الله قَالَ: قَالَ أَبُو سعيد وَذكر عِنْده صَدَقَة الْفطر، فَقَالَ: لَا أخرج إلاَّ مَا كنت أخرجه فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من تمر أَو صَاعا من حِنْطَة أَو صَاعا من شعير، فَقَالَ لَهُ رجل من الْقَوْم: أَو مدّين من قَمح؟ فَقَالَ: لَا، تِلْكَ قيمَة مُعَاوِيَة لَا أقبلها وَلَا أعمل بهَا) . وَصَححهُ الْحَاكِم، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث يَعْقُوب الدَّوْرَقِي عَن ابْن علية سندا ومتنا كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَمن الشَّافِعِيَّة من جعل هَذَا الحَدِيث حجَّة لنا من جِهَة أَن مُعَاوِيَة جعل نصف صَاع من الْحِنْطَة عدل صَاع من التَّمْر وَالزَّبِيب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث مُعْتَمد أبي حنيفَة، ثمَّ أجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ فعل صَحَابِيّ، وَقد خَالفه أَبُو سعيد وَغَيره من الصَّحَابَة مِمَّن هُوَ أطول صُحْبَة مِنْهُ وَاعْلَم بِحَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أخبر مُعَاوِيَة بِأَنَّهُ رأى لَا قَول سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قُلْنَا: أما قَوْلهم: إِن الطَّعَام فِي الْعرف هُوَ الْبر فَمَمْنُوع، بل الطَّعَام يُطلق على كل مَأْكُول، كَمَا ذَكرْنَاهُ، بل أُرِيد بِهِ هَهُنَا غير الْحِنْطَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (صَاعا من طَعَام صَاعا من أقط) . فَإِن قَوْله: (صَاعا من أقط) بدل من قَوْله: (صَاعا من طَعَام) أَو بَيَان عَنهُ، وَلَو كَانَ المُرَاد من قَوْله: (صَاعا من طَعَام) هُوَ الْبر لقَالَ: أَو صَاعا من أقط بِحرف: أَو، الفاصلة بَين الشَّيْئَيْنِ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ بِأَو الفاصلة بَين الشَّيْئَيْنِ كَمَا مر؟ قلت: كفى لنا حجَّة رِوَايَة أبي دَاوُد على مَا ادعينا مَعَ صِحَة حَدِيثه بِلَا خلاف، وَمِمَّا يُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ مَا جَاءَ فِيهِ عِنْد البُخَارِيّ: (عَن أبي سعيد، قَالَ: كُنَّا نخرج فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفطر صَاعا من طَعَام. قَالَ أَبُو سعيد: وَكَانَ طعامنا: الشّعير وَالزَّبِيب والأقط وَالتَّمْر) . وَأما مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِيهِ (أَو صَاعا من حِنْطَة) ، فقد قَالَ أَبُو دَاوُد: إِن هَذَا لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِيهِ: وَذكر الْحِنْطَة فِي هَذَا الْخَبَر غير مَحْفُوظ، وَلَا أَدْرِي مِمَّن الْوَهم، وَقَول الرجل لَهُ: أَو مَدين من قَمح؟ دَال على أَن ذكر الْحِنْطَة فِي أول الْخَبَر خطأ، وَوهم، لَو كَانَ صَحِيحا إِذْ لم يكن لقَوْله: أَو مَدين من قَمح؟ معنى. وَقد عرف تساهل الْحَاكِم فِي تَصْحِيح الْأَحَادِيث المدخولة، وَأما قَول النَّوَوِيّ: إِنَّه فعل صَحَابِيّ، قُلْنَا: قد وَافقه غَيره من الصَّحَابَة الجم الْغَفِير بِدَلِيل قَوْله فِي الحَدِيث: (فَأخذ النَّاس بذلك) ، وَلَفظ: النَّاس، للْعُمُوم، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَالله أعلم.
وَاعْلَم أَن مَذْهَب مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق مثل مَذْهَب الشَّافِعِي فِي تَقْدِيره بالصاع فِي الْبر، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يُؤَدِّي كل إِنْسَان مَدين من قبح بِمد أهل بَلَده، وَقَالَ اللَّيْث: مَدين من قَمح بِمد هِشَام وَأَرْبَعَة أَمْدَاد من التَّمْر وَالشعِير والأقط. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: الَّذِي يخرج فِي زَكَاة الْفطر صَاع من تمر أَو شعير أَو طَعَام أَو زبيب أَو أقط إِن كَانَ بدويا، وَلَا يُعْطي قيمَة شَيْء من هَذِه الْأَصْنَاف، وَهُوَ يجدهَا. وَقَالَ أَبُو عمر: سكت أَبُو ثَوْر، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن ذكر الْبر، وَكَانَ أَحْمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يسْتَحبّ إِخْرَاج التَّمْر. وَالْأَصْل فِي هَذَا الْبَاب اعْتِبَار الْقُوت وَأَنه لَا يجوز إلاَّ الصَّاع مِنْهُ. وَالْوَجْه الآخر: اعْتِبَار التَّمْر وَالشعِير وَالزَّبِيب أَو قيمتهَا على، مَا قَالَه الْكُوفِيُّونَ، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) رَحمَه الله تَعَالَى: الْفطْرَة نصف صَاع من بر أَو دَقِيق أَو سويق أَو زبيب، أَو صَاع من تمر أَو شعير. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الزَّبِيب بِمَنْزِلَة الشّعير، وَهُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَالْأول رِوَايَة مُحَمَّد عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة، وَهِي رِوَايَة (الْجَامِع الصَّغِير) وَنصف صَاع من بر مَذْهَب أبي بكر الصّديق وَعمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله وَأبي هُرَيْرَة وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة وَأَسْمَاء بنت أبي بكر الصّديق وَسَعِيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وعلقمة وَالْأسود وَعُرْوَة وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأبي قلَابَة عبد الْملك بن مُحَمَّد التَّابِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَعبد الله بن شَدَّاد وَمصْعَب بن سعيد. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهُوَ قَول الْقَاسِم وَسَالم وَعبد الرَّحْمَن ابْن قَاسم وَالْحكم وَحَمَّاد، وَرِوَايَة عَن مَالك ذكرهَا فِي الذَّخِيرَة، وَاحْتج أَصْحَابنَا فِي هَذَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث(9/113)
ثَعْلَبَة بن أبي صعير عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَاع من بر أَو قَمح على كل اثْنَيْنِ صَغِير أَو كَبِير حر أَو عبد ذكر أَو أُنْثَى، أما غنيكم فيزكيه الله، وَأما فقيركم فَيرد الله عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا أعطَاهُ) . وَأَبُو صعير، بِضَم الصَّاد وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَيُقَال: ثَعْلَبَة بن عبد الله بن صعير العذري، حَلِيف بني زهرَة. وَقَالَ ابْن معِين: ثَعْلَبَة ابْن عبد الله بن أبي صعير، وثعلبة بن أبي مَالك جَمِيعًا رَأيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي (الْكَمَال) : روى ثَعْلَبَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زَكَاة الْفطر، روى عَنهُ ابْنه عبد الله، وَفِيه اضْطِرَاب كثير عِنْد الروَاة، وَرُوِيَ عَن ثَعْلَبَة بن عبد الله بن صعير عَن أَبِيه، ويروى: ثَعْلَبَة ابْن عبد الله بن أبي صعير عَن أَبِيه، ويروى: عبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير. وَقَالَ صَاحب (الإِمَام) : فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يحيى الْجَزْم بقوله: عبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير، وَكَذَا رِوَايَة ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ ابْن مَاكُولَا: صَوَابه: ثَعْلَبَة بن صعير العذري، أَو ابْن أبي صعير. فَإِن قلت: قَالَ مهنَّا: ذكرت لِأَحْمَد حَدِيث ثَعْلَبَة بن أبي صعير فِي صَدَقَة الْفطر نصف صَاع من بر، فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح إِنَّمَا هُوَ مُرْسل، يرويهِ معمر وَابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا. قلت: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ عَن حَمَّاد ابْن زيد، روى لَهُ الْجَمَاعَة، عَن النُّعْمَان بن رَاشد قَالَ البُخَارِيّ هُوَ فِي الْأَمر صَدُوق روى لَهُ الْجَمَاعَة وَالْبُخَارِيّ مستشداً عَن الزُّهْرِيّ روى لَهُ الْجَمَاعَة وعَلى كل حَال الحَدِيث خبر الْوَاحِد يثبت بِهِ الْوُجُوب.
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث حميد أخبرنَا عَن الْحسن، قَالَ: خطب ابْن عَبَّاس فِي آخر رَمَضَان على مِنْبَر الْبَصْرَة، فَقَالَ: أخرجُوا صَدَقَة صومكم، فَكَأَن النَّاس لم يعلمُوا، قَالَ: من هَهُنَا من أهل الْمَدِينَة؟ قومُوا إِلَى إخْوَانكُمْ فعلموهم فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ، فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الصَّدَقَة، صَاعا من تمر أَو شعير أَو نصف صَاع قَمح) الحَدِيث. فَإِن قلت: قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: الْحسن لم يسمع ابْن عَبَّاس قلت: جَاءَ فِي (مُسْند أبي يعلى الموصلى) فِي حَدِيث عَن الْحسن، قَالَ: أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس، وَهَذَا أَن ثَبت دلّ على سَمَاعه مِنْهُ، وَقَالَ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بعد أَن رَوَاهُ: لَا نعلم روى الْحسن عَن ابْن عَبَّاس غير هَذَا الحَدِيث، وَلم يسمع الْحسن من ابْن عَبَّاس. قلت: وَلَئِن سلمنَا هَذَا فَالْحَدِيث مُرْسل وَهُوَ حجَّة عندنَا، وَيُؤَيِّدهُ طَرِيق آخر عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء، (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث صَارِخًا بِمَكَّة صَاح: إِن صَدَقَة الْفطر حق وَاجِب مدَّان من قَمح أَو صَاع من شعير أَو تمر) ، وَصَححهُ الْحَاكِم، وَرَوَاهُ الْبَزَّار بِلَفْظ: (أَو صَاع مِمَّا سوى ذَلِك من الطَّعَام) . وَطَرِيق آخر عَن ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْوَاقِدِيّ: حَدثنَا عبد الله بن عمرَان بن أبي أنس عَن أَبِيه عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِزَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير أَو مَدين من قَمح) . وَأعله بالواقدي، فَمَا لِلْوَاقِدِي؟ وَهُوَ إِمَام مَشْهُور وَأحد مَشَايِخ الشَّافِعِي؟ وَطَرِيق آخر عَن ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ. عَن سَلام الطَّوِيل عَن زيد الْعمي عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَدَقَة الْفطر عَن كل صَغِير وكبير ذكر أَو أُنْثَى نصف صَاع من بر) الحَدِيث وَأعله بِسَلام.
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن سَالم بن نوح عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث مناديا يُنَادي فِي فجاج مَكَّة: أَلا إِن صَدَقَة الْفطر وَاجِبَة على كل مُسلم، وَفِيه مدَّان من قَمح) ، وَقَالَ: حسن غَرِيب وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ بسالم بن نوح، قَالَ: قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَتعقبه صَاحب (التَّنْقِيح) فَقَالَ: صَدُوق، روى لَهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق ثِقَة، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان. وَطَرِيق آخر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَليّ بن صَالح عَن ابْن جريج (عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر صائحا فصاح: إِن صَدَقَة الْفطر حق وَاجِب على كل مُسلم مدّان من قَمح) . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: عَليّ بن صَالح ضَعَّفُوهُ قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : هَذَا خطأ مِنْهُ وَلَا نعلم أحدا ضعفه لكنه غير مَشْهُور الْحَال، وَقيل: هُوَ مكي مَعْرُوف، وَهُوَ أحد الْعباد، وكنيته أَبُو الْحسن.
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث آخر رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من طَرِيق ابْن الْمُبَارك أخبرنَا ابْن لَهِيعَة عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر (عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَت: كُنَّا نُؤَدِّي زَكَاة الْفطر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مدّين من قَمح بِالْمدِّ الَّذِي نقتات بِهِ) ، وَضَعفه ابْن الْجَوْزِيّ بِابْن لَهِيعَة. وَقَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : وَحَدِيث ابْن لَهِيعَة يصلح للمتابعة سِيمَا إِذا كَانَ من رِوَايَة إِمَام مثل ابْن الْمُبَارك عَنهُ.
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث آخر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي بكر بن عَيَّاش(9/114)
عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: فِي صَدَقَة الْفطر نصف صَاع من بر أَو صَاع من تمر والْحَارث مَعْرُوف) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالصَّحِيح مَوْقُوف. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي حَدِيث زيد بن ثَابت قَالَ: (خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: من كَانَ عِنْده شَيْء فليتصدق بِنصْف صَاع من بر. .) الحَدِيث، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِيه سُلَيْمَان ابْن أَرقم وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، وَحَدِيث جَابر بن عبد الله رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَدَقَة الْفطر على كل إِنْسَان مدّان من دَقِيق أَو قَمح، وَمن الشّعير صَاع، وَمن الحلو زبيب أَو تمر صَاع صَاع) . وَفِيه اللَّيْث ابْن حَمَّاد وَهُوَ ضَعِيف.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي قَوْله: (أَو صَاعا من شعير أَو صَاعا من تمر) ، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ غير أَن ابْن حزم لم يجوز صَدَقَة الْفطر إلاَّ من الشّعير وَالتَّمْر، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي قَوْله: (أَو صَاعا من أقط) قَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا فِي الأقط، قيل: لَا يجْزِيه لِأَنَّهُ لَا يجب فِيهِ الْعشْر، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الْخلاف فِيهِ فِي أهل الْبَادِيَة أما أهل الْحَضَر فَلَا يجزيهم قولا وَاحِدًا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَقد اختالف فِي قَول الشَّافِعِي فِي الأقط، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (شرح الْعُمْدَة) : قد صَحَّ الحَدِيث بِهِ. وَهُوَ يرد قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَيجْزِي الأقط على الْمَذْهَب وَعِنْدنَا: تجوز صَدَقَة الْفطر بالأقط، وَفِي (التُّحْفَة) : فِي الأقط تعْتَبر الْقيمَة. وَقَالَ مَالك: تجب صَدَقَة الْفطر من تِسْعَة أَشْيَاء، وَهِي: الْقَمْح وَالشعِير والسلت والذرة والدخن والأرز وَالتَّمْر وَالزَّبِيب والأقط، وَزَاد ابْن حبيب: العلس، فَصَارَت عشرَة.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي قَوْله: (أَو صَاعا من زبيب) وَهَذَا أَيْضا لَا خلاف فِيهِ أَن الصَّدَقَة مِنْهُ صَاع، قيل: هَذَا حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ اكْتفى فِي إِخْرَاج الزَّبِيب بِنصْف صَاع، كَمَا قَالَ فِي الْقَمْح. قلت: هَذَا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى صَاع.
الْوَجْه الْخَامِس: احْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور بَعضهم على أَن صَدَقَة الْفطر فَرِيضَة كَالزَّكَاةِ بِظَاهِر اللَّفْظ وَالْجُمْهُور على أَنَّهَا وَاجِبَة، والْحَدِيث يخبر عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَالْوُجُوب ثَبت بدلائل أُخْرَى.
الْوَجْه السَّادِس: أَنه يدل على أَنهم كَانُوا يخرجُون صَدَقَة الْفطر عَن أنفسهم فَلَا يجب إخْرَاجهَا عَن الْجَنِين، واستحبه أَحْمد فِي رِوَايَة، وأوجبه فِي رِوَايَة وَهِي مَذْهَب دَاوُد وَأَصْحَابه، وَرُوِيَ عَن عُثْمَان أَنه كَانَ يُعْطي عَن الْحمل. وَقَالَ أَبُو قلَابَة: كَانُوا يخرجُون عَن الْحمل، وَقد أدْرك الصَّحَابَة. وَفِي (الإِمَام) كَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. يُعْطي صَدَقَة رَمَضَان عَن الْخَيل، وَقَالَ أَبُو قلَابَة: كَانُوا يُعْطون عَن الْخَيل، وَفِي (الوبري) : لَا يجب عَن فرسه وَلَا عَن غَيره من سَائِر الْحَيَوَانَات غير الرَّقِيق، وَمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان وَغَيره مَحْمُول على التَّطَوُّع، وَالله أعلم.
47 - (بابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعا منْ تَمْرٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن صَدَقَة الْفطر صَاع من تمر، هَذَا التَّقْدِير على كَون لفظ الْبَاب مُضَافا إِلَى صَدَقَة الْفطر، وَإِذا قطع عَن الْإِضَافَة يكون صَدَقَة الْفطر مُبْتَدأ أَو خَبره قَوْله: صَاع، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب صَدَقَة الْفطر صَاعا، بِالنّصب، وَقد ذكرنَا وَجهه فِي: بَاب صَدَقَة الْفطر صَاعا من شعير.
7051 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ نَافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله قَالَ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَكَاةِ الفِطْرِ صَاعا مِنْ تَمْرٍ أوْ صَاعا منْ شَعِيرٍ قَالَ عَبْدُ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنُ حِنْطَةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من تمر) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَاللَّيْث عنعن هُنَا، وسماعه من نَافِع صَحِيح، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَآخَرين من طَرِيق يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن كثير بن فرقد عَن نَافِع وَزَاد فِيهِ: (من الْمُسلمين) ، فَدلَّ على أَن اللَّيْث سَمعه من نَافِع بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة، وَمن كثير بن فرقد عَنهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة.
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
قَوْله: (أَمر) اسْتدلَّ بِهِ على وجوب صَدَقَة الْفطر، قَالَ بَعضهم: فِيهِ(9/115)
نظر لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بالمقدار لَا بِأَصْل الْإِخْرَاج. قلت: إِذا كَانَ الْمِقْدَار وَاجِبا فبالضرورة يدل على وجوب الأَصْل لِأَن وجوب الْمِقْدَار مَبْنِيّ عَلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ عبد الله) أَي: عبد الله بن عمر. قَوْله: (فَجعل النَّاس) أَرَادَ بِهِ مُعَاوِيَة وَمن تبعه، وَوَقع ذَلِك صَرِيحًا فِي حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع أخرجه الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، حَدثنَا أَيُّوب وَلَفظه: (صَدَقَة الْفطر صَاع من شعير أَو صَاع من تمر، قَالَ ابْن عمر: فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَة عدل النَّاس نصف صَاع بر بِصَاع من شعير) وَهَكَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من وَجه آخر عَن سُفْيَان، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا الْهَيْثَم بن خَالِد الْجُهَنِيّ، حَدثنَا حُسَيْن بن عَليّ الْجعْفِيّ عَن زَائِدَة حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن أبي دَاوُد (عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، قَالَ: كَانَ النَّاس يخرجُون صَدَقَة الْفطر على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَاعا من شعير أَو تمر أَو سلت أَو زبيب، قَالَ عبد الله: فَلَمَّا كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَثُرت الْحِنْطَة جعل عمر نصف صَاع حِنْطَة مَكَان صَاع من تِلْكَ الْأَشْيَاء) . وَقَالَ مُسلم فِي (كتاب التَّمْيِيز) . عبد الْعَزِيز وهم فِيهِ وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ بِهِ، وَقَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : وَعبد الْعَزِيز هَذَا، وَإِن كَانَ ابْن حبَان تكلم فِيهِ، فقد وَثَّقَهُ يحيى الْقطَّان وَابْن معِين وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَغَيرهم، والموثقون لَهُ أعرف من المضعفين، وَقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ اسْتِشْهَادًا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن طَارق، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن أَيُّوب عَن يُونُس بن يزِيد أَن نَافِعًا أخبرهُ قَالَ: (قَالَ عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: فرض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير على كل إِنْسَان ذكر أَو أُنْثَى حر أَو عبد من الْمُسلمين) ، وَكَانَ عبد الله بن عمر يَقُول: جعل النَّاس عدله مَدين من حِنْطَة، فَقَوْل ابْن عمر: جعل النَّاس عدله مَدين من حِنْطَة إِنَّمَا يُرِيد أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي يجوز تعديلهم وَيجب الْوُقُوف عِنْد قَوْلهم، فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَن عمر مثل ذَلِك فِي كَفَّارَة الْيَمين أَنه قَالَ ذَلِك، فأطعم عني عشرَة مَسَاكِين كل مِسْكين نصف صَاع من بر أَو صَاعا من تمر أَو شعير، ويروى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مثل ذَلِك مَعَ أَنه قد رُوِيَ عَن عمر وَعَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَيْضا، وَعَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي صَدَقَة الْفطر أَنَّهَا من الْحِنْطَة نصف صَاع. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عبد الله بن مُسلم حَدثنَا دَاوُد يَعْنِي ابْن قيس عَن عِيَاض بن عبد الله عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: كُنَّا نخرج، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زَكَاة الْفطر عَن كل صَغِير وكبير حر أَو مَمْلُوك صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من أقط أَو صَاعا من شعير أَو صَاعا من تمر أَو صَاعا من زبيب، فَلم نزل نخرجهُ حَتَّى قدم مُعَاوِيَة حَاجا أَو مُعْتَمِرًا فَكلم النَّاس على الْمِنْبَر فَكَانَ فِيمَا كلم النَّاس أَن قَالَ: إِنِّي أرى مَدين من سمراء الشَّام تعدل صَاعا من تمر، فَأخذ بذلك النَّاس، فَقَالَ أَبُو سعيد: فَأَما أَنا فَلَا أَزَال أخرجه أبدا مَا عِشْت) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث مُعْتَمد أبي حنيفَة، قَالَ بِأَنَّهُ فعل صَحَابِيّ، وَقد خَالفه أَبُو سعيد وَغَيره من الصَّحَابَة مِمَّن هُوَ أطول صُحْبَة مِنْهُ وَأعلم بِحَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أخبر مُعَاوِيَة بِأَنَّهُ رَأْي رَآهُ، لَا قَول سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قُلْنَا: إِن قَوْله: فعل صَحَابِيّ، لَا يمْنَع لِأَنَّهُ قد وَافقه غَيره من الصَّحَابَة الجم الْغَفِير بِدَلِيل قَوْله فِي الحَدِيث: فَأخذ النَّاس بذلك، وَلَفظ النَّاس للْعُمُوم، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلَا تضر مُخَالفَة أبي سعيد لذَلِك بقوله: أما أَنا فَلَا أَزَال أخرجه، لِأَنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع، سِيمَا إِذا كَانَ فِيهِ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، أَو نقُول: أَرَادَ الزِّيَادَة على قدر الْوَاجِب تَطَوّعا. قَوْله: (من سمراء الشَّام) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَبعدهَا رَاء ممدودة، وَهُوَ الْبر الشَّامي، وينطلق على كل بر. قَوْله: (عدله) ، بِفَتْح الْعين وَكسرهَا، قَالَه الْكرْمَانِي، وَالْأَظْهَر أَنه بِالْكَسْرِ أَي: نَظِيره. وَقَالَ الْأَخْفَش: الْعدْل، بِالْكَسْرِ الْمثل، وبالفتح مصدر عدلته بِهَذَا، وَقَالَ الْفراء، بِالْفَتْح مَا عَادل الشَّيْء من غير جنسه، وبالكسر: الْمثل. قَوْله: (مَدين) ، تَثْنِيَة مدّ، وَهُوَ ربع الصَّاع.
57 - (بابُ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ)
أَي: هَذَا بَاب قَوْله: (صاعٌ) ، مُبْتَدأ، وَقَوله: (من زبيب) صفته أَي: صَاع كَائِن من زبيب، وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: صَاع من زبيب فِي صَدَقَة الْفطر مجزىء، وَلما كَانَ حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مُشْتَمِلًا على خَمْسَة أَصْنَاف وضع لكل صنف تَرْجَمَة، غير الأقط تَنْبِيها على جَوَاز التَّخْيِير بَين هَذِه الْأَشْيَاء فِي دفع الصَّدَقَة، وَلم يذكر الأقط كَأَنَّهُ لَا يرَاهُ مجزئا عِنْد وجود غَيره، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَحْمد.(9/116)
8051 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزيدَ العَدَنِيِّ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ قَالَ حدَّثني عِيَاضُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أبي سَرْحٍ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا مِنْ طَعَام أوْ صَاعا مِنْ تَمْرٍ أَو صَاعا مِنْ شَعِيرٍ أوْ صَاعا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمَّا جاءَ مُعَاوِيَةُ وَجاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ أُرَي مُدَّا مِنْ هاذا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو صَاعا من زبيب) ، وَعبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون وبالراء، مر فِي: بَاب الْوضُوء، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حَكِيم، بِفَتْح الْحَاء: الْعَدنِي، بالمهملتين المفتوحتين وبالنون، مَاتَ سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
قَوْله: (عَن أبي سعيد) ، وَقد تقدم من رِوَايَة مَالك بِلَفْظ: إِنَّه سمع أَبَا سعيد. قَوْله: (كُنَّا نعطيها) أَي: صَدَقَة الْفطر. قَوْله: (فِي زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، هَذَا حكمه حكم الرّفْع لِإِضَافَتِهِ إِلَى زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه إِشْعَار بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اطلع على ذَلِك وَقَررهُ لَهُ خُصُوصا فِي هَذِه الصُّورَة الَّتِي كَانَت تُوضَع عِنْده وَتجمع بأَمْره، وَهُوَ الْآمِر بقبضها وتفريقها. قَوْله: (صَاعا من طَعَام) ، قَالَ الْخطابِيّ: المُرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا: الْحِنْطَة، وَأَنه اسْم خَاص لَهُ، وَيسْتَعْمل فِي الْحِنْطَة عِنْد الْإِطْلَاق حَتَّى إِذا قيل: إذهب إِلَى سوق الطَّعَام، فهم مِنْهُ سوق الْقَمْح، وَإِذا غلب الْعرف نزل اللَّفْظ عَلَيْهِ، ورد عَلَيْهِ ابْن الْمُنْذر: بِأَن هَذَا غلط مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن أَبَا سعيد أجمل الطَّعَام ثمَّ فسره، ثمَّ أكد كَلَامه بِمَا رَوَاهُ حَفْص بن ميسرَة عَن زيد عَن عِيَاض على مَا يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب وَفِيه: (وَكَانَ طعامنا الشّعير وَالزَّبِيب والأقط وَالتَّمْر) . قلت: وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق فُضَيْل بن غَزوَان عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: لم تكن الصَّدَقَة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا التَّمْر وَالزَّبِيب وَالشعِير وَلم تكن خَاصَّة وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أَيْضا: لَا نعلم فِي الْقَمْح خَبرا ثَابتا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعْتَمد عَلَيْهِ، وَلم يكن الْبر بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِك الْوَقْت إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير مِنْهُ، فَلَمَّا كثر فِي زمن الصَّحَابَة رَأَوْا أَن نصف صَاع مِنْهُ يقوم مقَام صَاع من شعير، وهم الْأَئِمَّة، فَغير جَائِز أَن يعدل عَن قَوْلهم إلاَّ إِلَى قَول مثلهم، ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن عُثْمَان وَعلي وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأمه أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بأسانيد صَحِيحَة: أَنهم رَأَوْا أَن فِي زَكَاة الْفطر نصف صَاع من قَمح، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن حَدِيث أبي سعيد دَال على أَنه لم يُوَافق على ذَلِك، وَكَذَلِكَ ابْن عمر، فَلَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة، خلافًا للطحاوي.
قلت: روى الطَّحَاوِيّ أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن أَصْحَابه من بعده وَعَن تابعيهم من بعدهمْ فِي: أَن صَدَقَة الْفطر من الْحِنْطَة نصف صَاع، وَمِمَّا سوى الْحِنْطَة صَاع، ثمَّ قَالَ: مَا علمنَا أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولامن التَّابِعين روى عَنهُ خلاف ذَلِك، فَلَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُخَالف ذَلِك، إِذْ كَانَ قد صَار إِجْمَاعًا فِي زمن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِلَى زمن من ذكرنَا من التَّابِعين، وَكَانَ قد ذكر: النخعيّ ومجاهدا وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحكم ابْن عينة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، ونهض هَذَا الْقَائِل فَقَالَ: فَلَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة خلافًا للطحاوي، وَسَنَده فِي هَذَا هُوَ أَن أَبَا سعيد وَابْن عمر لم يوافقا على ذَلِك. قلت: أما أَبُو سعيد فَإِنَّهُ لم يكن يعرف فِي الْفطْرَة إلاَّ التَّمْر وَالشعِير والأقط وَالزَّبِيب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي رِوَايَة: (كُنَّا نخرج على عهد(9/117)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير) الحَدِيث، (لَا نخرج غَيره) فَإِن قلت: فِي رِوَايَته الْأُخْرَى: (كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر صَاعا من طَعَام؟) قلت: قد بيّنت فِيمَا مضى أَن الطَّعَام اسْم لما يطعم مِمَّا يُؤْكَل ويقتات، فَيتَنَاوَل الْأَصْنَاف الَّتِي ذكرهَا فِي حَدِيثه. وَجَوَاب آخر: أَن أَبَا سعيد إِنَّمَا أنكر على مُعَاوِيَة على إِخْرَاجه الْمَدِين من الْقَمْح لِأَنَّهُ مَا كَانَ يعرف الْقَمْح فِي الْفطْرَة، وَكَذَلِكَ مَا نقل عَن ابْن عمر. وَجَوَاب آخر: أَن أَبَا سعيد كَانَ يخرج النّصْف الآخر تَطَوّعا، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: أما من جعل نصف صَاع فِيهَا بدل صَاع من شعير فقد فعل ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد مَا كَانَ عَلَيْهِ من شدَّة الإتباع والتمسك بالآثار وَترك الْعُدُول إِلَى الِاجْتِهَاد مَعَ وجود النَّص. قلت: مَعَ وجود الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة أَن الصَّدَقَة من الْحِنْطَة نصف صَاع، كَيفَ يكون الِاجْتِهَاد؟ وَأَبُو سعيد هُوَ الَّذِي اجْتهد حَتَّى جعل الطَّعَام برا، مَعَ قَوْله: (كُنَّا نخرج على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير. .) الحَدِيث، وَلَا نخرج غَيره، وَمَعَ مُخَالفَته الْآثَار الَّتِي فِيهَا نصف صَاع من بر، كَيفَ ترك الْعُدُول إِلَى الِاجْتِهَاد؟ وَقَوله: مَعَ وجود النَّص غير مُسلم، لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده نَص غير صَاع من طَعَام، وَلم يكن عِنْده نَص صَرِيح على أَن الصَّدَقَة من الْبر صَاع؟ فَإِن قلت: كَيفَ تَقول: وَلم يكن عِنْده نَص صَرِيح على أَن الصَّدَقَة من الْبر صَاع؟ وَقد روى الْحَاكِم حَدِيثه، وَفِيه: (أَو صَاعا من حِنْطَة؟) قلت: ذكر ابْن خُزَيْمَة أَن ذكر الْحِنْطَة فِي هَذَا الْخَبَر غير مَحْفُوظ، وَلَا أَدْرِي مِمَّن الْوَهم. وَقَول الرجل لَهُ: أَو مَدين من قَمح، دَال على أَن ذكر الْحِنْطَة فِي أول الْخَبَر خطأ وَوهم، إِذْ لَو كَانَ صَحِيحا لم يكن لقَوْله: أَو مَدين من قَمح، معنى. وَقد عرف تساهل الْحَاكِم فِي تَصْحِيح الْأَحَادِيث المدخولة، وَكَذَلِكَ أَشَارَ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) أَن هَذَا لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَقد ذكرنَا هَذَا فِيمَا مضى مفصلا.
67 - (بابُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن صَدَقَة الْفطر قبل خُرُوج النَّاس إِلَى صَلَاة الْعِيد، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن وَقت وجوب صَدَقَة الْفطر عِنْد أبي حنيفَة بِطُلُوع الْفجْر يَوْم الْفطر، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَمَالك فِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم وَابْن وهب وَغَيرهمَا، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: تجب بآخر جُزْء من لَيْلَة الْفطر وَأول جُزْء من يَوْم الْفطر. وَفِي رِوَايَة أَشهب: تجب بغروب الشَّمْس من لَيْلَة الْفطر، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَكَانَ قَالَ فِي الْقَدِيم بِبَغْدَاد: إِنَّمَا تجب بِطُلُوع فجر يَوْم الْفطر، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، رَحمَه الله تَعَالَى، وَمَعَ هَذَا كُله يسْتَحبّ أَن يُخرجهَا قبل ذَهَابه إِلَى صَلَاة الْعِيد، دلّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب.
9051 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا حَفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسى ابنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَ بِزَكاةِ الفِطْرِ قَبْلَ خُروجِ النَّاسِ إلَى الصَّلاَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من التَّقْرِير الَّذِي ذكرنَا عِنْدهَا.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: آدم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَحَفْص ابْن ميسرَة ضد الميمنة أَبُو عمر بِدُونِ الْوَاو الصَّنْعَانِيّ نزل الشَّام، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة.
وَأخرجه مُسلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن يحيى، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي. وَالتِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، فِيهِ عَن مُسلم بن عمر. وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن معدان وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيع.
قَوْله: (أَمر) ، ظَاهره يَقْتَضِي وجوب الْأَدَاء قبل صَلَاة الْعِيد، وَلكنه مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب، وَذَلِكَ ليحصل الْغناء للْفُقَرَاء فِي هَذَا الْيَوْم ويستريحون عَن الطّواف. وَوَقع فِي حَدِيث أخرجه ابْن سعد عَن ابْن عمر قَالَ: (إغنوهم) ، يَعْنِي: الْمَسَاكِين، (عَن طواف هَذَا الْيَوْم) . وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ فِي (الْعَارِضَة) : وَفِي كتاب مُسلم: (فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَة الْفطر على النَّاس وَقَالَ: إغنوهم عَن سُؤال هَذَا الْيَوْم) ، وَقَالَ: هَذَا قوى فِي الْأَثر، وَلكنه وهم فِي عزوه لمُسلم، وَهَذَا لم يُخرجهُ مُسلم أصلا، وَإِنَّمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ. وَيسْتَحب إخْرَاجهَا يَوْم الْفطر قبل الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالقَاسِم وَمُسلم بن يسَار وَأبي نَضرة وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالْحكم بن عُيَيْنَة ومُوسَى بن وردان وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأهل كوفة، وَلم يحك التِّرْمِذِيّ فِيهِ خلافًا لما أخرج هَذَا الحَدِيث، وَحكى الْخطابِيّ الْإِجْمَاع فِيهِ، فَقَالَ فِي (معالم السّنَن) : وَهُوَ قَول عَامَّة أهل الْعلم، وَنقل الِاتِّفَاق فِي اسْتِحْبَاب إخْرَاجهَا فِي الْوَقْت الْمَذْكُور. أما جَوَاز تَقْدِيمهَا عَلَيْهِ وتأخيرها عَنهُ، فَالْخِلَاف فِيهِ مَشْهُور، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى.
0151 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو عُمَرَ عنْ زَيْدٍ عنْ عَيَاضِ بنِ عَبْدِ الله بنِ سَعْدٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَومَ الفِطْرِ صَاعا مِنْ طَعامٍ. وَقَالَ أبُو سَعيدٍ وكانَ طَعَامنا الشَّعيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأقِطُ وَالتَّمْرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يَوْم الْفطر) ، وَلَكِن لَا يدل على إخْرَاجهَا قبل الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة صَرِيحًا، كَمَا(9/118)
فِي حَدِيث ابْن عمر السَّابِق. ومعاذ، بِضَم الْمِيم: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَقد مر فِي الصَّلَاة. وَأَبُو عمر، بِضَم الْعين: هُوَ حَفْص بن ميسرَة وَقد مر الْآن، وَزيد هُوَ زيد بن أسلم وَقد مر عَن قريب.
قَوْله (وَكَانَ طعامنا الشّعير) يدل صَرِيحًا على أَن المُرَاد من قَوْله: (صَاعا من طَعَام) أَنه أحد الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (قَالَ أَبُو سعيد) منافٍ لما تقدم من قَوْلك: إِن الطَّعَام هُوَ الْحِنْطَة، ثمَّ أجَاب عَن هَذَا نصْرَة لمذهبه بقوله: لَا نزاع فِي أَن الطَّعَام بِحَسب اللُّغَة عَام لكل مطعوم، إِنَّمَا الْبَحْث فِيمَا يعْطف عَلَيْهِ الشّعير وَسَائِر الْأَطْعِمَة، فَإِن الْعَطف قرينَة لإِرَادَة الْمَعْنى الْعرفِيّ مِنْهُ، وَهُوَ الْبر بِخُصُوصِهِ. قلت: لَا نسلم أَن معنى هَذَا الْعَطف هُوَ الَّذِي قَالَه، بل هَذَا الْعَطف يدل على أَن الطَّعَام الَّذِي ذكره أَبُو سعيد هُوَ أحد الْأَصْنَاف الَّتِي ذكرهَا فِيهِ، لِأَنَّهُ مثل التَّفْسِير لما قبله، وَالْأَصْل اسْتِعْمَال الْأَلْفَاظ فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: لِمَ لَا يكون من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام نَحْو: {فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 86) . وَأجَاب بِأَن هَذَا الْعَطف إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا كَانَ الْخَاص أشرف، وَهَذَا بعكس ذَلِك. قلت: لَا نسلم دَعْوَى عكس الأشرفية فِيمَا نَحن فِيهِ، وَلَا يَخْلُو هَذَا أما من حَيْثُ اللُّغَة أَو الشَّرْع أَو الْعرف، وكل مِنْهَا منتفٍ، أما اللُّغَة فَلَيْسَ فِيهَا ذَلِك، وَأما الشَّرْع فَعَلَيهِ الْبَيَان فِيهِ، وَأما الْعرف فَهُوَ مُشْتَرك. فَافْهَم.
77 - (بابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الحُرِّ وَالمَمْلُوكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر على الْحر والمملوك، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن الْحر والمملوك يستويان فِي صَدَقَة الْفطر، لَكِن بَينهمَا فرق فِي جِهَة الْوُجُوب، لِأَن الْحر تجب على نَفسه والمملوك على سَيّده، وَلَكِن فِيهِ أَيْضا فرق وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ للْخدمَة تجب على سَيّده، وَإِن كَانَ للتِّجَارَة فَلَا تجب خلافًا للشَّافِعِيّ. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: إِذا كَانَ: قُلْنَا بقول الْجُمْهُور، أَن صَدَقَة الْفطر على سيد العَبْد لَا على العَبْد، فَهَل وَجَبت على السَّيِّد ابْتِدَاء أَو وَجَبت على العَبْد وتحملها السَّيِّد بالانتقال عَنهُ؟ قَالَ الرَّوْيَانِيّ: ظَاهر الْمَذْهَب هُوَ الأول. قَالَ الإِمَام: وَذكر طَائِفَة من الْمُحَقِّقين أَن هَذَا الْخلاف فِي فطْرَة الزَّوْجَة، وَأما فطْرَة العَبْد فَتجب على السَّيِّد ابْتِدَاء بِلَا خلاف، وَتجب على السَّيِّد سَوَاء كَانَ العَبْد مَرْهُونا أَو مُسْتَأْجرًا أَو خائنا أَو ضَالًّا أَو مَغْصُوبًا أَو آبقا، لِأَن ملكه لَا يَنْقَطِع بذلك. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم أَن لَا صَدَقَة على الذِّمِّيّ عَن عَبده الْمُسلم، وَكَذَا ذكر فِي (الْمُحِيط) لِأَن الْفطْرَة زَكَاة فَلَا تجب على الْكَافِر زَكَاة، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: تجب عَلَيْهِ إِن كَانَ لَهُ مَال، لِأَن العَبْد يملك عِنْده، وَإِن كَانَ عَبده آبقا أَو مأسورا أَو مَغْصُوبًا مجحودا لَا تجب هَكَذَا فِي (الْبَدَائِع) و (الْيَنَابِيع) وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر، وَعَن أبي حنيفَة: تجب فِي الْآبِق، وَبِه قَالَ عَطاء وَالثَّوْري، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: تجب إِن كَانَ فِي دَار الْإِسْلَام، وَفِي الْمَرْهُون على الْمَشْهُور إِن فضل لَهُ بعد الدّين تجب، وَعَن أبي يُوسُف: لَا تجب حَتَّى يفتكه وَإِن هلك قبله، وَلَا صَدَقَة على الرَّاهِن بِخِلَاف عَبده الْمُسْتَغْرق بِالدّينِ، وَالَّذِي فِي رقبته جِنَايَة. قَالَ أَبُو يُوسُف: ورقيق الأحباس ورقيق القوام الَّذين يقومُونَ على زَمْزَم ورقيق الْفَيْء وَالْغنيمَة والسبي والأسر قبل الْقِسْمَة لَا فطْرَة فيهم، وَالْعَبْد الْمُوصى بِرَقَبَتِهِ لإِنْسَان وبخدمته لآخر تجب على الْمُوصى لَهُ بِالرَّقَبَةِ دون الْخدمَة، كَالْعَبْدِ الْمُسْتَعَار. وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: تجب على مَالك الْخدمَة، وَتجب عَن عبيد العبيد، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك: لَا شَيْء فيهم. وَفِي مُعتق الْبَعْض أَقْوَال سِتَّة. الأول: لَا شَيْء فِيهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّانِي: تجب على الْمُعْتق لِأَن لَهُ أَن يعتقهُ كُله إِن كَانَ لَهُ مَال، وَهُوَ قَوْلهمَا لِأَنَّهُ حر عِنْدهمَا، وَالثَّالِث: يُؤَدِّي الْمَالِك نصف صَدَقَة فطره، وَلَا شَيْء على العَبْد فِيمَا عتق. وَالرَّابِع: تجب عَلَيْهِمَا صَدَقَة كَامِلَة إِذا ملكا فضلا عَن قوتهما، قَالَه أَبُو ثَوْر وَالشَّافِعِيّ. وَالْخَامِس: يُؤَدِّي الَّذِي يملك نصِيبه صَدَقَة كَامِلَة، وَهُوَ قَول ابْن الْمَاجشون. وَالسَّادِس: على سَيّده بِقدر مَا يملكهُ، وَفِي ذمَّة الْمُعْتق بِقدر حُرِّيَّته، فَإِن لم يكن لَهُ مَال يزكّى سَيّده كُله.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي المَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ يُزَكَّى فِي التِّجَارَةِ ويُزَكَّى فِي الفِطْرِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، الزُّهْرِيّ وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَهَذَا التَّعْلِيق وصل بعضه أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال)(9/119)
وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب قَالَ: لَيْسَ على الْمَمْلُوك زَكَاة، وَلَا يُزكي عَنهُ سَيّده إِلَّا زَكَاة الْفطر قَوْله: للتِّجَارَة، يجوز أَن يكون للْحَال، وَأَن يكون صفة أَي فِي المملوكين المعدين للتِّجَارَة، فعلى الأول مَحَله النصب وعَلى الثَّانِي الْجَرّ. قَوْله: (يزكّى) ، أَي: يُؤَدِّي الزَّكَاة فِي مماليك التِّجَارَة من جِهَتَيْنِ، فَفِي رَأس الْحول تجب زَكَاة قيمتهم، وَفِي صَدَقَة الْفطر زَكَاة بدنهم.
1151 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ فرَضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ أوْ قَالَ رَمَضَان علَى الذَّكرِ وَالأنْثى وَالحُرِّ والمَمْلُوكِ صَاعا مِنْ تَمْرٍ أوْ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ فعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صاعٍ مِنْ بُرٍّ فكانَ ابنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُعْطِي التَّمْرَ فأعْوَزَ أهْلُ المَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ فأعْطى شَعِيرا فكانَ ابنُ عُمَرَ يُعْطِي عَن الصَّغِيرِ والكَبِيرِ حَتَّى كانِ يُعْطي عنْ بَنِيَّ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُعْطِيها الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا وكانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيومٍ أوْ يَوْمَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والمملوك) ، وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد مضى الْكَلَام فِي صدر الحَدِيث فِيمَا مضى عَن قريب.
قَوْله: (فَعدل النَّاس) أَي: مُعَاوِيَة وَمن كَانَ مَعَه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (النَّاس) أَي: مُعَاوِيَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: التَّخْصِيص بِهِ خلاف الظَّاهِر، فَيكون المُرَاد بِهِ الصَّحَابَة فَيصير إِجْمَاعًا سكوتيا. ثمَّ قَالَ: قلت: الأَصْل فِي: اللَّام، أَن تكون للْجِنْس الصَّادِق على الْقَلِيل وَالْكثير والاستغراق مجَازًا. انْتهى. قلت: هَذَا تعسف، فَلَو قَالَ من الأول مثل مَا قُلْنَا مَا كَانَ يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّطْوِيل، مَعَ أَن قَوْله الأَصْل فِي: اللَّام، أَن تكون للْجِنْس لَيْسَ كَذَلِك، بل الأَصْل فِي اللَّام أَن تكون للْعهد كَمَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ. قَوْله: (فَكَانَ ابْن عمر يُعْطي التَّمْر) وَفِي رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع: (كَانَ ابْن عمر لَا يخرج إِلَّا التَّمْر فِي زَكَاة الْفطر إلاَّ مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ أخرج شَعِيرًا) . وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب: (كَانَ ابْن عمر إِذا أعْطى أعْطى التَّمْر إلاَّ عَاما وَاحِدًا) . قَوْله: (فأعوز) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالزَّاي: أَي: احْتَاجَ. تَقول: أعوزني الشَّيْء إِذا احتجت إِلَيْهِ وَلم تقدر عَلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: فأعوز بِلَفْظ الْمَعْرُوف والمجهول: يُقَال: أعوزه الشَّيْء إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ فَلم يقدر عَلَيْهِ، وعوز الشَّيْء إِذا لم يُوجد، وأعوز أَي: افْتقر. قَوْله: (حَتَّى أَن كَانَ) قَالَ الْكرْمَانِي مَا محصله: إِنَّه روى: ان، بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، وَشرط المخففة الْمَكْسُورَة، اللَّام، وَشرط الْمَفْتُوحَة: قد، وَنَحْوه وَقد يكون وَاحِد مِنْهُمَا مُقَدرا، أَو أَن: ان، مَصْدَرِيَّة و: كَانَ، زَائِدَة. قلت: هَذَا تعسف، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: أَن، مُخَفّفَة من المثقلة، وَأَصله حَتَّى إِنَّه، كَانَ، أَي: حَتَّى أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ يُعْطي. قَوْله: (بني) أَصله بنُون لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم صَار: بنيي، بياءين فأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: بني، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: بني هُوَ قَول نَافِع يَعْنِي: كَانَ ابْن عمر يُعْطي عَن أَوْلَادنَا وهم موَالِي عبد الله وَفِي نَفَقَته، فَكَانَ يُعْطي عَنْهُم الْفطْرَة. قلت: قَوْله: (بني) هُوَ قَول نَافِع، لَيْسَ قَول نَافِع لفظ بني فَقَط، وَإِنَّمَا قَوْله من قَوْله: (فَكَانَ ابْن عمر. .) إِلَى آخر الحَدِيث من كَلَام نَافِع، قَوْله: (وَكَانَ ابْن عمر يُعْطِيهَا الَّذين يقبلونها) ، وهم الَّذين ينصبهم الإِمَام لقبض الزكوات، وَقيل: مَعْنَاهُ من قَالَ: أَنا فَقير، وَقَالَ بَعضهم: الأول أظهر. قلت: بل الثَّانِي أظهر على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَكَانُوا) أَي: النَّاس، يعطونها أَي: صَدَقَة الْفطر، قبل الْفطر: أَي يَوْم الْفطر، بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: صَدَقَة الْفطر من التَّمْر وَالشعِير صَاع، وَفِيه: أَنهم عدلوا الصَّاع من التَّمْر بِنصْف صَاع من الْبر، فَأَعْطوهُ، وَهُوَ حجَّة للحنفية من أَن صَدَقَة الْفطر من الْبر نصف صَاع. وَفِيه: أَن الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر وَالْعَبْد سَوَاء فِي الْفطْرَة. وَفِيه: جَوَاز تَقْدِيم صَدَقَة الْفطر قبل يَوْم الْفطر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ. وَفِيه: قَالَ ابْن بطال: لَا يجوز إلاَّ أَن يُعْطي من قوته، لِأَن التَّمْر كَانَ بِهِ جلّ عيشهم، فحين لم يَجدوا كَانُوا أعْطوا الشّعير. وَفِيه: أَن أَي من قَالَ: أَنا فَقير فأقبلها يُعْطِيهِ وَلَا يسْأَل عَن حَقِيقَة فقره.(9/120)
87 - (بابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ والكَبِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر على الصَّغِير وَالْكَبِير، قيل: هَذِه التَّرْجَمَة تكْرَار. قلت: فِيهِ التَّنْبِيه على أَن الصَّغِير وَالْكَبِير سَوَاء فِي صَدَقَة الْفطر، غير أَن الْجِهَة مُخْتَلفَة على مَا لَا يخفى.
2151 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ فرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدَقَةَ الفِطْرِ صَاعا مِن شَعيرٍ أوْ صَاعا مِن تَمْرٍ عَلى الصَّغِيرِ والكَبيرِ والحُرِّ والمَمْلُوكِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على الصَّغِير وَالْكَبِير) ، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله، بِضَم الْعين بتصغير العَبْد: ابْن عمر الْعمريّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُسَدّد نَحوه، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ سعيد الجُمَحِي عَن عبيد الله عَن نَافِع قَالَ فِيهِ: (من الْمُسلمين) ، وَالْمَشْهُور عَن عبد الله لَيْسَ فِيهِ: (من الْمُسلمين) . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل: (وَالذكر وَالْأُنْثَى) . وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ قد مرت غير مرّة. وَالله أعلم، وَالْحَمْد لله وَحده.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
52 - (كِتَابُ الحَجِّ)
هَذَا كتاب فِي بَيَان الْحَج، وَقد ذكرنَا أول الْكتاب أَن الْكتاب يشْتَمل الْأَبْوَاب، والأبواب تَشْمَل الْفُصُول، وَلم يَقع فِي تَرْتِيب البُخَارِيّ الْفُصُول، وَإِنَّمَا يُوجد فِي بعض الْمَوَاضِع لَفْظَة: بَاب، مُجَردا وَيُرِيد بِهِ الْفَصْل عَمَّا قبله، لكنه من جنسه كَمَا ستقف عَلَيْهِ فِي أثْنَاء الْكتاب.
وَالْكَلَام هُنَا على أَنْوَاع.
الأول: ذكر كتاب الْحَج عقيب كتاب الزَّكَاة، وَكَانَ الْمُنَاسب ذكر كتاب الصَّوْم عقيب كتاب الزَّكَاة، كَمَا قدمه ابْن بطال على كتاب الْحَج كَمَا وَقع فِي الْخمس الَّذِي بني الْإِسْلَام عَلَيْهَا، وَلَكِن لما كَانَ لِلْحَجِّ اشْتِرَاك مَعَ الزَّكَاة فِي كَونهمَا عبَادَة مَالِيَّة ذكره عقيب الزَّكَاة. فَإِن قلت: فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر الصَّوْم عقيب الصَّلَاة لِأَن كلا مِنْهُمَا عبَادَة بدنية. قلت: نعم، كَانَ الْقيَاس يَقْتَضِي ذَلِك وَلَكِن ذكرت الزَّكَاة عقيب الصَّلَاة لِأَنَّهَا ثَانِيَة الصَّلَاة وثالثة الْإِيمَان فِي الْكتاب وَالسّنة.
النَّوْع الثَّانِي: أَنه قد وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: كتاب الْمَنَاسِك، كَمَا وَقع هَكَذَا فِي (صَحِيح مُسلم) وَوَقع فِي كتاب الطَّحَاوِيّ: كتاب مَنَاسِك الْحَج، وَهُوَ جمع منسك، بِفَتْح السِّين وَكسرهَا وَهُوَ المتعبد، وَيَقَع على الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان، ثمَّ سميت أُمُور الْحَج كلهَا مَنَاسِك، والمنسك: المذبح، وَقد نسك ينْسك نسكا إِذا ذبح، والنسيكة الذَّبِيحَة، وَجَمعهَا نسك، والنسك أَيْضا الطَّاعَة وَالْعِبَادَة، وكل مَا تقرب بِهِ إِلَى الله، عز وَجل، والنسك مَا أمرت بِهِ الشَّرِيعَة والورع وَمَا نهت عَنهُ. والناسك العابد، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الناسك مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ مَأْخُوذ من النسيكة، وَهِي سبيكة الْفضة المصفاة، كَأَن الناسك صفي نَفسه لله تَعَالَى.
النَّوْع الثَّالِث فِي معنى الْحَج لُغَة وَشرعا أما لغةٍ: فَمَعْنَاه الْقَصْد، من حججْت الشَّيْء أحجه حجا إِذا قصدته. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وأصل الْحَج من قَوْلك: حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى. فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه كل سنة، وَمِنْه قَول المخبل السَّعْدِيّ:
(واشهد من عَوْف حلولاً كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا)
يَقُول: يأتونه مرّة بعد أُخْرَى لسؤدده وسبه: عمَامَته، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : السب الثَّوْب الرَّقِيق، وَقيل: غلالة رقيقَة يمنية، والزبرقان، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء وبالقاف المخففة وَفِي آخِره نون: وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم الْقَمَر، ولقب بِهِ الْحصين لصفرة عمَامَته. وَأما شرعا: الْحَج قصد إِلَى زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام على وَجه التَّعْظِيم بِأَفْعَال مَخْصُوصَة، وَسَببه الْبَيْت، لِأَنَّهُ يُضَاف إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يجب فِي الْعُمر إلاَّ مرّة وَاحِدَة لعدم تكْرَار السب، وَالْحج، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا. وَقَالَ الزّجاج:(9/121)
يقْرَأ بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، يَعْنِي: فِي الْقُرْآن، وَالْأَصْل الْفَتْح. قلت: قرىء بهما فِي السَّبْعَة وَأَكْثَرهم على الْفَتْح. وَفِي (أمالي الهجري) أَكثر الْعَرَب يكسرون الْحَاء فَقَط، وَقَالَ ابْن السّكيت: بِفَتْح الْحَاء: الْقَصْد، وبالكسر: الْقَوْم الْحجَّاج، وَالْحجّة، بِالْفَتْح: الفعلة من الْحَج، وبكسر الْحَاء: التَّلْبِيَة والإجابة. قلت: يُقَال فِي الفعلة بِالْفَتْح الْمرة، وبالكسر الْحَالة، والهيأة، والحاج الَّذِي يحجّ، وَرُبمَا يظهرون التَّضْعِيف فِي ضَرُورَة الشّعْر قَالَ:
(بِكُل شيخ عَامر أَو حاجج)
وَيجمع على: حجج، بِالضَّمِّ نَحْو: بازل وبزل، وعائذ وعوذ.
النَّوْع الرَّابِع: فِي وَقت ابْتِدَاء فَرْضه، فَذكر الْقُرْطُبِيّ أَن الْحَج فرض سنة خمس من الْهِجْرَة، وَقيل: سنة تسع، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح. وَذكر الْبَيْهَقِيّ أَنه كَانَ سنة سِتّ، وَفِي حَدِيث ضمام بن ثَعْلَبَة ذكر الْحَج، وَذكر مُحَمَّد بن حبيب أَن قدومه كَانَ سنة خمس من الْهِجْرَة، وَقَالَ الطرطوشي: وَقد رُوِيَ أَن قدومه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي سنة تسع، وَذكر الْمَاوَرْدِيّ أَنه فرض سنة ثَمَان، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: سنة تسع أَو عشر، وَقيل: سنة سبع، وَقيل: كَانَ قبل الْهِجْرَة وَهُوَ شَاذ.
1 - (بابُ وُجوبِ الحَجِّ وَفَضْلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الْحَج وَبَيَان فَضله، قد ذكرنَا أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، فَهَذَا هُوَ شُرُوع فِي بَيَان أَفعَال الْحَج وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَبْوَاب، فَذكر بَابا بَابا بِحَسب قَصده بالتناسب، والبسملة مَذْكُورَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره لم تذكر، وَكَذَا لم يذكر لفظ: الْبَاب.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فإنَّ الله غَنِيٌّ عنِ العَالِمِينَ} (آل عمرَان: 79) .
وَقع فِي بعض النّسخ: بَاب وجوب الْحَج وفضله، وَقَوله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} (آل عمرَان: 79) . وَهَذَا أوجه، وَأَشَارَ بِذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى أَن وجوب الْحَج قد ثَبت بِهَذِهِ الْآيَة، هَذَا عِنْد الْجُمْهُور، وَقيل: ثَبت وُجُوبه بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَالْأول أظهر. وَقد وَردت الْأَحَادِيث المتعددة بِأَنَّهُ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام ودعائمه وقواعده، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على ذَلِك إِجْمَاعًا ضَرُورِيًّا. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون حَدثنَا الرّبيع بن مُسلم الْقرشِي عَن مُحَمَّد بن زِيَاد (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا. فَقَالَ رجل: أكل عَام يَا رَسُول الله؟ فَسكت حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ، وَلما اسْتَطَعْتُم. ثمَّ قَالَ: ذروني مَا تركتكم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ، وَإِذا أَمرتكُم بِشَيْء فاتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَدَعوهُ) . رَوَاهُ مُسلم. وَفِي رِوَايَته: (فَقَامَ الْأَقْرَع بن حَابِس، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَفِي كل عَام؟) الحَدِيث. وَعَن أَحْمد فِي رِوَايَته: (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لما نزلت: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . قَالُوا: يَا رَسُول الله فِي كل عَام؟) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُول الله الْحَج فِي كل عَام؟ قَالَ: لَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت لم تقوموا بهَا، وَلَو لَو تقوموا بهَا لعذبتم) . وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جَابر (أَن سراقَة بن مَالك، قَالَ: يَا رَسُول الله متعتُنا هَذِه لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ قَالَ: بل لِلْأَبَد؟ قَالَ: بل لِلْأَبَد) . قَوْله: (حج الْبَيْت) مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما، قَوْله: (وَللَّه على النَّاس) أَي: وَللَّه فرض وَاجِب {على النَّاس حج الْبَيْت} (آل عمرَان: 79) . لِأَن: اللَّام، لَام الْإِيجَاب. قَوْله: {من اسْتَطَاعَ} (آل عمرَان: 79) . بدل: من النَّاس، فِي مَحل الْجَرّ، وَالتَّقْدِير: وَللَّه على من اسْتَطَاعَ من النَّاس حج الْبَيْت، والإستطاعة هِيَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة وتخلية الطَّرِيق، وَعَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (السَّبِيل: الزَّاد والرحلة) ، رَوَاهُ الْحَاكِم، ثمَّ قَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: (قَامَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: من الْحَاج يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الشعث الثّقل، فَقَامَ آخر فَقَالَ: أَي الْحَج أفضل يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ العج والثج، فَقَامَ آخر، فَقَالَ: مَا السَّبِيل يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الزَّاد والرحلة) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَالْحسن وَمُجاهد وَعَطَاء وَسَعِيد بن جُبَير وَالربيع بن أنس وَقَتَادَة نَحْو ذَلِك، وَقد روى ابْن(9/122)
جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . قَالَ: من ملك ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فقد اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) . وَعَن عِكْرِمَة مَوْلَاهُ، قَالَ: (من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا: السَّبِيل: الصِّحَّة) . وَعَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. (قَالَ: من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَالَ: الزَّاد وَالْبَعِير، قَوْله: {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين} (آل عمرَان: 79) . قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَغير وَاحِد: أَي: وَمن جحد فَرضِيَّة الْحَج فقد كفر، وَالله غَنِي عَنهُ. وَقيل: من لم يرج ثَوَابه وَلم يخف عِقَابه تَركه، وَقيل: إِذا أمكنه الْحَج وَلم يحجّ حَتَّى مَاتَ، وروى ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ملك زادا وراحلة وَلم يحجّ بَيت الله فَلَا يضرّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا، وَذَلِكَ بِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . إِلَى آخِره. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَفِي إِسْنَاده مقَال، وهلال مَجْهُول يَعْنِي فِي رِوَايَة الْحَارِث يضعف فِي الحَدِيث، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ الْحَافِظ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن غنم، سمع عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: (من أطَاق الْحَج فَلم يحجّ فَسَوَاء عَلَيْهِ يَهُودِيّا مَاتَ أَو نَصْرَانِيّا) . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى عمر، قَالَه ابْن كثير فِي تَفْسِيره. قَوْله: {غَنِي عَن الْعَالمين} (آل عمرَان: 79) . أَي: لَا يَنْفَعهُ إِيمَانهم وَلَا يضرّهُ كفرهم.
3151 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ كَانَ الفَضْلُ رَدِيفَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجاءَتْ امْرَأةٌ مِنْ خَثْعَمْ فجعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إليْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ وجَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ فقالَتْ يَا رسولَ الله إنَّ فَرِيضَةَ الله عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أدْرَكَتْ أبي شَيْخا كَبِيرا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أفأحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذالِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تدْرك بدقة النّظر، وَذَلِكَ أَن الحَدِيث يدل على تَأْكِيد الْأَمر بِالْحَجِّ حَتَّى إِن الْمُكَلف لَا يعْذر بِتَرْكِهِ عِنْد عَجزه عَن الْمُبَاشرَة بِنَفسِهِ، بل يلْزمه أَن يَسْتَنِيب غَيره، وَهَذَا يدل على أَن فِي مُبَاشَرَته فضلا عَظِيما، فَمن هَذَا تُؤْخَذ الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث، وَسَيَأْتِي بَاب مُسْتَقل فِي فضل الْحَج، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسليمَان ابْن يسَار ضد الْيَمين تقدم فِي الْوضُوء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل فِي الْمَغَازِي، وَقَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ، وَفِيه وَفِي الاسْتِئْذَان عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، كلهم عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن روح بن عبَادَة وَلَيْسَ فِيهِ صدر الحَدِيث وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن قُتَيْبَة وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَعَن عُثْمَان بن عبد الله وَعَن مُجَاهِد بن مُوسَى وَعَن مَحْمُود بن خَالِد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن عبد الرَّحْمَن ابْن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ ... الحَدِيث.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي: مدَار هَذَا الحَدِيث على ابْن شهَاب، وَقد اخْتلف عَنهُ فِي إِسْنَاده، رَوَاهُ ابْن جريج عَنهُ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عَبَّاس عَن الْفضل بن عَبَّاس وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدِي، والْحَدِيث حَدِيث الْفضل لِأَنَّهُ كَانَ رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاة النَّحْر من الْمزْدَلِفَة إِلَى منى، وَعبد الله بن عَبَّاس قدمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ضعفة أَهله من جمع بلَيْل، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مشيت على رجْلي فِي سِيَاق إِلَى منى، فقد دلّ غير شَاهد وَاحِد على أَن عبد الله لم يحضر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ الْحَالة، وَإِنَّمَا سمع ذَلِك من الْفضل، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس حِين دفعُوا عَشِيَّة عَرَفَة: عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ، قَالَ عبد الله: وَأَخْبرنِي الْفضل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَكَذَلِكَ روى مُسلم قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن خشرم، قَالَ: أخبرنَا عِيسَى عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل: أَن امْرَأَة من خثعم قَالَت: يَا رَسُول الله إِن أبي شيخ كَبِير عَلَيْهِ فَرِيضَة الله فِي الْحَج، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع أَن يَسْتَوِي على ظهر بعيره، فَقَالَ النَّبِي(9/123)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فحجي عَنهُ. وَأخرج مُسلم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ: فَسَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذِه الرِّوَايَات فَقَالَ: أصح شَيْء فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ مُحَمَّد: وَيحْتَمل أَن يكون ابْن عَبَّاس سَمعه من الْفضل وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ روى هَكَذَا فَأرْسلهُ وَلم يذكر الَّذِي سَمعه مِنْهُ، قَالَ أَبُو عِيسَى: وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب غير حَدِيث. قيل: قَول التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ عَن عمته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ نظر من حَيْثُ إِن الْمَوْجُود بِهَذَا الْإِسْنَاد هُوَ حَدِيث آخر فِي الْمَشْي إِلَى الْكَعْبَة لَا عَن الْكَبِير الْعَاجِز، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بن كريب عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس عَن سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ، أَن عمته حدثته أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله توفيت أُمِّي وَعَلَيْهَا مشي إِلَى الْكَعْبَة نذرا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل تستطيعين أَن تمشين عَنْهَا؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فامشي عَن أمك. قَالَت: أَو يجزيء ذَلِك عَنْهَا؟ قَالَ: نعم، أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَيْهَا دين ثمَّ قضيتيه عَنْهَا هَل كَانَ يقبل مِنْك؟ قَالَت: نعم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَالله أَحَق بذلك) . وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يبين الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس فِي الْمَتْن والإسناد مَعًا، وَهَذَا اخْتِلَاف فِي مَتنه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل الْكَبِير) عَن مُحَمَّد: الصَّحِيح الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل. قلت: كَانَ عبد الله يرويهِ عَن الْفضل وَعَن حُصَيْن بن عَوْف قَالَ: أَرْجُو أَن يكون صَحِيحا، وَيحْتَمل أَن يكون عبد الله روى هَذَا عَن غير وَاحِد وَلم يذكر الَّذِي سَمعه مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون كُله صَحِيحا قلت: حَدِيث حُصَيْن رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن ابْن نمير عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن مُحَمَّد بن كريب عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس أَخْبرنِي حُصَيْن، قلت: يَا رَسُول الله إِن أبي أدْركهُ الْحَج وَلَا يَسْتَطِيع أَن يحجّ إلاَّ مُعْتَرضًا. فَصمت سَاعَة، ثمَّ قَالَ: حج عَن أَبِيك) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ الْفضل) هُوَ الْفضل بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم الْقرشِي الْهَاشِمِي أَبُو عبد الله، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو الْعَبَّاس الْمدنِي ابْن عَم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمه أم الْفضل لبَابَة الْكُبْرَى بنت الْحَارِث ابْن حزن الْهِلَالِيَّة، وَكَانَ شَقِيق عبد الله بن عَبَّاس رَوَاهُ عَنهُ أَخُوهُ عبد الله بن عَبَّاس وَغَيره، وَقيل: لم يسمع مِنْهُ سوى أَخِيه عبد الله وَأبي هُرَيْرَة وَمن عداهما، فروايته عَنهُ مُرْسلَة، قتل يَوْم اليرموك فِي عهد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: قتل يَوْم مرج الصفر سنة ثَلَاث عشرَة، وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قتل بِدِمَشْق، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ بِالشَّام فِي طاعون عمواس سنة ثَمَانِي عشرَة، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ اسن ولد عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، خرج إِلَى الشَّام مُجَاهدًا فَمَاتَ بِنَاحِيَة الْأُرْدُن فِي طاعون عمواس فِي سنة ثَمَانِي عشرَة من الْهِجْرَة فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهُوَ الَّذِي يركب وَرَاء الرَّاكِب، وَقد جمع ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي كتابا فِيهِ أَسمَاء من أردفه سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَه على الدَّابَّة فَبلغ بهم نيفا وَثَلَاثِينَ رجلا. قَوْله: (فَجَاءَت امْرَأَة من خثعم) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة، وَهِي قَبيلَة بِالْيمن، وَفِي رِوَايَة: (وَقَالَت امْرَأَة من جُهَيْنَة) ، وَهَاتَانِ القبيلتان لَا تجتمعان لِأَن جُهَيْنَة هُوَ ابْن زيد بن لَيْث بن الْأسود بن أسلم بن ألحاف بن قضاعة. وخثعم هُوَ ابْن أَنْمَار بن أراش بن عَمْرو بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان. وَفِي (التَّوْضِيح) : هَذِه الْمَرْأَة يجوز أَن تكون غاثية أَو غايثة، بالغين الْمُعْجَمَة فيهمَا. وَاعْلَم أَنه قد اخْتلفت طرق الْأَحَادِيث فِي السَّائِل عَن ذَلِك: هَل هُوَ امْرَأَة أَو رجل؟ وَفِي المسؤول عَنهُ أَن يحجّ عَنهُ أَيْضا: هَل هُوَ أَب أَو أم أَو أَخ؟ فَأكْثر طرق الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة دَالَّة على أَن السَّائِل امْرَأَة، وَأَنَّهَا سَأَلت عَن أَبِيهَا، كَمَا هُوَ فِي أَكثر طرق حَدِيث الْفضل، وَأكْثر طرق عبد الله بن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ: (وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة) الحَدِيث، وَفِيه: (فاستفتته جَارِيَة شَابة من خثعم. فَقَالَت: إِن أبي شيخ كَبِير) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة للنسائي فِي حَدِيث الْفضل أَن السَّائِل رجل سَأَلَ عَن أمه، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن السَّائِل رجل سَأَلَ عَن أَبِيه، وَعند النَّسَائِيّ أَيْضا: أَن امْرَأَة سَأَلته عَن أَبِيهَا مَاتَ وَلم يحجّ، وَفِي حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه التِّرْمِذِيّ: أَن امْرَأَة سَأَلت عَن أمهَا، وَفِي حَدِيث حُصَيْن بن عَوْف(9/124)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَفِي حَدِيث أبي رزين الْعقيلِيّ أخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَفِي حَدِيث سَوْدَة رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَفِي حَدِيث عبد الله بن الزبير أخرجه النَّسَائِيّ: أَن السَّائِل رجل سَأَلَهُ عَن أَبِيه. وَفِي حَدِيث سِنَان بن عبد الله أَن عمته حدثته رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِيه: (أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت: يَا رَسُول الله توفيت أُمِّي) الحَدِيث. وَالْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات مَا قَالَه شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: إِن السُّؤَال وَقع مَرَّات: مرّة من امْرَأَة عَن أَبِيهَا، وَمرَّة من امْرَأَة عَن أمهَا، وَمرَّة عَن رجل عَن أمه، وَمرَّة من رجل عَن أَبِيه، وَمرَّة من رجل عَن أَخِيه، وَمرَّة فِي السُّؤَال عَن الشَّيْخ الْكَبِير، وَمرَّة فِي الْحَج عَن الْمَيِّت. فَإِن قلت: هَل يعلم السَّائِل عَن هَذَا رجلا كَانَ أَو امْرَأَة؟ قلت: أما الرجل فقد سمي من السَّائِلين، من ذَلِك حُصَيْن بن عَوْف، كَمَا ذكره ابْن مَاجَه وسمى مِنْهُم: أَبُو رزين لَقِيط بن عَامر، كَمَا هُوَ عِنْد أَصْحَاب السّنَن، وَأما النِّسَاء فَلم يسم مِنْهُنَّ أحد إلاَّ فِي رِوَايَة سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ أَن عمته حدثته أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَمَّته لم تسم، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ (إِن أحد النِّسَاء، امْرَأَة سِنَان بن سَلمَة الْجُهَنِيّ، سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أمهَا مَاتَت) الحَدِيث. والمرأتان ذكرتا فِي الْحَج عَن الْمَيِّت لَا عَن المعضوب، وَهُوَ بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: الزَّمن الَّذِي لَا حراك بِهِ. قَوْله: (فَجعل الْفضل) ، كلمة: جعل، من أَفعَال المقاربة، وَجعل وضع لدنو الْخَبَر على وَجه الشُّرُوع فِيهِ، وَالْأَخْذ فِي فعله. وَقَوله: (الْفضل) اسْم جعل وَقَوله: (ينظر إِلَيْهَا) فِي مَحل النصب خَبره إِلَى الْمَرْأَة المذكرة قَوْله (وَتنظر إِلَيْهِ) أَي تنظر الْمَرْأَة إِلَى الْفضل وَالْكَلَام فِي قَوْله: (وَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصرف) مثل الْكَلَام فِي: (جعل الْفضل) . قَوْله: (إِلَى الشق) أَي: إِلَى الْجنب الآخر، وَهُوَ بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْقَاف. قَوْله: (شَيخا) ، نصب على الْحَال وكبيرا صفة شَيخا. وَقَوله: لَا يثبت أَيْضا فِي مَحل النصب على الْحَال، فهما حالان متداخلتان، وَيجوز أَن يكون: لَا يثبت، صفة لشيخا، وَمَعْنَاهُ: وَجب عَلَيْهِ الْحَج بِأَن أسلم وَهُوَ شيخ، وَحصل لَهُ المَال فِي هَذِه الْحَالة. قَوْله: (أفأحج عَنهُ؟) الْهمزَة للاستفهام، وَالْفَاء عاطفة على مُقَدّر بعد الْهمزَة، وَالتَّقْدِير: أنوب عَنهُ فأحج؟ وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن الْهمزَة تَقْتَضِي الصدارة وَالْفَاء تَقْتَضِي عدمهَا. قَوْله: (وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَسميت بذلك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودع النَّاس فِيهَا، وَلَيْسَت هَذِه الْإِضَافَة للتَّقْيِيد التمييزي لِأَنَّهُ لم يحجّ بعد الْهِجْرَة إلاَّ حجَّة وَاحِدَة، وَهِي هَذِه الْحجَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الإرداف إِذا كَانَت الدَّابَّة مطيقة، والإرداف للسادة والرؤساء سَائِغ، وَلَا سِيمَا فِي الْحَج لتزاحم النَّاس، ومشقة سير الرجالة، وَلِأَن الرّكُوب فِيهِ أفضل كَمَا سَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه: دلَالَة على أَن الْمَرْأَة تكشف وَجههَا فِي الْإِحْرَام، وَهُوَ إِجْمَاع كَمَا حَكَاهُ أَبُو عمر، وَيحْتَمل كَمَا قَالَ ابْن التِّين: أَنَّهَا سدلت ثوبا على وَجههَا. وَفِيه: فِي نظر الْفضل مغالبة طباع الْبشر لِابْنِ آدم وَضَعفه عَمَّا ركب فِيهِ من الشَّهَوَات. وَفِيه: أَن الْعَالم يُغير مَا أمكنه إِذا رَآهُ وَاسْتدلَّ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ الْفضل رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة، فَجعل الْفضل يُلَاحظ النِّسَاء وَينظر إلَيْهِنَّ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا ابْن أخي هَذَا يَوْم، من ملك فِيهِ سَمعه وبصره وَلسَانه غفر لَهُ) . وَلم ينْقل أَنه نهى الْمَرْأَة عَن النّظر إِلَيْهِ، وَكَانَ الْفضل، وسيما، أَي: جميلاً، وَيحْتَمل أَن يكون الشَّارِع اجترأ بنفع الْفضل لما رأى أَنَّهَا تعلم بذلك منع نظرها إِلَيْهِ، لِأَن حكمهمَا وَاحِد، أَو تنبهت لذَلِك، أَو كَانَ ذَلِك الْموضع هُوَ مَحل نظره الْكَرِيم فَلم يصرف نظرها، وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ: احْتِمَال أَن لَيْسَ على النِّسَاء غض أبصارهن عَن وُجُوه الرِّجَال، إِنَّمَا تغضضن عَن عورتهن. وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: لَيْسَ على الْمَرْأَة تَغْطِيَة وَجههَا لهَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا على الرجل غض الْبَصَر، وَقيل: إِنَّمَا لم يأمرها بتغطية وَجههَا لِأَنَّهُ مَحل إحرامها، وَصرف وَجه الْفضل بِالْفِعْلِ أقوى من الْأَمر، وَذهب ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِلَى أَن المُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يبدين زينتهن إلاَّ مَا ظهر مِنْهَا} (النُّور: 13) . أَي: الْوَجْه والكفان. وَفِيه: جَوَاز الْحَج عَن غَيره إِذا كَانَ معضوبا، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْحسن بن صَالح: لَا يحجّ أحد عَن أحد إلاَّ عَن ميت لم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام، وَحَاصِل مَا فِي مَذْهَب مَالك ثَلَاثَة أَقْوَال مشهورها: لَا يجوز، ثَانِيهَا: يجوز من الْوَلَد. ثَالِثهَا: يجوز إِن أوصى بِهِ، وَعَن النَّخعِيّ وَبَعض السّلف: لَا يَصح الْحَج عَن ميت وَلَا عَن غَيره، وَهِي رِوَايَة(9/125)
عَن مَالك، وَإِن أوصى بِهِ، وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لَا يحجّ أحد عَن أحد، وَلَا يصم أحد عَن أحد، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور: يجوز الْحَج عَن الْمَيِّت عَن فَرْضه ونذره، سَوَاء أوصى بِهِ أَو لم يوص، وَهُوَ وَاجِب فِي تركته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا يجوز الِاسْتِنَابَة فِي حجَّة التَّطَوُّع على أصح الْقَوْلَيْنِ، والْحَدِيث حجَّة على الْحسن بن حَيّ فِي قَوْله: إِن الْمَرْأَة لَا يجوز أَن تحج عَن الرجل، وَهُوَ حجَّة لمن أجَازه.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: جَوَاز الْحَج عَن غَيره إِذا كَانَ معضوبا، وَلم يجزه مَالك، وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : الأَصْل أَن الْإِنْسَان لَهُ أَن يَجْعَل ثَوَاب عمله لغيره صَلَاة أَو صَدَقَة أَو صوما أَو غَيرهَا، عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، لما رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ضحى بكبشين أَحدهمَا عَن نَفسه، وَالْآخر عَن أمته.
والعبادات أَنْوَاع: مَالِيَّة مَحْضَة، كَالزَّكَاةِ، وبدنية: كَالصَّلَاةِ، ومركب مِنْهُمَا: كَالْحَجِّ، والنيابة تجزىء فِي النَّوْع الأول وَلَا تجزىء فِي الثَّانِي بِحَال، وتجزيء فِي النَّوْع الثَّالِث عِنْد الْعَجز، وَلَا تجزيء عِنْد الْقُدْرَة، وَالشّرط الْعَجز الدَّائِم إِلَى وَقت الْمَوْت، وَظَاهر الْمَذْهَب أَن الْحَج يَقع عَن المحجوج عَنهُ لحَدِيث الخثعمية، وَعند مُحَمَّد: أَن الْحَج يَقع عَن الْحَاج، وَللْآخر ثَوَاب النَّفَقَة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الْمَرِيض يَأْمر بِمن يحجّ عَنهُ، ثمَّ يَصح بعد ذَلِك فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يجْزِيه، وَعَلِيهِ أَن يحجّ. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: يجْزِيه الْحَج عَنهُ، وَكَذَا من مَاتَ من مَرضه وَقد حج عَنهُ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر: يجْزِيه عَن حجَّة الْإِسْلَام. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر: لَا يجزيء عَنهُ وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: اخْتلف أهل الْعلم فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَإِن جمَاعَة مِنْهُم ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا الحَدِيث مَخْصُوص بِهِ أَبُو الخثعمية لَا يجوز أَن يتَعَدَّى بِهِ إِلَى غَيره بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَإِن الأَصْل فِي الِاسْتِطَاعَة هِيَ الْقُوَّة فِي الْبدن قَالَ تَعَالَى (فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه وَمَا اسطاعوا لَهُ نقباً (آل عمرَان: 79) . وَكَانَ أَبوهَا مِمَّن لَا يَسْتَطِيع فَلم يكن عَلَيْهِ الْحَج، فَلَمَّا لم يكن عَلَيْهِ لعدم استطاعته كَانَت ابْنَته مَخْصُوصَة بذلك الْجَواب، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك مَالك وَأَصْحَابه لِأَن الْحَج عِنْدهم من عمل الْبدن فَلَا يَنُوب فِيهِ أحد عَن أحد قِيَاسا على الصَّلَاة، وَذكر ابْن حزم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْعَدوي أَن امْرَأَة قَالَت: إِن أبي شيخ كَبِير، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حجي عَنهُ، وَلَيْسَ لأحد بعده، وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن حبَان الْأنْصَارِيّ أَن امْرَأَة قَالَت ... الحَدِيث، وَفِيه: لَيْسَ لأحد بعده، وَضعفهمَا بِالْإِرْسَال وَغَيره. وَقَالَ ابْن التِّين: الِاسْتِطَاعَة أَن يقدر على الْوُصُول إِلَى الْبَيْت من غير خُرُوج عَن عَادَة، فَمن كَانَ عَادَته السّفر مَاشِيا لزمَه أَن يمشي، وَإِن لم يجد رَاحِلَة، وَمن كَانَ عَادَته تكفف النَّاس وَأمكنهُ التَّوَصُّل بِهِ لزمَه، وَإِن لم يجد زادا، وَمن عَادَته الرّكُوب والغناء عَن النَّاس لم يلْزمه حج إلاَّ بوجدان ذَلِك، وَقَالَ ابْن بطال: وَإِلَى هَذَا ذهب ابْن الزبير وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يلْزم إلاَّ من وجد زادا وراحلة، وَهُوَ قَول الْحسن وَمُجاهد وَسَعِيد بن الْمسيب، وَسَعِيد بن جُبَير وَأحمد وَإِسْحَاق وَعبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة وَسَحْنُون، وَظَاهر قَول ابْن حبيب. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَالك وَأَصْحَابه رَأَوْا أَن ظَاهر حَدِيث الخثعمية مُخَالف لقَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . أَي: مَا قدرُوا ولاقووا، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: فلَان مستطيع أَو غير مستطيع، فَالظَّاهِر مِنْهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم هِيَ الْقُدْرَة وإتيانها، فَلَمَّا عَارض ظَاهر الحَدِيث ظَاهر الْقُرْآن الْعَزِيز رجح مَالك ظَاهر الْقُرْآن، وَالْجَوَاب أَن حَدِيث الزَّاد وَالرَّاحِلَة رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير وَجه، مِنْهَا صَحِيح وَمِنْهَا حسن.
فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: الْأَخْبَار فِي ذَلِك فِي أَحدهَا إِبْرَاهِيم الْجَوْزِيّ وَهُوَ سَاقِط مطروح، وَفِي الثَّانِي: الْحَارِث الْأَعْوَر، وَهُوَ مَذْكُور بِالْكَذِبِ. وَالثَّالِث: مُرْسل وَلَا حجَّة فِيهِ، وَالرِّوَايَات فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة واهية كلهَا، وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن الْعَرَبِيّ وَغَيره، وَقَالَ أَبُو عمر: رُوِيَ ذَلِك من وُجُوه مِنْهَا: مُرْسلَة. وَمِنْهَا: ضَعِيفَة، وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن حَدِيث أنس الَّذِي مضى ذكره فِي أول بَاب وجوب الْحَج أخرجه الْحَاكِم على شَرط مُسلم وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَذكر رِوَايَة حَمَّاد وَسَعِيد: لَا أرى إلاَّ وهما لِأَن ابْن أبي عرُوبَة روى عَن قَتَادَة عَن الْحسن مُرْسلا وَهُوَ الْمَحْفُوظ، وَكَذَا رَوَاهُ يُونُس بن عبيد. قلت: هَذَا ظن مِنْهُ وتوهم من غير جزم، وَالظَّن لَا تضعف بِهِ الْأَحَادِيث وَلَا تقوى. وَقَوله: وَكَذَا رَوَاهُ يُونُس غير موجه لِأَن الدَّارَقُطْنِيّ روى من حَدِيث حُصَيْن بن مُخَارق عَنهُ عَن الْحسن عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الحَدِيث مُسْندًا بِلَفْظ: (يَا رَسُول الله! مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة) . فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْمُنْذر: الحَدِيث(9/126)
الَّذِي فِيهِ ذكر الزَّاد وَالرَّاحِلَة لَيْسَ بِمُتَّصِل؟ قلت: الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُتَّصِل. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْمُنْذر أَيْضا: وَالدَّلِيل على عدم اعْتِبَار الرَّاحِلَة حَدِيث: (لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي) ، فَجعل صِحَة الْجِسْم مُسَاوِيَة للغنى، فَسقط قَول من اعْتبر الرَّاحِلَة؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن الحَدِيث مُفَسّر للاستطاعة فِي الْآيَة، وَهُوَ مُبين عَن الله تَعَالَى: فَإِن قلت: قَالَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: لَو أَن رجلا كَانَ فِي مَوضِع يُمكنهُ الْمَشْي إِلَى الْحَج وَهُوَ لَا يملك رَاحِلَة لوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَج لِأَنَّهُ مستطيع إِلَيْهِ سَبِيلا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الِاسْتِطَاعَة فسرت بالزاد وَالرَّاحِلَة. فَإِن قلت: مَا رُوِيَ عَن السّلف فِي ذَلِك أَن السَّبِيل الزَّاد وَالرَّاحِلَة، وَإِنَّمَا أَرَادوا بِهِ التَّغْلِيظ على من ملك هَذَا الْمِقْدَار وَلم يحجّ قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل أَرَادوا بِهِ التشريع؟
وَفِيه: مَا يدل على أَنه مَا يجوز للرجل إِن يحجّ عَن غَيره، وَإِن لم يكن حج عَن نَفسه لإِطْلَاق الحَدِيث وَلم يسْأَله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحججت عَن نَفسك أم لَا؟ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، ويحكى كَذَلِك عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم وَأَيوب وجعفر بن مُحَمَّد، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق: لَيْسَ لمن لم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام أَن يحجّ عَن غَيره، فَإِن فعل وَقع إِحْرَامه عَن حجَّة الْإِسْلَام. وَقَالَ عبد الْعَزِيز: يَقع الْحَج بَاطِلا وَلَا يَصح عَنهُ، وَلَا عَن غَيره، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (مُسْند الشَّافِعِي) : حَدثنَا سعيد بن سَالم عَن سُفْيَان بن سعيد عَن طَارق بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن أبي أوفى، قَالَ: سَأَلته عَن الرجل لم يحجّ إيستقرض لِلْحَجِّ؟ قَالَ: لَا. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة، فَقَالَ: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لي أَو قريب لي؟ فَقَالَ: حججْت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حج عَن نَفسك، وَحج عَن شبْرمَة) . وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا ضَرُورَة فِي الْإِسْلَام) ، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِن حَدِيث شبْرمَة مَعْلُول، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس، وَالَّذِي يَصح فِي هَذَا الْمَعْنى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس: سُئِلَ عَن رجل لم يحجّ أيحج عَن غَيره؟ فَقَالَ: دين الله، عز وَجل، أَحَق أَن يَقْضِيه، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه لَو أحرم عَن غَيره كَانَ ذَلِك الْإِحْرَام عَن نَفسه، وَقَالَ بَعضهم: يحمل على النّدب لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إبدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول) . وَقَالَ الْأَثْرَم: قَالَ أَبُو عبد الله: رَفعه عَبدة بن سُلَيْمَان وَهُوَ خطأ، وَقد رَوَاهُ عدَّة مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس لَيْسَ فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرِوَايَة همام عَن قَتَادَة عَن سعيد بن جُبَير مَوْقُوف، وَكَذَا قَالَ أَبُو قلَابَة عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ: منهيء، قلت: لأبي عبد الله حَدِيث عَبدة بن سُلَيْمَان عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن عزْرَة عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رجلا يُلَبِّي عَن شبْرمَة، قَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، إِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عَبَّاس، حَدثنِي غير وَاحِد عَن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن عزْرَة عَن ابْن عَبَّاس مُرْسلا، وَرَوَاهُ روح عَن حَمَّاد بن مسلمة عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة، وَرَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس مُرْسلا، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس. فَإِن قلت: قَالَ أَبُو عمر: الَّذِي رَفعه حَافظ حفظ مَا قصر عَنهُ غَيره، فَوَجَبَ قبُول زِيَادَته. وَقَالَ ابْن قطان: الرافعون لَهُ ثِقَات فَلَا يضرهم وقف الواقفين لَهُ، إِمَّا لأَنهم حفظوا مَا لم يحفظه أُولَئِكَ، وَإِمَّا لِأَن الواقفين رووا عَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة وَأُولَئِكَ رِوَايَة. قلت: هَذَا الحَدِيث مِمَّا يعلم بِالضَّرُورَةِ توقيفه لِأَن الْحَج إِنَّمَا كَانَ فِي سنة عشر سنة حج سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد سمع الرجل يُلَبِّي عَن غَيره فِي تِلْكَ الْحجَّة، فَكيف يسوغ؟ قَوْله: (أحججت عَن نَفسك؟) إيحج أحد إِلَى غير الْبَيْت؟ وَفِي غير ذَلِك الْوَقْت؟ فَلْيتَأَمَّل هَذَا فَإِنَّهُ وَاضح. وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحسن بن عمَارَة عَن عبد الْملك عَن طَاوُوس: (عَن ابْن عَبَّاس: سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رحلاً يُلَبِّي عَن نُبَيْشَة، فَقَالَ: أَيهَا الملبي عَن نُبَيْشَة، هَذِه عَن نُبَيْشَة، واحجج عَن نَفسك) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْحسن مَتْرُوك الحَدِيث، وَالْمَحْفُوظ الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس حَدِيث شبْرمَة. وَذكر أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: شبْرمَة هَذَا فِي كتاب الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَأَنه توفّي فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما قَوْله: (لَا صرورة فِي الْإِسْلَام) فقد قَالَ الْخطابِيّ: إِن الصرورة هُوَ الَّذِي أقلع عَن النِّكَاح بِالْكُلِّيَّةِ وَأعْرض عَنهُ كرهبان النَّصَارَى، وَله معنى آخر، وَهُوَ أَنه: الَّذِي لم يحجّ فَيكون مَعْنَاهُ: أَن سنة الدّين أَن لَا يبْقى من النَّاس من يَسْتَطِيع الْحَج إلاَّ ويحج، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن من لم يحجّ(9/127)
عَن نَفسه لَا يحجّ عَن غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَبْنِيّ على أَن الْحَج على الْفَوْر أَو التَّرَاخِي، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه على التَّرَاخِي، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن الْحسن، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَجَابِر وَعَطَاء وطاووس. وَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف: هُوَ على الْفَوْر، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ وَقَول جُمْهُور أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَلَا نَص لأبي حنيفَة فِي ذَلِك. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مذْهبه يَقْتَضِي أَنه على الْفَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح، ذكره الطرطوشي وَاحْتج لَهُم بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث مهْرَان بن أبي صَفْوَان عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (من أَرَادَ الْحَج فليعجل) وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مهْرَان لم يعرف، وَقَالَ الْحَاكِم: كَانَ مولى لقريش وَلَا يعرف بِجرح، وَذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَصحح حَدِيثه أَيْضا أَبُو مُحَمَّد الإشبيلي، وَفِي لفظ لأبي دَاوُد، من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي إِسْحَاق الْملَائي فِيهِ لين، عَن فُضَيْل بن عَمْرو عَن سعيد بن جُبَير عَن عبد الله، أَو عَن الْفضل أَو أَحدهمَا عَن الآخر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَرَادَ الْحَج فليعجل فَإِنَّهُ قد يمرض الْمَرِيض وَتضِل الضَّالة وَتعرض الْحَاجة) . وَفِي (مُسْند أَحْمد) : (تعجلوا إِلَى الْحَج، يَعْنِي الْفَرِيضَة، فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي مَا يعرض لَهُ) . وَاحْتج الشَّافِعِي وَأَصْحَابه بِأَن فَرِيضَة الْحَج نزلت بعد الْهِجْرَة، وَكَانَ الْفَتْح فِي رَمَضَان سنة ثَمَان، فَأَقَامَ عتاب للنَّاس الْحَج سنة ثَمَان بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقيما بِالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَامَّة أَصْحَابه، ثمَّ غزا تَبُوك سنة تسع وَلم يحجّ، وَكَانَ انْصِرَافه عَنْهَا قبل الْحَج، فَبعث أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَقَامَ للنَّاس الْحَج تِلْكَ السّنة، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمر هُوَ وأزواجه وَأَصْحَابه مَعَ الْقُدْرَة على الْحَج، ثمَّ حج سنة عشر، فَدلَّ على جَوَاز التَّأْخِير.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمَرْأَة يجوز لَهَا أَن تحج عَن الرجل، وَهُوَ حجَّة عَليّ الْحسن بن حَيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي مَنعه عَن ذَلِك،
وَفِيه: بر الْوَالِدين بِالْقيامِ بمصالحهما من قَضَاء الدُّيُون وَغَيره.
وَفِيه: جَوَاز أَن يُقَال: حجَّة الْوَدَاع بِدُونِ كَرَاهَة.
2 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {يأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرِ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ} (الْحَج: 72) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {يأتوك ... } (الْحَج: 72) . إِلَى آخِره. وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة مترجما بهَا تَنْبِيها على أَن اشْتِرَاط الرَّاحِلَة فِي وجوب الْحَج لَا يُنَافِي جَوَاز الْحَج مَاشِيا مَعَ الْقُدْرَة على الرَّاحِلَة وَعدم الْقُدْرَة، لِأَن الْآيَة اشْتَمَلت على المشاة والركبان، وَذَلِكَ أَن سَبَب نزُول الْآيَة أَنهم كَانُوا لَا يركبون على مَا روى الطَّبَرَانِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، من طَرِيق عَمْرو بن ذَر، رَحمَه الله تَعَالَى. قَالَ: قَالَ مُجَاهِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانُوا لَا يركبون، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . فَأَمرهمْ بالزاد وَرخّص لَهُم فِي الرّكُوب والمتجر، وَأول الْآيَة: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك ... } (الْحَج: 72) . الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما فرغ إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من بِنَاء الْبَيْت أمره الله تَعَالَى أَن يُؤذن. قَالَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا رب وَمَا يبلغ أذاني؟ قَالَ: أذن وَعلي الْبَلَاغ. فَقَامَ بالْمقَام، وَقيل: على جبل أبي قبيس، وَأدْخل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَأَقْبل بِوَجْهِهِ يَمِينا وَشمَالًا وشرقا وغربا، وَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس! إِن الله يدعوكم إِلَى الْحَج ببيته الْحَرَام، فاسمع من فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء مِمَّن سبق فِي علم الله تَعَالَى أَن يحجّ، فَأَجَابُوا: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، فَمن أجَاب يَوْمئِذٍ بِعَدَد حج على قدره، قيل: أول من أَجَابَهُ أهل الْيمن فهم أَكثر النَّاس حجا، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ قوم: الْمَأْمُور بِالتَّأْذِينِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يفعل ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع، والتوفيق بَين الْقَوْلَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أمره الله بذلك إحْيَاء لسنة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: {يأتوك} (الْحَج: 72) . على القَوْل الأول خطاب لإِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى القَوْل الثَّانِي لنبينا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَهُوَ قَوْله: {أذِّنْ} (الْحَج: 72) . قَوْله: {رجَالًا} (الْحَج: 72) . نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي {يأتوك} (الْحَج: 72) . وَهُوَ جمع راجل، كَذَا قَالَه أَبُو عبيد فِي (كتاب الْمجَاز) نَحْو: صِحَاب وَصَاحب، وَعَن ابْن عَبَّاس رجَالًا، رجالة، وَقَرَأَ عِكْرِمَة مشددا، وَقَرَأَ مُجَاهِد مخففا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمع الراجل رجل، مثل صَاحب وَصَحب، ورجالة وَرِجَال، والأراجيل جمع الْجمع. قَوْله: {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . من الضمور، وَهُوَ الهزال، وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . يَعْنِي: الْإِبِل وَغَيرهَا، فَلَا يدْخل بعير وَلَا غَيره الْحرم إلاَّ(9/128)
وَقد ضمر من طول الطَّرِيق، وضامر بِغَيْر هَاء يسْتَعْمل للمذكر والمؤنث. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . حَال معطوفة على: رجال، كَأَنَّهُ قيل: رجَالًا وركبانا، والضامر الْبَعِير المهزول. قَوْله: {يَأْتِين} (الْحَج: 72) . صفة لكل ضامر، لِأَن: كل ضامر، فِي معنى الْجمع أَرَادَ النوق. قَوْله: {من كل فج عميق} (الْحَج: 72) . أَي: من كل طَرِيق بعيد، وَمِنْه قيل: بِئْر عميقة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: معيق، فَقَالَ: بِئْر بعيدَة القعر. قَوْله: {ليشهدوا} (الْحَج: 72) . أَي: ليحضروا مَنَافِع لَهُم هِيَ التِّجَارَة، وَقيل: مَنَافِع الْآخِرَة، وَقيل: مَنَافِع الدَّاريْنِ جَمِيعًا، وَتَمام الْآيَة {ويذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير} (الْحَج: 72) . قَوْله: {ويذكروا} (الْحَج: 72) . أَي: وليذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات يَعْنِي: يَوْم النَّحْر ويومين بعده، وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: المعلومات: الْأَيَّام الْعشْر، والمعدودات: إيام التَّشْرِيق. قَوْله: {على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 72) . مُتَعَلق بذكروا، وَالْمعْنَى: ويذكروا اسْم الله على ذبح أنعامهم، وَالْمرَاد بِالذكر التَّسْمِيَة، وَهِي قَوْله: بِسم الله وَالله أكبر اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك عَن فلَان، كَانَ الْكفَّار يدعونَ ويذبحون على أَسمَاء أصنامهم، فَبين الله تَعَالَى أَن الْوَاجِب الذّبْح على اسْمه: {بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 72) . الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. قَوْله: {فَكُلُوا مِنْهَا} (الْحَج: 72) . فَهُوَ أَمر إِبَاحَة، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يرَوْنَ وَلَا يسْتَحلُّونَ الْأكل من ذَبَائِحهم. قَوْله: {وأطعموا البائس} (الْحَج: 72) . أَي: الَّذِي اشْتَدَّ فقره، وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: البائس الصرير الزَّمن، وَالْفَقِير الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْء. وَقَالَ الزّجاج: البائس الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْس وَهُوَ الشدَّة، وَمَا يتَعَلَّق بذلك من الْفِقْه عرف فِي مَوْضِعه.
فِجَاجا: الطّرُقُ الوَاسِعَةُ
قد جرت عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا وَقعت لَفْظَة فِي الحَدِيث أَو فِي الْآيَة يذكر نظيرها مِمَّا وَقع فِي الحَدِيث أَو الْقُرْآن، وَذكر هُنَا: فجاجا، يُرِيد بِهِ مَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى: {لتسلكوا مِنْهَا سبلاً فجاجا} (الْحَج: 72) . ثمَّ فسر الفجاج بقوله: الطّرق الواسعة، وَهَكَذَا فَسرهَا الْفراء فِي (الْمعَانِي) فِي سُورَة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ: جمع فج. قَالَ ابْن سَيّده: الْفَج الطَّرِيق الْوَاسِع فِي جبل أَو فِي قبل جبل، وَهُوَ أوسع من الشّعب. وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ مَا انخفض من الطّرق، وَجمع على فجاج، وأفجة، الْأَخِيرَة نادرة. وَقَالَ صَاحب (المنتهي) : فجاج الأَرْض نَوَاحِيهَا. وَفِي (التَّهْذِيب) : {من كل فج عميق} (الْحَج: 72) . أَي: وَاسع غامض.
4151 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسى اقال حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّ سالمَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ أخبَره أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ رَأيْتُ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْكَبُ رَحِلَتَهُ بِذِي الحُلَيْفَةِ ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قائِمَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ ذكر الرّكُوب وَذكر الْفَج العميق. أما الرّكُوب فَهُوَ قَوْله: (يركب رَاحِلَته) ، وَأما الْفَج العميق فَهُوَ، ذُو الحليفة، لِأَنَّهُ لَا شكّ أَن بَينهَا وَبَين مَكَّة عشر مراحل، وَهُوَ فج وعميق، وسنبسط الْكَلَام فِيهَا عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَبِمَا ذكرنَا سقط اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ، حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثين شَيْء مِمَّا ترْجم الْبَاب بِهِ، وَلَو وَقع فِي خاطره مَا ذكرنَا من الْمُطَابقَة الْوَاضِحَة لما أقدم إِلَى الإعتراض.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: أَحْمد بن عِيسَى أَبُو عبد الله التسترِي مصري الأَصْل، وَلكنه كَانَ يتجر إِلَى تستر فنسب إِلَيْهَا، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بنسبته إِلَى أَبِيه، وَوَافَقَهُ أَبُو عَليّ الشبوي، وَأَهْمَلَهُ الْبَاقُونَ، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي رَأَيْت فِي (مُسْند عبد الله بن وهب) رِوَايَة يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَنهُ: أَنبأَنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل ملبيا، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَأخرجه مُسلم عَن حَرْمَلَة، وَالنَّسَائِيّ عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم. ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يركب رَاحِلَته) ، وَالرَّاحِلَة من الْإِبِل: الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال، وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء، وَالْهَاء فِيهَا للْمُبَالَغَة، وَهِي الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت. قَوْله: (بِذِي الحليفة) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء، وَفِي(9/129)
آخِره هَاء وَهِي شَجَرَة مِنْهَا يحرم أهل الْمَدِينَة. وَهِي من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال وَمن مَكَّة على مِائَتي ميل غير ميلين، وَقيل: بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ميل أَو ميلان والميل ثلث فَرسَخ وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع، وبذي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمَسْجِد الْكَبِير الَّذِي يحرم مِنْهُ النَّاس، وَالْمَسْجِد الآخر: مَسْجِد المعرس. وَقَالَ ابْن التِّين: هِيَ أبعد الْمَوَاقِيت من مَكَّة تَعْظِيمًا لإحرام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثمَّ يهل) ، بِضَم الْيَاء: من الإهلال، وَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (حَتَّى تستوي) أَي: الرَّاحِلَة. قَوْله: (قَائِمَة) ، نصب على الْحَال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الرّكُوب فِي سفر الْحَج وَالرُّكُوب فِيهِ وَالْمَشْي سَوَاء فِي الْإِبَاحَة، وَالْكَلَام فِي الْأَفْضَلِيَّة، فَقَالَ قوم: الرّكُوب أفضل اتبَاعا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولفضل النَّفَقَة فَإِن النَّفَقَة فِيهِ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله سَبْعمِائة ضعف، كَمَا أخرجه أَحْمد من حَدِيث بُرَيْدَة، وَصحح جمَاعَة أَن الْمَشْي أفضل وَبِه قَالَ إِسْحَاق لِأَنَّهُ أَشد على النَّفس، وَفِي حَدِيث صَححهُ الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (من حج إِلَى مَكَّة مَاشِيا حَتَّى رَجَعَ كتب لَهُ بِكُل خطْوَة سَبْعمِائة حَسَنَة من حَسَنَات الْحرم، قيل: وَمَا حَسَنَات الْحرم؟ قَالَ: كل حَسَنَة بِمِائَة ألف حَسَنَة) . وروى مُحَمَّد بن كَعْب عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا فَاتَنِي شَيْء أَشد عَليّ إلاَّ أَن أكون حججْت مَاشِيا، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . أَي: ركبانا، فَبَدَأَ بِالرِّجَالِ قبل الركْبَان، وَذكر إِسْمَاعِيل إِبْنِ إِسْحَاق عَن مُجَاهِد قَالَ: أهبط آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهِنْدِ فحج على قَدَمَيْهِ الْبَيْت أَرْبَعِينَ حجَّة، وَعَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، حجا ماشيين، وَحج الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، خَمْسَة وَعشْرين حجَّة مَاشِيا وَأَن النجائب لتقاد بَين يَدَيْهِ، وَفعله ابْن جريج وَالثَّوْري. وَفِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (حج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه مشَاة من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، ثمَّ قَالَ اربطوا على أوساطكم مآزركم وامشوا مشياً خلط الهرولة) . ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِيه: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أهل حِين اسْتَوَت رَاحِلَته قَائِمَة، واستواؤها كَمَال قِيَامهَا، وَبِه احْتج مَالك وَأكْثر الْفُقَهَاء على أَن يهل الرَّاكِب إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَاسْتحبَّ أَبُو حنيفَة أَن يكون إهلاله عقيب الصَّلَاة إِذا سلم مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: يهل إِذا أخذت نَاقَته فِي الْمَشْي، وَمن كَانَ يركب رَاحِلَته قَائِمَة كَمَا يَفْعَله كثير من الْحَاج الْيَوْم فيهل على مَذْهَب مَالك إِذا اسْتَوَى عَلَيْهَا رَاكِبًا. وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي رِوَايَة: (أهل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا اسْتَوَت النَّاقة) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (حَتَّى إِذا اسْتَوَت بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاحِلَته) ، وَفِي أُخْرَى (حَتَّى تنبعث بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَته) ، وَلَا يفهم مِنْهُ أَخذهَا فِي الْمَشْي وَقَالَ أَكثر أَصْحَاب مَالك يسْتَحبّ أَن يهل إِذا اسْتَوَت بِهِ نَاقَته إِن كَانَ رَاكِبًا وَإِن كَانَ رَاجِلا فحين يَأْخُذ فِي الْمَشْي، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ رَاكِبًا فَكَذَلِك.
5151 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ قَالَ أخبرنَا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِي سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ إهْلالَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ حينَ اسْتَوَتْ بِهِ راحِلَتُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد الْحَج رَاكِبًا، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله: {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد بن زادان التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق تقدم فِي: بَاب غسل الْحَائِض رَأسهَا. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي. مر فِي: بَاب وَقت الْمغرب. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح، وَإِن كَانَ عَطاء بن يسَار روى عَن جَابر، لَكِن الْأَوْزَاعِيّ لم يرو إلاَّ عَن أبي رَبَاح. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِلَا نِسْبَة(9/130)
إِلَى أَبِيه وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى. وَفِيه: أَنه رازي والوليد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان وَعَطَاء مكي.
رَوَاهُ أنَسٌ وَابنُ عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور أنس بن مَالك وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أما حَدِيث أنس فَسَيَأْتِي فِي: بَاب من بَات بِذِي الحليفة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس سَيَأْتِي فِي: بَاب مَا يلبس الْمحرم.
3 - (بابُ الحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحَج على الرحل، وَهُوَ بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفِي آخِره لَام، وَهُوَ للبعير كالسرج للْفرس، وَفِي (الْمُخَصّص) : الرحل مركب للبعير لَا غير، وَيجمع على أرحل ورحال، يُقَال: رحلت الرحل أرحله رحلاً: وَضعته على الْبَعِير، وَكَذَلِكَ: ارتحلته، أَي: وضعت عَلَيْهِ الرحل، ورحلته رحْلَة: شددت عَلَيْهِ أداته، وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن ترك التزين والتزوق أفضل كَمَا يَجِيء الْآن أَن عبد الرَّحْمَن حمل أُخْتهَا عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا على قتب.
6151 - وَقَالَ أبانُ حَدثنَا مالِكُ بنُ دِينَار عنِ القَاسِمِ بنِ محَمَّدٍ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعَثَ معَها أخاهَا عَبْدَ الرَّحْمانِ فأعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ وحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على قتب) لِأَن القتب هُوَ الرحل الصَّغِير على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأَبَان بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون منصرفا وَغير منصرف: ابْن يزِيد الْعَطَّار الْبَصْرِيّ، وَمَالك بن دِينَار الزَّاهِد الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ النَّاجِي، بالنُّون وَالْجِيم وياء النِّسْبَة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَلم يخرج البُخَارِيّ لَهُ غير هَذَا الحَدِيث، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الوَاسِطِيّ حَدثنَا سهل بن أَحْمد وَعلي بن الْعَبَّاس البَجلِيّ وَيحيى بن صاعد، قَالُوا: حَدثنَا عَبدة بن عبد الله حَدثنَا حرمي ابْن عمار حَدثنَا أبان يَعْنِي: ابْن يزِيد الْعَطَّار حَدثنَا مَالك فَذكره. قَوْله: (مَعهَا) ، أَي: مَعَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: عبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ شَقِيق عَائِشَة، وَأمّهَا أم رُومَان بنت عَامر، وَكَانَ اسْم عبد الرَّحْمَن فِي الْجَاهِلِيَّة عبد الْعُزَّى، وَقيل: عبد الْكَعْبَة، فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عبد الرَّحْمَن، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة أَحَادِيث اتفقَا على ثَلَاثَة، مَاتَ بالحبشي على اثْنَي عشر ميلًا من مَكَّة، فَحمل وَدفن فِي مَكَّة فِي إمرة مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَخمسين. قَوْله: (فأعمرها) ، أَي: حملهَا على الْعمرَة. قَوْله: (من التَّنْعِيم) ، بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق وَسُكُون النُّون وَكسر الْعين الْمُهْملَة: مَوضِع عِنْد طرف حرم مَكَّة من جِهَة الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة. قَوْله: (على قتب) ، بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ رَحل صَغِير على قدر السنام، وَالْجمع: أقتاب، وَيجوز تأنيثه عِنْد الْخَلِيل. وَفِي (الْمُحكم) : القتب والقتب: إكاف الْبَعِير. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَقيل: القتب لبعير الْحمل، والقتب بِالْكَسْرِ لبعير السانية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ قوم مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار على أَن وَقت الْعمرَة لمن كَانَ بِمَكَّة هُوَ التَّنْعِيم، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَغَيرهم، مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَآخَرُونَ: وَقت الْعمرَة لمن كَانَ بِمَكَّة الْحل، وَهُوَ خَارج الْحرم: فَمن أَي الْحل أَحْرمُوا بهَا جَازَ، سَوَاء ذَلِك التَّنْعِيم أَو غَيره من الْحل. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِنَّه قد يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد إِلَى التَّنْعِيم لِأَنَّهُ كَانَ أقرب الْمحل مِنْهَا، لِأَن غَيره من الْحل لَيْسَ هُوَ فِي ذَلِك كَهُوَ، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون أَرَادَ بِهِ التَّوْقِيت لأهل مَكَّة فِي الْعمرَة، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَإِذا يزِيد بن سِنَان قد حَدثنَا، قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَامر صَالح بن رستم عَن ابْن أبي مليكَة (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسرف وَأَنا أبْكِي، فَقَالَ: مَا ذَاك؟ قلت: حِضْت. قَالَ: فَلَا تبْكي، إصنعي مَا يصنع الْحَاج، فقدمنا مَكَّة ثمَّ أَتَيْنَا منى ثمَّ غدونا إِلَى عَرَفَة ثمَّ رمينَا الْجَمْرَة، تِلْكَ الْأَيَّام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّفر فَنزل الحصبة، قَالَت: وَالله مَا نزلها إلاَّ من أَجلي، فَأمر عبد الرَّحْمَن بن أبي(9/131)
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ: إحمل أختك فأخرجها من الْحرم. قَالَت: وَالله مَا ذكر الْجِعِرَّانَة وَلَا التَّنْعِيم فلتهل بِعُمْرَة، فَكَانَ أدناها من الْحرم التَّنْعِيم، فَأَهْلَلْت بِعُمْرَة، فطفنا بِالْبَيْتِ وسعينا بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ أَتَيْنَا فارتحل، فَأخْبرت عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْصد لما أَرَادَ أَن يعمرها إلاَّ إِلَى الْحل لَا إِلَى مَوضِع مِنْهُ بِعَيْنِه خَاصّا، وَأَنه إِنَّمَا قصد بهَا عبد الرَّحْمَن التَّنْعِيم لِأَنَّهُ كَانَ أقرب الْحل إِلَيْهِم لَا لِمَعْنى فِيهِ يبين بِهِ من سَائِر الْحل غَيره، فَثَبت بذلك أَن وَقت نزُول أهل مَكَّة لعمرتهم الْحل، وَأَن التَّنْعِيم فِي ذَلِك وَغَيره سَوَاء.،
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ: شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الحَجِّ فإنَّهُ أحَدُ الجِهَادَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الرّحال جمع رَحل، وَقد ذكرنَا أَن القتب هُوَ الرحل الصَّغِير. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق وَسَعِيد بن مَنْصُور من طَرِيق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ (عَن عَابس بن ربيعَة أَنه سمع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول وَهُوَ يخْطب: إِذا وضعتم السُّرُوج فشدوا الرّحال إِلَى الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُ أحد الجهادين) . سَمَّاهُ جهادا لِأَنَّهُ يُجَاهد فِيهِ نَفسه بِالصبرِ على مشقة السّفر وَترك الملاذ ودرء الشَّيْطَان عَن الشَّهَوَات، وعابس بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة.
وَقَالَ محَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا عَزْرَةُ بنُ ثَابِتٍ عنْ ثُمَامَةَ بنَ عَبْدِ الله بنِ أنَس. قَالَ حَجَّ أنَس عَلَى رَحْلٍ ولَمْ يَكُنْ شَحِيحا وحدَّثَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وكانَتْ زَامِلَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة وَاضِحَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ وَقد علق عَنهُ هُنَا، وَوَقع كَذَلِك فِي غير مَا نسخه، وَذكره عَنهُ غير وَاحِد، وَوَقع فِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع وَقد تقدم. الثَّالِث: عزْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وبالراء: ابْن ثاب، بالثاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة: الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم، مر فِي: بَاب من أعَاد الحَدِيث ثَلَاثًا. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَقد ذكرنَا أَنه مُعَلّق بِمَا فِيهِ من الْخلاف، وَقد ولى لَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فَرَوَاهُ عَن يُوسُف القَاضِي وَأبي يعلى وَالْحسن، قَالُوا: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم عَن عَليّ بن هَارُون، وَأَبُو الْفرج النَّسَائِيّ، قَالَا: حَدثنَا يُوسُف القَاضِي حَدثنَا مُحَمَّد، فَذكره. وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا زُرَيْع عَن زيد بن أبان (عَن أنس، قَالَ: حج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على رَحل وقطيفة تسوأن، وَقَالَ: لَا تَسَاوِي إِلَّا أَرْبَعَة دَرَاهِم) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، قَالَ: اللَّهُمَّ حجَّة لَا رِيَاء فِيهَا وَلَا سمعة) . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن أبي سِنَان عَن عبد الله بن الْحَارِث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حج على رَحل فاهتز، وَقَالَ مرّة: فاحتج فَقَالَ: لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة. قَوْله: (وَلم يكن شحيحا) أَي: بَخِيلًا، أَي: لم يكن تَركه الهودج والاكتفاء بالقتب للبخل، بل لمتابعة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَكَانَت) ، أَي: وَكَانَت الرَّاحِلَة الَّتِي ركبهَا زاملته، وَدلّ على هَذَا قَوْله: (على رَحل) ، والزاملة، بالزاي: الْبَعِير الَّذِي يستظهر بِهِ الرحل، يحمل مَتَاعه وَطَعَامه عَلَيْهِ، وَهِي من الزمل وَهُوَ الْحمل، وَالْحَاصِل أَنه لم يكن مَعَه غير رَاحِلَته لحمل مَتَاعه وَطَعَامه وَهُوَ رَاكب عَلَيْهَا، فَكَانَت هِيَ الرَّاحِلَة والزاملة. وَقَالَ ابْن سَيّده: الزاملة هِيَ الدَّابَّة الَّتِي يحمل عَلَيْهَا من الْإِبِل وَغَيرهَا، والزوملة: الْبَعِير الَّتِي عَلَيْهَا أحمالها، فَأَما العير فَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهَا أحمالها، وَمَا لم يكن. وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة، قَالَ: كَانَ النَّاس يحجون وتحتهم أَزْوَادهم، وَكَانَ أول من حج وَلَيْسَ تَحْتَهُ شَيْء عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
8151 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أبُو عاصِمٍ قَالَ حدَّثنا أيْمَنْ بن نابِلٍ قَالَ حدَّثنا(9/132)
القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا قالَتْ يَا رسولَ الله اعْتَمَرْتُمْ ولَمْ أعْتَمِرْ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ فأحْقَبَهَا عَلى ناقَةٍ فاعْتَمَرَتْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأحقبها) ، لِأَن مَعْنَاهُ: حملهَا على حقيبة الرحل.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ الفلاس. الثَّانِي: أَبُو عَاصِم النَّبِيل واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّالِث: أَيمن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم وَفِي آخِره نون: ابْن نابل، بالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة وباللام: العابد الزَّاهِد الْفَاضِل، وَكَانَ لَا يفصح لما فِيهِ من اللكنة. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق. الْخَامِس: عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا، وَلكنه روى عَنهُ بالواسطة وَهُوَ أَيْضا بَصرِي، وأيمن مكي تَابِعِيّ وَالقَاسِم مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عمته.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر (عَن أَيمن نَحوه، أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! تخرج نساؤك بِعُمْرَة وَحجَّة وَأَنا أخرج بِحجَّة؟ قَالَ: يَا عبد الرَّحْمَن. .) فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فأعمرها) ، بِقطع الْهمزَة أَمر من الإعمار. قَوْله: (فأحقبها) أَي: أردفها أَي: أحقب عبد الرَّحْمَن عَائِشَة، وَمِنْه سمي المردف: الحقب، والمحقب حَبل يشد بِهِ الرحل إِلَى بطن الْبَعِير.
4 - (بابُ فَضْلِ الحَجِّ المَبْرُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحَج المبرور أَي: المقبول، قَالَه ابْن خالويه، وَقَالَ غَيره: الْحَج المبرور الَّذِي لَا يخالطه شَيْء من المأثم، وَهُوَ من الْبر وَهُوَ اسْم جَامع للخير، يُقَال: بر عمله وبر عمله، بِفَتْح الْبَاء وَضمّهَا، بريرا وبرورا، وأبره الله تَعَالَى. قَالَ الْفراء: بُر حجَّة، فَإِذا قَالُوا: أبر الله حجك قَالُوهُ بِالْألف. وَقَالَ ثَعْلَب: بر حجك لِأَن الْعَامَّة تَقول: بر حجك، بِفَتْح الْبَاء، يجْعَلُونَ الْفِعْل لِلْحَجِّ، وَإِنَّمَا الْحَج مفعول بِهِ مبرور وَلَيْسَ ببار، وَحكى أَبُو عبيد واللحياني وَابْن التياني وَأَبُو الْمعَانِي وَأَبُو نصر فِي آخَرين: بر، بِفَتْح الْبَاء.
9151 - حدَّثنا عَبْدُ العَزيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدٍ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ الأعْمَالِ أفْضَلُ قالَ إيمَانٌ بِاللَّه ورسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ ماذَا قَالَ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ الله قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
(انْظُر الحَدِيث 62) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث تقدم فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب من قَالَ إِن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن سعد إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن يحيى بن عَمْرو أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي. وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت هُنَاكَ.
0251 - حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ المُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ قَالَ أخبرنَا حَبِيبُ بنُ أبي عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عنْ عائِشَةَ أُمِّ المؤْمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها قالَتْ يَا رسولَ الله نَرَي الجِهَادَ أفْضَلَ العمَلَ أفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لاَ لاكِنْ أفْضلَ الجِهادِ حَجٌّ مَبرُورٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك بن عبد الله العيشي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة. الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان. الثَّالِث: حبيب ابْن أبي عمْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفتح الرَّاء وَفِي آخرهَا هَاء: القصاب. الرَّابِع: عَائِشَة بنت طَلْحَة بنت(9/133)
عبيد الله التميمية القرشية، وَكَانَت من أجمل نسَاء قُرَيْش، أصدقهَا مُصعب بن الزبير ألف ألف دِرْهَم. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة الصديقة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه لَيْسَ أَخا لعبد الله بن الْمُبَارك الْفَقِيه الْمَشْهُور فَإِنَّهُ مروزي وَشَيخ البُخَارِيّ بَصرِي من بني عَيْش. وَفِيه: أَن خَالِدا واسطي وَأَن حبيبا كُوفِي وَأَن عَائِشَة بنت طَلْحَة مَدَنِيَّة. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَتهَا عَن خَالَتهَا، فَإِن عَائِشَة الصديقة خَالَة عَائِشَة بنت طَلْحَة لِأَن أمهَا أم كُلْثُوم بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد الله، وَفِي الْحَج أَيْضا: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا: عَن قبيصَة عَن سُفْيَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن حبيب بن أبي عمْرَة نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَفلا نجاهد؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الإستخبار. قَوْله: (قَالَ: لَا) ، أَي: لَا تجاهدن، قَوْله: (لَكِن) ، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِضَم الْكَاف وَالنُّون لجَماعَة النِّسَاء خطابا لَهُنَّ، وَقَالَ الْقَابِسِيّ: هَذَا هُوَ الَّذِي تميل إِلَيْهِ نَفسِي، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (وَلَكِن) ، بِكَسْر الْكَاف وَزِيَادَة الْألف قبلهَا بِلَفْظ الِاسْتِدْرَاك. قلت: فعلى هَذِه الرِّوَايَة اسْم لَكِن هُوَ قَوْله: (أفضل الْجِهَاد) بِالنّصب وخبرها هُوَ قَوْله: (حج مبرور) ، والمستدرك مِنْهُ يُسْتَفَاد من السِّيَاق تَقْدِيره: لَيْسَ لَكِن الْجِهَاد وَلَكِن أفضل الْجِهَاد فِي حقكن حج مبرور، وعَلى الرِّوَايَة الأولى: أفضل الْجِهَاد مَرْفُوع على الِابْتِدَاء وَخَبره هُوَ قَوْله: لَكِن، تَقْدِيره: أفضل الْجِهَاد لَكِن حج مبرور، وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: (أَلا نخرج فنجاهد مَعَك؟ . . فَإِنِّي لَا أرى عملا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم أفضل من الْجِهَاد؟ فَقَالَ: لَكِن أحسن الْجِهَاد وأجمله حج الْبَيْت حج مبرور) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قلت: يَا رَسُول الله! هَل على النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَلَيْهِنَّ جِهَاد لَا قتال فِيهِ: الْحَج وَالْعمْرَة) . وَعِنْده أَيْضا عَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْحَج جِهَاد كل ضَعِيف) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (جِهَاد الْكَبِير وَالصَّغِير والضعيف وَالْمَرْأَة: الْحَج وَالْعمْرَة) . وَإِنَّمَا قيل لِلْحَجِّ جِهَاد لِأَنَّهُ يُجَاهد فِي نَفسه بالكف عَن شهواتها والشيطان وَدفع الْمُشْركين عَن الْبَيْت باجتماع الْمُسلمين إِلَيْهِ من كل نَاحيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْمُهلب: فِي هَذَا وَفِي إِذن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَهُنَّ بِالْحَجِّ إبِْطَال إفْك المشغبين وَكذب الرافضة فِيمَا اختلقوه من الْكَذِب من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأزواجه: هَذِه، ثمَّ ظُهُور الْحصْر) وَهَذَا ظَاهر الاختلاق لِأَنَّهُ حضهن على الْحَج وبشرهن أَنه أفضل جهادهن، وَإِذن عمر لَهُنَّ، وسير عُثْمَان مَعَهُنَّ حجَّة قَاطِعَة على مَا كذب بِهِ على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر أم الْمُؤمنِينَ، وَكَذَا قَوْلهم عَنهُ: إِنَّه قَالَ لَهَا: تقاتلي عليا وَأَنت لَهُ ظالمة، فَإِنَّهُ لَا يَصح. انْتهى.
قَوْله: (وَأذن عمر لَهُنَّ وسير عُثْمَان مَعَهُنَّ) أَرَادَ بِهِ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِي: بَاب حج النِّسَاء فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج، قَالَ: قَالَ لي أَحْمد بن مُحَمَّد: (حَدثنَا إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن جده: أذن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر حجَّة حَجهَا، فبعص مَعَهُنَّ عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم) . قلت: إِنْكَار الْمُهلب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذِه ثمَّ ظُهُور الْحصْر لَا وَجه لَهُ، فَإِن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ فِي (سنَنه) وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن زيد بن أسلم عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأزواجه فِي حجَّة الْوَدَاع: هَذِه ثمَّ ظُهُور الْحصْر، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَفِي الحَدِيث (أفضل الْجِهَاد وأجمله حج مبرور ثمَّ لُزُوم الْحصْر) . وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لأزواجه: (هَذِه ثمَّ لُزُوم الْحصْر) أَي: إنكن لَا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الْحصْر، هِيَ: جمع الْحَصِير الَّذِي يبسط فِي الْبَيْت، وتضم الصَّاد وتسكن تَخْفِيفًا.
وَأما حَدِيث: تقاتلي عليا وَأَنت لَهُ ظالمة، فَلَيْسَ بِمَعْرُوف، وَالْمَعْرُوف أَن(9/134)
هَذَا قَالَه للزبير بن الْعَوام، وَالله أعلم، وَسَنَد حَدِيثه ضَعِيف، وَقَالَ الْمُهلب أَيْضا، قَوْله: (لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور) تَفْسِير قَوْله: {وَقرن فِي بيوتكن وَلَا تبرجن} (الْأَحْزَاب: 33) . الْآيَة لَيْسَ على الْفَرْض لملازمة الْبيُوت كَمَا زعم من أَرَادَ تنقيص أم الْمُؤمنِينَ فِي خُرُوجهَا إِلَى الْعرَاق للإصلاح بَين الْمُسلمين، وَهَذَا الحَدِيث يخرج الْآيَة عَمَّا تأولوها، لِأَنَّهُ قَالَ: (لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور) فَدلَّ أَن لَهُنَّ جهادا غير الْحَج، وَالْحج أفضل مِنْهُ. فَإِن قيل: النِّسَاء لَا يحل لَهُنَّ الْجِهَاد؟ قيل لَهُ: قَالَت حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: قدمت علينا امْرَأَة غزت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتّ غزوات، وَقَالَت: كُنَّا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى. وَفِي (الصَّحِيح) : وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا إراد الْغَزْو أَقرع بَين نِسَائِهِ فأيتهن خرج سهمها غزا بهَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَإِنَّمَا جعل الْجِهَاد حَدِيث أبي هُرَيْرَة أفضل من الْحَج لِأَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْإِسْلَام وقلته، وَكَانَ الْجِهَاد فرضا مُتَعَيّنا على كل أحد، فَأَما إِذا ظهر الْإِسْلَام وَفَشَا وَصَارَ الْجِهَاد من فروض الْكِفَايَة على من قَامَ بِهِ، فالحج حِينَئِذٍ أفضل، ألاَّ ترى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة: (أفضل جهادكن الْحَج) ، لما لم تكن من أهل الْغناء وَالْجهَاد للْمُشْرِكين، فَإِن حل الْعَدو ببلدة واجتيج إِلَى دَفعه وَكَانَ لَهُ ظهورة وَقُوَّة وَخيف مِنْهُ فرض الْجِهَاد على الْأَعْيَان كَانَ أفضل من الْحَج.
1251 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا سَيَّارٌ أَبُو الحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ مَنْ حَجَّ لله فلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رجَعَ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أمُّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (رَجَعَ كَمَا وَلدته أمه) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: سيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف رَاء على وزن فعال، فَقَالَ أَبُو الحكم: بِفتْحَتَيْنِ، مر فِي أول التَّيَمُّم. الرَّابِع: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسْمه سُلَيْمَان الْأَشْجَعِيّ مَاتَ فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار صَاحب سهل بن سعد فَلم يسمع من أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: راويان مذكوران بالكنية أَحدهمَا باسمه. وَفِيه: راويان ذكرا بِلَا نِسْبَة إِلَى الْأَب، وَفِيه: أَن شَيْخه من خُرَاسَان وَسكن عسقلان وَشعْبَة وسيار واسطيان وَأَبُو حَازِم كُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن هشيم بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من حج لله) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (من حج هَذَا الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق جرير عَن مَنْصُور: (من أَتَى هَذَا الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: (من حج أَو اعْتَمر) ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (تابعوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُمَا ينفيان الْفقر والذنُوب كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَيْسَ لِلْحَجِّ المبرور ثَوَاب دون الْجنَّة) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث جَابر: (الْحَج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إلاَّ الْجنَّة، قَالُوا: يَا رَسُول الله! مَا الْحَج المبرور؟ قَالَ: إطْعَام الطَّعَام وإفشاء السَّلَام، وَفِيه مقَال) ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هَذَا حَدِيث مُنكر يشبه الْمَوْضُوع، وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم من حَدِيث جَابر: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا بر الْحَج؟ قَالَ إطْعَام الطَّعَام وَطيب الْكَلَام) . وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَوْله: (فَلم يرْفث) ، بِضَم الْفَاء وَكسرهَا، الْفَاء فِيهِ عطف على الشَّرْط، أَعنِي قَوْله: (من) ، وَيَرْفث بِضَم الْفَاء وَكسرهَا وَفتحهَا، والأفصح الْفَتْح فِي الْمَاضِي، وَالضَّم فِي الْمُسْتَقْبل. وَقَالَ ابْن سَيّده: الرَّفَث: الْجِمَاع، وَقد رفث إِلَيْهَا ورفث فِي كَلَامه يرْفث رفثا وأرفث: أفحش، والرفث: التَّعْرِيض بِالنِّكَاحِ. وَفِي (الْجَامِع) : الرَّفَث اسْم جَامع لكل شَيْء مِمَّا يُرِيد الرجل من الْمَرْأَة. قَوْله: (وَلم يفسق) ، الْفسق الْعِصْيَان وَالتّرْك لأمر الله تَعَالَى، وَالْخُرُوج عَن طَرِيق الْحق. فسق يفسق ويفسق فسقا وفسوقا، وَفسق، بِالضَّمِّ عَن اللحياني، وَقَالَ: رَوَاهُ الْأَحْمَر وَلم يعرفهُ الْكسَائي. وَقيل: الْفسق الْخُرُوج عَن الدّين، وَرجل فَاسق وفسيق وَفسق، وَيُقَال فِي الْمَرْء: يَا فسق، وللأنثى يَا فساق، وَالْفِسْق الْخُرُوج عَن الْأَمر، ذكره ابْن سَيّده. وَقَالَ الْقَزاز: أَصله من قَوْلهم: انفسقت(9/135)
الرّطبَة إِذا أخرجت من قشرها، فَسُمي بذلك الْفَاسِق لِخُرُوجِهِ من الْخَيْر وانسلاخه مِنْهُ. وَقيل: الْفَاسِق الْجَائِز. قَالُوا: وَالْفِسْق والفسوق فِي الدّين اسْم إسلامي لم يسمع فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا يُوجد فِي أشعارهم، وَإِنَّمَا هُوَ مُحدث سمي بِهِ الْخَارِج عَن الطَّاعَة بعد نزُول الْقُرْآن الْعَظِيم. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: لم يسمع قطّ فِي كَلَام الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي شعرهم: فَاسق، وَهَذَا عَجِيب، وَهُوَ كَلَام عَرَبِيّ. قَوْله: (رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه) أَي: رَجَعَ مشابها لنَفسِهِ فِي الْبَراء من الذُّنُوب فِي يَوْم وَلدته أمه، وَرجع بِمَعْنى: صَار، جَوَاب الشَّرْط. وَلَفظ: (كَيَوْم) يجوز فِيهِ الْبناء على الْفَتْح. فَإِن قلت: ذكر هُنَا الرَّفَث والفسوق وَلم يذكر الْجِدَال، كَمَا فِي الْقُرْآن؟ قلت: اعْتِمَادًا على الْآيَة، وَالله أعلم.
5 - (بابُ فَرْضِ مَوَاقِيتِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فرض مَوَاقِيت الْحَج وَالْعمْرَة، وَالْفَرْض هُنَا يجوز أَن يكون بِمَعْنى التَّقْدِير، وَأَن يكون بِمَعْنى الْوُجُوب. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر بِمَعْنى الْوُجُوب وَهُوَ نَص البُخَارِيّ، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله فِي: بَاب مِيقَات أهل الْمَدِينَة: وَلَا يهلوا قبل ذِي الحليفة. قلت: قَوْله: (وَلَا يهلوا، قبل ذِي الحليفة) لَا يدل على عدم جَوَاز الإهلال من قبل ذِي الحليفة، لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك ترك الِاسْتِحْبَاب فِي الإهلال قبل ذِي الحليفة، وَأَن يكون معنى قَوْله: (وَلَا يهلوا) : وَلَا يسْتَحبّ لَهُم أَن يهلوا قبل ذِي الحليفة أَلا ترى أَن الْجُمْهُور جوزوا التَّقَدُّم على الْمَوَاقِيت، على أَن ابْن الْمُنْذر نقل الْإِجْمَاع على الْجَوَاز فِي التَّقَدُّم عَلَيْهَا. وَمذهب طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: الْأَفْضَل فِي التَّقَدُّم، وَالْمَنْقُول عَن مَالك كَرَاهَة ذَلِك لَا يدل على أَنه يرى عدم الْجَوَاز، وَكَذَلِكَ الْمَنْقُول عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كره أَن يحرم من خُرَاسَان. فَإِن قلت: نقل عَن إِسْحَاق وَدَاوُد عدم الْجَوَاز. قلت: مخالفتهما لِلْجُمْهُورِ لَا تعْتَبر، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَمن أَيْن علم أَن البُخَارِيّ مَعَهُمَا فِي ذَلِك؟ فَإِن قلت: تنصيصه فِي التَّرْجَمَة على لفظ الْفَرْض يدل على أَنه يرى ذَلِك. قلت: لَا نسلم لاحْتِمَال أَن يكون أَرَادَ بِالْفَرْضِ معنى التَّقْدِير، بل الرَّاجِح هَذَا لِأَنَّهُ وَقع فِي بعض النّسخ: بَاب فضل مَوَاقِيت الْحَج وَالْعمْرَة، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيُؤَيِّدهُ الْقيَاس على الْمِيقَات الزماني، فقد أَجمعُوا على أَنه لَا يجوز التَّقَدُّم عَلَيْهِ. قلت: لَا نسلم صِحَة هَذَا الْقيَاس لوُجُود الْفَارِق وَهُوَ أَن الْمِيقَات الزماني مَنْصُوص عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، بِخِلَاف الْمِيقَات المكاني. ثمَّ إعلم أَن الْمَوَاقِيت جمع: مِيقَات، على وزن: مفعال، وَأَصله موقات قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، من: وَقت الشَّيْء يقته، إِذا بَين حَده، وَكَذَا وقته يوقته، ثمَّ اتَّسع فِيهِ فَأطلق على الْمَكَان، فَقيل للموضع: مِيقَات، والميقات يُطلق على الزماني والمكاني، وَهَهُنَا المُرَاد المكاني.
2251 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثني زَيْدُ بنُ جُبَيْرٍ أنَّهُ أَتَى عَبْدَ الله بنَ عُمَر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ ولَهُ فُسْطَاطٌ وسُرادِقٌ فسَألْتُهُ مِنْ أيْنَ يَجُوزُ أنْ أعْتَمِر قَالَ فرَضَهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنا وَلأِهلِ المَدينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ وَلأِهْلِ الشأمِ الجُحْفَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ بَيَان تَوْقِيت لأهل هَذِه الْأَمَاكِن الثَّلَاثَة.
ذكر رِجَاله: وهم: أَرْبَعَة: الأول: مَالك بن إِسْمَاعِيل أَبُو غَسَّان، مر فِي: بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان. الثَّانِي: زُهَيْر، بِضَم الزَّاي وَفتح الْهَاء مصغر الزهر: ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، مر فِي: بَاب لَا يستنجي بروث. الثَّالِث: زيد بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن حرمل الْجُشَمِي، من بني جشم بن مُعَاوِيَة. الرَّابِع: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته الثَّلَاثَة كوفيون. وَفِيه: أَن زيد بن جُبَير لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَفِي الروَاة زيد بن جبيرَة، بِفَتْح الْجِيم وَزِيَادَة هَاء فِي آخِره، لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ شَيْئا.
وَهَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْوَجْه من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَحمَه الله.(9/136)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَله فسطاط) ، هُوَ بَيت من شعر، وَفِيه سِتّ لُغَات: فسطاط وفستاط وفساط، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر فِيهِنَّ، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. قَوْله: (وسرادق) ، هِيَ وَاحِدَة السرادقات الَّتِي تحد فَوق صحن الدَّار، وكل بَيت من كُرْسُف فَهُوَ سرادق، وكل مَا أحَاط بِشَيْء فَهُوَ سرادق، وَمِنْه: {وأحاط بهم سرادقها} (الْكَهْف: 9) . وَقيل: السرادق مَا يَجْعَل حول الخباء بَينه وَبَينه فسحة كالحائط، وَنَحْوه، وَظَاهره أَن ابْن عمر كَانَ مَعَه أَهله وَأَرَادَ سترهم بذلك لَا للتفاخر. قَوْله: (فَسَأَلته) ، فِيهِ الْتِفَات لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: إِنَّه أَتَى ابْن عمر، فَكَانَ السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يَقُول: فَسَأَلَهُ، وَوَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَدخلت عَلَيْهِ فَسَأَلته. قَوْله: (فَرضهَا) ، أَي: قدرهَا وبيَّنها، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْمَوَاقِيت بِالْقَرِينَةِ الحالية، قَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: أوجبهَا، وَبِه يتم مُرَاد المُصَنّف، وَيُؤَيِّدهُ قرينَة قَول السَّائِل: من أَيْن يجوز؟ قلت: من أَيْن علم أَن البُخَارِيّ فرض الإهلال من مِيقَات من الْمَوَاقِيت حَتَّى يكون تَفْسِير قَوْله: فَرضهَا، بِمَعْنى: أوجبهَا حَتَّى يتم مُرَاده.
قَوْله: (لأهل نجد) ، النجد فِي اللُّغَة: مَا أشرف من الأَرْض واستوى، وَيجمع على: أنجد وأنجاد ونجود ونجد، بِضَمَّتَيْنِ. وَقَالَ الْقَزاز: سمي نجدا لعلوه. وَقيل: سمي بذلك لصلابة أرضه وَكَثْرَة حجارته وصعوبته، من قَوْلهم: رجل نجد إِذا كَانَ قَوِيا شَدِيدا. وَقيل: يُسمى نجد الْفَزع من يدْخلهُ لاستيحاشه واتصال فزع السالكين لَهُ، من قَوْلهم: رجل نجد، إِذا كَانَ فَزعًا، ونجد مُذَكّر. وَلَو أنثه أحد ورده على الْبَلَد لجَاز لَهُ ذَلِك، وَالْعرب تَقول: نجد ونجد، بِفَتْح النُّون وَضمّهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ فِي (أَسمَاء الْبلدَانِ) : مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب إِلَى الطَّائِف، فالطائف من نجد وَأَرْض الْيَمَامَة والبحرين إِلَى عمان، وَقَالَ أَبُو عمر: نجد، مَا بَين جرش إِلَى سَواد الْكُوفَة، وحدَّه مِمَّا يَلِي الْمغرب: الْحجاز، وَعَن يسَار الْكَعْبَة الْيمن، ونجد كلهَا من عمل الْيَمَامَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: نجد مَا بَين العذيب إِلَى ذَات عرق وَإِلَى الْيَمَامَة وَإِلَى جبل طَيء وَإِلَى وجرة وَإِلَى الْيمن، وَالْمَدينَة لَا تهامية وَلَا نجدية، فَإِنَّهَا وفْق الْغَوْر وَدون نجد. وَقَالَ الْحَازِمِي: نجد: إسم للْأَرْض العريضة الَّتِي أَعْلَاهَا تهَامَة واليمن وَالْعراق وَالشَّام. وَقَالَ السكرِي: حد نجد ذَات عرق من نَاحيَة الْحجاز، كَمَا يَدُور الْجبَال مَعهَا إِلَى جبال الْمَدِينَة، وَمَا وَرَاء ذَلِك ذَات عرق إِلَى تهَامَة. وَقَالَ الْخطابِيّ نجد نَاحيَة الْمشرق، وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نجده بادية الْعرَاق ونواحيها، وَهِي مشرق أَهلهَا. وَذكر فِي (الْمُنْتَهى) : نجد من بِلَاد الْعَرَب، وَهُوَ خلاف الْغَوْر أَعنِي: تهَامَة وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد. قَوْله: (قرنا) بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ بِفَتْحِهَا، وغلطوه، وَقَالَ الْقَابِسِيّ: من قَالَ بِالسُّكُونِ أَرَادَ الْجَبَل المشرف على الْموضع، وَمن قَالَ بِالْفَتْح أَرَادَ الطَّرِيق الَّذِي يعرف مِنْهُ، فَإِنَّهُ مَوضِع فِيهِ طرق مُتَفَرِّقَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) : وَكَثِيرًا مَا يَجِيء فِي أَلْفَاظ الْفُقَهَاء وَغَيرهم بِفَتْحِهَا، وَلَيْسَ بِصَحِيح. وَقَالَ ابْن التِّين: روناه بِالسُّكُونِ، وَعَن الشَّيْخ أبي الْحسن أَن الصَّوَاب فتحهَا، وَعَن الشَّيْخ أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: إِن قلت: قرن الْمنَازل، أسكنته، وَإِن قلت: قرنا، فتحت. قلت: لما قَالَه الْجَوْهَرِي بالفتج، وَمِنْه أويس الْقَرنِي، وَقَالَ النسابون: أُويس مَنْسُوب إِلَى قرن، بالفتج: اسْم قَبيلَة، وَهُوَ على يَوْم وَلَيْلَة من مَكَّة. وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ قرن الْمنَازل وَقرن الثعالب وَقرن غير مُضَاف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة كتبت بِدُونِ الْألف، فَهُوَ إِمَّا بِاعْتِبَار العلمية والتأنيث، وَإِمَّا على اللُّغَة الربيعية حَيْثُ يقفون على الْمنون بِالسُّكُونِ فَيكْتب بِدُونِ الْألف، لَكِن يقْرَأ بِالتَّنْوِينِ. انْتهى. قلت: على الْوَجْه الأول هُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث، فَلَا يقْرَأ بِالتَّنْوِينِ.
قَوْله: (ذَا الحليفة) أَي: عين لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَقد فسرناها عَن قريب. قَوْله: (وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة) ، أَي: قدر الْجحْفَة، وَهِي بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة. وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ قريبَة جَامِعَة بهَا مِنْبَر، بَينهَا وَبَين الْبَحْر سِتَّة أَمْيَال، وغدير خم على ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْهَا، وَهِي مِيقَات المتوجهين من الشَّام ومصر وَالْمغْرب، وَهِي على ثَلَاثَة مراحل من مَكَّة أَو أَكثر، وعَلى ثَمَانِيَة مراحل من الْمَدِينَة، سميت بذلك لِأَن السُّيُول أجحفت بِمَا حولهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أخرجت العماليق بني عبيل، وهم أخوة عَاد، من يثرب فنزلوا الْجحْفَة، وَكَانَ اسْمهَا: مهيعة، فَجَاءَهُمْ السَّيْل فأجحفتهم، فسميت الْجحْفَة، وَفِي كتاب (أَسمَاء الْبلدَانِ) : لِأَن سيل الجحاف نزل بهَا. فَذهب بِكَثِير من الْحَاج وبأمتعة النَّاس ورحالهم، فَمن ذَلِك سميت: الْجحْفَة. وَقَالَ أَبُو عبيد، وَقد سَمَّاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مهيعة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالْعين الْمُهْملَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَالَ بَعضهم(9/137)
بِكَسْر الْهَاء. وَقَالَ ابْن حزم، رَحمَه الله تَعَالَى: الْجحْفَة مَا بَين الْمغرب وَالشمَال من مَكَّة، وَمِنْهَا إِلَى مَكَّة اثْنَان وَثَمَانُونَ ميلًا وَالله تَعَالَى أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: رد على عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن فِي زعمهم أَن لَا شَيْء على من ترك الْمِيقَات وَلم يحرم، وَهُوَ يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة، وَهُوَ شَاذ. وَنقل ابْن بطال عَن مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَنه يرجع من مَكَّة إِلَى الْمِيقَات، وَاخْتلفُوا إِذا رَجَعَ: هَل عَلَيْهِ دم أم لَا؟ فَقَالَ مَالك وَالثَّوْري فِي رِوَايَة: لَا يسْقط عَنهُ الدَّم بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ محرما، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن رَجَعَ إِلَيْهِ فلبى فَلَا دم عَلَيْهِ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ محرما، وَإِن لم يلب فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ الثَّوْريّ فِي رِوَايَة، وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: لَا دم عَلَيْهِ إِذا رَجَعَ إِلَى الْمِيقَات بعد إِحْرَامه على كل وَجه أَي: قبل أَن يطوف، فَإِن طَاف فالدم بَاقٍ، وَإِن رَجَعَ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ لَا يلْزم أَن يكون من الْمَذْكُورَات، بل يَصح من الْجِعِرَّانَة، وَنَحْوهَا. قلت: هِيَ للمكي وَأما الآفاقي فَلَا يَصح لَهُ الْإِحْرَام بهَا إلاَّ من الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة.
6 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التزود الْمَأْمُور بِهِ فِي قَول الله تَعَالَى: {وتزودوا} (الْبَقَرَة: 791) . وَإِنَّمَا أَمر بالتزود ليكف الَّذِي يحجّ وَجهه عَن النَّاس. قَالَ الْعَوْفِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ أنَاس يخرجُون من أَهْليهمْ لَيْسَ مَعَهم زَاد، يَقُولُونَ: نحجّ بَيت الله وَلَا يطعمنا؟ فَقَالَ الله: تزودوا مَا يكف وُجُوهكُم عَن النَّاس) وروى ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث عَمْرو بن عبد الْغفار عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانُوا إِذا أَحْرمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوَادهم رموا بهَا واستأنفوا زادا آخر، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) . فنهوا عَن ذَلِك وَأمرُوا أَن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق، ثمَّ لما أَمرهم بالزاد للسَّفر فِي الدُّنْيَا أرشدهم إِلَى زَاد الْآخِرَة، وَهُوَ اسْتِصْحَاب التَّقْوَى إِلَيْهَا، وَذكر أَنه خير من هَذَا وأنفع. قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: فِي قَوْله: {فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) . يَعْنِي: زَاد الْآخِرَة، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث قيس عَن جرير بن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من تزَود فِي الدُّنْيَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة) . ثمَّ قَالَ: {واتقونِ يَا أولي الْأَلْبَاب} (الْبَقَرَة: 791) . يَقُول: اتَّقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني، وَلم يأتمر بأَمْري يَا ذَوي الْعُقُول والأفهام.
3251 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بِشْرٍ قَالَ حدَّثنا شَبابَةَ عنْ وَرْقَاءَ عَن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ ويَقُولُونَ نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ فَإِذا قَدِمُوا المَدينةَ سًّلُوا النَّاسَ فأنْزلَ الله تَعَالَى وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين سَبَب نزُول الْآيَة الَّتِي ترْجم بهَا الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: أَبُو زَكَرِيَّا أحد عباد الله الصَّالِحين، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: شَبابَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: ابْن سوار الْفَزارِيّ، مر فِي: بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء، فِي كتاب الْحيض. الثَّالِث: وَرْقَاء مؤنث الأورق، ابْن عَمْرو بن كُلَيْب أَبُو بشر الْيَشْكُرِي، مر فِي: بَاب وضع المَاء فِي الْخَلَاء، الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن دِينَار، مر فِي: بَاب كتاب الْعلم. الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: إِن شَيْخه من أَفْرَاده وَإنَّهُ بلخي وَأَن شَبابَة مدائني وَأَن أصل وَرْقَاء من خوارزم، وَقيل؛ من الْكُوفَة، سكن الْمَدَائِن، وَأَن عَمْرو بن دِينَار مكي وَأَن عِكْرِمَة مدنِي وَأَصله من البربر.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أبي مَسْعُود أَحْمد بن الْفُرَات وَمُحَمّد بن عبد الله المخرمي، كِلَاهُمَا عَن شَبابَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد ابْن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَإِذا قدمُوا الْمَدِينَة) ، هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِذا(9/138)
قدمُوا مَكَّة) وَهُوَ الأصوب، كَذَا أخرجه أَبُو نعيم من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي عَن شَبابَة، وَهُوَ الْأَصَح. قَوْله: (التَّقْوَى) أَي: الخشية من الله تَعَالَى.
وَفِيه: من الْفِقْه: ترك سُؤال النَّاس من التَّقْوَى، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى مدح قوما، فَقَالَ: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} (الْبَقَرَة: 372) . وَكَذَلِكَ معنى آيَة الْبَاب، أَي: تزودوا فَلَا تُؤْذُوا النَّاس بسؤالكم إيَّاهُم، وَاتَّقوا الْإِثْم فِي أذاهم بذلك. وَفِيه: أَن التَّوَكُّل، لَا يكون مَعَ السُّؤَال، وَإِنَّمَا التَّوَكُّل على الله بِدُونِ استعانة بِأحد فِي شَيْء، وَيبين ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يدْخل الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب، وهم الَّذِي لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ) ، فَهَذِهِ أَسبَاب التَّوَكُّل وَصِفَاته، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لما كَانَ التزود ترك الْمَسْأَلَة الْمنْهِي عَنْهَا فِي غير الْحَج، وَكَانَت حَرَامًا على الْأَغْنِيَاء قبل الْحَج، كَانَت فِي الْحَج أوكد حُرْمَة. وَفِيه: زجر عَن التكفف وترغيب فِي التعفف والقناعة بالإقلال، وَلَيْسَ فِيهِ مذمة للتوكل، نعم المذلة على سُؤَالهمْ إِذْ مَا كَانَ ذَلِك توكلاً بل تأكلاً، وَمَا كَانُوا متوكلين بل متأكلين، إِذْ التَّوَكُّل هُوَ قطع النّظر عَن الْأَسْبَاب مَعَ تهيئة الْأَسْبَاب، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قيدها وتوكل) .
رَواهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمْرٍ وعنْ عِكْرِمَةَ مُرْسلاً.
أَي: روى هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، يَعْنِي: لم يذكر ابْن عَبَّاس، وَهَكَذَا أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد الْمقري، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة مُرْسلا. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَهُوَ أصح من رِوَايَة وَرْقَاء، وَاخْتلف فِيهِ على ابْن عُيَيْنَة، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَنهُ مَوْصُولا بِذكر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم كَمَا ذَكرْنَاهُ مُرْسلا.
7 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالعُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مهلّ أهل مَكَّة، أَي: مَوضِع إهلالهم، لِأَن لفظ: مهل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْهَاء وَتَشْديد اللَّام، والإهلال رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: وَإِنَّمَا يَقُوله بِفَتْح الْمِيم من لَا يعرف. قلت: هُوَ بِضَم الْمِيم اسْم مَكَان من الإهلال وَاسم زمَان أَيْضا، وَيكون مصدرا أَيْضا كالمدخل والمخرج بِمَعْنى الإدخال والأخراج، وأصل هَذِه الْمَادَّة لرفع الصَّوْت، وَمِنْه اسْتهلّ الصَّبِي إِذا صَاح عِنْد الْولادَة، وأهلَّ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْد الذَّبِيحَة، وَأهل الْهلَال واستهل: إِذا تبين، وَأهل الْمُعْتَمِر إِذا رفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ.
4251 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طاوُوسٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينةِ ذَا الحُلَيْفةِ وَلأِهْلِ الشَّامِ الجُحفَةَ وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ وَلأِهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ ومَنْ كانَ دُونَ ذالِكَ فَمِنْ حيثُ أنشَأ حتَّى أهَلَّ أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى أهلَّ أهلُ مَكَّة من مَكَّة) ، يَعْنِي: لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْخُرُوج إِلَى الْمِيقَات للْإِحْرَام، بل مهَّلهم لِلْحَجِّ أَي: مَوضِع إهلالهم لأجل الْحَج هُوَ مَكَّة، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: غَرَض البُخَارِيّ بَيَان أَن الْإِحْرَام لَا بُد وَأَن يكون من هَذِه الْمَوَاقِيت، فَمَا وَجه دلَالَته عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ أَن التَّلْبِيَة من ثمَّة؟ قلت: التَّلْبِيَة إِمَّا وَاجِبَة فِي الْإِحْرَام أَو سنة فِيهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالإحرام لَا يَخْلُو مِنْهَا، فالمهلّ هُوَ الْمِيقَات. انْتهى. قلت: لَيْسَ غَرَضه مَا ذكره الْكرْمَانِي، وَإِنَّمَا غَرَضه بَيَان مهل أهل مَكَّة، وَلِهَذَا ترْجم بقوله: بَاب مهلَّ أهل مَكَّة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَمحل الشَّاهِد هُوَ قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) كَمَا ذكرنَا، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَن مهلّهم هُوَ مَكَّة، سَوَاء كَانَ لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة، وَلَكِن مهلّ أهل مَكَّة للْعُمْرَة الحلّ، كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه.(9/139)
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة، قد ذكرُوا، ووهيب هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله بن طَاوُوس، يروي عَن أَبِيه طَاوُوس الْيَمَانِيّ.
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُعلى بن أَسد، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم فرقهم، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان صَاحب الشَّافِعِي، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وقَّت) أَي: عين وَقت، من التَّوْقِيت، وَهُوَ التَّعْيِين وأصل التَّوْقِيت أَن يَجْعَل للشَّيْء وَقت يخْتَص بِهِ، وَقَالَ عِيَاض: وَقت أَي حدد، وَقد يكون بِمَعْنى: أوجب، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْمَاضِيَة بِلَفْظ: فرض. قَوْله: (قرن الْمنَازل) ، قد ذكرنَا تَفْسِير الْقرن فِي: بَاب فرض مَوَاقِيت الْحَج، وَكَذَلِكَ ذكرنَا تَفْسِير ذِي الحليفة والجحفة، وَهُنَاكَ ذكر لفظ: الْقرن، فَقَط وَهَهُنَا ذكر بِلَفْظ: قرن الْمنَازل، وَهُوَ جمع منزل. قَالَ الْكرْمَانِي: والمركب الإضافي هُوَ اسْم الْمَكَان، وَقد يقْتَصر على لفظ الْمُضَاف، كَمَا فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم. قلت: النُّكْتَة فِي ذكره هُنَا بِهَذِهِ اللَّفْظَة هِيَ أَن الْمَكَان الَّذِي يُسمى الْقرن موضعان أَحدهمَا فِي هبوط، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: قرن الْمنَازل، وَالْآخر فِي صعُود وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: قرن الثعالب، وَالْمَعْرُوف الأول. وَذكر فِي (أَخْبَار مَكَّة) للفاكهي: أَن قرن الثعالب جبل مشرف على أَسْفَل منى، بَينه وَبَين مَسْجِد منى ألف وَخَمْسمِائة ذِرَاع. وَقيل لَهُ: قرن الثعالب لِكَثْرَة مَا كَانَ يأوي إِلَيْهِ من الثعالب، فَظهر أَن قرن الثعالب لَيْسَ من الْمَوَاقِيت، وَقد وَقع ذكره فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي إتْيَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّائِف يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام وردهم عَلَيْهِ. قَالَ: فَلم استفق إلاَّ وَأَنا بقرن الثعالب ... الحَدِيث، ذكره ابْن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) . قَوْله: (ويلملم) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وباللاَّمين وَسُكُون الْمِيم الأولى، غير منصرف. وَقَالَ عِيَاض: وَيُقَال: ألملم، وَهُوَ الأَصْل وَالْيَاء بدل مِنْهُ، وَهِي على ميلين من مَكَّة، وَهُوَ جبل من جبال تهَامَة. وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ جنوب مَكَّة، وَمِنْه إِلَى مَكَّة ثَلَاثُونَ ميلًا. وَفِي (الْمُحكم) : يَلَمْلَم وألملم جبل. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أَهله كنَانَة وتنحدر أوديته إِلَى الْبَحْر وَهُوَ فِي طَرِيق الْيمن إِلَى مَكَّة. وَهُوَ من كبار جبال تهَامَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ وادٍ بِهِ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه عسكرت هوَازن يَوْم حنين. فَإِن قلت: مَا وَزنه؟ قلت: فعمعل: كصمحمح، وَلَيْسَ هُوَ من: لملمت، لِأَن ذَوَات الْأَرْبَعَة لَا تلحقها الزِّيَادَة فِي أَولهَا إلاَّ فِي الْأَسْمَاء الْجَارِيَة على أفعالها. نَحْو: مدحرج. قلت: فعلى هَذَا الْمِيم الأولى وَاللَّام الثَّانِيَة زائدتان؟ وَلِهَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي فِي: بَاب الْمِيم وَفصل الْيَاء: يلم، ثمَّ قَالَ: يَلَمْلَم لُغَة فِي ألملم، وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن. وَحكى ابْن سيدة فِيهِ: يرمرم، براءين بدل اللاَّمين، وَقد جمع وَاحِد مَوَاقِيت الْإِحْرَام بنظم، وَهُوَ قَوْله:
(قرنَ يلملمُ ذُو الحليفة جحفةٌ ... قل: ذاتُ عرقٍ كلُّها مِيقَات)
(نجدٌ تهامةُ والمدينةُ مغربٌ ... شرقٌ وَهن إِلَى الْهدى مرقات)
قَوْله: (هن لَهُنَّ) أَي: هَذِه الْمَوَاقِيت لهَذِهِ الْبِلَاد، وَالْمرَاد أَهلهَا. وَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: هن لَهُم، لِأَن المُرَاد الْأَهْل، وَقد ورد ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات فِي (الصَّحِيح) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هن، ضمير جمَاعَة مؤنث الْعَاقِل فِي الأَصْل، وَقد يُعَاد على مَا لَا يعقل، وَأكْثر ذَلِك فِي الْعشْرَة فَمَا دونهَا، فَإِذا جاوزها قَالُوهُ بهاء الْمُؤَنَّث، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا} (التَّوْبَة: 63) . ثمَّ قَالَ: {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} (التَّوْبَة: 63) . أَي: من الإثني عشر، ثمَّ قَالَ: {فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} (التَّوْبَة: 63) . أَي: فِي هَذِه الْأَرْبَعَة، وَقد قيل: فِي الْجَمِيع، وَهُوَ ضَعِيف شَاذ. قَوْله: (وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ) ، أَي: على هَذِه الْمَوَاقِيت (من غَيْرهنَّ) أَي: من غير أهلهن، مثلا إِذا أَتَى الشَّامي إِلَى ذِي الحليفة، يكون مهلّه ذَا الحليفة، وَكَذَا الْبَاقِي نَحوه. قَوْله: (وَمن كَانَ دون ذَلِك) يَعْنِي من كَانَ بَين الْمِيقَات وَمَكَّة. قَوْله: (فَمن حَيْثُ أنشأ) ، الْفَاء جَوَاب الشَّرْط أَي: فمهله من حَيْثُ قصد الذّهاب إِلَى مَكَّة، يَعْنِي يهل من ذَلِك الْموضع. قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) يَعْنِي: إِذا قصد الْمَكِّيّ الْحَج فمهلَّه من مَكَّة، وَأما إِذا قصد الْعمرَة فمهلُّه من الْحل لقضية عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين أرسلها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن إِلَى التَّنْعِيم لتَحْرِيم مِنْهُ. فَإِن قلت: قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) أَعم من أَن يكون الْمَكِّيّ قَاصِدا لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَلِهَذَا ترْجم البُخَارِيّ بقوله: بَاب مهلَّ أهل مَكَّة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة. قلت: قَضِيَّة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تخصص هَذَا! وَلَكِن الظَّاهِر أَن البُخَارِيّ نظر إِلَى عُمُوم اللَّفْظ حَتَّى ترْجم بِهَذِهِ التَّرْجَمَة.(9/140)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن هَذِه الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة لأهل هَذِه الْبِلَاد، وَاخْتلفُوا هَل الْأَفْضَل الْتِزَام الْحَج مِنْهُنَّ. أَو من منزله، فَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق: إِحْرَامه من الْمَوَاقِيت أفضل، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب وَشبهه. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: الْإِحْرَام من الْمَوَاقِيت رخصَة، واعتمدوا فِي ذَلِك على فعل الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِنَّهُم أَحْرمُوا من قبل الْمَوَاقِيت، وهم ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَغَيرهم، قَالُوا: وهم أعرف بِالسنةِ، وأصول أهل الظَّاهِر تَقْتَضِي أَنه لَا يجوز الْإِحْرَام إلاَّ من الْمِيقَات إلاَّ أَن يَصح إِجْمَاع على خِلَافه. قَالَ أَبُو عمر: مَالك أَن يحرم أحد قبل الْمِيقَات، وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أنكر على عمرَان بن حُصَيْن إِحْرَامه من الْبَصْرَة، وَأنكر عُثْمَان بن عَفَّان على عبد الله بن عَامر إِحْرَامه قبل الْمِيقَات. وَفِي تَعْلِيق للْبُخَارِيّ: كره عُثْمَان أَن يحرم من خُرَاسَان وكرمان، وَكره الْحسن وَعَطَاء بن أبي رَبَاح الْإِحْرَام من الْموضع الْبعيد، وَقَالَ ابْن بزيزة: فِي هَذَا ثَلَاثَة أَقْوَال: مِنْهُم من جوزه مُطلقًا، وَمِنْهُم من كرهه مُطلقًا، وَمِنْهُم من أجَازه فِي الْبعيد دون الْقَرِيب. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة الْإِحْرَام من قبل هَذِه الْمَوَاقِيت أفضل لمن قوي على ذَلِك، وَقد صَحَّ أَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَعمْرَان بن حُصَيْن وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر أَحْرمُوا من الْمَوَاضِع الْبَعِيدَة، وَعند ابْن أبي شيبَة أَن عُثْمَان بن الْعَاصِ أحرم من المنجشانية، وَهِي قَرْيَة من الْبَصْرَة، وَعَن ابْن سِيرِين أَنه أحرم هُوَ وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَمُسلم بن يسَار من الدارات، وَأحرم أَبُو مَسْعُود من السيلحين. وَعَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من أهل بِعُمْرَة من بَيت الْمُقَدّس غفر لَهُ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: من أهل بِحجَّة أَو عمْرَة من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، وَوَجَبَت لَهُ الْجنَّة. شكّ عبد الله أَيَّتهمَا قَالَ. قلت: عبد الله هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن أحد رَوَاهُ الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: يرحم الله وكيعا، أحرم من بَيت الْمُقَدّس، يَعْنِي: إِلَى مَكَّة، وَأحرم ابْن سِيرِين مَعَ أنس من العقيق ومعاذ من الشَّام وَمَعَهُ كَعْب الحبر، وَقَالَ ابْن حزم: وَلَا يحل لأحد أَن يحرم بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ قبل الْمَوَاقِيت، فَإِن أحرم أحد قبلهَا وَهُوَ يمر عَلَيْهَا فَلَا إِحْرَام لَهُ وَلَا حج، وَلَا عمْرَة لَهُ إلاَّ أَن يَنْوِي إِذا صَار فِي الْمِيقَات تَحْدِيد إِحْرَام، فَذَلِك جَائِز، وإحرامه حِينَئِذٍ تَامّ.
وَفِيه: من أَتَى على مِيقَات من الْمَوَاقِيت لَا يتَجَاوَز غير محرم عِنْد أبي حنيفَة سَوَاء قصد دُخُول مَكَّة أَو لم يقْصد. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أما من مر على الْمِيقَات قَاصِدا دُخُول مَكَّة من غير نسك، وَكَانَ مِمَّن لَا يتَكَرَّر دُخُوله إِلَيْهَا، فَهَل يلْزمه دم أَو لَا؟ اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا، وَظَاهر الحَدِيث أَنه إِنَّمَا يلْزم الْإِحْرَام من أَرَادَ مَكَّة لأحد النُّسُكَيْنِ، خَاصَّة وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَأبي مُصعب فِي آخَرين، وَقَالَ ابْن قدامَة: أما المجاوز للميقات مِمَّن لَا يُرِيد النّسك فعلى قسمَيْنِ: أَحدهمَا: لَا يُرِيد دُخُول مَكَّة بل يُرِيد حَاجَة فِيمَا سواهَا، فَهَذَا لَا يلْزمه الْإِحْرَام بِلَا خلاف، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي تَركه الْإِحْرَام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بَدْرًا مرَّتَيْنِ وَلم يحرم، وَلَا أحد من أَصْحَابه، ثمَّ بَدَأَ لهَذَا الْإِحْرَام وتجدد لَهُ الْعَزْم عَلَيْهِ أَن يحرم من مَوْضِعه، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، هَذَا ظَاهر كَلَام الحرقي، وَبِه يَقُول مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وصاحبا أبي حنيفَة، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أَحْمد فِي الرجل يخرج لحَاجَة وَهُوَ لَا يُرِيد الْحَج، فجاوز ذَا الحليفة ثمَّ أَرَادَ الْحَج يرجع إِلَى ذِي الحليفة فَيحرم؟ وَبِه قَالَ إِسْحَاق. الْقسم الثَّانِي: من يُرِيد دُخُول الْحرم إِمَّا إِلَى مَكَّة أَو غَيرهَا، فهم على ثَلَاثَة أضْرب: أَحدهَا من يدخلهَا لقِتَال مُبَاح أَو من خوف أَو لحَاجَة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الْميرَة، وَمن كَانَت لَهُ ضَيْعَة يتَكَرَّر دُخُوله وَخُرُوجه إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ لَا إِحْرَام عَلَيْهِم لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل يَوْم فتح مَكَّة حَلَالا وعَلى رَأسه المغفر، وَكَذَا أَصْحَابه، وَلَا نعلم أَن أحدا مِنْهُم أحرم يَوْمئِذٍ، وَلَو وَجب الْإِحْرَام على من يتَكَرَّر دُخُولهَا أفْضى إِلَى أَن يكون جَمِيع زَمَنه محرما، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي.
8 - (بابُ ميقَاتِ أهْلِ المَدينَةِ وَلا يُهِلُّونَ قَبْلَ ذِي الحلَيْفَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مِيقَات أهل الْمَدِينَة. قَوْله: (وَلَا يهلوا) يجوز أَن يقدر فِيهِ: أَن، الناصبة فَيكون التَّقْدِير: وَأَن لَا يهلوا، وَتَكون الْجُمْلَة معطوفة على مَا قبلهَا، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان أَن لَا يهلوا قبل ذِي الحليفة، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى أهل الْمَدِينَة، فَإِذا كَانَ أهل الْمَدِينَة لَيْسَ لَهُم أَن يهلوا قبل ذِي الحليفة، فَكَذَلِك من يَأْتِي إِلَيْهَا من غير أَهلهَا، لَيْسَ لَهُم أَن يهلُّوا قبلهَا، فَهَذِهِ الْعبارَة تُشِير إِلَى أَن البُخَارِيّ مِمَّن لَا يرى تَقْدِيم الإهلال قبل الْمَوَاقِيت.(9/141)
5251 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُهِلُّ أهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ وَأهْلُ الشَّأمِ مِن الجُجْفَةِ وِأهْلُ نَجْدٍ منْ قَرْنٍ. قَالَ عَبْدُ الله وبلَغَنِي أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ويُهِلُّ أهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يهل أهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَتَفْسِير أَلْفَاظه قد مر عَن قريب.
قَوْله: (قَالَ عبد الله) هُوَ ابْن عمر. قَوْله: (وَبَلغنِي) ، وَرِوَايَة سَالم عَنهُ بِلَفْظ: (زَعَمُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَلم أسمعهُ) ، وَتقدم فِي الْعلم من وَجه آخر بِلَفْظ: (لم ألقه هَذِه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَمَعَ هَذَا هُوَ ثَبت من حَدِيث ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكر فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَمن حَدِيث جَابر وَعَائِشَة والْحَارث بن عَمْرو السَّهْمِي. وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يسْأَل عَن الْمهل؟ فَقَالَ: سَمِعت أَحْسبهُ رفع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مهلُّ الْمَدِينَة من ذِي الحليفة وَالطَّرِيق الآخر: الْجحْفَة، ومهل أهل الْعرَاق من ذَات عرق، ومهلّ أهل نجد من قرن، ومهل أهل الْيمن يَلَمْلَم. وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: (وَقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة، وَلأَهل الشَّام ومصر الْجحْفَة، وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق، وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم. وَأما حَدِيث الْحَارِث بن عَمْرو فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بمنى أَو عَرَفَات ... الحَدِيث.
وَفِيه: وقّت ذَات عرق لأهل الْعرَاق. وَفِيه: الْبَلَاغ، هَل هُوَ حجَّة أَو هُوَ من قبيل الْمَجْهُول؟ لِأَن رَاوِيه غير مَعْلُوم، فَالَّذِي قَالَه أهل الْفَنّ: إِنَّه لَا يقْدَح بِهِ لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يرويهِ إلاَّ عَن صَحَابِيّ آخر، وَالصَّحَابَة كلهم عدُول. فَإِن قلت: قَالُوا: عمر بن الْخطاب هُوَ الَّذِي وَقت لأهل الْعرَاق ذَات عرق، لِأَن الْعرَاق فِي زَمَانه افتتحت، وَلم تكن الْعرَاق فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: هَذَا تغفل، بل الَّذِي وقّت لأهل الْعرَاق ذَات عرق، هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الْمَذْكُورَة آنِفا، وَكَذَلِكَ وَقت لأهل الشَّام ومصر الْجحْفَة، وَلم تَكُونَا افتتحتا فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَن سيفتح الله تَعَالَى على أمته الشَّام ومصر وَالْعراق وَغَيرهَا من الأقاليم، وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، منعت الْعرَاق دينارها ودرهما، ومنعت الشَّام إردبَّها بِمَعْنى: ستمنع، وَذَات عرق ثنية أَو هضبة؟ بَينهَا وَبَين مَكَّة يَوْمَانِ وَبَعض يَوْم، وَالله تَعَالَى أعلم.
9 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ الشَّامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مهلَّ أهل الشَّام.
6251 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عنْ طَاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ وَقَّتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحلَيْفَةِ لأهل الشأم الْجحْفَة وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ ولأِهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ فَهُنَّ وَلِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنُ غَيْرِ أهْلِهِنَّ لِمَنْ كانَ يُرِيدُ الحجَّ وَالعُمْرَة فَمَنْ كانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلَّهُ مِنْ أهْلِهِ وكذَلِكَ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: لأهل الشَّام: الْجحْفَة، والْحَدِيث مر عَن قريب، وَحَمَّاد هُوَ: ابْن زيد. قَوْله: (دونهن) أَي: أقرب إِلَى مَكَّة. قَوْله: (فمهله) ، بِضَم الْمِيم أَي: مَكَان إِحْرَامه من دويرات أَهله قَوْله: (وَكَذَلِكَ) ، ويروى: وكذاك أَي: وَكَذَا من كَانَ أقرب من هَذَا الْأَقْرَب، حَتَّى إِن أهل مَكَّة يكون مهلهم من مَكَّة.
01 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ نَجْدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَوضِع إهلال أهل نجد.(9/142)
7251 - حدَّثنا عَلِيٌّ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ حَفِظْنِاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمٍ عنْ أبِيهِ وَقَّتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكْرَار تراجم هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله وَالَّذِي بعده مَعَ تَكْرِير حَدِيث ابْن عمر وَحَدِيث ابْن عَبَّاس لاخْتِلَاف مشايخه وَاخْتِلَاف الطّرق فِي حَدِيثهَا وَفِي بعض الْمنون كَمَا ترَاهُ وَأورد حَدِيث ابْن عمرهنا من طَرِيقين أَحدهمَا هَذَا عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان عَن عتيبة عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عبد الله بن عمر والآخرين أَحْمد حَيْثُ يَقُول لمديني عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عبد الله بن عمر، وَالْآخر: عَن أَحْمد حَيْثُ يَقُول.
8251 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ سَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ مُهَلُّ أهْلِ المَدِينَةِ ذُو الحُلَيْفَةِ وَمُهَلُّ أهْلِ الشَّأمِ مَهْيَعَةُ وَهْيَ الجُحْفَةُ وأهْلُ نَجْدٍ قَرْنٌ. قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا زَعَمُوا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ولَمْ أسْمَعْهُ وَمُهَلُّ أهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ. [/ نه.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَأهل نجد قرن، وَأحمد هُوَ أَحْمد بن عِيسَى التسترِي. قَالَ الجياني: كَذَا نسبه أَبُو ذَر، وَفِي هَذَا الْمَوْضُوع يَعْنِي: صرح بِهِ بِأَنَّهُ ابْن عِيسَى، وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ لي أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْحَافِظ أَحْمد عَن ابْن وهب فِي (جَامع البُخَارِيّ) : هُوَ ابْن أخي ابْن وهب. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: هَذَا وهم وَغلط. وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ لي أَبُو عبد الله ابْن مَنْدَه كلما قَالَ البُخَارِيّ فِي (الْجَامِع) : حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب فَهُوَ ابْن صَالح، وَلم يخرج، هُوَ ابْن أخي ابْن وهب فِي (الصَّحِيح) شَيْئا، وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى نسبه. قَوْله: (ابْن وهب) هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، و (يُونُس) هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، و (ابْن شهَاب) ، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. قَوْله: (مهل) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة. وَقيل: بِكَسْر الْهَاء، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور هُوَ الأول، وَقد فَسرهَا بقوله: وَهُوَ الْجحْفَة، ومهيعة تَسْمِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا. قَوْله: (وَأهل نجد قرن) ، أَي: ومهلّ أهل نجد قرن الْمنَازل. قَوْله: (زَعَمُوا) أَي: قَالُوا، والزعم يسْتَعْمل بِمَعْنى القَوْل الْمُحَقق. قَوْله: (وَلم أسمعهُ) ، جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: قَالَ ومقوله، على النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا لفظ قَالَ بعد قَوْله: وَلم أسمعهُ، وَأما على النُّسْخَة الَّتِي عندنَا فَهِيَ جملَة حَالية فَافْهَم. وَالْفرق بَين الْجُمْلَة المعترضة وَالْجُمْلَة الحالية أَن الْجُمْلَة المعترضة لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَالْجُمْلَة الحالية محلهَا النصب على الْحَال.
11 - (بابُ مُهَلِّ مَنْ كانَ دُونَ المَوَاقِيتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مهل، أَي: مَوضِع إهلال من كَانَ دون الْمَوَاقِيت، أَرَادَ من كَانَ وَطنه بَين الْمَوَاقِيت وَمَكَّة.
9251 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ عَمْرٍ وعنْ طاوُسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ ولأِهْلِ الشَّأمِ الجُحْفَةَ ولأِهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ ولأِهْلِ نَجْد قَرْنا فَهُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهْلِهِنَّ مَمَّنْ كانَ يُرِيدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَمَنْ كانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أهْلِهِ حَتَّى إنَّ أهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمن كَانَ دونهن) ، وَحَمَّاد، هُوَ ابْن زيد وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
21 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ اليَمَنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَوضِع إهلال أهل الْيمن.(9/143)
0351 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ عَبْدِ الله بن طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ وَلأِهْلِ الشأمِ الجُحْفَةَ وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلَ وَلأِهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ ولِكُلِّ آتٍ عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمنْ أرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَمَنْ كانَ دُونَ ذالِكَ فَمِنْ حَيْثُ أنّشَأَ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم) قَوْله: (من غَيرهم) ويروى: من غَيْرهنَّ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد. قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة) ، يجوز فِي لفظ: أهل، الْجَرّ لِأَن: حَتَّى، تكون حرفا جارا بِمَنْزِلَة: إِلَى، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: حَتَّى أهل مَكَّة يهلون من مَكَّة، كَمَا فِي قَوْلك: جَاءَ الْقَوْم حَتَّى المشاة، أَي: حَتَّى المشاة جاؤا.
31 - (بابٌ ذَاتَ عِرْقٍ لأهلِ العِرَاقِ)
يجوز فِي: بَاب، الْإِضَافَة وَالْقطع. أما الأول: فتقديره: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن ذَات عرق مهل أهل الْعرَاق، وَأما تَقْدِير الثَّانِي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ ذَات عرق لأهل الْعرَاق، وَذَات غرق بِكَسْر الْعين، وَقد فسرناها فِي: بَاب مِيقَات أهل الْمَدِينَة، سمي بذلك لِأَن فِيهِ عرقا، وَهُوَ الْجَبَل الصَّغِير، وَهِي أَرض سبخَة تنْبت الطرفاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي مَنَاسِكه: ذَات عرق أول بِلَاد تهَامَة ودونها بميلين وَنصف مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي لبني هِلَال بن عَامر بن صعصعة، وَبهَا بركَة تعرف بقصر الوصيف، وَبهَا من الْآبَار الْكِبَار ثَلَاثَة آبار وآبار صغَار كَثِيرُونَ وبقربه قبر أبي رِغَال، وبالقرب مِنْهَا بُسْتَان مِنْهُ إِلَى مَكَّة ثَمَانِيَة عشر ميلًا.
وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: الْعرَاق الَّذِي يَجْعَل على ملتقى طرفِي الْجلد إِذا خرز فِي أَسْفَل الْقرْبَة، وَبِه سمي الْعرَاق لِأَنَّهُ بَين الْبر والريف، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْعرَاق بِلَاد تذكر وتؤنث، وَيُقَال: هُوَ فَارسي مُعرب، وَزعم ابْن حوقل فِي (كتاب الْبلدَانِ) تأليفه: أَن حد الْعرَاق من تكريت إِلَى عبادان، وَعرضه من الْقَادِسِيَّة إِلَى الْكُوفَة وبغداد إِلَى حلوان، وَعرضه بنواحي وَاسِط من سَواد وَاسِط إِلَى قريب الطّيب، وبنواحي الْبَصْرَة من الْبَصْرَة إِلَى حُدُود جِيءَ، وَالَّذِي يطِيف بِحُدُودِهِ من تكريت فِيمَا يَلِي الْمشرق حَتَّى يجوز بِحُدُودِهِ شهر زور، ثمَّ يمر على حُدُود حلوان وحدود السيروان والضميرة وَالطّيب والسوس حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى حُدُود جِيءَ، ثمَّ إِلَى الْبَحْر فَيكون فِي هَذَا الْحَد من تكريت إِلَى الْبَحْر تقويس، وَيرجع على حد الغرب من وَرَاء الْبَصْرَة فِي الْبَادِيَة على سَواد الْبَصْرَة وبطائحها إِلَى وَاسِط، ثمَّ على سَواد الْكُوفَة وبطائحها إِلَى الْكُوفَة، ثمَّ على ظهر الْفُرَات إِلَى الأنبار ثمَّ من الأنبار إِلَى حد تكريت بَين دجلة والفرات من هَذَا الْحَد من الْبَحْر على الأنبار إِلَى تكريت تقويس أَيْضا، فَهَذَا الْمُحِيط بحدود الْعرَاق، وَهُوَ من تكريت إِلَى الْبَحْر مِمَّا يَلِي الْمشرق على تقويسه نَحْو شهر، وَمن الْبَحْر رَاجعا فِي حد الْمغرب على تقويسه إِلَى تكريت إِلَى الْبَحْر بِنَحْوِ شهر أَيْضا، وَعرضه على مَا سَمِعت بَغْدَاد من حلوان إِلَى الْقَادِسِيَّة إِحْدَى عشرَة مرحلة، وعَلى قسمه سر من رأى من دجلة إِلَى شهر زور والجبل نَحْو خمس مراحل، وَالْعرض بواسط إِلَى نواحي خورستان نَحْو أَربع مراحل.
1351 - حدَّثني عَلِيُّ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدثنَا عُبَيْدُ الله عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ لَمَّا فُتِحَ هاذانِ المِصْرَانِ أتَوْا عُمَرَ فقالُوا يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدَّ لأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنا وَهْوَ جَوْرٌ عنْ طَرِيقِنَا وإنَّا أرَدْنَا قَرْنا شَقَّ عليْنَا قَالَ فانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فحد لَهُم ذَات عرق.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: عَليّ بن مُسلم، بِلَفْظ إسم الْفَاعِل من الْإِسْلَام: ابْن سعيد أَبُو الْحسن، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم، مصغر(9/144)
نمر، مر فِي أول: بَاب التَّيَمُّم. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَبُو عُثْمَان الْقرشِي الْعَدوي. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّادِس: عمر بن الْخطاب أَمِير الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه طوسي سكن بَغْدَاد وَعبد الله بن نمير كُوفِي وَعبيد الله وَنَافِع مدنيان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما فتح هَذَانِ المصران) فتح فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِضَم الْفَاء على بِنَاء مَا لم يسم فَاعله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِفَتْح الْفَاء على الْبناء للْفَاعِل، وهذين المصرين، مَفْعُوله، وطوى ذكر الْفَاعِل للْعلم بِهِ، وَالتَّقْدِير: لما فتح الله هذَيْن المصرين، وَكَذَا ثَبت فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) ، وَبِه جزم القَاضِي عِيَاض. وَقَالَ ابْن مَالك: تنَازع فِيهِ الفعلان، وهما: فتح وَأتوا، وأعمل الثَّانِي. والمصران تَثْنِيَة مصر، وَأَرَادَ بهما: الْبَصْرَة والكوفة. فَإِن قلت: هما من تمصير الْمُسلمين، وبنيتا فِي أَيَّام عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أما الْكُوفَة فَإِنَّهَا بنيت سنة أَربع عشرَة وَأما الْبَصْرَة فَكَذَلِك مَدِينَة إسلامية بنيت فِي أَيَّام عمر ابْن الْخطاب فِي سنة سبع عشرَة، وَكَيف يُقَال لما فتح هَذَانِ المصران؟ قلت: المُرَاد بفتحهما غَلَبَة الْمُسلمين على مَكَان أرضهما، وَبَين الْبَصْرَة والكوفة ثَمَانُون فرسخا، وَلَيْسَ فِيهَا مزدرع على الْمَطَر أصلا لِكَثْرَة أنهارها، والكوفة على ذِرَاع من الْفُرَات خَارج جَانِبي الْفُرَات وغربيها. قَوْله: (وَهُوَ جور) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره رَاء أَي: ميل، والجور: الْميل عَن الْقَصْد. قَوْله: (فانظروا حذوها) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو، بِمَعْنى: الْحذاء، وَالْمعْنَى اعتبروا مَا يُقَابل من الأَرْض الَّتِي تسلكونها من غير ميل فاجعلوها ميقاتا. قَوْله: (فحد لَهُم) أَي: حد ذَات عرق لَهُم أَي لهَؤُلَاء الَّذين سَأَلُوا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ طَاوُوس وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد على أَن أهل الْعرَاق لَا وَقت لَهُم كوقت سَائِر الْبلدَانِ، وَإِنَّمَا يهلون من الْمِيقَات الَّذِي يأْتونَ عَلَيْهِ من الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع عوام أهل الْعلم على القَوْل بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر، وَاخْتلفُوا فِيمَا يفعل من مر بِذَات عرق، فَثَبت أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقته لأهل الْعرَاق وَلَا يثبت فِيهِ شَيْء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْإِثْبَات أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي وقته على حسب مَا علمه بِالْوَحْي من فتح الْبلدَانِ والأقطار لأمته، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زويت لي الأَرْض فَأريت مشارقها وَمَغَارِبهَا) . وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: إِن مِيقَات أهل الْعرَاق ذَات عرق، إلاَّ أَن الشَّافِعِي اسْتحبَّ أَن يحرم الْعِرَاقِيّ من العقيق الَّذِي بحذاء ذَات عرق، وَقَالَ فِي (الْأُم) : لم يثبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حد ذَات عرق، وَإِنَّمَا أجمع عَلَيْهِ النَّاس، وَهَذَا يدل على أَن مِيقَات ذَات عرق لَيْسَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ. وَبِه قطع الْغَزالِيّ والرافعي فِي (شرح الْمسند) وَالنَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَكَذَا وَقع فِي الْمُدَوَّنَة لمَالِك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت: صححت الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة والراقعي فِي (الشَّرْح الصَّغِير) وَالنَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَنه مَنْصُوص عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن يزِيد وَهِشَام بن بهْرَام الْمَدَائِنِي، قَالَا: حَدثنَا الْمعَافي بن عمرَان عَن أَفْلح بن حميد عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّت لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام ومصر الْجحْفَة، وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق، وَلأَهل الْيمن بلملم. وَأخرجه النَّسَائِيّ: أخبرنَا عَمْرو بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن بهْرَام إِلَى آخِره، وَبِحَدِيث جَابر أخرجه مُسلم، وَفِيه: مهلَّ أهل الْعرَاق ذَات عرق، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَلَفظه: وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أنس بن مَالك أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّت لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة، وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم، وَلأَهل الْبَصْرَة ذَات عرق، وَلأَهل الْمَدَائِن العقيق. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فقد ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الْآثَار من وَقت أهل الْعرَاق، كَمَا ثَبت من وَقت من سواهُم. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي الْمَكَان الَّذِي يحرم من أَتَى من الْعرَاق على ذَات عرق، فَكَانَ أنس يحرم من العقيق، وَاسْتحبَّ ذَلِك الشَّافِعِي، وَكَانَ مَالك وَإِسْحَاق وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي يرَوْنَ الْإِحْرَام من ذَات عرق. وَقَالَ أَبُو بكر: الْإِحْرَام من ذَات عرق يجزيء، وَهُوَ من العقيق أحوط. وَقد كَانَ الْحسن بن صَالح(9/145)
يحرم من الربذَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن حصيف وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، والعقيق، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف. وَقَالَ الْبكْرِيّ: على وزن فعيل: عقيقان، عقيق بني عقيل على مقربة من عقيق الْمَدِينَة الَّذِي بِقرب البقيع على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة. وَقَالَ ياقوت: العقيق عشرَة مَوَاضِع، وعقيقا الْمَدِينَة أشهرها وَأكْثر مَا يذكر فِي الْأَشْعَار فإياهما، وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد المهلبي: بَين العقيق وَالْمَدينَة أَرْبَعَة أَمْيَال، وَعَن الْأَصْمَعِي: الأعقة الأودية. وَفِي (التَّلْوِيح) : حَدثنَا عبد الله بن عُرْوَة حَدثنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد العابد حَدثنِي أَبُو عَاصِم عَن سُفْيَان عَن يزِيد عَن مُحَمَّد بن عَليّ عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأهل الْعرَاق بطن العقيق. قَالَ أَبُو مَنْصُور: أَرَادَ العقيق الَّذِي بحذاء ذَات عرق.
41 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَأَرَادَ بِهِ الْفَصْل كَمَا جرت بِهِ عَادَة المصنفين، يذكرُونَ بَابا ثمَّ يذكرُونَ فِيهِ: فصل، أَي: هَذَا فصل، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَكَذَا لتَعلق الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة بِمَا قبله، وَهَهُنَا كَذَلِك لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بالبطحاء بِذِي الحليفة، وَهَذَا لَهُ تعلق بِالْإِحْرَامِ من حَيْثُ إِن الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام مُسْتَحبَّة. وَقَالَ بَعضهم: وَقد ترْجم عَلَيْهِ بعض الشَّارِحين: بَاب نزُول الْبَطْحَاء وَالصَّلَاة بِذِي الحليفة. قلت: أَرَادَ بِبَعْض الشَّارِحين صَاحب (التَّوْضِيح) وَحكى قطب الدّين الْحلَبِي أَنه فِي بعض النّسخ، قَالَ: وَسقط فِي نُسْخَة سَمَاعنَا لفظ: بَاب، وَفِي (شرح ابْن بطال) : الصَّلَاة بِذِي الحليفة.
2351 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أناخَ بِالبَطْحَاءِ بِذِي الحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا وكانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَفْعَلُ ذالِكَ.
رِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين: كِلَاهُمَا عَن أبي الْقَاسِم وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب الْكل عَن مَالك.
قَوْله: (أَنَاخَ) ، بالنُّون وَالْخَاء الْمُعْجَمَة، أَي: أبرك بعيره، وَالْمعْنَى: أَنه نزل بالبطحاء الَّذِي بِذِي الحليفة، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن فِي مَكَّة أَيْضا بطحاء، وبذي قار أَيْضا بطحاء، وبطحاء أَزْهَر، فَهَذِهِ أَرْبَعَة، وبطحاء أَزْهَر نزل بِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بعض غَزَوَاته وَبِه مَسْجِد، وَهَذِه الْبَطْحَاء الْمَذْكُورَة هُنَا يعرفهَا أهل الْمَدِينَة بالمعرس، وأناخ بهَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رُجُوعه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة. وَقَالَ بَعضهم: نُزُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيهمَا يحْتَمل أَن يكون فِي الذّهاب، وَهُوَ الظَّاهِر من تصرف المُصَنّف، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الرُّجُوع، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث ابْن عمر الَّذِي بعده بِلَفْظ: وَإِذا رَجَعَ صلى بِذِي الحليفة بِبَطن الْوَادي، وَبَات حَتَّى أصبح، وَيُمكن الْجمع بِأَنَّهُ كَانَ يفعل الْأَمريْنِ ذَهَابًا وإيابا. انْتهى. قلت: قَوْله: وَهُوَ الظَّاهِر، غير ظَاهر، بل الظَّاهِر أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي رُجُوعه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرِي فِي النّوم وَهُوَ معرس فِي هَذِه الْبَطْحَاء أَنه قيل لَهُ: إِنَّك ببطحاء مباركة، فَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهَا تبركا بهَا. ويجعلها عِنْد رُجُوعه من مَكَّة مَوضِع مبيته ليبكر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة ويدخلها فِي صدر النَّهَار، وتتقدم أَخْبَار القادمين على أَهْليهمْ فتتهيأ الْمَرْأَة، وَهُوَ فِي معنى كَرَاهِيَة الطروق لَيْلًا من السّفر، ثمَّ هَذِه الصَّلَاة لَيست الصَّلَاة الَّتِي تصلى وَقت الْإِحْرَام، لِأَن الَّذِي يُصَلِّي وَقت الْإِحْرَام سنة، وَهَذِه الصَّلَاة مُسْتَحبَّة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهَذَا عَن مَالك وَغَيره من أهل الْعلم مُسْتَحبّ مستحسن مرغب فِيهِ، وَلَيْسَ بِسنة من سنَن الْحَج وَلَا الْمَنَاسِك الَّتِي تجب بهَا على تاركها فديَة أَو دم، وَلكنه حسن عِنْد جَمِيعهم إِلَّا ابْن عمر، فَإِنَّهُ جعله سنة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: لَو ترك هَذِه الصَّلَاة فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
51 - (بابُ خُرُوجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خُرُوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على طَرِيق الشَّجَرَة، قَالَ الْمُنْذِرِيّ: هِيَ على سِتَّة أَمْيَال من(9/146)
الْمَدِينَة، وَعند الْبكْرِيّ هِيَ من البقيع، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ مَوضِع مَعْرُوف على طَرِيق من أَرَادَ الذّهاب إِلَى مَكَّة من الْمَدِينَة كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج مِنْهَا إِلَى ذِي الحليفة فيبيت بهَا، وَإِذا رَجَعَ بَات بهَا أَيْضا.
3351 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِر قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِيَاض عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَخْرُجُ مِنْ طَريقِ الشَّجَرَةِ ويَدْخُلُ مِنْ طَريقِ المُعَرَّسِ وأنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا خَرَجَ إلَى مكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ وَإذَا رجَعَ صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي وبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: كَانَ يخرج من طَرِيق الشَّجَرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أَحْمد بن الْحجَّاج فرقهما.
قَوْله: (كَانَ يخرج) ، أَي: من الْمَدِينَة (من طَرِيق الشَّجَرَة) الَّتِي عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة وَيدخل الْمَدِينَة من طَرِيق الْعرس وَهُوَ أَسْفَل من مَسْجِد ذِي الحليفة. قَوْله: (المعرس) بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التَّعْرِيس وَهُوَ مَوضِع النُّزُول عِنْد آخر اللَّيْل، وَقيل: مَوضِع النُّزُول مُطلقًا. وَقَالَ التَّيْمِيّ: يخرج من مَكَّة من طَرِيق الشَّجَرَة وَيدخل مَكَّة من طَرِيق المعرس، عكس مَا شرحناه، وَتَمام الحَدِيث لَا يساعده. قَوْله: (وَبَات) أَي: بِذِي الحليفة (حَتَّى يصبح) ثمَّ يتَوَجَّه إِلَى الْمَدِينَة وَذَلِكَ لِئَلَّا يفجأ النَّاس أَهَالِيهمْ لَيْلًا، وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك كَمَا يفعل فِي الْعِيد، يذهب من طَرِيق وَيرجع من أُخْرَى، وَقيل: كَانَ نُزُوله هُنَاكَ لم يكن قصدا. وءنما كَانَ اتِّفَاقًا، وَالصَّحِيح أَنه كَانَ قصدا.
61 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: العقيق وَاد مبارك. قَوْله: (العقيق) مُبْتَدأ. وَقَوله: وادٍ، خَبره و: مبارك، صفته، و: مبارك نكرَة. ويروى: الْمُبَارك، بِالْألف وَاللَّام، وبإضافة وادٍ إِلَيْهِ أَي: وَاد الْموضع الْمُبَارك، وَقد مر تَفْسِير العقيق عَن قريب. قَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ وَاد بِظَاهِر الْمَدِينَة. وَقيل: يدفق مَاؤُهُ فِي غور تهَامَة.
4351 - حدَّثنا الحُمَيْدِي قَالَ حدَّثنا الوليدُ وبِشْرُ بنُ بَكْرٍ التِّنِيسي قالاَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني يحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرَمَةُ أنَّهُ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ إنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ أتانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فقالَ صَلِّ فِي هاذا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الْوَادي الْمُبَارك.
ذكر رِجَاله: وهم: ثَمَانِيَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ أَبُو بكر عبد الله بن الزبير بن الْعَوام مر فِي أول الصَّحِيح. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، مر فِي وَقت الْمغرب فِي كتاب الصَّلَاة. الثَّالِث: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: التنيسِي، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَتَشْديد النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وبالسين الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى: تنيس، بَلْدَة كَانَت فِي جَزِيرَة فِي وسط بحيرة تعرف ببحيرة تنيس هَذِه شَرْقي أَرض مصر، مر فِي: بَاب من أخف الصَّلَاة. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، تكَرر ذكره. الْخَامِس: يحيى بن أبي كثير. السَّادِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس. الثَّامِن: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَن نسبته إِلَى أحد أجداده وَأَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان. وَأَن يحيى يمامي طائي وَأَن عِكْرِمَة مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بِالنِّسْبَةِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه(9/147)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الِاعْتِصَام عَن سعيد بن الرّبيع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن النُّفَيْلِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله (بوادي العقيق) ، حَال، وَالْبَاء بِمَعْنى: فِي. قَوْله: (آتٍ) ، هُوَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالُوا، هَكَذَا، قلت: يحْتَمل أَن يكون ملكا من الْمَلَائِكَة غير جِبْرِيل لِأَن إسْرَافيل أَيْضا نزل إِلَيْهِ مُدَّة، وَلَكِن صرح فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (من رَبِّي) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: آتٍ، وآتٍ فَاعل أَتَى، وَأَصله: آتى، فأعل إعلال: قاضٍ، قَوْله: (صلِّ) أَمر بِالصَّلَاةِ. قَالَ الْكرْمَانِي: ظَاهره أَن هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الْإِحْرَام. وَقيل: كَانَت صَلَاة الصُّبْح، وَالْأول أظهر. قَوْله: (وَقل: عمْرَة فِي حجَّة) عمْرَة، مَنْصُوب فِي رِوَايَة أبي ذَر، ومرفوع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَأما وَجه النصب فبفعل مُقَدّر تَقْدِيره: قل جعلت عمْرَة فِي حجَّة، وَأما وَجه الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: قل هَذِه عمْرَة فِي حجَّة، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِمَّا أَن تكون: فِي، بِمَعْنى: مَعَ، كَأَنَّهُ قَالَ: عمْرَة مَعهَا حجَّة، وَإِمَّا أَن يُرَاد: عمْرَة مدرجة فِي حجَّة، على مَذْهَب من رأى أَن عمل الْعمرَة مضمن فِي عمل الْحَج يجْزِيه لَهما طواف وَاحِد. قلت: هَذَا بعيد، وَأبْعد مِنْهُ من قَالَ: إِنَّه يعْتَمر فِي تِلْكَ السّنة بعد فرَاغ حجَّة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفعل ذَلِك، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: يحْتَمل أَن يكون أمرا بِأَن يَقُول ذَلِك لأَصْحَابه ليعلمهم مَشْرُوعِيَّة الْقُرْآن، وَهُوَ كَقَوْلِه: دخلت الْعمرَة فِي الْحَج، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيره، لِأَن قَوْله: دخلت ... إِلَى آخِره، تأسيس قَاعِدَة، وَقَوله: عمْرَة فِي حجَّة، بالتنكير يَسْتَدْعِي على الْوحدَة، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْفِعْل الْوَاقِع فِي الْقُرْآن إِذْ ذَاك، والآن نحرر هَذَا المبحث إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل العقيق لفضل الْمَدِينَة، وَفِيه: فضل الصَّلَاة فِيهِ ومطلوبيتها عِنْد الْإِحْرَام لَا سِيمَا فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فَإِنَّهُ اسْتحبَّ كَونهَا بعد فرض. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَمعنى الحَدِيث الْإِعْلَام بِفضل الْمَكَان لَا إِيجَاب الصَّلَاة فِيهِ لقِيَام الْإِجْمَاع على أَن الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَادي لَيست بِفَرْض. قَالَ: فَبَان بذلك أَن أمره بِالصَّلَاةِ فِيهِ نَظِير حثه لأمته على الصَّلَاة فِي مَسْجده وَمَسْجِد قبا. قلت: الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ من سنة الْإِحْرَام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بذلك أَمر إرشاد، وَأَنه صلى رَكْعَتَيْنِ وَلَا يُصَلِّيهمَا فِي الْوَقْت الْمَكْرُوه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن كَانَ إِحْرَامه فِي وَقت من الْأَوْقَات الْمنْهِي فِيهَا عَن الصَّلَاة لم يصلهمَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَفِيه: وَجه لبَعض أَصْحَابنَا أَنه: يُصَلِّيهمَا فِيهِ لِأَن سببهما إِرَادَة الْإِحْرَام، وَقد وجد ذَلِك. وَفِيه: اسْتِحْبَاب نزُول الْحَاج فِي منزلَة قريبَة من الْبَلَد ومبيتهم بهَا ليجتمع إِلَيْهِم من تَأَخّر عَنْهُم مِمَّن أَرَادَ مرافقتهم، وليستدرك حَاجته من نَسِيَهَا فَيرجع إِلَيْهَا من قريب. وَفِيه: أَفضَلِيَّة الْقُرْآن وَالدّلَالَة على وجوده، وعَلى أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ قَارِئًا فِي حجَّة الْوَدَاع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر أَن يَقُول: عمْرَة فِي حجَّة، فَيكون مَأْمُورا بِأَنَّهُ يجمع بَينهمَا من الْمِيقَات، وَهَذَا هُوَ عين الْقُرْآن، فَإِذا كَانَ مَأْمُورا بِهِ اسْتَحَالَ أَن يكون حجَّة خلاف مَا أَمر بِهِ. فَإِن قلت: لَا نسلم ذَلِك وَلَا يدل ذَلِك على أَفضَلِيَّة الْقُرْآن، وَلَا على كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَارِئًا لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: قل عمْرَة وَحجَّة، ففصل بَينهمَا بِالْوَاو، فَحِينَئِذٍ يحْتَمل أَن يُرِيد أَن يحرم بِعُمْرَة إِذا فرغ من حجَّته قبل أَن يرجع إِلَى منزله، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا حججْت فَقل: لبيْك بِعُمْرَة وَتَكون فِي حجتك الَّتِي حججْت، أَو يكون مَحْمُولا على معنى تحصيلهما مَعًا قلت: رِوَايَة البُخَارِيّ وَغَيره: قل عمْرَة فِي حجَّة، وَهَذِه هِيَ الصَّحِيحَة، وَهِي تدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يَجْعَل الْعمرَة فِي الْحجَّة، وَهِي صفة الْقُرْآن، وَالرِّوَايَة الَّتِي بواو الْعَطف تدل على مَا قُلْنَا أَيْضا لِأَن الْوَاو لمُطلق الْجمع، وَالْجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة هُوَ الْقُرْآن، فَيدل أَيْضا على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارِئًا، وَمَا ذَكرُوهُ من الإحتمال بعيدد وَصرف اللَّفْظ إِلَى غير مَدْلُوله، فَلَا يقبل. وَالله أعلم.
5351 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثني سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ رُؤِيَ وهْوَ فِي مُعَرَّسٍ بذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطنِ الوادِي قِيلَ لهُ إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَاركَةٍ وقَدْ أنَاخَ بِنَا سالِمٌ يَتَوَخَّى بِالمُنَاخِ الَّذِي كانَ عَبْدُ الله يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ أسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الوَادِي(9/148)
بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الطَّرِيقِ وسَطٌ مِنْ ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّك ببطحاء مباركة) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر عَليّ بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بالمقدمي. الثَّانِي: فُضَيْل بن سُلَيْمَان النميري. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله. الْخَامِس:: أَبوهُ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه ذكر فِي: بَاب الْمَسَاجِد الَّتِي على طرق الْمَدِينَة! وَقد ذكرنَا لطائفة هُنَاكَ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك، وَفِي الْمُزَارعَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بكار، وَشُرَيْح بن يُونُس وَعَن مُحَمَّد بن عباد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَبدة ابْن عبد الله عَن سُوَيْد بن عَمْرو.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّه رُئي) ، بِضَم الرَّاء وَكسر الْهمزَة أَي: رَآهُ غَيره، هَذِه رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: أرِي بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: رأى بِلَفْظ الْمَاضِي الْمَعْرُوف من الرُّؤْيَا، وَفِي بَعْضهَا: ورؤي، بِلَفْظ الْمَجْهُول من الإراءة مقلوبا وَغير مقلوب. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم: أَتَى: (فِي معرس) قَوْله: (وَهُوَ معرس) ، جملَة حَالية، ومعرس، بِكَسْر الرَّاء على لفظ إسم الْفَاعِل من التَّعْرِيس، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَهُوَ فِي معرسه، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم: وَهُوَ فِي معرسه من ذِي الحليفة فِي بطن الْوَادي، وَهنا الرَّاء مَفْتُوحَة لِأَنَّهُ اسْم مَكَان من التَّعْرِيس. قَوْله: (وَقد أَنَاخَ بِنَا سَالم مقول مُوسَى بن عقبَة الرَّاوِي عَنهُ قَوْله (يتوخى) جملَة حَالية أَي يتحَرَّى ويقصد قَوْله بالمناخ بِضَم الْمِيم وَهُوَ المبرك قَوْله ينيخ من أَنَاخَ إناخة أَي: يبرك بعيره. قَوْله: (يتحرَّى) جملَة حَالية أَي: يقْصد. قَوْله: (مرس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِفَتْح الرَّاء لِأَنَّهُ اسْم مَكَان من التَّعْرِيس. قَوْله: (وَهُوَ أَسْفَل) لَفْظَة: هُوَ، مُبْتَدأ، و: أَسْفَل، خَبره. وَقَوله: (بَينه وَبَين الطَّرِيق) خبر ثَان، قَوْله: (وسط) خبر ثَالِث، وَيجوز أَن يكون بَدَلا. وَقَوله: (بَينه) أَي: بَين المعرس بِكَسْر الرَّاء وَهُوَ بإفراد الضَّمِير رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (بَينهم) ، أَي: بَين المعرسين، بِكَسْر الرَّاء جمع المعرس. قَوْله: (وسط) بِفَتْح السِّين أَي: متوسط بَين بطن الْوَادي وَبَين الطَّرِيق. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وسطا من ذَلِك، بِالنّصب، وَوَجهه أَن يكون حَالا بِمَعْنى: متوسطا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا فَائِدَة الثَّالِث: يَعْنِي قَوْله: وسط، وَهُوَ مَعْلُوم من الثَّانِي يَعْنِي: من قَوْله بَينه وَبَين الطَّرِيق؟ قلت: بَيَان أَنه فِي حلق الواسط لَا قرب لَهُ إِلَى أحد الْجَانِبَيْنِ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُور من الْفرق بَين الْوسط، بتحريك السِّين، وَالْوسط بسكونها.
71 - (بابُ غَسْلِ الخَلُوقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بيانِ غسل الخلوق، وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَضم اللَّام المخففة، وبالقاف ضرب من الطّيب يعْمل فِيهِ الزَّعْفَرَان.
حدَّثنا قَالَ أبُو عَاصِمٍ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ أَخْبرنِي عَطَاءٌ عَنْ صَفْوَانَ بنَ يَعْلَى أخْبَرَهُ أنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أرِنِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ يُوحى إليهِ قَالَ فَبَيْنَما النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالجِعْرَانَةِ ومعَهُ نَفَرٌ مَنْ أصْحَابِهِ جاءَهُ رَجلٌ فقالَ يَا رسولَ الله كيفَ تَرى فِي رَجلٍ أحْرَمَ بِعُمُرَةٍ وهْوَ مُتَضَمِّخٌ بِطيبٍ فسَكتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساعَةً فجَاءَهُ الوَحْيُ فأشارَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إلَى يَعْلَى فجاءَ يَعْلَى وعَلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فأدْخَلَ رَأسَهُ فإذَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْمَرُّ الوَجْهِ وَهْوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أينَ الَّذي سألَ عنِ العُمْرَةِ فأُتِيَ بِرجُلٍ فَقَالَ اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثلاثَ مَرَّاتٍ وَانْزَعْ عَنْكَ الجُبَّةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حجَّتِكَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أرَادَ الإنْقَاءَ حِينَ أمَرَهُ أنْ يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَ نَعَمْ.(9/149)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اغسل الطّيب الَّذِي بك ثَلَاث مَرَّات) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَن الخلوق كَانَ على الثَّوَاب، كَمَا فِي التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الرجل ان متضمخا. وَقَوله لَهُ: (اغسل الطّيب الَّذِي بك) يُوضح أَن الطّيب لم يكن فِي ثَوْبه، وَإِنَّمَا كَانَ على بدنه، وَلَو كَانَ على الْجُبَّة لَكَانَ فِي نَزعهَا كِفَايَة من جِهَة الْإِحْرَام. انْتهى. قلت: قَوْله: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَن الخلوق كَانَ على الثَّوْب، كَمَا فِي التَّرْجَمَة، غير مُسلم، لِأَن فِي الحَدِيث: وَهُوَ متضمخ بِطيب، أَعم من أَن يكون على بدنه أَو على ثَوْبه، وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغسل الطّيب الَّذِي بك) أَعم من أَن يكون على بدنه أَو على ثَوْبه، على أَن الخلوق فِي الْعَادة يكون فِي الثَّوْب، وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا مَا سَيَأْتِي فِي مُحرمَات الْإِحْرَام من وَجه آخر: بِلَفْظ: عَلَيْهِ قَمِيص فِيهِ أثر صفرَة، وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَطاء بِلَفْظ: رأى رجلا عَلَيْهِ جُبَّة عَلَيْهَا أثر خلوق، وروى مُسلم: حَدثنِي إِسْحَاق بن مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ عبيد الله بن عبد الْمجِيد حَدثنَا رَبَاح بن أبي مَعْرُوف، قَالَ: سَمِعت عَطاء، قَالَ: أَخْبرنِي صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَتَاهُ رجل عَلَيْهِ جُبَّة بهَا أثر من خلوق، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي أَحرمت بِعُمْرَة، فَكيف أفعل؟ فَسكت عَنهُ فَلم يرجع إِلَيْهِ، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يستره إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي، يظله، فَقلت لعمر: إِنِّي أحب إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي أَن أَدخل رَأْسِي مَعَه فِي الثَّوْب، فَجِئْته فأدخلت رَأْسِي مَعَه فِي الثَّوْب فَنَظَرت إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا سري عَنهُ قَالَ: أَيْن السَّائِل آنِفا عَن الْعمرَة؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الرجل، فَقَالَ: إنزع عَنْك جبتك واغسل أثر الخلوق الَّذِي بك وَافْعل فِي عمرتك مَا كنت فَاعِلا فِي حجك، وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن أثر الخلوق كَانَ على ثوب الرجل، وَلم يكن على بدنه، وَفِي رِوَايَة أبي عَليّ الطوسي: عَلَيْهِ جُبَّة فِيهَا ردع من زعفران ... الحَدِيث، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَطاء عَن يعلى مَرْفُوعا: رأى رجلا عَلَيْهِ جُبَّة عَلَيْهَا أثر خلوق أَو صفرَة فَقَالَ: إخلعها عَنْك وَاجعَل فِي عمرتك مَا تجْعَل فِي حجك. قَالَ قَتَادَة: فَقلت لعطاء: كُنَّا نسْمع أَنه قَالَ: شقها، قَالَ: هَذَا فَسَاد، وَالله لَا يحب الْفساد. وَعند أبي دَاوُد: فَأمره أَن يَنْزِعهَا نزعا ويغسلها مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. وَعِنْده: فخلعها من رَأسه، وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا هشيم أخبرنَا عبد الْملك وَمَنْصُور وَغَيرهمَا عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَحرمت وَعلي جبتي هَذِه، وعَلى جبته درع من خلوق ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ: إخلع هَذِه الْجُبَّة واغسل هَذَا الزَّعْفَرَان، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا ترد على الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن الطّيب لم يكن على ثَوْبه، وَإِنَّمَا كَانَ على بدنه، فَإِن قلت: سلمنَا هَذَا كُله، وَكَيف تُوجد الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة وفيهَا لفظ الخلوق وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب إِلَّا لفظ الطّيب؟ قلت: جرت عَادَة البُخَارِيّ أَن يبوب بِمَا يَقع فِي بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وَإِن لم يُخرجهُ وَهُوَ أَبْوَاب الْعمرَة بِلَفْظ: وَعَلِيهِ أثر الخلوق، على أَن الخلوق ضرب من الطّيب كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل، واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده، وَهَذَا بِصُورَة التَّعْلِيق، وَبِذَلِك جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: ذكره عَن أبي عَاصِم بِلَا خبر. وَقَالَ أَبُو نعيم: ذكره بِلَا روية، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ العراقية: حَدثنَا مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم. فَهُوَ إِمَّا مُحَمَّد بن الْمثنى الْمَعْرُوف بالزمن، وَإِمَّا مُحَمَّد ابْن معمر البحراني، وَإِمَّا مُحَمَّد بن بشار، بإعجام الشين. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: عَطاء بن أبي رَبَاح كَذَلِك. الرَّابِع: صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة، ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وروى لَهُ الْجَمَاعَة سوى ابْن مَاجَه. الْخَامِس: أَبوهُ يعلى بن أُميَّة بن أبي عُبَيْدَة التَّمِيمِي أَبُو خلف، وَأَبُو خَالِد أَو أَبُو صَفْوَان، وَهُوَ الْمَعْرُوف بيعلى بن منية، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَيُقَال: منية جدته وَهِي: منية بنت غَزوَان أُخْت عتبَة بنت غَزوَان، وَيُقَال: منية بنت جَابر، أسلم يَوْم الْفَتْح وَشهد الطَّائِف وحنينا وتبوك مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَنهُ وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تِسْعَة عشر حَدِيثا، قتل بصفين.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: قَالَ أَبُو عَاصِم، وَهُوَ تَعْلِيق. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَبَا عَاصِم بَصرِي والبقية مكيون، وَهَذَا الْإِسْنَاد مُنْقَطع لِأَنَّهُ قَالَ: إِن يعلى قَالَ لعمر، وَلم يقل إِن يعلى أخبرهُ أَنه قَالَ لعمر، أللهم إلاَّ إِذا كَانَ صَفْوَان حضر مراجعتهما، فَيكون مُتَّصِلا. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: رَوَاهُ عَبَّاس بن الْوَلِيد النَّرْسِي عَن دَاوُد الْعَطَّار عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة، أَو صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يقل(9/150)
عَن أَبِيه، وَرَوَاهُ قيس عَن عَطاء عَن صَفْوَان عَن أَبِيه: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بالجعرانة قد أهل بِالْعُمْرَةِ هُوَ مصفر لجبته وَرَأسه وَعَلِيهِ جُبَّة، وَفِي رِوَايَة همام عَن عَطاء عَن صَفْوَان عَن أَبِيه ... الحَدِيث، وَفِيه: جُبَّة عَلَيْهَا خلوق أَو أثر صفرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي الْوَلِيد فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن أبي نعيم وَفِي الْمَغَازِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن أَيْضا عَن مُسَدّد، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن شَيبَان بن فروخ، وَعَن زُهَيْر ابْن حَرْب وَعَن عبد بن حميد وَعَن عَليّ بن حشرم وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عقبَة بن مكرم وَمُحَمّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عقبَة بن مكرم وَعَن مُحَمَّد بن كثير وَعَن مُحَمَّد بن عِيسَى وَعَن يزِيد بن خَالِد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن روح بن حبيب وَعَن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعبد الْجَبَّار وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن عِيسَى بن حَمَّاد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: أَرِنِي) من الإراءة، يَقْتَضِي مفعولين أَحدهمَا هُوَ نون الْمُتَكَلّم، وَالْآخر هُوَ قَوْله: النَّبِي. قَوْله: (بَيْنَمَا النَّبِي) قد مر غير مرّة أَن أصل: بَيْنَمَا، بَين زيدت فِيهِ الْمِيم وَالْألف، وَهُوَ ظرف زمَان بِمَعْنى المفاجأة، وَكَذَلِكَ: بَينا، بِدُونِ الْمِيم ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل أَو مُبْتَدأ أَو خبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَهنا الْجُمْلَة مُبْتَدأ وَخبر، وهما قَوْله: (النَّبِي بالجعرانة) ، وَقَوله: (جَاءَ رجل) جَوَابه، و: الْجِعِرَّانَة، بِكَسْر الْجِيم وَالْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، قَالَ الْبكْرِيّ: كَذَا يَقُول الْعِرَاقِيُّونَ، وَمِنْهُم من يُخَفف الرَّاء ويسكن الْعين، وَكَذَا الْخلاف فِي الْحُدَيْبِيَة، وهما بَين الطَّائِف وَمَكَّة وَهِي إِلَى مَكَّة أدنى. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَهِي قريب من مَكَّة، وَهِي فِي الْحل وميقات الْإِحْرَام. وَقَالَ ياقوت: هِيَ غير الْجِعِرَّانَة الَّتِي بِأَرْض الْعرَاق. قَالَ سيف بن عمر: نزلها الْمُسلمُونَ لقِتَال الْفرس، وَقَالَ يُوسُف بن مَاهك. اعْتَمر بهَا ثَلَاثمِائَة نَبِي، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَعْنِي: بالجعرانة الَّتِي بِقرب مَكَّة. قَوْله: (وَمَعَهُ نفر من أَصْحَابه) الْوَاو فِيهِ للْحَال، أَي: مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة من أَصْحَابه وَكَانَ هَذَا بالجعرانة كَمَا ثَبت هُنَا، وَفِي غَيره: فِي مُنْصَرفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة حنين، وَفِي ذَلِك الْموضع قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غنائمها، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان كَمَا ذكره ابْن حزم وَغَيره، وهما موضعان متقاربان. قَوْله: (جَاءَهُ رجل) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ سَيَأْتِي: جَاءَهُ أَعْرَابِي، وَلم يعرف اسْمه. وَنقل بَعضهم فِي (الذيل) عَن (تَفْسِير الطرطوشي) : أَن اسْمه عَطاء بن مُنَبّه. فَقَالَ: إِن ثَبت هَذَا فَهُوَ أَخُو يعلى رَاوِي الْخَبَر، قيل: يجوز أَن يكون خطأ من اسْم الرَّاوِي، فَإِنَّهُ من رِوَايَة عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى بن مُنَبّه عَن أَبِيه، وَمِنْهُم من لم يذكر بَين عَطاء ويعلى أحدا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الرجل يحوز أَن يكون: عَمْرو بن سَواد، إِذْ فِي (كتاب الشِّفَاء) للْقَاضِي عِيَاض، عَنهُ قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متخلق) ، فَقَالَ: ورس ورس حط حط، وغشيني بقضيب بِيَدِهِ فِي بَطْني فأوجعني ... الحَدِيث. لَكِن عَمْرو هَذَا لَا يدْرك ذَا، فَإِنَّهُ صَاحب ابْن وهب، انْتهى. وَاعْترض بعض تلامذته عَلَيْهِ من وَجْهَيْن: أما أَولا: فَلَيْسَتْ هَذِه الْقَضِيَّة شَبيهَة بِهَذِهِ الْقَضِيَّة حَتَّى يُفَسر صَاحبهَا بهَا، وَأما ثَانِيًا: فَفِي الِاسْتِدْرَاك غَفلَة عَظِيمَة، لِأَن من يَقُول: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتخيل فِيهِ أَنه صَاحب ابْن وهب وَصَاحب مَالك، بل إِن ثَبت فَهُوَ آخر وَافق اسْمه اسْمه، وَاسم أَبِيه، وَالْغَرَض أَنه لم يثبت. قَالَ: لِأَنَّهُ انْقَلب على شَيخنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي (الشِّفَاء) : سَواد بن عَمْرو. انْتهى. قلت: رَأَيْت بِخَط بعض من أَخذ عَنهُ هَذَا الْمُعْتَرض، على هَامِش الورقة الَّتِي فِي هَذَا الْموضع من (كتاب التَّوْضِيح) ، قَالَ: فَائِدَة الَّذِي فِي الشِّفَاء سَواد بن عَمْرو، وَذكره فِي الْبَاب الثَّانِي من الْقسم الثَّالِث، وَلَفظه: وَأما حَدِيث سَواد بن عَمْرو: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متخلق، فَقَالَ: ورس ورس حط حط وغشيني بقضيب فِي يَده فأوجعني، فَقلت: الْقصاص يَا رَسُول الله، فكشف لي عَن بَطْنه، إِنَّمَا ضربه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمنكر رَآهُ، وَلَعَلَّه لم يرد بضربه بالقضيب إلاَّ تنبيهه، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ إيجاع لم يَقْصِدهُ طلب التَّحَلُّل مِنْهُ، وَلما ذكر هَذَا أنكر عَلَيْهِ وَنسبه إِلَى التخبط وَإِلَى كَلَام لَا معنى لَهُ. قَوْله: (وَهُوَ متضمخ بِطيب) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، ومتضمخ، بالضاد والحاء المعجمتين، يُقَال: تضمخ بالطيب إِذا تلطخ بِهِ وتلوث بِهِ. قَوْله: (وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (قد أظل بِهِ) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الظَّاء الْمُعْجَمَة، أَي: جعل عَلَيْهِ كالظلة، وَهَذِه الْجُمْلَة حَالية، وَيجوز أَن تكون محلهَا الرّفْع على أَنه صفة لثوب. قَوْله: (فَإِذا رَسُول الله) كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (وَهُوَ يغظ) . الْوَاو فِيهِ للْحَال، ويغط بِفَتْح الْيَاء وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا طاء مُهْملَة،(9/151)
أَي ينْفخ، وَهُوَ من الغطيط، وَهُوَ صَوت النَّفس المتردد من النَّائِم. وَيُقَال: الغطيط صَوت بِهِ بحوحة وَهُوَ كغطيط النَّائِم، أَي شخيره وصوته الَّذِي يردده فِي حلقه وَمَعَ نَفسه، وَسبب ذَلِك شدَّة الْوَحْي وَنَقله، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلاً} (المزمل: 5) . قَوْله: (ثمَّ سري عَنهُ) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، أَي: كشف عَنهُ شَيْئا بعد شَيْء بالتدريج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: رُوِيَ بتَخْفِيف الرَّاء الْمَكْسُورَة وتشديدها، وَالرِّوَايَة بِالتَّشْدِيدِ أَكثر. قَوْله: (اغسل الطّيب الَّذِي بك) قد قُلْنَا: إِنَّه أَعم من أَن يكون بِثَوْبِهِ أَو بدنه. قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) ، مُبَالغَة فِي الْإِزَالَة، وَلَعَلَّ الطّيب الَّذِي كَانَ على هَذَا الرجل كَانَ كثيرا. وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: (متضمخ) قلت: لِأَن بَاب التفعل وضع للْمُبَالَغَة. قَالَ القَاضِي: يحمل قَوْله: ثَلَاث مَرَّات على قَوْله: فاغسله، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إغسله إغسله إغسله ثَلَاث مَرَّات، يدل على صِحَّته مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَلَامه أَنه كَانَ إِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا. انْتهى. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أمره أَن يَنْزِعهَا نزعا ويغتسل مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. قَوْله: (واصنع فِي عمرتك مَا تصنع فِي حجتك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (كَمَا تصنع) ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي أَبْوَاب الْعمرَة: (كَيفَ تَأْمُرنِي أَن أصنع فِي عمرتي.
وَفِي مُسلم، من طَرِيق قيس بن سعد عَن عَطاء: (وَمَا كنت صانعا فِي حجتك فَاصْنَعْ فِي عمرتك) ، وَيدل هَذَا على أَنه كَانَ يعرف أَعمال الْحَج قبل ذَلِك. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يخلعون الثِّيَاب ويجتنبون الطّيب فِي الْإِحْرَام إِذا حجُّوا، وَكَانُوا يتساهلون فِي ذَلِك فِي الْعمرَة، فَأخْبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مجراهما وَاحِد. وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ الْأَدْعِيَة وَغَيرهَا مِمَّا يشْتَرك فِيهِ الْحَج وَالْعمْرَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ، كَمَا قَالَه: وَزَاد: وَيسْتَثْنى من الْأَعْمَال مَا يخْتَص بِهِ الْحَج، وَقَالَ الْبَاجِيّ: الْمَأْجُور غير نزع الثَّوْب وَغسل الخلوق، لِأَنَّهُ صرح لَهُ بهما فَلم يبْق إلاَّ الْفِدْيَة. وَفِيه نظر، لِأَن فِيهِ حصرا وَقد تبين فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من أَن الْمَأْمُور بِهِ الْغسْل والنزع، وَذَلِكَ فِي رِوَايَته من طَرِيق سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه قَالَ: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي: رجلا، وَهُوَ بالجعرانة وَأَنا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ مقطفات، يَعْنِي: جُبَّة وَهُوَ متضمخ بالخلوق، فَقَالَ: أَنِّي أَحرمت بِالْعُمْرَةِ، وعَلى هَذَا: وَأَنا متضمخ بالخلوق، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا كنت صانعا فِي حجك فاصنعه فِي عمرتك. قَوْله: (فَقلت لعطاء) الْقَائِل هُوَ ابْن جريج.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز نظر الرجل إِلَى غَيره وَهُوَ مغطى بِشَيْء وَإِدْخَال رَأسه فِي غطائه إِذا علم أَنه لَا يكره ذَلِك مِنْهُ، فَإِن يعلى أَدخل رَأسه فِيمَا أظل بِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ علم أَنه لَا يكره ذَلِك فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَن فِيهِ تَقْوِيَة الْإِيمَان بمشاهدة حَال الْوَحْي الْكَرِيم، وَكَذَلِكَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، علم ذَلِك من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قَالَ للرجل: تَعَالَى فَانْظُر. وَفِيه: أَن الْمُفْتِي إِذا لم يعلم حكم الْمَسْأَلَة أمسك عَن جوابها حَتَّى يُعلمهُ. وَفِيه: أَن من الْأَحْكَام الَّتِي لَيست فِي الْقُرْآن مَا هُوَ بِوَحْي لَا يُتْلَى. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر الرجل بالفدية، فَأخذ بِهِ الشَّافِعِي وَالثَّوْري وَعَطَاء وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالُوا: إِن من لبس فِي إِحْرَامه مَا لَيْسَ لَهُ لبسه جَاهِلا، فَلَا فديَة عَلَيْهِ، وَالنَّاسِي فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة والمزني فِي رِوَايَة عَنْهَا: يلْزمه إِذا غطى رَأسه وَوَجهه مُتَعَمدا أَو نَاسِيا يَوْمًا إِلَى اللَّيْل، فَإِن كَانَ أقل من ذَلِك فَعَلَيهِ صَدَقَة يتَصَدَّق بهَا. وَعَن مَالك: يلْزمه إِذا انْتفع بذلك أَو طَال لبسه عَلَيْهِ. وَفِيه: الْمُبَالغَة فِي الإنقاء من الطّيب. وَفِيه: أَن الْمحرم إِذا كَانَ عَلَيْهِ مخيط نَزعه وَلَا يلْزمه تمزيقه وَلَا شقَّه، خلافًا للنخعي وَالشعْبِيّ حَيْثُ قَالَا: لَا يَنْزعهُ من قبل رَأسه لِئَلَّا يصير مغطيا رَأسه، أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنْهُمَا، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحوه، وَكَذَا عَن الْحسن وَأبي قلَابَة، وَقد وَقع عِنْد أبي دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلَفْظ: (إخلع عَنْك الْجُبَّة، فخلعها من قِبَل رَأسه) . وَعَن أبي صَالح وَسَالم: يخلعه من قبل رجلَيْهِ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا أحرم وَعَلِيهِ قَمِيص لَا يَنْزعهُ من رَأسه، بل يشقه ثمَّ يخرج مِنْهُ، وَفِيه: اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتِعْمَال الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، واستدامته بعده، فكرهه قوم ومنعوه، مِنْهُم مَالك وَمُحَمّد بن الْحسن، ومنعهما عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَعَطَاء وَالزهْرِيّ، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَأَجَابُوهُ مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ تمسكا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي لحرمه حِين أحرم، ولحله حِين أحل قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ) ، وَلمُسلم: بذريرة فِي حجَّة الْوَدَاع، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ كَمَا سَيَأْتِي: (وطيبته بمنى قبل أَن يفِيض) . وعنها: (كَأَنِّي(9/152)
أنظر إِلَى وبيص الْمسك فِي مفرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم) . والوبيص، بالصَّاد الْمُهْملَة: البريق واللمعان. قَالَا: وَحَدِيث يعلى إِنَّمَا أمره بِغسْل مَا عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك الطّيب كَانَ زعفرانا، وَقد نهى الرِّجَال عَن الزَّعْفَرَان، وَجَوَاب آخر بِأَن قصَّة يعلى كَانَت بالجعرانة كَمَا ثَبت فِي هَذَا الحَدِيث، وَهِي فِي سنة ثمانٍ بِلَا خلاف، وَحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشرٍ بِلَا خلاف، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ بِالْآخرِ فالآخر من الْأَمر. فَإِن قلت: إِن ذَلِك الوبيص الَّذِي أبصرته عَائِشَة إِنَّمَا كَانَ بقايا ذَلِك الطّيب وَقد تعذر قلعهَا فَبَقيَ بعد أَن غسل، وَأَيْضًا: كَانَ ذَلِك من خواصه لِأَن الْمحرم، إِنَّمَا منع من الطّيب لِئَلَّا يَدعُوهُ إِلَى الْجِمَاع، والشارع مَعْصُوم. وَأَيْضًا كَانَ مِمَّا لَا تبقى رَائِحَته بعد الْإِحْرَام. قلت: قد ذكرنَا أَن ذَلِك الطّيب كَانَ زعفرانا وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الزَّعْفَرَان مُطلقًا، سَوَاء كَانَ فِي الْحل أَو الْحُرْمَة، وَدَعوى الخصوصية تحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَقد روى ابْن حزم من طَرِيق حَمَّاد بن يزِيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سَالم بن عبد الله عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: (طيبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي) ، وَرُوِيَ: أَنَّهُنَّ كن يضمخن جباههن بالمسك ثمَّ يحرمن ثمَّ يعرقن فيسيل على وجوههن، فَيرى ذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يُنكره.
81 - (بابُ الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ ومَا يَلْبَسُ إذَا أرَادَ أنْ يحْرِمَ ويَتَرَجَّلُ وَيَدَّهِنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الطّيب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام، وَجَوَاز مَا يلبس الشَّخْص إِذا أَرَادَ الْإِحْرَام. قَوْله: (ويترجل) بِالرَّفْع، عطف على قَوْله: وَمَا يلبس، ويروى بِالنّصب وَوَجهه أَن يكون مَنْصُوبًا بِأَن، الْمقدرَة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(للبسُ عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوفِ)
وَقَوله: (ويترجل) ، من التَّرَجُّل على وزن: التفعل، وَهُوَ أَن يسرح شعره، من: رجلت رَأْسِي: إِذا مشطته بالمشط. قَوْله: (ويدهن) ، بِفَتْح الْهَاء من الثلاثي، يَعْنِي: من دهن يدهن، وبكسرها من ادَّهن على وزن: افتعل، إِذا تطلى بالدهن، وَأَصله يتدهن، فأبدلت التَّاء دَالا وأدغمت الدَّال فِي الدَّال، وَهُوَ عطف أَيْضا على: يلبس، وَقد تكلم الشُّرَّاح هُنَا بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، فتركناه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَشَمُّ المُحْرَمْ الرَّيْحَانَ ويَنْظُرُ فِي المِرْآةِ ويَتَداوَى بِمَا يأكُلُ الزَّيْتَ والسَّمْنَ
هَذَا التَّعْلِيق فِي شم الْمحرم الريحان وَصله الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد جيد إِلَى سُفْيَان،: حَدثنَا أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا للْمحرمِ أَن يشم الريحان، وروى الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد صَحِيح عَنهُ: الْمحرم يشم الريحان وَيدخل الْحمام وَينْزع سنه ويفقأ القرحة، وَإِن انْكَسَرَ ظفره أماط عَنهُ الْأَذَى.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الريحان. فَقَالَ إِسْحَاق: يُبَاح، وَتوقف أَحْمد فِيهِ، وَقَالَ الشَّافِعِي: يحرم، وَكَرِهَهُ مَالك وَالْحَنَفِيَّة. ومنشأ الْخلاف أَن كل مَا يتَّخذ مِنْهُ الطّيب يحرم بِلَا خلاف، وَأما غَيره فَلَا، وروى بن أبي شيبَة عَن جَابر أَنه قَالَ: لَا يشم الْمحرم الريحان، وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يكره شم الريحان للْمحرمِ. وَعَن أبي الزبير: سمع جَابِرا يسْأَل عَن الريحان أيشمه الْمحرم وَالطّيب والدهن؟ فَقَالَ: لَا. وَعَن جَابر: إِذا شم الْمحرم ريحانا أَو مس طيبا إهراق لذَلِك دَمًا. وَعَن إِبْرَاهِيم: فِي الطّيب الْفِدْيَة. وَعَن عَطاء: إِذا شم طيبا كفر، وَعنهُ: إِذا وضع الْمحرم على شَيْء دهنا فِيهِ طيب فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة. وَالريحَان: مَا طَابَ رِيحه من النَّبَات كُله سهلية وجبلية، والواحدة رَيْحَانَة. وَفِي (الْمُحكم) : الريحان أَطْرَاف كل كل بقلة طيبَة الرّيح إِذا خرج عَلَيْهَا أَوَائِل النَّور، والريحانة: طَاقَة من الريحان.
وَأما النّظر فِي الْمرْآة، فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (جَامعه) : رِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن هِشَام بن حسان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا بَأْس أَن ينظر فِي الْمرْآة وَهُوَ محرم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن لَيْث عَن طَاوُوس: لَا ينظر.
وَأما التَّدَاوِي. قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَعباد بن الْعَوام عَن أَشْعَث عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يَقُول: يتداوى الْمحرم بِمَا يَأْكُل. وَقَالَ أَيْضا: حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا تشققت يَد الْمحرم أَو رِجْلَاهُ فليدهنهما بالزيت أَو السّمن. وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر: يتداوى الْمحرم بِأَيّ دَوَاء شَاءَ إلاَّ دَوَاء فِيهِ طيب، وَكَانَ الْأسود يضمد رجله(9/153)
بالشحم وَهُوَ محرم. وَعَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء: حَدثنِي من سمع أَبَا ذَر يَقُول: لَا بَأْس أَن يتداوى الْمحرم بِمَا يَأْكُل، وَفِي رِوَايَة: حَدثنِي مرّة بن خَالِد عَن أبي ذَر، وَعَن معتب البَجلِيّ قَالَ: أصابني شقَاق وَأَنا محرم فَسَأَلت أَبَا جَعْفَر؟ فَقَالَ: ادهنه بِمَا تَأْكُل. وَكَذَا قَالَه ابْن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وَجَابِر بن زيد وَنَافِع وَالْحسن وَعُرْوَة. وَقَالَ أَبُو بكر: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا حَمَّاد عَن فرقد السنجي عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عمر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يدهن بالزيت عِنْد الْإِحْرَام. قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث فرقد، وَلَفظه: بالزيت وَهُوَ محرم غير المقتت. قَالَ أَبُو عِيسَى: المقتت المطيب. قلت: المقتت، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد التَّاء الأولى الْمُثَنَّاة من فَوق.
قَوْله: (يشم) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة على الْأَشْهر، وَحكى ضمهَا، وَذكر فِي (الفصيح) بِفَتْح الشين فِي الْمُضَارع وَكسرهَا فِي الْمَاضِي، والعامة تَقول: شممت، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي، وَفِي الْمُسْتَقْبل بِالضَّمِّ وَهُوَ خطأ. وَعَن الْفراء وَابْن الْأَعرَابِي: يُقَال: شممت أَشمّ، شممت أَشمّ وَالْأولَى أفْصح، وَيُقَال فِي مصدره: الشم والشميم وتشممته تشمما. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَقد جَاءَ فِي مصدره: شميمي على وزن: فعيلي كالخطيطي. وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: معنى الشم استنشاق الرَّائِحَة، وَقد يستعار فِي غير ذَلِك فِي كل مَا قَارب شَيْئا أدنى مِنْهُ. قَوْله: (ويتداوى بِمَا يَأْكُل) أَي: بِالَّذِي يَأْكُل مِنْهُ قَوْله: (الزَّيْت وَالسمن) بِالْجَرِّ فيهمَا. قَالَ الْكرْمَانِي: لِأَنَّهُ بدل أَو بَيَان لما يَأْكُل. وَقَالَ ابْن مَالك: بِالْجَرِّ عطف على: مَا، الموصولة فَإِنَّهَا مجرورة بِالْبَاء أَعنِي: فِي قَوْله بِمَا قيل. وَقع بِالنّصب وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ لِأَن الَّذِي يَأْكُل هُوَ الْآكِل لَا الْمَأْكُول. لَكِن يجوز على الاتساع. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التعسف، بل يكون مَنْصُوبًا على تَقْدِير: أَعنِي الزَّيْت وَالسمن، عطف عَلَيْهِ، وَيجوز الرّفْع فيهمَا على أَن يكون الزَّيْت خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ الزَّيْت وَالسمن، عطف عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ ويَلْبَسُ الهِمْيَانَ
عَطاء: ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (يتختم) أَي: يلبس الْخَاتم، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة، حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا هِشَام بن الْغَاز عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ. وَحدثنَا الْمحَاربي عَن الْعَلَاء عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ. وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس بِسَنَد صَحِيح: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ. وَعَن أبي الْهَيْثَم عَن النَّخعِيّ وَمُجاهد مثله. وَقَالَ خَالِد بن أبي بكر: رَأَيْت سَالم بن عبد الله يلبس خَاتمه وَهُوَ محرم، وَكَذَا قَالَه إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك عَن سعيد بن جُبَير. قَوْله: (ويلبس الْهِمْيَان) ، بِكَسْر الْهَاء معرَّب، هُوَ شبه تكة السَّرَاوِيل تجْعَل فِيهَا الدَّرَاهِم وتشد على الْوسط. وَفِي (المغيث) : قيل هُوَ فعلان من: همى، إِذا سَالَ لِأَنَّهُ إِذا أفرغ همي مَا فِيهِ، وَفسّر ابْن التِّين الْهِمْيَان: بالمنطقة، وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَطاء. رُبمَا ذكره عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا بَأْس بالهميان والخاتم للْمحرمِ. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَأجْمع عوام أهل الْعلم على أَن للْمحرمِ أَن يشد الْهِمْيَان على وَسطه. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَعَطَاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَهُوَ قَول مَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر غير إِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يعقده وَيدخل السيور بَعْضهَا فِي بعض. وسئلت عَائِشَة عَن المنطقة، فَقَالَت: أوثق عَلَيْك نَفَقَتك. وَقَالَ ابْن علية: قد أَجمعُوا على أَن للْمحرمِ أَن يعْقد الْهِمْيَان والإزار على وَسطه وَكَذَلِكَ المنطقة. وَقَول إِسْحَاق لَا يعد خلافًا ولاحظ لَهُ فِي النّظر لِأَن الأَصْل النَّهْي عَن لِبَاس الْمخيط وَلَيْسَ هَذَا مثله، فارتفع أَن يكون لَهُ حكمه. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا ذَلِك ليَكُون نَفَقَته فِيهَا، وَأما نَفَقَة غَيره فَلَا، وَإِن جعلهَا فِي وَسطه لنفقته ثمَّ نفدت نَفَقَته وَكَانَ مَعهَا وَدِيعَة ردهَا إِلَى صَاحبهَا، فَإِن تَركهَا افتدى، وَإِن كَانَ صَاحبهَا غَابَ بِغَيْر علمه فينفقها وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، ويشد المنطقة من تَحت الثِّيَاب.
وطَافَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وهْوَ محْرِمٌ وقَدْ حَزَمَ عَلَى بطْنِهِ بِثَوْبٍ
الْوَاو فِي: وَهُوَ، وَقد حزم، للْحَال. أَي: شدّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الشَّافِعِي من طَرِيق طَاوُوس، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يسْعَى وَقد حزم على بَطْنه بِثَوْب. وَعَن سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أَن نَافِعًا أخبرهُ أَن ابْن عمر لم يكن عقد الثَّوْب عَلَيْهِ، إِنَّمَا غرز طرفه(9/154)
على إزَاره. وَعَن ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن لَيْث عَن عَطاء وطاووس، قَالَا: رَأينَا ابْن عمر وَهُوَ محرم وَقد شدّ حقْوَيْهِ بعمامة. وَحدثنَا وَكِيع عَن ابْن أبي ذِئْب عَن مُسلم بن جُنْدُب: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: لَا تعقد عَلَيْك شَيْئا وَأَنت محرم، وَحدثنَا ابْن علية عَن هِشَام بن حُجَيْر، قَالَ: رأى طَاوُوس ابْن عمر قد يطوف وَقد شدّ حقْوَيْهِ بعمامة. وروى الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه مشَاة، فَقَالَ: اربطوا على أوساطكم مآزركم، وامشوا خلط الهرولة. وَفِي (التَّوْضِيح) : اخْتلف فِي الرِّدَاء الَّذِي يلتحف بِهِ على مِئْزَره، فَكَانَ مَالك لَا يرى عقده وَيلْزمهُ الْفِدْيَة إِن انْتفع بِهِ، وَنهى عَنهُ ابْن عمر وَعَطَاء وَعُرْوَة، وَرخّص فِيهِ سعيد بن الْمسيب، وَكَرِهَهُ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر، وَقَالُوا: لَا بَأْس عَلَيْهِ إِن فعل. وَحكي عَن مَالك أَنه رخص لِلْعَامِلِ أَن يحزم الثَّوْب على منطقته، وَكَرِهَهُ لغيره.
ولَمْ تَرَ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بالتُّبَّانِ بَأْسا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا
التبَّان، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون: وَهُوَ سَرَاوِيل قصير جدا وَهُوَ مِقْدَار شبر سَاتِر للعورة الغليظة فَقَط، وَيكون للملاحين والمصارعين قَوْله: (يرحلون) بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: رحلت الْبَعِير أرحله، بِفَتْح أَوله، رحلاً، إِذا شددت على ظَهره الرحل. قَوْله: (هودجها) ، بِفَتْح الْهَاء وبالجيم، وَهُوَ مركب من مراكب النِّسَاء مقتب وَغير مقتب، وَتَعْلِيق عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا حجت وَمَعَهَا غلْمَان لَهَا، وَكَانُوا إِذا شدوا رَحلهَا يَبْدُو مِنْهُم الشَّيْء، فَأَمَرتهمْ أَن يتخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون. وَأخرجه من وَجه آخر مُخْتَصرا بِلَفْظ: يشدون هودجها، وَفِي هَذَا رد على ابْن التِّين فِي قَوْله: أَرَادَت النِّسَاء، لِأَنَّهُنَّ يلبسن الْمخيط بِخِلَاف الرِّجَال، وَكَأن هَذَا رَأْي رَأَتْهُ عَائِشَة وإلاَّ فالأكثر على أَنه لَا فرق بَين التبَّان والسراويل فِي مَنعه للْمحرمِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : التبَّان لبسه حرَام عندنَا كالقميص والدراعة والخف وَنَحْوهَا، فَإِن لبس شَيْئا من ذَلِك مُخْتَارًا عَامِدًا أَثم وأزاله وافتدى، سَوَاء قصر الزَّمَان أَو طَال.
7351 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ يُوسُفُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ قَالَ مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ. حدَّثني الأسْوَدُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ مُحْرِمٌ. [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن وبيص هَذَا الطّيب كَانَ من الطّيب الَّذِي تطيب بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة كلهم قد ذكرُوا، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَالْأسود هُوَ ابْن زيد، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم كوفيون مَا خلا ابْن عمر.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح الْبَزَّار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَمَانِيَة عشر طَرِيقا عَن الْأسود عَن عَائِشَة مثل رِوَايَة البُخَارِيّ، غير أَن لَفظه: فِي مفرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا كَانَت تطيب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأطيب مَا تَجِد من الطّيب، قَالَت: حَتَّى أرى وبيض الطّيب فِي رَأسه ولحيته. وَعَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأطيب مَا أجد. وَعَن الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيَدي لإحرامه قبل أَن يحرم. وَعَن ابْن عمر عَنْهَا، قَالَت: كنت أطيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالغالية الجيدة عِنْد إِحْرَامه. وَعَن الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لحرمه حِين أحرم. وَعَن عَطاء، عَنْهَا: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْحلّ وَالْإِحْرَام. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَائِشَة، قَالَت:(9/155)
طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن يحرم، وَيَوْم النَّحْر قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ بِطيب فِيهِ مسك. وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَنْهَا: كَانَ يتطيب قبل أَن يحرم فَيرى أثر الطّيب فِي مفرقه بعد ذَلِك بِثَلَاث. وروى أَيْضا عَن ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَنْهَا: (رَأَيْت وبيص الطّيب فِي مفارق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم) وَعند النَّسَائِيّ: (بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم) ، وَفِي أُخْرَى: (فِي أصُول شعره) ، وَفِي لفظ: (إِذا أَرَادَ أَن يحرم ادَّهن بأطيب دهن يجده حَتَّى أرى وبيصه فِي رَأسه ولحيته) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عقيل عَن عُرْوَة عَنْهَا: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا أَرَادَ أَن يحرم غسل رَأسه بخطمي وأشنان ودهنه بِزَيْت غير كثير) . وَفِي (مُسْند أبي مُحَمَّد الدَّارمِيّ) : (طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لحرمه وطيبته بمنى قبل أَن يفِيض) . وَعند أبي عَليّ الطوسي: (طيبته قبل أَن يحرم وَيَوْم النَّحْر قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ بِطيب فِيهِ مسك) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يدهن بالزيت) أَي: عِنْد الْإِحْرَام بِشَرْط أَن لَا يكون مطيبا. وَقَالَ الْكرْمَانِي. (يدهن بالزيت) أَي: لَا يتطيب. وَتقدم فِي: بَاب من تطيب، فِي كتاب الْغسْل أَن ابْن عمر قَالَ: مَا أحب أَن أصبح محرما أنضح طيبا. قَوْله: (فَذَكرته) أَي: قَالَ مَنْصُور: ذكرت امْتنَاع ابْن عمر من التَّطَيُّب لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. قَوْله: (مَا تصنع بقوله؟) أَي: بقول ابْن عمر، أَي: مَاذَا تصنع بقوله حَيْثُ ثَبت مَا يُنَافِيهِ من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: بقوله، عَائِدًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: هَذَا فعل الرَّسُول وَتَقْرِيره لَا قَوْله قلت: فعله فِي بَيَان الْجَوَاز، كَقَوْلِه. قَوْله: (كَأَنِّي أنظر) أَرَادَت بذلك قُوَّة تحققها لذَلِك، بِحَيْثُ أَنَّهَا لشدَّة استحضارها لَهُ كَأَنَّهَا ناظرة إِلَيْهِ. قَوْله: (إِلَى وبيص) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة، وَهُوَ: البريق، وَالْمرَاد: أثر الطّيب لَا جرمه. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: الوبيص زِيَادَة على البريق، وَالْمرَاد بِهِ: التلألؤ، وَهُوَ يدل على وجود عين قَائِمَة، لَا الرِّبْح فَقَط. قَوْله: (فِي مفارق) جمع: مفرق، وَهُوَ وسط الرَّأْس، وَإِنَّمَا جمع تعميما لجوانب الرَّأْس الَّتِي يفرق فِيهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَوْلهم للمفرق مفارق كَأَنَّهُمْ جعلُوا كل مَوضِع مِنْهُ مفرقا. قَوْله: (وَهُوَ محرم) ، الْوَاو فِي للْحَال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَزفر فِي أَن الْمحرم إِذا تطيب قبل إِحْرَامه بِمَا شَاءَ الطّيب مسكا كَانَ أَو غَيره، فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ مِمَّا يبْقى عَلَيْهِ بعد إِحْرَامه أَو لَا وَلَا يضرّهُ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَأحمد وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول عَائِشَة راوية الحَدِيث، وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، وَابْن جَعْفَر وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَجَمَاعَة من التَّابِعين بالحجاز وَالْعراق، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : استحبه عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام مُعَاوِيَة وَأم حَبِيبَة وَابْن الْمُنْذر وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَنَقله ابْن أبي شيبَة عَن عُرْوَة بن الزبير عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم فِي رِوَايَة، وَذكره ابْن حزم عَن الْبَراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك وَأبي ذَر وَالْحُسَيْن بن عَليّ وَابْن الْحَنَفِيَّة وَالْأسود وَالقَاسِم وَسَالم وَهِشَام بن عُرْوَة وخارجة بن زيد وَابْن جريج. وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن سِيرِين وَالْحسن: لَا يجوز أَن يتطيب الْمحرم قبل إِحْرَامه بِمَا يبْقى عَلَيْهِ رَائِحَته بعد الْإِحْرَام، وَإِذا أحرم حرم عَلَيْهِ الطّيب حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، وَإِلَيْهِ ذهب مُحَمَّد بن الْحسن، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَهَذَا مَذْهَب عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن الْعَاصِ. وَقَالَ الطرطوشي: يكره الطّيب الْمُؤَنَّث كالمسك والزعفران والكافور والغالية وَالْعود وَنَحْوهَا، فَإِن تطيب وَأحرم بِهِ فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، فَإِن أكل طَعَاما فِيهِ طيب، فَإِن كَانَت النَّار مسته فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن لم تمسه النَّار فَفِيهِ وَجْهَان، وَأما غير الْمُؤَنَّث مثل الرياحين والياسمين والورد فَلَيْسَ من ذَلِك وَلَا فديَة فِيهِ أصلا، وَالطّيب الْمُؤَنَّث طيب النِّسَاء: كالخلوق والزعفران، قَالَه شمر. وَأما شم الريحان فَفِي (شرح الْمُهَذّب) : الريحان الْفَارِسِي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: يجوز شمها لما رُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ عَن الْمحرم يدْخل الْبُسْتَان قَالَ: نعم ويشم الريحان. وَالثَّانِي: لَا يجوز لِأَنَّهُ يُرَاد للرائحة، فَهُوَ كالورد والزعفران، وَالأَصَح تَحْرِيم شمها وَوُجُوب الْفِدْيَة، وَبِه قَالَ ابْن عمر وَجَابِر وَالثَّوْري وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة ومالكا يَقُولَانِ: يحرم وَلَا فديَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر(9/156)
وَاخْتلف فِي الْفِدْيَة عَن عَطاء وَأحمد، وَمِمَّنْ جوزه وَقَالَ: هُوَ حَلَال وَلَا فديَة فِيهِ عُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَإِسْحَاق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ الْعَبدَرِي: وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَفِي (التَّوْضِيح) : الْحِنَّاء عندنَا لَيْسَ طيبا، خلافًا لأبي حنيفَة، وَعند مَالك وَأحمد: فِيهِ الْفِدْيَة. وَقَالَت عَائِشَة: وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره رِيحه، أخرجه ابْن أبي عَاصِم فِي (كتاب الخضاب) وَكَانَ يحب الطّيب فَلَو كَانَ طيبا لم يكرههُ. قلت: روى أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اختضبوا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ طيب الرّيح يسكن الدوخة. وَأما الطّيب بعد رمي الْجَمْرَة فقد رخص فِيهِ ابْن عَبَّاس وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن الزبير وَعَائِشَة وَابْن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وخارجة بن زيد، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَرِهَهُ سَالم وَمَالك، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَلَا فديَة لما جَاءَ فِي ذَلِك، وَلما كَانَ الطَّحَاوِيّ مَعَ مُحَمَّد بن الْحسن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ أجَاب عَن حَدِيث الْبَاب الَّذِي احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَآخَرُونَ، فَقَالَ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُ أَي: لمُحَمد بن الْحسن فِي ذَلِك أَن مَا ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة من تطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْإِحْرَام إِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا كَانَت تطيبه إِذا أَرَادَ أَن يحرم، فقد يجوز أَن يكون كَانَت تفعل ذَلِك بِهِ ثمَّ يغْتَسل إِذا أَرَادَ أَن يحرم فَيذْهب بِغسْلِهِ عَنهُ مَا كَانَ على بدنه من طيب وَيبقى فِيهِ رِيحه. وَادّعى ابْن الْقصار والمهلب: أَنه كَانَ من خواصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد الْمُهلب معنى آخر: أَنه خص بِهِ لمباشرته الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي وَغَيره، وَقد ذَكرْنَاهُ.
9351 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحمان بنِ القَاسمِ عنْ أبيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ كُنت أطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِحرَامهِ حِينَ يُحْرَمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلِ أنْ يَطوفَ بِالبَيْتِ..
وَهَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث عَائِشَة هَذَا صَحِيح ثَابت لَا يخْتَلف أهل الْعلم فِي صِحَّته وثبوته، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة من وُجُوه. قلت: قد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ أخرجه من ثَمَانِيَة عشر طَرِيقا. قَوْله: (لإحرامه) أَي: لأجل إِحْرَامه، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ (حِين أَرَادَ أَن يحرم) . قَوْله: (ولحله) أَي: ولتحلله من مَحْظُورَات الْإِحْرَام، وَذَلِكَ بعد أَن يَرْمِي ويحلق. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب.
وَقيل: اسْتدلَّ بقول عَائِشَة: كنت أطيب ... ، على أَن: كَانَ، لَا تَقْتَضِي التّكْرَار لِأَنَّهَا لم يَقع ذَلِك مِنْهَا إلاَّ مرّة وَاحِدَة، وَقد صرحت فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا بِأَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وَكَذَا اسْتدلَّ بِهِ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) وَاعْترض بِأَن الْمُدعى تكراره إِنَّمَا هُوَ التَّطَيُّب لَا الْإِحْرَام، وَلَا مَانع من أَن يتَكَرَّر التَّطَيُّب لأجل الْإِحْرَام مَعَ كَون الْإِحْرَام مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ الإِمَام فَخر الدّين: إِن: كَانَ، لَا تَقْتَضِي التّكْرَار وَلَا الِاسْتِمْرَار، وَجزم ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهَا تَقْتَضِيه. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين، تَقْتَضِي التّكْرَار، وَلَكِن قد تقع قرينَة تدل على عَدمه. قلت: كَانَ، تَقْتَضِي الِاسْتِمْرَار بِخِلَاف: صَار، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال فِي مَوضِع: كَانَ الله، أَن يُقَال. صَار. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا اللَّفْظ يَعْنِي لفظ: كنت، فِي قَول عَائِشَة: كنت أطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم تتفق الروَاة عَنْهَا عَلَيْهَا، فَسَيَأْتِي للْبُخَارِيّ من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم شيخ مَالك فِيهِ هُنَا بِلَفْظ: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَائِر الطّرق لَيْسَ فِيهَا صِيغَة: كَانَ. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: إِنِّي كنت لأنظر إِلَى وبيص الطّيب، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن عُرْوَة عَنْهَا، قَالَت: كنت أطيب ... وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر عَنْهَا قَالَت كنت أطيب وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا: عَن الْأسود عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت تطيب ... رَوَاهَا من طَرِيق الْفرْيَابِيّ عَن مَالك بن مغول عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَنْهَا، وَكَذَا روى من طَرِيق إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود عَن أَبِيه عَنْهَا: كَانَت تطيب، وَهَذَا الْقَائِل كَأَنَّهُ لم يطلع على هَذِه الرِّوَايَات، فَلهَذَا ادّعى بقوله: وَسَائِر الطّرق لَيْسَ فِيهَا صِيغَة: كَانَ، وَهَذِه الَّتِي ذَكرنَاهَا فِيهَا صِيغَة: كَانَ وَكنت.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب التَّطَيُّب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام وَجَوَاز استدامته بعد الْإِحْرَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ مفصلا، وَعَن مَالك: يحرم، وَعنهُ فِي وجوب الْفِدْيَة قَولَانِ.
واحتجت الْمَالِكِيَّة فِيهِ بأَشْيَاء: مِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل بعد أَن تطيب كَمَا فِي حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْمُنْتَشِر الَّذِي تقدم فِي الْغسْل، ثمَّ طَاف على نِسَائِهِ ثمَّ أصبح محرما، وَالْمرَاد من الطّواف: الْجِمَاع، وَكَانَ من عَادَته أَن يغْتَسل عِنْد كل وَاحِدَة، فالضرورة(9/157)
ذهَاب أثر الطّيب، ورد هَذَا بِحَدِيث: ثمَّ أصبح محرما ينضح طيبا، وَهَذَا لَا يشك أَن: نضح الطّيب، وَهُوَ رَائِحَته كَانَ فِي حَال إِحْرَامه. فَإِن قلت: إِن فِيهِ تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَالتَّقْدِير: طَاف على نِسَائِهِ ينضح طيبا، ثمَّ أصبح محرما؟ قلت: هَذَا خلاف الظَّاهِر: وَيَردهُ أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحرم يتطيب بأطيب مَا يجد، ثمَّ أرَاهُ فِي رَأسه ولحيته بعد ذَلِك، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن حبَان: رَأَيْت الطّيب فِي مفرقه بعد ثَلَاث، وَهُوَ محرم، فَإِن قلت: كَانَ الوبيص بقايا الدّهن المطيب فَزَالَ وَبَقِي أَثَره من غير رَائِحَة؟ قلت: قَول عَائِشَة: ينضح طيبا، يرد هَذَا. فَإِن قلت: بَقِي أَثَره لَا عينه؟ قلت: لَيْسَ فِي شَيْء من طرق حَدِيث عَائِشَة أَن عينه بقيت، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ. قلت: قد روى أَبُو دَاوُد وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَائِشَة بنت طَلْحَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: كُنَّا نضمخ وُجُوهنَا بالمسك المطيب قبل أَن نحرم، ثمَّ نحرم فتعرق فيسيل على وُجُوهنَا، وَنحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا ينهانا. وَفِي رِوَايَة: كُنَّا نخرج مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عِنْد الْإِحْرَام فَإِذا عرقت إحدانا سَالَ على وُجُوهنَا فيراه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا ينهانا فَهَذَا صَرِيح فِي بَقَاء عين الطّيب. فَإِن قلت: هَذَا خَاص بِالنسَاء؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن النِّسَاء وَالرِّجَال سَوَاء فِي تَحْرِيم اسْتِعْمَال الطّيب، إِذا كَانُوا محرمين. فَإِن قلت: كَانَ ذَلِك الطّيب لَا رَائِحَة لَهُ، دلّ عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: بِطيب لَا يشبه طيبكم، قَالَ بعض رُوَاته: يَعْنِي لَا بَقَاء لَهُ، أخرجه النَّسَائِيّ قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة مَنْصُور بن زادان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم: بِطيب فِيهِ مسك، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن عَائِشَة: بالغالية الجيدة، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَهَذَا يدل على أَن معنى قَوْلهَا: بِطيب لَا يشبه طيبكم: أطيب من طيبكم، لَا كَمَا فهمه بعض رُوَاته. وَمِنْهَا: أَنهم ادعوا أَن هَذَا من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أجبنا عَن ذَلِك عَن قريب. وَمِنْهَا: مَا قَالَه بَعضهم: بِأَن عمل أهل الْمَدِينَة على خِلَافه، ورد بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام: أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك لما حج جمع نَاسا من أهل مَكَّة مِنْهُم الْقَاسِم بن مُحَمَّد وخارجة بن زيد وَسَالم وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث فَسَأَلَهُمْ عَن الطّيب قبل الْإِفَاضَة، فكلهم أَمرُوهُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة من التَّابِعين قد اتَّفقُوا على ذَلِك، فَكيف يَدعِي مَعَ ذَلِك الْعَمَل على خِلَافه؟ وَفِيه: الدّلَالَة على حل الطّيب وَغَيره من مُحرمَات الْإِحْرَام بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
91 - (بابُ مَنْ أهَلَّ ملَبَدا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحرم حَال كَونه ملبدا. من: لبد شعره، بِمَعْنى: جعل فِيهِ شَيْئا نَحْو الصمغ ليجتمع شعره، لِئَلَّا يتشعث فِي الْإِحْرَام أَو يَقع فِيهِ الْقمل.
0451 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أخبرنَا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمٍ عَن أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهِلُّ مُلَبِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة هِيَ عين متن الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: أصبغ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله مولى عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، ورَّاق عبد الله بن وهب، مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: محد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله. السَّادِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شيخة من أَفْرَاده وَأَنه وَابْن وهب مصريان، وَأَن يُونُس أيلي وَابْن شهَاب وَسَالم مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن حبَان بن مُوسَى وَأحمد بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب. وَأخرجه أَبُو دأود فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْمهرِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عَمْرو(9/158)
ابْن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين وَعَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أَحْمد بن عَمْرو مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أهلَّ) من الإهلال، وَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (ملبدا) أَي: حَال كَونه ملبدا رَأسه. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا عَن حَفْصَة أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! مَا شَأْن النَّاس حلوا بِعُمْرَة وَلم تحل أَنْت من عمرتك؟ قَالَ: (إِنِّي لبدت رَأْسِي وقلدت هدبي فَلَا أحل حَتَّى أنحر) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لبد رَأسه بالعسل) وَرَوَاهُ الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم. وَقَالَ ابْن الصّلاح: يحْتَمل أَن لفظ الْعَسَل، بالمهملتين، وَيحْتَمل من حَيْثُ الْمَعْنى: إِن الْغسْل، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ مَا يغسل بِهِ الرَّأْس من خطمي أَو غَيره. وَقَالَ بَعضهم: ضبطناه فِي روايتنا من (سنَن أبي دَاوُد) بالمهملتين. قلت: لَيْت شعري مِمَّن ضَبطه؟ وَقد قَالَ ابْن الصّلاح الرِّوَايَة بِالْعينِ الْمُهْملَة، لم تضبط، وَالْعقل أَيْضا يشْهد بِلَا إهمال. فَافْهَم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه نصوا على اسْتِحْبَاب التلبيد للرفق، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: من لبد رَأسه فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِذَلِك أَمر النَّاس عمر وَابْنه، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَذَا لَو ضفر رَأسه أَو عقص شعره كَانَ حكمه حكم التلبيد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لبد رَأسه أَو ضفره فَإِن قصر وَلم يحلق أَجزَأَهُ، لما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول: (من لبد رَأسه أَو عقص أَو ضفر فَإِن كَانَ نوى الْحلق فليحلق، وَإِن لم يُنَوّه فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر) . فَإِن قلت: روى ابْن عدي من حَدِيث عبد الله بن رَافع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لبد رَأسه للْإِحْرَام فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق) . قلت: عبد الله بن رَافع ضَعِيف، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَالله أعلم.
02 - (بابُ الإهلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الإهلال عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة لمن أَرَادَ أَن يحجّ من الْمَدِينَة.
1451 - حطَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ سالِمَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُ عبد الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ح) وحدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مالِكٍ عَنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ سالِمِ بنِ عَبدِ الله أنَّهُ سَمِعَ أباهُ يَقولُ مَا أهَلَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ يَغْني مَسْجد ذِي الحُلَيْفَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَال الطَّرِيقَيْنِ قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، ومُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك: عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم بن عبد الله أَنه سمع أَبَاهُ يَقُول: بيداؤكم: هَذِه الَّتِي تكذبون فِيهَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ مَا أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من عِنْد الْمَسْجِد، يَعْنِي ذَا الحليفة. قَالَ: (و) : حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا حَاتِم يَعْنِي: ابْن إِسْمَاعِيل عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم قَالَ: كَانَ ابْن عمر إِذا قيل لَهُ الْإِحْرَام من الْبَيْدَاء قَالَ: الْبَيْدَاء الَّتِي تكذبون فِيهَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ماأهلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من عِنْد الشَّجَرَة حِين قَامَ بِهِ بعيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ، وَقَالَ: حَدثنَا القعْنبِي عَن مَالك، نَحْو رِوَايَة مُسلم عَن، يحيى عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ، وَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل ... إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة مُسلم الثَّانِيَة. وَأخرج النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة نَحوه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا: حَدثنَا ابْن أبي عمر حَدثنَا سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: لما أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج أذن فِي النَّاس فَاجْتمعُوا، فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاء أحرم وَقَالَ: حَدِيث جَابر حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي حَدِيث طَوِيل، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن: ابْن عمر وَأنس والمسور بن مخرمَة. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن: سعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس.(9/159)
فَحَدِيث أنس وَأخرجه السِّتَّة، خلا ابْن مَاجَه، من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن أنس، فِي حَدِيث لَهُ قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا ركب رَاحِلَته واستوت بِهِ أهلَّ. وَلأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة الْحسن، فَلَمَّا أَتَى على جبل الْبَيْدَاء أهلَّ، وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر عَن ثَابت عَن أنس فِي حَدِيث: فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ نَاقَته، قَالَ: لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا. وَحَدِيث الْمسور بن مخرمَة أخرجه البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة، وَفِيه: فَلَمَّا كَانَ بِذِي الحليفة قلد الْهَدْي وَأَشْعرهُ وَأحرم مِنْهَا. وَحَدِيث سعد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق إِسْحَاق عَن أبي الزِّنَاد عَن عَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، قَالَت: قَالَ سعد: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَخذ طَرِيق الْفَرْع أهلَّ إِذا اسْتَقَلت بِهِ رَاحِلَته. وَإِذا أَخذ طَرِيق أُحُد أهل إِذا أشرف على جبل الْبَيْدَاء. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة أبي حسان الْأَعْرَج عَنهُ، وَفِيه: ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهلَّ بِالْحَجِّ، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: ثمَّ قعد على بعيره، فَلَمَّا اسْتَوَى على الْبَيْدَاء أهل بِالْحَجِّ.
وَعَن هَذَا اخْتلف الْعلمَاء فِي الْموضع الَّذِي أحرم مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ قوم: إِنَّه أهل من مَسْجِد ذِي الحليفة. وَقَالَ آخَرُونَ: لم يهل إلاَّ بعد أَن اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته بعد خُرُوجه من الْمَسْجِد، وروى ذَلِك أَيْضا عَن ابْن عمر وَأنس وَابْن عَبَّاس وَجَابِر، وَقَالَ آخَرُونَ: بل أحرم حِين أظل على الْبَيْدَاء. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَأنكر قوم أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم من الْبَيْدَاء، رُوِيَ ذَلِك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه قَالَ: مَا أهل إلاَّ من ذِي الحليفة، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك بَعْدَمَا ركب رَاحِلَته، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يهل إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَكَانَ ابْن عمر يَفْعَله. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك بَعْدَمَا تنبعث بِهِ رَاحِلَته، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالك عَن المَقْبُري عَن عبيد بن جريج عَن ابْن عمر قَالَ: لم أر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل حَتَّى تنبعث بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة. انْتهى. قلت: أَرَادَ الطَّحَاوِيّ بقوله: وَأنكر قوم الزُّهْرِيّ وَعبد الْملك بن جريج وَعبد الله بن وهب، فَإِنَّهُم قَالُوا: مَا أحرم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاَّ من عِنْد الْمَسْجِد. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي ذَلِك أردنَا أَن نَنْظُر من أَيْن جَاءَ اخْتلَافهمْ، فروى سعيد بن جُبَير، قَالَ قلت: لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ اخْتلف النَّاس فِي إهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَت طَائِفَة: أهل فِي مُصَلَّاهُ، وَقَالَت طَائِفَة: حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته، وَقَالَت طَائِفَة: حِين علا الْبَيْدَاء؟ وسَاق بَقِيَّة كَلَامه نَحْو مَا ذكره أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس: يَا أَبَا الْعَبَّاس، عجبت لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي إهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: إِنِّي لأعْلم النَّاس بذلك، إِنَّمَا كَانَت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة وَاحِدَة، فَمن هُنَاكَ اخْتلفُوا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجا، فَلَمَّا صلى فِي مَسْجِد ذِي الحليفة ركعتيه أوجب فِي مَجْلِسه، فَأهل بِالْحَجِّ حِين فرغ من ركعتيه، فَسمع ذَلِك مِنْهُ أَقوام فحفظوه عَنهُ، ثمَّ ركب، فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهلَّ، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام، وَذَلِكَ أَن النَّاس كَانُوا يأْتونَ أَرْسَالًا فسمعوه حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته يهل، فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا علا شرف الْبَيْدَاء أهلَّ، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام، فَقَالُوا: إِنَّمَا أهلَّ حِين علا شرف الْبَيْدَاء، وأيم الله، لقد أوجب فِي مُصَلَّاهُ، وأهلَّ حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته وَأهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء. قَالَ سعيد بن جُبَير: فَمن أَخذ بقول ابْن عَبَّاس: أهل فِي مُصَلَّاهُ إِذا فرغ من ركعتيه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَبين ابْن عَبَّاس الْوَجْه الَّذِي جَاءَ فِيهِ اخْتلَافهمْ، وَأَن إهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ابْتَدَأَ الْحَج وَدخل فِيهِ، كَانَ فِي مُصَلَّاهُ، فَبِهَذَا نَأْخُذ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَقَتَادَة: الْمُسْتَحبّ الْإِحْرَام من الْبَيْدَاء. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الْبَيْدَاء هَذِه فَوق علمي ذِي الحليفة لمن صعد من الْوَادي، وَفِي أول الْبَيْدَاء بِئْر مَاء.
12 - (بابُ مَا لاَ يَلْبَسُ المْحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا لَا يلبس الْمحرم، أَي: مَا لَا يجوز لبسه للْمحرمِ، سَوَاء كَانَ محرما بِحَجّ أَو بِعُمْرَة، أَو كَانَ مُتَمَتِّعا أَو قَارنا. وَقَوله: (من الثِّيَاب) ، بَيَان لما قبله.
2451 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عَن عَبْدِ الله بنِ عُمَر(9/160)
َ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رَجُلاً قالَ يَا رسولَ الله مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَلْبَسُ القُمُصَ وَلاَ العَمَائِمَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلاَ البَرَانِسَ وَلاَ الخِفَافِ إلاَّ أحدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيئا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانِ أوْ وَرْسٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يلبس الْقَمِيص) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي آخر كتاب الْعلم فِي: بَاب من أجَاب السَّائِل بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمغايرة بَينهمَا فِي بعض الْمَتْن، فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر هَذِه الْأَشْيَاء هُنَاكَ بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَذكر هُنَا بِصِيغَة الْجمع، وَهُنَاكَ: فَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ وَهنا (وَلَا الْخفاف إِلَّا أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ) وَهُنَاكَ: (وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا تَحت الْكَعْبَيْنِ) وَهنا: (أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) وَلَيْسَ هُنَاكَ: وَلَا تلبسوا ... إِلَى آخِره. ولنتكلم هُنَا على مَا لم يسْبق فِيمَا مضى.
فَقَوله: (قَالَ يَا رَسُول الله! مَا يلبس الْمحرم) وَسَيَأْتِي من طَرِيق اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ: مَاذَا تَأْمُرنَا أَن نلبس من الثِّيَاب فِي الْإِحْرَام؟ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عمر بن نَافِع عَن أَبِيه: مَا نلبس من الثِّيَاب إِذا أحرمنا؟ وَهَذَا يدل على أَن السُّؤَال عَن ذَلِك كَانَ قبل الْإِحْرَام. وَقد حكى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي أَن فِي رِوَايَة ابْن جريج وَاللَّيْث عَن نَافِع أَن ذَلِك كَانَ فِي الْمَسْجِد. وَأخرج الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَمن طَرِيق عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن عبد الله بن عون، كِلَاهُمَا عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: نَادَى رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يخْطب بذلك الْمَكَان، وَأَشَارَ نَافِع إِلَى مقدم الْمَسْجِد، فَذكر الحَدِيث، وَظهر من ذَلِك أَنه كَانَ فِي الْمَدِينَة. فَإِن قلت: قد وَقع فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْآتِي فِي أَوَاخِر الْحَج أنهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب بذلك فِي عَرَفَات. قلت: يحمل على التَّعَدُّد. قَوْله: (مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب؟ قَالَ: لَا يلبس) إِلَى آخِره. قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَت الْعلمَاء: هَذَا من بديع الْكَلَام وجزله، لِأَن مَا لَا يلبس منحصر، فَحصل التَّصْرِيح بِهِ، وَأما الملبوس الْجَائِز فَغير منحصر، فَحصل التَّصْرِيح بِهِ، وَأما الملبوس الْجَائِز فَغير منحصر فَقَالَ: (لَا يلبس) كَذَا ... أَي: ويلبس مَا سواهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: سُئِلَ عَمَّا يلبس فَأجَاب بِمَا لَا يلبس، ليدل بالالتزام من طَرِيق الْمَفْهُوم على مَا يجوز، وَإِنَّمَا عدل عَن الْجَواب لِأَنَّهُ أخصر وأحصر. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَدَلِيله أَنه نبه بالقمص والسراويل على جَمِيع مَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَهُوَ مَا كَانَ مخيطا أَو مَعْمُولا على قدر الْبدن أَو الْعُضْو كالجوشن والتبان وَغَيرهمَا، وَنبهَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعمائم والبرانس على كل سَاتِر للرأس مخيطا كَانَ أَو غَيره، حَتَّى الْعِصَابَة فَإِنَّهَا حرَام. وَنبهَ بالخفاف على كل سَاتِر للرِّجل من مداس وجورب وَغَيرهَا. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْمُعْتَبر فِي الْجَواب مَا يحصل مِنْهُ الْمَقْصُود كَيفَ كَانَ، وَلَو بتغيير أَو زِيَادَة، وَلَا يشْتَرط الْمُطَابقَة، قَوْله وَلَا تشْتَرط الْمُطَابقَة. قلت: لَيْسَ على الْإِطْلَاق، بل الأَصْل اشْتِرَاطهَا وَلَكِن ثَمَّ مَوضِع يكون الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيره وَهُوَ الأهم كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس) وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (مَا يلبس الْمحرم؟) أَي: الرجل الْمحرم، وَالدَّلِيل على اخْتِصَاص الحكم بِالرِّجَالِ تَوْجِيه الْخطاب نحوهم بقوله: وَلَا تلبسوا. فَإِن قلت: وَاو الضَّمِير يسْتَعْمل متْنا، و: لَا، للقبيلتين على التغليب. قلت: نعم، وَلَكِن فِيهِ اخْتِصَاص بالمذكرين، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ فِي آخر حَدِيث اللَّيْث الْآتِي فِي آخر الْحَج: (وَلَا تنتقب الْمَرْأَة) . قَوْله: (وَلَا يلبس) ، خبر فِي معنى النَّهْي. قَوْله: (القمص) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الْمِيم وَضمّهَا جمع: قَمِيص، وَيجمع أَيْضا على أقمصة وقمصان. قَوْله: (والعمائم) جمع عِمَامَة، يُقَال: اعتمَّ بالعمامة وتعمم بهَا، والسراويلات جمع سَرَاوِيل، والبرانس جمع برنس، وَهُوَ كل ثوب رَأسه مِنْهُ ملتزق بِهِ من ذراعه، أَو جُبَّة أَو ممطر أَو غَيره. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ قلنسوة طَوِيلَة كَانَ النساك يلبسونها فِي صدر الْإِسْلَام، وَهُوَ من البرس، بِكَسْر الْبَاء، وَهُوَ الْقطن، وَالنُّون زَائِدَة، وَقيل: إِنَّه غير عَرَبِيّ، والخفاف، بِكَسْر الْخَاء: جمع خف. قَوْله: (إلاَّ أحد) ، الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يلبس الْمحرم الْخُفَّيْنِ إلاَّ أحد لَا يجد نَعْلَيْنِ فَإِنَّهُ يلبس الْخُفَّيْنِ بِشَرْط أَن يقطعهما حَتَّى يَكُونَا تَحت الْكَعْبَيْنِ فَيكون حِينَئِذٍ كالنعلين. وَقَوله: (لَا يجد نَعْلَيْنِ) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لأحد. قيل: فِيهِ دَلِيل على أَن لفظ: أحد، يجوز اسْتِعْمَاله فِي الْإِثْبَات خلافًا لمن قَالَ: لَا يجوز ذَلِك إلاَّ لضَرُورَة الشّعْر، وَالْمرَاد من قَوْله: (وليقطعهما أَسْفَل(9/161)
من الْكَعْبَيْنِ) كشف الْكَعْبَيْنِ فِي الْإِحْرَام، وهما العظمان الناتئان عِنْد مفصل السَّاق والقدم، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قَالَ: إِذا اضْطر الْمحرم إِلَى الْخُفَّيْنِ خرق ظهورهما وَترك فيهمَا قدر مَا يسْتَمْسك رِجْلَاهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَمن تبعه من الْحَنَفِيَّة: الكعب هُنَا هُوَ الْعظم الَّذِي فِي وسط الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك. وَقيل: إِن ذَلِك لَا يعرف عِنْد أهل اللُّغَة. قلت: الَّذِي قَالَ: لَا يعرف عِنْد أهل اللُّغَة، هُوَ ابْن بطال، وَالَّذِي قَالَه هُوَ لَا يعرف، وَكَيف وَالْإِمَام مُحَمَّد بن الْحسن إِمَام فِي اللُّغَة والعربية؟ فَمن أَرَادَ تَحْقِيق صدق هَذَا فَلْينْظر فِي مُصَنفه الَّذِي وَضعه على أوضاع يعجز عَنهُ الفحول من الْعلمَاء والأساطين من الْمُحَقِّقين، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ (الْجَامِع الْكَبِير) وَالَّذِي قَالَه هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَصْمَعِي، قَالَه الإِمَام فَخر الدّين. قَوْله: (لَا تلبسوا) يدْخل فِيهِ الْإِنَاث أَيْضا، ذكره ليشْمل الذُّكُور وَالْإِنَاث. قَوْله: (مَسّه الزَّعْفَرَان) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنه صفة لقَوْله: (شَيْئا) ، والزعفران إسم أعجمي، وَقد صرفته الْعَرَب فَقَالُوا: ثوب مزعفر، وَقد زعفر ثَوْبه يزعفره زعفرة، وَيجمع على: زعافر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا أعلمهُ ينْبت شَيْء مِنْهُ من أَرض الْعَرَب، والورس، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الورس يزرع بِأَرْض الْيمن زرعا، وَلَا يكون بِغَيْر الْيمن، وَلَا يكون مِنْهُ شَيْء بريا، ونباته مثل حب السمسم، فَإِذا جف عِنْد إِدْرَاكه تفتق فينفض مِنْهُ الورس ويزرع سنة فيجلس عشر سِنِين أَن يُقيم فِي الأَرْض ينْبت ويثمر. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الورس نبت أصفر يكون بِالْيمن يتَّخذ مِنْهُ الغمرة للْوَجْه، تَقول مِنْهُ: أورس الْمَكَان وورست الثَّوْب توريسا: صبغته بالورس، وَمِلْحَفَة وريسة: صبغت بالورس. وَقَالَ ابْن بيطار فِي (جَامعه) : يُؤْتى بالورس من الصين واليمن والهند وَلَيْسَ بنبات يزرع كَمَا زعم من زعم، وَهُوَ يشبه زهر العصفر، وَمِنْه شَيْء يشبه نشارة البابونج، وَمِنْه شَيْء يشبه البنفسج، وَيُقَال: إِن الكركم عروقه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: يحرَّم على الْمحرم لبس الْقَمِيص، وَنبهَ بِهِ فِي الحَدِيث على كل مخيط من كل مَعْمُول على قدر الْبدن أَو الْعُضْو، وَذَلِكَ مثل الْجُبَّة والقفازين، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي الَّذِي يُحْرم وَعَلِيهِ قَمِيص أَو جُبَّة، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعد حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس عَن عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن يعلى بن أُميَّة. قَالَ: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْرَابِيًا قد أحرم وَعَلِيهِ جُبَّة، فَأمره أَن يَنْزِعهَا. وَفِي بعض طرقه: قَمِيص، بدل: الْجُبَّة، وَهِي رِوَايَة (الْمُوَطَّأ) . وَفِي رِوَايَة مقطعات، وَفِي أُخْرَى: أَخْلَاق، والقصة وَاحِدَة، وَلَا يجب قطع الْقَمِيص والجبة على الْمحرم إِذا أَرَادَ نَزعهَا، بل لَهُ أَن ينْزع ذَلِك من رَأسه وَإِن أدّى إِلَى الْإِحَاطَة بِرَأْسِهِ، خلافًا لمن قَالَ: يشقه، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز نزع ذَلِك من الرَّأْس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، والْحَدِيث حجَّة لَهُم، وَلَو ارتدى بالقميص لَا يضرّهُ.
الثَّانِي: يحرّم عَلَيْهِ السَّرَاوِيل وَلَا يجب عَلَيْهِ قطعه عِنْد عدم الْإِزَار، كَمَا ورد فِي الْخُف، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ الْأَصَح عِنْد أَكثر الشَّافِعِيَّة، قَالَه الرَّافِعِيّ. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ: إِنَّه لَا يجوز لبس السَّرَاوِيل إلاَّ إِذا لم يتأت فتقه وَجعله إزارا، فَإِن تأتى ذَلِك لم يجز لبسه، فَإِن لبسه لزمَه الْفِدْيَة. قَالَ الْخطابِيّ: ويحكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: يشق السَّرَاوِيل ويتزر بِهِ، وَفِي شرح الطَّحَاوِيّ، فَإِن لم يجد رِدَاء فَلَا بَأْس أَن يشق قَمِيصه ويرتدي بِهِ، وَإِذا لم يجد الْإِزَار فتق السَّرَاوِيل، فَإِن لبسه وَلم يفتقه لزمَه دم.
الثَّالِث: لَا يتعمم، قَالَ الْخطابِيّ: ذكر الْعِمَامَة والبرنس مَعًا ليدل على أَنه لَا يجوز تَغْطِيَة الرَّأْس، لَا بالمعتاد وَلَا بالنادر. قَالَ: وَمن النَّادِر المكتل يحملهُ على رَأسه. قلت: مُرَاده أَن يَجعله على رَأسه كلبس القبع، وَلَا يلْزم شَيْء بِمُجَرَّد وَضعه على رَأسه كَهَيئَةِ الْحَامِل لِحَاجَتِهِ، وَلَو انغمس فِي المَاء لَا يضرّهُ، فَإِنَّهُ لَا يُسمى لابسا، وَكَذَا لَو ستر رَأسه بِيَدِهِ.
الرَّابِع: الْخفاف، الشَّرْط فِي الْخُفَّيْنِ الْقطع، خلافًا لِأَحْمَد فَإِنَّهُ أجَاز لَيْسَ الْخُفَّيْنِ من غير قطع، وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ، وَحكى عَن عَطاء مثله. قَالَ: لِأَن فِي قلعهما فَسَادًا. قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون عَطاء لم يبلغهُ حَدِيث ابْن عمر، وَإِنَّمَا الْفساد أَن يفعل مَا نهت عَنهُ الشَّرِيعَة، فَأَما مَا أذن فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ بِفساد. قَالَ: وَالْعجب من أَحْمد فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يكَاد يُخَالف سنة تبلغه. وَقلت: سنة لم تبلغه، وَيُشبه أَن يكون إِنَّمَا ذهب إِلَى حَدِيث ابْن عَبَّاس الْآتِي فِي أَوَاخِر الْحَج بِلَفْظ: (من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ) . قلت: أجابت الْحَنَابِلَة عَنهُ بأَشْيَاء: مِنْهَا: دَعْوَى النّسخ فِي حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِن الْبَيْهَقِيّ روى عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: لم يذكر ابْن عَبَّاس(9/162)
الْقطع، وَقَالَ ابْن عمر: وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، فَلَا أَدْرِي أَي الْحَدِيثين نسخ الآخر. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَمْرو قَالَ: أنظروا أَيهمَا قبل؟ حَدِيث ابْن عمر أَو حَدِيث ابْن عَبَّاس؟ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فحملهما عَمْرو بن دِينَار على نسخ أَحدهمَا الآخر. قَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَبَين فِي رِوَايَة ابْن عون وَغَيره عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن ذَلِك كَانَ بِالْمَدِينَةِ قبل الْإِحْرَام، وَبَين فِي رِوَايَة شُعْبَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء، وَجَابِر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس أَن ذَلِك كَانَ بِعَرَفَة، وَذَلِكَ بعد قصَّة ابْن عمر، وَأجَاب الشَّافِعِي عَن هَذَا فِي (الْأُم) فَقَالَ: كِلَاهُمَا حَافظ صَادِق، وَزِيَادَة ابْن عمر لَا تخَالف ابْن عَبَّاس لاحْتِمَال أَن يكون عزب عَنهُ، أَو شكّ فِيهِ، فَلم يؤده. وَإِمَّا سكت عَنهُ وَإِمَّا أَدَّاهُ فَلم يؤد عَنهُ. وَمِنْهَا: مَا قَالُوا: مِنْهُم ابْن الْجَوْزِيّ: إِن حَدِيث ابْن عمر اخْتلف فِي وَقفه وَرَفعه، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس لم يخْتَلف فِي رَفعه. وَأجِيب: عَن هَذَا بِأَنَّهُ لم يخْتَلف على ابْن عمر فِي رفع الْأَمر بِالْقطعِ إلاَّ فِي رِوَايَة شَاذَّة، على أَنه اخْتلف فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَلَا يشك أحد من الْمُحدثين أَن حَدِيث ابْن عمر أصح من حَدِيث ابْن عَبَّاس، لِأَن حَدِيث ابْن عمر جَاءَ بِإِسْنَاد، وصف بِكَوْنِهِ أصح الْأَسَانِيد، وَاتفقَ عَلَيْهِ عَن ابْن عمر غير وَاحِد من الْحفاظ، مِنْهُم: نَافِع وَسَالم: بِخِلَاف حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَلم يَأْتِ مَرْفُوعا إلاَّ من رِوَايَة جَابر بن زيد عَنهُ، حَتَّى قَالَ الْأصيلِيّ: إِنَّه شيخ بَصرِي لَا يعرف. وَمِنْهَا: أَن بَعضهم قاسوه على السَّرَاوِيل، ورد بِأَن الْقيَاس مَعَ وجود النَّص فَاسد الِاعْتِبَار. وَمِنْهَا: أَن بَعضهم احْتَجُّوا بقول عَطاء: إِن الْقطع فَسَاد، وَالله لَا يحب الْفساد. وَقد أُجِيب: عَنهُ بِمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا: مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ: إِن الْأَمر بِالْقطعِ يحمل على الْإِبَاحَة لَا على الِاشْتِرَاط، عملا بِالْحَدِيثين. وَأجِيب: بِأَنَّهُ تعسف، وَاسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَوْضِعه، وَالْأَحْسَن فِي هَذَا أَن يُقَال: إِن حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد ورد فِي بعض طرقه الصَّحِيحَة مُوَافَقَته لحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قطع الْخُفَّيْنِ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه، قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا أَيُّوب عَن عَمْرو عَن جَابر بن زيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِذا لم يجد إزارا فليلبس السَّرَاوِيل، وَإِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ) ، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود الجحدري وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَغَيره، وباقيهم رجال الصَّحِيح، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة على الْمَذْهَب الصَّحِيح.
الْخَامِس: الزَّعْفَرَان والورس، وَظَاهر الحَدِيث أَنه لَا يجوز لبس مَا مَسّه الورس والزعفران، سَوَاء انْقَطَعت رَائِحَته وَذهب ردعه بِحَيْثُ لَا ينفض، أَو مَعَ بَقَاء ذَلِك. وَفِي (الْمُوَطَّأ) أَن مَالِكًا سُئِلَ عَن ثوب مَسّه طيب ثمَّ ذهب ريح الطّيب مِنْهُ، هَل يحرم فِيهِ؟ قَالَ: نعم، لَا بَأْس بذلك مَا لم يكن فِيهِ صباغ زعفران أَو ورس. قَالَ مَالك: وَإِنَّمَا يكره لبس المشبعات لِأَنَّهَا تنفض، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه إِن كَانَ بِحَيْثُ لَو أَصَابَهُ المَاء فاحت الرَّائِحَة مِنْهُ لم يجز اسْتِعْمَاله، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِيمَا إِذا بَقِي اللَّوْن فَقَط وَجْهَيْن مبنيين على الْخلاف فِي أَن مُجَرّد اللَّوْن هَل يعْتَبر؟ قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالصَّحِيح أَنه لَا يعْتَبر، وَقَالَ أَصْحَابنَا: مَا غسل من ذَلِك حَتَّى صَار لَا ينفض فَلَا بَأْس بلبسه فِي الْإِحْرَام، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن سعيد بن جُبَير وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن وطاووس وَقَتَادَة وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَمعنى: لَا ينفض، لَا يَتَنَاثَر صبغه. وَقيل: لَا يفوح رِيحه، وهما منقولان عَن مُحَمَّد بن الْحسن، والتعويل على زَوَال الرَّائِحَة، حَتَّى لَو كَانَ لَا يَتَنَاثَر صبغه، وَلكنه يفوح رِيحه يمْنَع من ذَلِك، لِأَن ذَلِك دَلِيل بَقَاء الطّيب، إِذْ الطّيب مَا لَهُ رَائِحَة طيبَة. وَقد روى الطَّحَاوِيّ عَن فَهد عَن يحيى بن عبد الحميد عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن ابْن أبي عمرَان عَن عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ عَن أبي مُعَاوِيَة عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تلبسوا ثوبا مَسّه ورس أَو زعفران. يَعْنِي: فِي الْإِحْرَام، إلاَّ أَن يكون غسيلاً) . وَأخرجه أَبُو عمر أَيْضا من حَدِيث يحيى بن عبد الحميد الْحمانِي. فَإِن قلت: مَا حَال هَذِه الزِّيَادَة؟ أَعنِي قَوْله: إلاَّ أَن يكون غسيلاً؟ قلت: صَحِيح، لِأَن رِجَاله ثِقَات، وروى هَذِه الزِّيَادَة أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَهُوَ ثِقَة ثَبت. فَإِن قلت: قَالَ ابْن خزم: وَلَا نعلمهُ صَحِيحا، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أَبُو مُعَاوِيَة مُضْطَرب الحَدِيث فِي أَحَادِيث عبيد الله، وَلم يَجِيء أحد بِهَذِهِ غَيره؟ قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ ابْن أبي عمرَان: رَأَيْت يحيى بن معِين وَهُوَ متعجب من الْحمانِي إِذْ حدث بِهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ: هَذَا(9/163)
الحَدِيث عِنْدِي، ثمَّ وثب من فوره فجَاء بِأَصْلِهِ، فَأخْرج مِنْهُ هَذَا الحَدِيث عَن أبي مُعَاوِيَة كَمَا ذكره يحيى الْحمانِي، فَكتب عَنهُ يحيى بن معِين، وَكفى لصِحَّة هَذَا الحَدِيث شَهَادَة عبد الرَّحْمَن وَكِتَابَة يحيى بن معِين وَرِوَايَة أبي مُعَاوِيَة، وَأما قَول ابْن حزم: وَلَا نعلمهُ صَحِيحا، فَهِيَ نفي لعلمه بِصِحَّتِهِ، فَهَذَا لَا يسْتَلْزم نفي صِحَة الحَدِيث فِي علم غَيره، فَافْهَم. وَقد روى أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي (مُسْنده) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حَدِيثا يدل على جَوَاز لبس المزعفر للْمحرمِ إِذا لم يكن فِيهِ نفض وَلَا ردع.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من ظَاهر الحَدِيث: جَوَاز لبس المزعفر والمورس لغير الرجل الْمحرم، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِك فِي جَوَاز السُّؤَال عَمَّا يلبس الْمحرم، فَدلَّ على جَوَازه لغيره، فَإِن قلت: أخرج الشَّيْخَانِ من حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يتزعفر الرجل؟ قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: الْجمع بَين الْحَدِيثين أَنه يحْتَمل أَن يُقَال: إِن جَوَاب سُؤَالهمْ انْتهى عِنْد قَوْله: أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ اسْتَأْنف بِهَذَا لَا تعلق لَهُ بالمسؤول عَنهُ، فَقَالَ: وَلَا تلبسوا شَيْئا من الثِّيَاب ... إِلَى آخِره، ثمَّ ذكر حكم الْمَرْأَة الْمُحرمَة. انْتهى. قلت: هَذَا الِاحْتِمَال فِيهِ بعد، بل الْأَوْجه أَن المُرَاد من النَّهْي عَن تزعفر الرجل أَن يزعفر بدنه، فَأَما لبس الثَّوْب المزعفر لغير الْمحرم فَلَا بَأْس بِهِ، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يزعفر الرجل جلده، وَإِسْنَاده صَحِيح، والْحَدِيث الَّذِي يُنْهِي النَّهْي عَن مُطلق التزعفر، وَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد الَّذِي فِيهِ بِأَن يزعفر الرجل جلده، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ورد فِي جَوَاز لبس الثِّيَاب المزعفرة والمورسة للرِّجَال، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث قيس بن سعد، قَالَ: أَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعْنَا لَهُ مَا يتبرَّد فاغتسل، ثمَّ أَتَيْته بملحفة صفراء فَرَأَيْت أثر الورس عَلَيْهِ، لفظ ابْن مَاجَه. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: كَانَ يصْبغ بالصفرة ثِيَابه كلهَا حَتَّى عمَامَته، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَفِي لفظ لَهُ: إِن ابْن عمر كَانَ يصْبغ ثِيَابه بالزعفران، فأصله فِي (الصَّحِيح) وَلَفظه: أما الصُّفْرَة فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بهَا. وَجمع الْخطابِيّ بِأَن مَا صبغ غزله ثمَّ نسج فَلَيْسَ بداخل فِي النَّهْي، وَوَافَقَهُ الْبَيْهَقِيّ على هَذَا، فَإِن قلت: قد علم أَن الْمحرم قد منع من لبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالزعفران أَو الورس، فَمَا حكمه إِذا توسد عَلَيْهِ أَو نَام؟ قلت: قَالَ أَبُو يُوسُف فِي (الْإِمْلَاء) : لَا يَنْبَغِي لمحرم أَن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران وَلَا الورس، وَلَا ينَام عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يصير مُسْتَعْملا للطيب، فَكَانَ كاللبس، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: اخْتلف أهل الْعلم فِي الورس هَل هُوَ طيب أم لَا؟ فَذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَنه لَيْسَ بِطيب، فَقَالَ: والورس، وَإِن لم يكن طيبا فَلهُ رَائِحَة طيبَة، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبين تجنب الطّيب الْمَحْض، وَمَا يشبه الطّيب فِي ملايمة الشم واستحسانه. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: هُوَ فِيمَا يُقَال: أشهر طيب فِي بِلَاد الْيمن، وَفِي كَلَام النَّوَوِيّ أَيْضا مَا يشْعر أَنه طيب. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: نبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالورس والزعفران على مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يقْصد بِهِ الطّيب فَهِيَ حرَام على القبيلتين، فَيكْرَه للْمحرمِ لبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بِغَيْر طيب، وَأما الْفَوَاكِه كالأترج والتفاح وأزهار الْبَوَادِي كالشيخ والقيصوم وَغَيرهمَا فَلَيْسَ بِحرَام.
22 - (بابُ الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِي الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الرّكُوب والارتداف فِي الْحَج، والارتداف أَن يركب الرَّاكِب خَلفه آخر.
4451 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبي عنْ يُونُسَ الأيْلِيِّ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ أُسَامَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَانَ رِدْفَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَرَفَةَ إلَى المُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أرْدَفَ الفَضْلَ مِنَ المُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَىً قَالَ فَكلاَهُمَا قَالَ لَمْ يَزَلِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ.
(الحَدِيث 3451 طرفه فِي: 6861) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا. وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، ووهب هُوَ ابْن جرير بن حَازِم يروي عَن أَبِيه جرير، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد مُسلم، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن(9/164)
مَسْعُود أَبُو عبد الله الهزلي أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة بن زيد، قَالَ: ردفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَات ... الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ كريب: فَأَخْبرنِي عبد الله بن عَبَّاس عَن الْفضل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي حَتَّى بلغ الْجَمْرَة. وروى من حَدِيث عَطاء قَالَ: أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْدف الْفضل من جمع، قَالَ: فَأَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن الْفضل أخبرهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ردف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره فَاء، بِمَعْنى: الرديف، وَهُوَ الَّذِي يركب خلف الرَّاكِب، وَكَذَلِكَ الرديف، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد. قَوْله: (من عَرَفَة) أَي: من عَرَفَات، وَهُوَ اسْم لموْضِع الْوُقُوف. قَوْله: (إِلَى الْمزْدَلِفَة) ، بِلَفْظ الْفَاعِل من الإزدلاف، وَهُوَ التَّقَرُّب والتقدم لِأَن الْحجَّاج إِذا أفاضوا من عَرَفَات ازدلفوا إِلَيْهَا، أَي: تقربُوا مِنْهَا وتقدموا إِلَيْهَا، وَسميت بذلك لمجيء النَّاس فِي زلف من اللَّيْل، وَهُوَ مَوضِع بحرم مَكَّة. قَوْله: (الْفضل) هُوَ ابْن عَبَّاس بن عبد الْمطلب. قَوْله: (فكلاهما) أَي: أُسَامَة وَالْفضل. قَوْله: (حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة) ، أَي: إِلَى أَن رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَهِي حد منى من الْجَانِب الغربي من جِهَة مَكَّة. وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الْجَمْرَة الْكُبْرَى، والجمرة والحصاة، وَهنا اسْم لمجتمع الْحَصَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْحَج رَاكِبًا أفضل، وَقد مر الْخلاف فِيهِ فِي: بَاب الْحَج على الرجل. وَفِيه: إرداف الْعَالم. وَفِيه: التَّوَاضُع بالإرداف للرجل الْكَبِير وَالسُّلْطَان الْجَلِيل. وَفِيه: حجَّة لأبي حنيفَة وصاحبيه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد بن عَليّ وَأبي عبيد والطبري فِي قَوْلهم: يُلَبِّي الْحَاج وَلَا يقطع التَّلْبِيَة حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، وَهُوَ الْمَنْقُول أَيْضا عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن حَيّ، وروى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن مَسْعُود ومَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. ثمَّ اخْتلف بعض هَؤُلَاءِ، فَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يقطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة يرميها من جَمْرَة الْعقبَة. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَطَائِفَة من أهل النّظر والأثر: لَا يقطعهَا حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة بأسرها، قَالُوا: وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة) وَلم يقل: حَتَّى رمى بَعْضهَا. قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل (عَن عبد الله: رمقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة بِأول حَصَاة) . فَإِن قلت: أخرج ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : عَن الْفضل بن عَبَّاس قَالَ: (أفضت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَات، فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، يكبر مَعَ كل حَصَاة، ثمَّ قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة) . قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه زِيَادَة غَرِيبَة لَيست فِي الرِّوَايَات عَن الْفضل، وَإِن كَانَ ابْن خُزَيْمَة قد اخْتَارَهَا. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: فِيهِ نَكَارَة. وَقَوله: (يكبر مَعَ كل حَصَاة) ، يدل على أَنه قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن أبي بكر الثَّقَفِيّ وَمَالك وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل الْمَدِينَة: (الْحَاج لَا يُلَبِّي فيعرفة بل يكبر ويهلل) . وَرُوِيَ ذَلِك عَن عبد الله بن عمر وَعبد الله بن الزبير وَجَابِر بن عبد الله.
ثمَّ اخْتلفُوا مَتى يقطع التَّلْبِيَة؟ فَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك أَصْحَابه: يقطعهَا إِذا توجه إِلَى عَرَفَات، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن عُثْمَان وَعَائِشَة، وَرُوِيَ عَنْهُمَا خلاف ذَلِك، فَقَالَ الزُّهْرِيّ والسائب بن يزِيد وَسليمَان بن يسَار وَابْن الْمسيب فِي رِوَايَة: (يقطعهَا حِين يقف بِعَرَفَات) ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص، وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِحَدِيث أُسَامَة بن زيد، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: (كنت ردف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشِيَّة عَرَفَة فَكَانَ لَا يزِيد على التَّكْبِير والتهليل، وَكَانَ إِذا وجد فجوة نَص) . قَوْله: (فجوة) ، بِفَتْح الْفَاء وَضمّهَا: وَهِي مَا اتَّسع من الأَرْض وَقد روى فِي (الْمُوَطَّأ) : فُرْجَة. قَوْله: (نَص) ، أَي: رفع فِي سيره وأسرع، وَالنَّص مُنْتَهى الْغَايَة فِي كل شَيْء، قَالَه فِي (الْمطَالع) وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَإِذا التحم عَلَيْهِ النَّاس أعنق، وَإِذا وجد فُرْجَة نَص) . قَوْله: (أعتق) ، من العَنَق وَهُوَ: السّير الْيَسِير الَّذِي تمد فِيهِ الدَّابَّة عُنُقهَا للاستعانة، وَهُوَ دون الْإِسْرَاع. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك لَا يدل على نفي التَّلْبِيَة وَخُرُوج وَقتهَا، وَقَوله: لَا يزِيد على التَّكْبِير والتهليل، يَعْنِي: الزِّيَادَة من جِنْسهَا.(9/165)
32 - (بابُ مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأُزُرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يلبس وَلما بَين مَا لَا يلبس، شرع فِي بَيَان مَا يلبس، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة أَي: بَاب فِي بَيَان الشَّيْء الَّذِي يلبس الْمحرم، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة أَي: فِي بَيَان لبس الْمحرم، وَكلمَة: من، فِي: من الثِّيَاب، بَيَانِيَّة وَهُوَ جمع ثوب، والأردية جمع رِدَاء، والأزر بِضَم الْهمزَة وَالزَّاي جمع إِزَار، وَيجوز تسكين الزَّاي وَضمّهَا اتبَاعا للهمزة، والرداء لِلنِّصْفِ الْأَعْلَى، والإزار لِلنِّصْفِ الْأَسْفَل، وَعطف الْأَرْبَعَة على الثِّيَاب من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام.
ولَبِسَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا الثِّيَابَ المُعَصْفَرَةَ وَهْيَ مُحْرِمَةٌ وقالَتْ لاَ تَلَثَّمْ وَلاَ تَتَبَرْقَعْ وَلاَ تلْبَسْ ثَوْبا بِوَرْسٍ وَلاَ زَعْفَرَانٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي صدر هَذَا التَّعْلِيق أَعنِي قَوْله: (ولبست عَائِشَة الثِّيَاب المعصفرة) أَي: المعصفرة أَي: المصبوغة بالعصفر. قَوْله: (وَهِي مُحرمَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن الْمَنْصُور من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: (كَانَت عَائِشَة تلبس المعصفرة) . وَأخرج الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن أبي مليكَة: (أَن عَائِشَة كَانَت تلبس الثِّيَاب المورد بالعصفر الْخَفِيف وَهِي مُحرمَة) وَقيل: الثَّوْب المورد: الْمَصْبُوغ بالورد. قَوْله: (وَقَالَت) أَي: عَائِشَة: لَا تلثم، بتاء مثناة وَاحِدَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَأَصله: تتلثم، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي: تلظى، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: لَا تلتثم، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون اللَّام وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة: من الالتثام، من بَاب الافتعال، وَالْأول من بَاب التفعل، وَسقط هَذَا من الأَصْل فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَكِلَاهُمَا من اللثام، وَهُوَ مَا يُغطي الشّفة. وَالْمعْنَى هَهُنَا: لَا تغطي الْمَرْأَة شفتها بِثَوْب. قَوْله: (وَلَا تتبرقع) أَي: وَلَا تلبس البرقع، بِضَم الْبَاء وَسُكُون الرَّاء وَضم الْقَاف وَفتحهَا، وَهُوَ مَا يُغطي الْوَجْه. وَعَن الْحسن وَعَطَاء مثل مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مصنفة) عَن عبد الْأَعْلَى عَن هِشَام عَن الْحسن وَعَطَاء، قَالَا: لَا تلبس الْمُحرمَة القفازين والسراويل وَلَا تبرقع وَلَا تلثم وتلبس مَا شَاءَت من الثِّيَاب إلاَّ ثوبا ينفض عَلَيْهَا ورسا أَو زعفرانا. قَوْله: (وَلَا تلبس ثوبا بورس وزعفران) أَي: مصبوغا بورس وزعفران، وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نهى النِّسَاء فِي إحرامهن عَن القفازين والنقاب، وَمَا مَسّه الورس والزعفران من الثِّيَاب، ولتلبس بعد ذَلِك مَا أحبت من ألوان الثِّيَاب من معصفر أَو خَز أَو حلي أَو قَمِيص أَو سَرَاوِيل.
وَقَالَ جابِرٌ: لاَ أرَى المُعَصْف طِيبا
أَي: قَالَ جَابر بن عبد الله الصَّحَابِيّ: أَي: لَا أرَاهُ مطيبا لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يكون الْمَفْعُول الثَّانِي معنى، وَالْأول عينا، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق الشَّافِعِي، ومسدد بِلَفْظ: (لَا تلبس الْمَرْأَة ثِيَاب الطّيب، وَلَا أرى المعصفر طيبا) .
وَلَمُ تَرَ عائِشَةُ بَأسا بِالحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الأسْوَدِ والمُوَدَّدِ والخُفِّ لِلْمَرْأةِ
الْحلِيّ، بِضَم الْحَاء وَكسر اللَّام، جمع الحلى. وَالثَّوْب المورَّد الْمَصْبُوغ بالورد، يَعْنِي: على لون الْورْد، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن باباه الْمَكِّيّ أَن امْرَأَة سَأَلت عَائِشَة: مَا تلبس الْمَرْأَة فِي إحرامها؟ قَالَت عَائِشَة: تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن الْمَرْأَة تلبس الْمخيط كُله والخفاف وَإِن لَهَا أَن تغطي رَأسهَا وتستر شعرهَا إلاَّ وَجههَا تسدل عَلَيْهِ الثَّوْب سدلاف خَفِيفا تستتر بِهِ عَن نظر الرِّجَال، وَلَا تخمره إلاَّ مَا رُوِيَ عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، قَالَت: كُنَّا نخمر وُجُوهنَا وَنحن مُحرمَات مَعَ أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. تَعْنِي: جدَّتهَا. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك التخمير سدلاً كَمَا جَاءَ عَن عَائِشَة، قَالَت: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا مر بِنَا ركب سدلنا الثَّوْب على وُجُوهنَا وَنحن مُحرمَات، فَإِذا جَاوز رفعنَا. قلت: فِيمَا أخرجه الْجَمَاعَة: وَلَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة فِيهِ دَلِيل على أَنه يحرم على الْمَرْأَة ستر وَجههَا فِي الْإِحْرَام. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: مَفْهُومه يدل على إِبَاحَة تَغْطِيَة الْوَجْه للرجل وإلاَّ لما كَانَ فِي التَّقْيِيد بِالْمَرْأَةِ فَائِدَة. قلت: قد ذهب إِلَى جَوَاز تَغْطِيَة الرجل الْمحرم وَجهه عُثْمَان بن عَفَّان وَزيد بن ثَابت ومروان بن(9/166)
الحكم وَمُجاهد وطاووس، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَجُمْهُور أهل الْعلم، وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى الْمَنْع من ذَلِك، واحتجا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تخمروا وَجهه وَلَا رَأسه، رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ خَارِجا وَجهه وَرَأسه. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَهَذَا أَمر فِيهِ خَفَاء على الْخلق وَلَيْسوا على الْحق. قَالَ: وَلَقَد رَأَيْت بعض أَصْحَابنَا من أهل الْعلم مِمَّن يتعاطى الْفِقْه والْحَدِيث يَبْنِي الْمَسْأَلَة على أَن الْوَجْه من الرَّأْس أم لَا؟ فعجبت لضلالته عَن دلَالَته ونسيانه لصنعته، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: لَا أَدْرِي مَا وَجه إِنْكَاره على من بنى الْمَسْأَلَة على ذَلِك، وَمَا قَالَه وَاضح فِي قَول ابْن عمر الَّذِي رَوَاهُ مَالك، وَقد جَاءَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح التَّفْرِقَة بَين أَعلَى الْوَجْه وأسفله، فروى سعيد بن مَنْصُور فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: يُغطي الْمحرم وَجهه مَا دون الحاجبين، وَفِي رِوَايَة لَهُ: مَا دون عَيْنَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بذلك الِاحْتِيَاط لكشف الرَّأْس، وَلَكِن هَذَا أَمر زَائِد على الِاحْتِيَاط لذَلِك، وَالِاحْتِيَاط يحصل بِدُونِ ذَلِك.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لاَ بأسَ أنْ يُبْدِلَ ثِيابَهُ
أَي: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَوَصله أَبُو بكر، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة بن شُعْبَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: يُغير الْمحرم ثِيَابه مَا شَاءَ بعد أَن يلبس ثِيَاب الْمحرم، قَالَ: وَحدثنَا إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن سعيد بن يُوسُف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة قَالَ: غيَّر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثوبيه بِالتَّنْعِيمِ. وَحدثنَا هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم وَيُونُس عَن الْحسن وحجاج عَن عبد الْملك وَعَطَاء أَنهم لم يرَوا بَأْسا أَن يُبدل الْمحرم ثِيَابه، وَكَذَا قَالَه طَاوُوس وَسَعِيد بن جُبَير، سُئِلَ: أيبيع الْمحرم ثِيَابه؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن التِّين: مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه أَنه يجوز لَهُ التّرْك للباس الثَّوْب، وَيجوز لَهُ بَيْعه. وَقَالَ سَحْنُون: لَا يجوز لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ يعرض الْقمل للْقَتْل بِالْبيعِ.
5451 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ قَالَ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني مُوسى بنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ انْطَلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَما ترَجَّلَ وادَّهَنَ ولَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وأصْحَابُهُ فلَمْ يَنْهَ عنْ شيءٍ مِنَ الأرْدِيَةِ والأُزْرِ تُلْبَسُ إلاَّ المُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلى الجِلدِ فأصبَحَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوى عَلى البيْدَاءِ أهَلَّ هُوَ وأصْحابُهُ وقَلَّدَ بَدَنتَهُ وذالِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ فقَدِمَ مَكَّةَ لأِرْبَعِ لَيالٍ خَلَوْنَ مِن ذِي الحِجَّةِ فطافَ بِالبَيْتِ وسعَى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ ولَمْ يَحِلَّ مِنْ أجْلِ بُدْنِهِ لأنَّهُ قَلَّدهَا ثُمَّ نزَلَ بأعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الحَجُونِ وَهْوَ مُهل بِالحَجِّ ولَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ وأمَرَ أصْحَابَهُ أنْ يَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُؤوسِهِمْ ثُمَّ يحِلُّوا وذالِك لِمَنْ لَمْ يَكُنْ معَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا وَمَنْ كانَتْ مَعَهُ امْرَأتُهُ فَهْيَ لَهُ حَلاَلٌ والطِّيبُ والثِّيَابُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة قَوْله: (فَلم ينْه عَن شَيْء من الأردية والأزر تلبس) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا، والمقدمي، بتَشْديد الدَّال الْمَفْتُوحَة، وفضيل مصغر فضل، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ مُخْتَصرا أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ترجل) أَي: سرح شعره. قَوْله: (وادهن) أَي: اسْتعْمل الدّهن، وَأَصله: ادتهن، لِأَنَّهُ من بَاب الافتعال، فأبدلت الدَّال من التَّاء وأدغمت الدَّال فِي الدَّال. قَوْله: (هُوَ) ، ضمير فصل. قَوْله: (تردع) ، بالراء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي: تلطخ الْجلد، يُقَال: تردع إِذا التطخ، والردع أثر الطّيب، وردع بِهِ الطّيب إِذا لزق بجلده، وَقَالَ ابْن بطال: وَقد رُوِيَ: ترذع، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، من قَوْلهم: أرذعت الأَرْض أَي: كثرت مَنَافِع الْمِيَاه فِيهَا، والرذع بِالْمُعْجَمَةِ الطين. قَوْله: (الَّتِي تردع على الْجلد) ، هَكَذَا وَقع فِي الأَصْل. وَقَالَ(9/167)
ابْن الْجَوْزِيّ: الصَّوَاب حذف على. قَوْله: (فَأصْبح بِذِي الحليفة) أَي: وصل إِلَيْهَا نَهَارا فَبَاتَ بهَا، كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْبَاب الَّذِي بعده من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بدنته) قَالَ الْجَوْهَرِي هِيَ: نَاقَة أَو بقرة تنحر بِمَكَّة، سميت بذلك لأَنهم كَانُوا يسمنونها، وَالْجمع بدن بِالضَّمِّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: تكون الْبَدنَة من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ الْبَعِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى بِشَرْط أَن يكون فِي سنّ الْأُضْحِية، وَهِي الَّتِي استكملت خمس سِنِين. قَوْله: (فَأصْبح بِذِي الحليفة ركب رَاحِلَته) ، وَفِي (صَحِيح مُسلم) عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (صلى الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ دعى بناقته فأشعرها فِي صفحة سنامها الْأَيْمن، وسلت الدَّم وقلدها بنعلين، ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهلَّ بِالْحَجِّ) . وَقَالَ ابْن حزم: فَهَذَا ابْن عَبَّاس يذكر أَنه صلى الظّهْر فِي ذِي الحليفة، وَأنس يذكر أَنه صلاَّها بِالْمَدِينَةِ، وكلا الطَّرِيقَيْنِ فِي غَايَة الصِّحَّة، وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أثبت فِي هَذَا الْمَكَان لِأَنَّهُ ذكر أَنه حضر ذَلِك بقوله: صلى الظّهْر بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ إِن ابْن عَبَّاس لم يذكر حضورا فِيهَا أَنَّهَا كَانَت يَوْم خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة، إِنَّمَا عَنى بِهِ الْيَوْم الثَّانِي، فَلَا تعَارض. وَعند النَّسَائِيّ: عَن أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (صلى الظّهْر بِالْبَيْدَاءِ ثمَّ ركب وَصعد جبل الْبَيْدَاء، وأهلَّ بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة) . وَلَا تعَارض، فَإِن الْبَيْدَاء وَذَا الحليفة متصلتان بعضهما مَعَ بعض، فصلى الظّهْر فِي آخر ذِي الحليفة وَهُوَ أول الْبَيْدَاء. قَوْله: (وَذَلِكَ لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة) ، ذَلِك إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور من ركُوبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاحِلَته واستوائه على الْبَيْدَاء وإهلاله وتقليده بدنته لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وَفتحهَا، وَكَذَا فِي ذِي الْحجَّة بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَالْفَتْح هُنَا أشهر. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قَوْله: وَذَلِكَ لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة يحْتَمل أَنه أَرَادَ الْخُرُوج، وَيحْتَمل الإهلال، فأردنا أَن نَعْرِف أَيهمَا أَرَادَ، فَوَجَدنَا عَائِشَة رَوَت فِي صَحِيح مُسلم: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة) . وَفِي الإكليل من حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن ابْن أبي سُبْرَة عَن سعيد بن مُحَمَّد بن جُبَير عَن أَبِيه مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم أَنه قَالَ: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من الْمَدِينَة يَوْم السبت لخمس لَيَال بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة عشر، فصلى الظّهْر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ) وَزعم ابْن حزم أَنه: (خرح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْخَمِيس لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة نَهَارا بعد أَن تغدى وَصلى الظّهْر بِالْمَدِينَةِ، وَصلى الْعَصْر من ذَلِك الْيَوْم بِذِي الحليفة، وَبَات بِذِي الحليفة لَيْلَة الْجُمُعَة، وَطَاف على نِسَائِهِ ثمَّ اغْتسل ثمَّ صلى بهَا الصُّبْح، ثمَّ طيبته عَائِشَة ثمَّ أحرم وَلم يغسل الطّيب، وأهلَّ حِين انبعثت بِهِ رَاحِلَته من عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة بِالْقُرْآنِ: الْعمرَة وَالْحج مَعًا، وَذَلِكَ قبل الظّهْر بِيَسِير، ثمَّ لبَّى ثمَّ نَهَضَ وَصلى الظّهْر بِالْبَيْدَاءِ، ثمَّ تَمَادى واستهل هِلَال ذِي الْحجَّة. قَالَ: فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ: إِنَّه خرج من الْمَدِينَة لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَقد ذكر مُسلم من حَدِيث عمْرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة لَا نرى إلاَّ الْحَج؟ قلت: قد ذكر مُسلم أَيْضا من طَرِيق عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، خرجنَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة، فَلَمَّا اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَة عَنْهَا رَجعْنَا إِلَى من لم تضطرب الرِّوَايَة عَنهُ فِي ذَلِك، وهما: عمر بن الْخطاب وَابْن عَبَّاس، فَوَجَدنَا ابْن عَبَّاس ذكر أَن اندفاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذِي الحليفة بعد أَن بَات بهَا كَانَ لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَذكر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يَوْم عَرَفَة كَانَ يَوْم الْجُمُعَة فِي ذَلِك الْعَام، فَوَجَبَ أَن استهلال ذِي الْحجَّة كَانَ لَيْلَة يَوْم الْخَمِيس، وَأَن آخر يَوْم من ذِي الْقعدَة كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء، فصح أَن خُرُوجه كَانَ يَوْم الْخَمِيس لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة، ويزيده وضوحا حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: صلينَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَالْعصر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، فَلَو كَانَ خُرُوجه لخمس بَقينَ لذِي الْقعدَة لَكَانَ بِلَا شكّ يَوْم الْجُمُعَة، وَالْجُمُعَة لَا تصلى أَرْبعا، فصح أَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس. وَعلمنَا أَن معنى قَول عَائِشَة: لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، إِنَّمَا عنت اندفاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذِي الحليفة، فَلم تعد المرحلة الْقَرِيبَة، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ أَن يخرج لسفر لم يخرج إلاَّ يَوْم الْخَمِيس، فَبَطل خُرُوجه يَوْم الْجُمُعَة، وَبَطل أَن يكون يَوْم السبت، لِأَنَّهُ كَانَ يكون حِينَئِذٍ خَارِجا من الْمَدِينَة لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَصَحَّ أَن خُرُوجه كَانَ لست بَقينَ، واندفاعه من ذِي الحليفة لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وتألفت الرِّوَايَات. قَوْله: (فَقدم مَكَّة لأَرْبَع لَيَال خلون من ذِي الْحجَّة) قَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدثنَا أَفْلح بن حميد عَن أَبِيه عَن ابْن عمر أَن هِلَال ذِي الْحجَّة كَانَ لَيْلَة الْخَمِيس، الْيَوْم الثَّامِن من يَوْم خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة، وَنزل بِذِي طوى، فَبَاتَ(9/168)
بهَا لَيْلَة الْأَحَد لأَرْبَع خلون من ذِي الْحجَّة، وَصلى الصُّبْح بهَا، وَدخل مَكَّة نَهَارا من أَعْلَاهَا صَبِيحَة يَوْم الْأَحَد. قَوْله: (وَلم يحل) أَي: لم يصر حَلَالا، إِذْ لَا يجوز لصَاحب الْهَدْي أَن يتَحَلَّل حَتَّى يبلغ الْهدى مَحَله. قَوْله: (الْحجُون) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الْجِيم على وزن فعول: مَوضِع بِمَكَّة عِنْد المحصب، وَهُوَ الْجَبَل المشرف بحذاء الْمَسْجِد الَّذِي يَلِي شعب الجزارين إِلَى مَا بَين الحوضين اللَّذين فِي حَائِط عَوْف، وَهُوَ مَقْبرَة أهل مَكَّة، وَهُوَ من الْبَيْت على ميل وَنصف. قَوْله: (وَلم يقرب الْكَعْبَة) ، لَعَلَّه مَنعه الشّغل عَن ذَلِك، وإلاَّ فَلهُ أَن يتَطَوَّع بِالطّوافِ مَا شَاءَ. قَوْله: (وَأمر أَصْحَابه أَن يطوفوا بِالْبَيْتِ) ، يَعْنِي الَّذِي لم يسوقوا الْهَدْي، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِك لمن لم يكن مَعَه بَدَنَة قلدها أَن يطوفوا بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة، قَوْله: (ثمَّ يقصروا) ، بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّقْصِير هُنَا لأجل أَن يلْحقُوا بمنى. قَوْله: (ثمَّ يحلوا) ، وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا متمتعين، وَلم يكن مَعَهم الْهَدْي، فَلهَذَا حل لَهُم النِّسَاء وَالطّيب وَسَائِر الْمُحرمَات. قَوْله: (وَذَلِكَ) إِشَارَة إِلَى قَوْله: ثمَّ يحل قَوْله: (وَالطّيب) ، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: وَالطّيب حَلَال لَهُ. قَوْله: (وَالثيَاب) ، عطف عَلَيْهِ أَي: وَالثيَاب كَذَلِك حَلَال لَهُم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا لِأَنَّهُ جمع بَين الْعمرَة وَالْحج فِي سفرة وَاحِدَة، وَهُوَ صفة الْقُرْآن، وَأَنه أفضل من الْإِفْرَاد والتمتع، وسنحرر الْبَحْث فِي ذَلِك فِيمَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
42 - (بابُ مَنْ باتَ بِذِي الحُلَيْفَةِ حَتَّى أصْبَحَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر من بَات بِذِي الحليفة حَتَّى أصبح إِذا كَانَ حجَّة من الْمَدِينَة، لِأَن مِيقَات أهل الْمَدِينَة هُوَ ذُو الحليفة، وَمرَاده من هَذِه التَّرْجَمَة مَشْرُوعِيَّة الْمبيت بالميقات، وَأَنه إِذا بَات فِيهِ لَا يكون فِيهِ تَأْخِير الْإِحْرَام، وَلَا يشبه بِمن يتَجَاوَز بِغَيْر إِحْرَام.
قالَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر: أَمر البيتوتة فِي ذِي الحليفة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا تقدم فِي: بَاب خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على طَرِيق الشَّجَرَة، وَفِيه صلى بِذِي الحليفة بِبَطن الْوَادي، وَبَات حَتَّى يصبح.
6451 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ أرْبَعا وبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ باتَ حَتَّى أصْبَحَ بِذِي الحَلِيفَةِ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بهِ أهَلَّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ بَات حَتَّى أصبح) أَي: ثمَّ بَات بِذِي الحليفة، إِلَى أَن أصبح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا، وَعبد الله ابْن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر، بِلَفْظ الْفَاعِل من الإنكدار، ابْن عبد الله أَبُو بكر، وَيُقَال: أَبُو عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع فِي نُسْخَة وَفِي أُخْرَى بِصِيغَة الْجمع، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بخاري، وَهِشَام يماني صنعاني وَابْن جريج مكي، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر مدنِي. وَفِيه: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، أَو حَدثنِي مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، كَمَا ذكرنَا. هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من أَصْحَاب ابْن جريج عَنهُ، وَخَالفهُم عِيسَى بن يُونُس فَقَالَ: عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَقد توهم فِي ذكر الزُّهْرِيّ، وَالصَّحِيح أَنه من رِوَايَة ابْن جريج عَن ابْن الْمُنْكَدر، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (علله) وَقَالَ الْمزي: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة، وَالصَّوَاب أَنه فِي الْحَج رَوَاهُ عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرْبعا) أَي: أَربع رَكْعَات، وَهِي صَلَاة الظّهْر. . قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) أَي: وَصلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ وهما صَلَاة الْعَصْر على سَبِيل الْقصر، لِأَنَّهُ كَانَ منشأ للسَّفر، وَذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (ثمَّ بَات) أَي: بِذِي الحليفة حَتَّى أصبح أَي(9/169)
حَتَّى دخل فِي الصَّباح. قَوْله: (أهلَّ) أَي: رفع صَوته بالإهلال، ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا الْمبيت لَيْسَ من سنَن الْحَج، وَإِنَّمَا هُوَ من جهو الرِّفْق بأمته ليلحق بِهِ من تَأَخّر عَنهُ فِي السّير، ويدركه من لم يُمكنهُ الْخُرُوج مَعَه، وَأما قصر صَلَاة الْعَصْر فَلِأَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِن لم يبلغ إِلَى مَوضِع الْمَشَقَّة مِنْهُ، فَإِذا خرج عَن مصره قصر، وَظَاهر الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم إِثْر الْمَكْتُوبَة لِأَنَّهُ إِذا صلى الصُّبْح لم يرْكَع بعْدهَا للْإِحْرَام لِأَنَّهُ وَقت كَرَاهَة.
7451 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أرْبَعا وصَلَّى العَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ وأحْسِبُهُ باتَ حَتَّى أصْبَحَ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الْجرْمِي عَن أنس. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ على هَذَا. قَوْله: قَالَ: وَأَحْسبهُ أَي: قَالَ أَبُو قلَابَة: وَأَحْسبهُ، الشَّك من أبي قلَابَة، وَرِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر الْمَاضِيَة عقيب هَذَا بِغَيْر شكّ، وَسَيَأْتِي من طَرِيق أبي أَيُّوب بأتم من هَذَا.
52
- (بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الصَّوْت بالإهلال أَي التَّلْبِيَة، وكل رَافع صَوته بِشَيْء فَهُوَ مهلَّ بِهِ.
52
- (بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الصَّوْت بالإهلال أَي التَّلْبِيَة، وكل رَافع صَوته بِشَيْء فَهُوَ مهلَّ بِهِ.
8451 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ صلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ الظّهْرَ أرْبَعا وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وسَمِعْتُهُمْ يَصْرَخُونَ بِهمَا جَمِيعا..
هَذَا طَرِيق آخر مَعَ زِيَادَة فِيهِ، وَفِي قَوْله: (وسمعتهم يصرخون) أَي: يرفعون أَصْوَاتهم بهما، أَي: بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة.
وَفِيه: دَلِيل على أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ قَارنا. وَأَنه أفضل من التَّمَتُّع والإفراد. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا سمع أنس من قرن خَاصَّة، وَلَيْسَ فِي حَدِيثه أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْرخ بهَا، وَإِنَّمَا أخبر بذلك عَن قوم. وَقد يُمكن أَن يسمع قوما يصرخون بِحَجّ وقوما يصرخون بِعُمْرَة. قلت: هَذَا تحكم وَخُرُوج عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْكَلَام، فَإِن الضَّمِير فِي: يصرخون، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مَعَه من أَصْحَابه، وَالْبَاء فِي: بهما، يتَعَلَّق: بيصرخون، فَكيف يفرق مرجع الضَّمِير إِلَى بَعضهم بِشَيْء، وَإِلَى الآخرين بِشَيْء غير ذَلِك؟ وَلَو لم يكن الصُّرَاخ بهما عَن الْكل لَكَانَ أنس فرقه، وبيَّن من يصْرخ بِالْحَجِّ وَمن يصْرخ بِعُمْرَة وَمن يصْرخ بهما، لِأَنَّهُ فِي صدد الْإِخْبَار بصورته الَّتِي وَقعت. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: يحْتَمل أَن يكون على سَبِيل التَّوْزِيع بِأَن يكون بَعضهم صَارِخًا بِالْحَجِّ، وَبَعْضهمْ بِالْعُمْرَةِ، وكل هَذَا التعسف مِنْهُمَا أَن لَا يكون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِمَا، وَمَعَ هَذَا هُوَ حجَّة عَلَيْهِمَا وعَلى كل من كَانَ فِي مَذْهَبهمَا، وَلَا يُوجد فِي الرَّد عَلَيْهِم أقوى من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لبيْك بِحجَّة وَعمرَة مَعًا، كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِيه: حجَّة لِلْجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَاب رفع الْأَصْوَات بِالتَّلْبِيَةِ، وَقد جَاءَت أَحَادِيث فِي رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. مِنْهَا: حَدِيث خَلاد بن السَّائِب، رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، فَأَبُو دَاوُد من طَرِيق مَالك عَن عبد الله ابْن أبي بكر وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن أبي بكر وَهُوَ ابْن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام عَن خَلاد بن السَّائِب عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَتَانِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَأمرنِي أَن آمُر أَصْحَابِي أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بالإهلال والتلبية. وَمِنْهَا: حَدِيث زيد بن خَالِد، أخرجه ابْن مَاجَه وَلَفظه: (جَاءَنِي جِبْرِيل، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد مر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا من شَعَائِر الْحَج) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده)(9/170)
وَلَفظه: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَمرنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بِرَفْع الصَّوْت بالإهلال، وَقَالَ: إِنَّه من شَعَائِر الْحَج) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه أَحْمد أيضاعنه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَتَانِي فَأمرنِي أَن أعلن بِالتَّلْبِيَةِ) . وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، أخرجه سعيد بن مَنْصُور فِي (سنَنه) من رِوَايَة أبي الزبير عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ثَلَاثَة أصوات يباهي الله، عز وَجل، بِهن الْمَلَائِكَة: الْأَذَان، وَالتَّكْبِير فِي سَبِيل الله، وَرفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ) . وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ، غَرِيب من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَنْهَا، قَالَت: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا بلغنَا الروحاء حَتَّى سمعنَا عَامَّة النَّاس وَقد بحت أَصْوَاتهم) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه التِّرْمِذِيّ عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سُئِلَ: أَي الْحَج أفضل؟ قَالَ: العج والثج) ، العج بِالْعينِ الْمُهْملَة رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، وَقد عج يعج عجا فَهُوَ عاج وعجاج، والثج، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: سيلان دم الْأَضَاحِي، يُقَال ثجه يثجه ثَجًّا. وَمِنْهَا: حَدِيث سهل بن سعد أخرجه الْحَاكِم عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من ملب يلبِّي إلاَّ لبّى مَا عَن يَمِينه وشماله من شجر وَحجر حَتَّى مُنْقَطع الأَرْض من هُنَا وَهنا، يَعْنِي: عَن يَمِينه وشماله) . وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ. وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الْمطلب بن عبد الله. قَالَ: (كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى تثج أَصْوَاتهم) وَقَالَ عبد الله بن عمر: (إرفعوا أَصْوَاتكُم بِالتَّلْبِيَةِ) وَعَن ابْن الزبير مثله. وَقَالَ ابْن بطال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ، وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن مَالك، فَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم: لَا ترفع الْأَصْوَات بِالتَّلْبِيَةِ إلاَّ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد منى وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله الْقَدِيم لَا يرفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَسَاجِد الْجَمَاعَات إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد منى وَمَسْجِد عَرَفَة. وَقَوله الْجَدِيد: اسْتِحْبَابه مُطلقًا وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا أَن التَّلْبِيَة المقترنة بِالْإِحْرَامِ لَا يجْهر بهَا، صرح بِهِ الْجُوَيْنِيّ من أَصْحَابنَا.
وَأَجْمعُوا أَن الْمَرْأَة لَا ترفع صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَن تسمع نَفسهَا كَأَنَّهُمْ لمحوا مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن معن عَن إِبْرَاهِيم بن أبي حَبِيبَة عَن دَاوُد بن حُصَيْن عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا ترفع الْمَرْأَة صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَمن حَدِيث أبي الجويرية عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم مثله، وَعَن عَطاء كَذَلِك، وَمن حَدِيث عدي ابْن أبي عِيسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر: لَيْسَ على النِّسَاء أَن يرفعن أصواتهن بِالتَّلْبِيَةِ، لَكِن يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ بِسَنَد كَالشَّمْسِ: عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه، قَالَ: خرج مُعَاوِيَة لَيْلَة النَّفر فَسمع صَوت تَلْبِيَة، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَائِشَة اعْتَمَرت من التَّنْعِيم، فَذكرت ذَلِك لعَائِشَة، فَقَالَت: لَو سَأَلَني لأخبرته. وَعند وَكِيع: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع، قَالَ: قدمت امْرَأَة أَعْجَمِيَّة فَخرجت مَعَ النَّاس وَلم تهل، إلاَّ أَنَّهَا كَانَت تذكر الله تَعَالَى، فَقَالَ عَطاء: لَا يجزيها. وَفِي (الْأَشْرَاف) لِابْنِ الْمُنْذر: وَقد روينَا عَن مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تجْهر بِالتَّلْبِيَةِ، وَاسْتدلَّ بَعضهم على جَوَاز رفع الْمَرْأَة صَوتهَا بالإهلال بِحَدِيث رَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق أبي سعيد بن الْأَعرَابِي عَن زَيْنَب الأحمسية، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا، فِي امْرَأَة حجت مَعهَا مصمتة: قولي لَهَا تَتَكَلَّم، فَإِنَّهُ لَا حج لمن لَا يتَكَلَّم، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل لأمرين: الأول: لَا تعرض فِيهِ لِلتَّلْبِيَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْن الْقطَّان: لَيْسَ هُوَ خَبرا، إِنَّمَا هُوَ أثر عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَعَ ذَلِك فِيهِ مَجْهُولَانِ، وَأوجب أهل الظَّاهِر رفع الصَّوْت بالإهلال، وَلَا بُد وَهُوَ فرض وَلَو مرّة، وَاسْتدلَّ بِحَدِيث خَلاد ابْن السَّائِب الْمَذْكُور. قَالَ: وَفِيه أَمر، وَالْأَمر للْوُجُوب. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَامَ الْإِجْمَاع على مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة، وَفِيه مَذَاهِب أَحدهَا: أَنَّهَا سنة، قَالَه الشَّافِعِي وَالْحسن بن حَيّ. الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَة يجب بِتَرْكِهَا دم. قَالَه أَصْحَاب مَالك لِأَنَّهَا نسك، وَمن ترك نسكا أراق دَمًا. الثَّالِث: أَنَّهَا من شُرُوط الْإِحْرَام، لَا يَصح إلاَّ بهَا، قَالَه الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة، قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يكون محرما حَتَّى يُلَبِّي وَيذكر ويسوق هَدْيه، قَالَا: كالتكبير للصَّلَاة، لِأَن ابْن عَبَّاس قَالَ: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) . قَالَ: الإهلال، وَعَن عَطاء وَعِكْرِمَة وطاووس: هُوَ التَّلْبِيَة. قَالَ: وَعِنْدنَا قَول: إِنَّه لَا ينْعَقد إِلَّا بهَا، لَكِن يقوم مقَامهَا سوق الْهَدْي والتقيد والتوجه مَعَه، وَفِيه رد لقَوْل أهل الظَّاهِر فِي إجازتهم تَقْصِير الصَّلَاة فِي مِقْدَار مَا بَين الْمَدِينَة وَذي الحليفة، وَفِي أقل من ذَلِك لِأَنَّهُ إِنَّمَا قصرهَا لِأَنَّهُ كَانَ خَارِجا إِلَى مَكَّة، فَلذَلِك قصرهَا بهَا.(9/171)
62 - (بابُ التَّلْبِيَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَهِي مصدر من لبَّى يُلَبِّي، وَأَصله: لبب على وزن: فعلل، لَا: فعل، فقلبت الْبَاء الثَّالِثَة يَاء استثقالاً لثلاث ياءات، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقَوْلهمْ لبّى يُلَبِّي، مُشْتَقّ من لفظ: لبيْك، كَمَا قَالُوا: حمدل وحوقل. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَإِنَّمَا الصَّحِيح الَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد التصريفية أَن لفظ: لبّى، مُشْتَقّ من لفظ: التَّلْبِيَة، وَقِيَاس ذَلِك على: حمدل وحوقل، فِي غَايَة الْبعد من الْقَاعِدَة، لِأَن حمدل، لَفْظَة مَبْنِيَّة من: الْحَمد لله، وحوقل من: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَقيل فِيهِ: حولق، بِتَقْدِيم اللَّام على الْقَاف، وَمعنى التَّلْبِيَة الْإِجَابَة، فَإِذا قَالَ الرجل لمن دَعَاهُ: لبيْك، فَمَعْنَاه أجبْت لَك فِيمَا قلت: وَاخْتلف فِي لفظ: لبيْك، وَمَعْنَاهُ. أما لَفظه فتثنية عِنْد سِيبَوَيْهٍ يُرَاد بهَا التكثير فِي الْعدَد وَالْعود مرّة بعد مرّة، لَا أَنَّهَا لحقيقة التَّثْنِيَة بِحَيْثُ لَا يتَنَاوَل إلاَّ فردين! وَقَالَ يُونُس: هُوَ مُفْرد، وَالْيَاء فِيهِ كالياء فِي: لديك وَعَلَيْك وَإِلَيْك، يَعْنِي فِي انقلابها يَاء، لاتصالها بالضمير. وَأما مَعْنَاهُ فَقيل: مَعْنَاهُ إِجَابَة بعد إِجَابَة أَو إِجَابَة لَازِمَة. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَمثله: حنانيك، أَي تحننا بعد تَحَنن، وَقيل: مَعْنَاهُ أَنا مُقيم على طَاعَتك إِقَامَة بعد إِقَامَة من ألبَّ بِالْمَكَانِ كَذَا، ولبَّ بِهِ إِذا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَه. وَقيل: مَعْنَاهُ إتجاهي إِلَيْك من قَوْلهم دَاري تلب بدارك، أَي: تواجهها. وَقيل: محبتي لَك من قَوْلهم: امْرَأَة لبة إِذا كَانَت محبَّة لزَوجهَا أَو عاطفة على وَلَدهَا. وَقيل: مَعْنَاهُ إخلاصي لَك، من قَوْلهم: حسب لباب، أَي: خَالص. وَقيل: قربا مِنْك من الإلباب وَهُوَ الْقرب. وَقيل: خاضعا لَك، وَالْأول مِنْهَا أظهر وَأشهر، لِأَن الْمحرم مُجيب لدعاء الله إِيَّاه فِي حج بَيته، وَعَن الْفراء: لبيْك، مَنْصُوب على الْمصدر، وَأَصله لبا لَك، فَثنى للتَّأْكِيد أَي إلبابا بعد إلباب، وَقَالَ عِيَاض: وَهَذِه إِجَابَة لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لقَوْله تَعَالَى: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} (الْحَج: 72) . والداعي هُوَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دعى النَّاس إِلَى الْحَج على جبل أبي قبيس، وعَلى حجر الْمقَام. وَقيل: عِنْد ثنية كداء، وَزعم ابْن حزم أَن التَّلْبِيَة شَرِيعَة أَمر الله بهَا لَا عِلّة لَهَا إلاَّ قَوْله تَعَالَى: {وليبلوكم أَيّكُم أحسن عملا} (هود: 7، الْملك: 2) .
9451 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُف قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ تَلْبِيَةَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَة لَكَ وَالمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَهَذِه الَّتِي رَوَاهَا ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هِيَ كَيْفيَّة التَّلْبِيَة، وَلم يتَعَرَّض البُخَارِيّ لحكم التَّلْبِيَة، وفيهَا أَقْوَال على مَا نذكرهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه.
الأول: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: (لبيْك اللَّهُمَّ) ، يَعْنِي: يَا الله أجبناك فِيمَا دَعوتنَا. وَقيل: إِنَّهَا إِجَابَة للخليل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لما فرغ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام من بِنَاء الْبَيْت، قيل لَهُ: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} (الْحَج: 72) . قَالَ: رب وَمَا يبلغ صوتي؟ قَالَ: أذن وَعلي الْبَلَاغ. قَالَ: فَنَادَى إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَيهَا النَّاس كتب عَلَيْكُم الْحَج إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق، فَسَمعهُ من بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، أَفلا ترَوْنَ النَّاس يجيئون من أقْصَى الأَرْض يلبون) ؟ وَمن طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: وَفِيه: (وأجابوه بِالتَّلْبِيَةِ فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء وَأول من أَجَابَهُ أهل الْيمن، فَلَيْسَ حَاج يحجّ من يَوْمئِذٍ إِلَى أَن تقوم السَّاعَة إلاَّ من كَانَ أجَاب إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ) . قَوْله: (إِن الْحَمد) روى بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، أما وَجه الْكسر فعلى الِاسْتِئْنَاف، وَهُوَ ابْتِدَاء كَلَام، كَأَنَّهُ لما قَالَ: لبيْك، اسْتَأْنف كلَاما آخر فَقَالَ: إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مُحَمَّد بن الْحسن وَالْكسَائِيّ، رحمهمَا الله تَعَالَى. وَأما وَجه الْفَتْح فعلى التَّعْلِيل كَأَنَّهُ يَقُول: أَجَبْتُك، لِأَن الْحَمد وَالنعْمَة لَك، وَالْكَسْر أَجود عِنْد الْجُمْهُور، قَالَ ثَعْلَب: لِأَن من كسر جعل مَعْنَاهُ: إِن الْحَمد لَك على كل حَال، وَمن فتح قَالَ: مَعْنَاهُ، لبيْك لهَذَا السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: لهج الْعَامَّة بِالْفَتْح، وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ عَن الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن عبد الْبر:(9/172)
الْمَعْنى عِنْدِي وَاحِد، لِأَن من فتح أَرَادَ لبيْك لِأَن الْحَمد لَك على كل حَال، وَاعْترض عَلَيْهِ لِأَن التَّقْيِيد لَيْسَ فِي الْحَمد، وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّلْبِيَة. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الْكسر أَجود لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن تكون الْإِجَابَة مُطلقَة غير معللة، وَأَن الْحَمد وَالنعْمَة لله على كل حَال، وَالْفَتْح يدل على التَّعْلِيل، فَكَأَنَّهُ يَقُول: أَجَبْتُك لهَذَا السَّبَب، وَالْأول أَعم وَأكْثر فَائِدَة. قَوْله: (وَالنعْمَة لَك) الْمَشْهُور فِيهِ النصب، قَالَ عِيَاض: وَيجوز فِيهِ الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَيكون الْخَبَر محذوفا، وَالتَّقْدِير أَن الْحَمد لَك وَالنعْمَة مُسْتَقِرَّة لَك، نَقله عَن ابْن الْأَنْبَارِي. قَوْله: (وَالْملك) ، أَيْضا بِالنّصب على الْمَشْهُور، وَيجوز الرّفْع وَتَقْدِيره: وَالْملك كَذَلِك، وَالْملك بِضَم الْمِيم، وَالْفرق بَينه وَبَين الْملك بِكَسْر الْمِيم.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن الْحِكْمَة فِي مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة هِيَ التَّنْبِيه على إكرام الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، بِأَن وفودهم على بَيته إِنَّمَا كَانَ باستدعاء مِنْهُ، عز وَجل، فَإِن قلت: لِمَ قرن الْحَمد بِالنعْمَةِ وأفرد الْملك؟ قلت: لِأَن الْحَمد مُتَعَلق بِالنعْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَال: الْحَمد لله على نعمه، فَجمع بَينهمَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا حمد، إلاَّ لَك، لِأَنَّهُ لَا نعْمَة إلاَّ لَك وَأما الْملك، فَهُوَ معنى مُسْتَقل بِنَفسِهِ، ذكر لتحقيق: أَن النِّعْمَة كلهَا لله لِأَنَّهُ صَاحب الْملك.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي حكم التَّلْبِيَة، فَفِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال، قد ذَكرنَاهَا فِي أَوَاخِر الْبَاب السَّابِق.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي الزِّيَادَة على أَلْفَاظ التَّلْبِيَة المروية عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على القَوْل بِهَذِهِ التَّلْبِيَة، وَاخْتلفُوا فِي الزِّيَادَة فِيهَا، فَقَالَ مَالك: كره الزِّيَادَة فِيهَا على تَلْبِيَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه: لَا بَأْس أَن يُزَاد فِيهَا مَا كَانَ ابْن عمر يزِيدهُ، قلت: روى هَذِه مُسلم، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى التَّمِيمِي، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر: أَن تَلْبِيَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك لبيْك، إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك، لَا شريك لَك. قَالَ: وَكَانَ عبد الله بن عمر يزِيد فِيهَا: لبيْك لبيْك، لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر بيديك، لبيْك وَالرغْبَاء إِلَيْك وَالْعَمَل. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن، لَهُ أَن يزِيد فِيهَا مَا شَاءَ وَأحب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: لَا بَأْس بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: إِن زَاد فِي التَّلْبِيَة شَيْئا من تَعْظِيم الله تَعَالَى فَلَا بَأْس إِن شَاءَ الله، وَأحب إِلَيّ إِن يقْتَصر. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، فِي قَول: لَا يَنْبَغِي أَن يُزَاد فِيهَا على تَلْبِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَذْكُورَة، وَإِلَيْهِ ذهب الطَّحَاوِيّ وَاخْتَارَهُ، وَقد زَاد جمَاعَة فِي التَّلْبِيَة، مِنْهُم: ابْن عمر، وَمِنْهُم أَبوهُ عمر بن الْخطاب، زَاد هَذِه الزِّيَادَة الَّتِي جَاءَت عَن ابْنه عبد الله بن عمر، وَلَعَلَّ عبد الله أَخذهَا من أَبِيه، فَإِنَّهُ رَوَاهَا عَنهُ كَمَا هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَمِنْهُم ابْن مَسْعُود، فَروِيَ عَنهُ أَنه لبّى، فَقَالَ: لبيْك عدد الْحَصَى وَالتُّرَاب. وروى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث جَابر، قَالَ: أهلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر التَّلْبِيَة، قَالَ: وَالنَّاس يزِيدُونَ: ذَا المعارج، وَنَحْوه من الْكَلَام وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع فَلَا يَقُول لَهُم شَيْئا. وروى سعيد بن الْمَنْصُور فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْأسود بن يزِيد أَنه كَانَ يَقُول: لبيْك غفار الذُّنُوب لبيْك. وَفِي (تَارِيخ مَكَّة) للأزرقي، صفة تَلْبِيَة جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، رَوَاهُ من رِوَايَة عُثْمَان بن سَاج، قَالَ: أَخْبرنِي صَادِق أَنه بلغه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لقد مر بفج الروحاء سَبْعُونَ نَبيا تلبيتهم شَتَّى، مِنْهُم يُونُس بن مَتى، وَكَانَ يُونُس يَقُول: لبيْك فراج الكرب لبيْك، وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لبيْك أَنا عَبدك لديك لبيْك. قَالَ: وتلبية عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام: أَنا عَبدك وَابْن أمتك بنت عبديك لبيْك، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف بِعَرَفَات، فَلَمَّا قَالَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، قَالَ إِنَّمَا الْخَيْر خير الْآخِرَة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل من رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين عَن يحيى بن سِيرِين عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لبيْك حجا حَقًا، تعبدا وَرقا. وَفِي هَذَا الحَدِيث نُكْتَة غَرِيبَة، وَهُوَ أَنه اجْتمع فِيهِ ثَلَاثَة أخوة يروي بَعضهم عَن بعض، وَلَا يعرف هَذَا فِي غير هَذَا الحَدِيث. قَوْله فِي حَدِيث مُسلم وَسَعْديك، مَعْنَاهُ: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. قَوْله: وَالرغْبَاء، قَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) الرغب وَالرَّغْبَة والرغب، بِالتَّحْرِيكِ: إتساع الْإِرَادَة، ورغبت فِيهِ أوسعته إِرَادَة، وأرغبت لُغَة، والرغبى وَالرغْبَاء مثل: النعمى والنعماء، إسمان مِنْهُ إِذا فتحت مددت، وَإِذا ضممت قصرت. وَفِي (الْمُحكم) : الرغب والرغب والرغب وَالرَّغْبَة والرغبوت والرغبي والرغبا وَالرغْبَاء: الضراعة وَالْمَسْأَلَة، وَقد رغب إِلَيْهِ وَرغب إِلَيْهِ هُوَ عَن ابْن الْأَعرَابِي، ودعا الله رَغْبَة ورغبة. وَقيل: هِيَ الرغبى مثل سكرى. وَالْعَمَل فِيهِ حذف، تَقْدِيره: وَالْعَمَل إِلَيْك، أَي إِلَيْك الْقَصْد بِهِ، والانتهاء بِهِ إِلَيْك لنجازى عَلَيْهِ.(9/173)
0551 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عَن عُمَارَةَ عنْ أبي عَطِيَّةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. وَمُحَمّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَعمارَة بن عُمَيْر، بِضَم الْعين فيهمَا وَتَخْفِيف الْمِيم، مر فِي: بَاب رفع الْبَصَر إِلَى الإِمَام، وَأَبُو عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: اسْمه مَالك بن عَامر الْهَمدَانِي الوادغي، وَالرِّجَال كلهم كوفيون إلاَّ شَيْخه.
تابَعَهُ أبُو مُعَاوِيَةَ عنِ الأعْمَشِ
أَي: تَابع سُفْيَان الثَّوْريّ أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، واسْمه مُحَمَّد بن حَازِم. بالمعجمتين، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة مُسَدّد فِي مُسْنده عَنهُ، وَكَذَلِكَ أخرجهَا الجوزقي من طَرِيق عبد الله بن هَاشم عَنهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ أخبرنَا سُلَيْمَانُ قَالَ سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ عنْ أبي عَطِيَّةَ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
سُلَيْمَان هُوَ الْأَعْمَش، وخيثمة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عبد الرَّحْمَن الْجعْفِيّ الْكُوفِي، ورث مائَة ألف وأنفقها على أهل الْعلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة، وَلَفظه مثل لفظ سُفْيَان إلاَّ أَنه زَاد فِيهِ: ثمَّ سَمعتهَا تلبي، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْله: لَا شريك لَك، وَكَذَا أخرجه أَحْمد عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وللأعمش فِيهِ شَيْخَانِ، وَرجح أَبُو حَاتِم فِي (الْعِلَل) رِوَايَة الثَّوْريّ، وَمن تبعه على رِوَايَة شُعْبَة، فَقَالَ: إِنَّهَا وهم.
72 - (بابُ التَّحْميدِ وَالتَّسْبُيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإهْلاَلِ عَنْدَ الرُّكُوبِ عَلى الدَّابَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر التَّحْمِيد وَالتَّسْبِيح وَالتَّكْبِير قبل الإهلال، أَي: التَّلْبِيَة. قَوْله: (عِنْد الرّكُوب) أَي: بعد الاسْتوَاء على الدَّابَّة لَا حَال وضع الرجل فِي الركاب، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : غَرَض البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على أبي حنيفَة، فِي قَوْله: من سبح أَو كبَّر أَو هلل أَجزَأَهُ من إهلاله. قلت: هَذَا كلامٌ واهٍ صادر عَن غير معرفَة بمذاهب الْعلمَاء، فَإِن مَذْهَب أبي حنيفَة الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَاب أَنه لَا ينقص شَيْئا من أَلْفَاظ تَلْبِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن زَاد عَلَيْهَا فَهُوَ مُسْتَحبّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكر فِي الْكتب الْمُعْتَمدَة فِيهَا، وَلَئِن سلمنَا أَن يكون مَا ذكره مَنْقُولًا عَن أبي حنيفَة فَلَا نسلم أَن التَّرْجَمَة تدل على الرَّد عَلَيْهِ أطلقها وَلم يقيدها بِحكم من الْجَوَاز وَعَدَمه، فَبِأَي دلَالَة من أَنْوَاع الدلالات دلّ على مَا ذكره؟
144 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا وهيب قَالَ حَدثنَا أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس رَضِي الله عَنهُ. قَالَ صلى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنحن مَعَه بِالْمَدِينَةِ الظّهْر أَرْبعا وَالْعصر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ بَات بهَا حَتَّى أصبح ثمَّ ركب حَتَّى اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته على الْبَيْدَاء حمد الله وَسبح وَكبر ثمَّ أهل بِحَجّ وَعمرَة وَأهل النَّاس بهما فَلَمَّا قدمنَا أَمر النَّاس فحلوا حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة أهلوا بِالْحَجِّ قَالَ وَنحر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدنات بِيَدِهِ قيَاما وَذبح رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ كبشين أملحين) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله حمد الله وَسبح وَكبر ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل هُوَ أَبُو سَلمَة التَّبُوذَكِي ووهيب مصغر ابْن خَالِد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَأَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن سهل بن بكار فرقهما كِلَاهُمَا عَن وهيب وَعَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَأخرجه أَيْضا فِي الْحَج وَفِي الْجِهَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد مقطعا وَأخرجه(9/174)
مُسلم فِي الصَّلَاة عَن خلف بن هِشَام وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل بِهِ مقطعا بعضه فِي الْحَج وَبَعضه فِي الْأَضَاحِي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " نَحن " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله " ثمَّ بَات بهَا " أَي بِذِي الحليفة قَوْله " حَتَّى اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته " أَي قَامَت بِهِ نَاقَته يَعْنِي رفعته مستويا على ظهرهَا وَلَفظ بِهِ حَال أَي اسْتَوَت ملتبسة برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " على الْبَيْدَاء " وَقد ذكرنَا أَنه الشّرف الَّذِي قُدَّام ذِي الحليفة قَوْله " ثمَّ أهل بِحَجّ وَعمرَة " يَعْنِي جمع بَينهمَا وَهَذَا هُوَ الْقرَان قَوْله " وَأهل النَّاس " أَي الَّذين كَانُوا مَعَه بهما أَي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة قَوْله " فَلَمَّا قدمنَا " أَي مَكَّة قَوْله " أَمر النَّاس فحلوا " أَي أَمر النَّاس الَّذين كَانُوا مَعَه وَلم يسوقوا الْهَدْي بالتحلل فحلوا أَي صَارُوا حَلَالا وَسَأَلَ الْكرْمَانِي سؤالا فَقَالَ كَيفَ جَازَ للقارن أَن يحل قبل إتْمَام الْحَج وَمَا ذَاك إِلَّا للمتمتع ثمَّ أجَاب بِأَن الْعمرَة كَانَت عِنْدهم مُنكرَة فِي أشهر الْحَج كَمَا هُوَ رسم الْجَاهِلِيَّة فَأَمرهمْ بالتحلل من حجهم والانفساخ إِلَى الْعمرَة تَحْقِيقا لمُخَالفَة رسمهم وَتَصْرِيحًا بِجَوَاز الاعتمار فِي تِلْكَ الْأَشْهر انْتهى (قلت) هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب وَالْجَوَاب الصَّوَاب أَنه إِنَّمَا أَمرهم بالتحلل لأَنهم لم يسوقوا الْهَدْي وَلم يقل أحد أَنهم كَانُوا قارنين فِي هَذِه الْحَالة حَتَّى يرد هَذَا السُّؤَال وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْقَارِن وَقَوله الْعمرَة كَانَت عِنْدهم مُنكرَة إِنَّمَا كَانَ إنكارهم قبل هَذَا بِمدَّة فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي هَذِه الْحَالة لم يَكُونُوا منكرين فَمن ادّعى بِخِلَاف ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان قَوْله " حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة " بِرَفْع يَوْم لِأَن كَانَ تَامَّة فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر وَيَوْم التَّرويَة هُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة وَسميت بالتروية لأَنهم كَانُوا يروون دوابهم بِالْمَاءِ ويحملونه مَعَهم أَيْضا فِي الذّهاب من مَكَّة إِلَى عَرَفَات قَوْله " قيَاما " أَي قائمات وانتصابه على الْحَال قَوْله " أملحين " تفنية أَمْلَح وَهُوَ الْأَبْيَض الَّذِي يخالطه سَواد وَكَانَ النَّحْر للبدنات فِي مَكَّة وَالذّبْح للكبش الَّذِي للأضحية فِي الْمَدِينَة يَوْم الْعِيد (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ أَن الَّذِي يُرِيد السّفر لَهُ أَن يقصر الرّبَاعِيّة من بعد خُرُوجه. وَفِيه أَن للْمحرمِ أَن يحمد الله ويسبحه ويكبره قبل الإهلال. وَفِيه التَّصْرِيح بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا بقوله ثمَّ أهل بِحَجّ وَعمرَة وَهَذَا هُوَ عين الْقرَان وَالْمُنكر هُنَا معاند وَقد ثَبت بِأَحَادِيث أخر صَحِيحَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا على مَا نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى (فَإِن قلت) قد رد ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا هَذَا القَوْل على أنس وَقَالَ كَانَ أنس حِينَئِذٍ يدْخل على النِّسَاء فنسب إِلَيْهِ الصغر وَقلة الضَّبْط حَتَّى نسب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالقران وَقَالَ الْمُهلب رد ابْن عمر على أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله هَذَا فَقَالَ مثل ذكرنَا (قلت) هَذَا فِيهِ نظر لِأَن حجَّة الْوَدَاع كَانَت وَسن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ نَحْو الْعشْرين فَكيف يدْخل على النِّسَاء وَقد جَاءَ فِي الصَّحِيح أَنه منع من الدُّخُول عَلَيْهِنَّ حِين بلغ خمس عشرَة سنة وَذَلِكَ قبل الْحجَّة بِنَحْوِ خمس سِنِين وَأَيْضًا فسنه نَحْو سنّ ابْن عمر وَلَعَلَّه لَا يكون بَينهمَا إِلَّا نَحْو من سنة أَو دونهَا (فَإِن قلت) قَالَ ابْن بطال وَمِمَّا يدل على قلَّة ضبط أنس قَوْله فِي الحَدِيث فَلَمَّا قدمنَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحلوا حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة أهلوا بِالْحَجِّ وَهَذَا لَا معنى لَهُ وَلَا يفهم أَنه كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَارنا كَمَا قَالَ وَالْأمة متفقة على أَن الْقَارِن لَا يجوز لَهُ الْإِحْلَال حَتَّى يفرغ من عمل الْحَج كُله فَلذَلِك أنكر عَلَيْهِ ابْن عمر وَإِنَّمَا حل من كَانَ أفرد الْحَج وفسخه فِي عمْرَة ثمَّ تمتّع (قلت) وَلَو قَالَ ابْن بطال وَمن يَقُول مثل قَوْله لَا ينهضون أَن ينفوا صفة الْقرَان عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجه وَذَلِكَ لِأَن الَّذين رووا الْإِفْرَاد اخْتلف عَنْهُم وَمن روى الْقرَان لم يخْتَلف عَلَيْهِ فالأخذ بقول من لم يخْتَلف عَلَيْهِ أولى وَلِأَن مَعَه زِيَادَة وَهِي مَقْبُولَة من الثِّقَة وَقَالَ ابْن حزم وروى الْقرَان عَن جَمِيع من روى الْإِفْرَاد وهم عَائِشَة وَجَابِر وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ وَوجدنَا أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب وَعمْرَان بن حُصَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وروى عَنْهُمَا التَّمَتُّع وروى عَنْهُمَا الْقرَان قَالَ وَوجدنَا أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة والبراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك لم تضطرب الرِّوَايَة عَنْهُم وَلَا اخْتِلَاف عَنْهُم فِي ذَلِك فَيتْرك رِوَايَة كل من قد اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَة عَنهُ وَيرجع إِلَى رِوَايَة من لَا تضطرب عَنهُ وَهَذَا وَجه الْعَمَل على قَول(9/175)
من يرى إِسْقَاط مَا تعَارض من الرِّوَايَات وَالْأَخْذ بِمَا لم يتعارض مِنْهَا وَأما من ذهب إِلَى الْأَخْذ بِالزَّائِدِ فَهُوَ وَجه يجب اسْتِعْمَاله إِذا كَانَت الْأَلْفَاظ وَالْأَفْعَال كلهَا منسوبة إِلَى سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم تكن مَوْقُوفَة على من دونه وَلَا تنَازعا مِمَّن سواهُ فوجهه أَنا وجدنَا من روى الْإِفْرَاد إِنَّمَا اقْتصر على ذكر الإهلال بِعُمْرَة وَحدهَا دون حج مَعهَا وَوجدنَا من روى الْقرَان قد جمع الْأَمريْنِ مَعًا فَزَاد على من ذكر الْحَج وَحده عمْرَة وَزَاد على من ذكر الْعمرَة وَحدهَا حجا فَكَانَت هَذِه زيادتا علم لم يذكرهما الْآخرُونَ وَزِيَادَة حفظ وَنقل على كلتي الطَّائِفَتَيْنِ المتقدمتين وَزِيَادَة الْعدْل مَقْبُولَة وواجب الْأَخْذ بهَا لَا سِيمَا إِذا رُوجِعَ فِيهَا فَثَبت عَلَيْهَا وَلم يرجع كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح من حَدِيث بكر عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة قَالَ بكر فَحدثت بذلك ابْن عمر فَقَالَ أنس مَا يعدوننا إِلَّا صبيانا سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " لبيْك عمْرَة وحجا " وَفِي لفظ جمع بَينهمَا بَين الْحَج وَالْعمْرَة وَفِي حَدِيث يحيى بن أبي إِسْحَق وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب وَحميد سمعُوا أنسا قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل بهما " لبيْك عمْرَة وحجا " وَسَيَأْتِي عِنْد البُخَارِيّ اخْتِلَاف عَليّ وَعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَقَول عَليّ مَا كنت لأدع سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقَوْل أحد ثمَّ أهل بهما لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة وَعند مُسلم من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بَين حجَّة وَعمرَة ثمَّ لم ينْه عَنهُ حَتَّى مَاتَ وَلم ينزل فِيهِ قُرْآن يحرمه وَعند أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن الْبَراء بن عَازِب عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم من الْيمن قَالَ " إِنَّه قد سقت الْهَدْي وقرنت " وَعَن الصَّبِي بن معبد بِسَنَد صَحِيح فِي حَدِيث قَالَ " أَهلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة فَقَالَ لي عمْرَة هديت لسنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَهَا مرَّتَيْنِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَل هُوَ حَدِيث صَحِيح وَقَالَ ابْن عمر جيد الْإِسْنَاد رَوَاهُ الثِّقَات الْأَثْبَات عَن أبي وَائِل عَن الصَّبِي عَن عمر وَمِنْهُم من يَجعله عَن أبي وَائِل عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالْأول مجود وَرُوَاته أحفظ وَعَن أبي قَتَادَة " إِنَّمَا قرن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الْحَج وَالْعمْرَة لِأَنَّهُ علم أَنه لَيْسَ بحاج بعْدهَا " قَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ وَفِي الاستذكار روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد سَمِعت عبد الله بن أبي أوفى يَقُول بِالْكُوفَةِ إِنَّمَا جمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الْحَج وَالْعمْرَة لِأَنَّهُ علم أَنه لَا يحجّ بعْدهَا وَعَن سراقَة بِسَنَد صَالح عِنْد أَحْمد قَالَ " قرن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حجَّة الْوَدَاع " وَعَن أبي طَلْحَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة " رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة وَعند التِّرْمِذِيّ محسنا عَن جَابر أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرن الْحَج وَالْعمْرَة وَقَالَ ابْن حزم صَحَّ عَن عَائِشَة وَحَفْصَة أُمِّي الْمُؤمنِينَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا (قلت) يُرِيد بذلك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان أَنبأَنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن عَطاء عَن عَائِشَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا طوافك بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة يَكْفِيك لحجك وعمرتك قَالَ ابْن حزم فصح أَنَّهَا كَانَت قارنة وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد عَن أم سَلمَة سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول أهلوا يَا آل مُحَمَّد بِعُمْرَة فِي حج وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث خيوان أَن مُعَاوِيَة قَالَ للصحابة هَل تعلمُونَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يقرن بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَقَالُوا لَا وَفِي سنَن الْكَجِّي حَدثنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد حَدثنَا يحيى بن ضريس عَن عِكْرِمَة بن عمار عَن الهرماس بن زِيَاد قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على نَاقَته قَالَ لبيْك حجَّة وَعمرَة مَعًا وَاعْلَم أَن الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله قد أخرج فِي تَفْضِيل الْقرَان وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا من عشرَة أنفس من الصَّحَابَة وهم عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن عَبَّاس وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأَبُو طَلْحَة وسراقة بن مَالك وَعَائِشَة وَأم سَلمَة زَوجي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخرج عَن أنس بعدة طرق وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أبي قَتَادَة وَجَابِر وَمُعَاوِيَة والهرماس بن زِيَاد وَأبي هُرَيْرَة وَالْكل قد ذَكرْنَاهُ إِلَّا حَدِيث عبد الله بن عمر وَحَدِيث عبد الله بن عَبَّاس وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة. أما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ عَن نَافِع عَنهُ أَن ابْن عمر خرج من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة مهلا بِالْعُمْرَةِ مَخَافَة الْحصْر ثمَّ قَالَ مَا شَأْنهمَا إِلَّا وَاحِدًا أشهدكم أَنِّي أوجبت إِلَى عمرتي هَذِه حجَّة ثمَّ قدم فَطَافَ لَهما طَوافا وَقَالَ هَكَذَا فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخرجه الشَّيْخَانِ مطولا فَفِيهِ دَلِيل على تَفْضِيل الْقرَان وعَلى أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أضَاف إِلَى عمرته حجَّة قبل أَن يطوف لَهَا فَهَذَا هُوَ(9/176)
الْقرَان ثمَّ قَالَ هَكَذَا فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قد قرن إِلَى عمرته حجا. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن عِكْرِمَة عَنهُ قَالَ اعْتَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَربع عمر عمْرَة الْحُدَيْبِيَة وعمرته من الْعَام الْقَابِل وعمرته من الْجِعِرَّانَة وعمرته مَعَ حجَّته وَحج حجَّة وَاحِدَة وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا وَفِي لَفظه وَالرَّابِعَة الَّتِي قرن مَعَ حجَّته وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَفِي لَفظه نَحوه (فَإِن قلت) كَيفَ يقبل هَذَا عَن عبد الله بن عمر وَعَن عبد الله بن عَبَّاس وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تمتّع وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تمتّع (قلت) قَالَ الطَّحَاوِيّ يجوز أَن يكون رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحرم فِي بَدْء أمره بِعُمْرَة فَمضى فِيهَا مُتَمَتِّعا بهَا ثمَّ أحرم بِحجَّة قبل طَوَافه فَكَانَ فِي بَدْء أمره مُتَمَتِّعا وَفِي آخِره قَارنا. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ مُسلم عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليهلن ابْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام بفج الروحاء حَاجا أَو مُعْتَمِرًا أَو ليثنيهما وَقَالَ ابْن حزم سِتَّة عشر من الثِّقَات اتَّفقُوا على أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على أَن لفظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إهلالا بِحجَّة وَعمرَة مَعًا وصرحوا عَن أنس أَنه سمع ذَلِك مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ وَأَبُو قلَابَة وَحميد الطَّوِيل وَأَبُو قزعة وثابت الْبنانِيّ وَحميد بن هِلَال وَيحيى بن أبي إِسْحَق وَقَتَادَة وَأَبُو أَسمَاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمصْعَب بن الزبير بن الزبْرِقَان وَسَالم بن أبي الْجَعْد وَأَبُو قدامَة وَزيد بن أسلم وَعلي بن زيد (قلت) قد أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن تِسْعَة مِنْهُم. أَوَّلهمْ بكر بن عبد الله وَقد مر فِي أثْنَاء كَلَام ابْن حزم وَأخرجه مُسلم حَدثنَا شُرَيْح بن مُسلم قَالَ حَدثنَا هشيم قَالَ حَدثنَا حميد عَن بكر عَن أنس قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا الحَدِيث وَالثَّانِي أَبُو قلَابَة عَن أنس وَهُوَ حَدِيث الْبَاب وَالثَّالِث حميد الطَّوِيل عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه عَنهُ عَن أنس بن مَالك قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة. وَالرَّابِع أَبُو قزعة عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ عَن أنس قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة وَأخرجه ابْن حزم نَحوه. وَالْخَامِس ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ والعدني فِي مُسْنده نَحْو حَدِيث قزعة. وَالسَّادِس حميد بن هِلَال أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار عَنهُ عَن أنس قَالَ كنت ردف أبي طَلْحَة وَإِن ركبته لتمس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة. وَالسَّابِع يحيى بن أبي إِسْحَق أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ عَن أنس يَقُول سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا وَأخرجه ابْن أبي شيبَة نَحوه وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه نَحوه. وَالثَّامِن قَتَادَة عَنهُ عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ نَحْو حَدِيث يحيى وَأخرجه البُخَارِيّ. وَالتَّاسِع أَبُو أَسمَاء عَنهُ عَن أنس أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أنس قَالَ خرجنَا نصرح بِالْحَجِّ فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن نَجْعَلهَا عمْرَة وَقَالَ لَو اسْتقْبلت من أَمر مَا اسْتَدْبَرت لجعلتها عمْرَة وَلَكِن سقت الْهَدْي وقرنت الْحَج وَالْعمْرَة وَأخرجه أَحْمد نَحوه وَأخرجه النَّسَائِيّ وَلَفظه سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُلَبِّي بهما. والعاشر الْحسن الْبَصْرِيّ عَنهُ عَن أنس أخرجه الْبَزَّار عَنهُ عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة الحَدِيث. وَالْحَادِي عشر مُصعب بن سليم عَنهُ عَن أنس أخرجه الْعَدنِي فِي مُسْنده حَدثنَا وَكِيع عَن مُصعب بن سليم أَنه سمع أنس بن مَالك يَقُول أهل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِحجَّة وَعمرَة. وَالثَّانِي عشر مُصعب بن عبد الله عَنهُ عَن أنس أخرجه الْعَدنِي أَيْضا عَنهُ عَن أنس قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لبيْك بِحجَّة وَعمرَة أَو بِعُمْرَة وَحجَّة مَعًا. وَالثَّالِث عشر سَالم بن أبي الْجَعْد عَنهُ عَن أنس أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده عَن أنس أَنه يرفعهُ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه جمع بَين الْعمرَة وَالْحج فَقَالَ لبيْك بِحجَّة وَعمرَة. وَالرَّابِع عشر الْوَاقِدِيّ أَبُو قدامَة أخرجه أَيْضا أَحْمد عَنهُ عَن أنس قَالَ (قلت) لأنس بِأَيّ شَيْء كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهل فَقَالَ سمعته سبع مرار بِعُمْرَة وَحجَّة. وَالْخَامِس عشر زيد بن أسلم عَنهُ عَن أنس أخرجه الْبَزَّار فِي مُسْنده عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل بِحَجّ وَعمرَة. وَالسَّادِس عشر عَليّ بن زيد أخرجه الْبَزَّار أَيْضا عَنهُ عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبّى بهما جَمِيعًا فَقَالَ القَاضِي عِيَاض قد أَكثر النَّاس الْكَلَام على هَذِه الْأَحَادِيث من عُلَمَائِنَا وَغَيرهم فَمن مجيد منصف وَمن مقصر متكلف(9/177)
وَمن مطيل مكثر وَمن مقتصد مُخْتَصر وأوسعهم نفسا فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ فَإِنَّهُ تكلم فِي ذَلِك عَن ألف ورقة وَتكلم فِي ذَلِك أَيْضا مَعَه أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وبعدهم أَبُو عبد الله بن أبي صفرَة وَأَخُوهُ الْمُهلب وَالْقَاضِي أَبُو عبد الله بن المرابط وَالْقَاضِي أَبُو الْحسن بن الْقصار الْبَغْدَادِيّ والحافظ أَبُو عمر بن عبد الْبر وَغَيرهم وَأولى مَا يُقَال فِي هَذَا على مَا فحصناه من كَلَامهم واخترناه من اختياراتهم مَا هُوَ أجمع للروايات وأشبه بمساق الْأَحَادِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ للنَّاس فعل هَذِه الثَّلَاثَة أَشْيَاء لتدل على جَوَاز جَمِيعهَا إِذْ لَو أَمر بِوَاحِد لَكَانَ غَيره لَا يجزىء وَإِذا كَانَ لم يحجّ سوى هَذِه الْحجَّة فأضيف الْكل إِلَيْهِ وَأخْبر كل وَاحِد بِمَا أمره بِهِ وأباحه لَهُ وَنسبه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا لأَمره بذلك أَو لتأويله عَلَيْهِ انْتهى (قلت) لَا نزاع فِي جَوَاز هَذِه الثَّلَاثَة وَلِهَذَا قَالَ الْخطابِيّ جَوَاز الْقرَان بَين الْحَج وَالْعمْرَة إِجْمَاع من الْأَئِمَّة وَلَا يجوز أَن يتفقوا على جَوَاز شَيْء مَنْهِيّ عَنهُ وَلَكِن النزاع أَن أَي هَذِه الْأَشْيَاء أفضل وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أَي وَاحِد من هَذِه حج فقد دلّت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَن الْقرَان أفضل وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا وَلِأَن الْقَارِن يجمع بَين النُّسُكَيْنِ فِي سفرة وَاحِدَة وَلَا شكّ أَن العبادتين أفضل من عبَادَة وَاحِدَة وَقد عمل بِهِ الْأَصْحَاب بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه من حَدِيث عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ سَمِعت أَصْحَاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهلون بِحجَّة وَعمرَة مَعًا. وَمن فَوَائِد حَدِيث الْبَاب أَن السّنة فِي الْإِبِل النَّحْر فَلَو ذبح كره وَأَن السّنة نحرها وَهِي قَائِمَة لِأَنَّهُ أمكن لنحرها لِأَنَّهُ يطعن فِي لبتها وَتَكون معقولة الْيَد الْيُسْرَى وَقَالَ ابْن حبيب وَهُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى صواف وروى مُحَمَّد عَن مَالك لَا يَعْقِلهَا إِلَّا من خَافَ أَن يضعف عَنْهَا وَالْأَفْضَل أَن يتَوَلَّى نحرها بِنَفسِهِ كَمَا فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ هُنَا بدنات وَقَالَ ابْن التِّين وَفِي غير هَذَا الْموضع أَنَّهَا كَانَت سبعين بَدَنَة وَفِي الْمُوَطَّأ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نحر بعض هَدْيه بِيَدِهِ وَنحر بعضه غَيره وَرُوِيَ أَن عليا نحر بَاقِيهَا وَيُقَال أهْدى مائَة بَدَنَة فَنحر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ كل وَاحِد عَن سنة من عمره. وَفِيه إِشَارَة إِلَى قدر عمره وَأعْطى عليا فَنحر الْبَاقِي قَوْله " وَذبح بِالْمَدِينَةِ كبشين أَحدهمَا ذبحه عَن أهل بَيته وَالْآخر عَمَّن لم يضح من أمته "
(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ بَعضهم هَذَا عَن أَيُّوب عَن رجل عَن أنس) أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه قَالَ بَعضهم إِلَى آخِره هَكَذَا وَقع عِنْد الْكشميهني قيل المُرَاد من الْبَعْض الْمُبْهم هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية وَقيل يحْتَمل أَن يكون حَمَّاد بن سَلمَة فقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيقه عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن أنس فَعرف أَنه الْمُبْهم وَقد تَابعه عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ على حَدِيث ذبح الكبشين الأملحين عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَضَاحِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى -
82 - (بابُ مَنْ أهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ راحِلَتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أهلَّ بِالتَّلْبِيَةِ حِين رفعته رَاحِلَته مستويا على ظهرهَا.
2551 - حدَّثنا أبُو عاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي صالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ أهلَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ قَرِيبا، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، وَابْن جريج عبد الْملك ابْن عبد الْعَزِيز، وَصَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد أَو أَبُو الْحَارِث الْقَارِي مَوْلَاهُم، مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
92 - (بابُ الإهلاَلِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الإهلال، وَزَاد الْمُسْتَمْلِي: الْغَدَاة بِذِي الحليفة.(9/178)
3551 - حدَّثنا وَقَالَ أبُو عُمَرَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ نَافِعٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا صَلَّى بِالغَدَاةِ بِذِي الحُلَيْفَةُ أمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ فإذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ القِبْلَة قائِما ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الحرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إذَا جاءَ ذَا طُوًى باتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فإذَا صَلَّى الغَدَاةَ اغْتَسَلَ وزَعَمَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَلَ ذالِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة قَوْله: (فَإِذا اسْتَوَت بِهِ اسْتقْبل الْقبْلَة) . وَأَبُو معمر عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة. وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق عَبَّاس الدوري عَن أبي معمر، وَقَالَ: ذكره البُخَارِيّ بِلَا رِوَايَة، وَرَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن أبي الرّبيع عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب.
قَوْله: (إِذا صلى بِالْغَدَاةِ) ، أَي: إِذا صلى الصُّبْح بِوَقْت الْغَدَاة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إِذا صلى الْغَدَاة، أَي: صَلَاة الْغَدَاة وَهِي الصُّبْح. قَوْله: (فرحلت) ، بِنَاء على الْمَجْهُول بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (قَائِما) نصب على الْحَال، أَي: منتصبا غير مائل على نَاقَته، وَقيل: وَصفه بِالْقيامِ لقِيَام رَاحِلَته، وَقيل: رُوِيَ بِلَفْظ: فَإِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي اسْتقْبل الْقبْلَة قَائِما فِي الصَّلَاة. وَفِي السِّيَاق تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالتَّقْدِير: أَمر رَاحِلَته فرحلت، ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة قَائِما، أَي: فصلى ثمَّ ركب، ورد بِأَنَّهُ تعسف فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير لعدم ذكر صَلَاة الْإِحْرَام فِيهِ، والاستقبال إِنَّمَا وَقع بعد الرّكُوب، وَقد رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَأَبُو عوانه فِي (صَحِيحه) من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع بِلَفْظ: كَانَ إِذا أَدخل رجله فِي الغرز فاستوت بِهِ نَاقَته قَائِمَة أهلَّ. قَوْله: (ثمَّ يمسك) أَي: عَن التَّلْبِيَة، وَلَيْسَ المُرَاد بالإمساك عَن التَّلْبِيَة تَركهَا أصلا، وَإِنَّمَا المُرَاد التشاغل بغَيْرهَا من الطّواف وَغَيره، وَقد رُوِيَ أَن ابْن عمر كَانَ لَا يُلَبِّي فِي طَوَافه، كَمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق عَطاء، قَالَ: كَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يدع التَّلْبِيَة إِذا دخل الْحرم، ويراجعها بَعْدَمَا يقْضِي طَوَافه بَين الصَّفَا والمروة. قَوْله: (ثمَّ يُلَبِّي حَتَّى يبلغ الْحرم) ، أَي: بَعْدَمَا ركب رَاحِلَته يُلَبِّي وَلَا يقطعهَا حَتَّى يبلغ الْحرم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: وَقت الْإِمْسَاك هُوَ صَبِيحَة يَوْم الْعِيد فِي منى لَا بُلُوغ الْحرم؟ قلت: لَيْسَ الْغَرَض مِنْهُ هَهُنَا بَيَان وَقت على الْخُصُوص، فَلهَذَا أجمل، أَو أَرَادَ بِالْحرم منى أَو كَانَ ذَلِك عِنْد التَّمَتُّع، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يشكل عَلَيْهِ، قَوْله فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية: (إِذا دخل أدنى الْحرم) . قلت: إِذا أُرِيد بِالْحرم ظَاهره لَا يبْقى الْإِشْكَال، وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالإمساك ترك تكْرَار التَّلْبِيَة لَا تَركهَا أصلا. قلت: مَذْهَب ابْن عمر أَنه كَانَ يَتْرُكهَا إِذا دخل الْحرم، وَلَا يفهم من ظَاهر الْكَلَام إلاَّ تَركهَا، لَا ترك تكرارها، لِأَن بَين تَركهَا وَبَين ترك تكرارها فرقا، وتارك تكرارها لَا يُسمى تَارِكًا لِلتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (ثمَّ يمسك حَتَّى إِذا جَاءَ) هِيَ غَايَة لقَوْله: اسْتقْبل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو يكون المُرَاد بِالْحرم هُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن، وَهُوَ أول جُزْء مِنْهُ، يَعْنِي: يمسك فِيمَا بَين أَوله وَذي طوى، فحتى على هَذَا الْوَجْه غَايَة لقَوْله: يمسك قَوْله: (ذَا طوى) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول جَاءَ، وَذي طوى، بِضَم الطَّاء وَفتحهَا وَكسرهَا، وقيدها الْأصيلِيّ بِكَسْرِهَا وبتخفيف الْوَاو: وادٍ مَعْرُوف بِقرب مَكَّة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَوضِع عِنْد بَاب مَكَّة بأسفلها فِي صوب طَرِيق الْعمرَة الْمُعْتَادَة وَمَسْجِد عَائِشَة، وَيعرف الْيَوْم بآبار الزاهدة، يصرف وَلَا يصرف، وَقَالَ أَيْضا: إِنَّه مَقْصُور منون. وَفِي (التَّوْضِيح) : وربض من أرباض مَكَّة، وطاؤه مُثَلّثَة مَعَ الصّرْف وَعَدَمه وَالْمدّ أَيْضا، وَقَالَ السُّهيْلي: وادٍ بِمَكَّة فِي أَسْفَلهَا وَذُو طواء ممدودا، وَمَوْضِع بطرِيق الطَّائِف. وَقيل: و (وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروي حَتَّى إِذا حَاذَى طوى من الْمُحَاذَاة وبحذف كلمة ذِي وَالْأول هُوَ الصَّحِيح لِأَن إسم الْموضع ذُو طوى لَا: طوى. وَفِي كتاب (الأذواء) : ذُو طوى مَوضِع بِظَاهِر مَكَّة بِهِ بئاء يسْتَحبّ لمن يدْخل مَكَّة أَن يغْتَسل مِنْهَا. قَوْله: (بَات بِهِ) ، أَي: بِذِي طوى أَي: فِيهِ.، قَوْله: (حَتَّى يصبح) أَي: إِلَى أَن يدْخل فِي الصَّباح. قَوْله: (فَإِذا صلى الْغَدَاة) ، أَي: صَلَاة الْغَدَاة وَهِي الصُّبْح. قَوْله: (اغْتسل) جَوَاب: إِذا، قَوْله: (وَزعم) أَي: قَالَ، وَيُطلق الزَّعْم على القَوْل الصَّحِيح، وَسَيَأْتِي فِي: بَاب الِاغْتِسَال عِنْد دُخُول مَكَّة، فَقَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابْن علية عَن أَيُّوب عَن نَافِع: كَانَ ابْن عمر إِذا دخل أدنى الْحرم أمسك عَن التَّلْبِيَة، ثمَّ يبيت بِذِي طوى، ثمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْح ويغتسل وَيحدث أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يفعل ذَلِك، وروى الْحَاكِم(9/179)
من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: اغْتسل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ لبس ثِيَابه، فَلَمَّا أَتَى ذَا الحليفة صلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قعد على بعيره. فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ على الْبَيْدَاء أحرم بِالْحَجِّ، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: اسْتِقْبَال الْقبْلَة عِنْد الإهلال لاستقبال دَعْوَة إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَكَّة، فَلذَلِك يُلَبِّي الدَّاعِي أبدا بعد أَن يسْتَقْبل بِالْوَجْهِ، لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يولي الْمُجيب ظَهره من يَدعُوهُ ثمَّ يلبيه، بل يستقبله فِي مَوْضِعه الَّذِي دعِي مِنْهُ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْإِحْرَام عقيب الصَّلَاة، وَفِي (التَّلْوِيح) : لَا خلاف أَن الْمبيت بِذِي طوى وَدخُول مَكَّة نَهَارا لَيْسَ من الْمَنَاسِك، لَكِن إِن فعله اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتبعا لآثاره كَانَ ثَوَابه فِي ذَلِك جزيلاً. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : لمن هِيَ طَرِيقه مُسْتَحبّ، وَدخُول مَكَّة نَهَارا أفضل من اللَّيْل، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأَكْثَرين من الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: هما سَوَاء، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخلهَا فِي عمْرَة الْجِعِرَّانَة لَيْلًا. قلت: هُوَ الْمَذْكُور فِي (الْهِدَايَة) عَن أبي حنيفَة. وَفِيه: الِاغْتِسَال، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الِاغْتِسَال الْمَذْكُور سنة، قَالَ: فَإِن عجز عَنهُ تيَمّم وَتَكون نِيَّته فِي ذَلِك غسل دُخُول مَكَّة. وَقَالَ فِي (مَنَاسِك الْكرْمَانِي) : هَذَا الْغسْل مُسْتَحبّ لكل أحد حَتَّى الْحَائِض وَالنُّفَسَاء وَالصَّبِيّ، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يلْزم الْغسْل فرضا فِي الْحَج إلاَّ الْمَرْأَة تهل بِعُمْرَة تُرِيدُ التَّمَتُّع فتحيض قبل الطّواف بِالْبَيْتِ، فَهَذِهِ تَغْتَسِل وَلَا بُد، وَالْمَرْأَة تَلد قبل أَن تهلّ بِالْعُمْرَةِ أَو بِالْقُرْآنِ فَفرض عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل وتهلّ. وَفِي (الاستذكار) : مَا أعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين أوجب الِاغْتِسَال عِنْد الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ أَو الْحَج إلاَّ الْحسن بن أبي الْحسن، وَقد رُوِيَ عَن عِكْرِمَة إِيجَابه كَقَوْل أهل الظَّاهِر، وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْوضُوء يَكْفِي مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ سنة مُؤَكدَة عِنْد مَالك وَأَصْحَابه لَا يرخصون فِي تَركه إلاَّ من عذر، وَعَن عبد الْملك: هُوَ لَازم، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي تَركه نَاسِيا وَلَا عَامِدًا دم وَلَا فديَة. وَقَالَ ابْن خوازمند: هُوَ عِنْد مَالك أوكد من غسل الْجُمُعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري: يجْزِيه الْوضُوء، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم، وَفِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) : حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة قَالَ: ذكر عَن إِبْرَاهِيم إِذا قدم الْحَاج أمسك عَن التَّلْبِيَة مَا دَامَ يطوف بِالْبَيْتِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لَا، بل يُلَبِّي قبل الطّواف وَفِي الطّواف وَبعد الطّواف، وَلَا يقطعهَا حَتَّى يَرْمِي الْجَمْرَة، وَهُوَ قَول أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة وَالشَّافِعِيّ قَالَا: يقطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة يرميها فِي الْجَمْرَة، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. وَقَالَ قوم: يقطع الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة إِذا دخل الْحرم، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يقطعهَا حَتَّى يرى بيُوت مَكَّة. وَقَالَت طَائِفَة: حَتَّى يدْخل بيُوت مَكَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يقطعهَا حَتَّى يسْتَلم الْحجر، لما رَوَاهُ أَحْمد عَن هشيم: حَدثنَا حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عمر، كل ذَلِك فِي ذِي الْقعدَة، يُلَبِّي حَتَّى يسْتَلم الْحجر. وَقَالَ اللَّيْث: إِذا بلغ الْكَعْبَة قطع التَّلْبِيَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يقطعهَا حَتَّى يفْتَتح الطّواف، وَقَالَ مَالك: من أحرم من الْمِيقَات قطع التَّلْبِيَة إِذا دخل أول الْحرم، فَإِن أحرم من الْجِعِرَّانَة أَو من التَّنْعِيم قطعهَا إِذا دخل بيُوت مَكَّة. أَو إِذا دخل الْمَسْجِد. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: لَا يقطع الْمُعْتَمِر التَّلْبِيَة حَتَّى يسْتَلم الرُّكْن، وَكَانَ ابْن عمر يقطعهَا إِذا رأى بيُوت مَكَّة.
تابَعَهُ إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ فِي الغَسْلِ
أَي: تَابع عبد الْوَارِث إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ فِي أَمر الْغسْل، وَوصل البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي: بَاب الِاغْتِسَال عِنْد دُخُول مَكَّة، على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
4551 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ أبُو الرَّبِيعِ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ عنْ نَافِعٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا أرَادَ الخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ثُمَّ يَأتِي مَسْجِدُ ذِي الحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ وَإذَا اسْتَوَتْ بِهِ راحِلتُهُ قائِمةً أحرَمَ ثُمَّ قالَ هاكذَا رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَلُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَدِيث أَنه دَاخل فِي ضمن الحَدِيث السَّابِق، وَسليمَان قد مر فِي: بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق، وفليح(9/180)
بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، واسْمه: حنين، وفليح لقبه غلب عَلَيْهِ، مر فِي أول كتاب الْعلم. فَإِن قلت: أَلَيْسَ هَذَا بتكرار؟ قلت: لَا، وَإِنَّمَا أوردهُ لزِيَادَة فِيهِ على الحَدِيث السَّابِق، وَهُوَ الإدهان، وَإِنَّمَا كَانَ يدهن بِغَيْر الطّيب ليمنع بذلك الْقمل وَالدَّوَاب، وَكَانَ يجْتَنب مَا لَهُ رَائِحَة طيبَة صِيَانة للْإِحْرَام.
03 - (بابُ التَّلْبِيَةِ إذَا انْحَدَرَ فِي الوَادِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّلْبِيَة إِذا انحدر الْمحرم فِي الْوَادي، وَقد ورد فِي الحَدِيث أَن التَّلْبِيَة فِي بطُون الأودية من سنَن الْمُرْسلين، وَأَنَّهَا تتأكد عِنْد الهبوط كَمَا تتأكد عِنْد الصعُود.
5551 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثني ابنُ أبي عَدِيٍّ عنِ ابنِ عَوْنٍ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فذَكَرُوا الدَّجَّالَ أنَّهُ قالَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كافِرٌ فَقَالَ ابنُ عَبَّاس لمْ أسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ أمَّا مُوسى كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ إذَا انْحَدَرَ فِي الوَادِي يُلَبِّى.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا انحدر فِي الْوَادي يُلَبِّي) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد، أَبُو مُوسَى يعرف بالزمن الْعَنْبَري. الثَّانِي: مُحَمَّد بن أبي عدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الدَّال وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَاسم أبي عدي: إِبْرَاهِيم، مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الله بن عون، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالنُّون، مر فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رب مبلّغ. الرَّابِع: مُجَاهِد. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الروَاة الثَّلَاثَة بصريون وَأَن مُجَاهدًا مكي. وَفِيه: إثنان مذكوران بالإبن وَوَاحِد مُجَرّد. .
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن بَيَان ابْن عَمْرو. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنه) بِفَتْح الْهمزَة أَي: أَن الدَّجَّال. قَوْله: (مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ: كَافِر) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: أَن. وَقَوله: (كَافِر) مَرْفُوع بقوله: مَكْتُوب، وَاسم الْمَفْعُول يعْمل عمل فعله كاسم الْفَاعِل. قَوْله: (وَلكنه قَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ) جَوَاب: أما، وَالْفَاء فِيهِ محذوفة، وَالْأَصْل: فَكَأَنِّي، وَهُوَ حجَّة على النُّحَاة حَيْثُ لم يجوزوا حذفهَا، كَذَا قَالُوا. قلت: يحْتَمل أَن يكون حذف الْفَاء من الرَّاوِي. قَوْله: (إِذا انحدر) ، كَذَا وَقع فِي الْأُصُول بِكَلِمَة إِذا، وَحكى عِيَاض أَن بعض الْعلمَاء أنكر إِثْبَات الْألف وَغلط رُوَاته، وَقَالَ: وَهُوَ غلط مِنْهُ إِذْ لَا فرق بَين إِذا وَإِذ، هُنَا لِأَنَّهُ وَصفه حَالَة انحداره فِيمَا مضى. وَقَالَ الْمُهلب: ذِكْرُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، هُنَا وهمٌ من بعض رُوَاته، لِأَنَّهُ لم يأتِ أثر وَلَا خبر أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيّ، وَأَنه سيحج، وَإِنَّمَا أُتِي ذَلِك عَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَاشْتَبَهَ على الرَّاوِي، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (ليهلن ابْن مَرْيَم بفج الروحاء) وَأجِيب عَنهُ: بِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي اللبَاس بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَبِزِيَادَة: ذكر إِبْرَاهِيم فِيهِ: أفيقال إِن الرَّاوِي غلط فِيهِ فزاده؟ وَقد روى مُسلم هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: كَأَنِّي أنظر إِلَى مُوسَى هابطا من التَّثْنِيَة وَاضِعا إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ مارا بِهَذَا الْوَادي وَله جؤار إِلَى الله بِالتَّلْبِيَةِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ ذكر يُونُس فِي هَذَا الحَدِيث، أفيقال إِن الرَّاوِي الآخر غلط فِيهِ؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي الرَّد: أما من روى إِذْ انحدر، بِلَفْظ: إِذْ للماضي فَيصح مُوسَى بِأَن يرَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام أَو يُوحى إِلَيْهِ بذلك، وَسلم الْغَلَط فِي رِوَايَة إِذا، لِأَنَّهُ إِخْبَار عَمَّا يكون فِي الْمُسْتَقْبل. قلت: لَو اطلع الْكرْمَانِي على حَقِيقَة الحَدِيث لما قسم هَذَا التَّقْسِيم، فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكْلِيف، لِأَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ. فَلَا مَانع أَن يحجوا فِي هَذِه الْحَال كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رأى مُوسَى قَائِما فِي قَبره يُصَلِّي. فَإِن قلت: مَا الدَّاعِي إِلَى عِبَادَتهم بعد الْمَوْت وَمَوْضِع الْعِبَادَة دَار الدُّنْيَا؟ قلت: حببت إِلَيْهِم الْعِبَادَة فهم متعبدون بِمَا يجدونه بِمَا يجدونه من دواني أنفسهم لَا بِمَا يلزمون بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا يلهم أهل الْجَاهِلِيَّة الذّكر، وَيُؤَيِّدهُ أَن أَعمال الْآخِرَة ذكر وَدُعَاء. كَقَوْلِه تَعَالَى: {دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ... } (يُونُس: 01) . الْآيَة، وَيجوز(9/181)